كاتب الموضوع :
ناجي البدري
المنتدى :
الادباء والكتاب العرب
رواية "الدروب الوعرة" les chemins qui montent (الترجمة الأدق لغويا هي الدروب الصاعدة ولكن الدروب الوعرة أصح في التعبير عن مضامين الرواية) تبرز ذلك العالم المنغلق، الذي لم يمسسه الزمن، وهو ينسف تحت هجوم العصر، والطبيعة الشاقة والمأساوية أحياناً لتأثير هذا الصدام بين الجديد والقديم في وعي الناس وسلوكهم. والرواية دراما عاطفية، حيث نجد مثقفاً قروياً، منعزلا في قرية قبائلية نائية، ومنفصلاً عن العالم، وبعيداً عن التاريخ، نجده يكتب مذكرات لا حاجة لأحد بها في وقت يقوم فيه جميع المثقفين الجزائريين بالثورة، والرواية تصور حيرة وارتباك جيل نضج. ويستمر فرعون في "الدروب الوعرة"، يصور عالم القيم القديمة المتفجر، في تغذية الأمل في الأشكال الإنسانية للتخلص من العبودية. الرواية ليست مجرد قصة حب وغرام، وغيرة وانتقام، بل وراء هذه العواطف المحتدمة يكمن صراع بين القديم والجديد، بين الشيوخ والشباب، بين التبشير والإسلام.. ببساطة إنها "رواية هوية" على شاكلة العديد من روايات الكتاب الجزائريين خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية البغيضة لبلد المليون شهيد.
ومولود فرعون واحد من هؤلاء الشهداء، فهو من مواليد 8 مارس 1913 بقرية تيزي هيبل، اشتغل بالتعليم وتقلد عدة مناصب كان آخرها مفتشية المراكز الاجتماعية، وفي 15 مارس 1962 بينما كان يشارك في اجتماع عقد في مكان يسمى "القصر الملكي" الواقع في حي الأبيار بالعاصمة الجزائر، أياما قلائل قبل إعلان وقف إطلاق النار بين الجزائر وفرنسا أقدم مجموعة من الإرهابيين من عصابة الاواس الإجرامية (OAS) "المنظمة المسلحة السرية للمستوطنين الفرنسيين بالجزائر" على اغتيال الأديب الكبير مولود فرعون صاحب الروائع الأدبية التي أرخت لمرحلة هامة من تاريخ معاناة الشعب الجزائري في ظل الهيمنة الاستعمارية الفرنسية.
تمت عملية الاغتيال في وضح النهار وسقط إلى جانبه خمسة من العاملين في قطاع التعليم بعد أن تم اقتيادهم جميعا من غرفة الاجتماعات وأمروهم بوضع أيديهم اتجاه الحائط وبعدها انطلقت آلة الموت تحصد الأرواح البريئة.
قبل ذلك بسنوات كتب مولود فرعون وهو يصف قيمة الإنسان المسلم في نظر الهمجية الإستعمارية:" فكم تساوي حياة المسلم ؟ إنها في هذه الحالة لا تساوي أكثر من طلقة مدفع رشاش بل ربما تساوي أقل من ذلك". نعم لم تكن قيمة الإنسان الذي يطلب الحرية في نظر المغتصبين اكثر من طلقة رشاش ورصاصة غادرة تستجلب الغربان والنواح. لكن ذلك كله لن يثني التاريخ عن السير في مجراه الطبيعي عندما تفيق الضمائر وتتحرك العزائم من جديد ألم يكتب:"لماذا ينكرون على هذا الشعب أن يكون كما يريد، نعم كما يريد، هذا الشعب لن يتغير.. إننا نشعر… باستعادة هذا الشعب لروح أجداده البدائية الخام". وهؤلاء الذين سقطوا من أجل أن تحيا الجزائر لهم المجد والذكر الحسن لانهم ضحوا بأنفسهم لتعبيد الطريق "لكي يستطيع الآخرون رفع هاماتهم من أجل خلاصهم إزاء الإنسانية المخجلة المتآمرة ".
وكان يعبر باستمرار عن المفارقة بين القوى الضالمة الاستعمارية والشعوب الباحثة عن "الدروب الوعرة" في التاريخ كي تفك قيد الذل المسلط عليها. كتب يصف الطبيعة الاستعمارية يقول:" إن مظاهر طبيعتهم نحونا ليست سوى مظاهر كراهيتهم لنا... لكن كراهيتهم هذه كانت ذكية لدرجة أننا لم نفهم لقد أخذناها على أنّها طيبة فأصبحوا هم الطيبين ونحن السيئين هم المتحضرون ونحن البرابرة هم المؤمنون ونحن الكفرة، هم السادة ونحن السفلة، هذا ما نجحوا في إدخاله في اعتقادنا". ولذلك لا يتوانى المستعمر في استعمال أي وسيلة لفرض هيمنته " إذ كل الناس عندنا مشكوك في نواياهم، ومن أجل هذا لا بدّ أن يحنوا ظهورهم كي يتلقوا لسعات السياط الملهبة..." وعلق بكل سخرية موجها كلماته للرئيس الفرنسي آنذاك "ربّّما يكون في استطاعتنا أن نذكر جي. موليه بأن الجزائريين الذين لا يزالون جهلة لدرجة اتهامهم بالتعصب قد ظلوا يحتفظون بذكرى القيم...".
لهذا لا نستغرب إصراب سلطات الجزائر وشعبها على مطالبة فرنسا بالاعتذار عن جرائم الحقبة الاستعمارية قبل التوقيع على معاهدة الصداقة والتعاون، وهو المشروع الذي قبر أمام إصرار فرنسا على الاحتفال بعصرها الكونيالي والاحتفاء بما قدمه للإنسانية من تقدم ورقي ومبادئ إنسانية!!!!!
ويجب علينا جميعا أمام هذا الموقف أن نتذكر قولة لمولود فرعون أطلقها قبل ذلك بأكثر من نصف قرن: "إن الإصرار على الكذب لا يؤذي الحقيقة، بل يؤذي الكاذبين ويمزق القلوب ويقتل الأرواح ويبذر الحقد والجنون".
لقد كان الأديب مولود فرعون أحد الأركان الأساسية المؤسسة لفن الرواية الجزائرية المعاصرة مع كتاب آخرين منهم الراحل محمد ديب وعبد الحميد بن هدوقة ورضا حوحو ومالك حداد. ولمولود فرعون عدة روايات كتبها بالفرنسية منها رائعته "ابن الفقير" التي بدا كتابتها أثناء الحرب العالمية الثانية (1939م) وكذلك الأرض والدم (رواية 1953م)، اليوميات، الأيام في بلاد القبائل (1954م)، الدروب الوعرة (1957م)، قصائد الشاعر سي محند (1960م)، عيد الميلاد (نشر بعد وفاته 1972م)، وقد ترجمت أعماله إلى عدة لغات منها العربية والألمانية والإنجليزية والروسية..
|