ملأت الدموع عينيها الواسعة فأسدلت رموشها الكثيفة للأسفل
بحركة من جفنيها لتخفي كل ذاك الألم فيهما عن الواقف أمامها
وهمست ببحة
" أرجوك سيد مطر أنت لا تعلم ما يعني الأمر لي قبل رماح "
وصلها صوته الجاد والذي ميزته تلك البحة الرجولية العميقة
" متأكد من أنك لم تخبريني الحقيقة كاملة وليس من حقي سؤالك
ما لا تريدين قوله ، قد أخدمك في مطلبك الثاني أما الأول فيلزمني
معرفة تفاصيله قبل كل شيء كي لا أظلم أحدا دون علم والخيار لك "
رفعت عيناها وحدقتيها البنية الواسعة به مجددا وقالت بحزن
" حقق لي المطلب الثاني فقط إذا وسأكتفي به "
تنفس بعمق ودس يده اليمنى في جيب بنطلونه وقال
" أعدك أن أفعلها يا جليلة ، وفكري أنتي فيما قلت أيضا فيمكنك
ورماح البدء من جديد ، هو يحتاج امرأة مثلك بقربه الفترة القادمة "
أشاحب بوجهها جانبا تمرر طرف سبابتها تحت رموشها تمسح
الدمعة التي تحاول التمرد عليهم وهمست بألم
" ليس ذلك بإمكاني سيدي صدقني فلست من قد تداوي جراح
رماح بل من ستزيدها سوءا أقسم لك "
رفع رأسه قليلا عن النظر لمستوى جسدها القصير متنهدا بعجز
وكان سيغادر لولا أوقفه صوتها الرقيق الحزين المنخفض
" لا تتخلى عنها سيدي فهي عانت كثيرا منذ كانت طفلة "
التفت لها بكامل جسده مجددا ونظر لعينها بصمت فأنزلت رأسها
هربا منه وحياء بسبب ما تتحدث عنه لكنها تعلم بأن فرصة رؤية
هذا الرجل والتحدث معه قد لا تتكرر أبدا ، تكسر صوتها الحزين
وهي تهمس
" آسفة فلست أعني التدخل في خصوصياتكما لكنها أقرب لي من
الشقيقة ومنذ كنا طفلتان ، غسق لم تعرف السعادة الحقيقية منذ
علمت أنها مجهولة العائلة والنسب ولم يستطع أحد ولا عائلة الزعيم
شراع أجمعهم أن ينسوها تلك الحقيقة القاسية ، لم أتوقف يوما
عن لوم نفسي بسبب دخولها أراضيك في الماضي لأني من أخذتها
لمنزل جدتي وساعدتها لتغادر من هناك جهة حدودك ، لو أن الزمن
يرجع بي للوراء ما فعلتها أبدا لأني السبب فيما وصل له حالكما حتى
اليوم واللحظة ، لولا فعلتي تلك ما كانت عرفتك ولا أنجبتما ابنة ولا
افترقت عنكما ، لست أعلم كم سأحطم أيضا من الموجودين حولي
يوما بعد يوم "
توقفت عن الكلام تمسح رموشها مجددا تسجن عبرتها في حلقها
وتجهل الابتسامة الخفيفة التي تغلبت على الملامح الجادة للواقف
أمامها حتى قال
" هل يرضيك إن قلت أني تمنيت أن فعلتها وأدخلتها حدودي منذ
كانت طفلة "
رفعت نظراتها المصدومة به وقد عادت الدموع لملئ حدقتيها مجددا
وهمست ببحة
" لما تركتها إذا ؟ ولماذا تتركها بعيدا عنك حتى الآن ؟ "
قال بابتسامة جانبية محدقا في عينيها
" نحن نختلف عنكن كثيرا يا جليلة ، القسوة قد تتغلب على تصرفاتنا
لتصل لمشاعرنا فنعبر عنها بخشونة إن غضبنا وإن جرحنا وحتى إن
أردنا الاعتذار لذلك تجديننا نعول دائما على الاختلاف بيننا "
أنهى جملته تلك ثم أدار ظهره لها وقال مغادرا
" لا تخبري ابنة خالتك بهذا كي لا تكرهك أنتي أيضا "
وابتعد عنها ونظراتها الحزينة المغشوة بالدموع تتبعه .. تتبع ذاك
الجسد الطويل المتناسق والخطوات الواسعة الواثقة ولازالت يده
في جيب بنطلونه يرتفع بسببها طرف سترته السوداء الفاخرة ،
همست بابتسامة صغيرة صادقة تخللت تلك الملامح الحزينة
والدموع المسجونة في حدقتيها الواسعة
" رجل وإن جرح الأنثى يعرف كيف يداوي جراحها أنت يا ابن
شاهين وأمثالك في زمننا قلة "
وما أن ابتعد عنها أكثر انكشف لها الواقفان هناك في انتظاره
وتحديدا الذي كان ينظر لها مباشرة فشعرت بالقشعريرة تسري
في جسدها فذاك الرجل كان يحدق بها كلما انكشفت لها تلك
الجهة وهي تحدث زعيمهم وكأنه يتخيل مثلا أن تؤذيه ؟ تؤذي
من وهي ابنة صنوان ذات الجسد القصير الضئيل أمام أجسادهم
المخيفة والتي لم تأخذ من قبيلة والدتها المنحدرة من حدود
الحالك سوى العينان النجلاء الواسعة ! إن كان رجاله بكل تلك
الهيبة والحظور القوي فمن الأحمق الذي سيفكر في أن يؤذي من
يكون زعيمهم !!
تحركت من مكانها قليلا جهة طاولة موظفات الاستعلامات هربا
من نظرات ذاك الرجل بينما وصل من تركها خلفه حيث الواقفان
ينتظرانه ومن دخلا برفقته ، وقف أمامهما ونظر جهة الواقف
يساره وقال
" ستغادرا الآن لحوران ... عمير أريدك أن تترأس من سيستقبلون
ابن شراع في المطار وتهتم بسلامته حتى يصل منزل شقيقته "
قال وهو يحرك رأسه محاولا النظر لما ورائه هناك
" بالتأكيد ... كن مطمئنا "
التفت الواقف أمامه للخلف ونظر لما كان ينظر ووقع نظره فورا
على الواقفة عند طرف الطاولة المستديرة توليهم جانبا واحدا
من جسدها تمسح عيناها بمنديل ورقي وحقيبتها مفتوحة أمامها ،
أخرجت منها هاتفا محمولا وتحركت من هناك تضعه على أذنها
تحدث أحدهم ، عاد بنظره للواقف أمامه والذي قال ونظره
لازال هناك
" من هذه التي أوقفتك كل ذاك الوقت ؟ "
نظر مطر للواقف معهما والذي ضحك من فوره وقال
" ليت بشر معنا فقط لأبدع فيك بلسانه الرائع "
نظر له عمير بطرف عينه نظرة حانقة وقال مطر ببرود مغادرا
جهة الباب الزجاجي الواسع
" تلك زوجة رماح شراع يا عمير فتوقف عن التحديق بها فورا "
تبعاه من فورهما وقال عمير وقد خرج ونظره لازال لما تركه
في الداخل
" ولما زوجته كانت تبكي ؟ "
لم يعلق مطر بينما ضحك تميم وقال وهو يقف للحارس الذي فتح
له باب السيارة
" صام الرجل دهرا متعمدا ثم اشتهى طبق غيره "
قال عمير ببرود وهو يجلس في كرسيه
" تصمت أنت أفضل لك ولي يا بشر النسخة المطورة "
تحركت سيارتهما على صوت ضحكة تميم بينما قال عمير
ناظرا حوله
" الزعيم مطر لن يغادر الآن ؟ "
فتح الجالس بقربه حاسوبه المحمول وقال وهو يضع السماعات
على أذنيه
" قال أنه ثمة مشوار آخر لديه داخل العمرآن "
وتابع بضحكة صغيرة ونظره على الشاشة أمامه
" يبدوا أنه سيرجع لمكتب أميرة جمعية النساء تلك مجددا ،
سلبت عقله الرجل !! "
كتف عمير ذراعيه لصدره ونظر جهة النافذة متمتما
" بل غادرت سيارته خلفنا مباشرة أي ثمة مكان آخر ذهب إليه "
*
*
*
عاد الجالس أمامه للضحك مجددا حتى أن الموجودين حولهم
في المقهى انصب اهتمامهم جميعا ناحيته فتجاهله بعدما رماه
بنظرة باردة ونظر جانبا ، معه حق يضحك عليه ويسخر منه
وهو من كان يتنفس ثقة بأن مخططه لن يخيب أبدا ونسي بأن
والدته ابنة شاهين الحالك ولن يكون أدهى منها ، لا يصدق ما حدث
ولا يمكنه استيعابه وهي ترميه بتلك القذيفة الحرارية وكأنها
تهديه زهرة ! هل فعل كل ذلك وخطط ونفذ لينتهي لهذه النهاية ؟
في أي عرف وقانون يزوجوه بطفلة ؟ هو المحامي الذي يفترض
بأنه يترافع عن أصحاب القضايا المشابهة يفعلها ! لا وبكل برود
تخبره بأن عائلتها وافقوا وأن زواجه سيكون قبل موعد زواج
شقيقه ولن تقيم له حفل زفاف ... بالطبع لن تفعلها فكيف ستقدم
تلك الطفلة للناس وأي ثوب زفاف هذا الذي ستلبسه لها ؟ إلا إن
كان ثوب بثينة حين كانت في العاشرة وسيكون حينها مهرجانا
للضحك وليس حفلا .
