كاتب الموضوع :
ارادة الحياة
المنتدى :
القصص المكتمله
و تردد الجدران صوت الذاكرة .. صدى الألحان العتيقة .. يشدو بها مترنما .. متمتعا ..
.
.
- في دفتره حر يحمل رقمه الأخضر .. رمز الإمارات يتسجل بلوحاته
أسبق من النود بسرعة إلى دبر .. و البعد ما سايقه يحسب مسافاته ..
تسرح من العين فوقه يعل ما تغضر .. في داعت الله لي تسلم وداعاته
.
.
يعيش لحظاته الخاصة ناسيا وجودها هنا ..!!
مستغرقا في صدق يوم قد مضى .. و تجلس هي تراقبه .. كان رجلا طيبا .. تشعر بميل شديد نحوه .. عفويا .. و صادقا .. و رغم جسده المضني .. كان إحساسه قويا .. يبث قوة حوله بذكرياته ..
.
.
سطوة إحساس تستشعرها في حديثه .. يجبرها على احترام تلك الأحداث الغابرة .. و كم تعني له ..
تشعر بأنها في هذه الجلسة قد علمت ما يكفي عنه .. عن الرجل الذي تشعر الآن بعطف شديد نحوه .. و اشمئزاز لأبنائه ..
في هذه الجلسة تم إلقائها بطريقة ما للماضي لتنتشل من هناك فجأة فتبعثر مجددا في حاضرها ..
تقف على قدميها ببطء .. و تتوجه للباب و ما زال هو مستغرقا في تلك الأغنية الغابرة .. ستعود إليه قريبا .. و ستستشف بعناية ما حال قلبه بعد خذلانه و الإيتاء به هنا ..
واربت الباب خلفها و الصوت ينسل من الشق بصخب .. هذا رجل بإحساسه .. لا يريد إلا أن تعلو كلمته حتى الرحيل ..!!
تحركت ببطء من أمام بابه تبغي متابعة البقية .. و أمام باب الشاب توقفت بهدوء .. تخذلها شجاعتها هنا .. لا تجد في الروح قوة لأن تنسل لتلك الغرفة .. فترى أمام عينيها تلك الصور المؤلمة .. صوَرُه و هو مسجى على ملاءة بيضاء .. وجهه الشاحب مليئا بالكدمات يلمع تحت الأضواء الصفراء الشاحبة .. لا يفصله عن الموت شيء .. و أصبح إخماد الروح قريبا في تلك اللحظات الحرجة .. قاب نفسٍ أو أدنى ..!!
أغمضت عيناها .. اللـــــه تعـــــالى كان أكبر .. أكبر من يأسهم .. و من كلامهم .. و من كل شك خالطهم في رحمته .. ها هو هناك حيّ يرزق .. بلا خطوات .. و لكنه حي .. ذلك يكفي .. و الحمــــــد للـــــــه ..!!
فكرت لولهة أنها لن تبالي .. بجفائه .. خشونته .. قسوته .. تلك هي حياة على أن يرقد و فوقه يردم تراب .. و تعيش هي على ذكرى من كان عالمها ذات ألــــــــــــم ..!!
.
.
ابتلعت غصة تخنقها و هي تكابد دمعة حمقاء استدعتها الذكرى فأتت مسارعة .. هذا الألم الذي يجتاحها لمجرد ذكرى .. يخالج أهل هذا الشاب الراقد بلا قدرة خلف هذا الباب ..
شاب قد يشعر بما حوله .. يحتاج لأمل .. لفرحة .. لشيء يفسر سبب هذا الجسد الميت بلا حركه ..
- مــــــــــدام أحـــــــــلام ..؟!!
أجفلت بقوة و هي تلتفت لتلك التي نظرت لها متسائلة ..
- زكية الله يهديج روعتينيه ..
ابتسمت زكية لتختفي عينيها خلف خديها المنتفخين ..
- معليش .. دانتي كنتي سرحانه بئى ..
بللت ريقها الجاف و هي تقول ..
- شوي .. وين سايره ..
رفعت يدها التي تحمل صينية طعام .. و تهز كتفيها ..
- دي أم حميد مش عاوزة سوما تديها الابرة .. هيا دايمن كدا بس لمن أكون في إجازة بتاخودها ..
- بلاها على هالمسكينة ؟
- و أنا عارفة ؟!! .. دي ما بتلطفش بحد غير أبو عبدالرحمن و الست حصة .. و مالهاش دعوة خالص بحد غيرهم ..
عقدت أحلام جبينها .. شعرت بأنها ستواجه شيئا مختلفا مع هذه المرأة التي رفضتها منذ اليوم الأول ..
- ما خبرتج تراها قالتليه انها ما تبانيه أتابعها ..
- آآه دي حتى آلتلي .. بس ما تخديش بالك .. انتي ديلوئتي اشتغلي عادي لحد ما نشوف ليكي حل .. عاوزه حاقة ؟
تذكرت فقالت بسرعة ..
- هيه بغيت أسأل .. خليفة يحس باللي حوله .. ؟
- آآه أكيد .. هو انتي ما شوفتيش سماح بتقرا ليه البارحة ..؟
تذكرت أحلام الممرضة و الكتاب فهزت رأسها بسرعة ..
- خلاص عيل مشكورة ..
- تحت أمرك ..
و تركتها زكية و توجهت لغرفة أم حميد .. عادت أحلام تنظر للباب المغلق قبل أن تأخذ نفسا عميقا و تمد يدا مرتجفة فتدفع الباب .. و دلفت الغرفة بعجل .. لتقع عينها عليه ..
كان مستلقٍ بلا حراك في فراشه يحملق في السقف .. هل شعر بدخولها ..؟!! لن تعلم ..
اقتربت منه بهدوء و هي تتأمل وجهه .. كانت لحيته مشذبة بعناية .. و ملابسه نظيفة .. من الواضح أنهم يعتنون به جيدا هنا .. دنت من السرير أكثر و توقفت قريبا ..
