تبثت حجابها جيدا وأدخلته تحت سترتها النسائية وخرجت
من الغرفة مسرعة تعدل تنورتها الجينز الطويلة وهي تسير
فقد أخبرتها الخادمة التي انتظرتها حتى انتهت من صلاة العصر
بأنه ينتظرها في الخارج فسيكون في انتظارها منذ وقت ،
خرجت من الباب وابتسمت للذي وقع نظرها عليه فورا يقف
بجانب سيارة جميلة فاخرة يسند يده على سقفها والأخرى
يدسها في جيب بنطلونه والذي ما أن رآها حتى رفع يده ناظرا
لها بصدمة وابتسامة واسعة فركضت جهته وحضنته بقوة
متناسية بأنه ليس خالها الحقيقي فهي لا تراه إلا كذلك وهم من
تربت معهم والدتها كأشقاء لها منذ كانت طفلة ، ضمها بذراعيه
قائلا بضحكة
" لو لم تركضي جهتي لظننت بأني أخطأت وأنك لست ابنة غسق
بل شقيقتها "
ابتعدت عنه ونظرت له متمتمة بعبوس
" لما لا يجاملني أحدكم ولو قليلا ؟ "
ضخك وأمسك أنفها وقال
" هل يكفيك أن تعلمي بأنك أجمل من الجميلة التي كنت أتوقعها "
فركت أنفها قائلة بابتسامة
" حسنا رضيت بهذه "
ضحك وفتح لها باب السيارة وقال
" هيا أيتها الآنسة الصغيرة فرحلتنا ستكون طويلة بعض الشيء "
ركبت من فورها قائلة
" كم ستستغرق منا وقتا ؟ "
قال وهو يغلق الباب
" سنصل عند مغيب الشمس تقريبا "
ثم دار حول السيارة وجلس في كرسيه وأغلق الباب وقال وهو
يدير المفتاح لتشغيلها
" إن كنت لم تأخذي قيلولتك فيمكنك النوم ولن تشعري حينها
بالطريق "
نظرت ناحيته وقالت بحماس
" بل أريد رؤية كل شيء نمر به في طريقنا فأنا لم أرى من
بلادي شيئا ومتحمسة لرؤيتها وأريد أن تحدثني عن كل شيء ولا
تضجر مني فلا حل غيره أمامك "
ضحك وقال وهو يتراجع بالسيارة للوراء
" أذا ستكون الرحلة ممتعة لكلينا "
دار بعدها بالسيارة نصف دورة وغادرا المنزل ، وكما أخبرها
تماما الرحلة كانت ممتعة بل فاقت المتعة بكثير وهي تتعرف
على مدن بلادها لأول مرة ... ترى الناس الشوارع المنازل
والمحلات التجارية والأسواق ... حتى الأشجار والأزهار شعرت
وكأنها لأول مرة تراها في حياتها وكأنها لم تعش لأعوام في تلك
البلاد ذات الطبيعة الخلابة ، وما زاد رحلتها تلك متعة هو الجالس
خلف المقود من لم يتعب من التحدث عن كل ما مرا به حتى أسماء
بعض المناطق التي تغيرت والأحداث التي شهدتها في الماضي
قبل مولدها ، ومر الوقت دون أن تشعر به وكأن السيارة لم تسر
بهما مسافة ثلاث ساعات كاملة .
نظرت في كل اتجاه من نوافذ السيارة وقالت بانبهار
" ما هذه المدينة ؟ يا الله ما أجملها ! "
ابتسم رعد قائلا
" منذ اجتزنا ذاك السور والسياج الحديدي أصبحنا داخل حدود
مدينة العمران وهذه تكون مملكة والدتك البيضاء "
فغرت فاها بصدمة تنظر للمباني البيضاء بجميع أشكالها وأحجامها
حيث كانت جميعها مطلية باللون الأبيض وحتى المدارس والمحلات
كل شيء أبيض ... كل شيء حتى أعمدة النور واللافتات وقد أعطى
البياض مع خضرة المكان تداخلا مبهرا في الألوان فجميع تلك
المباني كانت أبوابها ونوافذها مطلية باللون الأخضر كلون
الطبيعة حولها ! لم تتخيل يوما أن ترى شيئا بهذا الجمال ...
ألوان ملابس الناس والسيارات وحده الشيء الذي كان يحدث فرقا .
همست بصوت مصدوم تنظر للأبنية التي كانت وكأنها تخرج من
صخور الجبال
" يا الله ما أروع هذا ! إنها أجمل مدينة بين التي مررنا بها "
وقف بالسيارة عند إشارة المرور وقال مبتسما
" هذه المدينة كانت الأجمل من قبل أن توحد البلاد ومنذ أصبحت
مملكة والدتك وهي توليها عناية خاصة ، حتى الأوساخ
يستحيل أن تجديها في شوارعها "
وتابع والسيارة تتحرك مجددا عند الضوء الأخضر
" ولم تري بعد الشلالات الإصطناعية التي تفتح ابتداءا من منتصف
الربيع إنها أجمل ما في هذه المدينة والبلاد بأكملها ، حتى أن جمعيتها
قامت ببناء المطاعم المطلة من الجبل عليها وقد تم حفره وبنائها
فيه تري من خلالها مشهدا لن تنسيه أبدا "
ضمت يديها لصدرها قائلة
" رباه ... هي من فعل كل هذا وفكر فيه ؟! "
تنهد بأسى وقد تذكر حديثها عما اكتشفته من تمويل لابن
شاهين وقال
" بلى كانت الشلالات والمطاعم فكرتها فالمدينة كان بها جداول
ماء تصب في بحيرة الرقراق سابقا وهي استغلتها لصنع هذه
الظاهرة لستة أشهر في العام وبذلك كان بإمكانهم بناء كل ما
تريه حولك ، هذه المدينة تحوي عددا لا يمكنك تخيله من النساء
اللواتي يقتتن من عائدات هذه المدينة ويعملن فيها ، عدد كبير
من الأسر هنا هي لأرامل ومطلقات تكفلهم جمعية الغسق ، إنها
مملكة النساء كما يقال عنها بالفعل وكل واحدة ممن يعشن هنا
تحمل حكاية أتعس ممن تليها وكم سهرت والدتك لليال طويلة
وكانت تعمل طوال النهار لتصل لما هي عليه الآن "
تتبعت بنظرها إحدى السيارات قائلة
" لكني أرى رجالا أيضا هنا ؟ "
ضحك كثيرا ثم قال
" بالطبع ثمة الكثير من الرجال والعائلات فهذه إحدى أكبر
مدن البلاد ولن تكون حكرا للنساء فقط فبالرغم من مساوئنا لا
يمكن الإستغناء عنا "
ضحكت من فورها وقالت
" بالطبع لا مثلما لا يمكنكم صنع مدينة للرجال فقط "
ضحك ولم يعلق وأوقف السيارة حينها أمام مبنى ارتفع نظرها
له لا إراديا ففتح الباب وقال
" هيا وصلنا "
فتحت بابها أيضا ونزلت ووقفت خارجها تنظر للمبنى أمامها
بدهشة وقالت
" هذا هو منزل والدتي ؟ "
ضحك وطوق كتفيها بذراعها وسار بها جهته قائلا
" أجل ... بل الطابقين فقط أما كل تلك الواجهة الزجاجية المقسمة
في الأعلى بشكل قبة هي خلفية مكاتب جمعية الغسق حيث أن
واجهتها في الخلف تماما "
سارت معه ونظراتها لم تفارق ذاك المبنى تنظر له بانبهار أنساها
أن تنتبه لجمال تلك الحديقة الواسعة المنسقة والتي قد فاق جمالها
ما مرا به في كامل المدينة ، وصلا باب المنزل فوقفت قبل أن يصعدا
العتبات أمامهما ونظرت له وقالت
" هل تعلم والدتي بقدومنا ؟ "
حرك رأسه نفيا وقال مبتسما
" تركتها لها مفاجأة هي والكاسر ، عمتي فقط من يعلم لذلك لم
أدخل بالسيارة ونبهت على الحراس أن لا يخبروها "
وتابع ينظر حوله
" رغم أنه يبدوا بأنها ليست هنا فسيارتها في العادة تكون أمام
باب المنزل خاصة أن وقت المغرب اقترب وهي تغادر
جمعيتها عصرا "
نظرت مثله للمكان وقالت بتوجس
" أتظن أن خطبا ما حدث ؟ "
سار بها صاعدان العتبات الرخامية قائلا
" لا فهي قد تتأخر في بعض الأحيان وقد تكون لم تخرجها من
المرآب أساسا فهي تملك سيارة هناك أيضا وسندخل الآن ونعلم "
دفع باب المنزل الزجاجي ودخلاه قائلا
" سيكون علينا البحث في هذا المنزل الواسع عن ساكنيه الثلاثة
فقط فلن نجدهم أمامنا هنا "
وقبل أن تعلق ولا أن تنتبه لتفاصيل هذه التحفة الفنية المسماة
منزلا سرق نظرها الذي ظهر من إحدى الجهات في يده شيء
ما يأكله ويبدوا أنه حبوب مكسرات وقد رمى آخر حبة منهم في
فمه ووقف ينظر لهما باستغراب ليس فقط من وجدود عمه هنا
دون إعلامهم مسبقا كعادته وعودته وهو من غادرهم في الصباح
الباكر بل والواقفة بجواره والتي لم يراها يوما ! بينما استطاعت
هي أن تعرف هويته سريعا من تخمين سنه والشبه بينه وبين
الواقف بجانبها وإن كان شبها بسيطا ، أجل هذا هو ابن خالها
الوحيد وشقيقها الوحيد أيضا ، ركضت جهته دون تردد وحضنته
بقوة دون أي مقدمات فأبعدها عنه وقال " هيه يا فتاة ابتعدي عني
ولا تعطيني سببا للانحراف "
ضحكت وحضنته مجددا رغما عنه وقالت ضاحكة
" أنت الكاسر بالتأكيد ، كما تخيلتك تماما "
نظر حينها بصدمة للواقف هناك عند الباب والذي ابتسم له ليفهم
أن تخمينه صحيح فضحك بصرخة عالية ورفعها مطوقا خصرها
بذراعيه ودار بها حول نفسه وهي في ضحك مستمر ثم أنزلها
للأرض ونظر لها وقال بسعادة
" تيما شقيقتي الوحيدة أنتي ؟ "
أومأت برأسها مبتسمة فانحنى للأسفل تنظر له باستغراب حتى
صرخت ضاحكة حين أمسكها من قدميها بذراعه ورفعها عاليا
وأصبح يركض بها في المكان صارخا بضحكة
" شقيقتي يا بشر ... انظروا لديا شقيقة ... أنا الكاسر ابن الكاسر
ابن شراع لست وحيدا "
كان يدور بها ويكرر ذات العبارات وهي تثبت نفسها ممسكة بكتفيه
كي لا تقع وقد اختلط ضحكها بدموعها من عباراته تلك ورعد
يراقبهما مبتسما وقد اقترب حيث تقف عمته التي خرجت من
المكان الذي خرج منه الكاسر منذ قليل يراقبانها مبتسمان .
