كاتب الموضوع :
الفيورا
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: مشكلتي مع كلمة / بقلمي
9
فُتح باب مكتبته، وتلقائيا نظر ليث لجهته يرى من الداخل، متوقعا إما جود أو زينة، ليرفع حاجبا بتفاجؤ عندما تبين أن الداخل كانت نوف.
بدت متوجسة بعض الشيء وهي تمسح بنظرها على جوانب المكتبة، قبل أن تسأل: جود كانت هنا؟
ذكرت زينة أن ابنتها نوف كانت من النوع المنفتح، الذي يأخذ ويعطي مع الناس بسهولة، لكنها لم تعامله هكذا، بل شابها نوع من التوتر. لم يرد الضغط عليها فتركها براحتها تتعود عليه.
أجابها أخيرا بابتسامة: توها كانت عندي بس راحت لما شمت ريحة الأكل من المطبخ./ أردف بتسلية: طبخ أمك جاب راسها..
ضحكت نوف بخفة: صديقاتي كل أسبوع كانوا يسنترون عندي.. كنت أظن إنهم يبغون خشتي بس تبين أنهم ملهوفات على طبيخ أمي. ما أتعجب من حالة جود..
ضحك هو بدوره من تعليقها، ليبتسم عندما توقف لملاحظته أن نوف كانت تشبه أمها في ضحكها.
استأذنت نوف لتخرج فاستوقفها: تعالي، أبغى أعطيك شي قبل ما تطلعين..
أخرج نسخة موقعة من آخر رواية نزلت له، يعطيها لها عندما اقتربت: أمك قالتلي إنك متابعة لسلسلة رواياتي وما قدرتي تشترين روايتي الأخيرة لأن النسخ كلها انباعت.. عشان كذا..
بدت نوف مذهولة وأكمل: إذا ربي كتب إني أنشر رواية بعدها، أول نسخة بتكون لك.
قالت والفرح ظاهر في نبرة صوتها المرح: يعني صرت في أي بي؟
أومأ بموافقة: في أي بي ونص..!
تذكر ما اعترفت له زينة في ذات أمسية..
(بنتي نوف.. ما عمرها حست إنه كان لها أب..)
قد قال لزينة أنه سيعامل ابنتها بحسبان ابنة له، وهذا ما سيفعل.
:
كانت تعد قهوة لنفسها عندما أحست بأحد يحتضنها من الخلف، بيد دافئة تقيد خصرها، وأخرى تمتد لتنزع ملقط شعرها بعيدا، تاركا لشعرها ينسدل إلى كتفيها بطبيعته المموجة.
سألته بابتسامة: وش العداوة القائمة بينك وبين كليب شعري؟ كل ما تشوفه علي تنزله..
أدارها ليث بخفة جهته، لترى ابتسامته المتسلية، والافتتان الفاضح في عيونه: وش نسوي لو يمنعني أشوف المنظر الجميل هذا؟/ استطرد بتفكير: تدرين إن شكلك يتغير على حسب حالة شعرك..؟
ضحكت برقة، لا تدري ما يهدف إليه لكنها مستمتعة بقربه على أية حال: طيب..؟
أكمل: لما يكون مرفوع لفوق يعطيك صرامة حلوة وهادية..
سألته بفضول: ولما أخليه حر؟
أجابها بهمس حار: يخليك فتنة، ويخليني أنسى عقلي..
وكان سيثبت لها مدى نسيانه لنفسه، وكانت ستتركه ليفعل ما يشاء، لولا أنها سمعت صوت جود ونوف يقترب لجهة المطبخ، لتخطو بعيدا عنه تحاول أن تضبط نفسها.
سمعته يتنهد ثم يتوعد بخفوت معني لها، يجعلها تحمر أكثر: لقاءنا الليلة../ رفع ملقط شعرها وهزه بغمز: وهذا بيكون رهينة عندي..
خرج والفتاتان يدخلان. سمعت جود تتساءل وهي تنظر في أثر والدها: وراه يبتسم كذا لنفسه؟
سمعت نوف تهتف بدورها، توقظ زينة من غفلتها: يا جميل، أدينا وجه!