لا يفصلها عن طرف الملاءة إلا خطوة .. و ذكرى بعيدة ..!!
همست بصوت مرتجف لا تدري كيف وجدته ..
- السلام عليكم ..
.
.
و لا صوت إلا الصمت ليرد ..
بلعت ريقها و هي تشعر بأن هناك من يراقبها .. من سيراها تتحدث هكذا سيظنها مخبولة ..!!
- أنا أحلام عبيد .. مستشارة نفسية .. آآممم .. ياية عندكم هنيه عسب اساعدكم .. آآ .. انته تسمعنيه ..؟!!
شعرت بالسخافة كيف سيرد على سؤالها الأحمق .. هزت راسها بتوتر لتعود فتقول ..
- اسمحليه .. خليفة مادري كان تسمعنيه أو لا .. بس أنا برمس وياك .. و اذا سمعتنيه بيوصلك لي أباه .. و اذا ما سمعت محد بيدري بخبالي غيري ..!!
* * * * *
ناولت زوجها فنجان القهوة و هي تعاتبه قائلة ..
- يعني انته عايبنك لي تسويه بنت خوك .. مودرة ريلها المريض في البيت و تراكض في الدخاتر ..
التقط الفنجان من يدها .. و راح يرتشفه بهدوء ..
- لا هب عايبنيه .. بس ريلها و راضي و محد له كلمة عليها غيره .. و بعدين حتى لو سوت ما سوت .. انا كم مرة مخبرنج حركاتج هاي تودرينها .. البنت ما يخصج فيها ..
وضعت طبق التمر أمامه بقوة و الغل بادٍ على وجهها ..
- شوه بعد ما يخصنيه .. ماخذة ولديه ..
- ماخذة ولدج و بتنغزينها كل ما يت هنيه بالرمسة .. عيب يا شريفة .. انتي حرمة كبيرة و عاقل .. شوه هالحركات ..
قالت بغيظ ..
- و أنا ثرنيه شوه قلت .. الحق ينقال .. لو ميوزين منصور موزة قبل لا تيوزونها لولد مطر .. و إلا ميوزينه لطيفة كان أخيرله .. ع الأقل نعرف أمهن و بنت عرب .. فازعين تفرون عليه بنت هندية مادري من وين خوك مظونها ..
أعاد فنجان القهوة بشيء من القوة ليقول بصرامة ..
- و إذا بنت هندية يعني .. كافرة ..؟ .. و بعدين الهندية ما سوت شي غير انها يابت البنية .. مريم هي لي مربيه أحلام و يا خواتاا .. و إلا أمها من يابتها طلقها عبيد .. الحين شوه لي حارنج ..
- لي حارنيه مابا يدود عيال ولديه هنود .. العرق يحن .. و بيي يوم و بتشوف البنية تبا هلها ..
مسح أبو منصور وجهه بصبر ..
- يا بنت الحلال عيني خير .. هلها عندها و ما تبا غيرهم .. انتي لي لفكار توديج و تييبج .. و بعدين أقولج ترا أحلام طيبة .. و ما عليها قاصر .. غير انتي لي تهدين عليها ..
ردت بضيق ..
- أنا ما أهد على حد .. بس هي ما تراعي ريلها ..
- و انتي شدراج ..
- ما تشوفها فارة ولدك روحه و سايرة تشتغل .. أنا ابا أعرف كيف فرت مخ منصور و خلاها تشتغل .. أكيد مسويتله شي ..
نهض زوجها من مكانه ..
- تعوذي من ابليس يا شريفة انتي من دريتي ان الحرمة تشتغل و انتي قالبة الدنيا علينا ..
أشاحت بوجهها دون أن ترد على كلامه ..
ذلك أكثر ما يغيظها ..
ولدها الأكبر المستقل ذو الشخصية القوية .. يخضع لتلك المرأة .. و يتركها تعمل ..
.
.
ما الذي سيقوله الناس ..؟
أنهم عاجزون عن سد حاجتها بعجز ولدهم ..!!
تلك الدخيلة .. ابنة الهندية ..
* * * * *
خرجت من غرفته و هي تتنفس الصعداء .. و كأن حملا ثقيلا أزيل عن كاهلها .. نظرت على طول الممر الخالي .. لتتوجه يمينا نحو بقية الغرف .. شعرت براحة غريبة تدب في أوصالها .. خليفة اقترب من حتفه كثيرا و نجا .. لا بد أن تلك كانت تجربه مزقت روحه و شتتتها .. الحديث معه بلا ردود لصدى أسئلتها كان مريحا .. شعرت بأنها تتغلغل ببطء في حنايا خوف ظل يسكن فؤادها لزمن ..!!
وصلت لباب أم حميد .. لم تنسى مكان حجرتها لسببين .. الأول أنها تعرفته بالأمس .. و الآخر هو صراخها المدوي الذي بدأ من جديد يرجم الكلمات بلا هوادة ..
- لا بركتن فيكن .. حشاا هب آدمياات انتن ما في قلووبكن رحمة .. عيووووز ما بينيه و بين القبر إلا شبر .. صبرن عليه لين رب العالمين ياخذ أمانته .. لو يدري بسواتكن بو عبد الرحمن ما بتن هنيه ليلة وحدة .. هذا ملح .. ملح .. لو تفتينه أملح ذبيحة يعلكن مالح يسمكن.. بيرفع الضغط عنديه .. خافن الله .. بيحاسبكن ع أذيّتيه ..
فتح الباب بقوة .. ليطالع أحلام وجه زكية الذي كان هادئا و ضيق خفيف يلمع في عينيها .. و هي تقول في صبر..
- معليش يام حميد صبرك علينا .. أنا رايحة أغيرهولك ..
ثم أضافت و هي تنظر لأعلى ..
- ما تزعليش دا الزعل حيئتلك ..
تعالى صراخ العجوز مجددا و أغمضت زكية عينيها و هي تتمتم بعجز ..
- و بلاااج تقولينها كنج تدعين عليه هااا .. ادريبج انا ودج انيه أفارق اليوم قبل بااكر ..