نظر للجالس أمامه والذي عاد للضحك مجددا ما أن نظر له وقال
بضيق
" لما لا توفر هذا الضحك لنفسك ؟ يعجبك وضعك كثيرا سيد أويس ...
يا ابن عائلة غيلوان "
وقف حينها الجالس أمامه وحمل حقيبة حاسوبه ولازال يحتفظ
بابتسامته وقال
" لن آخذ كلامك هذا على محمل الجد وأنصحك بأن تفعل ما قلت
لك فهو حلك الوحيد إن كنت تفكر حقا في مصلحة الفتاة قبلك ولا
تكن أنانيا "
وغادر عند آخر كلمة قالها تاركا الجالس مكانه يكاد ينفجر غضبا
من نفسه وندما على ما تفوه به منذ قليل فهو وبكل بساطة لم يستطع
أن ينفس غضبه في والدته فاختار صديقه ليعيره بحاله ، وقف متأففا
وأخرج بعض النقود من محفظته ثم أعادها لجيبه بعدما رمى تلك
الأوراق النقدية على الطاولة وحمل هاتفه وغادر من هناك أيضا ،
كان يفكر في أن يتصل بيمان فوحده من سيجد حلا لهذه المعظلة
الصعبة وإن صارحه بحقيقة ما حدث وكل تلك التمثلية وسينهي
الأمر بمعرفته لكنه قرر زيارته شخصيا فسيكون الحديث معه
مباشرة أفضل رغم أنها ما أصعبها على نفسه أن يقول له بأنه اتخذ
شقيقته حجة ليتهرب من إلحاح والدته على تزويجه
*
*
*
رمى آخر قطعة ثياب في حقيبته وانحنى عليها بركبته وبدأ
بإغلاق سحابها العريض متجاهلا نظرات الجالسان هناك
وهمساتهما الغير مفهومة ممتزجة بابتسامات وضحكات
رجوليه منخفظة ، إن كان خاله دجى ولا يمكنه التغلب على
لسانه فكيف إن اجتمع وخاله صقر ؟ لا يراهما إلا نسخة واحدة
وأن أعان الله من يجتمعان عليه ، أغلق حقيبته بعد جهد متأففا
بضيق فلم يعرف يوما شيئا يدعى ترتيب فكيف بحقيبة !!
استقام في وقفته ممسكا خصره بيديه ناظرا للجالسين متحاديين
على الأريكة وكما توقع بادر خاله صقر بالحرب عليه قائلا
" أخبرنا على الأقل إن وجدت ضالتك التي تخرج للبحث عنها
في باريس كل يوم أم ستسافر بدونها ؟ "
نظر فورا وبضيق للجالس بجانبه والذي رفع يديه باستسلام
قائلا بضحكة " لم أفعل شيئا هو سألني عن سبب تغيبك يوم
أمس فأخبرته أنك قلت بأنه ثمة ما عليك البحث عنه قبل
مغادرتك ، من حقي هذا أم ليس من حقي ؟ "
سحب الحقيبة لتنزل للأرض مصدرة صوتا قويا لارتطامها بها
وقال ببرود " حمدا لله أن واحد منكما فقط من سأقيم معه هناك "
ثم أولاهما ظهره وغادر الغرفة وتركهما ضاحكين ، نظر صقر
للجالس بجانبه وقال
" ما به ابن شقيقتك مستاء هكذا وكأنه يرجع هناك مرغما ؟ "
ضرب ذاك على فخذيه ووقف قائلا
" لا أعلم .. ثم هو عابس طوال الوقت تقريبا ، كان موافقا على
العودة ولا أراه يعترض الآن ... الأمر يبدوا حساسا جدا ويرفض
الحديث عنه !! "
وقف صقر أيضا قائلا بابتسامة
" أقطع ذراعي إن لم يكن في الموضوع امرأة فلا شيء يذهب
بعقول هؤلاء الفتية تربية مطر شاهين غيرهن "
ثم نظر له وقال قبل أن يعلق
" لا أراه مقتنعا حتى بالبقاء في منزلنا ويحترم فقط رغبة مطر "
حرك دجى رأسه موافقا وقال
" لذلك قال بأنها ستكون فترة قصيرة جدا ثم لا تنسى أن له
عائلة في جنوب الحالك ... جدتان وأعمام وعمات لا يمكنك أن
تحصي عددهم وهو ابن شقيقهم المتوفي والذي لم يروه منذ
اختفى خلف الحدود فتيا ولن يعجبهم أن يقيم عند عائلة والدته
وإن كان أحد رجال مطر شاهين "
تنفس صقر بعمق وأمسك خصره بيديه معلقا " بل لا أراه سيستقر
عند أي منا وهذا ما قاله مطر عنه وبأن قاسم رجل اعتاد أن
يعيش معتمدا على نفسه مستقلا كما بنا نفسه بعيدا عن جميع
أموال عائلة الشاهين طيلة الأعوام الماضية وأنا مع ما قال
رغم أن معرفتي به لم تتعدى الأيام القليلة "
حرك دجى كتفيه وقال
" حسنا على كل حال هو في السادسة والثلاثين الآن ومؤكد
سيستقل ويتزوج "
وتابع مبتسما بمكر ينظر بطرف عينه للذي دخل الغرفة مجددا
" وسيجد في فتيات أعمامه أصنافا مختلفة فنساء جنوب الحالك
أخذن صفات الحور سوداوات الشعر والعيون "
وضحكا معا فاقترب الواقف هناك من حقيبته وسحبها معه
وقال مغادرا
" إن انتهيتما من تفاصيل مستقبلي فعلينا أن نغادر الآن "
ضحكا مجددا وغادرا خلفه ونزلوا للأسفل حيث كان على ثلاثتهم
أن يفترقوا هناك .. اثنين مسافران وآخر أمامه أيام أخرى في تلك
البلاد قد تمتد لما هو أبعد مما يتمنى الجميع ، تعانقوا مودعين
له وأمسك صقر بكتفه قائلا
" أريد أن نراك سريعا بيننا يا دجى "
ربت على ذراعه مبتسما وقال " سلم لي على ابنتي وحفيذتي ...