أنزلها عندهما ولازالا يضحكان بأنفاس متقطعة وقالت ضاحكة
" كدت تصيبني بالغثيان "
ضحك وحرك يديه في الهواء قائلا
" احمدي الله أن دراستي انتهت اليوم لكنت لففت بك هناك أيضا "
ضحكا معا واقتربت منها جويرية وحضنتها بقوة قائلة بعينان دامعة
" مرحبا بك يا تيما يا قرة عين والدتك ، حمدا لله أن جمعها بك
وأنا حية "
ضمتها بقوة وقالت بعبرة نزلت معها دموعها
" كم أنا سعيدة بأن لي عائلة مثلكم ، بل ومحظوظة أيضا "
ثم ابتعدت عنها وقالت تمسح دموعها
" أين والدتي أليست هنا ؟ "
قالت الواقفة أمامها
" لم ترجع منذ خرجت للجمعية ، اتصل بها الكاسر وقالت أنها
في منزل خالتها وستكون هنا قريبا "
ثم أشارت بيدها قائلة
" دعونا نجلس فمؤكد أنتما متعبان من الرحلة ولتأكلا شيئا فقد
أعددت طعاما خاصا لكما "
أمسك الكاسر وسطه بيديه وقال بضيق
" لأجل هذا إذا كنت تعدين كل ذاك الكعك ولم تسمحي لي بالأكل منه ؟
يبدوا أنه وحدي من لا يعلم بهذه الزيارة "
قال رعد مبتسما
" بل ووالدتك أيضا فقد تركتها لكما مفاجأة "
ضحك وقال
" كانت مفاجأة بالفعل فما أن رأيتها معك ضننت بادئ الأمر أنك
تزوجت ولا نعلم وما أن قفزت لحضني ضننت أني أنا من تزوج
ولست أعلم "
ضحكوا جميعا وقال رعد
" أنهي دراستك أولا لنفكر في تزويجك "
أمسك يد تيما وسحبها معه جهة إحدى صالونات الجلوس قائلا
" تعالي فهؤلاء لا يريدون تزويجنا كي لا يكبروا "
*
*
*
أغلقت باب سيارتها وتوجهت جهة باب المنزل ودخلته ، لم تستطع
مغادرة منزل خالتها وترك جليلة حتى اطمأنت عليها أولا بعد زيارة
الطبيب وبعد أن استفاقت فلا يمكنها ترك خالتها في تلك الحالة من
الهلع خاصة أنها كانت خائفة من قدوم زوجها الذي يخشون جميعا
من ارتفاع السكر لديه مجددا .
وقفت ما أن اجتازت الباب بخطوات تستمع باستغراب لأصوات
الأحاديث والضحك فهل لديهم ضيوف هنا لم يخبروها عنهم !
مستحيل ذلك لم يحدث سابقا أبدا فعمتها تبلغها دائما ثم هذا صوت
الكاسر معهم ! اقتربت من ذاك المكان وهي تسمع صوت رعد أيضا
وهذا مازاد الأمر غموضا وهو من غادر من هنا فجر اليوم !!
ما أن وصلت عندهم وظهر لها الجالسون هناك حتى وقفت
مكانها وابتسمت هامسة
" تيما !! "
قفزت تلك من فورها جهتها وارتمت في حضنها فطوقتها بذراعيها
بقوة وقد قالت
" أمي اشتقت لك "
ضمتها لها أكثر وقبلت رأسها قائلة بحنان
" وأنا أيضا صغيرتي ، ما هذه المفاجأة الرائعة ؟ "
نظرت لعينيها وقالت مبتسمة
" والدي سمح لي بالمجيء مع خالي رعد ونحن هنا منذ ساعتين
ننتظرك "
ثم نظرت بطرف عينيها حيث الجالسين قربهما وتابعت ببرود
" وابن شقيقك يضايقني بسخريته دون توقف "
قال الكاسر يستفزها وناصبا ساق على الأخرى
" أنا ابنها ولست ابن شقيقها ثم أنا لم أقل شيئا كنت أستغرب
فقط لون عينيك وقلت قد تكونين لست شقيقتي وثمة خدعة ما "
قالت بضيق تكرر ذات تبريرها
" جدة أمي من خماصة ولون عيناها هكذا "
ضحكا رعد وعمته وضمتها غسق لحضنها لتتكئ على صدرها
مجددا وقالت مبتسمة
" أنا أصدق أنك ابنتي وهذا يكفي ، ثم هو الذي أحضره والدك
وقال أنه ابن الكاسر ولا أحد يجزم بحقيقة ذلك "
ضحكوا مجددا وتيما أيضا هذه المرة والتي كانت تنظر له بمكر
فقفز واقفا وأمسك وسطه بيديه وقال بضيق
" أمييي "
ضحكت غسق من فورها ومدت له يدها قائلة
" بل أنت ابني الذي ربيته بنفسي "
ركض حينها ناحيتها وأبعد تيما عنها بالقوة وضمها هو مقبلا
رأسها ينظر بانتصار للتي كانت تنظر لهما نظرة طفلة أخذوا
منها لعبتها المفضلة التي كانت تعني لها كل شيء ، نظرة شعر
بها قلب الأم كسكين غرس فيه بقوة فأبعدته عنها وأمسكت
يديهما وسحبتهما جهة الأريكة قائلة
" كلاكما ابناي فتوقفا عن حركات الأطفال "
ثم جلست في طرف الأريكة متنهدة بضيق وقالت عمتها
" كيف حال خالتك وعائلتها ؟ "
حركت رأسها دون أن تتحدث لحظة ما جلس الكاسر بجانبها
فأمسكته تيما من يده وقالت بضيق تحاول إبعاده
" أتركني أجلس بجانبها أنت تراها دائما "
لكنه رفض التحرك متمسكا بمكانه يبعد يدها ضاحكا فوقفت
الجالسة بجانبه وجلست وسط الأريكة بجانبه وجلست حينها تيما
فورا في الجهة الأخرى وطوقت خصرها بذراعيها متكئة على
كتفها وأخرجت لسانها للذي كان ينظر لها بضيق فوقف رعد
وقال ضاحكا
" أعانك الله على هذان الطفلان "
قالت ونظرها معلق به ويدها تمسح على ظهر النائمة على كتفها
" ما بك وقفت يا رعد ؟ تناول العشاء معنا "
أخرج مفاتيحه من جيبه قائلا
" مشواري الأساسي لتوز وجئت هنا لأوصل ابنتك فقط ويجب
أن أدرك الرجل الذي ينتظرني على العشاء هناك "
ثم غادر متمنيا لهم ليلة سعيدة فاستقامت تيما في جلستها وأمسكت
يدها وبدأت تحدثها بحماس عن كل ما مرا به في طريقهما وعن
رأيها في روعة العمران وهي تستمع لها بانتباه مبتسمة وقد شاركها
الكاسر الحديث الحماسي فورا يشرح لها أكثر عما رأت واختلطت
أحاديثهما بالضحك على تعليقاته لنطقها لأسماء بعض المدن بشكل
خاطئ وشاركتهم هي تلك الضحكات فشعورها بتلك الأجواء لا
يظاهيه أي شعور فكم كانت تحلم بهذه الأمسيات العائلية المليئة
بالضحك والأحاديث بالدفء والحنان الذي يغمر المكان كله ، ورغم
كل ذلك هي تفتقد والدها وجدها فيها فهما أيضا تشعر بحاجتهما
لكل هذا وإن كان والدها لا يصرح بذلك أبدا عكس جدها ، فهو
الليلة سيكون لوحده في ذاك المنزل الواسع قد يتناول عشائه
وقد لا يتناوله أبدا ... تعلم أنه لا يعبر عن ذلك ولا يبحث عنه
ولا تتخيل أن يلف المنزل يبحث عن أطياف من كانوا فيه يلعن
الوحدة والفراغ لكنه في النهاية بشر وهي تشعر به لأنه والدها
فكيف بعد أن حكت لها عمتها عن تغيره بشكل قد لحظه الجميع
بعد أن تزوج من والدتها وكيف استطاعت دمجه مع عائلته
وأصبحوا يروا مطر آخر يضحك ويشاركهم الحديث .
