بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الثامن
المدخل ~
بقلم / عبق حروفي
وأتساءل كل يوم! ..
هل أنا ناقمة؟ ..
أجد الإجابة ..
تختبئ أحياناً و أتجاهلها في أحياناً أخرى ..
ماذا يجري!! ..
لما أنامسحورة .. مبهورة ..
لما أضل مسجونة! ..
فگ قيدي و حررني ..
حبگ لا يناسبني ..
إنه يشقيني ..
يرهقني ..
يا متعبي ..
لا تسيطر عليّ بحضورگ ..
دعني أشعر بما حولي ..
يا متعبي ..
لا تجذب انتباهي ..
دعني أفكر بنفسي...
لا تفرض الحب يا معشوقي ..
فهو يتسلل إلى الأعماق بخفة ..
ويزول بشدة ..
******
لم تكن الدموع وحدها ما كان يملأ عيناها السوداء الواسعة
بل والألم والانكسار وحتى الخذلان وهي تجتاز بسيارتها
أرض ذاك المنزل الواسعة .
هل كان عليها أن تتوقع غير ذلك ؟
أليست ابنته التي رباها ولم تعرفها يوما ؟
لكنها كانت مصرة ! أجل وجاءت هنا
وسلاحها فوق كل شيء هو القانون الذي في أحكامه ابنتها
تكون قاصر ولازالت من حقها
وإن كان الأمر في مواجهة مطر شاهين تحديدا والذي يمكنه
التحول في لحظات لذراع قوي من أدرع القانون ولن يستطيع
أحد مجادلته إلا أنها غسق شراع صنوان من لم تقف
أي قضية مهما كان من ورائها عائقا في وجه محامي جمعيتها
الأكفاء ولا في وجه عنادها وقوتها التي عرفها بها الجميع فترة
انسلاخها عن مطر شاهين الذي تركها خلفه لقمة لأفواه الناس
لوقت طويل وهو يتخلى عنها دون أن يهتم لها وكأن ما يعنيه
فقط ابنته التي وجد مكانا لها في حاضره ومستقبله .
اشتدت قبضة أصابعها على المقود تشعر بقلبها يعتصر
ألما وتعسرت عليها رؤية أي شيء تقريبا بسبب كل تلك
الدموع المتكدسة في عينيها
لكنها استطاعت أن تفهم ما يجري هناك سريعا وقد تباطأت
حركة سيارتها وهي تقترب
من البوابة الحديدة الواسعة التي كانت تغلق ببطء فتوقفت
أمامها تقريبا ومسحت سريعا بطرف كم معطفها الثقيل الدموع
التي ترفض أن تنزل مجدداً وتحت أي سبب كان
أنزلت زجاج نافذتها ونظرت للذي كان يقف على بعد خطوات
قليلة من سيارتها قائلة
" لما تغلقون الباب ؟ أريد أن أخرج "
جاء رده فورا
" لا أستطيع
سيدتي فالأوامر هكذا "
شدت قبضتيها على المقود بقوة قائلة بغضب
" أي أوامر هذه التي تمنعني من الخروج ؟ "
لاحظت أنه نظر لشيء ما بعيداً خلف سيارتها قبل أن يتراجع
خطوة للوراء وقال
" آسف سيدتي الأمر خارج عن استطاعتي "
زمت شفتيها بقوة وغضب ونظرت من خلال المرآة الجانبية
لسيارتها فظهر لها الواقف في الخلف بعيدا مكتفا ذراعيه
ينظر ناحيتهم فشعرت بنيران العناد تلك توقد في داخلها من
جديد وهي من باتت تؤمن بأن ذاك الرجل وحده من أصبح
قادرا على تحريك الجمر من تحت الرماد وإخراج عيوب
غسق القديمة .
داست على المكابح بقوة وعادت بسارتها للخلف حتى وقفت
بجانبه والغبار حولهما شكل سحابة كثيفة تشبه غضبها
المشتعل ليس من إغلاق الباب أمامها فقط بل ومن كل شيء
وأولهم ثقة الرجل الواقف قرب نافذتها من نفسه وكأنه لم يخلق
على وجه الأرض رجل سواه , أليس ذلك يليق به ..؟
سحقا له ولها ولرجولة عمياء لا تختار إلا القساة من الرجال
" انزلي "
لو كان الأمر بيدها لدارت بسيارتها وصدمته بها لأسلوبه الوقح
وهو يأمرها وكأنها تعمل لديه .
تجاوزت غضبها وركزت نظرها على عينيه وقالت بصلابة تشبه
صلابة وقفته وشخصيته وكلماته
" أخبر رجالك يفتحوا البوابة أو حطمتها بسيارتي "
قال مجددا وبلهجة آمرة لا تقبل النقاش
" انزلي يا غسق "
تجاهلت كل ما قال وحركت يد السرعة ونظرها على الطريق
أمامها وصولا للحارسين الواقفين أمام بوابة المنزل المغلقة
وليس في نيتها سوى التقدم ولم تترك لنفسها الوقت
لتتكهن إن كان الواقفان هناك لن يسمحا بأن تصطدم بها تحت
أي سبب كان أم لا
لولا منعتها اليد القوية والأصابع الطويلة التي التفت حول
معصمها تشده بقوة وقد أدخل يده الأخرى ونزع مفتاح
السيارة بكل بساطة وفتح الباب وسحبها منها مرغمة هامسا
من بين أسنانه
" مجنونة كما كنتِ يا غسق "
حاولت سحب يدها منه ودون جدوى متمتمه بغضب محتج
" بل لم يعد موجوداً من غسق القديمة إلا اسمها يا ابن شاهين
ولن تجبرني على ما لا أريد افهم هذا"
لكن كلماتها تلك لم تكن تتعدى سمعها وهو يسحبها متجاهلا
محاولاتها المضنية للتخلص منه .
وكل ما كان يفعله هو التقدم والوقوف كلما خطا بها خطوتين
وهو يلتفت لها للخلف ويشدها من يدها بقوة كلما تشبثت قدماها
بالأرض ويتابع سيره .
حتى وصل بها باب المنزل ودخل يجرها لم تؤثر به ولا ضربات
قبضة يدها الأخرى لكتفه بقوة
متعمدة حتى صعد بها السلالم المحاذيه للباب يسحبها مرغمة
*
*
*
توقع منها ردود أفعال عدة لسؤاله المباغت لها وهو يفتح
أمامها دفترا مغلقا تماما من ماضيها بالنسبة لهم على الأقل .
توقع أن يرى الصدمة في عينيها وحدقتيها الزرقاء الصافية .
توقع أن تتصرف بذكاء ومكر مبهم وغامض ككل مرة وتموه
الحقيقة أوترفض الإجابة كالمرة السابقة لكن ما لم يتوقعه أبداً هو
رد فعلها الفوري بل والعنيف وهي ترفع إبريق الماء وترميه
ناحيته صارخة بغضب
" اخرج من هنا "
سكن المكان تماما بعد ذاك الضجيج القوي لتحطم الإبريق بقوة
وتناثر قطعه الزجاجية في كل مكان تحت قدميه وتناثر الماء حوله
حتى أنه بلل جزءا من بنطلونه الطويل ولم تكتفي بذلك فقط فقد
سحبت جسدها وقدمها المصابة لتنزل من السرير وتوجهت نحوه
تعرج في كل خطوة حتى وصلت عنده وبدأت بدفعه من صدره
للخلف صارخة
" اخرج .. قلت اخرج ... لا أريد أن أراك "
تحركت يداه وشد ذراعيها بقوة مبعداً لها وسرعان ما لف يدها
خلف ظهرها ليصبح وجهها مقابلاً لوجهه مقيدة اليدين بقبضتين
قويتان منعاها من الحركة متجاهلا حتى تشابك بضع خصلات من
شعرها بين يديهما منعت بذلك حركة رأسها وهي ترفعه مواجهاً
لوجهه دون أن يعلق بشيء ونظره لا يترك عيناها المحدقة به
تشتعل غضبا وقد همست بحقد من بين أسنانها
" أكرهكم يا ابن ضرار أتفهم , أكرهكم
كرها إن امتزج بمياه البحر لجعلها سوداء "
شد يديه على يديها أكثر وقال بهدوء يعاكس كل العواصف
الهوجاء التي ترسلها نظراتها وكلماتها الحاقدة
" لا أسألك عن مشاعرك نحونا يا زيزفون فأنا أعلم الناس بها
بل عن السبب الذي جعلك تدخلين المصحة النفسية بعد تلك
الجراحة التي تم فيها استئصال الأكياس المائية من دماغك ؟ "
لم تحاول هذه المرة فك يديها من قبضتيه ولا إزاحة نظرها
عن عينيه وهي تهمس بابتسامة ساخرة
" يعنيك الأمر حقا يا وقاص ؟ "
" بلى "
كان جوابه مباشرا ودون أدنى تفكير كجوابها التالي تماما
" ولماذا ؟ "
لكنه لم يكن جوابا بل سؤال شعر بأنه أعظم من أن يجد له أي
إجابة خصوصاً في مواجهة عينيها الزرقاء الغامضة وملامحها
الجميلة متقلبة المزاج .
تنفس بعمق قبل أن يقول بجدية
" لأنك ابنة عمي و .... "
" كاذب "
قاطعته فورا بكلمة كانت كفيلة بإخراسه تماماً وهي ترجعه
لدوامة فك رموز هذه المرأة من جديد بل ونفسه أيضا وهو
من يجد نفسه أمامها في لحظة مجرداً من كل ما درسه في القانون
وطبقه وتدرب عليه وكأنها تعيده طالباً في المدرسة الثانوية من
جديد بل وأصغر من ذلك بكثير ولا يفهم أي أسلوب هذا الذي
تتعمده صاحبة العينان التي كلما نظرت له بكره ونفور جذبته
لفهمها أكثر .
حرر يديها من قبضتيه بصمت
ودون أن يعلق على ما قالت فابتعدت خطوتين للخلف ونفضتهما
بضيق ثم بدأت بتمسيد معصميها بالتوالي قائلة بحقد ونظرها
عليهما
" أنتم مجرد مجرمين لا يعنيكم في الحياة سوى مجدكم وخلودكم
بينما تحت الأقنعة يوجد بشاعة حقيقية "
رفعت نظرها له ونظرت لعينيه المحدقة بها وتابعت
بابتسامة ساخرة
" أتحداك يا ابن ضرار السلطان أن تجد لدى جدك ذرة إنصاف
لي وأن لا يخاف على نفسه مثلكم جميعا "
أعجزته بكلماتها تلك ولم يعرف ما يقول هل ينكر ذلك ؟
هل هو واثق حقاً من أن جده سيقف في صفها ؟
أجل سيفعلها لكن هل حقا سيعاقب نجيب ولن يهتم إن كان
العقاب سيضرهم أم لا ؟
سؤال لا يملك ولا هو الإجابة عنه ولن يستطيع مطالبتها مجدداً
بأن تجيب على سؤاله .
فلما أغضبها حديثه عن تلك المرحلة تحديدا ؟
أين كانت بعد وفاة المدعو عكرمة وقبل سفرها وإجرائها
تلك الجراحة ؟
ما الذي حدث جعلها تتحطم نفسياً بذاك القدر ؟
لن تكون وفاة جدتها أمامها السبب فهي اجتازتها مع ذاك
الرجل وزوجته وما كانت لتوصلها لكل ذلك !
كل ما استطاع معرفته عنها هو جزء مما حدث معها بعد
دخولها للندن عن طريق رجل لازال يجهل هويته ومن يكون
ثم خضوعها لتلك الجراحة للمخ ومن ثم نقلها فوراً لتلك
المصحة النفسية العالمية والتي لن تكون تكلفة بقائها فيها
قليلة أبداً .
فمن ورائها بتلك النفوذ والقوة ؟
وأين كان عنها بعد وفاة الرجل الذي رباها بعد وفاة جدتها ؟
" وقاص .... هل أنت هنا ؟ "
ابتسامة ساخرة وجهتها له فوراً ما أن وصل لهما الصوت
الأنثوي المنادي في الخارج وصوت كعب حذاء نسائي يسمع
بوضوح وصاحبته تصعد عتبات السلم القريب من الغرفة.
فنظر خلفه ثم شتم بهمس لم تفهمه وسحب الباب خلفه
وهو يخرج في صمت
ووصلها فوراً ذات ذاك الصوت الأنثوي الرقيق في الخارج
" أهه ... مرحبا وقاص ظننتك ستكون نائماً لأني وجدت هاتفك في
الأسفل ولم تجب على اتصالاتي "
" هل يمكننا الحديث في الأسفل إلينا لأني أحتاج الآن لكوب قهوة "
ولم تسمع بعدها سوى تعليق تلك المرأة الضاحك عن عبارته
الجامدة تلك وبأنه ولأول مرة تعلم أنه يستعين بالقهوة حين
يكون مزاجه سيئاً ثم صوت خطواتهما وهما ينزلان دون أن تسمع أي
تعليق منه .
عادت جهة السرير بخطوات ثقيلة وارتمت عليه جالسة ومتأوهة
بألم قبل أن تهمس بسخرية
" لا أغبى من هذه الإنجليزية الحمقاء سوى زوجتك يا حفيد
ضرار سلطان المفضل "
*
*
*
كان كلاهما ينظران للواقفة عند الباب تمسك خصرها النحيل
بيديها والغضب يتقاذف كالشرارات من عينيها الغاضبة ثم تبادلا
نظرة سريعة كانت متباينة تماماً .
فالواقف عند اليسار نظر له وللموقف بتوجس وخوف
بينما نظرة رواح كانت كما عرفها ويعرفها الجميع مرحة
لا مبالية فتسلل ذاك فوراً من المكان قائلا بابتسامة
" يبدوا عليا ترككما لوحدكما قليلا "
وتوجه مسرعاً نحو الباب الذي خرج منه متمتماً يمسك ضحكته
" حظاً موفقاً يا جميلة "
فلحقته نظراتها المشتعلة حتى اختفى ولأنه لا مزاج لديها
للرد على ما قال انتقلت للسبب الأساسي لوجودها هنا
والذي نظر لها مبتسما وأتكأ على طرف طاولة المكتب خلفه
مكتفاً يديه لصدره ولافاً ساق حول الأخرى وقال
" ما هذه الزيارة الصباحية الرائعة ؟ "
خطت عدة خطوات للداخل وكتفت يديها لصدرها مثله وأمالت وقفتها
تضرب بمقدمة حذائها على الأرض وقالت بضيق
" مؤكد تعلم بأني إن رفعت قضية ضدك وضد شركتكم الرديئة
هذه فسأربحها دون عناء "
ضحك من فوره قائلاً
" أوبـــس ما كل هذا التهديد الخطر ؟
لا لن تستطيعي يا متحولة بالطبع "
عدلت وقفتها وأشارت له بسبابتها قائلة بغضب
" بل أستطيع والفضيحة تكفيك يا ابن آل ضرار "
أومأ برأسه نفيا متمتما
" لا لا لا ذلك مستحيل "
ثم رفع سبابته قائلا بذات ابتسامته المستفزة التي لا تزيدها
إلا اشتعالاً
" ولسبب واحد قوي جداً يا ابنة آل هارون وهو والدك "
صرت على أسنانها بقوة وهمست من بينها
" سحقاً للوغد "
تحرك حينها من مكانه وتوجه نحوها وقد قالت ناظرة له بكره
" لا تقترب مني "
وقف مكانه على بعد خطوات منها ورفع يديه جانبا وقال بضحكة
" لا أتخيل أنك تخافين اقترابي ساندي "
صرخت بحدة
" اسمي ساندرين وقم بإلغاء إعلانكم السخيف ذاك فوراً "
اقترب منها خطوتين أيضا ودس يديه في جيبيه قائلا
" حسناً لكن بشرط "
قالت من فورها وباعتراض
" من دون أي شروط ولا حق لك في ذلك "
حرك كتفيه قائلاً
" لا بأس لن يلغى الإعلان إذاً "
تأففت في وجهه بغضب وقالت بنفاذ صبر " وهو ؟ "
مال ناحيتها وغمز لها بعينه هامساً بابتسامة
" نتزوج "
رد فعلها كان شهقة قوية كادت أن تكون صرخة
وصاحت فيه بصدمة
" نتزوج ؟؟؟ هل قلت ذلك أم هيء لي "
أومأ برأسه موافقاً دون كلام فقالت من فورها
" في أحلامك يحدث ذلك أوأن أصدق أنك تريد هذا "
فرد كفيه قائلا بكل بساطة
" صدقي ذلك إذاً "
صرخت من فورها
" في أحلامك أتزوج منك أنت يا ذا الخلية الواحدة "
لم يستطع امساك ضحكته التي ارتفعت بشكل هستيري وكأنها
لا تشتعل أمامه بل وتكاد تقفز عليه وتخنقه .