- و الله مادعيش يا ستي و مش عاوزين فرائك .. دنتي - و أشارت بيدها بقوة - عسل على أولوبنا ..
- آآه منج و من خراطج .. هب عون غير في صف الرمسة ..
تنهدت زكية بشيء من اليأس ..
- أم حميد حيأزن الظهر و حكيم ما عملش حاقة ..
- شوه شايفتنيه قاطعتج عنديه .. توكلي .. يالسة تهذر .. حللن المعاش لي تسرطن من وراه .. لا تيي عيشتكن حرام ..
هزت زكية رأسها .. و لعجب أحلام كانت شبه ابتسامه تناوش شفتيها ..
- لا حول و لا قوة الا بالله ..
أشارت أحلام لها بأن تقترب فهي لا تود أن تنال نصيبا من سباب أم حميد ..
- رب ما شر يا أم حنفي ..
تنهدت زكية بشيء من الراحة لتوقف صراخ العجوز الذي تحول لدمدمة مسموعة ..
- ما فيش حاقة يا ختي .. دي أحيانا تجيها حالات و ما فيش لي بيرضيها .. كل حاقة باطلة و ما تعجبهاش .. مالناش الا الصبر .. بس ما تدخوليش خالص .. دي حتاكلك ..
ابتسمت أحلام ..
- ما فكرت حتى .. بشرد صوب سهيلة و حصة ..
ثم قالت و هي تنسل بسرعة من أمام الباب ..
- الله يعينج ..
.
.
وصلت بسرعة أمام باب الغرفة المجاورة لغرفة أم حميد .. توقفت للحظة أمام الحجرة بحيرة .. هل هذه لحصة أم لسهيلة ..؟ ستعرف حالا .. فتمد يدها لتقرع الباب بخفة .. و حالما داهمها الصـــــوت العميق أدركت لمن تعود هذه الغرفة ..!!
- تفضـــــــل ..
دفعت أحلام الباب بهدوء .. و تدلف الغرفة الباردة .. كانت المرة الأولى التي تزور فيها هذه الحجرة .. لم تكن تختلف كثيرا عن الغرف السابقة الا بالكتب المرمية على طاولة القهوة .. جالت بعينها في المكان .. لتلتقي وجه صاحبة الغرفة أمامها مباشرة تستلقي على السرير ..
التي ابتسمت حالما طالعها وجه الأولى .. كان الاحساس مختلفا بحق .. هناك سلام و طمأنينة .. جو من السكون يحيط بهذه المرأة .. شيء غريب أن تدفعها لهذا الشعور و هي لم تلتقيها إلا بالأمس ..
- السلام عليكم ..
- و عليكم السلام و الرحمه .. مرحبا يا بنيتي ..
شعرت أحلام بشيء من الخجل يراودها .. رغم ذلك لم تغفل عن التعب الذي كسا وجه المرأة الضئيل .. و هي تمد يدها بشيء من الارهاق .. تشير لأريكة قريبة من سريرها ..
- قربي ..
جلست أحلام على الأريكة و عيناها لا تفارقان وجه المرأة الذي بدا مختلفا عن الأمس .. للحظة غبية شعرت بالحيرة .. بما عليه أن تخاطبها .. حصة .. أم فلان .. أم ماذا .. سرعان ما قالت ..
- شحالج خالوه ..
كان حنانها ملموسا ..
- بخير يعلج الخير .. انتي شحالج ..
- يسرج الحال ..
حركت المرأة نفسها ببطءو هي تتأوه ..
- آآآه و الله ينه هد حيليه التعب .. خبرينيه يا بنيتي .. شوه قلتي اسمج ..
ابتسمت أحلام .. هذا ثاني شخص نسي إسمها ..
- أحلام خالوه ..
- أحلام .. أحلام .. سمحيليه فديتج .. الكبر شين .. أحلام شوه بتسوين هنيه ..
كان سؤالا يوجه لها المرة الأولى .. ما الذي أتت لتفعله هنا ..
- بتابعكم ..
- هيه قالتليه زكية .. بس ليش ..
- هذا شغلي ..
- ادري .. انا اسأل ليش يابو دختورة نفسية هنيه ..
للحظات شعرت بأن هذه المرأة تحمل على الأقل قليلا من الثقافة .. فقد اعتادت من الكثيرين التعامل مع الاطباء النفسيين بشيء من الحساسية لم تظهر في صوتها .. محقة هي .. ما الذي أتت تفعله هنا .. هل ستظل تتابعهم بحثا عمّا يخفون من آلام الروح و مداواتها ..؟
- أنا هب دكتورة خالوه .. أنا مستشارة .. يعني أساعد الناس في حل مشاكلهم و الا أساعدهم في الكلام عنها .. تعرفين الواحد يرتاح يوم يفضفض عن لي فخاطره ..
قالت المرأة و هي تتمعن بالنظر فيها ..
- و انتي تساعدينهم لنج تبين هالشي .. و الا لنه شغلج ..؟
ابتسمت أحلام بإخلاص ..
- اساعدهم لنيه أفرح يوم أحس انيه رمت أخلي شخص قريب منيه يحس بالراحه ..
بادلتها حصة الابتسام ..
- يزاج الله خير .. كم عمرج ..؟
- ست و عشرين سنة ..
- معرسة ..؟
ابتسمت أحلام .. ما هذا ..؟ تحقيق ..؟!!
- هيه ..
- عندج عيال ..
هزت أحلام رأسها رفضا .. تتمنــــــــــــى ..!! .. قال حصة و هي تومئ برأسها ..
- الله يرزقج إن شا الله ..
قالت أحلام تحول مجرى الموضوع ..
- شكلج ميهودة اليوم ..
تذمرت حصة بهدوء ..
- هيه أحس انيه هب رايمة أرفع صبوعيه من التعب .. و عظامي مكسرة .. الحمد الله ع كل حال ..