وقفت الخادمة قربهم وقالت
" العشاء جاهز
سيدتي "
فقفز الكاسر من فوره وأمسك يد تيما وسحبها منها قائلا
" شقيقتي تجلس بجانبي "
فوقفت غسق وعمتها ضاحكتان وقالت جويرية وهما يتبعانهما
" وكأنهما ليسا من كان منذ قليل عدوان "
همست بحزن وحنين تنظر لهما وهو ينزع حجابها عنها يلعب
بشعرها وهي تحاول الهرب منه ضاحكة
" لم أشعر بطعم الحياة إلا بعد رؤيتي لها عمتي ولولا وجود
الكاسر لما بقيت بعقلي كل هذه الأعوام "
*
*
*
فتح الباب ودخل مجددا وقال
" هل كل شيء جاهز ؟ "
قالت بضيق
" جاهز ... وما لدينا نحن لنستغرق نهارا بطوله في تجهيزه ؟ "
قال بضيق مماثل
" وما الذي كتبته ولم أجلبه ؟ إنهم عائلة أيوب الشعاب لن تفهم
غبية مثلك من يكونا هذان "
ضربت كفيها ببعضهما قائلة بضجر
" أعدت عليا اسمه فوق العشر مرات حتى حفظته ولازلت غير
مقتنعة بأن أمثالهم قد يزوروننا "
ضرب باب المنزل مغلقا له بقوة وقال بنفاذ صبر
" ولما لا فابنهم صديق يمان منذ كانا في المدرسة الثانوية "
قالت بذات ضيقها
" أنت قلتها بنفسك هو صديقه منذ كانا في الثانوية فلما يزورنا
الآن تحديدا وبعد كل هذه الأعوام وفي الليل ؟ لا وزوجته معه !
وأنت بنفسك قلت بأن يمان غادر لتيمور مع ابنهم "
نظر لها بصدمة حين وصل له مغزى حديثها فهو لم يفكر في
الأمر من تلك الناحية أبدا ولم يفسر اتصال ذاك الرجل هذا التفسير
فلم يستوعب عقله بعد فكرة أن يفكر فقط في دخول منزله ،
غمرته السعادة فورا وقال
" إن صدق تخمينك أقسم أن أشتري لك ذاك الثوب صباحا "
ضحكت بسخرية مشيحة بوجهها عنه دون أن تعلق فقال بضيق
" هل أفهم ما يزعجك في الأمر ؟ هل لك أن تتخيلي معنى نسب
عائلة الشعاب وابنهم أيوب تحديدا ؟ إنه أحد أكبر رجال الأعمال
في البلاد ولديه من الأموال ما لا يعرف هو عدده "
نظرت له وقالت بغضب
" ولما يختارون نسبك أنت تحديدا وأنت بنفسك قلت أنه من أكبر
رجال الأعمال ؟ ثم ابنتك صغيرة وأنا أعتمد عليها في كل شيء "
صرخ فيها بغضب أشد
" قولي كلمة أخرى وارفعي صوتك في وجهي لأحطم لك هذا
الوجه العفن "
وتابع وقد رفع سبابته مهددا
" قسما إن أفسدت الأمر أن أدفنك حية فهمتي ، ثم القانون لن
يزوجها الآن فاتركي عنك هذا الجنون "
قالت ساخرة ومتجاهلة تهديداته
" هه أي قانون هذا الذي سيمنعهم والناس تخترقه وتزور شهادات
الميلاد ؟ هل ستتحول لنزيه الآن فجأة "
شعرت بخدها تحول لكتلة من الصخر حين نزل ذاك الكف الضخم
عليه بقوة وصرخ بغضب
" قابليها موسومة الآن هكذا سيكون أفضل "
أمسكت خدها وابتعدت جهة غرفتها صارخة ببكاء
" لن أقابلها أبدا وافعل ما شئت وسأتصل بشقيقي ليأتي الآن لأخذي
من هنا "
نظر لها بغضب حتى دخلت وأغلقت باب الغرفة خلفها بقوة ،
يستطيع إجبارها على مقابلتها وإن ضربها لكنه لن يضمن أنها
لن تفسد الأمر لذلك توجه جهة غرفة ابنته بدلا عنها وفتح الباب
على اتساعه دون طرق فقفزت الجالسة على الفراش الأرضي
واقفة دون شعور منها فهي كانت تسمع شجارهما وإن لم تفهم
ما يقولان وتخشى من هذا الرجل في هدوئه فكيف وهو غاضب
هكذا ، قالت بصوت مرتجف
" أبي هل تأمرني بشيء "
نظر لثيابها ثم عاد بنظره لعينيها وقال بحزم
" غيري ثيابك بسرعة والبسي شيئا فوق هذا الشعر فثمة ضيفة
ستستقبلينها "
نظرت له بصدمة فهذه أول مرة ترى فيها ضيفة تزورهم فكيف
أن يكون والدها من يطلب منها هذا ؟! قالت بتلعتم
" ألن تقابلها خالتي ؟ "
صرخ فيها بحدة
" قلت أنتي من سيقابلها فلا تكثري الحديث أو كان مصيرك مثلها "
ثم غادر ضاربا الباب خلفه بقوة وهي واقفة مكانها قلبها لازال
يرتعد من الخوف ولازالت تنظر لمكانه بصدمة فلم تستطع تصدق
ذلك حتى الآن فهي لم ترى أحدا غير عائلتها منذ كانت طفلة !
انتفض جسدها بقوة وقفزت في مكانها حين طرق الباب من
الخارج بقوة صارخا
" لا تتأخري سيصل الضيوف في أي وقت "
توجهت للخزانة الحديدية بسرعة وأخرجت توب العيد ، لم يكن
يساوي ولا نصف ملابس زوجة والدها وأبنائها لكنه أفضل
ما لديها ، لبسته سريعا وربطت منديلا حول رأسها وخرجت من
الغرفة مغلة بابها خلفها والتصق ظهرها بالباب لا شعوريا حين
انفتح باب المنزل ودخل منه والدها وقال بجدية واستعجال
" ها قد وصلا ... كل ما سنقدمه لهما جاهز في المطبخ فلا
تتأخري في إحضاره ولا تخبريها أن خالتك هنا مفهوم ؟ "
حركت رأسها بحسنا فخرج مجددا وترك الباب مفتوحا هذه المرة
وما هي إلا لحظات ودخلت منه امرأة ملقية السلام ووقفت تبادلها
النظرات بصمت ، كانت يمامة تنظر لها باستغراب لثيابها الفاخرة
ورائحة عطرها التي وصلتها من بعيد ولملامحها التي لا تعلم لما
ليست غريبة عنها وكأنها رأتها سابقا ! ومن هذا الذي تراه هي ؟
بينما نظرات جوزاء لها كانت مختلفة تماما فقد كانت تنظر لها
مبتسمة بحنان فسبحان من أوقع حبها في قلبها بسرعة هكذا !