قال ما أن أنهى ضحكه
" إذاً استعدي لتكوني ذات خلية واحدة أيضاً "
أشارت بسبابتها لوجهه قائلة بضيق
" ذاك مصيرك وحدك أنا لا أريدا طفلا واحداً "
قال مبتسماً
" أهذا سبب اعتراضك الوحيد ؟ لا بأس لا مشكلة يمكننا تبني
أربعة آخرين أو مجموعة كلاب متشردة من التي تنقذونها "
لم تكن تزداد إلا اشتعالاً من سخريته واستهانته بما يقول
واستهزائه بها ولا يمكنها تصديق ما يتفوه به زير الشقراوات
هذا , قالت بضيق
" بل لأنني أكرهك كما لا أكره أحداً بل والهازان جميعهم بسببك
وحسابنا سيكون عسيراً يا رواح "
وخرجت مغادرة بخطوات غاضبة وقد لحقها صوته المرتفع ضاحكاً
" تعالي فقد نسيت شيئاً لم نتفاهم بخصوصه قبل إعلان الخطوبة "
فتجاهلته خارجة تشتعل غضباً أسوا من الذي دخلت به وما أن
أصبحت خارج مبنى الشركة أخرجت هاتفها وأرسلت رسالة
( ستري حسابك مني يا كنانة يا ابنة الهازان الخائنة(
*
*
*
كانت تعلم أنها أضعف وأوهن من أن تستطيع مقاومة قوته
الرجولية بل ومقاومة أي رجل
فكيف إن كان رجل مثله منذ نعومة أظفاره وهو يتلقى تدريباً
قاتلا وقاد جيوشاً وضرب بالمدافع والدبابات لكنها لم تتوقف
لحظة عن محاولات التخلص من قبضته
ومن معاملتها وسحبها كبهيمة لا حق لها في أن تعترض
على مصيرها بل وكأن غسق الماضي عادت لتعيش ذاك الدور
التعيس مجدداً , لا تريد دخول هذا المنزل من جديد
فكيف بالصعود على هذه السلالم ورؤية تلك الغرفة وإن من الخارج ؟
لا تريد لذلك أن يحدث يوماً مهما طال لذلك كان عليها أن تقاوم
باستماته لكن كل ذلك لم يجعله يتوقف لحظة
حتى وصل بها للأعلى بل ودخل بها لغرفته ودفعها للداخل وأغلق
الباب ووقف كل منهما مكانه كتمثالين صامتين ساكنين تماماً هي
أمامه توليه ظهرها بينما كل واحد منهما يقف مقابلا للسرير الذي
لازال ذاك الفستان الأبيض مكانه فوقه ,
أحدهما نسي أنه لازال موجوداً هنا والآخر أخذ قلبه يئن
بين أضلاعه كالظبي الجريح وحيد
فقد انقطعت أنفاسها تماماً وشعرت بأنه يوجد كتلة من الألم
حيث يجب أن يوجد قلبها
وتساءلت بمرارة لما يرفض قدرها إلا أن يضعها في مثل هذه
المواقف التعيسة ومع هذا الرجل تحديدا ؟ لا بل هذا الرجل من
يبدوا أنه يتعمد كسرها المرة تلو الأخرى
ولم تكن تعلم أن هذا القماش الفاخر والمخاط باليد وبعناية
فائقة لم يبرح هذا المكان منذ ليليتين لم تعرف فيهما تلك
الوسائد والأغطية أنفاس من كان يجلس عليها
ملأت رئتيها هواءً كم شعرت بأن أشواك تسحب من داخلها
والتفتت له وواجهته
بشجاعة بينما قلبها يخفق بشدة في صدرها وهي تواجه
تلك العينين السوداء والثقة المتفجرة.
بينما عيناها الواسعة تجاهد باستماته لإخفاء الألم فيهما .
ألم لم يعد لها أي قدرة أكثر على تحمله ودفنه خلف قوة
وكبرياء باتا بكل بساطة زائفين أمام كبرياء هذا الرجل وعنفوانه
وهذا ما جعل كل جراحها الماضية تطفوا للسطح مجدداً مستنجدة
بآخر الفرص لها للقصاص فتحولت نظرتها للعداء سريعاً متجاهلة
كل تلك المشاعر المتمزقة داخلها وقالت بقوة
" بأي حق تسحبني كالشاة وتدخل بي غرفتك ياابن شاهين ؟ "
وتابعت بسخرية مدمرة وكأنها توجه الضربة تلو الأخرى
" ظننت غسق وحدها من تتصرف بجنون كالسابق وأن ابن
شاهين لا تدخل امرأة لا تحل له غرفته "
قال بنبرة خالية من أي تعبير ناظرا لعمق عينيها
" لن تخرجي من هنا حتى نتفق بشأن عدة أمور يا غسق مفهوم "
ضحكت ضحكة جوفاء كقلبها وقالت
" نتفاهم بشأن ماذا ؟ انتهى الأمر الذي جئت من أجله ولصالحك
طبعا ولا بقاء لي هنا ولا حديث مع أحد "
أدار حينها يده ونصف وجهه للخلف وأغلق الباب بالمفتاح
واستله منه وقبض عليه في يده ونظر لها مجدداً وقال بحزم
" إذاً لا خروج لك ولا لي من هنا "
وتحرك نحوها وكأنه يوثق قراره بفعل ما تجهله فخطت
للخلف خطوتين صارخة باعتراض
" لا تقترب مني ... افهم لا يحق لك أن تسجنني هنا أنا لست ملكك "
كانت تعلم أن نقطة ضعفها هو الماضي الدفين .
أجل قوية أجل مجروحة منه حد رفضه بالكلية
لكنها لازالت تخشى اقترابه والنظر لعينيه عن قرب .
تخشى سماع همسه المبحوح واختبار لمسته من جديد ,
ليست تخشاه بل تخشى من نفسها وعلى نفسها ..
لا تريد لجراحها المتراكمة منه أن تتلاشى بمجرد
رؤيته أمامها , لا تريد أن تنسى ما فعله لن تسمح لمشاعرها
أن تتغلب عليها ليخرج منتصراً عليها مرة أخرى وإن قتلت
نفسها , تراجعت خطوة أخرى للوراء وقالت بجمود
" جئت لأجل ابنتي التي رفضتني واختارتك أنت فقررت
المغادرة بمحض إراداتي كما جئت فبأي عذر جلبتني إلى هنا ؟ "
لم يعلق أيضاً رغم وقوفه عند كلماتها تلك , كان عذابها من
صمته أعظم من وجوده قربها ومن وجودها في هذا المكان
تحديداً والذي تشعر بكل زاوية فيه تحطم قلبها وتمزقها إرباً
بمجرد النظر لها , كان واقفاً أمامها تماماً لا يفصلها عنه إلا
خطوة كم كانت أزماناً وسنين وحكايات من الألم والحرمان
لن يستطيع تقليصها الآن بسهولة هكذا لن تسمح له بذلك أبداً
عادت للتراجع للخلف مجدداً وتابعت ملوحة بإصبعها في الهواء
وكأنها تشير لكل شيء حولها
" ما الذي تفعله غسق شراع هنا ؟ لما جلبتها لمكان نبذتها فيه
سابقاً ورميتها خارجه .... تكلم ؟ "
وتابعت تشير للسرير بجانبها
" ما الذي يفعله هذا الفستان هنا وأنا من سبق وطلبت من راضية
أن ترميه وقت مغادرتي هذا المنزل ؟ "
أشارت بعدها بسبابتها لوجهه وعيناها السوداء تتوهج بشدة
وتغلب ألمها نهاية الأمر ليكتسح حصون عينيها قائلة بأسى
" بل ما الذي تفعله أنت هنا ؟ لماذا عدت ؟
لما لم يبتلعك الغياب نهائيا كما فعل مع الجميع ؟ "
أشارت بعدها للباب خلفه وتابعت بسخرية نكهتها المرارة بكل حرفية
" أم جئت لتختم آخر فصول الحكاية وتريني ما فعل الزمن بي أيضا ,
جئت تسجل انتصارك الأخير على المرأة التي هزمتها المرة تلو
الأخرى "
" غسق يكفي "
كانت تلك الكلمات الهادئة المنخفضة فقط ما صدر عنه وكأنه
يختم على جميع جملها الغاضبة المحتجة بنبرته الرجولية المبحوحة
تلك , لا بل وكأنه يأمرها فحتى هدوء هذا الرجل لا تراه إلا أوامر لا
تقبل النقاش , مسحت تحت جفنها بسرعة وكأنها تحذر بذلك مقلتيها
من أن تفكر مجرد التفكير في خيانتها والضعف أمام ما ستقول
وتسمح لدموعها الغبية بالنزول أمامه , قالت بعدها وباعتراض
غاصب
" لا ليس يكفي ... ليس يكفي يا ابن شاهين فأنت من أراد هذا
لأني ما كنت سأحاسبك عليه حتى أموت وأدفن تحت التراب فلن
يخدعني أحد بكل تلك الترهات التي سمعتها .... قتل وثأر وحجج
سخيفة لطمس هويتي ونبذي وتركي كاللقيطة ثم معاملتي كنكرة "
أشارت للأرض تحتها وتابعت بحقد
" هنا ووسط عائلتي كغريبة كمنبوذة
وكعالة على الجميع وأولهم أنت "
" .... حمقاء "
همس بتلك الكلمة التي تلاشت وكأنها لم تسمعها وتابعت وهي
تشير لكل مكان تقصده
" هناك عند تلك الخزانة سخرت مني وعند تلك المرآة نعتني بالدونية
وأنك من أنزل نفسك لمرتبتي وهنا على هذا السرير كنت أعتذر لك عن
ذنب لم أقترفه أترجاك وأتوسل غفرانك وتتجاهلني كالنكرة "
كانت مشاعرها تتمزق مع كل عبارة تخرج منها وهي تتذكر
كل ذلك وكأنها تنزف الوجع تلوالوجع ورغم أنها أقسمت سابقاً
على أن لا تحاسبه على شيء من ذلك تحدثت الآن ليس لأنها
من أراد ذلك بل لأنه من أجبرها عليه , أشارت جهة الجدار
يمينا ونظرها عليه وتكسر صوتها كتكسر تلك الكلمات عند
عتبات شفتيها المترددة تسجن عبرة تغلبت حتى على دموعها
الحبيسة وقالت
" وهناك ..... هناك يا مطر اعترفت لي بعشقك لامرأة استبدلتك
برجل آخر متجاهلاً أني كأي أنثى يحق لها أن تكون المرأة
الوحيدة لزوجها "
كانت كلماته حادة هذه المرة وهو يصرخ بها
" حمقاء ...... حمقاء يا غسق "
صرخت أيضا ملوحة بيدها في الهواء
" أجل حمقاء ... حمقاء لأني صدقتك حين قلت أنه لك مبررات لذلك ,
عندما اعتقدت بأنك عائلتي لأنه لا عائلة لي لكن غسق الحمقاء
ماتت هنا وانتهت من أربعة عشرة عاماً حين سهرت تلك الليلة
تنتظرك وكل ما أتاها منك أن رميتها خارج حياتك ومنزلك وحدودك
لحيث كانت ومن حيث جاءت ,
سبق وأخبرتك أن ما جلبني هنا ابنتي فقط وبما أنها اختارتك
أنت فأريد أن أرحل وفوراً فلا شيء غيره نتفاهم بشأنه "
كل ما فعله أن قلص المسافة بينهما في خطوة واحدة واسعة
حتى كان أمامها مجدداً وأمسك بذراعيها بقوة ناظراً لعينيها
السوداء التي التهب جفناها احمراراً من حبس الدموع وقال بحزم
" ستسمعين ما سأقوله يا غسق ولآخر حرف "
رفعت يديها وأغلقت بهما أذنيها صارخة بتمرد
" لن أسمع شيئاً , لا أريد سماع صوتك ولا ما ستقول ...
