السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أسعد الله مساء أحبتي بكل خير وبركة وعافية
أعتذر أولا ومجددا عن تأخر الفصل لهذا الوقت ، تأخير
كان خارج عن إرادتي وكم امتن قلبي لكم لتفهمه
أشكركم من أعماق قلبي لحماسكم وتشجيعكم
ولكل كلمة كتبتموها وقرأتها بكل سعادة وحب وامتنان .
جميع من كتب منكم سطرا في المنتديات الثلاثة التي تعرض
فيها الرواية ليتأكد ويتيقن من أن برد المشاعر قرأته باليوم
والساعة ومتابعة معكم وإن لم أكن بينكم
وأشكرا شكر خاص كل من يساهم في إنجاح الرواية
وإيصال فصولها لمتابعيها ... الغاليات على قلبي توبار
وبلومي لاهتماهم بروابط فصول الرواية لتكون في
متناول جميع المتابعات والغالية لامارا لتكفلها
بإيصال الفصول حيث عجزت عن وضعها هناك ولا أنسى
حبيبتي طعون وفي رأس الهرم مشجعتي وداعمتي وذراعي
اليمين التي توصل الرواية لكم جميعا فيتامين سي
أشكركم جميعا وأعتذر مجددا وأسال الله في هذه الأيام
المباركات أن يمن عليا وعليكم بالخير والصحة والعافية
والعفاف وصلاح الدنيا والآخرة وأن يحفظ ليبيا وكل بلاد
عربي يعاني وأن يجعل كيد من أرادنا وأرادهم بسوء في
نحره وأن يرينا فيهم عجائب قدرته
*****
الفصل السابع
المدخل ~
بقلم / عبق حروفي
أحبگ.. ولكن لا أريد أن أشعر اتجاهگ..
اشتقتگ.. ولكن لا أريد أن أراگ..
أتعطش لقربگ.. ولكن لا أريد أن أرتوي منگ..
أريد الأمان بحضنگ.. ولكن لا أريد قيدگ..
خذ النقيض لگ.. ودع نقيض النقيض لي..
*****
خرجت من الغرفة راكضة وصوت واحد يتردد داخلها بأن من انتظرته
لأعوام طويلة قد عاد أخيراً
من علقت كل أمل لها في الحياة على عودته قد أصبح الآن على بعد
أمتار قليلة فقط منها
بل من كبر حلم رجوعه معها منذ كانت طفلة حتى تحولت لإمرأة لم تعد
رغباتها طفولية بسيطة تقتصر على الحماية والأمان
بل أصبح ما تحتاجه رجل يقف في وجه ظروفها بكل قوة ,
ولن تستطيع استيعاب أنه لن يكون هو .. لا ليس هذه المرة لن
يستحمل قلبها أمراً مماثلا
ولا تستطيع تصديق ذلك فمن غيره سيدخل المنزل هكذا دون استئذان
وكأنه يؤكد للجميع بملكيتها هي له
ولاحق لهم في الاعتراض أو اعتباره دخيلاً ،
وصلت السلالم في وقت قياسي ونزلت بضع عتبات
حتى ظهر لها الباب الذي كان يهتز بقوة بسبب ضرب من في الخارج
له وكانت ضربات قلبها تصرخ معه كالزلزال
وكأنها لم تختبر من قبل جنون ضرباته !
بلى هو بالفعل لم يصل لهذا الحد من قبل ,
كان جميع ساكني المنزل وقتها وحتى الخادمات قد تجمعوا وسط بهوه الواسع
بسبب كل ذاك الصوت والضجيج وكأنه إعصار اجتاح الباب الذي يكاد يكسره
وصل عمها للباب أولاً وهو يصرخ بغضب
" مهلك ستوقع الباب كائنا من كنت "
لكن عباراته تلك لم تكن تزيد ركلات ذاك المجتاح الغريب إلا قوة وتتابع
نزلت بضع عتبات أخرى حتى أصبحت في منتصف السلالم حين وصلت
يد عمها لمقبض الباب الذي ما أن أداره
حتى اندفع للداخل بقوة كادت توقعه وظهر صاحب كل ذاك الصخب
أمامه لتتراجع فوراً
ملتصقة بجدار السلالم خلفها تنظر بصدمة لذاك الجسد الطويل ,
للبنطلون الأسود والحذاء الأسود الطويل
الذي اختفى ثلث البنطلون تقريبا مع ساقيه تحته ، السترة السوداء التي
احتضنها ذاك البنطال أيضا
مبرزاً الحزام الأسود الذي يشده حول خصر نحيل يعاكس الأكتاف
والعضلات الصلبة أعلاه
والتي عجز اللون الأسود وحتى سمك تلك السترة عن إخفائها وأزرارها
العلوية المفتوحة تكشف عن القميص الرمادي القطني تحتها
أصبح نبض قلبها يتحول لرجفان في جميع أجزائه ونظرها
يصعد تدريجيا من العنق بأوردته النابضة البارزة دليل الغضب المكتوم
للوجه والشعر الأسود الفاحم الناعم الذي يعلوه
" أهذا تيم !! "
كان همسها المصدوم ذاك ضعيفاً مرتجفاً وكلماتها تخرج دون شعور
منها ونظراتها الغير مستوعبة تنتقل في قسمات تلك الملامح الرجولية
والتي رغم خشونتها وعبوسها وخطوط الغضب في قسماتها
إلا أنها كانت تصرخ جاذبية ورجولة وثقة واستقلالية ، لا يمكنها
تصديق كل هذا ولا استيعابه !!!