خاصة تلك نسخة والدها المصغرة "
قال صقر من فوره
" أجب على اتصالات تيما فهي اتصلت بي البارحة ولم أستطع
التهرب منها إلا بصعوبة ، ينتابها الشك في أن رحلتي من أجل
رؤيتك "
تنهد دجى وقال
" قد لا تراني مجددا أبدا لذلك لن أغامر بسماع صوتها الباكي
فستجعلني أسافر لها فورا تلك الدمية الجميلة ، بلغها فقط أني
أحبها وسأراها قريبا "
صوت فتح قاسم لباب السيارة وإغلاقه ليضع حقيبته جعل حديثهما
ذاك ينتهي ثم ركب السيارة قائلا
" على هذا الحال ستلحق بنا طفلتكم تلك هنا "
ضحك صقر وركب قائلا
" لا تسخر من طفلتنا تلك فإن رأيتها ووالدتها ستحار من
ستتزوج منهما ، هذا إن خرجت من تحت يدي مطر حيا طبعا "
انطلق بالسيارة متمتما ببرود
" ومن يقدر على امرأة ليتزوج بنصفها "
ضحك صقر قائلا
" سأحتفظ بتعليقك هذا حتى تراها ثم سأذكرك به "
*
*
*
دخلت المنزل وضربت الباب خلفها بقوة تعبر فيها عن غضبها
الذي لم تنفس عنه بعد ووقع نظرها على الواقف عند باب
المجلس ينظر لها نظرة لم تستطيع فهمها فقالت بريبة
" أين هي تيما؟ "
أمال شفتيه وقال ببرود
" تسجن نفسها في مجلس الرجال "
تقدمت نحوه ورمت حجابها وسترتها على الأريكة وقالت
ببرود مماثل
" وما هذه اللعبة الجديدة التي تلعبانها ؟ من يجدالكنزالمفقود؟ "
تمتم بعبوس متضايقا من انتقادها لهما
" بل لن ألعب معها مجددا بعدما تغلبت عليا ثلاث مرات في لعبة
الأحاجي "
وتابع ينظر لها بريبة ما أن تغيرت نظرتها للاستغراب
" والدها كان معها هنا منذ قليل "
تبدلت ملامحها للغضب فورا وهذا ما كان يخشاه والقادم سيكون
أسوأ بالتأكيد وهذا ما حدث بالفعل حين صرخت بانفعال
" وما الذي يفعله هنا ؟ "
تمتم الكاسر ينظر لها بخوف
" هو ليس هنا الآن قلت أنه كان .... "
صرخت فيه مجددا
" لا يهم كان أو لم يكن فما يريده ذاك الرجل بها وهي كانت
معه بالأمس؟ وكيف لأولئك الحرس الأغبياء أن يسمحوا بدخوله
دون إبلاغنا "
عض باطن شفته ولم يعلق فلن يستطيع أن يقول لها أنه ليس ثمة
من يستطيع الوقوف في وجهه في أي مكان في البلاد فكيف
سيمنعه الحراس ! لأنه يعرف النتيجة جيدا إن هو تفوه بهذا ،
قال بهدوء وكأنه يحاول امتصاص غضبها
" المهم الآن أن تيما في الداخل وترفض أن تخرج ولسنا نعلم
ما دار بينهما جعلها تتصرف هكذا "
تحركت ناحية الباب وطرقته منادية " تيما افتحي الباب أو فتحه
الحر..... "
انفتح الباب حينها ومن قبل أن تنهي جملتها وكأنها تنتظر فقط
أن تسمع صوتها ، وقفت أمامهما بعينين محمرتان من البكاء
تكتم عبراتها في حلقها درجة أنها لم تعد تستطيع التنفس جيدا
فأمسكت الواقفة أمامها بكتفيها وقالت
" تيما ما بك؟ ما الذي أخبرك به والدك يبكيك هكذا ؟ "
رفعت لها يدها مقبوضة دون أن تعلق ثم فتحت أصابعها كاشفة
عما كان فيها ودموعها عادت لتتقاطر فوقها وظهر خاتم الزواج
الفضي في راحتها وهمست ببكاء
" ترك لك هذا "
نظرت له في يدها بصدمة لبرهة قبل أن تخطفه منها وترميه بقوة
دون أن تكترث ولا للمكان الذي وصل إليه وصرخت فيها
" لا يفترض بهذا أن يجعلك تتصرفين هكذا ، للجحيم هو وخاتمه"
صاحت فيها الواقفة أمامها في المقابل قائلة ببكاء
" لا أمي توقفي عن الدعاء عليه"
ثم تركتها وتوجهت حيث سمعت صوت رنين ذاك الخاتم ونزلت
على الأرض ولازالت في بكاء مستمر تحاول إخراجه من تحت
الأريكة متجاهلة التي صرخت من خلفها بغضب
" توقفي عن مطاردة الأوهام يا تيما وتوقفي عن رؤية ذاك
الرجل كمثالي فلا أحد غيره دمر كل ما كان يفترض أن يكون
جميلا بيننا وأنتي لا تتوقفين عن الوقوف في صفه كالحمقاء "
أنهت جملتها الغاضبة تلك تتنفس بقوة تشد قبضتيها حتى تكاد
تمزقهما ونظرها على التي وقفت على طولها وبدأت تحاول دفع
الأريكة باكية فتحركت بخطوات واسعة غاضبة وصعدت السلالم
وتركتها
*
*
*
نقلت نظراتها الحزينة بين الجالس على الكرسي مشبكا أصابعه
ومتكئا بمرفقيه على ركبتيه ينظر للأرض للنائمة على السرير
يداها مقيدتان بمنديل قماشي ورغم أن عيناها مغمضتان وغائبة
عما حولها تماما إلا أن تنفسها كان يلهث بلا انتظام وكأنها تركض
دون توقف ، وهذا حالها من وقت أو منذ حقنها بحقنة المهدئ تلك ،
تنهدت بأسى ونقلت نظرها في الغرفة التي عادت مرتبة كما كانت
وبمساعدة الجالس أمامها الآن وبطلب منه ، لم يشرح لها السبب
لكنها استطاعت معرفته من نفسها وهو إخفاء ما حدث هنا ولن
تستغرب هذا منه فهو آخر من تتوقع أن يثير الشكوك حولها مجددا
لكي تعامل معاملة المجانين من جديد ، لا تصدق أن رجلا مثله
وفي مركزه وبحجم الثروة التي يملكونها وكل تلك الخادمات يرفع
بيديه قطع الزجاج من الأرض ويمسك المنشفة وينظف بها الجدران !!
كم مرة تساءلت هل هذا الشاب ابن لهذه العائلة فعلا ؟ آآه ليته فقط
هو من تزوجها وليس ذاك المتوحش .
نظرت لها مجددا ومسحت على شعرها وقبلت جبينها متمتمة بحزن
" لا أبكى الله عينيا فقدك يا صغيرتي"
" ما سبب ما حدث معها ؟ "
نظرت فورا لصاحب ذاك السؤال والصوت الرجولي الهامس الجالس
قربها ولازال نظره للأرض ، السؤال الذي كانت تنتظره وتتوقعه منه
في أي لحظة ، لاذت بالصمت لوقت حتى رفع رأسه ونظر لها
فهمست بتلعثم
" لا أعلم سيدي أقسم لك "
استوى في جلسته وقال بحزم
" ومن يعلم إن لم يكن أنتي ؟ "
ضمت يديها لصدرها وقالت بخوف
" لم آتي إلا على صوت صراخها لأن غرفتي بجانبها و..... "
قاطعها بضيق
" ليس ما حدث هنا أعني بل السبب الأساسي لتلك الحالة ومؤكد
تفهمينني جيدا "
حركت رأسها بالنفي متمتمة
" ليس لدي ما قد يفيدك "
سوا جلسته ونظر لها مباشرة وقال
" قولي ما تعرفينه مهما كان "
رطبت شفتيها بلسانها ونظرت للنائمة على السرير ، مسحت
على شعرها وهمست بحزن
" سامحيني يا زيزفون "
نظرت بعدها له قبل أن تنظر للأسفل تضم يديها في حجرها وقالت
بهدوء حزين
" كانت أول مرة رأيتها فيها في المستشفى ، تم توظيفي للعناية
بها خصيصا ولم أصدق نفسي وقتها وأنا أراها أمامي لأول مرة
كانت طفلة تجلس في زاوية الغرفة تضم ساقيها بذراعيها بقوة ،
نظرت لي يومها نظرة لن أنساها ما حييت ... كانت نظرة ضياع
ووحدة وفقد ومنذ ذاك الوقت أقسمت أن لا أتخلى عنها أبدا ،
تحدث معي طبيبها قبل أن أراها وكل ما شرحه لي كان حالتها
والنوبات التي تصيبها ، قال بأن حالتها تحسنت كثيرا وبأنها قد
لا تصاب بها مجددا ، كنت أهتم بأدويتها كما أوصاني تماما
وبدأت أحاول إخراجها من عزلتها تدريجيا ومنحتني ثقتها وإن
بعد جهد ووقت ، أذكر كانت مرتان فقط خلال تلك الأعوام جميعها
التي أصيبت فيها بنوبة مشابهة وفي كلا المرتين كانت بسبب
نومها من دون أدويتها ، كانت تصرخ بهلع وهي نائمة وحين
تستفيق لا تخرج من تلك الحالة ، كانت وكأنها ترى أحدهم
وتتحدث معه ولا تراني أمامها مهما حاولت التحدث معها ،
كانت مرعوبة تبكي وتصرخ وترمي بكل ما تصله يداها وفي
كلا المرتين كان طبيبها من يحضر مع الممرضة لتهدئتها ،
كان ثمة رجل يأتي لزيارتها .. فقط ذاك الرجل الذي لم أراه يوما
لأنه كان يدخل ويخرج بسرية تامة ، حتى هي لم تذكر اسمه
أمامي أبدا ، هو من اهتم بها ووفر كل ما تحتاجه ، حتى تلك
الفيلا الريفية الرائعة كانت له ، أرسل معلمين لها في جميع
اللغات والتخصصات تقريبا ، حتى الرسم هوايتها المفضلة كان
ثمة معلم يشرف بنفسه عليها ، لم يزرها أحد غير ذاك الرجل
أبدا طيلة كل تلك الأعوام ، بقي ماضيها مبهما بالنسبة لي لليوم
لا تحب التحدث عنه بل قلما تتحدث عن أي شيء ولا عن ألمها
أو وحدتها أو حزنها ، لا تراها إلا صامته شاردة الذهن وكأنها
منفصلة عن العالم حولها ولازالت تعيش مع أطياف ماضيها ،
لم أراها ضعيفة يوما ولا منهزمة سوى تلك المرتين الشبيهتان
بهذه وحين تستفيق كانت لا تتحدث عما حدث لست أعلم نسيته
أم تتعمد أن لا تتحدث عنه "
" ألا تعلمين من يكون ؟ "
رفعت نظرها له وقالت
" لا فلم يكن مسموحا لي برؤيته "
قال مباشرة
" الشخص الذي تراه في حالة الا وعي أعني "
حركت رأسها بالنفي وقالت
" أقسم لست أعلم سيدي لكنت أخبرتك فوحدك من أراه يهتم
بأمرها ولن تؤذيها أبدا "
وقف على طوله ونظر لوجهها لبرهة لتلك الملامح الجميلة الشاحبة
المرهقة وتنهد بعمق ثم انحنى ناحيتها وفك المنديل عن يديها وقال
مغادرا
"اتصلي بي إن حدث أي شيء "
*
*
*
استيقظت على صوت رنين هاتفها فابتعدت عن الجدار تمسد
عنقها بيدها فهي لم تشعر بالراحة أبدا ولم تنم جيدا وكيف تنام
وترتاح وهي تنام جالسة تحيط بها الجدران الباردة من كل مكان !