ليست تعلم بسبب النظرة الحزينة في تلك العينان الواسعة أم
الملامح الطفولية البريئة وقد تذكرت سريعا ما قالته بثينة عنها
فأي ظلم هذا الذي يقع على هذه الصغيرة ؟ ألا يكفيها فراق
أمها وصغر سنها ؟ هذه تبدوا أصغر من ابنتها بثينة التي في
ذات سنها الآن ! فهل السبب نحول جسدها أم أن ابنتها كابنة
خالها تكبر قبل أوانها ؟
كسرت جوزاء ذاك الصمت أولا قائلة بابتسامة
" لابد وأنك يمامة ؟ "
تحركت حينها جهتها مسرعة وكأنها أدركت وقتها فقط بأنها هنا
ووصلت عندها ومدت لها يدها قائلة
" مرحبا بك سيدتي تشرفنا بزيارتك "
لم تعرف كلمات غيرها تقولها فهي لا تقابل الناس ولا تعرف اسم
هذه المرأة ولا من تكون ، توقعت أن تشمئز منها وتتجاهل يدها
الممدودة فهذا ما تعرفه عن الأثرياء من التلفاز لكنها فاجأتها بأن
أمسكت ذراعيها وقبلت خدها قائلة
" شكرا لك صغيرتي "
ثم قالت تنظر حولها
" حسب علمي أنه ثمة زوجة لوالدك هنا ؟ "
أشارت لها حينها بيدها جهة غرفة الضيوف قائلة
" ليست في المنزل ، تفضلي من هنا سيدتي "
سارت معها قائلة بابتسامة
" نادني عمتي جوزاء لا داعي لكلمة سيدتي يا يمامة "
همست تسير أمامها
" حسنا "
ودخلت تتبعها حيث غرفة بصالون متواضع صغير وطاولة زجاجية
في المنتصف فجلستا وقالت جوزاء
" والدك أخبر زوجي أن زوجته ستكون في انتظارنا فهل حدث أمر
طارئ جعلها تغادر ؟ "
تلعثمت بشكل واضح ولم تعلم ما تقول وهمست بعد وقت تنظر ليديها
في حجرها
" لا أعلم ما السبب "
تنهدت الجالسة هناك ولاذت بالصمت تراقب ملامحها المتوترة
والوجل الواضح في عينيها وخمنت سريعا أن ثمة ما حدث هنا قبل
وصولها ورحمت حالها بالفعل ، لطالما أحبت شقيقها ذاك وقت كان
يزور ابنها أبان في الماضي فقد كان فتى خلوق هادئ الطباع
وزوجها كان ولازال يفضله على جميع أصدقاء أبان رغم أنه لاشيء
يعيب أي واحد منهم ومعظهم أبناء عائلات معروفة ، نظرت بحزن
لملامحها الجميلة الطفولية لعينيها الرمادية الواسعة والشعر البني
الذي تظهر أطرافه من تحت منديل الرأس الأصفر ولن تستغرب هذه
الملامح في قبائل جنوب الهازان فهم يتميزون بها في أغلبهم خاصة
خط الحدود حيث مدن خماصة وهذه المناطق تأثرت كثيرا باختلاط
الأنساب معهم على مر العصور .
صغيرة بالفعل على الزواج وتعلم أنهم في هذه المناطق الزراعية
يزوجون بناتهم بالتلاعب بالقانون أو من خلال تمديد سنوات الخطبة
لكن بعد حديثها مع مطر تشجعت كثيرا للقدوم ورؤيتها مستغلة
فرصة غياب أبان مع ابن هذه العائلة ، لم تعرف يوما عن ذوق
ابنها بخصوص الفتيات لتخمن إن كان سيفظل بالفعل فتاة بسيطة
كهذه تاركا فتيات الجامعة الأنيقات المتبرجات ولا يمكنها تخمين إن
كان ما قاله صحيحا رغم أنها لا تستطيع تصديقه أغلب الأحيان ولا
تستبعد أن يكون يتحجج بها فقط ليهرب من فكرة الزواج لذلك قررت
المجيء ورؤيتها بنفسها وكم آلمها حال هذه الفتاة فملامحها البريئة لا
تخفي أبدا دواخلها .
بينما الجالسة في الطرف الآخر كانت ما تزال تنظر ليديها تحاول
حتى اللحظة فهم ما يجري ولما تقابل هذه المرأة وكيف سمحوا
لها بهذا !!
تعلم عن حال جيرانهم وأقارب زوجة والدها وإن كانت لا تراهم
فليس من أحد منهم بهذا المظهر والثراء حتى أنها لم تستطع إبعاد
نظرها لوقت عن ذاك الحذاء اللآمع الجميل الذي لم ترى مثيلا له
فكيف بالثياب والحلي .
قالت جوزاء مبتسمة تحاول جذب أطراف الحديث معها
" في أي عام دراسي أنتي يا يمامة ؟ "
أنهت جملتها تلك وعضت طرف لسانها فكيف نسيت بأنهم لا يسمحون
لها بالدراسة ؟ وهذا ما كانت تتوقع أن يكون جوابها لكنها خانت
توقعاتها حين قالت بصوت منخفظ ونظرها لازال على يديها
" لم اوفق فيها فتركتها "
سحبت جوزاء نفسا عميقا وأخرجته بسرعة ولم تعلق فهذه الفتاة
كما قيل عنها تبدوا كتومة بالفعل فكيف فشلت في الدراسة وهي لم
تدرس أبدا ؟ ابتسمت وقالت تلطف الجو المتوتر بالنسبة لتلك
الجالسة قربها
" ابني أبان صديق لشقيقك منذ طفولتهما وكم أحببت شقيقك
وأخلاقه "
نظرت حينها لها وقالت باستغراب
" أنتي والدة صديق يمان ؟ "
بادلتها جوزاء تلك النظرة وقالت
"أجل أنا والدة صديقه أبان ألست تعلمين من أكون ؟
ألم يخبرك أحد " !
عاد التوتر لملامحها مجددا ووقفت قائلة
" بعد إذنك سيدتي "
وغادرت من الغرفة مسرعة على نظرات جوزاء المستغربة قبل
أن تتنهد بأسى وفتحت حقيبتها وأخرجت هاتفها واتصلت
بزوجها الجالس خارجا حيث صالون الرجال والذي ما أن أجاب
قالت له من فورها وبصوت منخفض
" اتفق معه يا أيوب الفتاة تعجبني وأريدها له ولا تتأخر
لنغادر سريعا "
ثم أغلقت الخط ودست هاتفها في حقيبتها مجددا فإن كان ابنها
ذاك يريدها زوجة له بالفعل فستختصر عليه الطريق بمعرفتها وإن
كان يكذب فيما قال فسيتزوجها رغما عنه وستكون كابنتها بثينة
وستعلمه درسا جيدا في الزواج وهي جوزاء شاهين الحالك .
رأتها من الباب المقابل لوسط المنزل تحمل صينية تقديم وتسير
بها مسرعة جهة باب المنزل ثم عادت من حيث خرجت وغابت
لوقت قبل أن ترجع وفي يديها صينية أخرى وضعتها على الطاولة
أمامها وكانت تحوي كوب عصير وصحن كعك محلى لحظة ما رن
هاتفها فنظرت له وأعادته لحقيبتها ثم رفعت الكوب وشربت ما فيه
كي لا تجرحها إن ظنت أنها ترفض طعامهم ، وضعت الكوب الفارغ
ووقفت فوقفت يمامة معها قائلة
" ستغادرين سريعا هكذا ؟ "
وكل خوفها ذاك الوقت كان من والدها أن يوبخها لأنها لم تقدم
لهم الشاي والفواكه أيضا قبل أن يغادرا ، قالت جوزاء مبتسمة
وهي تخرج من العرفة
" سيكون ثمة زيارات كثيرة غيرها وسنتعرف ببعضنا أكثر
يا يمامة "
*
*
*
عدلت جلستها تضرب بمقدمة حدائها على الأرض بتوتر فهي
تجلس هنا منذ أكثر من ساعتين ولا أحد أطل عليها أو اهتم
بأمرها ، أي معاملة سيئة هذه ؟ حين رأت مبنى تلك الشركة
من الخارج دهشت وظنت أن الحظ ابتسم لها فلم تكن تتخيل
كل هذا ! صحيح أن الراتب في الإعلان كان مرتفعا والشروط
أيضا تدل على أن صاحبه ذا شأن لكنها تخيلت أنه مجرد صعلوك
يريد أن يصنع حوله هالة من الإهتمام أو أن لديه حبيبة سابقة
يريد التخلص منها لكن ما أن رأت المبنى ودخلت لقسم الاستقبال
وتحدثت مع الموظفات هناك حتى تيقنت من أن السيد كروس ذاك
يبدوا بالفعل شخصا مهما رغم استغرابها لأن يضع إعلانا عن
تلك الوظيفة في ذاك المكتب الرث !! وفكرت أنه قد يكون يريد
فتاة من عامة الناس سترضى بكل تلك الشروط من أجل المال
لذلك اختاره تحديدا .