افهم أكرهك يا مطر .. أكرهك "
" افتح الباب يا مطر "
كلمات عمه صقر الغاضبة وضربه القوي للباب بقبضته جعله
يرخي قبضتيه عن ذراعيها حتى أبعدهما عنها ونظره لازال
على تلك الأحداق السوداء وقد وصله صوتها الساخر
والمفعم بالمرارة
" لازلت أحتاج لمن ينقدني من جبروتك في كل مرة كالماضي
يا ابن شاهين فهنيئاً لك بهذه أيضاً "
شد قبضته بقوة ومرر أصابع يده الأخري في شعره مغمضا
عينيه وما أن تكرر الطرق وارتفع صوته مجددا
" مطر افتح الباب "
حتى دار موليا ظهره لها وسار جهته بخطوات واسعة
وفتحه وخرج فتراجع عمه خطوتين للخلف لأنه خرج منه
ودون أن يعلق بشيء ثم دار للباب وأغلقه بالمفتاح
فقال صقر بحدة
" مطر هل جننت ؟ أتركها تخرج الآن "
استل المفتاح ووضعه في جيبه والتفت له قائلا بجمود
" لن تخرج من هنا "
انفجر في وجهه غاضباً
" ما هذا الذي تقوله يا ابن شاهين ؟ بأي حق وأي صفة
تسجنها في منزلك وغرفتك ؟ فحتى كونها ابنة عمك لا يمكن
أن يكون سبباً والجميع لا يعلم بذلك فاتركها تذهب "
تجاهل كل ما قال وكأنه لا يشتعل غضباً أمامه وتمتم
وهو يبتعد جهة السلالم
" سأذهب لرؤية تيما ثم نخرج "
لحقه عمه قائلا من ورائه وبضيق
" رعد هنا وسيأخذها معه كما أن اللواء يعقوب
في الخارج فجنبنا الفضائح يا مطر "
وقف حينها وهو عند أول السلالم والتفت له ونظر له وقد قست
عيناه السوداوتان لتصبحا حجرين غاضبين وقال بحدة
" ما الذي يفعله ذاك الرجل هنا ؟ "
قال صقر بانفعاله الغاضب ذاته
" جلبه أنه جاء خلف صديقه الذي خرج راكضاً من قاعة
الاجتماعات وهذا ليس موضوعنا الآن "
صرخ حينها مطر خارجاً من كل هدوئه وبروده القاتلين
" بل جلبه أمر آخر تماماً تعلمه جيداً وأنا من سيضع حداً لكل هذا "
وما أن أنهى جملته تلك حتى نزل السلالم بخطوات شبه راكضة
فلحق به عمه سريعاً ونزل عتبات السلالم راكضاً خلفه وصارخاً
" مطر توقف عن الجنون "
ولحق به عندما أصبح في الأسفل ممسكاً بذراعه وموقفاً له مكانه
حيث تلك الأعين المحدقة بهما بصدمة وكانت لرعد وجوزاء وأبان
اللذان وصلا وقت وصول رعد
صرخ مطر ناظراً لرعد تحديداً والواقف في طرف بعيد عن
جوزاء ملوحاً بيده الحرة
فذراع يده الأخرى لازالت في قبضة عمه
" ما الذي تفعله وذاك الرجل هنا ؟ من أخبره ليأتي ؟ "
شد صقر ذراعه بكلتا يديه وصرخ من قبل أن يفكر
رعد في الإجابة
" مطر تعقل الرجل خارج أسوار المنزل في سيارته "
حاول سحب ذراعه منه بقوة ولم ينجح فنظر له صارخاً
" أنا من سينسيه الطريق إلى هذا المنزل ليفكر مجددا
ألف مرة قبل المجيء "
ترك صقر ذراعه بحركة عنيفة وصرخ فيه بحدة ناظراً
لعينيه الغاضبة
" ما هذا يا مطر يا رجل البلاد ؟ أهكذا تحل المشاكل
يا من قدت جيوشاً داخلها وخارجها بالحكمة والتروي ؟
هل ستكون أنت السبب في فتنة تدمرها من أجل امرأة ؟ "
صاح مطر ملوحاً بيده
" للجحيم البلاد وجميع من فيها "
جملته تلك أخرست كل شيء في ذاك المكان وحتى عمه
الذي كان يجهز سيلاً آخر من العبارات الغاضبة فلم يستطيع
تصديق ما سمعته أذناه ! هل مطر حقا من قال ذلك ؟
هل قال للجحيم الوطن ومن فيه ؟ .... الوطن !
الشيء الوحيد الذي كان يبديه على الجميع دون تفكير وضحى
من أجله بكل شيء حتى المرأة الموجودة في الأعلى !!
تحدث رعد مجتاحاً ذاك الصمت المشحون قائلا بهدوء
عاكس كل تلك الأجواء المضطربة والعاصفة
" عذرا يا زعيم فأنا ما دخلت إلا بإذن من السيد صقر
ويعقوب مـ.... "
قاطعه مطر بغضب مشيراً بإصبعه جهة الباب
" يعلم ذاك الرجل أن غسق هنا وأنك جئت من أجلها أم لا يعلم ؟ "
التردد في ملامح رعد كان جواباً كافياً تماماً جعله يشتعل
فوق اشتعاله وقد صرخ به بأمر
" يعلم أم لا يا رعد لا تكذب "
وكأنه يحتاج لتأكيد لفظي لما أصبح متيقنا منه
بل وكأنه يتوقع إجابة مغايرة حتى قال رعد هامساً
" بلى يعلم "
تحرك حينها جهة الباب فلم يكن عمه صقر فقط من لحق به
هذه المرة بل ورعد الذي وقف أمامه وأمسكه من ذراعيه وقال
بجدية ناظراً لعينيه
" هو لم يكن يعلم أنها هنا بل ضن أنها في خطر فقط ولحق بي ...
أقسم أن هذا ما حدث "
نظر له بصمت رغم أن حدقتاه السوداوتان تتقد غضباً وتنفسه
الغاضب يكاد يهشم أضلع صدره التي كانت تعلو وتهبط بقوة
فقال رعد
" سأطلب منه المغادرة ففكر في مصلحة غسق "
حرك ذراعيه بعنف ليتحررا من قبضتي رعد الذي أفلتهما سريعاً
وقال بغضب مشيراً بإصبعه للخارج
" هل أعلم ما السبب الذي جعل والدك يخبر هذا الرجل تحديداً
عن حقيقة نسبها ؟ هل كان ثمة اتفاق لتزويجها له ؟ "
قال رعد منكراً من فوره
" لا ليس لكل ذلك وجود ووالدي كان ملتزماً بالشروط التي
وضعتها وفرضها على الجميع ولم يخبره إلا من أجل حمايتها
من عائلة غيلوان ومن المدعو شعيب تحديداً في حال
حدوث أي طارئ "
ما أن أنهى رعد جملته تلك حتى تحدث صقر من خلفه
قائلا بحزم
" لا تجعل الأمر يتحول لمشكلة يا مطر وأنت تعلم ما ستكون
عواقبه فاترك الرجل يغادر وأنا بنفسي من سيتحدث معه في
الأمر لاحقاً "
قال مطر بحدة موجهاً حديثه للواقف أمامه
" أخبر ذاك الرجل يغادر الآن أو قسماً رميت جثته
لكلاب شوارع حوران "
قال رعد بنبرة لم يخفى التوجس والتردد فيها
" لن يبقى هنا فاتركني آخذ شقيقتي ونغادر "
قال ناظراً حوله وكأنه لم يسمعه " أين تيما ؟ "
تحدث صقر مجدداً
" تيما في غرفتها فاترك غسق تغادر يا مطر من أجل
سلامتها فلن يتأذى أحد غيرها وأنت قبلها بوجودها هنا
بدون صفة شرعية "
نظر له مطر نظرة كفيلة بقتل أي رجل دون سلاح
فحرك رأسه وقال بحزم ونفاذ صبر
" لا جدوى من كل ما تفعله يا مطر فلا تحرق كل شيء مع قلبك "
رمى قبضته في الهواء دون أن يعلق وكأنه يحارب الجميع
حوله ثم استدار عائداً للأعلى
ولا يعلم أحد ما قرر وما سيفعل حتى إن كان ذاك القرار
أن يبقيها وهو معها في الأعلى
فكل ما فعله أن صعد مخلفاً صمتاً قاتلاً بعد كل تلك الأعاصير
الغاضبة والصراخ وأعين تحدق ببعضها بصمت متوجس
حتى كسر أبان ذاك الصمت قائلا بابتسامة
" دعوني أرى إن كانت تلك الحسناء التي أذكر لازالت تستحق
كل هذه الحروب الهوجاء "
نظر له صقر بضيق بينما يد جوزاء من كانت تفعل
حين قرصته في خصره بقوة هامسة بغضب
" لو بقيت صامتا يا ابن والدتك "
فرك خصره متألما وهمس مثلها
" عامليني كرجل أمامهم على الأقل "
نظر صقر جهة رعد قائلاً
" اتصل بذاك الرجل وأخبره أن يغادر فإن علم مطر
بأنه لازال هنا لن يتركها تغادر وإن اشتعلت البلاد "
أومأ رعد برأسه موافقاً وأخرج هاتفه وابتعد عنهم
ونظر صقر يتبعه متنهداً بضيق فهو من شهد ذاك المشهد
الذي هجم فيه مطر على ذاك الرجل ولن يستبعد أن يفعل
أي شيء الآن إن فكر المدعو يعقوب في التدخل غير مكترث
بأحد كالمرة السابقة فلا مأمن من عناد وشجاعة ذاك اللواء
ولا غضب ابن شقيقه وعشقه التملكي لتلك المرأة .
أنهى رعد المكالمة ووقف قريباً من جهة الباب وطال صمتهم
بطول انتظارهم لا أحد يمكنه التكهن بما يحدث في الأعلى
فلن يكون كل هذا الوقت فقط ليفتح لها باب الغرفة .
كان صقر سيتحرك جهة السلالم
مجدداً فوقف مكانه حين وصل لسمعهم صوت كعب الحذاء
النسائي ثم ظهرت تلك الساقان والبنطلون النسائي الأسود تنزل
عتبات السلالم وانكشف سريعاً جسد تلك المرأة الملتف بمعطف
أنيق ثم وجهها الذي تعلقت الأنظار به وهي تعاود لف حجابها
الأسود الذي دخلت وهو محكم اللف وصولا لعيناها المحمرة
من أثر البكاء الذي سبق وأقسمت أن لا يروه مجدداً وصلت آخر
السلالم وهي تمسح جفناها ووجنتيها من أثر تلك الدموع ووقفت
ونظرها على شخص واحد فقط وكأنه لا أحد غيره في المكان
وهمست ببحة تنظر له بضياع
" رعد !! "
تقدم نحوها دون تردد حتى وقف أمامها ومد يده لخدها
ومسح الدمعة التي تدحرجت عليه قائلا
" هيا يا غسق سنغادر من هنا "
حركت رأسها برفض هامسة
" لن أذهب "
*
*
*
سحبته معها ممسكة يده حتى أجلسته على الكرسي
حول الطاولة المستديرة التي تتوسط المطبخ الريفي
الفخم المفتوح وقالت وهي تتوجه للخزانة
" أنا من سيعد لك القهوة "
وتابعت وهي تفتح إحدى الرفوف وتخرج علبة حفظ البن
" كنت عائدة من برايتون ومن زيارة لصديقة لي
ومتجهة للندن فخطر لي أن أتوقف في طريقي لرؤيتك "
والتفتت له وقد خبى حماسها حين وجدته منشغل
برؤية الأشجار في الخارج وكأنه لايسمعها فقالت
بشيء من خيبة أمل
" أتمنى أن لا تكون زيارتي قد أزعجتك
فهي لن تطول لأكثر من دقائق "
نظر لها ثم للمزهرية الخزفية على الطاولة وقال
" لا لم تزعجني زيارتك لكني أخبرتك أنه لا أحد يعلم
عن وجودي هنا "
توجهت لآلة صنع القهوة وقالت وهي تضع البن والماء
" أجل وأنا لم أخبر أحداً عن زيارتي هذه فعائلتي يعلمون
فقط أني ذاهبة لبرايتون ولم أخبرهم بأني
سأزور منزلنا الريفي "
أومأ برأسه موافقاً دون أن يتحدث ولا أن ينظر ناحيتها
فسحبت الكرسي المقابل له وجلست قائلة بهدوء
" علمت أنك في إجازة من مكتب المدعي العام فخمنت
أنك ستكون مستقراً بشكل تام هنا ,
هل أحوال ابنة عمك سيئة لهذا الحد ؟ "
نظر جانبا وهمس بجدية
" لحد ما "
حركت كتفيها بقلة حيلة وقالت
" يبدوا مزاجك سيئاً للغاية "
وتابعت وهي تقف
" سأتركك الآن فأجب على اتصالاتي وقاص أريدك في
أمر يتعلق بعملي "
كانت تتأمل بيأس أن يطلب مكوثها وأن يرفض
فرضيتها تلك بأنه لا يريدها هنا
لكنه لم يفعل مما حطم أمالها التي لم يتركها ترتفع يوما
ولو بنسبة ضئيلة ,
دارت حول الطاولة حتى وصلت عنده قائلة
" سأترك لك القهوة تنهي إعدادها بنفسك "
رفع رأسه لها ناظراً لعينيها وهمس بابتسامة مائلة
" آسف إيلين مزاجي بالفعل سيء للغاية وأنا نفسي لا أعلم لما "
ابتسمت له فوراً ومالت ناحيته وطبعت قبلة سريعة على خده
وتحركت خارجة من المطبخ قبل أن يعقل قائلة
" لا تقلق أبداً بشأن هذا فلن أغضب منك .... وداعاً "
وأخذت حقيبتها وخرجت من هناك في صمت فمرر أصابعه
في شعره ودفن رأسه بين يديه وهو يشعر بأنه لحظات
وينفجر من شدة الألم في صدغيه ,
صوت رنين هاتفه البعيد جعله يرفع رأسه ثم وقف
وتوجه لآلة صنع القهوة وسكب فنجاناً منها ثم توجه
جهة الهاتف الذي عاود الرنين مجدداً وجلس على الأريكة
ورفعه وأجاب فوراً
" أجل يا رواح "
*
*
*
نظر لها رعد بصدمة شاركه فيها صقر وجوزاء
بينما أبان لازال ينظر للجميع
مستغرباً مما يجري هنا , خرج رعد من صمته قائلا باستغراب
" غسق أنــ ........ "
قاطعته تنظر حولها وكأنها تبحث عن أحد غير الموجودين هناك
" سأرى ابنتي أولاً ؟ "
تنهد صقر من تجاهلها لهم وقال
" مؤكد ستكون في غرفتها وهي غرفتك السابقة
يا غسق , ألن تسلـ..... "
بتر جملته تلك حين تحركت من مكانها جهة الممرات الشرقية
للطابق دون أن تلتفت حتى لما كان يقول ولم تتوقف إلا عند باب الغرفة الذي فتحته بهدوء ودون أن تطرقه
متجنبة النظر لتفاصيل الغرفة التي حتى طلائها لم يتغير كما مع
باقي المنزل
فنظرت جهة السرير فقط وحيث الجسد المختبئ تحت اللحاف
فوقه لا يخرج منه سوى صوت البكاء المنخفض والعبرات
المكتومة التي مزقت قلبها بألم وتلك الكلمة الوحيدة التي
كانت تنطقها بتكرار وأنين " أمي ..... أمي "
مسحت دمعة جديدة تدحرجت من جفنها المرتفع وتوجهت
جهة السرير الذي عرف دموعها أيضاً منذ أربعة عشرة
عاماً مضت , السرير ذاته الذي بكت وسط أغطيته
ستون يوماً وليلة وهي تحملها في أحشائها مرمية هنا
منبوذة من الرجل الوحيد الذي عشقته حد تنفسه مع الهواء
الداخل لجسدها في كل ثانية .
وصلت عندها وجلست على طرف السرير بهدوء ومسحت
بيدها على كتف المختبئة حتى الآن تحت الأغطية القطنية
السميكة هامسة بحزن " تيما "
قفز حينها ذاك الجسد جالساً مبعدة اللحاف عنها ودون مقدمات
ارتمت في حضنها تبكي بعبرات تخرج من أعماق قلبها متمسكة
بذاك المعطف الأسود بقوة ومتشبثة به كطفل يخاف
فراق والدته وكأنها تخشى أن تضيع منها مجدداً رغم أنها كانت
تطوقها بذرعيها بقوة وتضمها لصدرها وليست تعلم أيهما
الاثنتين كان عليها أن تخاف فراق الأخرى وتذوق أن تحرم
منها مجدداً ؟
مسحت على شعرها الناعم وهمست بحنان خالطته بحة
بكائها الصامت
" يكفي بكاء بنيتي دعينا نتحدث قليلا قبل أن أغادر من هنا "
ابتعدت عنها وأمسكت يدها وقبلتها قائلة ببكاء
" آسفة أمي أقسم لم أقصد أن أرفضك أبداً "
ثم رفعت رأسها ونظرت لعينيها السوداء الدامعة
وتابعت بذات بكائها
" لم أقصد ما فهمته أمي أقسم لك أنا فقط أردت أن ... "
قاطعتها ماسحة على خديها تكفف دموعها المتدفقة
" أفهمك يا تيما فعديني أن تزوريني دائما صغيرتي "
ارتمت في حضنها مجدداً وكأنها لم تبكي حياتها
تكره أن تخرج والدتها من هنا وأن لاتراها وإن ليوم واحد
وإن كانتا في ذات البلاد ولا سبيل لإقناعها بالبقاء هنا على ما يبدوا
فمن الواضح أن أملها المعلق بوالدها مات سريعاً وأن رجوعهما
معاً مجدداً بات مجرد أمنية
تعيسة كأمنيتها السابقة بروية النائمة في حضنها الآن
والتي احتاج تحقيقها لكل هذه الأعوام الطويلة .