وقفت ورمت عنها كل تلك الثياب التي كلفتها مبلغا ماليا كبيرا
ولم تنفعها بشيء ولا أن تزودها ببعض الدفء ، دستها في
الكيس بعشوائية ولم تعد تهتم ولا لتجعدها ثم أخرجت هاتفها
من الحقيبة تكيل السباب والشتائم لرجل واحد لم تتوقف عن
شتمه منذ أعوام بل ومنذ عرفته ، نظرت باستغراب للرقم على
الشاشة ثم رفعت كتفيها بلا اكتراث وأجابت فوصلها ذاك الصوت
الأنثوي الرقيق
" الآنسة جيسي أليس كذلك ؟ "
ولم تترك لها المجال لا لأن تجاوب أو تعلق وقد قالت مباشرة
" معك مكتب السيد كروس وهو يطلب رؤيتك هذا الصباح "
ابتسمت من فورها ابتسامة واسعة وقالت
" حقا يطلب رؤيتي الآن ؟ "
وماتت ابتسامتها فجأة وقد قالت
" ألم تخبريني أنه سيتصل بي بنفسه؟ ما تغير في الأمر! "
قالت تلك من فورها وبشيء من البرود
" أظن أن الأمر لن يكون مختلفا فأنتي ستقابليه في جميع الأحوال ،
هل لديك سيارة أم نرسل لك إحدى سيارات الشركة ؟ "
مطت شفتيها بحنق من نفسها وليس من أحد وتمتمت
" بل أرسليها لي "
نظرت بعدها للهاتف بصدمة وقالت بضيق
" لم تكلف نفسها ولا قول كلمة وداعا تلك المتعجرفة "
دست هاتفها في الحقيبة ونزلت السلالم ترتب شعرها هامسة بسخرية
" ستعرف حجمها قريبا تلك الغبية حين سآخذ أنا مكانها "
خرجت للخارج فلفحتها فورا برودة الصباح ففركت كفيها ببعضهما
ونفختهما ليدفئا قليلا ، لأول مرة في حياتها تستيقظ باكرا هكذا ...
لا بل منذ انتقل ذاك المتوحش للعيش معهما وهي لا تعرف نوما
مريحا ، تمتمت تفرك كفاها مجددا
" لا بأس جيسي ستتخلصين منه قريبا ، بل أنتي تخلصت منه
بالفعل بعدما طردك "
ابتسمت بانتصار ابتسامة سرعان ما تلاشت للعدم وهي تنظر
للشاحنة الحمراء الضخمة التي وقفت أمامها وقد فتح سائقها
الباب قائلا
" صباح الخير آنستي يمكنك الصعود لأوصلك لمبنى الشركة
الرئيسي"
فغرت فاها صارخة فيه بصدمة
" توصلني أين يا هذا !! "
ابتسم قائلا
" الآنسة كلوديا طلبت أن يقلك أحدنا هناك وأنا في الخدمة آنستي "
صرت على أسنانها بقوة حتى كادت أن تحطمها وضربت الأرض
بقدمها وصرخت به
" ومن أخبرك أن منزلي هنا ها ؟ أنا لم أخبرها عن عنواني "
رفع كتفيه وصرخ من الأعلى قائلا
" أخبروني من هناك ومؤكد علموا بذلك من المعلومات الموجودة
في ملفك ، بسرعة آنستي الجو بارد ، يمكنك الاتصال بوكالة تأجير
لطلب سيارة أجرى إن أردت "
تأففت وأمسكت بالمقبض الحديدي البارد وصعدت متمتمة بخنق
" وهل من خيار آخر أمامي .... سحقا لذاك الرجل "
وما أن استقزت جالسة مكانها وضربت الباب خلفها حتى قال
الجالس خلف المقود مبتسما
" أي رجل تعنين ؟ لا يكون السيد كروس لأنه لن يعجبني ذلك
فجميع من يعمل في شركته يحبه حتى من لم يروه يوما "
وضعت حقيبتها في حجرها بعنف قائلة ببرود
" ليس سيدك أعني كن مطمئنا بل من سيكسر السيد كروس
أنفه بالتأكيد "
وما أن انطلقت الشاحنة بهما حتى تمنت الموت كما لم تتمناه
سابقا وهي تري نظرات سكان ذاك الحي الراقي لها وهي تركب
ذاك الشيء المخيف بعدما كانت تتنقل في سيارة فاخرة متى وحيث
شاءت ، همست من بين أسنانها متجاهلة تلك النظرات المشمئزة
" ستندم على كل هذا يا ابن كنعان وقل جيسي قالت "
*
*
*
طرقت الباب طرقتين وفتحته ودخلت ووقع نظرها فورا على
الجالسة فوق السرير مكتفة ذراعيها لصدرها تنظر للفراغ أمامها
ولازالت بملاسبها سوى من السترة السوداء المرمية أرضا ، لا تفهم
ما الذي تعبر عنه تلك الملامح الجميلة الشاردة ؟ الحزن أم القهر
أو الغضب أم جميعهم معا ! تنهدت بحزن واقتربت منها وجلست
على حافة السرير بقربها وقالت ناظرة لعينيها
" غسق نفث نيران غضبك من ذاك الرجل في ابنتك لن يفعل
شيئا سوى تعقيد الأمور "
لم تنظر لها ولم تتحدث ومن أنفاسها التي باتت تخرج قوية علمت
أنها تكتم غضبها فقالت دون تراجع وبلهجة أشد هذه المرة
" تيما تبكي دون توقف ولاتردد سوى بأنها تحبك وبأنها لا تفضل
والدها عليك أو تنحاز له ، تخيلي أن والداك موجودان الآن وأن كل
واحد منهما في مكان ما سيكون شعورك ؟ ألن تتمني أن يجتمعا ؟
ألن تسعي لذلك لأن استقرار العائلة هو حلم كل شخص ؟ لما
تحملي ابنتك نتائج أفعال هي لم تفعلها ؟ "
نظرت حينها لها وقالت بضيق
" الذنب ليس ذنب تيما بل ذاك الرجل الذي يعلم جيدا سبب
ما يفعله وبلسانه قال أن ابنته خارج كل ما بيننا ثم يأتي هنا
ويترك خاتمه الصدئ ذاك لديها فما معنى ما فعله ؟ "
همست جويرية تحاول تهدئة انفعالها
" لكن ابنتك لم تفهم هذا من حديثك يا غسق هي .... "
قاطعتها وقد رمت يدها في الهواء فتحرك طرف شعرها الأسود
الطويل مع حركتها وعانقت تلك الغرة الحريرية جزئا من
وجهها تتحرك مع أنفاسها الغاضبة وهي تصرخ بعنف
" لن يكسرني بأي شيء عمتي لن يفعلها ... حتى والدي لن أراه
إن كان الثمن أن أرجع له وسأعيش بحسرتي لباقي ما حييت
فأنا خلقت للحسرات "
أمسكت ذراعيها وقالت بحزن ناظرة لعينيها المليئة بالدموع التي
ترفض تحريرها وجفناها يشتعلان احمرارا
" أنتي تؤذي نفسك بهذا يا غسق وابنتك معك ، ارحمي قلبك
الصغير وقلبها "
حينها انسكبت تلك الدمعة وتكسر صوتها وهي تهمس ضاربة
بقبضتها جهة قلبها
" هذا عمتي ... هذا إن كان سيذلني له أقتلعه من مكانه "
مسحت بكفها على وجنتها تشعر بقلبها ينزف مع تلك الدموع
التي أعلنت التمرد عليها وهي تتابع وكأنها تفرغ كبت الأعوام
الماضية جميعها ولا تزال تضرب على قلبها بقبضتها
" لما لا يشعر به ؟ لما يوجد هذا هنا عمتي أخبريني ؟ لما يختاره
كورقة ضدي ؟ ما الذي يريد أن يوصلني له .... الجنون ؟ "
ضمتها لصدرها فورا وتركتها تبكي هناك فقد كان بإمكانها أن
تفهم فورا أنها مرت بضغط نفسي كبير ، لا تفهم ولا تعلم
ما يكون لكنها تعرف صغيرتها هذه جيدا وما فهمته أنه اتخذ
عواطفها كورقة ضغط وليس يعلم ذاك الرجل أن الأنثى المجروحة
هي أشد النساء عنادا وتهورا وأن آخر ما قد تفكر فيه هو الاستسلام ،
ضمتها لها أكثر تقبل رأسها وليس بإمكانها ولا الدعاء عليه فهي
أكثر من يعلم بأنه وحده من يتربع على عرش هذا القلب الصغير .