كانت قد أرسلتها موظفة الإستقبال لمكتب سكرتيرة المدير
مباشرة ما أن علمت بأنها من جاءت من أجل الوظيفة وبأن
مكتب وكالة التوظيف من أرسلها فأشعرها ذلك بسعادة غامرة
لكنها بدأت تتلاشى بالتدريج ما أن بدأ الوقت يمضي وهي جالسة
هنا لوحدها وذات الشعر الأحمر الناري تلك لا تتوقف عن الحركة
وتلقي الاتصالات والبحث بين الملفات وهاتفها على أذنها بينما
تهملها هي وكأنها غير موجودة بل وكأنه لا أحد يجلس عند تلك
الزاوية فوق الأريكة الجلدية المقوسة لأكثر من ساعتين ، وقفت
وتوجهت نحوها وقالت
" عذرا يا آنسة هل لي أن أعلم متى سأقابل السيد كروس أم أنه
ليس هنا كما يبدوا ؟ "
نظرت لها لبرهة وكأنها تكتشف وجودها الآن فقط ثم قالت
" آه حسنا هو لن يأتي اليوم على كل حال وموعدك مع السيدة
ريتشارد مديرة مكتب العلاقات العامة إنه في الطابق الخامس "
وعادت من فورها جهة مكتبها وكأنها لم تفعل شيئا ... هي لم
تفعل شيئا بالفعل ومن هذا الذي يستطيع محاسبتها ؟ هي مثلا ؟!
تحركت من هناك لا منفس لها لغضبها المشتعل سوى ضرب
خطواتها بالأرض بقوة فهي من تحتاجهم وتحتاج وظيفتهم
وليس هم ..
كانت تنعم في أموال شقيقها وتعيش حياة مرفهة لا تفكر في الغد
وما فيه رغم كل القيود التي كان يضعها عليها وليست تعلم ما
قلبه ضدها فجأة هكذا ليتركها في رحمة ذاك المتغطرس ؟
لكن لا بأس ستتخلص منه سريعا وسريعا جدا أيضا .
نزلت للطابق الذي أخبرتها عنه وبحثت عن مكتب تلك السيدة
ووجدت أن موعدها معها بالفعل فلما لعبوا بها كل تلك اللعبة ؟
لا بأس المهم أن تحقق ما جاءت من أجله والباقي لا يعنيها ،
جلست أمام مكتب التي استقبلتها بترحاب والتي بدأت تتحدث
بالنيابة عنها واختصرت عليها شوطا طويلا من الشرح
والتفاصيل ، قالت بحماس
" حقا يمكنني أن أحصل على دفعة مقدمة أيضا ؟ "
أومأت تلك مؤكدة وقالت
" علينا أن نتم التوقيع على بنود الوظيفة كل على حده أولا .. تلك
هي الأوامر "
قالت بسعادة
" جميل سأقوم بذلك فورا "
قالت المقابلة لها
" وظيفتك طبعا ستكون سهلة جدا كمرافقة للسيد كروس فقط
لكن الشروط هي ما يجب تأكيد موافقتك عليها أولا ، لا نريد
أي مشاكل لاحقا لأني من سيحاسب عليها "
أخذت الأوراق منها على الفور فقالت تلك
" ثمة بنود قانونية أيضا آنستي حيث أن السيد كروس سيكون
مكلفا بدفع مبلغ مئتي ألف دولار حال أخل بالشرط الوحيد الذي
يخصه أما أنتي فإخلالك بأي واحد منها معناه السجن "
نظرت لها وتنهدت بأسى متمتمة
" سبق وقرأت هذا "
قالت من فورها
" العقد المبرم مدته عام كامل ويمكنك زيارة محامي للاطلاع
على قانونية الأمر أو المرور بمكتب محامي الشركة إن أردت "
حركت رأسها برفض وعادت للتوقيع على تلك البنود قائلة
" أنا سأكون عند اتفاقنا ، ألمهم أن يلتزم هو "
مدت بعدها بالأوراق لها فقالت تلك مبتسمة
" تكسبين مبلغا رائعا وقتها ولن تخسري شيئا "
وقفت وقالت ببرود
" أخسر نفسي طبعا "
حركت تلك كتفيها بلامبالاة وقالت
" سيصلك اتصال من السيد كروس وسيكون تعاملك معه شخصيا
من الآن وصاعدا "
شكرتها وتصافحتا ثم حملت حقيبتها وغادرت ذاك المكتب بل
والشركة بأكملها ، وظيفة براتب سخي وسكن مستقل ولا تحتاج
لمؤهلات ! ذاك ضرب من الخيال ما كانت لتحلم به أما الشروط
فبالنسبة لمضطهدة مثلها تعد مقبولة بعض الشيء وستتغاضى
عن الأمور السيئة الأخرى من أجل باقي مزاياها .
قفزت الرصيف وهي تجتاز الشارع تشعر بأنفاس الحرية من
هذه اللحظة ، ستجعل ذاك المتغطرس يندم على سخريته منها
وعلى استهانته بها درجة أن حررها منه ولا يعلم
*
*
*
رفعت جسدها مستندة بمرفقها ما أن شعرت بباب الغرفة يفتح
ببطء وقد تسلل النور من خلاله مخترقا الظلام حولها وظهر لها
ذاك الجسد النحيل ملتفا في الفستان القطني بأكمامه الطويلة ..
شعرها الأسود قد تناثر حول وجهها وذراعيها بإهمال ، ابتسمت
بحنان وهي ورغم النور الخفيف ترى تلك الابتسامة والدموع
سجينة الأحداق الواسعة فأشعلت النور بجانب السرير ومدت
يدها لها قائلة بابتسامة
" تعالي يا تيما "
فأغلقت تلك الباب فورا وركضت جهتها وصعدت السرير ودخلت
معها تحت اللحاف ونامت في حضنها تطوق ذراعيها حول خصرها
فمسحت على شعرها قائلة بابتسامة
" لا تقولي بأنك خائفة ولم تستطيعي النوم ؟ "
خرجت منها ضحكة خفيفة ودست وجهها في حضنها أكثر قائلة
" كيف سأخاف وأنا معتادة على النوم وحدي لأعوام ، أريد فقط أن
أكون معك "
ضمتها لحظنها أكثر وقبلت رأسها فهي تفهم جيدا ما الذي تعجز عن
قوله فإن تأخرت عنها قليلا فقط لذهبت هي لها لغرفتها فلم تستطع
أي منهما استيعاب فكرة أن يفصلهما جدار مشترك ولا تكونا معا ،
رفعت رأسها ونظرت لملامحها وقالت بعبوس
" علينا أن نجد حلا لهذا "
تنهدت غسق بضيق وقالت
" تيمااا "
عبست ملامحها الجميلة أكثر وهمست بحزن
" ليس وضعنا أقصد أمي "
نظرت لعينيها بصمت دون أن تعلق فقالت بتذمر
" لما الجميع لا يصدق أن أكون ابنتك ؟ خالي رعد قال بأننا
ننفع شقيقتان فهل أنا بشعة لهذا الحد ! "
خرجت منها ضحكة صغيرة وقالت مبتسمة
" هم لم يروك منذ كنت مولودة هذا فقط ما في الأمر ثم ميزة
الفتاة أن تنضج وتكبر بسرعة ، أنا في مثل سنك كان الجميع
يعطيني عمرا أكبر من عمري ثم توقفت عن النمو فجأة "
تنهدت بضيق ولم تعلق فقالت بتردد وهي من سجنت ذاك السؤال
في قلبها حتى كاد يقتلها لكنها لم تعد تقوى على دفنه داخلها أكثر
" تيما هل كنت ترين جدك هناك ؟ حدثيني عنه "
نظرت لعينيها لبرهة ثم قالت مبتسمة بشوق
" أجل أمي ... لم أكن أراه دائما كان يزورني من وقت لآخر بعيد
وكم كنت أستمتع برفقته فهو رجل رائع "
سكتت قليلا تنظر بحزن لتلك الدموع التي ملأت تلك العينين السوداء
الواسعة وتابعت بحزن
" كم كان يتحدث عنك أمي ، في كل مرة زارني فيها كان يذكر
اسمك بحسرة وفي آخر مرة رأيته كان حزينا ومستاء لأننا
سنراك وهو لا يمكنه رؤيتك ولا ليوم في حياته "
نزلت الدموع من تلك العينان السوداء حين فقدت السيطرة
عليها فأغمضتهما برفق وتركتها تنساب من رموشها للوسادة
تحتها فنامت في حضنها مجددا قائلة بعبرة بكاء سرعان
ما شاركتها فيه ما أن رأت دموعها الصامتة
" ستلتقيه يوما بالتأكيد أمي فهو أخبرني بأنه لم يعد يريد الابتعاد
عنك أكثر "
قبلت رأسها مجددا ودفنت وجهها ودموعها في شعرها هامسة ببحة
" أسأل الله أن يجمعنا مجددا ثلاثتنا معا فكل واحد منا أتعبه الفراق
فعلا "
شدت ذراعيها حول خصرها أكثر ودفنت وجهها في صدرها تعجز
عن قول ما تريد قوله وأن والدها هو العامل المشترك بينهم
ثلاثتهم ولن يجتمعوا كما تتمنى ما لم ترجع له فستعيش هي
هنا وهم هناك في جميع الأحوال .