/
/
انتهى الفيلم الوثائقي الذي كانا يشاهدانه، ولاحظت التفات ياسر لها، كأنه يريد قول شيء..
سألته: وش فيه؟
بدأ يقول وفي ملامحه التفكير: ما لاحظتي إنك أبد ما تتكلمين عن نفسك معاي؟ ما عرفت إلا اللحين إنك مهووسة أفلام وثائقية..
حاولت التخفيف عنه، مستغربة من اهتمامه بهذا الأمر: ما فيها شي..
هز رأسه بــلا، ورد عليها بحزم، بعمق صادق: كيف أعرف عن ناس ثانية، وأكثر وحدة أبغى أعرف عنها ما أعرف عنها إلا قليل؟
سألته بدورها بخفوت مرتبك: وش اللي تحب تعرفه..؟
ابتسم بتشجيع: أي شي تحبين تتكلمي عنه..
أخذت عندها تتكلم عن حياتها، عن أبيها المرحوم ذو الصرامة الحنونة، عن أمها عظيمة القلب، عن أخيها الصغير الوحيد المشاكس المحبوب. أخذت تتكلم عن مجال دراستها، عن عملها لفترة في القسم النسائي لأحد البنوك الكبيرة، كيف أنها ضجرت من عملها ذاك واكتسبت شغفا لدراسة التاريخ. أخذت تتكلم عن هواياتها، عن مواد قراءتها ومشاهدتها المفضلة. أخذت تتكلم عن ما تحب وتكره من طعام، ما كانت ضعيفة تجاهه، كيف أن الوحام أفسد عليها الكثير. أخذت تتكلم عن السفر، عن حلمها في زيارة اسطنبول.
أخذت تتكلم وتتكلم وتتكلم.. وياسر كان مستمعا منصتا لها، اهتمامه كله مصوب ناحيتها لا يزل للحظة.
لا تدري متى داهمها النعاس، ومتى استغرقت في النوم. كل ما تعرفه أنها استيقظت على الكنبة، نصف مستلقية على ياسر الذي كان نائما في جلوسه، ضاما لها بين ذراعيه. لم تكن أبدا بالوضعية المريحة، لكنها مع ذلك لم ترد تحريك عضلة، شاعرة بدفء يغمرها.
:
قد شعر أن الدنيا لا تسع مقدار سعادته عندما استغرقت بيان في النوم بين ذراعيه. كان أشبه بالمسكر، التنعم بدفئها ونعومتها وعبير شعرها. فكرة أن ينام وحيدا في تلك الغرفة جعلته يشعر ببرودة قاتلة.
لذا قال لها عندما حل المساء: إنتي وساري ناموا عندي من اللحين ورايح. خلاص.. تعودت.
بدا على ملامح بيان التردد: بس..
ليكمل هو بحزم: أدري إني نسيتك، وأدري إن بيننا نقاط لازم تنحل، لكن هذا مو معناته إني ما أعتبرك زوجتي، وإن هذا الوضع اللي حنا فيه عاجبني. بعد ليلة أمس أحس إني مقدر أنام إلا وإنتي جنبي وفي حضني..
اعتلت الحمرة ملامحها، ماسحة ظهر عنقها بحرج، ووجد ياسر أنه كان يستمتع بجعلها تخجل: طيب، بننام عندك الليلة..
لن يضغط عليها، ولن يطالب بأكثر من هذا، على الأقل حتى يعرف ماهية الحاجز المبني بينهما، وحتى يبدأ بإصلاح ما أفسده.
/
/
رتبت قسمها بحيث أنزلت بمساعدة عمها سريرها الفردي من غرفة نومها في الطابق العلوي، إلى غرفة الجلوس في الطابق السفلي، حتى لا يضطر جواد إلى صعود الدرج. فسرت له لحظة دخوله قسمها: بتظل هنا لين جرحك يتعافى.
بعد ذهاب الكل، بقيا لوحدهما في القسم. وترها وجوده هنا، لكنها سرعان ما تمالكت نفسها، لأنه لم يكن هنا سوى لتعتني به ورد جميله، ليس لأنه عاد إليها.