أبعدتها عنها مجدداً وأمسكت وجها وقبلت خديها ثم نظرت
لعينيها المجهدة من كثرة البكاء ولحدقتيها الزرقاء الواسعة
وهمست مبتسمة بحزن
" كلما أردت رؤيتي اطلبي ذلك من والدك وإن لزم الأمر
سأرسل بنفسي من يأخذك لمنزلي وإن كان خالك
رعد حسنا بنيتي ؟ "
عادت دموعها للنزول مجدداً وهي تومئ برأسها موافقة
تزم شفتيها بقوة تمنع عبرتها من الخروج فعادت لمسح
خديها مجدداً بباطن كفها قائلة " هيا يكفي بكاء ...
أريدك كوالديك قوية دائماً يا تيما فالحياة مليئة بالتقلبات
وأنتي لم تري منها شيئاً بعد والرجال يكرهون المرأة الضعيفة
ونهايتك تحت ظل رجل مهما طال بك العمر "
أمسكت كفها الدافئ بقوة بكلتا يديها وهمست ببحة ناظرة لعينيها السوداء الفاتنة الواسعة
" أريدكما أنتما لا أريد أي رجل فالرجال أي واحد منهم
يأخذ مكان الآخر أما أنتما فلا يكفيني أن أراكما بخير وأن
لا أبكي أحدكما يوماً "
ابتسمت من بين حزنها ومسحت على طرف وجهها وشعرها .
هذه بالفعل ابنة مطر شاهين
أخذت منه الكثير , لو كانت تشبهها هي لما انتظرت حتى الآن
ولكانت ذهبت لها وإن متسللة بالخفية .
لكانت أعند من أن تفكر بروية وأن تحسب حساباً للنتائج
المترتبة على أي قرار تقرره , بذلك ستكون ابنة غسق فقط لكن
هذه لا لم تأخذ عيوب والدتها لذلك لن تخشى عليها
حتى إن أصبحت يوماً تحت جناح رجل غير والدها .
وقفت ونظر الجالسة على السرير
معلق بها تقرأ في كل نظراتها ودموعها الصامتة
ما تريد قوله وتعجز عن الحديث عنه لذلك سبقتها قائلة
" تيما ما بيني وبين ووالدك يصعب شرحه والحديث عنه
ففكري فقط بأننا كما تريدين موجودان في الحياة .
غير ذلك سيتعبك التفكير فيه بنيتي لأنه بات يشبه
مزج الماء بالزيت "
انفرجت شفتها وكانت ستتحدث ودموعها لا تزداد إلا نزولاً
فقاطعتها قائلة وهي تغادر
" أراك قريبا يا تيما "
وخرجت مغلقة الباب خلفها وتركتها لبكائها الذي عادت تدفنه
في وسادتها فلم تعد تقوى على فراقها أكثر ولا يمكنها ترك
والدها .. ذلك أبعد ما قد تفكر فيه
وأملها الميت في رجوعهما معا مجدداً بات يقتلها
بدلا من أن يحييها , بكت لوقت حتى لم يعد يمكنها
البكاء أكثر من ذلك وحتى بات قلبها الصغير مقتنعا
بواقعها الجديد ثم جلست وغادرت السرير والغرفة
وذاك الممر الطويل حتى كانت في بهو المنزل ونظرت
للواقفين هناك والدها وعمها صقر وامرأة لا تعرفها يقف
شاب طويل بجانبها لم تركز على ملامح أي منهما فنظرها كان
على الذي شعر أولاً بوجودها ونظر لها بصمت فركضت نحوه
فوراً وارتمت في حضنه مطوقة خصره بذراعيها النحيلان
وقالت ببكاء
" شكراً أبي ...شكراً لما فعلته فما كنت أتخيل بأني سأراها مجدداً "
مسحت يده على شعرها دون أن يعلق على ما قالت فرفعت رأسها ونظرها لعينيه المحدقة بعينيها وهمست ببحة بكاء
" لما لم تقنعها بالبقاء ؟ كنت قادراً على ذلك فلما لم تفعلها ؟ "
كانت تأمل في أن يشرح لها كل تلك الأسباب التي جعلته
يجرحها ويتخلى عنها , كانت تأمل في أن يشفي القرب الجراح
وأن تتغلب المشاعر الدفينة على كل ما فعلته السنين والظروف
لكن ظنونها خانتها هذه المرة وبقسوة , شعرت بقلبها يعتصر ألماً
ليس بسبب صمته عن الإجابة إنما بسبب النظرة التي رأتها
في عينيه وكم شعرت حينها بأنه يخفي الكثير خلف صمته وأكثر
مما كان يخفيه في داخله كل تلك الأعوام , لم ترى سابقاً العجز والحيرة في نظرته كما الآن فشعرت بقبضة من جليد اعتصرت
قلبها
" سلمي على عمتك يا تيما "
جملته تلك لحقت نظرته التي ابتعدت عن عينيها حيث الواقفان
جانباً فنظرت حيث قال وللمرأة التي ابتسمت لها فوراً وقد فتحت
ذراعيها قائلة بضحكة صغيرة
" ما شاء الله كل هذه الحسناء ابنتك يا مطر ؟! "
تحركت حينها نحوها تبادلها ابتسامة صادقة معبرة رغم أن الحزن وأثار البكاء قد شوهت جمال تلك الابتسامة البريئة وما أن وصلت عندها حتى نامت في حضنها قائلة بسعادة
" عمتي جوزاء ... ما اسعدني برؤيتك , أنا آسفة حقا فلم أنتبه "
طوقتها جوزاء بذراعيها سريعا وقالت ضاحكة
" لا بأس فوالدك لم يراني قبلك ويبدوا أن الأمر متوارث "
حمحم ذاك الصوت الرجولي بجانبها وقاطعهما أبان قائلا
" يبدوا أنه دوري فعرفوا
ابنة خالي المهاجر على ابن عمتها الوحيد "
ابتعدت عنها ونظرت ناحيته على صوت جوزاء قائلة ببرود
" لم تعد تحتاج لأن نعرفها عليك فقد قدمت التقرير مفصلاً
ونسيت أنه يوجد شقيق لك أكبر منك "
مدت تيما يدها ناحيته قائلة بحياء
" مرحباً "
صافحها فوراً قائلا بابتسامة
" مرحباً يا تيما أنا أبان سعدت جداً بلقائك يا ابنة خالي الوحيد "
ونظر لوالدته بطرف عينه قائلا بابتسامة
" لم أخطئ هذه المرة أليس كذلك ؟ "
نظرت جوزاء للسقف متمتمه بشيء لم يفهمه أحد منهم وسحبت تيما يدها وهمست
معتذرة وهي تغادر " نسيت حجابي في الغرفة .... عذراً منكما "
وابتعدت مسرعة ما أن اقتربت من الممر الذي خرجت منه
فنظرت جوزاء جهة مطر وقالت مبتسمة
" ما كل هذه العروس الفاتنة ؟ "
وتابعت تنظر للواقف بجانبها بطرف عينها
" لو لم يكن ابني الوحيد ثمة من سرقت قلبه
لكنت زوجتها له في أقرب وقت "
نظر لها أبان بصدمة بينما ضحك صقر فوراً وجاء التعليق
الوحيد من مطر الذي قال بجمود
" ولا ابنك له نصيب لدينا فابنتي عريسها جاهز سلفاً
ولن تخرج من قبائل الحالك "
نظر الجميع له بصدمة فجوزاء لم تعني ما قالت بل كانت تأخذ
الأمر بفكاهة فقط كما اعتقدت أن الجميع قد فهم ! كان صقر من
علق على الأمر قائلاً
" أنت مطر آخر من توقعت أن يكون تفكيره متعصب هكذا ؟
ما الفرق بين أن تتزوج من الحالك أو من غيرها ؟ "
قال أبان وكأن الأمر الوحيد الذي يعنيه هو ما سيقول
" لكنها صغيرة ؟ أنت لست تقصد الوقت الحالي أليس كذلك ؟ "
علقت جوزاء من فورها قائلة
" أنا كنت أمزح فقط ومؤكد مطر مثلي "
تحرك حينها مطر جهة باب المنزل قائلا ببرود
" أنا لم أكن أمزح .... أراك لاحقاً يا جوزاء "
وغادر من فوره ولحقه عمه صقر بعدما رفع يديه متنهداً
باستسلام وما أن اختفى خارج الباب نظرت جوزاء للواقف
بجانبها وقالت
" ثمة امرأة أريد زيارتها هنا فخذني لها قليلاً لأرجع لابنة شقيقي "
نظر لساعته وقال
" لديا بعض المشاوير أيضا لن تؤخريني يا أمي اتفقنا ؟ "
رفعت حقيبة يدها وقالت
" لن أعطلك فيمكنك تركي عندها لساعة أو اثنتين فلا تتحجج "
*
*
*
انتهت من ارتداء ثيابها وتوجهت للمرآة مشطت شعرها سريعاً
ورتبته جيداً ثم رشت بسخاء من عطرها المفضل وأخذت
حقيبتها وخرجت من الغرفة وتوجهت جهة المطبخ
حيث صوت غليان آلة إعداد القهوة ورائحتها الشهية تفوح
في المكان فهذا ما ينقصها الآن فعلاً كوب ساخن لتستعد
ليومها هذا فكل ما يلزمها هو بعض الحظ لتوفق فيما
تنوي فعله ولتتخلص من هذا المكان والرجل نهائياً .
وقفت عند باب المطبخ ولوت شفتيها بامتعاض ما أن وقع نظرها
على الجالس على الطاولة نظره على صحيفة في يديه .
نقلت نظرها منه للواقفة عند المغسلة وقالت ببرود
" سأخرج فابيا وقد أتأخر قليلاً وكما اتفقنا إعداد الغداء
هي وضيفتك اليوم "
توقعت تعليقاً من الجالس هناك والذي قد خان توقعاتها
ولم يرفع نظره من صحيفته أبداً
وهذه بداية جيدة فلم تتوقع أن لا يحقق معها ويبدوا أنه يختلف
عن شقيقها مطر كثراً
وهذا ما لم تكن تتوقعه , لكن أملها هذا خاب سريعاً حين قال
ببرود ولم يبعد نظره عن الجريدة
" كوني حذرة فوكالات التوظيف ليست جميعها نزيهة "
نظرت له بحنق سرعان ما غيرت اتجاهه للواقفة هناك والتي
ابتسمت لها ابتسامة كرتونية واسعة فهمست متوعدة لها
" لن أفوتها لك فابي "
وغادرت من فورها متجاهلة نداء تلك
" جيسي ماذا عن كوب القهوة ؟ "
وخرجت من الشقة ضاربة بابها خلفها بقوة , ما أن تحصل
على الوظيفة ستستأجر شقة أخرى وتنتقل للعيش فيها
ولن تحتاج لذاك الرجل ولا لماله ولا شقته تلك .
لن تحصل على واحدة تساوي ربع فخامتها ورقي هذا الشارع
لكنها ستستقل بنفسها وهذا هو المهم وللجحيم حينها هو وماله
وخطوبته المزعومة تلك .
ركبت سيارتها التي تستغرب أنه لم يتم سحبها منها أيضاً
مع الشقة والراتب الشهري ولا تستغرب أن تكون بيعت
أيضاً لذاك الرجل ودون علمها فهي من أملاك شقيقها أيضاً .
عبست ملامحها وهي تغادر موقف السيارات الخاص
وشعرت بالقهر من نفسها قبل الجميع ..
أيعقل أنها عالة على شقيقها لهذه الدرجة ؟
لما تكتشف هذا الآن فقط وهي من تعلمه جيداً ومن أعوام
ولا تهتم له ؟
وفاة والدتها غيرت من طباع مطر ناحيتها كثيراً وكأنه كان
يفعل كل ذلك من أجلها ومراعاة لها فقط ولا تنكر أنها استغلتها
في أوقات كثيرة لتحصل منه على ما تريد فهو كان يحترمها
كثيراً مثلما تقدره هي وتحبه وكأنه ابنها .
تمتمت تحرك المقود يميناً
" كل ذلك سيتغير من الآن وصاعداً جيسي اطمئني "
شعرت بدفعة كبيرة من التفاؤل والثقة عند وصولها لتلك النقطة
فستشعر بالاستقلالية ولأول مرة في حياتها وكم كان شعوراً مميزاً
ومن قبل أن تجربه , نزلت من سيارتها عند باب مبنى الوكالة
التي نظرت لها باستصغار فلم تتوقع أن تكون مكتباً صغيراً
متهالكاً هكذا !
فتحت حقيبتها وأخرجت قصاصة الصحيفة وتأكدت مجدداً
من العنوان والاسم وكان ذاته فرفعت كتفيها بعدم اكتراث
وتوجهت نحو الباب المفتوح فما يهم في الأمر هو الوظيفة .
ما أن دخلت حتى قابلها مكتب صغير تجلس خلفه فتاة بشعر
أشقر تنكس رأسها على مجموعة أوراق وتبدو مستاءة من البحث
عن شيء ما , حمحمت قليلا فرفعت تلك رأسها
فاقتربت منها قائلة بابتسامة
" صباح الخير جئت من أجل طلب وظيفة "
حركت رأسها بتلقائية وكأنها مبرمجة على ذلك وقالت
" هل جئت من أجل وظيفة محددة أم لا ؟ "
قالت من فورها
" بل الوظيفة في الإعلان ,علمت أن مكتبكم هو الوسيط الوحيد لها "
أشارت بالقلم في يدها للباب المغلق قربها قائلة
" تفضلي مكتب السيدة غولدر من هنا وهي من سيساعدك في ذلك "
ثم عادت لأوراقها وما تفعل فحركت كتفيها وتوجهت للباب الذي
أشارت له طرقته طرقتين متتاليتين ثم دخلت حيث السيدة برونزية
البشرة التي ابتسمت لها فور أن رفعت نظرها من حاسوبها قائلة
" تفضلي سيدتي بما أخدمك ؟ "
توجهت نحوها وصافحتها قائلة
" جئت من أجل إعلان الوظيفة الذي أدرجتموه صباح اليوم "
أشارت لها لتجلس ففعلت فوراً وقالت تلك
" الأفضل أن تتركي لنا خيار البحث لك حسب مؤهلاتك
فتلك الوظيفة شروطها لم تتماشى مع كل من تقدمن لها
ورفضن الموافقة عليها جميعهن "
ضغطت قبضتيها ببعضهما بقوة وقالت بقلة حيلة
" لكني أحتاجها وسأرى الشروط ثم أحكم "
حركت كتفيها قائلة
" يبدوا لي من ثيابك أنك سيدة راقية لا ينقصها المال
ولن أتخيل أن توافقي لكن لابأس "
فتحت درج مكتبها وأخرجت منه ورقة ومدتها لها قائلة
" يمكنك الاطلاع عليها "
وما أن أمسكت الورقة منها حتى عادت تلك للعمل على حاسوبها
فنظرت سريعاً للمكتوب فيها وزمت شفتيها ما أن قرأت أول
شرطين وكان حماسها يخبوا كلما تعمقت في تلك البنود
أكثر فأنزلت الورقة لحجرها تقبض على طرفها بأصابعها بقوة .