رفعت رأسها مجددا ونظرت لها وهي تمسح دموعها وقد ابتسمت
لها فقالت مبتسمة أيضا
" هذه المدينة تبدوا أروع مما قرأت عنها هل نخرج معا لرؤيتها ؟
أنا متشوقة لرؤية ما حكا لي خالي رعد عنه ومعك أنتي تحديدا "
مسحت على غرتها قائلة بذات ابتسامتها
" ثمة اجتماع مهم غدا في الجمعية لا أستطيع التغيب عنه فأعدك
أن نخرج وقت العصر وإن كان الوقت سيكون قصيرا قبل حلول
الظلام وسنعوضها بأفضل منها لاحقا اتفقنا ؟ "
ابتسمت لها بتفهم وأومأت برأسها موافقة ثم قبلت خدها
وغادرت السرير قائلة
" تصبحين على خير ... الآن يمكنني النوم وأنا لا أحلم برؤيتك ؟ "
ابتسمت بحزن وهي تراقبها تغادر الغرفة حتى أغلقت بابها خلفها
وقد لوحت لها بيدها قبل ذلك وأرسلت لها قبلة صغيرة .
فاستلقت حينها على ظهرها تنظرت للسقف وأغمضت عينيها
برفق فتسللت دمعة من طرف إحداهما وعاد ذهنها لمحاولة
رسم صورة لوالدها الذي لم تراه يوما ولم يراها وليست تعلم حتى
متى ستبقى تناجي أطياف الغائبين عنها من أخذته الحياة منهم أو
الموت ، همست بوجع تغطي عيناها الباكية بكفها " رحمك الله
يا والدي شراع ويا شقيقي الوحيد ... ليتني خسرت عمري وما
خسرتكما "
*
*
*
وصلا المنزل متأخرا بسبب الماسفة بين المدينتين وإن كانت
تعتبر ليست بعيدة وكل ما تستغرقه الطريق ساعة واحدة فقط
بسيارة مسرعة إلا أن زوجها وبسبب تأخره في موعد مع أحدهم
ذهبا متأخرين ووصلا المنزل متأخرين أيضا ليجدا سيارة أبان
في انتظارهما في الخارج فضحك أيوب وقال وهو ينزل
" لو تأخرنا هناك قليلا لوصل ابنهم وأمسك بنا "
أغلقت جوزاء بابها قائلة
" لا يهم حتى إن وجدنا أبان هناك فالموضوع انتهى الحديث فيه "
قال مبتسما وهما يدخلان المنزل
" إن لم أنطق بتلك الكلمات شككت أن ذاك الرجل قد يقفز على
عنقي ويخنقني حتى أنه وافق مباشرة دون أخذ رأيها ولم يعجبه
إصراري على أن يأخذوا وقتهم ويسأل الفتاة أولا "
قالت بأسى وهي تفتح باب المنزل
" مسكينة تلك الفتاة لا تستحق وشقيقها بكل خلقهما ذاك حياة
كالتي فرضت عليهما "
دخلا وكان سيتحدث لولا أسكته وجود الذي خرج من جهة
المطبخ الأرضي يحمل صحنا في يده وقال مبتسما وهو ينظر لهما
" الله أكبر ... أين تحتفلان في الخارج وتعطون إجازة نوم
مبكر للخادمات ليبقى ابنكما المفضل دون عشاء ؟ "
نظرت له والدته تلك النظرة التي يعشقها فيها حين يغضبها منه
خاصة في حضور الواقف بجانبها لكنها كانت تعد له مفاجأة أقوى
منه حين قالت ببرود
" كنا طبعا نحتفل في منزل صديقك ابننا المفضل والمدعو يمان "
*
*
*
فتحت باب الشقة ودخلت وكما توقعت وجدته في انتظارها ولن يرحمها
أبدا بسبب تأخرها هذه المرة أيضا حتى وقت المغيب لكن الأمر انتهى
تماما بتوقيعها تلك الأوراق وهو من سبق ووافق وليتحمل النتائج
ولن ترضى بأن يخسرها تلك الوظيفة ليكون مصيرها السجن وإن
قتلته فهي مسجونة في الحالتين ، انقبض قلبها عند فكرة أن تدخل
ذاك المكان المخيف المليء بالمجرمين وبالحشرات ، لا لن تسمح
لهذا أن يحدث أبدا .
دخلت ودفعت الباب بقدمها للخلف مغلقة له لأن يديها كانتا مليئتان
بأكياس المشتريات فقد اشترت كل ما قد تحتاجه في وظيفتها الجديدة
وأنفقت كل ما لديها من مال بما أنها ستستلم دفعة مقدمة من راتبها
فهي بحاجة لأثواب السهرة المميزة هذه وإن كانت مكلفة .
مرت من أمامه متجاهلة وجوده وكأنها لا تراه ووضعت الأكياس
أمام باب غرفتها ثم فتحتها ووقفت فاغرة فاها تنظر بصدمة للغرفة
الخالية تماما من جميع أثاثها ! لا شيء سوى الجدران حتى ثيابها
وأغراضها اختفت !!
نقلت نظرها للواقف عند باب غرفته حين قال ببرود
" أعتقد أنك قلت بأنك لا تحتاجين لا لشقتي ولا نقودي فيمكنك اكمال
السهرة حيث كنت والنوم هناك أيضا "
*
*
*
*
*
*
حركت رأسها بالرفض القاطع فقالت الواقفة أمامها بضيق
" لكن هذا سيخسرنا كثيرا سيدتي حتى نتعاقد مع ممولين جدد
وموثوقين ثم نحن لم نحصل على داعمين حتى الآن فكل ما لدينا
وعود من بعض رجال الأعمال والمؤسسات الخيرية أ.... "
قاطعتها بضيق مماثل
" سنناقش آلية تنفيذ كل هذا فقط أما أن يتغير القرار فمستحيل
وعقودنا تلك جميعها ستلغى ، أنا على استعداد وإن للبدء من الصفر
من جديد لكن أن يستمر البرنامج السابق فموتي فقط ما قد
يعطيكم الأحقية في الاستمرار عليه "
تنهدت بعجز من عناد الواقفة أمامها فهي تحاول أن تقنعها منذ
وقت وبلا نتيجة وتعلم أن هذه القرارات لن تحضى بالترحيب من
باقي مجلس إدارة الجمعية وليست تفهم ما السبب في إصدارها
لها فجأة فهل ثمة من يقوم بإلغاء جميع تلك العقود والاستثمارات
ويوقف كل ذاك الدعم دون تقديم سبب واحد ولا شرح أو توضيح !!
ولكن ورغم كل ذلك هي موقنة من أنه لا أحد يستطيع معاندة
ولا كسر قرارات هذه المرأة فما قررته سينفذ لأنها السلطة العلية
هنا ولن تتخيل أن يظهر لهم شخص من العدم يشاطرها إصدار
أي قرار بعد شراع صنوان الذي كان وحده من قد تفعلها احتراما
وحبا له فقط .