ابتعدت عنها تمسح دموعها لحظة ما انفتح باب الغرفة ببطء
فنظرتا كلتيهما للتي وقفت تتكئ بطرف رأسها على إطاره تنظر
لتلك العينان السوداء باكية فمدت لها يدها هامسة ببحة
" تعالي يا تيما "
فانطلقت جهتها من فورها وارتمت في حضنها تبكي بصمت قبل
أن تهمس من بين عبراتها
" آسفة أمي أقسم أ..... "
قاطعتها تضمها لها بحنان
" أفهمك يا تيما أنتي من فهمني بشكل خاطئ ، كنت مستاءة
فقط حبيبتي "
وامسكت لسانها عن الكثير مما كانت تريد قوله فعليها فعلا أن
لا تسمح لذاك الرجل أن يدمر علاقتها بابنتها ، هو سبق وقال
أن تيما خارج ما بينهما وهي تعلم بأنه رجل أبعد ما يكون عن
الكذب والغش فهو لا يتوانى عن كشف أوراقه وهذا ما فعله منذ
البداية لكنه متلاعب .. أكبر متلاعب عرفته ولن يتغلب عليها
بألاعيبه أبدا فغرضه من كل هذا ليس ما جعل ابنته تفهمه بل
ليؤكد لها هي بأنه على الاتفاق الذي دار بينهما صباحا فكل ما يهم
ذاك الرجل أن يثبت نظرياته وأن يعزز غروره ولن تصدق أبدا
أنه يفعل ذلك ليعيدها زوجة له وهو من سبق وتركها لأعوام
طويلة دون أن يهتم مرتميا في أحضان تلك المرأة .
أبعدتها عنها ونظرت لوجهها وبدأت بمسح الدموع عن خديها قائلة
" تيما أنتي تنظرين للأمر فقط من منظور أنك ابنة لكلينا ترفض
الاقتناع بأن اجتماعنا معا أمر مستحيل ، لو تحاولي فقط أن تقنعي
نفسك بهذا فستتغير نظرتك للأمر وستشعرين بالراحة فأنتي سبب
كل هذه الدموع يا تيما وليس نحن "
حركت رأسها برفض ودموعها تعود للنزول مجددا فتنهدت الجالسة
أمامها بضيق متمتمة
" ابنة والدك كيف سيتركك العناد "
ابتسمت رغم دموعها وبكائها ونامت في حضنها هامسة بحزن
" بل ابنتكما كليكما وأعند منكما أيضا "
تنهدت بعجز ومسحت على شعرها تقبله من حين لآخر في صمت
وقد وقفت عمتها وغادرت مبتسمة لها تشجع علاقتهما القوية رغم
كل ما تمران به ، وما أن أغلقت الباب خلفها ابتعدت عنها ونظرت
لعينيها قائلة برجاء وعيناها مليئتان بالدموع مجددا
" أمي هل تفعليها من أجلي فقط هذه المرة أرجوك "
نظرت لها بضيق وكانت ستتحدث فقاطعتها برجاء باكي تحضن
يدها بكلتا يديها وتضمها لصدرها بعدما وضعت فيها ما كانت
تقبضه في إحداهما
" أمي لن أطلب منك العودة له ولا مسامحته فقط هذا أمي أرجوك
أن لا ترميه فوالدي تركه لك وليس لي "
تنهدت بضيق وقبضت أصابعها على ذاك الخاتم هامسة
" إن وعدتني بالتوقف عن البكاء فورا "
قبلت خدها مبتسمة من بين حزنها ودموعها ووقفت خارج
السرير فنظرت لها للأعلى وقالت
" وعدتك أن نخرج معا وتأخر الوقت فهل نتركها لوقت آخر أو
يقوم الكاسر بأخذك بدراجته النارية ، صحيح أن قيادته مجنونة
لكنك ستستمتعين برفقته "
قبلت خدها مجددا وقالت مغادرة الغرفة
" بل سأنتظرك أنتي "
" تيما "
وقفت مكانها عند الباب والتفتت لها ما أن نادت عليها فمدت
لها بذاك الخاتم قائلة
" خذيه معك وأعطيه لوالدك "
عادت ناحيتها وأخذته منها بعدما قبلت خدها للمرة الثالثة ،
كانت تريد سؤالها عن الكثير لكنها تراجعت فيبدوا أن الأمر
رسائل مشفرة بينهما لا يمكنها فهمها ، وتلك هي حقيقة الأمر
فلم يكن ذاك الخاتم سوى رسالة قبول لتحديهما السابق
*
*
*
جرب الاتصال به مجددا وبلا فائدة فأرسل له يضغط أصابعه
بقوة على الأحرف
( أجب يا جبان )
والنتيجة ذاتها فأرسل مرة أخرى
( ليس المال ما سأحاسبك عليه لكن كن رجلا وعند كلمتك
يكفي ما حدث لها كل هذه الأعوام )
تأفف بعدها ضاغطا زر إغلاق الهاتف حين لم يصله منه أي
جواب ورفع جسده للأعلى متكئ برأسه على ظهر الكرسي
المتحرك مغمضا عينيه ومر طيفها أمامه فورا وعيناها الباكية
وهي تترجاه في آخر مرة رآها فيها قبل الحادث قائلة ببكاء
وهي تمسك يده بيديها
" رماح أنتما لن تفعلا كل هذا بي ... رماح أخبره أن جليلة
تعفيه من الوعد البائس ذاك وحرر نفسك مني "
شد قبضتيه بقوة وهمس من بين أسنانه ولازالت عيناه مغمضتان
" ممن سأطلب الغفران ومن ؟ ليتك مت مع والدك يا رماح "
أخرجته اليد التي أمسكت بكتفه من كل ما كان فيه فنظر عاليا
لصاحب تلك العينين السوداء الحادة والملامح الجدية حين
تحركت شفتيه الحازمة وقال ببرود
" هل لديك مشكلة مع صاحب ذاك الرقم ؟ "
نقل نظره بين عينيه بصمت دون أن يجيب ، رجل يعلم من أي
نوع هو وإن لم يعرفه إلا من ساعات .... الذكاء والفطنة والقوة
بل والقسوة التي تحملها تلك العينين لا يكون صاحبها إلا كما سمع
عنه بالفعل ولن يكون إلا من سيعلم ذاك الرجل درسا لن ينساه.
" كنتما صديقين أليس كذلك ؟ "
ابتسم بسخرية أقرب للمرارة ولم يعلق أيضا.... صديقان .. !
قل أقرب للشقيقين ... من ضحى بالكثير من أجله بل وبأغلى
ما كان يملكه وبأثمن ما خسره ومن أجل صديق ...!