سألته متجهة إلى المطبخ: وش تحب تاكل؟
سمعته يرد وراءها: مالي نفس فأكل من برا..
سألته هذه المرة وهي تنظر إليه، فهي لم تقصد أن تطلب له وجبة من الخارج: وش تحب أسويلك؟
رأت العجب يرتسم على ملامحه: من متى وإنتي تعرفين تطبخين؟
هزت كتفيها: من فترة، بس مو لذاك الزود..
نظر إليها عندها بنظرة عديدة المعاني لم تفقه أي منها، ليجيبها أخيرا بهدوء: سوي اللي تحبيه..
من ضجرها والحاجة لأن تصنع لنفسها ما تريد دون مساعدة الخدم، أخذت تبحث في اليوتيوب عن طرق تحضير وجباتها المفضلة. لم يكن الطبخ يستهويها وغالبا ما أخفقت فيه.
صنعت له الباستا، أكثر طبق تتقنه، لكن ربما لن يرتقي لذائقة جواد، فهو نشأ على يد أمهر طباخة عرفتها، أمه العمة عبير.
كانت مفاجأة عندما أنهى صحنه كاملا، وحاولت ألا تُظهر مدى سعادتها المحرج أمامه.
أخذ أدويته بعدها، ثم أغلق عينيه ليرحل إلى عالم الأحلام، معطيا لها الحرية في تأمله تحت الإضاءة الخافتة القادمة من الخارج.
كانت مستلقية على الأريكة مقابله، تمسح بنهم على كل تفصيل منه. لطالما كان انطباعها عنه أنه ملكي المظهر، موجع الجاذبية. أهم تفصيل منه كانت محرومة منه هذه اللحظة، عيونه، تلك الجواهر السود اللاتي تلسع من برودتها تارة، وتذيب من اشتعالها تارة أخرى.
تمنت للحظة مجنونة أن تمد يدها تفسد ترتيب شعره البني الكثيف القصير، تمنت لو تستطيع مسح إبهامها على شفته السفلى، تمنت لو توقظه لتغرق في بحر عيونه. لكنها بقيت مكانها تتأمل والشوق يمزقها بسطوته.
تعرف أنها لن تستطيع النوم قريبا، فبدأت أفكارها تقودها إلى اليوم الذي وهبت قلبها فيه لذاك النائم.
سُئلت مرة متى أحبته، لكنها لم تنطق بإجابة. فالحقيقة قد تكون محرجة بعض الشيء.
أحبته من اللحظة التي لاحظت فيها وجوده، أحبته قبل أن تعرف ما معنى تلك الكلمة.
كان اللقاء الأول الذي تستطيع تذكره بوضوح هو في الجنازة التي أُقيمت لأمها. كانت في الخامسة وعرفت لتوها أن أمها قد ذهبت في سفر لن ترجع منه.
كانت تبكي في زاوية بعيدة عن المعزين وعن أبيها عندما جلس ولد أكبر منها جانبها. حاولت عندها كبت دموعها، فهي رأت أن بكاءها عند الناس، عند أبيها، جعلهم يحاولون منعها منه، راسمين ابتسامات زائفة حتى وهم تعساء. لم ترد رؤية تلك الابتسامات الزائفة، ليس وأمها قد رحلت.
قال الولد الجالس جانبها عندها، يفاجئها: ابكي، ابكي زي ما تبغين..
استغربت منه لا يمنعها مثل الباقين، لكنها سرعان ما رجعت إلى البكاء. أحست يده فوق رأسها، مربتا عليها، مخففا عنها، لكن دون منع، دون كبت.
لا تدري كم مضى من وقت حتى هدأت، تسأله بصوت متقطع: مين.. إنت؟
مسح آخر الدموع من عينيها قبل أن يجيب: تعرفين عمك طلال؟
أومأت له بنعم. كانت تحب ذلك العم، دائما ما كان يحضر لها الحلوى.
أردف: أنا ولده.