نظرتا كليهما حيث باب قاعة الاجتماعات الذي دخل منه للتو آخر
المنتظرات منذ حوالي الساعة والنصف لأن إحداهما كانت ابنة
خالتها التي على الرغم من ملامحها المتعبة وعيناها التي لازالت
تحمل أثر كل ذاك البكاء كان إلزاما عليها الحظور لأن هذا الاجتماع
ستناقشهم فيه أمورا قد تؤدي حتى لاختفاء مملكة الغسق للأبد إن
وصل الأمر لأن خسرت باقي استثماراتها ومستثمريها وهي على
استعداد لتلقي كل تلك الخسارات وإن وصل بها الأمر للسجن على
أن ترضخ لذاك الرجل وتقبل أن يكون طوق نجاتها الوحيد ، جلس
الجميع حول الطاولة البيضاوية المصنوعة من خشب الزان الثقيل
والمدعم بالجلد الأسود وقد التفت حولها مقاعد جلدية سوداء تتناغم
مع الطلاء الأبيض المدعم بالبني لجدرانها المصقولة وأضواء
وزعت على السقف بشكل بيضاوي تتوسطهم ثريا دائرية فخمة
من الكريستال وواجهة زجاجية تصف جمال تلك المدينة الخضراء
بمبانيها المتناسقة .
نزعت سترة بذلتها الرسمية النسائية الأنيقة ووضعتها على ظهر
الكرسي واكتفت بالصدرية السوداء الحريرية ذات الأكمام القصيرة
والياقة المفتوحة والأزرار الزجاجية بإطارها الأسود المتناغم مع
لون تلك البذلة ولأنه لا رجال اليوم في ذاك الاجتماع مثلما استثنت
زوجات بعضهم لأنها لن تعترف بعد اليوم بكل تلك الشخصيات
الوهمية كان في إمكانها خلع سترتها بل وحتى حجابها تاركة
لشعرها الأسود الطويل حريته مكتفية فقط بقوس شعر فضي
مرصع بأحجار سوداء يمسك تلك الغرة الحريرية للخلف .
بدأت كل واحدة ممن جلسن أمامها تأخذ مكانها بنكهة نسائية
صباحية امتزجت بالممازحات والضحكات الصغيرة المتفرقة ،
تعلم أن ما ستقوله لن يعجب أغلبهن هذا إن لم يكن الجميع لكن
قرارها لا تراجع فيه أبدا وستسد تلك الثغره مهما كلفها من
وقت وجهد فهم مقبلون على موسم الربيع والصيف والعائدات
ستكون مرتفعة وستتعاقد مع مستثمرين جدد قريبا وتغطي العجز
وإن قامت ببيع جميع ممتلكاتها .
نظرت للأوراق تحتها وتنهدت بضيق فمزاجها اليوم أسوأ مما
توقعت وكله بسبب المجنونان اللذان تركتهما في المنزل بعد سيل
طويل من التوبيخ الذي تلقياه منها حين وجدتهما وفي هذا الطقس
وإن كان الوقت بداية الربيع قرب المسبح في هذا الصباح الباكر
بل ووجدت الكاسر داخل مياهه وتيما تجلس على حافته تلعب
بقدميها في الماء وأصوات ضحكهما وهو يرميها بالمياه تصل
للداخل ولم يفكرا بأن هذا قد يقتل أحدهما وبكل سهولة .
رفعت الأوراق وأعطتها لسكرتيرتها الواقفة بجانبها والتي بدأت
بتوزيعها بين الجالسات ولم تكن تلك الأوراق سوى جداول
لأرقام وحسابات وبعض الأسماء أما المهم في الموضوع فهي
من عليها قوله ، ما أن وصلت الأوراق لجميع الموجودات عم
الصمت التام المكان ليس بسبب تلك الأوراق ولا لأنها باشرت
بالحديث عنها فهي لم تتحدث بعد بل بسبب الباب الذي فتح من
الخارج بعد طرقتين متتاليتين كاشفا عن صاحب الجسد الطويل
المتناسق في بذلة سوداء فاخرة وكأنها قيست بالمسح الضوئي
لتناسب ذاك الجسد بياقة مخملية وأزرار مغطاة قد مزجت
التفصيل البريطاني بالأناقة الفرنسية بل وقد مزجت لون القماش
الفاخر بلون الشعر والعينين .. مزجت الرجولة بالفخامة .. الثقة
المتفجرة والعنفوان الذكوري المسيطر والذي زادته تلك الابتسامة
الجانبية معطية دفعة مجنونة من الثقة بالنفس ، مشهد جعل
الرؤوس تدور جهته فورا والأعين تحدق به بصدمة امتزجت
بالذهول عدا التي كانت تجلس عند رأس الطاولة والتي ما أن
وقع نظرها على تلك العينين المحدقة بعينيها تحديدا أشاحت
بوجهها جانبا متنهدة بضيق ومغمضة عينيها بينما هي الأحق
من بينهن وحدها بالتحديق فيه بتلك الطريقة الجريئة التي نظرت
له بها بعضهن درجة أن نسي فضولهن أن يدير تلك الأعين
جهة الجالسة هناك بعد دخول هذا الرجل تحديدا لذاك المكان ،
فمن أين خرج لها هذا الرجل في هذا اليوم تحديدا ؟
فتحت عينيها ولازالت تحدق جهة تلك الطبيعة البعيدة تقبض
أصابعها بقوة لحظة ما اخترق صمت المكان ذاك الصوت
الرجولي العميق والبحة المميزة وقد مزجت بنبرة ساخرة واثقة
مع صوت إغلاقه للباب
" عذرا فيبدوا أنه ثمة من عليه حضور اجتماعكم هذا "
*
*
*
" هل خرجت زيزفون ؟ "
وقفت الخادمة مكانها ونظرت للخلف حيث الواقف ورائها تماما
ينظر لها عاقدا عاجبيه فدارت جهته بكامل جسدها وقالت باحترام
" لا سيدي "
سأل من فوره
" ولا وجبة الغداء أيضا ؟ "
حركت رأسها نفيا من فورها فتركها وغير مسار طريقه حيث
الغرفة التي أصبحت تسكنها بالأسفل منذ أن أحضرها بالأمس ،
طرق الباب بمفصل سبابته طرقات متتالية حتى سمع صوت
مرافقتها تأذن له بالدخول ففتح الباب ودخل ودون أن ينظر
لشيء أو يقول شيئا توجه جهة الجالسة على حافة السرير
وشدها من يدها وسحبها منها فوقفت وسارت معه عدة خطوات
كادت أن تقع فيها فهمست بضيق وهي تشد يدها منه وهما
قرب الباب
" آي وقاص قدمي ! "
وقف والتفت له ونظر لعينيها وقال بضيق
" تحركي بإرادتك إذا قبل أن أحملك مرغمة "
أمالت ابتسامة ساخرة عند طرف شفتيها الرقيقة وقالت
" أخشى أن تصاب زوجتك بالحمى مجددا "
تنفس بقوة يشد قبضته فهي لا تترك فرصة للسخرية منه
ولا تستغلها لكنها لم تعرفه بعد ... أجل لا تعرفه وهو من
سيجعلها تعرف ذلك جيدا ، تجاهل كل ما قالت وقال بذات ضيقه
" ألم تخبرك الخادمات منذ الأمس أن تخرجي للطعام مع العائلة ؟
توقفي عن سجن نفسك في الغرفة يا زيزفون فقد أصبح لك
حرية التحرك هنا "
قالت ببرود
" شكرا لكني لا أريد "
تأفف وقال
" لا تريدين ماذا تحديدا ؟ "
قالت بضيق مماثل تنظر مباشرة لعينيه
" لا أريد رؤيتكم ولا سماع أصواتكم أتفهم هذا الآن ؟ "
سحبها من يدها مجددا وخرج بها هامسا
" ومع كل هذا عليك أن تخرجي فلم أقبل بكل ذاك الوضع
المزري لتسجني نفسك "
سارت معه مكرهة ولا خيار آخر أمامها فإن كان ثمة شيء واحد
تعرفه عن هذا الرجل فهو عناده الذي لا يمكن لشيء أن يكسره ،
وصل بها طاولة الطعام حيث تجمع أغلب أفراد تلك العائلة عدا
رواح المسافر منذ يومين ونجيب الذي لم يزر المنزل منذ حديث
جده معه بالأمس ووالده الذي لم يرجع حتى الآن .