همس يشد قبضته بغضب مكتوم
" افعلها إذا من أجلها هي وليس من أجلي يا تيم "
ابتسم الواقف فوقه ببرود وقال
" كن على ثقة إذا من أنه سيتمنى لو لم يعرفها يوما "
شد بعدها على كتفه وقال بجدية ناظرا لعينيه المحدقة به للأعلى
" كن شجاعا يا ابن شراع وأنا موقن من أنه لن تكسرك إعاقة
حمقاء"
ابتسم له من فوره وقال
" رجل مثلك قد يفهم ما أمر به الآن وإن لم يجربه وليس ابن
شراع من يتغلب عليه ذلك ، تأكد من هذا ياابن كنعان "
كانت ابتسامة جانبية صغيرة تلك التي ارتسمت على شفتيه ودس
يده في جيبه قائلا " لا يمكنك إحصاء تلك المرات التي كدت فيها
أن أفقد أحد أطرافي أو حتى حياتي لكن الرجل لا يموت إلا كاملا
يا رماح تذكر هذا جيدا "
اومأ له برأسه موافقا وقال مبتسما
" كما أن البطل الحقيقي يظهر بعد موته يا تيم "
ابتسم له بدوره ابتسامة ودود .. ابتسامة حقيقية هذه المرة ثم
ربت على كتفه وغادر من هناك يتحدث بهاتفه قائلا
" جيد كل شيء جاهز أخبر توماس أن دورهم قد حان "
واختفى مبتعدا بخطواته الواسعة الواثقة لازالت تراقبه نظرات
الجالس هناك وقد همس بإعجاب
" من المؤسف أن بطلا مثلك لن يسجل التاريخ بطولاته إلا بعد موته
يا رجل عائلة كنعان هازان "
*
*
*
خرجت من عندها وعادت جهة غرفتها فعليها أولا محادثة خالها
رعد ، وصلت للداخل وأغلقت الباب خلفها فمنذ اتصلت بمنزل
والدها وأخبرتها الخادمة أن عمها صقر قادم اليوم وبرفقته
ضيف سيقيم عندهم لبعض الوقت فقط وأنه لا أحد منهم يعلم من
يكون لم تعد تستطيع الانتظار هنا ولا دقيقة ... جدها دجى لن يكون
ثمة أحد غيره سيسافر عمها صقر شخصيا من أجله لفرنسا ومن
سيقيم لديهم ولا أحد يعرفه لذلك عليها أن تتحدث معه سريعا ،
أمسكت هاتفها واتصلت به فأجاب بعد قليل قائلا بابتسامة " يبدوا
أنني سأندم على إعطائك رقم هاتفي "
مدت شفتيها بعبوس متمتمة " هذه المرة الأولى ! "
وصلتها ضحكته فوراً وقال " أمزح فقط فلا تغضبي ، بما أخدم
ابنة شقيقتي الجميلة "
نظرت جهة الباب بحزن وقالت بصوت منخفض
" أريد العودة لحوران اليوم خالي رعد أتفعلها من أجلي ودون
أن يعلم أحد "
ساد الصمت من جانبه فقالت برجاء قبل أن يقول ما تعرفه جيدا
" ستتفهم والدتي الأمر وسأتحث معها من هناك ولن تغضب كما
سأقوم بزيارتها قريبا .... أرجوك خالي رعد أنت ستفعلها من
أجلي أليس كذلك ؟ قسما أن الأمر مهم ولا يمكنني قوله لها الآن
وصلها صوت تنهده الواضح وقال
" أمري لله ... كوالدتك تماما حين كانت في عمرك تعرف كيف
تخرج بما تريد "
ابتسمت بحنين خالطه الكثير من الحزن فهي تشتاق لها وإن
كانت بقربها .. تشتاق لتلك الأيام التي لم تعرفها فيها ، همست ببحة
" وماذا عن الآن "
ضحك من فوره وقال
" الآن هي تفعل ما تريده ولا تحتاج لألاعيبها تلك ، سأكون أمام
المنزل مقربة غروب الشمس وسأجدك في انتظاري اتفقنا ؟ "
حركت رأسها موافقة وقالت
" بالتأكيد فلا تنسى أنت أن توصي الحراس بالتكتم كالمرة الماضية "
ضحك قائلا
" أمري لله كنت أعلم بأنني سأندم على الكثير بعدما عرفتك
يا ابنة غسق ... وداعا الآن "
أنهت الاتصال مودعه له وحضنت الهاتف مغمضة عينيها تدعوا
الله أن يوفقها فيما تريد فعله ، وقفت بعدها وغادرت الغرفة
وتوجهت للغرفة المجاورة لها فتحت الباب قليلا وأدخلت رأسها
تنظر مبتسمة للجالس على طرف السرير يمسك بين أصابع يده
اليمنى سهما أحمر الرأس صغير ويغمض إحدى عينيه ويصوبه
جهة حلقة التصويب المعلقة على الجدار ويمسك أسهم أخرى في
يده اليسرى فابتسمت على منظره ذاك وهو يحاول تعيين مسار
السهم قبل رميه ثم فتحت الباب أكثر ودخلت ووقفت أمام تلك
الحلقة المعلقة وأغمضت عينيها قائلة
" إن كنت غاضب مني فارمني بإحدى سهامك الآن لتكون غفرت لي "
ابتسم الجالس هناك وقال
" ابتعدي يا حمقاء أو غرسته في جبهك الصغيرة بالفعل ولن
نأخذك للطبيب ليخرجه لك فها قد حذرتك "
وصعت كفها على عينيها وقالت مبتسمة
" لا يهم إن كنت ستسامحني"
ضحك بصمت وقال
" احتفظي بجمالك أفضل لك يا ابنة مطر فقد تقابلي زوج
المستقبل قريبا ويغير رأيه بسبب السهم"
كتمت ضحكة تغلبت عليها وقالت ولازالت تغمض عينيها بكفها
" وما نفع أن أتزوج وشقيقي غاضب مني ، ثم لا تقلق فلن
أقابل أحدا "
حرك رأسه بيأس منها مبتسما وقفز بخفة ووصل عندها بخطوات
خافتة وقبل جبينها قائلا بابتسامة
" أنا لم أغضب منك يا شقيقتي لأسامحك "
أبعدت يدها وقفزت حاضنة له وتعلقت بعنقه قائلة بسعادة والدموع
تملأ عينيها الواسعة
" شكرا لك يا شقيقي الرائع "
أبعدها عنه قائلا بضحكة
" لا تفرحي بهذا كثيرا فأنا لم أفعلها إلا لأني لا أريد أن أزفك
لزوجك والسهم منغرس فيك "
ضحكت كثيرا وسحبت الأسهم من يده قائلة
" اتركني أجرب هذا إذا "
استلهم منها قائلا بضيق
" لا لن أسمح لك بأن تتغلبي علي في هذه أيضا "
قفزت على ظهره ضاحكة تحاول أخذهم منه وهو يحاول ابعادها
شاتما من بين ضحكاته
*
*
*
مرر أصابعه خلال شعره الأسود الغزير متكئ بمرفقيه على
سياج الشرفة ينظر للأرض الخضراء تحته ولبريق ضوء الفجر
ينعكس على سطع قطرات الندى المتسابقة فوق تلك الأوراق
المتراقصة برفق مع النسيم الخفيف ، أغمض عينيه ببطء ومر
أمامه فورا ما حدث منذ ساعات قليلة وما لم ينساه لحظة ليتذكره ...
بكائها .. صراخها المذعور واستنجادها بجدتها فقط من بين
الجميع . .كانت كما أخبرت عنها مربيتها تماما ترى شخصا أو
شيئا يرفض عقلها أن يرى غيره مهما حاول الموجودين حولها ،
وأي شخص سيقترب منها أو يلمسها ستظنه ذاك المجهول ، فتح
عينيه وتنفس بعمق ممرا كفه على صدره حيث لازال يشعر بها
هناك في حضنه .. حيث أنهكها الصراخ وتمكن منها التعب نهاية
الأمر من شدة مقاومته ، حيث أفرغت آخر شحنات غضبها
ووجهت آخر ضربات من قبضتيها ، بل حيث سكبت تلك الدمعات
الأخيرة وحررت العبرات القليلة وحيث استسلمت تقريبا نهاية الأمر ،
ضغط بيده على أضلعه متنفسا بعمق وأغمض عينيه لبرهة وهو
يتذكر همسها هنا .. أجل هنا باسمه قبل أن تفقد وعيها تماما
وكأنها أدركت أنه هو نهاية الأمر .