نظرت الأخرى لأطراف أصابعها .. و سؤال يدور في ذهنها لم تمنعه من الخروج ..
- آآآ .. خالوه ليش وقفتي العلاج ..؟
استرخت تلك في جلستها أكثر متأوه .. ثم التزمت الصمت لثواني ندمت خلالها أحلام على سؤالها المتعجل .. لكن المرأة عادت لتقول بهدوء ..
- ما كان فيه تقدم .. ذبحنيه الكيماوي ع الفاضي .. و هد حيليه .. كل يوم أحس عمريه أخس عن الثاني ..
قالت أحلام بقوة ..
- حتى و لو كان صبرتي .. يمكن العلاج يقتل كل الخلايا المريضة .. كل شي بيد الله و ما شي يعسر عليه ..
هزت تلك رأسها بابتسامة هادئة ..
- و نعم بالله .. بس لا يا بنيتي .. أنا كنت أدري إن العلاج ما منه فايدة .. ليش عيل أعذب عمريه بعلاج ما منه خير .. اذا ربيه راد انيه أموت بموت ما بيردنيه كيماوي .. الحين أنا مرتاحة .. صح أتعب بس يخوز و المسكنات تنفعنيه ..
قالت أحلام بشبه ابتسامة ..
- هذا يأس ..
هزت الأخرى رأسها نفيا ..
- هذا استسلام لحكم القدر .. ما بقى من العمر كثر لي راح .. و أنا لو بغيت أموت .. ما با موت و هاك السم في عروقيه ما يخلينيه أحس بآخر أيامي .. أبا أشوف أنا وين و منوه لي عنديه ..
.
.
كانت الكلمات تلامس أذني أحلام بصوت مسالم .. مع ذلك كان لها وقع صاخب ..
هذه المرأة تتحدث عن حتفها القريب بلا مبالاة غريبة ..!! هل تتظاهر بالشجاعة ..؟ .. أم أنها لا تعلم ما هي مقبلة عليه ..!!
فكرت أحلام للحظة قبل أن تقول ..
- عندج عيال ..؟
نظرت لها للحظة .. لترى أحلام انعكاس انكسار خلف تلك العينين الواهيتين ..
- هيه عنديه ولد .. انتي خطفتي على أم حميد ..
.
.
تغيير ممتاز للموضوع .. لا بأس ..
- لا ..
- ليش ..؟
- متروعة ..
ضحكت بتعب ..
- من شوه ..؟
- منها .. ما شفتيها يوم تسب ..
ابتسمت حصة ..
- لا شفتها و وااايد بعد .. بس ما عليج أم حميد شيخة و طيبة .. و قلبها أبيض ..
رفعت أحلام حاجبها بشك .. لم ترى أيا من هذه الصفات في تلك العجوز الشرسة .. لكن حصة حافظت على ابتسامتها الهادئة و هي تقول ..
- هذا لنج ما تعرفينها بس يوم بتعرفينها زين بتحبينها ..
هزت أحلام رأسها رفضا .. لا تعتقد أنها سترى في تلك المرأة ما يُحب ..
- وين أعرفها .. أنا لو أحدر حجرتها فرتنيه بنعول ..قايلتليه بلسانها ما تباني أتابعها ..!!.. خالوه و الله اليوم مخشعة زكية ما خلت رمسة ما عقتها ..
- زكية متعودة على طوالت لسانها .. و أم حميد أنا بشور عليج بشور يخليها هي لي تطلبج تتابعينها ..
بدا التساؤل على وجه أحلام .. و لكن حصة قالت بتعب ..
- ساوي المخاد عدال بعض يا بنيتي .. كسرن ظهريه ..
هبت أحلام بسرعة تعدل المخدات الناعمة لتسترخي عليها حصة مجددا .. و تتنهد .. قبل أن تنظر لأحلام بامتنان ..
- يمانٍ ما تعدم .. شوه كنت أقول .. هيه .. أم حميد ..
ثم نظرت لأحلام بتأمل قبل أن تقول ..
- بقولج شي .. أكثر واحد منا محتاي مساعدة هي أم حميد .. حاولي يا بنيتي تتقربين منها .. هاي العيوز ما سم لسانها الا الكايد ..
رغم ما حملت الكلمات من غموض الا أن أحلام هزت رأسها موافقة .. فتابعت المرأة بصوتها المرهق ..
- أباج من الحين ما تيين صوبها .. و لا ترمسينها و لا تحاولين تتقربين منها .. انسيها بالمرة ..
فتحت أحلام عينها بدهشة ..
- بس هذا شغليه ..
- أدري و اسمعي رمستيه ما بتندمين .. أم حميد امررررة لا تقبلين قداها .. و عقب كم يوم بتشوفينهاا هي لي تباج ..
عقدت أحلام جبينها بعدم فهم .. فقالت حصة بهدوء ..
- شرات ما قلتلج .. أم حميد طيبة و قلبها أبيض تقولين ياهل .. و لو شافتج تدارينا و هي لا .. ما بطيع .. لازم كل شي شراتنا و الا هي قاصرة عنا .. فهمتينيه .؟
هزت أحلام رأسها ..
- يا الله بنشوف و أمرنا لله ..
ثم قالت بابتسامة .. تطالع وجهها الصغير و قد أضناه الألم ..
- أنا بخليج الحين خالوه عسب ترتاحين .. تبينيه أزقر زكية تعطيج مسكن ..؟
هزت حصة رأسها رفضا ..
- لا .. خليج هنيه يلستج تونس ..
نهضت أحلام و اقتربت منها و هي تقول ..
- مرة ثانية بخطف عليج الحين لازم ترتاحين .. شي فخاطرج ..
- سلامتج فديتج ..
- الله يسلمج ..
.
.
و تحركت أحلام نحو الباب لتخرج منه و تغلقه خلفها بهدوء .. ليصبح حاجزا بينها و بين تلك المرأة ..
ثم تقف و هي توليه ظهرها .. تأخذ نفسا عميقا .. تحمّله شيئا مما يختلج في صدرها فتطلقه ..