هذا تعجيز وليس شروطاً !!
هل ثمة من يُنفر المتقدمين لوظيفة لديه هكذا ؟
أي مختل عقلي هذا الذي كتبها ! هل خسرت حقا فرصة
وظيفة كهذه لن تحتاج معها لمؤهلات وبراتب سخي ؟
أي لن يكون ثمة حل أمامها سوى العمل كمدبرة منزل
أو بائعة في أحد المتاجر .
تلك الوظائف لن توفر لها ولا مصروفها الشخصي ومع التقشف
أيضاً فأين أجار الشقة والطعام ؟؟ سحقاً لها لم تكره ما فعلته
بنفسها كما الآن , أكان عليها أن تعتمد على أموال شقيقها
درجة أن تهمل التفكير في مستقبل قد لا يكون موجوداً فيه ,
كم نصحتها والدتها بأن لا تهمل دراستها وأن سخاء شقيقها
معها قد لا يدوم لها طويلاً لكنّ عنادها لكبته الدائم لها جعلها
توصل نفسها لكل هذا وكانت هي المتضرر الوحيد
ولم يخسر هو شيئاً , تنهدت بضيق وصل للتي انسجمت
مع حاسوبها درجة أن نسيت وجودها مما جعلها ترفع رأسها
وتنظر لها وقالت مبتسمة
" يبدوا أن النتيجة واحدة ؟ "
نقلت نظرها منها للورقة في يدها ثم رفعته لها مجدداً
وهمست بحزن
" بل موافقة "
*
*
*
نزلت من سيارتها ونظرت للذي نزل أيضاً من سيارته التي ركنها
قربها ومن تغلبت عليه بعنادها رافضة أن يوصلها بنفسه لمدينة العمران وأن تترك سيارتها هناك حتى يرسلوا من يجلبها ورفض
هو أن يلحق بالاجتماع ويتركها ترجع لوحدها ,
أغلق باب سيارته ونظر لها فقالت من قبل أن يتحدث
" هل نترك الحديث في الأمر لوقت آخر ... رعد أرجوك "
حرك رأسه وتنهد قائلاً
" لا أريد لومك على ما تقررين يا غسق فأنتي امرأة ناضجة
واعتدتِ أن تتخذي قراراتك الشخصية بنفسك وبحكمة وتروي
لكنَّ كَوني لست شقيقاً لك لن يمنعني من قول أنك تهورتِ
يا غسق وكدتِ تتسببين بمشكلة تبعاتها لن تنتهي "
تنفست نفساً عميقاً وتعلق نظرها بالسماء البعيدة خلفه
قبل أن تتمتم بحزن
" ليتك شقيقي وليت والدك والدي ولست أنتمي لهم , لم أتخيل
يوماً أن أكره الحقيقة التي بحثت عنها لأعوام ودفعت ثمناً غالياً
من أجل معرفتها ولازالت تبعاته تلاحقني حتى اليوم "
شعر بالألم ليس بسبب كلماتها فقط بل وتلك الدمعة التي ملأت
عينيها وهو يرى اولى حصون شقيقته المنيعة تنهار بعد كل
هذه الأعوام من الصبر والصمت والصمود
وفهم وقتها أنها بالفعل تحتاج لأن لا تتحدث عن الأمر حالياً .
قال بهدوء
" لن نتحدث الآن لكن لنا حديث طويل في وقت قريب يا غسق "
لم تعلق وقد نظرت لهاتفها الذي علا رنينه وأسكتته ثم عادت
لدسه في جيب معطفها
فقال ببعض التردد
" غسق كان ثمة ما أريد أن أخبرك به اليوم و.... "
سكت فجأة ونظر للأرض بصمت فقالت بريبة
" ماذا هناك يا رعد ؟ "
وتابعت فوراً وبصوت أجش متوجس
" ما به رماح ؟ "
رفع نظره لها فوراً ولعينيها التي عادت سُحب الدموع لتغشوها
مجدداً ولم يستغرب أن تفهم أن الأمر يخصه فهي ذاتها لم تتغير
تشعر بكل واحد منهم وتفهمه دون أن يتحدث , تنهد بعمق وقال
" سيغادر المستشفى قريباً وقد تحدثت مع المسئولين في
وزارة الصحة عن نقله هنا للبلاد في وقت قريب "
كان يفترض بهذا الخبر أن يسعدها لكن قلبها الذي انقبض
بشدة وهي تنظر لملامحه ولنظرته المشتتة لم يترك للسعادة
مجالاً لتجتاحه فهمست بصعوبة
" ماذا هناك يا رعد ؟ "
مرر أصابعه في شعره حتى شده للخلف فعليه أن يخبرها وأن
تعلم منه قبل غيره فالخبر سيصل لها بسرعة البرق , استجمع شجاعته وقال بحزن
" تقرير الأطباء يقول أنه لن يتمكن من المشي مجدداً "
شعرت بشيء ما ضرب جسدها بقوة وانزلقت دمعتها رغماً
عنها وشعرت بالأرض تحتها تتحول لشيء يشبه الماء فتمسكت
بطرف الباب بصعوبة حين لم يعد يمكنها رؤية شيء ولا الذي قفز راكضاً جهتها وهي تتهاوى للأرض صارخاً
" غســــــــــق "
*
*
*
ما أن غادر الواقفون حوله حتى اقترب منه قائلا
" وصل أغلب كبار قبائل صنوان , لا أعلم لما أشعر أن الاجتماع
بهم لا يبشر بخير أبداً "
قال مطر بجدية
" الأغلبية لا يفكرون سوى في تجنيب أنفسهم وغيرهم الحرب
لكننا لن نعول عليهم كثيراً فالبعض لن يلتفت لما ستقرره
القبيلة وسيتحجج كبارهم بأنه لا حكم لهم على شبابهم المتهور
وطالما أنهم يؤوون تلك الزمرة من رجال الجيش المنشقين
لديهم فلا مأمن منهم أبداً "
تنهد صقر متمتما
" لا أعلم كيف خرج ذاك الرجل من صلب شراع صنوان ؟
والغريب في الأمر أنه لم يكن هكذا في الماضي بل كان ذراع
والده القوية "
قال الواقف أمامه فوراً وبحقد لم يستطع إخفائه
" ذاك حسابه ليس مع المحاكم العسكرية بل معي أنا فقط ومصيره
في قبضتي لا محالة ولن تمسكني عنه لا صنوان ولا غيرها "
نظر له صقر مستغرباً فقال قبل أن يعلق
" أريدك أن تكون على اتصال بقاسم وتتولى مهمة دخوله البلاد ,
سأكون مشغولاً الأيام القادمة وستتولى أنت السفر له هناك "
حرك صقر رأسه موافقاً دون أن يعلق وقال بعيداً عن الموضوع
" كنت أريد التحدث واللواء يعقوب بشـ.... "
قاطعه مطر من فوره
" لا داعي لذلك "
نظر له صقر لبرهة مستغرباً ثم قال
" هل تحدثت معه ؟ "
قال بتهكم شديد
" لا ولن أفعلها "
قال الواقف أمامه وبريبة
" ما الذي حدث بينك وبين غسق ؟
هي من أنهى الموضوع أليس كذلك ؟ "
تنفس بعمق ونظر للبعيد حيث تجمع البعض من رجاله وقال
" تجاوزنا الموضوع وانتهى كما انتهى الحديث عنه أيضاً "
حرك صقر رأسه بنفاذ صبر , يدفع باقي عمره ويعلم ما جعله
يقنعها بكل ذلك وتيما من أخبرته أنها كانت راحلة وغاضبة
منها هي أيضاً ؟! قال بهدوء
" حسناً لكن تيما ماذا بشأنها ؟ لا تتخذ ابنتك ورقة ابتزاز
يا مطر , لا أتخيلك من هذا النوع أبداً "
نظر له وقال بحزم
" عمي تيما ليست ورقة يبتز بها أي منا الآخر وليست لعبة
بيننا أيضاً كما أنها لن تكون لا معي ولامع والدتها , وشن
الحروب بيننا من أجلها أمر تافه لا يمكن التفكير فيه "
قال صقر مستغرباً " وأين ستكون إن لم تكن معك ولا معها ؟ "
قال مباشرة وببرود " مع زوجها طبعاً وحيث مكانها الطبيعي "
نظر له عمه بصدمة ويعلم أن التعليق على الأمر لن يغير في
أفكاره وقراراته شيئاً ويبدوا أنه كما قال سابقاً لم يكن يمزح
في حديثه لشقيقته , زم شفتيه بضيق حين توصل لفكرة ما
عن سبب هذا القرار الجنوني ثم قال
" مطر أحذرك فكسر امرأة بامرأة أخرى لا ينجح دائماً
فكيف إن كانت تلك المرأة غسق "
عقد الواقف أمامه حاجبيه ونظر له بصمت للحظة
قبل أن يقول بحزم
" أكسرها بامرأة أخرى ؟ "
حرك رأسه بحركة لم يفهمها ثم تحرك من أمامه قائلا بجدية
" لا تقلق فلن تنام امرأة غيرها على أضلع عرفتها هي تحديداً "
وغادر مجتازاً له حيث الواقفين هناك وهو يتبعه بنظراته حتى
انظم لرجاله وغادروا معاً فتحرك أيضاً من هناك متمتما بضيق
" لما العناد إذاً يا ابن شاهين ؟ "
*
*
*
ابتسمت بحزن وحنين وهي تمسح دموعها وهمست ببحة
" كنتم محظوظون حقاً بالعيش معها "
ابتسمت جوزاء قائلة
" لم نعرفها إلا لأشهر لكننا لم نرى فيها إلا امرأة لا مثيل
لخلقها وصبرها وحكمة تصرفها , من عاش معها حقاً وعرفها
هم عائلة شراع صنوان والدليل حبهم الا محدود لها حتى اليوم
فلطالما كانت مدللة والدها الذي رباها وعشقُ أشقائها
لا يرفضون لها طلبا ولا يقبلون فيها لومة لائم "
وماتت ابتسامتها فجأة وتنهدت بحزن متابعة
" لكن كل ذلك تغير منذ علمت عن حقيقة نسبها حتى أنها لم تعد
تستقبل اتصالاتي ولا ترحب بزيارتي لها رغم أنها لم تتغير
ناحيتي بعد رحيل والدك بك , هي باتت تلوم الجميع رغم أني لم
أعلم بالأمر إلا قبل وفاة عمتي نصيرة بقليل "
تمتمت تيما بحزن مماثل
" هل كانت ستكون أحرص من الجميع على نفسها ؟
ما كانت لتعرض نفسها للخطر لو علمت , ليتهم أخبروها
لتغير الكثير في كل هذا الوضع الآن "
قالت الجالسة مقابلة لها من فورها
" والدك كان رافضاً للأمر بشدة , ذاك ما فهمته من عمي صقر
لاحقاً وكان حذراً جداً ومحتاطاً والأهم لديه أن لا يعلم أكثر من
عدد اللذين يعلمون بالأمر وقتها ولم يكن يتعدى الأربعة أشخاص
إن أضفنا لهم المرأة التي أولدت والدتها "
ترقرقت الدموع في عينيها الزرقاء الواسعة مجدداً وهمست بعبرة
" ألا أمل في أن يرجعا معاً كما الماضي عمتي ؟ أنتي قلتِ بنفسك
أن علاقتهما كزوجين كانت قوية ومختلفة "
مسحت على شعرها بحنان قائلة
" تيما لن يستطيع فعل ذلك لا أنا ولا أنتي ابنتهما ولا أحد سواهما
وحدهما , ثمة أمور حدثت لا أحد يعلم عنها غيرهما صنعت على ما
يبدوا فجوة صعب على الزمن محوها وحتى تقليصها , كل ما يمكنك
فعله الآن أن تعوضيها فقدها لك كما تحتاجينها أنتي وأكثر من ذلك
فلن يفهم شعور الأم التي تحرم من فلذة كبدها إلا من جربت مثلها
وهو أمر لا أتمناه لامرأة في الوجود لأني سبق وجربته "
مسحت دموعها وأومأت برأسها موافقة وهمست
" ليتني أراهما معاً من جديد , هذا فقط ما أريده من الحياة , والدي يستحق فعلاً امرأة تفهمه .. يحتاج لحنان امرأة ولقربها ... ذاك شيء هو أعظم من أن يطلبه لكنه يحتاجه فعلاً "
ابتسمت الجالسة أمامها قائلة
" ما أكبر عقلك وتفكيرك يا تيما , لن أستغرب أن تكون ابنتهما
هكذا فتحلي بالصبر وما أراده الله سيكون بالتأكيد "
طرقات خفيفة على باب الغرفة قاطعت حديثهما ذاك وقد تلاها
صوت أبان منادياً
" أمـــــي "
" قـــادمة "
أجابته من فورها ووقفت قائلة بابتسامة
" سأتركك الآن تريحي رأسك من ثرثرتي قليلاً "
تعلق نظرها بها في الأعلى وابتسمت لها بحنان قائلة
" بل استمتعت برفقتك وحديثك كثيراً وأنا من تتمنى
أن لا تكوني انزعجتِ من كثرة أسئلتي "
وتابعت وقد تحولت نبرتها للحزن
" يعز عليا أن تغادرينا غداً , ليتك تبقي لوقت أطول
فلا أحد ولا امرأة تسليني هنا وإن برؤيتها صامتة , ليتك
أحضرت ابنتيك وبقيتما هنا لفترة "
ابتسمت لها قائلة
" سنزوركم قريباً اطمئني , ابنتي في فترة اختبارات الآن
والمسافة بيننا وحوران بعيدة لكني أعدك بزيارة طويلة "
أومأت لها برأسها موافقة ومبتسمة بتفهم فتحركت جهة
الباب حين عاود من في الخارج الطرق مجدداً قائلة بضيق
" سأخرج له قبل أن يدخل علينا ... مجنون ويفعلها "
راقبتها مبتسمة حتى خرجت مغلقة الباب خلفها ثم نقلت نظرها
للنافذة وللسحب الرمادية المتجمعة وتنهدت بحزن هامسة
" اشتقت لك من الآن أمي , ترى ما الذي تفعلينه الآن ؟ "
*
*
*
مسح بكفه على جبينها ثم غرتها الناعمة ويده الأخرى تمسك
كفها الباردة ولا يجد شيئاً غير ذلك يفعله من أجلها , قالت الواقفة
قرب السرير
" لو تركتِ الطبيب يأتي لرؤيتك يا غسق ... ما أعند رأسك "
أغمضت عينيها برفق مسدله جفنيها الواسعان تخفي خلفهما
تلك الأحداق الواسعة المجهدة متمتمه
" أنا بخير عمتي لا حاجة لأي طبيب "
تنهدت بعجز أمام عنادها غير مقتنعة فملامحها وشحوب
وجهها وجفناها المحمران من سجن دموعها لا يطمئنها أبداً
على صحتها وتعلم بأنها لن تستطيع التغلب عليها أبداً ولا أحد
ولا الواقف في الخارج , قبّل الكاسر جبينها واتكأ عليه بخده
برفق هامساً
" يبدوا أنك تصرين فعلاً على تركي أنتي أيضاً "
شدت أناملها الرقيقة على يده وهمست بخفوت ولازالت
مغمضة عينيها
" أنا بخير بني أريد أن أنام قليلاً فقط "
عدل جلسته ولم يترك يدها ثم التفت للتي ربتت بيدها على كتفه
وقد أشارت له بعينيها ليخرجا فعاد بنظره للنائمة على السرير
ولتلك الملامح الفاتنة المتعبة ثم قبّل جبينها مجدداً ووقف مغادراً
خلف عمة والده ونظره لم يفارقها حتى خرجا من الباب
وأغلقه خلفه , نظر لهما الواقف في الخارج وقال فوراً
" كيف هي الآن ؟ "
تنهدت عمته قائلة بحزن
" ملامحها ما تزال متعبة لا أشعر أنها بخير لكنك تعرف عنادها جيداً , ماذا حدث يا رعد ؟ ما الذي جعلها تنهار مغشياً عليها هكذا ؟ "
تنفس نفساً عميقاً وقال بحزن مماثل " أخبرتها عن رماح "
حركت رأسها ضاربة بكفيها متمته بحسرة تمتمات غير مفهومة
ثم نظر ثلاثتهم لباب الغرفة حين وصلهم صوت البكاء الأنثوي
المكتوم الذي تسلل من الباب المغلق رغم كتمها له في وسائد
سريرها الوثيرة إلا أنه خرج موجعاً حارقاً تبكي له الجدران .