وقف على طوله وأمسك بيديه السياج النحاسي البارد منحن قليلا
ورفع نظره حيث شروق الشمس تداعب النسائم الربيعية خصلات
شعره الأسود القصير وياقة قميصه الأبيض المفتوحة وكل ما يحاول
ترجمته وفك رموزه هو كلام جده المبهم والذي لايزال يدور في
عقله حتى اللحظة
( قلت ابتعد عنها يا وقاص لأنها ميتة ... هي جثة في جسد امرأة
ولن تجد لديها ما تبحث عنه أبدا فهي لن تعطي شيئا لا تملكه )
( فقدت كل شيء وفاقد الشيء لا يعطيه أبدا فاقتنع بأنها انتهت
من الوجود منذو أعوام )
حرك رأسه برفض وهمس من بين أسنانه
" ليست ميتة .. كل شيء نفقده يمكننا استعادته إلا الحياة نفسها
وهي حيه ... حيه تتنفس أمامي "
أدار بعدها للشمس ظهره ودخل من باب الشرفة يغلق زري
قميصه المفتوحتين ورفع سترته المرمية على السرير وغادر
الغرفة فلا وقت أمامه ولا للاستحمام وتغيير ملابسه فعليه أن
يكون في لندن بعد أقل من ساعتين ، خرج مغلقا باب الغرفة وراءه
لحظة ما انفتح باب آخر وخرجت منه التي كانت تحمل حقيبة ثياب
صغيرة في يدها ، نظرت له بحزن وقالت
" وقاص سأغادر من أجل الجراحة اليوم ، كنت أتمنى فعلا أن
تكون معي وبجانبي .. أنت لا أحد غيرك "
ابتسم بسخرية وقال ناظرا لعينيها
" لو أردت رضا وقاص فعلا ما أجريتها يا جمانة ، وبعد أن نلت
ما تريدينه انسي وقاص للأبد "
ملأت الدموع عينيها وقالت بضيق
" لما تضع اللوم عليا دائما ؟ لما تتعمد أن لا تفهمني وترفض
ما فيه سعادة كلينا ؟ "
أشار لها بسبابته وقال بضيق أشد
" أنتي ... أنتي يا جمانة من دمر ما بيننا وأنتي من كان السبب
في أن لا يكون بيننا شيء من أساسه ، كم مرة أخبرتك أن ما
تبحثين عنه لا يعنيني وأن ما يخبرك به عقلك المريض أبعد ما قد
أفكر فيه "
وتابع بغضب وقد أشار بإصبعه جانبا
" النساء الرشيقات الشقراوات الفاتنات أمامي في كل مكان وحتى
داخل مكتبي إن كنت أريد ما تهلوسين به وكم مرة شرحت
وقلت وأعدت أن ما يعنيني في المرأة داخلها .. عقلها .. وأن
لا تكون هامشية ساذجة غبية تحركها عواطفها أو أهوائها ،
قلت وكررت وأعدت كالببغاء لأعوام وكنت وكأنني أتحدث لجدار
أصم بل لو كنت أتحدث معه لفهم ذلك ورحمني ، لو كنت أهتم
بما تفكرين فيه ما تزوجتك منذ البداية ومن دون أن أراك لأن
القشور الزائفة هذه آخر ما يعنيني "
تدحرجت دمعتها على خدها الممتلئ وقالت باستياء
" معك حق فأنت لم تكن تسمع ما.... "
صرخ فيها بغضب مسكتا لها
" يكفي سئمت من سماع هذه الأسطوانة لثلاثة أعوام متثالية ،
ها أنتي ستحصلين على ما تريدينه لتجدي ما تبحثين أنتي عنه
لكن ما يريده وقاص فيك لن تغيره الجراحة أبدا يا جمانة ، وتذكري
فقط أن لا تلومي إلا نفسك يوم ستبكين ندما على إقحامها في لعبة
إهدار المال ورضى الله هذه التي ستدخلينها "
أنهى جملته الغاضبة تلك ثم توجه جهة باب الجناح وخرج ضاربا
له خلفه بقوة دون أن يترك لها مجالا ولا لتعلق على ما قال تاركا
إياها وحقيبتها التي تسقيها دموعها وقد صرخت باكية وإن لم
يكن يسمعها
" لن تفهمني أبدا يا وقاص ، لن يفهمني رجل مثلك يملك كل شيء
ولا يعيره أحد "
*
*
*
نزلت من الشاحنة تنفض ثيابها متأففة وتشعر بأنها لحظات
وستبكي ففوق الإذلال والغبار والأدخنة تأخرت كل هذا الوقت
بسبب سير هذا الوحش في الطرق المزدحمة ولا يمكنها حتى
الاستحمام وتغيير ثيابها ، صرخت منادية تنظر جهة الشاحنة
المبتعدة
" عد إلي هنا أخذت ثيابي معك يا أحمق "
ولا من مجيب ولا حياة لمن تنادي وهي لا ترى سوى نقطة
حمراء تبتعد شيئا فشيئا فنفضت حقيبتها تشتم شخصا واحدا
ورجلا واحدا ككل مرة ، توجهت بعدها جهة مبنى الشركة
ودخلت وتوجهت جهة المصعد فورا متجاهلة موظفة الاستقبال
التي كانت تناديها فلا ينقصها الآن أن تشرح سبب دخولها وهي
ليست ضمن موظفي الشركة ولا موعد مسبق مسجل باسمها فلن
تستبعد أبدا أن تطرح تلك الشقراء أرضا إن هي تحدثت معها وأن
تفرغ غضبها بأكمله فيها ، وصلت مكتب السكرتيرة التي ما أن
رأتها نظرت للساعة في معصمها ثم لها وقالت بنزق
" تأخرت كثيرا ، ساعة كاملة منذ اتصلت بك "
لوحت بيدها قائلة بضيق
" ما الذي كنت تتوقعينه وأنتي ترسلي لي تلك الشاحنة ؟
أن تطير بي مثلا وتوصلني في ثواني ؟ "
رمقتها بنظرة غاضبة وكأنها تكتم مكرهة ما تريد قوله ثم أشارت
بالقلم في يدها للكرسي أمام مكتبها قائلة بامتعاض
" يمكنك الجلوس هنا فالسيد كروس لديه ضيف مهم لن يغادر
قريبا لأنه دخل منذ لحظات قليلة فقط "
تجاهلتها رافعة أنفها وتحركت جهة الأريكة الجلدية السوداء
المقوسة المحاذية للواجهة الزجاجية المطلة على نهر التايمز
ورمت حقيبتها هناك وارتمت هي أيضا عليها نائمة فوقها
وقد تناثرت تلك الخصلات البنية المموجة حولها وحضنت
الوسادة المربعة الشكل الصغيرة قائلة
" أيقظيني حين يغادر ضيفكم المهم ذاك "
وأغمضت عينيها فور متجاهلة تلك النظرات الحانقة التي كانت
ترميها بها فهي تحتاج فعلا لأن تنام في مكان دافئ كهذا وفوق
شيء لا يشبه تلك الأرضية الصلبة الباردة وإن كانت مجبرة على
النوم بشكل مقوس هكذا .
" هيه أنتي "
تأففت ورفعت خصلة من شعرها عن وجهها وفتحت عين واحدة
فقط تنظر للواقفة فوقها تمسك خصرها بيديها بتنورتها القصيرة
التي لم تعد تخفي شيئا لوقوفها فوقها فتمتمت ببرود
" أجل هذا هو دور السكرتيرات الأساسي "
قالت الواقفة فوقها بضيق متجاهلة تمتماتها تلك
" هذا ليس مكانا للنوم يا آنسة ولن يعجب السيد كروس هذا
المنظر أبدا إن خرج ورآك وسيوبخني أنا وليس أنتي ، ثم
ماسيكون مظهر الشركة إن دخل أحد العملاء ووجد هذا ..... "
قاطعتها بحنق وقد عادت للجلوس
" وفري خطاباتك لنفسك ها قد جلست "
فتأففت تلك وغادرت دون أن تضيف شيئا وعادت لعملها بينما
احتضنت هي الوسادة وانزلقت على الأريكة المريحة قليلا وأتكأت
برأسها جانبا وأغمضت عينيها ، ورغم وضعيتها الغير مريحة إلا
أنها استسلمت للنوم سريعا بسبب دفئ المكان ولم تشعر بمرور
الوقت ولا ما يجري حولها ولم يخرجها من عالمها المظلم الدافئ
ذاك سوى ذاك الصوت الأنثوي المزعج
" هيا استيقظي "
فتحت عين واحدة تفرك الأخرى بيدها وتثاءبت مطولا ثم نظرت
حولها ليلفت نظرها باب المكتب الذي اختفى خلفه ذاك الكتف
العريض تغطيه بذلة سوداء يمكن معرفة نوع قماشها الفاخر من
بعيد ، كان ذلك فقط ما رأته من بين رموشها الكثيفة وهي بالكاد
تفتح تلك العين الواحدة وعلمت مما رأته بأنه لن يكون عجوزا
كما توقعت ، هبت واقفة على طولها ما أن استوعب عقلها
ما يجري وقالت ترتب خصلات شعرها
" هل غادر ضيف السيد ؟ "
شتمت هامسة ثم قالت بضيق
" لما لم توقضيني قبل أن يخرج السيد كروس من مكتبه "