لم تعد بحاجة لتلك الملفات الملقاة على مكتبها .. لا تريد أن تعرف عن أوضاعهم الاجتماعية .. أو كم من أيام العمر ولّت .. أو حتى ما تحويه الأجساد الفانية من علة ..
لا تريد أن تخبرها الأوراق ما تستطيع هي أن تقرأه في أعينهم .. و ما يمكنها لمسه في أصواتهم من إخلاص و صدق .. هي واثقة بأنها لن تسمع صداه بين دفتي ذلك الدفتر الاصفر ..!!
لم تعد لها رغبة أن تطيع الكلمات التي خطت .. و بإمكانها أن تشعر بصدق إحساسهم يرسمها وجودهم .. و حديثهم الصادق .. يروي لها في كل مرة حكاية قديمة ..
عن أمنية خافية .. و حزن دفين .. و ذكريات تذوي..
.
.
و أحـــلام منسيــــة ..!!
.
.
رفعت رأسها تلقي نظرة على باب حصة .. تلك روح أسلمت أمرها لما تخفيه الأيام .. لا ضمان لها على البقاء و مقابلة الغد .. لاضمان .. سوى ايمان عميق بأن أجلك آت لا ريب لو دمت .. و أنك محاسب على الغيب إذ مت ..!!
دفعت قدميها للمشي متوجه نحو الغرفة الأخيرة .. كل قلب في الدنيا مهما ضؤل حجمه و احساسه .. له قصة قد تبقيه مسهدا .. و إن كان بعضا منها لا يذكر ..
توقفت أمام باب الحجرة التي كانت على يقين بأنها لسهيلة .. و رفعت يدها تقرع الباب بخفة .. مرة .. و مرتين..
و لا مجيب .. أدارت قبضة الباب بهدوء و دخلت الغرفة ...
.
.
تقف في منتصفها و ابتسامة رقيقة تعلو شفتيها .. شعرت بأنها في حضانة ما .. هذه الغرفة المطلية باللون الوردي و تتوزع على جدرانها صورة شخصيتين كرتونية لطالما رأتها في ملصقات الأطفال و طوابع كتبهم .. و لا تذكر اسميها .. هناك دب متوسط الحجم رمادي اللون بدا عليه القدم ملقي على الفراش الخالي ..
الآن هي متأكدة بأن هذه الحجرة تعود لسهيلة .. فقد رتبت و أعدت بعناية لتناسبها ..!!
تقدمت من طاولة ألقيت عليها مجموعة من القصص الصورة .. هل تقرأها الشابة ..؟
.
.
- مداام ..؟
أجفلت بفزع و هي تستدير فتراه .. ما بالهم اليوم كل واحد يفزعها في أحد الغرف ..!!
نفس الوجه الكالح الذي استقبلها بالأمس .. يقف عند الباب متسائلا و بيده صينية صغيرة مستديرة فارغة .. عيناه الصافيتين تسألانها ..
- انتا ريد ساهيلا ..
أومأت برأسه .. فأشار بيده و هو يهز رأسه بحماس ..
- ساهيلا داخل استراحا ..
ثم ابتسم تلك الابتسامة التي رأتها بالأمس .. الإنسانية تقطر من هذا الوجه النحيل الأسمر بشكل عجيب ..
.
.
توجهت نحو الاستراحة العامة .. و وصلتها لتدلف من الباب المفتوح .. كان التلفاز مدارا .. و الاثنتين تجلسان على الأرض و تقومان بتركيب صورة مفككة .. زكية و سهيلة التي سرعان ما قالت بحبور حين رأتها ..
- آآحـــــــــاام ..
ابتسمت أحلام بفرحة .. على الأقل لا يزال هنا من يذكر اسمها .. شعرت بتعاطف و هي تنظر لوجه الشابة المتطلع لها ..
- مرحباا .. سهيلة شحالج ..
نظرت سهيلة لزكية ضاحكة ثم أعادت النظر لأحلام .. هذه الطفلة الكبيرة لا تخبو السعادة عن وجهها ..
- بخييييير ..
اقتربت أحلام تجلس على الأرض قربهن ..
- شوه تسوون ..؟
أشارت سهيلة بيدها للقطع المبعثرة ..
- آآكب صووا ( أركب صورة )
قالت أحلام لها ..
- بركب ويااج ..
رفعت سهيلة رأسها مستفسرة لزكية و كأنما تطلب منها الأذن ..
- زكيييية ..
ابتسمت زكية بحب ..
- يا ألب زكية .. - ثم التفتت لأحلام - ركبيها يا ستي دنا غلوبت و ما عرفتش ..
أمعنت أحلام في الصورة الصغيرة التي يتوجب اتباعها .. كانت صورة لنفس الشخصيتين المعلقة في حجرة سهيلة ..
- آآهاا .. لا ما عليه بنركبها أنا و سهيلة .. صح ..
صفقت سهيلة بيدها ..
- صاااح ..
و رحن يركبن القطع بتركيز ..
- صاااح ..
و رحن يركبن القطع بتركيز ..
- هاا ام حنفي .. شو سويتي ويا أم حميد ..
تنهدت زكية بشيء من البؤس ..
- ما تسأليش يا ختي .. دي ما هديتش خالص النهاردة .. و أنا جيت أشوف سوهيلة لحد ما تئوم من النوم .. انتي عارفة .. دا حكيم كل يوم بيعمل الخبز رقاق بتاعها و ما اشتكتش من الملح .. علي النعمة يا ستي انا زئتوه ما فيش ملح زايد .. دي بس عاوزه حاقة تشتكي منها ..
وضعت أحلام قطعة بجانب أخرى .. و راحت تعدل من وضع واحدة وضعتها سهيلة في غير مكانها و هي تبتسم ..
- زكية ما يوز تقولين علي النعمة ..
تمطت زكية و هي تقول ..
- يا ستي .. دحنا ملناش الا الصبر دي حالات بتجيها بس .. و الله أوئات بتكون حاقة تانية خالص .. انسانة طيبة .. و بتدحك ..