رمشت لتستوعب: عمي طلال عنده ولد ثاني؟
-: إيه، سعد أخوي الكبير. أنا أجي بعده.
أمالت رأسها بفضول: واسمك؟
أجابها بابتسامة صافية: جواد.
بقي ذاك الاسم عالقا في بالها، تسأل عنه أباها كلما ذكر زيارة عمها طلال لهم، ليضحك ويجيبها بنعم، جاء ولده جواد معه.
تذكر مرة رأته يتوضأ عند المغاسل، فسألته عما يفعل، فأجابها.
انتابها الفضول لتعرف أكثر. ليسألها: ما شرحوا لك في المدرسة؟
امتعضت ملامحها بضيق طفولي: إلا، بس الأبلة شرحت مرة وحدة.
عندها علمها الوضوء بصبر يثنى عليه، فهي تذكر كيف كانت بطيئة الاستيعاب في صغرها، وعلمها من بعدها الصلاة، لتبدأ من ذاك اليوم مشوار لم تقطعه قط.
تذكر مرة دافع جواد عنها بإصرار مستميت عندما اتهمها أبناء عمومتها بأنها هي من أطلق سراح الدجاج ليضيعوا ويؤكلوا في أحد الزيارات لجدها عمر. كانت مبهورة بحق لاستعانته بأدلة كثرى تدل على براءتها من تلك التهمة.
ربما كان صبره لكونها مجرد طفلة صغيرة وحيدة، لكنها كانت تفرح بأقل اهتمام منه، فهي تذكر فرحها لذكر عمها طلال مرة أن جواد أصبح من يختار الحلوى التي يحضرها لها.
مرت السنين وتعلقها به يزداد، رغم تفرقهم بحكم العمر.
تذكر مرة انشغل عنها والدها، فطلب من جواد إيصالها إلى البيت من مدرستها المتوسطة.
لا تدري لم بدا عليه الضيق لمرآها بينما هي تكاد تتقطع فرحا. سألها حال ركوبها في الخلف: زميلاتك يتغطون؟
أجابته تتذكر زميلاتها اللاتي تغطين من الصف السادس: إيه..
أردف يسأل، مبقيا نظره على الطريق: ليش ما تتغطين إنتي بعد؟
قطبت حاجبيها، تفكر: بس يقولولي شكلك صغير..
أبوها لم يحثها على ذلك، ولا حتى معلماتها.
رأت الضيق يزداد في ملامحه وهو يقول: فكري تتغطين طيب، لأنك خلاص كبرتي..
فهكذا فعلت وفكرت، وقررت أن تبدأ بالتغطي، فهي كانت على أعتاب الصف الثالث المتوسط عندها.
مرت سنين أكثر، واكتشفت أن الناس كانوا يعتبرونها جميلة، جميلة إلى درجة طلب يدها للزواج.
رفضت بعناد كل طلب، لكونها ربطت كلمة زواج بجواد منذ الصغر. لم يكن لديها أدنى فكرة إذا كان يفكر فيها كزوجة، لكن ما دام هو لم يتزوج بأخرى، فهي لن تتزوج بآخر.
وتعترف بحق، عندما جاء والدها يقول أن جواد تقدم إليها، ذهلت وانصدمت، وظنت للحظة أنها كانت تحلم. لكنها كانت حقيقة وعليها أخذ القرار.
استخارت وشعرت بالراحة تغمرها، تدفعها إلى القبول.
سُئلت مرة إذا نطق جواد بكلمة حب لها طيلة سنوات زواجهم، إذا عبر عن شعوره حيالها، لكنها لم تجب على ذاك السؤال أيضا.
الحقيقة كانت لا، لم يفعل.
قد تكون غريبة ساذجة شديدة القناعة في اعتقادها، لكن ميساء لم تهتم، فحبها له يكفي، وما دام كان بجانبها، فلن تطالب بأكثر.
كانت سعيدة بحق في تلك السنوات، وكان حبها له يزداد في كل لحظة، لكنها اكتشفت أنه لا يكفي، لا يكفي لتعويض نقصها.
انتهى البارت..
|