رمقتها بنظرة حادة وعادت جهة طاولتها قائلة بضيق
" لم آذن لك بالنوم لأوقظك ، السيد ينتظرك في مكتبه "
نظرت لها بحنق ولم تعلق ، ليست تفهم كيف يوظفون واحدة
وقحة مثلها في هكذا وظيفة وشركة ؟ سحقا لها بسببها وضعت
في هذا الموقف السيء ، لم تكن تريد للقائها الأول بذاك الرجل
أن يكون هكذا وأن يراها وهي نائمة منحنية الرأس كالبلهاء
واللعاب يسيل من فمها المفتوح ، تأففت بحنق ورمت كل تلك
الأفكار من رأسها ونظرت لثيابها ترتبها ثم توجهت جهة الباب
التي تركه شبه مفتوح خلفه رافعة الرأس عمدا وهي تجتاز
الجالسة خلف مكتبها حتى دخلت وغاب نظرها فورا في المكتب
الفخم بتصميمه المبهر وقد ارتكز ديكوره الرائع على خشب
الزان الذي غطى حتى الجداران الخلفي والجانبي ، واجهة زجاجية
تطل على أجمل مناظر المدينة وأثاث جلدي أسود فاخر وإضاءة
خفيفة مصدرها المصابيح المدمجة مع
ديكور السقف الأبيض
المخالف للون الجدران والأرضية الخشبية منسجما مع قطعتي
الأثاث البيضاء الوحيدة هناك ، حتى اللوحة الجدارية تنم عن
ذوق ذكوري فخم وذكاء حاد ، دار نظرها في المكان بإعجاب قبل
أن يستقر على الكرسي الجلدي خلف طاولة المكتب العريضة
والذي كان ظهره الطويل مقابلا لها لا يظهر من الجالس عليه
سوى ذراعه وساعده والساعة الفاخرة في معصمه لإتكائه بمرفقه
على مسنده يثبت هاتفا على أذنه ويبدوا يتحدث مع أحدهم ، ضحك
من بين كلمات قليلة همس بها لم تفهمها فارتسمت لا شعوريا
ابتسامة واسعة على شفتيها ، رباه ما أجمل ضحكته ! يبدوا أن
هذه الوظيفة ستحمل الكثير من المتعة برفقة هذا الوسيم المميز
كما تجزم من دون أن تراه ،
فتحت حقيبتها بسرعة وأخرجت مرآتها ونظرت لشعرها ووجهها
ثم أعادتها سريعا ونظرت مجددا للذي تحرك بالكرسي قليلا في
مكانه دون أن يظهر لها منه شيء وتحدث مع من في الطرف
الآخر بالفرنسية فعقدت حاجبيها باستغراب ، ألم تسمع هذا
الصوت سابقا ؟ هل يخيل لها أم أن شبح ذاك الرجل أصبح
يطاردها في كل مكان ! ركزت نظرها على يده الممسكة لذاك
الهاتف وبدأ مستوى الإدرينالين يرتفع في جسدها بشكل مخيف
وهي تنظر بإمعان لخاتم الفضة الرجالي المحفور والمرصع بحجر
كهرمان أحمر كبير في أصبعه فشعرت بالخدر يصعد من ساقيها
لباقي جسدها ببطء قاتل تحاول تكذيب ما يحاول عقلها ترجمته ،
ومن دون أن يكون أمامها مجال أوسع لأن تفكر وتحلل وتفسر
دار ذاك الكرسي نحوها في حركة واحدة سريعة ووقف من كان
يجلس فوقه ينظر مبتسما بسخرية خالطها الكثير من الانتصار
لعينيها الخضراوان الشاخصتان فيه بذهول .. شفتاها المنفرجتان
من الصدمة ووجهها الذي سحبت الدماء منه تماما فتحول
لتمثال حجري شاحب ، رمى الهاتف من يده على الطاولة أمامه
وقال بذات ابتسامته الساخرة
" مرحبا بك في عالمك الجديد آنسة غيسانة شاهين الحالك "
*
*
*
وصل عند سياج مزرعة منزلهم ونزل من السيارة ووقف مستندا
بظهره عليها بعدما اتصل بيمان ليخبره بأنه أصبح هنا ، ما طمئنه
أن يمان أخبره بأنه أيضا يريد رؤيته فورا ومن صوته علم أن
الموضوع لم ينل إعجابه وهذا ما سيسهل عليه مهمة شرح
الأمر له ، ومن الطبيعي أن تكون تلك ردة فعله وأي شخص آخر
غيره سيفعل مثله وهم يقررون تزويج شقيقته التي تحتاج هي
لمن يعتني بها ويربيها لا أن تكون زوجة وأم ، ما أن رآه
خارجا من فتحة السياج حتى أجفل ينظرله بصدمة وهو يسير
نحوه بخطوات واسعة فرفع قبضتيه قائلا
" يمان لا تتهور واتركنا نتحدث أولا "
لكن المتوجه نحوه لم يكترث لما كان يقول بل وصل عنده
وفاجأه بأن حضنه بقوة تاركا إياه فاغر فاه ليس من احتضانه له
وهو يتوقع هجومه الغاضب بل من دموعه التي لم يراها يوما !
من صوت نشيجه الباكي وهو من لم يبكي ولا في أقسى الظروف
ومنذ عرفه !! ضمه بقوة أكبر قائلا
" شكرا لك يا أبان ، أنت لا تعلم ما فعلته ... أنت قدمت لي
معروفا لن أنساه لك ما حييت يا صديقي ، لم أكن أتخيل أن حبك
لي وصل لأن تريد مناسبتي ، شقيقتي أمانتك يا أبان هي قاست
في حياتها ضعف عمرها بكثير ومتأكد بأنها لن تظام بعد الآن "
أغمض عينيه بقوة ولم يعرف بما يعبر وما يقول ..... يمان الذي
لم يترجاه يوما ! من لم يطلب منه شيئا أبدا تنزل دموعه الآن
امتنانا له ! تذكر الشجار الذي دار بينه وبين والدته صباحا وشعر
بهول الأمر وهو يتذكر تحديدا سؤالها الغاضب
" تريدها فعلا يا يمان أم كنت تكذب ؟"
شعر بأنه وجد المخرج أخيرا فقال من فوره
" بلى كنت أكذب بل كانت حجة فقط لأنك ترفضين الاقتناع برأيي "
أشارت له بإصبعها قائلة بحزم
" ستتزوجا إذا ورغم أنفك وستعيش بيننا كابنتي بثينة وأعز ولن
يعترف بها أحد زوجة لك فأرني من منا رأيه الصواب وادفع ثمن
أكاذيبك لوحدك "
وغادرت من هناك بعدما رمته بكل تلك القنابل وتركته يشتعل
غضبا لا يستطيع التعبير عنه فنظر للواقف مكانه عند الباب
والذي قال بضيق
" كم مرة قلت لا أحد منكم يغضبها ؟ تحمل نتائج أفعالك الآن "
وتابع وهو يجتازه متوجها للسلالم
" ولا أراك رابحا بتخليصك من مسؤليتها فلا تفرح كثيرا بذلك
فلا أقسى على قلب الرجل من أن يحرم مما يحل له "
ابتعد عنه وخبأ عيناه في يده منحني الرأس وقال ببكاء
" كسرة ظهري هي يا أبان من أجلها أتحمل الذل والمهانة
وضياع مستقبلي ، لو تعلم أي معروف هذا الذي قدمته لي "
لم يستطع تحمل أكثر من ذلك وكادت عيناه أن تدمع لبكاء
صديقه المقرب فأمسك ذراعيه وقال
" لما لم تخبرني يا يمان ؟ لما كنت تخفي كل هذا عني؟ "
مسح عينيه هامسا بحزن
" بماذا كنت سأخبرك وبما كنت ستساعدني؟ بأن شقيقتي ذات
الثلاثة عشرة عاما تعمل لدى والدها وزوجته كخادمة ؟ بأنها
تقوم بواجبات من هن فوق العشرين عاما؟ بأنها حرمت من
دراستها ومن رؤية الناس أو بأنها نامت ليال وليالي على البلاط
البارد في الشتاء القارس دون غطاء وجسدها بأكمله كدمات
بسبب الضرب وأن كل ما كنت أستطيع فعله من أجلها هو تغطيتها
في غفلة عنهما ؟ هي من كنت بسببها سجين هذا المنزل والمنفى
الذي تدمر فيه مستقبلي والآن أصبح بإمكاني التحرر منه "
شد على كتفه وخانته الكلمات مجددا بل حمد الله أنه لم يتحدث معه
أولا ويكسره فوق كسره من عائلته بل من والده عزوته وسنده ،
فهم الآن لما كان يرفض مساعدته له بأن يعمل معهم ، وفهم لما
درس ذاك التخصص المتدني وهو المتفوق دائما ، وعلم السبب
الذي كان يجعله حزينا وشارد الذهن طوال الوقت ... وخلاصة
الموضوع أنه أصبح مجبرا على الموافقة والصمت ، أخرج له
منديلا من جيبه أخذه منه فورا وبدأ بمسح دموعه فأمسك
بذراعه وسحبه جهة السيارة قائلا
" تعالى إذا أمامنا بعض المشاوير الهامة وأولها مكتب شركتنا "
*
*
*