بدا عدم التصديق واضحا على أحلام ..
- تضحك ..!!!
- ههههههههههههه .. آآه يا ستي تضحك انتي فاكرة ايه دي حتى بتحب الكلام كتير .. سوهيلة يا حبيبتي .. في ايه ..؟
التفتت أحلام للفتاة فانصدمت برؤية وجهها المذعور و قد اتسعت عيناها بخوف شديد .. تبعت أحلام نظهرا فوجدتها تنظر للتلفاز المدار ..
سهيلة ترتجف بقوة .. و هي تأن بشيء من الفزع .. فهبت أحلام لتطفئ التلفاز .. حالما انقطع بث الجهاز ..
بدت الراحة فورية على وجهها الطفولي .. و نظرتها الفارغة تتأمل أحلام بضياع ..
قبل أن تعود الأخيرة لمكانها و تتظاهر بأن شيئا لم يحصل .. و لكن زكية عادت لتسألها ..
- سوهيلة يا ضنايه .. عاوزه حاقة ..
نظرت سهيلة لأحلام بشيء من الخجل قبل أن تقترب من زكية و تهمس بصوت وصل لأذني الأولى ..
- حمــــام ..
رفعت زكية جسدها الثقيل بجهد كبير و هي تقول ..
- أوي .. أوي .. تعالي يا حبيبتي .. مدام أحلام سواني و راجعين ..
واصلت أحلام ترتيب القطع بهدوء دون أن ترفع رأسها ..
- خذن راحتكن ..
خرجت الاثنتين من المكان تاركتين أحلام تواصل صف القطع بذهن مشغول ..
.لماذا أثارت الصورة في التلفاز رعب سهيلة ..
هي متأكدة من أن التلفاز كان مدارا حين دخلت و لم تكن على وجه الشابة ردة الفعل الغريبة هذه ..!!..
ذلك لا يعني سوى شيء واحد ..
.
.
أن صورة الكلب التي كانت تعرض في تلك اللحظة أثارت ذعرها ..!!
* * * * *
كانت ساعة السيارة تشير للثانية و خمسين دقيقة حين أوقفتها في كراج بيتها .. تلتقط حقيبتها و تترجل منها ..
التعب يغزو جسدها .. و رقاد لم تقضه بالأمس يناوش جفنيها المثقلين .. دلفت البيت .. و توجهت مباشرة لجناحها .. ستغير ملابسها لتتناول الغداء معه يمكنها بعد ذلك أن تخذ قسطا من الراحة قبل أن تذهب عصرا لبيت أهلها ..
طلبت من الخادمة تجهيز السفرة ريثما تذهب لتراه ..
توجهت مباشرة لمكتبه لا بد أنه فيه .. بالأمس كان يعتكف هناك .. قرعت الباب بخفة .. ثم أتاها الصوت يأمرها باختراق الحاجز الخشبي ..
- ادخــــــل ..
أدارت المقبض و هي تسحب نفسا عميقا .. لتدفع الباب و تواجه المكتب الخالي .. أدارت رأسها فوجدته مستلقيا على الأريكة الوثيرة و بيده ملف يطالعه .. سرعان ما أغلقه و وضعه جانبا .. و نظر اليها بهدوء ..
لا تزال هي واقفة بالباب ..
- السلام عليكم ..
أسند نفسه بصعوبة ليستوي جالسا ..
- و عليكم السلام ..
عادت لذهنها محاورة هذا الصباح .. هل كان ذلك حقيقيا ..؟!! اقتربت ببطء منه لتقف على بعد خطوات .. و احساس منه ..
- شحالك ..
ما زال يمعن النظر فيها ..
- بخير ..
و ربت بجانبه على الاريكة ..
- تعالي ..
خيل لها للحظات بأنها لم تسمع ما قال ..
- هااا ..؟
عاد يقول بهدوء ..
- تعالي يلسي ليش واقفة ..؟
نظرت له بحيرة دون أن تتحرك قيد أنمله ..
- ييت أخبرك إن الغدا زاهب ..
هز رأسه باصرار ..
- بنتغدا .. تعالي يلسي .. ابا ارمسج ..
بدأ قلبها يخفق بقلق .. يريد أن يحدثها .. لا يطلب ذلك الا لشيء مهم .. كانت الأفكار تتخبط في ذهنها الحائر .. هل سيطلب منها أن تترك عملها .. ؟ لا .. كان سيأمرها بذلك و هي واقفة .. يريد منها أن تجلس .. يريد أن يقول لها شيئا برفق .. لماذا ..؟؟ هل هو خائف من ردة فعلها لما سيقول .. ؟ .. ما الذي قد يـ ....
.
.
لا يا إلهي .. ليس ذلك ..!!
.
.
.
كان ينظر لها بعجب .. فقد بدت مذعورة .. تنظر اليه و كأنه كان غريب .. قدماها متجمدتان لا تتحركان ..
- أحــــــــــلام ..
اخترق صوته حيرتها .. شعر بشيء يشبه الضياع في أفق عينيها المتسعتين خوفا ..
- تعالي يلسي ..
دفعت قدماها دفعا .. لتجلس بجانبه .. تضم ركبتيها .. و قبضتي يديها في حجرها بقوة .. قلبها يخفق بعنف ..
أصابته هو الحيرة الآن .. لماذا كل هذا الخوف لأنه طلب منها الجلوس ..؟ .. دائما تجلس معه دون نظرة الرعب هذه ..!!
لا يدري لما انتابته الشفقة نحوها .. ليمد يده و يمسك قبضتها المشدودة .. يدلكها برفق و هو يقول ..
- أحلام .. شفيج ..
رفعت عينيها و صوتها يرتجف ..
- انته لي شفيك .. شوه السالفة ..
لولهة التزم الصمت قبل أن يقول بهدوء ..
- ابا ارمسج عن لي استوا البارحة في بيت هليه ..
.
.