مسحت جويرية دمعة تسللت من عينها وتحرك الكاسر جهة
باب الغرفة فأمسكت يد عمه رعد ذراعه وهمس ناظرا لعينيه
" أتركها وحدها يا كاسر لن تحب أن يكون أي أحد معها الآن "
ضرب بقدمه الأرض حانقاً يحاول سجن الدمعة التي فضحتها
مقلتيه ثم غادر من عندهما بصمت وخطوات غاضبة فنظرت له
عمته وقالت
" ليتك لم تخبرها يا رعد ، لم يكن الوقت مناسباً أبداً "
رفع كتفيه وقال بعجز
" ومتى كنت سأخبرها وأنتي من رفضت فعلها وهي كانت
ترفض أن ندخل ونتحدث الآن ؟ ما كان من خيار أمامي فستعلم
بذلك من غيرنا وإن من الصحف التي نشرت كل شيء فجأة
أو من التلفاز "
شدته من يده وابتعدت به حتى نهاية الممر وقالت ناظرة لعينيه
" ماذا حدث معها هناك يا رعد ؟ تلقت سابقاً صدمات أوجع من
هذه بكثير وكانت أقوى منها ! ثمة ما حدث في منزل ذاك
الرجل بالتأكيد "
حرك رأسه بأسى متمتما
" ما كنت حاضراً فيه لا أعرف بما أصفه عمتي وما
حدث قبلي أو بعيداً عني وأنا هناك يبدوا أشد منه بكثير "
ضمت كفيها عند ذقنها وهمست بحزن
" لو ترحم نفسها فقط ، لو أن ذاك الرجل أكمل عمره راحلاً ،
كنت أعلم أن رجوعه لن يأتينا بالخير أبداً "
تنهد بعمق داساً يديه في جيبي معطفه وقال
" لا أخفيك عمتي أني عولت كثيراً على رجوعه لكن ما بينهما
يبدوا أعظم من أن يتجاوزاه بسهولة رغم أن من رأيته أمامي
هناك كان محارباً يموت ولا يترك أنثاه لغيره لكن ما حدث بعدها ....؟ ما حدث في الماضي ....؟ أمور لا يعلمها أحد غيرهما "
تنهدت بأسى متمتمه بشرود
" ليرحم الله قلبها الصغير "
ثم رفعت نظرها لعينيه مجدداً وقالت
" هل علمت جليلة ؟ هل اتصلت بهم ؟ "
أومأ برأسه بنعم وقال بهدوء
" اتصلت بوالدها وكان الخبر وصلهم قبلي ويبدوا صدمتهم
بحقيقة أنه على قيد الحياة أشد من حقيقة حالته الصحية ,
وكل ما قاله والدها بأن ابنته لن تتخلى عنه مهما اشتدت
محنته وختم جملته ( إن أرادها في حياته طبعاً ) وكأنه
يذكرنا بوضعهما وواثق جداً من أن رماح سيتجنبها أكثر "
وتابع وقد تبدلت لهجته للضيق
" لم يخطئ حياته كما أخطأ مع تلك الفتاة ويرفض حتى ذكر السبب "
حركت الوقفة أمامه رأسها بحيرة ولم تعلق فنظر لساعته وقال
" عليا العودة لحوران الآن "
وتابع وقد نظر لعينيها " اعتني بها جيداً عمتي وكوني بقربها وإن حدث شيء
اتصلي بي فوراً وليس بعده بوقت كما حدث صباحاً "
أومأت بالموافقة دون أن تعلق فغادر فوراً ونظراتها تتبعه
قبل أن تتحرك أيضا متمتمه
" سأجلب لها بعض الطعام لعلها تأكل وإن شيئاً بسيطاً منه
فهي لم تأكل شيئاً اليوم "
*
*
*
جلست لوقت طويل فوق طرف الطاولة عند الشرفة تلعب بقدميها
في الهواء وتتلاعب النسائم الباردة بخصلات شعرها البني تراقب
أنوار المدينة المتلألئة في الظلام من ذاك الارتفاع حيث الطابق
الذي توجد فيه , ها قد مر النهار بطوله وهي هنا سجينة لا شيء
لديها تفعله سوى النوم والأكل , نامت لساعات متواصلة حتى
ضنت أنها لن تنام بعدها أبداً وتناولت ثلاث وجبات ليس رغبة
في الطعام بل لتمضي الوقت في شيء آخر غير التفكير في كل
ما حدث صباحاً , حتى التلفاز لم تجد فيه ما يسليها فمعظم
قنواته إخبارية ورياضية وكأنهم يخصصون غرفاً للرجال
وأخرى للنساء في هذا الفندق !
لو لم تكن حقيبته موجودة معها هنا لشكت أنه غادر البلاد
وتركها بعدما خسرت حتى المنزل الذي كانت تعيش فيه مع
عمها فلن يستقبلها فيه بعد الآن وإن كان ملكها ولن تستبعد
أن يقتلها ما أن يراها , قفزت من فوق الطاولة تفرك كفيها
الباردين ودخلت مغلقة باب الشرفة الزجاجي ليتوقف تدفق
كل ذاك الهواء البارد الذي حول خديها لبقعتان زهريتا اللون ,
توجهت جهة السرير وارتمت عليه نائمة على بطنها ترفع
قدميها عاليا وضمت ذارعيها لبعضهما واتكأت بجانب وجهها
عليهما تنظر للثياب التي أحضروها لها هنا بعد وصولها بوقت
قصير وكانت على قياسها تماماً ولم تفهم كيف خمنوا أنها
ستكون مناسبة لها ؟
بنطلون من الجينز وبلوزة ومعطف شتوي أبيض , حتى
الحذاء والحقيبة لم ينسواجلبهم أيضاً , نقلت نظرها لقميص
النوم الموجود معهم حيث كان تقليديا ومحتشما بعض الشيء
رغم فخامة قماشه وتصميمه أي لا قماش دانتيل يتخلل تصميمه
على الأقل لكنها لم تستطع ولا ارتدائه لتنام فيه ليس بسبب
طوله القصير جدا بل ..... ؟ لا تعلم لما تحديداً
ولا تملك جواباً محدداً سوى أنها لا تتخيل أن تفعلها الآن
وأن تأخذه الافكار بعيداً ما أن يراه عليها , خبأت وجهها في
ذراعيها وهمست مغمضة العينين
" وأين هو ليرى قميصاً أو غيره ؟ "
قفزت جالسة ما أن أنهت جملتها تلك ما أن انفتح باب الغرفة
وعدلت شعرها وقميص بيجامتها لا شعورياً وهربت بنظرها
ليديها في حجرها ما أن لمحت بعضاً من جسد الذي دخل وأغلق
الباب خلفه ولم تعد تسمع شيئاً بعدها سوى ضربات قلبها التي
كانت تكاد تصم أذنيها ولا تفهم لما يوترها وجوده هكذا .... ؟
بلى تفهم وكيف لها أن تستغرب ذلك ففي أبعد أحلامها
وتخيلاتها بل وتوقعاتها الساذجة لم ترسم له صورة كالتي
هو عليها الآن فإن طلبوا منها وضع مواصفات لفارس أحلام
خيالي قد تتمناه أي فتاة ما وصلت عند أكثر من هذا
النموذج الحي أمامها . رطبت شفتيها بطرف لسانها ونظراتها
تتبع ساقيه وحذائه الجلدي الطويل حين تحرك نحو المرآة
ورفعت نظرها ببطء ما أن أصبح ظهره مقابلاً لها ومسحت
عيناها بتمعن تفاصيل جسده حتى شعره الاسود الناعم , نزع
سترته ورماها جانبا لتكشف عن القميص الرمادي الضيق قصير
الأكمام تحتها مبرزاً عضلات ذراعيه وكتفيه وخصره النحيل فغرسة
أسنانها لا إرادياً في طرف شفتها السفلى تهف بيدها على وجهها
فقد شعرت بحرارتها ترتفع بشكل غريب وفجائي
" لما تنامين بثيابك ذاتها ؟ "
شعرت بقلبها قفز لحلقها وكادت تغص بريقها ما أن وصلتها
جملته ونبرته الحازمة تلك وضاعت الكلمات ونسيت كيف تصاغ
حتى الجمل وتاهت نظراتها بين قفاه والثياب الموجودة هناك
وقالت حين وجدت صوتها " ليس على قياسي "
كانت تعلم أنها كاذبة كعلمها بأنه لن تنطلي عليه تلك الحيلة ولا
الحجة وتوقعت تعليقا ساخراً منه لكنه فاجأها حين قال وهو ينزع القميص عن جسده وبحركة واحدة
" لا يهم ذلك "
كادت تقفز هاربة خارج الغرفة ما أن فعل ذلك ورمى القميص
دون اكتراث جانباً ولم تهدأ ضربات قلبها المجنونة إلا حين قال
وهو يتوجه لباب الحمام
" غيري ملابسك سنغادر لا وقت أمامنا "
تبعته بنظراتها المصدومة حتى دخل وأغلق الباب خلفه فمدت
شفتيها وقربت حاجبيها تنظر لمكانه نظرة قطة سرقوا منها
عشاءها فلم يعطيها ولا مبرراً لتخاف وإن باقترابه ، انفتح باب
الحمام بعد لحظات وخرج منه وتوجه لحقيبته فوراً وقال بحزم
وهو يأخذ ثياب منها وموجهاً حديثه للجالسة مكانها على السرير
" بسرعة ماريا تحركي "
وعاد للحمام فوراً لم تسمع ولا قفل الباب وهو يغلقه بعد دخوله
فيبدوا أن هذا الرجل معتاد على الاستحمام والخروج عارياً ولا
يعرف شيئاً اسمه خصوصية في الحمام !
ارتمت على السرير مجدداً تدفن وجهها في أغطيته متمتمه
" ماريا ..... ماريا هذا الاسم هل سمعته من قبل ؟
هذا الرجل كيف ينطقه هكذا بطريقة غريبة "
وكتمت ضحكتها في تلك الأغطية لا تعلم هو فعلاً ينطقه بطريقة
مختلفة أم هي من سمعه كذلك ؟ لا هو بالفعل أول من يناديها
هكذا ويفخم حرف الألف نهاية اسمها ويمده قليلا ومع نبرته
الرجولية العميقة كان له معنى آخر تماماً
" بسرعة ماريااه تحركي "
تمتمت بعبارته تعيدها كما قالها وضحكت مجدداً قبل أن تفز
جالسة من جديد حين انفتح باب الحمام وخرج منه ببنطلون جينز
وشعر مبلل قطرات الماء تتسابق على صدره وكتفيه ووقف
ونظر لها بضيق يمسك وسطه بيديه فتسللت من السرير ببطء ثم
ركضت جهة الملابس
المرتبة هناك وأخذتها جميعها وركضت بها جهة الحمام قائلة
" سأخرج سريعاً "
وأغلقت الباب خلفها جيداً عكس ما فعل فهل كان يتوقع مثلاً أن تغير
ملابسها في الغرفة
ويخرج لها في أي لحظة كما فعل الآن وقد خرج في وقت قياسي ؟!
نظرت للمكان حولها بصدمة والمياه تملأ الأرضية الرخامية وتناثر الكثير منها في المكان وصولا للستائر
علبة شامبو الشعر مرمية على الأرض بإهمال وعلب معطرات
الجسم والزيوت مرمية أيضاً في حوض غسل الوجه وكأن
إعصاراً مدمراً مر على المكان !
نظرت للمياه تحت قدميها وتمتمت بعبوس
" كم هذا الرجل فوضوي !! "
طرقة صغيرة بمفتاح سيارته على باب الحمام جعلتها تتحرك
مسرعة وغيرت ثيابها في وقت قياسي , لا تفهم لما الاستعجال
الآن بينما قضى طوال النهار خارجاً ؟ أغلقت زرا المعطف الأبيض القصير بعدما أخرجت شعرها من تحته ثم توجهت للباب فتحته وخرجت
ونظرت فوراً جهة حقيبة اليد التي أحضروها مع الثياب متجنبة
النظر للواقف عند باب الغرفة ينتظرها هناك فلم تتجرأ على النظر مباشرة لعينيه حتى الآن , توجهت مسرعة جهة الحقيبة رفعتها وتوجهت جهة الباب أيضا حيث ظنت أنه سيخرج وهي خلفه لكنه
لم يتحرك من مكانه فبدأت خطواتها تتباطأ منتظرة حتى تحولت
لخطوة واحدة فقط تفصلهما فوقفت مكانها أمامه مباشرة تنظر
للحقيبة في يديها وأصابعها تعصرها بقوة وتوتر تنتظر أن يتحرك
لكن ذلك لم يحدث وقد مد يده ليلامس ذقنها فأثارت لمسته تلك
حواسها حد أنها لم تعد تعي إن كان يمكنها التنفس أم لا وهو
يرفع وجهها له ببطء وما أن وقع نظرها على عينيه حتى تسارعت
ضربات قلبها بشكل مفاجئ وكادت تفقد وعيها لولا أن نظراته انتقلت
من عينيها لباقي ملامحها سامحة لذرات هواء صغيرة أن تتسلل مجدداً لصدرها
وكأنه لم يكتفي بعد من مقارنة ملامح هذه الفتاة الجميلة بتلك الطفلة
التي تركها وطولها كطول فستانها الصغير الذي كانت تلبسه تقفز فوق
أحجار الطوب في فناء المنزل الخلفي كفراشة ملونة جميلة ضحكاتها
تبعث الحياة في ذاك المكان الصامت الكئيب .