انتقلت نظرات الجميع لهما محدقين باستغراب عدا من ترأس
طاولة الطعام وكان ينظر لطعامه فقط ، سحب لها الكرسي فلم يكن
من خيار أمامها سوى الجلوس وإن مكرهة وانشغلت بابعاد
شعرها للخلف متجنبة النظر لهم جميعا وتلك النظرات تلتهم
ملامحها الجميلة والعينان الملونة بزرقة السماء والتي تنظر
للأطباق تحتها بلامبالاة يكشف أكمام ثوبها الحريري الناعم
عن ذراعين شديدتين البياض ونحر يضاهيهما بياضا ونعومة
قبل أن تنتقل نظراتهم تلك للذي تحرك من خلفها وسحب
كرسيه وجلس مكانه المعتاد فتحرك كرسي آخر حينها وكان
الأقرب له حين وقفت الجالسة بجواره وغادرت المكان
بخطوات سريعة ، كانت والدة رواح أول من خرج من ذاك
الصمت المميت وقد قالت ناظرة له بعتاب
" لقد جرحتها يا وقاص ، أنت تنسى أحيانا أنها أنثى وأنها زوجتك "
رفع شوكته وقال ببرود ناظرا لطبق الطعام تحته
" يبدوا أني كنت أقبلها أمامها ولست أعلم ؟ "
ألجمتها جملته الجريئة تلك عن الحديث تماما فتمتمت مستغفرة
الله وعادت لطعامها وخرج صوت انثى أخرى هذه المرة ولم تكن
إلا والدة نجيب التي أبعدت نظراتها الحاقدة عن الجالسة هناك
أخيرا ونظرت جهة الجد قائلة بضيق
" لا أعرف مجنونة يتركونها تتجول بين الناس بحرية وتجلس
وأمامها سكين ؟ "
تنفس حينها وقاص بضيق ونظر جهة التي رفعت الشوكة وبدأت
تأكل دون أن تهتم بما قيل وكأنها لا تسمعه فعلا أو لا تهتم له
بينما اكتفى الجالس عند رأس الطاولة بمتابعة طعامه دون أن يعلق
أو يبعد نظره عما يأكل .
وقف ضرار الصغير والذي كان الأقرب لكرسيها وحمل طبقه وجلس
في الجانب الآخر فضحكتا والدته ووالدة نجيب على حركته تلك
وهو يهرب منها ، خرج حينها وقاص من صبره وصمته وقال
بغضب ناظرا للجالسة مقابلة له
" لو كانت تؤذي بالفعل لأخذت حقها من ابنك لكن يبدوا لي
أنه ثمة مجنون حقيقي غيرها في هذه العائلة "
صرخت تلك من فورها
" ما قصدك بهذا يا وقاص ؟ "
" ليصمت الجميع فورا "
جملة ضرار الغاضبة تلك جعلت ذاك الحوار المحتد يتوقف
تماما ونظراته الغاضبة تنتقل بين زوجة ابنه وحفيده الأكبر
فوقفت تلك مغادرة بخطوات غاضبة بعدما رمت المنديل من يدها
وعاد البقية لطعامهم فلم يعد هناك مجال لأن يعلق أي منهم .
بعد وقت قليل وقفت والدة ضرار أيضا وتبعها ابنها وغادرا
غرفة الطعام فنظر وقاص للجالسة في طرف الطاولة فكانت تضع
يدها والشوكة فيها على الطاولة تحتها ولا تأكل بل كانت تنظر
للمقابل لها في الطرف الآخر والأبعد نظرة لم يعرفها هو المحامي
ومن جاب المحاكم والقضايا وأصبح يحتك الآن بالمذنبين سوى
في أعين من وجدوا أمامهم سبب انهيار حاضرهم وماضيهم ..
سبب القهر والذل والمعاناة التي سلبتهم كل ما هو جميل في
حياتهم ... نظرة المجني عليه للجاني حين يأخذ كل واحد منهما
مكان الآخر في نظر القانون ويضيع الحق ليظلموا المظلوم مرتين ...
نظرة لو كان بإمكانه لأزالها من تلك العينين الجميلة لكنه عاجز
عن فعلها رغم كل محاولاته مثل عجزه عن فهمها وفك جميع
خباياها ... هل تحمله مسؤلية ما حدث مع والدها وجدتها أم أن
الأمر تعدى ذلك بكثير ؟ أي حقد هذا الذي يملأ قلبك الصغير
يا زيزفون جعله يتفرع ليشمل الجميع ؟
نقلت نظرها فجأة من جده له ووجدته ينظر لها فتبادلا نظرة
طويلة صامتة قبل أن تبتسم له تلك الابتسامة الساخرة الغامضة
التي تضيف بها لغزا جديدا في كل مرة وكأنها تقول له بها وبكل
وضوح ( أنت تضيع وقتك ليس إلا )
صوت سحب لأحد الكراسي حول تلك الطاولة جعلت نظرتهما
العميقة تلك تتلاشى كالسراب حين وقفت والدة رواح وقالت برجاء
ناظرة له " من ثيابك يبدوا أنك ستخرج مجددا فاصعد لزوجتك
أولا يا وقاص "
وقف حينها هو أيضا وقال ببرود وهو يرفع هاتفه ومفاتيحه وكأنه
لم يسمعها
" لديا موعد مهم في كامبردج وقد أتأخر فنامي ولا أجدك جالسة
تنتظرينني قرب الباب "
ثم غادر من فوره بخطوات واسعة واثقة زينتها تلك البذلة
السوداء الأنيقة فتمتمت مغادرة
" أراح الله قلبك يا وقاص "
وغادرت المكان ليعمه الصمت المميت مجددا ولم يبقى فيه سوى
الجالسان عند رأسي الطاولة البيضاوية أحدهما لازال ينظر لكوب
عصيره والطعام أمامه والعينان الأخرى عادت تحدق في ملامحه
الجادة الجامدة تلك بكره وعادت تلك الابتسامة الساخرة الحاقدة
للارتسام على شفتيها وخرج ذاك الصوت الأنثوي البارد
" ضرار سلطان ... لما تتجنب دائما النظر لي ؟ "
المخرج ~
بقلم / زينه 4
من وقاص ـ لزيزفـون
هكذا اشرق الفجر...!
أي نهاراَ كان ..
ذاك الذي ظهرتِ فيه على أفق عيني ..
ي بحرية العينين
كان صباحا .. مع بواكير شتاء
ظهرتِ كمعطف دافئ يلبسني
أصبحت و كأنني أملك الدنيا
ولكن تلك العينان بلون السماء التي بلا حدود
عرفت منها أن الحب قد يكون لعبة!
وأن للصدق سكين وللبراءة احقاد ..!ا
أنكِ أنثى تُجرح ..؟
فـ الصبر معك ِ بعيد والشمس غيابها طويل
وفي الوقت الذي تُلون نهاري بمفاتيح السعادة
لم تعطيني سوى الأرق وُظلم النهار
و القسوة والجفاء مع كبرياءك وحقدك الدفين ..!
يا ذات القلب الصغير :
القلوب لها هيبه .. وجرحها ضعف
وجرح قلب رجل حالم بكِ خطيئة
فهل يموت الأمل وتحكم قيود الفرح .. المُنتظره ..؟
فمشاعري كطفل وليد
بنت مدن من فرح فقد مللت من توحد القلب
فقد كنت وفي مع وحدتي رغم قسوة شتاء الانتظار
فـ كنت انام واصحو على حلم وقد أتي !
و مع ذلكـ اخاف اختفاء نجمك عن أفقي ..
يحكمني شعور لااعرفه ! واخاف فقداني سيطرتي
فـ يتملكني قرار أن أنتزعكِ
من الكل لنفسيِ أُطبِق عليكِ بأنفاسيِ ..
..أسحبكِ كخيط ضوءٍ بلا نهاية.. بعيداً
أحب أن آتيك بالمنام لأسكن بين حنايا الحلم ونومك !
أحب فجري بكِ!.
وأحب أن أغزوك مع أسراب الضوء الأولى !
في حدود بحوري وسماءاتي فقط
...
أحب أن ألمس عينيك بأناملي
ف اوقِظُ برك الصمت بداخلك كأنغام ناي !!
فمشاعريِ كـ السُحب كريمة
وسط قلبكِ الرمادي المتوحش تهطل كقطرات المطر!
فـ أمنيات من اطل نجمكِ بمحيطي أمنيات !!
.. اتمني أن أقاسمكِ الهموم ..
بل سآخذها كلها عنكِ ..
فبكل الحالات أعيش غرامك الجديد علي
.. وبكل لغات الجسد أناديكِ ..
أناديكِ بيديّ الشاعرة باليتم من صغري ! .. ..
فأنا أحتاج لوجههكِ الذي كـ الشمس ..
ولظفائركِ الذهبيه التي أصبحت أؤرخ فيها الزمن زمني وزمنكِ .. ..؟!
سأنتظركِ على الغيم
وما بين حضوركـِ وغيابكـِ أصبحت نصفين
نصفه هو انتِ والآخر لا أعرفه ..!
نهاية الفصل