أطلقت أنفاسا تحتجزها في صدرها .. أ يعقل .. !! هذا فقط .. نظرت اليه بشك .. ماذا يخفي بعد ..؟
سحب يده و نظر لأمامه مباشرة .. و هو يقول بقوة ..
- انا هب ياي اراد في الرمسة لي قالتها أمايا عن شغلج .. تعرفين مع انيه وافقت ع شغلج الا ان الموضوع هب عايبنيه .. انا مابا حرمتيه تشتغل .. بس أنا عطيتج كلمة و على كذيه مضطر انيه أخليج تكملين السبع شهور في المستشفى .. و انا اشوف لي قالته أمايا ما يعيبه شي ..
.
.
الدموع تسد حلقها الآن .. تلك التي كانت تقف على شفير المقلة تنتظر شيئا آخر تحولت لرثاء على النفس .. سيدافع عن أمه لأنه يوافقها الرأي .. أما عنها فهي من تجاوز و اخترق الخطوط المرسومة لها .. هي من سعت للعمل ..
بلعت عبرتها و هي تقول بمرارة ..
- عيل ليش تبا ترمسنيه ..
تنهد و هو يلقي كلماته بسرعة .. خيل لها لولهة بأنها قد أخطأت السمع ..
- ابا أعتذر ..
كان قلبها يدق بعنف الآن .. هل سمعته جيدا ..؟ أم أنها تتوهم ذلك ..لم تنظر لوجهه لكن صوته الهادئ كان به نبرة غريبة ..
- لنيه سمعت أمايا تنغزج و سكت ع السالفة ..
شعرت أحلام بشيء من الدوار .. لقد دعاها للجلوس .. و يقول الآن أنه يعتذر .. ردعت دمعة حمقاء سارعت لعينيها .. رويدك يا دمعة .. لربما كان هذا حلما أخرق
.. ابقي في حدود الجفن و لا ترحلي ..
لا ينقصني اذلالك ..!!
.
.
كان وجهها متألما .. لا ينكر أن الاعتذار كان صعبا عليه .. و لكنه شعر بأنها تتعرض لضغط هائل من جميع الأطراف .. و رغم أنه لا يؤيد خروجها للعمل و لكنه وافق .. و لا يرضيه أن تشعر بالضيم بسبب أحكام الغير
قالت بالأمس أنه يحبطها .. ربما كانت محقة و ربما كان ذلك نتيجة رغبة خفية في دفعها لترك العمل .. بدا ذلك في عينه خبثا ..
تنهد و عينه ما زالت متعلقه بوجهها الحزين .. اعتصر يدها برقة .. و هو يقول بنفس الهدوء ..
- أحـــــــــلام ..
ما زالت تنظر للأسفل و هي تقول بصوت خافت مرتجف ..
- منصور عادي .. انا متعودة على نغزات أمك .. الحين نش خل نتغدا ..
كانت تخفي عينيها عنه .. لماذا ..؟!! قال بصرامة ..
- أحلام طالعينيه ..
ترددت لحظة قبل أن ترفع عينها له .. كان وجهها محمرا و تبدو على وشك الانفجار بالبكاء .. شعر بالشفقة عليها ..
- شفيج ..؟
هزت رأسها عاجزة عن الكلام .. فعقد جبينه متسائلا ..
- أحلام ..؟
بلعت ريقها ..
- ما شي كنت خايفة بس ..
- من شوه ..
- يعني يوم زقرتنيه عسب أيلس .. خفت قلت يمكن شي مستوي ..
نظر لها بغرابة دون أن يفهم ..
- مثل شوه ..
.
.
قالت كاذبة ..
- يعني تحريت حد من هليه مستويبه شي ..
نظر لها بامعان قبل أن يقول ..
- لا ما استوى شي ..
أومأت برأسها ..
- ما بتتغدا ..
- بتغدا .. ثبتي لي الكرسي ..
هبت من مكانها و ثبتته باحكام و نقل هو نفسه بسرعة له .. ليدفعه نحو غرفة الطعام تلحق به ..
كانت تلك لحظات غريبة .. لولا لمساته التي لا زالت تشعر بها على يدها .. لاعتقدت أنها تحلم ..
كان قرار خروجها للعمل صائبا .. لقد فجر شيء ما هنا ..
لقد زعزع بروده .. و كم أسعدها هذا التغيير الطفيف .. تلك الدقيقة التي عاشتها في المكتب شعرت بها مسروقة من الماضي .. من حياتهما قبل أن يحل شؤم عجزه عليها ..
.
.
تلك نافذة فتحت لها .. ما زال منصور .. الرجل الذي تزوجت موجودا في مكانٍ ما .. في أعماق هذه النسخة الباردة ..
كل ما عليها فعله هو أن تبحث عنه .. لتعيده اليها ..
بدت لها تلك الأمنية بعيدة التحقيق .. و لكنها قد سمعت في مكان ما أنه لا يوجد هناك ما هو مستحيل .. كل شيء ممكن .. المستحيل يستغرق وقتا أطول فقط ..
و على هذه الأفكار التي تجتاحها تبعته لغرفة الطعام .. و أمل خفي يسري في نفسها ..
.
.
كن معي يا ربي .. و بثني الايمان و الصبر ..
ما زال أمامي الكثير لأذيب كتلة الثلج هذه ..!!
* * * * *
>>
تتمة
- هاي ثاني مرة يسويها .. يخطف من عداليه و لا كنيه موجودة .. موزان حتى ما يقول السلام عليكم ..
كانت مسترخية على الكرسي الخشبي الهزاز قاسي الظهر في غرفة اختها التي وقفت عند نافذتها المطلة على الشارع تتأمل العالم الخارجي بصمت تستمع لتذمرها من جفاء ذاك.. لتقول الأخرى بصوتها الرقيق ..
- حبيبتي .. هذا حمدان و هذا اسلوبة .. الحين هو زعلان و مقاطعنج .. يباج تودرين الشغل ..
تمطت أحلام ..