انتقلت يده من ذقنها لصدغها وغرس أصابعه في شعرها وأخرجه
بهم في حركة سريعة فانسدل على طرف وجهها كستارحريري بني
تخللته خصلات ذهبية طبيعية ثم سرعان ما عاد لرفعه مجددًا وقد
رماه بظهر أصابعه للخلف ثم مررها على طرف جبينها ونظره
عليها عاقداً حاجباه المستقيمان وهمس بصوت رجولي عميق
" أين أثر ذاك الجرح ماريا "
أحست بالدماء الحارة تجتاح عنقها وتلسع خديها اللذان تلونا بلون
الدم فجأة فلم تتخيل أنه لازال يذكر تلك الحادثة وذاك الأثر ؟
بالطبع سيذكر فكيف سينسى الوقت الذي قضاه يسكتها
وقميصه قد تلطخ بدمائها وهو يمسحه به وارتمائها في حضنه
باكية لوقت طويل , عند تلك النقطة من ذكرى ما حدث لم تعد
تستطيع النظر لعينيه أكثر فأسدلت جفناها ورموشها
الكثيفة وهمست بخفوت
" اختفى بالأشعة "
أبعد حينها أصابعه ونظر للأعلى متمتما بسخط
" آه جراحة ماريا .... ؟
لماذا بحق الله ! "
نظرت له وكانت ستشرح له بأنها كانت ترى أي عيب في جسدها
مكمل لما يفعله الجميع وجزء من العيوب التي يرمونها بها دائماً ,
أنها كانت تغطي بكل ذلك النقص الذي أجبرها الناس على رؤيته
في نفسها ودواخلها فلم تتحمل رؤية تلك الندبة الصغيرة في جبينها ,
كانت ستتحدث لكنه لم يترك لها مجالاً لذلك وقد دار بنصف جسده
للباب ليخرج فنادته هامسة
" تيم "
التفت لها بوجهه ولازال يمسك مقبض الباب الذي فتحه للتو
فسرت الحرارة في أوصالها مجدداً وليست تفهم لما تجتاحها تلك
المشاعر كلما التقت نظراتهما ؟ لم تستطع إلا
أن تهمس وهي تقول
" إلى أين ذاهبان ؟ "
كان يشغل بالها مصيرها حقاً ولا تعلم ما ينوي فعله بخصوصها
ولما عاد في هذا الوقت تحديداً وتحتاج لأجوبة قبل أن تغادر هذ
ا المكان , تعلق نظرها بعينيه السوداء وقد نظر للفراغ خلفها قبل
أن يعاود النظر لعينيها قائلا بجدية
" للندن وأظنك تعلمين أني جئت من هناك "
سحبت الهواء بقوة لصدرها وكانت ستعلق لكنه سبقها قائلا
بذات جديته وقاطعاً عليها السبيل لأي سؤال
" عملي ونشاطي هناك ولا يمكنني تركه حتى وقت لست
أعلم متى سيكون , اضحي بحياتي ودون تفكير ولا أخذل من
يعتمدون عليا ماريا "
عبست ملامحها الرقيقة الجميلة وقربت حاجبيها متمتمه
بضيق طفولي
" لكنك تيم كنعان لن أنادين تيموثي أبداً "
سمح حينها لابتسامة صغيرة أن تظهر على شفتيه متسللة
لملامحه الوسيمة القاسية
ورفع يده وضرب بطرف إصبعيه على أنفها وقال
" وأنتي ماريه فقط فتحركي بسرعة ستفوتنا الطائرة "
ثم مد يده ليدها سريعاً وأمسكها منها وسحبها وتحرك خارجان
من الغرفة لم يترك لها المجال لتفكر ولا لتتساءل عن سبب ما قال
وما عناه بذلك وقد ترك حتى حقيبة ثيابه التي أحضرها بل وحتى
ثيابها التي نزعتها وذاك القميص الذي لم تلبسه ولم تستطع سؤاله
عنهم فابتسامته تلك أربكتها حد الجنون وتعلم أنها لن تراها مجدداً
قبل وقت طويل كما كان عند طفولته فيبدوا أن السنين لم تغير
فيه شيئاً
*
*
*
فتحت باب الشقة بمفتاحها الخاص ودخلت مغلقة إياه خلفها
حيث الهدوء والصمت يعمان المكان ولن تستغرب هذا فصديقتها
فآبيا يبدأ دوامها المسائي الآن وذاك الرجل لابد وأن يــ..........
رفعت رأسها للأعلى وتنهدت بنفاد صبر هامسة
" رفقا بي يا رب السماوات "
حين انفتح باب الغرفة التي وقف أمامها صاحب الجسد الطويل
والنظرة الباردة الواثقة مستندا بإطار بابها يديه في جيبي بنطلونه الرياضي ينظر لها ببرود وقال
" هل أعلم أين كنتِ حتى الآن غيسانة ؟ "
لوت شفتيها وقالت بامتعاض
" كنت تعلم قبل خروجي ولم تعترض فما تغير الآن ؟ "
استوى في وقوفه وقال بضيق
" ذاك كان صباحاً وأعتقد أنه لن تستغرق زيارة
وكالة التوظيف حتى منتصف النهار وإن لففتها جميعها "
قالت بضيق مماثل ملوحة بيدها في الهواء
" لما لم تخرج معي لتتأكد بنفسك أين كنت وإن كنت صادقة أم لا ؟
أو ارفع التقرير لصديقك ليعاقبني "
قال بغضب
" لست أحتاج لشقيقك ولا لغيره لأعرف كيف أعتني بما
يخصني و ... "
قاطعته بغضب مماثل
" أنا لا أخصك "
صاح فيها بعنف
" بل تخصينني منذو غادر مطر شاهين من هنا فأي تأخير
كهذا مجدداً دون علمي سيكون عقابه قاسٍ جداً يا غيسانة
وأنصحك أن لا تختبري نتائج غضبي "
لوحت بسبابتها قائلة باعتراض حانق
" لا يحق لك سجني هنا فحتى مطر لم يفعلها , ثم أين عملك
يا صاحب الثروات أليس يفترض بك أن تكون فيه ؟ "
قال بحدة
" عملي أمر يخصني وسأكون هنا متى ما شئت لأنها شقتي
ولن تخرجي من دون إذني يا غيسانة فجربي أن تعصيني
ولن تخرجي بعدها مطلقاً "
ثم دخل ضارباً الباب خلفه بقوة فرمت الحقيبة الممسكة بها في
يدها جهته بكل قوتها صارخة دون اكتراث إن كان سيسمعها أم لا
" سحقا لك ولشقيقي معك ولي أيضاً سأتحرر من جبروتكم يوماً ما وسترون "
وحين لم تجد منه أي رد فعل توجهت بخطوات غاضبة جهة
حقيبتها المرمية أرضاً ورفعتها ودخلت غرفتها ضاربة بابها
خلفها أيضاً ورمت الحقيبة مجدداً ولكن فوق سريرها هذه
المرة صارخة بغضب
" أكرههم .... جميع الرجال العرب أكرههم "
*
*
*
توقعت أن محطتهم القادمة ستكون إحدى المطارات لتقلع بهما
الطائرة التي سبق وتحدث عنها لكن الأمر يبدوا غير ذلك !
فما أن غادرا الفندق ركبا هذه المرة سيارة لم تكن ذاتها
التي وصلا بها ولم يكن هو من يقودها هذه المرة بل شخص
آخر جلس معه في الأمام بينما جلست هي في الكرسي خلفه
تماماً , كانت الرحلة طويلة لم تنتهي ولا ببزوغ الفجر وكان
صمت الجالسان في الأمام أكثر من الكلمات القليلة التي
تبادلاها وما فهمته أنه دليله في هذه البلاد التي تركها فتاً
صغيراً وقد تغيرت بعد رحيله بشكل شبه جذري , تحول بعدها
الطريق لترابي وعر وأصبح ما يحيط بسيارتهم الحشائش
الصغيرة والأشجار العالية والصخور الوعرة التي كانت تكاد
تقلبها بهم ولا يمكنها السؤال عن شيء , وبأي عذرستسأل
وهو من أخبرها عن مكان وجهتهم سلفاً , نظرت لكل شيء حولها
بحزن .. هل حقاً ستترك بلادها ؟ وحتى متى يا ترى ؟
صحيح أن من عرفتهم فيها جعلوها تكره كل شيء وحتى نفسها
لكن بلادها لا .. هي وطنها تراب أجدادها ولم تفكر يوماً في تركها
فهل تفعلها من أجل شخص واحد , نظرت للجالس في المقعد أمامها
لشعره الأسود ولأصابع يده الطويلة التي تخللته وقد رفع يده يسرحه
بها , لكتفيه العريضان والسترة الرمادية الغامقة فشعرت بقلبها
يخفق بجنون فهربت بنظرها للنافذة وأرحت خدها على يدها
هامسة بخفوت
" لو فقط تنتهي هذه الطريق "
شعرت بشيء ما على رأسها قد حرك شعرها فرفعت وجهها
مجفلة على صوته الرجولي الجهوري
" يكفي تذمراً "
تبعت نظراتها المصدومة يده التي أعادها للأمام وقد استوى
في جلسته مجدداً فلم تتخيل أن يسمع همسها الخافت ذاك !!
قال الجالس خلف المقود مبتسماً
" قريباً ستنتهي مهمتي معكما فيبدوا أن زوجتك لم ترق لها قيادتي "
علق تيم ببرود
" لو قدت أنا السيارة ما أحببت أنت ذلك "
ضحك ذاك من فوره قائلاً
" بالطبع لن أحب أن تحطم لي سيارتي "
وعند جملته تلك خرجت السيارة لمساحة واسعة من الأرض
خالية من الأشجار تنتهي بجبال بعيدة فنظرت بصدمة شبه
ملصقة وجهها بالنافذة تنظر للمروحية المتوقفة هناك وللرجلان
الواقفان قربها وسيارة سوداء تقف على بعد أميال قليلة منهم ,
هل هذه هي الطائرة التي قال أنها تنتظرهما !! لكنه كان سيقول
مروحية وليس طائرة ! ويستحيل لهذه أن تطير بهما حتى تصل
بريطانيا فهل دخل الحدود عن طريقها ؟ مؤكد سيكون الأمر كذلك
مع كل هذه السرية التي تحيط به فسيكون دخل البلاد عن طريق
دولة أخرى قريبة , توقفت سيارتهم بجانب تلك السيارة وفتح
الجالسان في الأمام أبوابهما فوراً ونزلا ففتحت بابها أيضاً
ونزلت ولحقت بهما حيث الموجودان قرب المروحية , وما أن
وصلوا عندهم تصافحوا أربعتهم وقد شد أحدهما على يد تيم بقوة
وقال مبتسماً
" مرحباً بالكنعاني .. كيف أنت يا بطل ؟ "
قال تيم من فوره وبذات تلك اللهجة الجادة
" بخير فما حالك أنت مع هذه البلاد ؟ "
ضحك عمير وسحب يده قائلاً
" تعرفني جيداً لقد تنفست فقط حين وطأت قدماي أرضها "
ثم نظر من خلف كتف الواقف أمامه للتي كانت تقف خلفه مباشرة
وقال مبتسماً
" أنتي ماريه إذاً ؟ كنت متشوقاً لرؤيتك منذ كنتِ طفلة
ولم تجمعنا الصدف إلا الآن "
نظرت له باستغراب فضحك واقترب من الواقف أمامه وهمس
له في أذنه دون أن يسمعه أحد
" تستحق فعلاً المغامرة بالدخول هنا "
وعاد للضحك مجدداً حين دفعه تيم بيده من وجهه للخلف
متمتماً ببرود
" أفقأ عينك .... أتفهم "
ثم التفت لها ومد يده وأمسك يدها وسحبها معه جهة المروحية
حتى وصلا عندها ووقف خلفها حتى صعدت السلم القصير وجلست على الكرسي ونظرت باستغراب للواقفين هناك وهم مكانهم ينتظرون مغادرتهم على ما يبدوا بينما دار هو حولها
وصعد في كرسي القيادة وقال
" ضعي الخوذة على رأسك "
نظرت له بصدمة لبرهة وهو منشغل مع أجهزتها المعقدة أمامه
فهذا اكتشاف آخر جديد وليست تعلم ما يخبئ هذا الرجل أيضا من
مهارات مخفية !
رفعت الخوذة لرأسها فور أن بدأت أذرع مروحة الطائرة بالدوران
مصدرة ضجيجا مرتفعاً وكان قد لبس خوذته أيضاً
ثم نظر حيث الواقفين مكانهم هناك وأشار لهم بإبهامه بينما لوح
له ثلاثتهم قبل أن ينظر للأمام ويدوس بكلتا قدميه على دواستي
التحكم لترتفع بهما المروحية ببطء
فشعرت حينها بالذعر الذي لم يعد بإمكانها إخفائه فتمسكت
بالكرسي تحتها بكلتا يديها
وأغمضت عينيها بقوة وما أن حلقت للأعلى وحرك مقودها بيده
للأمام وانطلقت بهما
تحول خوفها ذاك لحماس ونظرت لكل شيء تركاه تحتهما فلم
تركب حياتها طوافة
ولم تكن تتخيل أن الأمر سيكون ممتعاً هكذا وكأنها ليست تلك
التي كانت تكاد تموت خوفاً منذ قليل .
لم تكن رحلتهما قصيرة كما كانت تتوقع وما أن حطت بهما
المروحية على الأرض
كانتا سيارتان في استقبالهما وكما توقعت ومن اللهجة والمكان
هما باتا خارج وطنهما
في إحدى الدول المجاورة , توجه تيم نحوهم وحده وتحدثوا
لوقت قبل أن يرجع ناحيتها ووقف أمامها وقال
" ستغادرين معهم الآن ماريا "
انفرجت شفتاها وكانت ستتحدث ونظرتها له ملئها توجس وحيرة فأمسك كتفيها ونظر لعينيها وقال بذات جديته
" لا يمكننا المغادرة من هنا معاً , ستكونين بمأمن معهم
سيوصلونك للمطار وحتى بوابة المسافرين وسيتكفلون بجميع
الإجراءات ثم ثمة من سيستقبلك في مطار هيثرو بلندن "
حاولت التحدث مجدداً لكنه لم يعطيها أي مجال وقد سحبها
من يدها نحو الواقفين هناك وقال ما أن وصلا عندهم
" سأكون على اتصال دائم معكم "
قال أحدهما فوراً
" كن مطمئناً سيدي واعتمد علينا "
تحرك حينها يتبعه اثنين منهم وركبوا إحدى السيارتين وغادروا
نظراتها التائهة تتبعه وكأنه ثمة من شطر قلبها لنصفين وأخذ
ذاك الشطر معه , فهل كان كلامه ناقصاً أم أنه عنى فعلاً أنهما لن
يلتقيا هناك ؟ هل اختصر الجملة أم ذاك ما كان يعنيه فعلاً ؟
" علينا المغادرة سيدتي , بقي على موعد طائرتك أقل من ساعتين "
انتزعت نظراتها من السيارة التي ابتعدت بعيداً عنهم مسرعة
ونظرت للذي تحدث مبتسماً وكان خلافهم يتكلم بذات لهجتها ويبدوا
أنه من بلادها أيضاً , تحركت معهما
في صمت وركبت السيارة التي سارت بهم في اتجاه معاكس
للذي غادرت منه تلك السيارة وهي تحاول التفكير في أمر واحد فقط
أن دربهما لم ينتهي عند هذا المكان
*
*
*
لم يصعد لتلك الغرفة طوال النهار سوى مرة واحدة ليضع لها
إبريق ماء جديد وصينية الطعام وكانت كحالها ووضعها الآن
تجلس فوق السرير ضامة ساقيها بذراعيها وتنظرجهة النافذة
في صمت حتى يخرج ولم يبادر هو بالحديث
ويستغرب أن لا تعلق على قدوم إيلينا وهي من كانت لا ترحمه
من لسانها اللاذع منذ تحدثت أول مرة ؟ لا ... لن يحتاج الأمر
أن تتحدث فابتسامتها تلك وقت سماعهما لصوتها تناديه كانت
كافية لتوجيه رسالة
مفادها أنه في نظرها لم يتخطى رجل النساء العابث المستهتر ,
حمل صينية الغداء الموجودة هناك منذ منتصف النهار وغادر
الغرفة ونزل بها للمطبخ وضعها هناك
وعاد للجلوس حيث أوراقه وعمله وعاد لعقود الصفقات
والبنود والشروط مجدداً لكن
سرعان ما شعر بالملل يتسلل لمزاجه ولأول مرة يضجر من كل
هذه الأجواء التي اعتاد أن ينغمس فيها لساعات دون كلل ولا ملل
وحتى في جناحه الخاص في المنزل هناك حيث كان يقضي
ساعات طويلة متواصلة في مكتبه ولا يرى فيها زوجته إلا حين
تدخل لتضع له كوباً من القهوة أو بعض الفطائر المحلاة ولا يعلم
فيما كانت تقضي كل ذاك الوقت وبما تسلي نفسها وكان كأي رجل
يضع عمله في المقام الأول يكره التذمر منه وانتقاده بشأنه ,
رمى الأوراق من يده ووقف وتوجه لغرفة الموسيقى في الأسفل
ومن دون أن يقترب من تلك الآلة أو يشغلها استرخى على
الأريكة وكأنه يحتاج فقط لذاك المكان المنعزل الهادئ والشبه
مظلم والوحدة والعزلة التامة عن كل شيء وحتى أوراقه وأفكاره
لكنه ما أن أغمض عينيه ظهرت أمامه تلك الملامح وذاك الوجه
الدائري والشعر البني الطويل والنظرة ..... تلك النظرة القوية
الحاقدة , حتى في لحظات هدوئها ولا مبالاتها , في صمتها
وبرودها , في غضبها واشتعالها ... كل حركة منها وإن كانت
في سكون تعبر عن امرأة مختلفة في كل شيء , تبعث فيك
الفضول بقدر ما ينفرك منها حقدها الأسود الذي لم تحاول
إخفاءه لحظة .
تستطيع أن تجعل عقلك يدور في بعد جديد ويرجع لذات النقطة
دون أن يفهم شيئاً مما وجد نفسه فيه , أغمض عينيه بشدة
وتأفف بضيق قبل أن يفتحهما محدقاَ بالسقف فوقه ... لن يكون
سبب كل ذاك الكره موت والدها وجدتها فهي تعلم كما الجميع أنها
من أخفى أمرها عنهم خشية أن يأخذوها منها ولن يكون السبب
نكران جده لنسب والدها له لن يفعل ذلك كل ما يفعله الحقد بقلب
هذه الأنثى !
إنها تتنفس كرها لهم ودون استثناء حد أنها لا تعرف ولا تعترف
بصديقها من عدوها منهم وتلوم الجميع على شيء لازال لا
يستطيع فهمه !
عاد لإغماض عينيه مجدداً هامسا بصوت مرتخي
" توقف يا وقاص .... هيا توقف "
وعند ذاك الهمس الرجولي الخشن المبحوح غاب في نوم
هادئ طويل لا يعرف كيف سحبه إليه
*
*
*
كانت تنتظر هذه اللحظة منذ خروجها صباحاً وليست تعلم كيف
لم تنقل جثة وميتة قهراًحتى الآن فقد كان يوم عملها اليوم من
أسوأ أيام حياتها
ولن تغفر لذاك الوقح أبداً ففوق التعليقات المتفرقة التي سمعتها
من زملائها في المنظمة عن صورتها وعن الإعلان
يرسل لها ذاك السخيف المنحط رسالة يخبرها فيها وبكل وقاحة
بأنه يعشق قبلة الصباح
وبأن وقت استيقاظها الباكر يناسب مزاجه !!
نزلت من الحافلة الصغيرة الأنيقة التي كانت تحمل شعار المنظمة
والتي كان الزاماً عليهم جميعهم استخدامها وترك سياراتهم
الخاصة وقد تلقت نظرة حانقة من سائقها حين سحبت بابها
بقوة وغضب فهو المسؤل الأول عن أي ضرر قد يصيبها ،
تجاهلته ودخلت باب فناء المنزل وتوجهت فوراً وبخطوات
غاضبة للباب الذي فتحته ودخلت ووجدت فريستها أمامها
خارج من باب المطبخ يحمل صحناً لم تهتم لمعرفة ما يوجد
فيه فقد رمت حقيبة المنظمة فوراً
وأمسكت خصرها بيدها وقالت بضيق ناظرة لعينيه
" مؤكد رأيت ذاك الإعلان كالجميع "
قال بكل بساطة
" أجل رأيته لما أنتي غاضبة هكذا ؟ كان اعلانا مميزاً وكنتِ رائعة "
ضربت بقدمها الأرض غضباً فوق غضبها من لا مبالاته قائلة بحنق
" ما المميز في ظهوري السخيف فيه ومن دون علمي أيضا ؟
من قال أني أريد أن أكون مادة إعلانية لشركة طيرانهم السخيفة
الجديدة تلك ؟ إن لم يسحب ذاك السخيف الإعلان فسيحصد النتائج "
رفع شيئا مما في الصحن وقال وهو يأكله وقد تحرك من مكانه
" ساندرين لاحظي أنك ذكرت كلمة سخيف وسخيفة كثيراً
وباتت الجملة سيئة "
لحقت به قائلة بغضب لا يزداد إلا اشتعالاً
" لا أعلم لما لا تهتم لما فعله ذاك السخيف "
التفت لها ما أن دخل الغرفة حيث الجالسة مقابل التلفاز فقالت
بحنق من قبل أن يعلق
" أبي لا يكن موقفك حيادياً هكذا وهم يفعلون ذلك من دون علمك "
جلس بجانب زوجته وهو يطلق تنهيدة ارتياح بسبب تعبه في
عمله طوال النهار ثم قال
" ومن قال أنه لا علم لي بذلك ومن قبل نزول الإعلان "
نظرت له بصدمة فقال ملوحاً بيده
" تعالي ثمة ما هو أهم من ذلك .هناك ضيفة ستقيم معنا
لبعض الوقت وستحبين رفقتها بالتأكيد "
قالت الجالسة بجانبه وناظرة له
" هل ستصل اليوم ؟ كم أنا متشوقة لرؤيتها "
وتابعت مبتسمة وهي تنظر للواقفة عند الباب
" إنها تكبرك بعام ونصف فقط تقريباً
أي لن تجدا صعوبة في الانسجام معاً وستجدين رفيقة لك
طوال النهار "
شدت شعرها لا شعوريا من احتراقها غضباً وليست تفهم هل
يتعمدون تجاهل ما كانت تتحدث عنه أم ماذا ؟
تركت الغرفة قائلة بتوعد ومتجاهلة أيضاً ما قالاه
" أنا من سيأخذ بحقي منه وبنفسي وبعيداً عن القانون
وسيرى ذا الخلية الواحدة ذاك "
*
*
*
غطى بكفه على عينيه المغمضة حين شعر بالنور القوي تسلل
لهما ، هل نام حتى هذا الوقت ؟
كيف لم يشعر بنفسه وهو من قرر أن يسترخي قليلا فقط !
يبدوا أن ما كان يحتاجه نوم عميق وطويل فقط ، قفز واقفاً
وغادر الغرفة توضئ وصلى الفجر والصبح ثم استحم وغير
ملابسه ، صعد بعدها السلالم وطرق على الباب طرقتين ثم
دخل الغرفة ووقف ينظر باستغراب جهة باب الحمام المفتوح
ثم تحرك ناحيته وطرق الباب ليتأكد أولاً وحين لم يصله أي رد
دفعه أكثر ونظر داخله فكان فارغاً
فتحرك مسرعاٌ خارج الغرفة ودخل الغرف الأخرى بالتتابع
وجميعها فارغة فنزل السلالم ركضاً صارخاً
" زيزفـــــون "
وقف منتصف المكان ينظر حوله لا يعلم أين سيتحرك وكيف
أساساً ستكون نزلت السلالم وحدها ؟
توجه جهة هاتفه الذي علا رنينه فجأة ورفعه ينظر للاسم عاقداً
حاجبيه ثم أجاب فوصله صوت جده الجاد الحازم
" أنتظرك في المنزل "
نظر حوله بتشتت وذهن مشوش وقال
" لكني في جنوب لندن المسافة تحتاج وقتا "
أتاه رده مباشرا وبأمر قاطع
" سأنتظرك فتعالى فورا "
*
*
*
فتح باب المنزل بهدوء يشبه هدوئه وصمته التام وأغلقه خلفه
وامتدت يده لزر الإنارة الجانبي وما أن اشتغلت المصابيح
المنتشرة في ذاك البهو الواسع سرق نظره طيف الواقفة
عند الممر الشرقي تعبث أصابعها بأطراف أكمام بيجامتها
الطويلة تنظر له بقلق وعينان شبه دامعة وكأن الماضي
يعيد نفسه ، تشبه والدتها في هذا دون غيره ، الاختلاف الوحيد
أن تلك الجامحة العنيدة لم تكن تركض له بل عليه هو الاقتراب
منها .... لا بل هي من كانت تجعل الرجل ينساق جهة نظرتها
تلك دون تفكير .
استقبلت ذراعه كما أضلع صدره التي وصلت عنده راكضة
وارتمت في حضنه متمسكة به بقوة وقد همست ببحة بكاء
" أبي لما تأخرت أقلقتني عليك ، حتى عمي صقر هاتفه مقفل
طوال الوقت "
مسح على شعرها الأسود الناعم وخرج صوته الذي لم يفضح
إرهاقه سوى عمق تلك البحة المميزة فيه
" كنت في الجنوب يا تيما ، كان علينا تفقد المطار العسكري
في جينوا هناك لذلك تأخرت ، وعمي صقر سافر منذ منتصف
النهار ، ما كان ثمة ما يقلق وأنتي من اعتاد غيابي
المتواصل سابقا "
ابتعدت عنه تمسح عيناها بطرف كم بيجامتها ولم تستطع شرح
سبب قلقها عليه هذه المرة تحديدا بعدما حدث يوم أمس ،
لا يمكنها تخيل أن يفعل أمرا جنونيا وهي من عرفته رجلا
صلبا قويا أمام حتى مشاعره لكنها كانت قلقة حقا حتى من
تلك المشاعر المسجونة داخله
فبعد حديثها وعمتها جوزاء بالأمس استطاعت أن تفهم
شخصيته أكثر
وتفهم ما عنت له تلك الفاتنة الرقيقة وبعد رؤيتها لها تيقنت
من أنه ليس ثمة رجل على وجه الأرض يمكنه نسيانها وإخراجها
من قلبه بسهولة لكن .... ( سحقا للكبرياء(
جملة قالتها عمتها وأصابت فيها بالفعل .
رفعت نظرها لعينيه وقالت
" عمتي جوزاء انتظرتك كثيرا رغم تعبها من رحلتهم الطويلة
حتى غلبها النعاس ، ستغادر في وقت مبكر وكانت تريد رؤيتك "
أبعد خصلة من غرتها عن عينها وقال بجدية
" لا تقلقي سأراها قبل مغادرتهما عليك أن تنامي أنتي الآن "
أومأت برأسها ببطء هامسة
" تصبح على خير "
ثم غادرت من عنده جهة الممر الذي خرجت منه تمسح باقي
الدموع من وجنتيها ورموشها الكثيفة فسيكون بإمكانها النوم
الآن بعدما رأته أمامها واطمأنت عليه ، بينما تتبعها نظراته
هو حتى اختفت خلف الممر المظلم حينها فقط تحرك جهة
السلالم وصعد للأعلى ، صحيح أن ما أخّره هو رحلتهم للجنوب
لكن ذلك لم يكن وحده السبب بل ولأنه أراد الابتعاد عن هذا
المكان ، هو مطر شاهين ولأول مرة يخسر مواجهة مع نفسه
ويهرب من أصوات ذكرى ما حتى تفارق المكان ، هل هذا
هو فعلا أم شخص آخر لا يعرفه ؟
فتح باب الغرفة ووقع نظره فورا على بقايا إعصار ما حدث هنا
منذ ساعات مهما طالت وبعدت فهي ساعات لم تكن سنيناً
كسابقاتها .. لم تكن أياماً وأشهر طويلة فصلته عن ما كل جمعه
بتلك المرأة التي لم تزدها السنين إلا عنادا وجموحا مثلما زادت
ذاك الحسن فتنة والعينان الرقيقة المتمردة قوة وصمود .
دخل مغلقاً الباب خلفه ليفصله وكل ما في تلك الغرفة عن باقي
عالمه الذي لم يرحمه يوماً ولم يقبل إلا بمطر القائد المحارب
المضحي من أجل الجميع ، انعزل عن كل تلك المسئوليات التي
لم تعتقه منها يوما وعاد لسجن نفسه مع ذكرى ما حدث ..
مع بقايا فستان عروس الثنانيين الممزق وقطع هاتفه المحطم
على الأرض وسط أوراق ملكية مدينة العمران الممزقة التي
حملت توقيعه بل وكتبت بخط يده وختمت بآثار بصمة إبهامها
وفي هذا المكان تحديدا ، تحرك بخطواته للداخل يدوس بحدائه
الأسود بقايا كل ما أصبح مجرد ذكرى أيضاً بقي للسنين لتعبث به
كيف تشاء ، وصل للسرير الواسع وارتمى عليه مخرجا أنفاسه
القوية فيما يشبه التأفف أكثر منه تنهدا عميقا فلما يهرب
من ذكرى شيء ما ثم يعود ليرتمي في أحضانه ؟
لما لم يطلب من الخادمات تنظيف هذا المكان ثم يجبر نفسه ليس
على نسيانه بل تناسيه كما عرف نفسه دائما ... ؟
مرر أصابع يده خلال شعره الأسود الكث وأغمض عينيه بقوة قبل
أن يفتحهما محدقاً بالسقف وأنزل يده لجيب بنطلونه أخرج منه
شيئا رفعه أمام وجهه ونظر له لوقت وكأنه يبادله تلك النظرات
العميقة الصامتة فإن كان للجماد القدرة على النطق لتوسله أن لا
يجعله سلاحاً للحرب بين عاشقان فالعشاق وحدهم من يوصلوه
للجنون ، لكن الجماد لا ينطق كما أن صوت الصمت لا يسمع
وكما أن هذا الرجل لا يسمع في تلك اللحظة أي صوت يتعدى
قلبه فقد رفع يده اليسرى أيضا أمام عينيه ودس ذاك الخاتم
الفضي في خنصرها
المخرج ~
بقلم / منى سعد
ياقلب كيف ترتضي بعد كل ما عشته من هوان ان تبقى على حبه
مطر عصف بك وتركك تغرق برمال حبك ومضى يسقي بغيثه حلم كان له الاكبر
يا قلب الا تخجل وانت مع كل حرف باسمه تخضع وتركع
يا قلب انت قلبي ام قيد البسني اياه لابقى باسره
لعينيها تشرق شمسي وبها اتنفس على الباقي من عمري عل تعود فتصلني
القلب تعب سلاهاوما عاد لديه قوه ليصبر غدا عائد اليها ويا بقلبي ويا بقلبها سانتصر
*****
نهاية الفصل الثامن