- يتحرانيه بهالاسلوب بطيعه .. بس و الله حركته تيبس راسيه و تخلينيه أعاند .. محد له خص فينيه الا ريليه .. و اليوم لي يوزنيه فيه منصور طاحت كلمته عليه ..
التفتت لها موزة بهدوء ..
- استغرب من عمووه شريفة ما سوت شي .. أنا قلت بتشل الدنيا و تحطها .. غريب هالبرود ..
شخرت أحلام ساخرة ..
- منوه قال ما سوت ..
اقتربت موزة لتجلس أمامها باهتمام ..
- شوه سوت ..
- امس سرت بيتهم .. و تمت تتحرطم عليه .. و تقول مالج حاية في الشغل و مادري شوه .. حتى انها سبتنيه ..
بدت الصدمة على وجه أختها
- شوووه ؟؟؟
قالت أحلام بلا مبالاة ..
- هيه و الله .. قالت أونه كل واحد يطلع على أصله ..
وضعت موزة يدها على فمها .. و مدت الأخرى لتمسك بيد أحلام ..
- ما عليج منها .. هذا من حرتها .. و لو كان منصور هناك .. ما تستانس تـ ...
قاطعتها أحلام بهدوء و هي تنظر لزرقة السماء تطالعها من الخارج ..
- منصور كان موجود ..
قالت موزة بحماس ..
- و شوه قال ..
- هه ما قال شي تم ساكت .. بس عمي سكتها .. و الله غيظها ما برد .. بتتصيد لي موزان ..
- لا تخافين منها .. المهم الحين خبرينيه .. شوه دوامج و شوه الناس لي وياج ..
نظرت لها أحلام شزرا ..
- خلي دوامي الحين و قولي .. أمس الرمسة السخيفة لي قلتيها ما عيبتنيه .. نحن شوه قلنا ..
أطلقت أختها ضحكة خفيفة بدا واضحا أنها مصطنعة ..
- صدق ما عندج سالفة .. بس كذيه قلتها ما كنت أعني شي ..
نظرت أحلام لها بعدم تصديق .. انقطعت الضحكة و اختفت الإبتسامة من على وجه موزة .. لتلفت مجددا للنافذة .. تنظر للسماء البعيدة متأملة .. و الشرود الكئيب يرتسم بقوة على وجهها الجميل .. و بعد لحظات تسيدها الهدوء اعترفت بخفوت ..
- انتي تلومينيه ع رمسة قلتها و انا لي فخاطريه يملى دفاتر .. سهل عليج تيلسين هنيه و تتشكين من لي معارضين دوامج .. لنج تشوفين هالشي صعب عليج .. انا وضعي أصعب .. وااايد أصعب يا أحلام .. انتي تلومينيه ع شكوايه لنج ما تحسين باللي احسبه ..
هبت أحلام من مكانها ..
- منوه قالج انا ما نحس باللي فيج .. موزان و الله قلوبنا كلنا تعورنا ع لي صار .. بس شوه بتسوين .. بتمين تضيعين لي بقى من عمرج تتحسرين ع لي راح .. هاي محطة فحياتج المفروض ما توقفين عندها .. خذي العبرة و واصلي .. ستين مليون وحدة تلقينها شراتج .. بس محد سوا لي انتي تسوينه .. انتي تضيعين وقتج في لوم عمرج ع شيء ما كان بيدج ..
ما زالت تلك تدير ظهرها فاقتربت أحلام لتضع يدها على كتفها بهدوء ..
- موزان .. ما عدنا مانع لو تبين تشكين .. بس و الله انتي تعذبين عمرج .. خلاص انسي ..
التفتت لها أختها ببطء.. تلك الدمعة الصافية ترتعش على أطراف الأهداب بحزن أثيري .. و صوتها الهامس يقول بعذاب ..
- كيف أنسى .. أنا مطلقة ..
مدت أحلام أناملها تلتقط تلك الماسة قبل سقوطها ..
- و الدار ممزورة مطلقات بس محد منهن عافت حياتها .. انتي ودرتي كل شي .. كل شي حتى البيت ما تظهرين منه ..
أشاحت موزة بوجهها ..
- وين تبينيه أظهر .. ما لي ويه .. الناس بتاكلنيه .. انا ما خطفن عليه ثلاث شهور معرسة و اتطلق .. ربيعاتيه لي عزمتهن على عرسيه شوه أقولهن .. و الله اتطلقت عقب ثلاث شهور ..
مدت يدها بعجز ..
- أحلام افهمينيه .. العرب ما بتقول العيب منه .. بتقول انه شايف عليه شي ..
امسكت أحلام كتفها بقوة ..
- و انت شلج بالعرب .. لي يرمس يرمس و ينقع فكشرة الطوية .. أهم شي انتي .. لازم تظهرين من هالعزلة لي تعيشين فيها .. سري الجامعة كملي دراسة ..ظهري .. شوفي العالم ..
ثم همست يتشجيع ..
- اتحديهم .. لا تخلين أفكارهم لي تحكمج .. انتي انسانة و لج شخصية .. عندج عقل .. ليش تخلين الرمسة الفاضية توديج و تييبج ..
ارتجفت شفتي موزة ..
- ما أقدر .. ما أقدر أحلام .. أحس ان السالفة توها مستوية أمس ..
أغمضت أحلام عينيها لتسحب نفسا عميقا .. ثم تنظر لتلك العينين الممتلئتين بالدموع ..
- خطفن ست شهور .. ما يسد هالوقت لي ضاع من عمرج ..
انهمرت دموعها الشفافة على خدها و هي تردد كلماتٍ سبق للأحلام سماعها مرات ..
- انتي شدراج باللي اعيشه .. أحلام انتي معرسة و مرتاحة ويا ريلج .. و انا ذابحنيه الوضع هذا .. ماريد أظهر و أحصل حد يسألنيه معرسة و الا لا .. ماريد حد يشوفنيه و ينشدنيه ليش تطلقتي ..
ثم همست ببؤس ..
- ماريد حد يقولي فَضْلة فلان ..
|