تيم الفتى النحيل ذو الملامح الباردة الحزينة يكون هذا الشاب الواقف
هناك والذي لم يلتقط نظره ممن أمامه شيئا سوى عمها الواقف أمامه ؟
هل للسنين أن تصقل البشر بهذا الشكل المذهل !
هل يمكنها حقا تصديق أن يكون هذا الشاب من عرفته من أربعة
عشرة عاما يلعبان معا بسلحفاة صغيرة فوق حشائش فناء المنزل الخلفي ؟
هل هذا هو تيم ذو الاثني عشرة عاما الذي كان يحمل حقيبته على
ظهره ترافقه مرغماً لمدرستها لأنه مصدر أمانها الوحيد من فتيان
البلدة ؟
بل هذا من هاجر واختفى من عقد ونصف وهي زوجته ابنة الخمس
سنين وعاد اليوم وهو لازال الزوج الذي أجبر الناس على الاعتراف
به وإن لم يعد أحد يراه ؟!!
امتلأت عيناها بالدموع وهي تنظر لعينيه
لنظرته السوداء الحارقة الموجهة لعمها ، أجل هذا هو .. إنه هو تيم
كنعان الذي عرفته
واختزلت له في قلبها مئات الصور التي كانت بدأت تفقدها بمرور العام
تلو العام
لكن تلك النظرة وتلك العينان لم تنساهما أبدا وما كان لشخص أن ينسى
عينان حملت جينات عائلة كنعان هازان .
شدت قبضتاها على الجدار خلفها بقوة ولم تستطع انتزاع نظراتها من
ملامحه الرجولية
حتى النقرة في ذقنه البارز لازالت أكبر دليل على أنه من عرفته في
يوم كم صار بعيداً جداً بحجم مأساتها ومعاناتها الطويلة .
كم انتظرت هذا اليوم وهذه اللحظة لأعوام وأعوام مضت
لتثبت للجميع أنها ليست وحيدة ، ليست مذنبة وامرأة ناقصة وأنه ثمة
من لن يسمح لأحد بجرحها
ولا إهانتها مجدداً لأنه ليس لها أحد .
لا تعلم ما الذي يجعلها جامدة مكانها هكذا كالتمثال ؟ لما لا تركض
له لتحتمي في حضنه
من كل شيء وخاصة ممن يقفون هنا الآن ليعلموا أنها لم تعد
وحيدة مهانة لا يردعهم أحد عن إيذائها متى وكيف شاءوا ؟
بلى تعلم لما ... إنه العجز التام عن التصديق واستيعاب كل هذا وكأنها
تحتاج فعلا لما يثبت لها الواقع الحي أمامها والذي أتاها اليقين منه
فوراً حين قال عمها
كاسراً لحظة الصمت الطويلة تلك رغم قصرها
" من أنت ؟ "
كانت تلك أكبر عبارة ضنت أن التاريخ سيسخر منها ولولا هول
الموقف وشدته
لكانت انهارت على السلالم تحتها من الضحك فلن تصدق أنها وحدها
من تعرفت على ذاك الطيف الأسود المدمر
والملامح القوية الغاضبة بل والنظرة الكفيلة بالقتل دون سلاح ، شعرت
بأطرافها جميعها تتشنج
وبالبرودة تسري فيها مجرى الدم في العروق وهي تنظر لتك الشفتين
المتساوية تشكل فما قاسيا
وقد تحول مزاجه القاتم للسخرية فجأة وخرجت منه الأحرف التي لم
تزد تلك الشخصية القوية المسيطرة إلا قوة
وهو يقول بتأني من يعرض على ضحيته طرق تعذيبها ونظره لازال
على عيني الواقف أمامه لم يحركه قط
" تيم كنعان طبعا ... وكابوسك الأسود القادم "
*
*
*
انزلق الهاتف من بين أصابعه واصطدم بقدمه قبل أن يستقر على عتبة
السلالم تحته
وتركت يده الأخرى لا شعوريا الذراع التي كان يمسكها تراقب نظراته
المصدومة
التي حاولت التراجع للأعلى وانتهى بها الأمر أن وقعت جالسة على
العتبة التي صعدتها
مما أخرج أنينها المتألم الخافت وقد همست بملامح متألمة
" سحقا لهذا ... "
مما أكد له أكثر أن الذي سمعه حقيقة وأنه لم يكن وهماً كما ضن
للحظات بل كما صور له عقله
الذي رفض تصديق أن ذاك الصوت الأنثوي الرقيق خرج من الواقفة
أمامه وليس من صنع خياله فقط .
تراجع لا شعورياً للأسفل بضع خطوات وكأنه يريد بذلك أن يساوي
نظره بالجالسة على أولى عتبات السلم في الأعلى , نقل نظره منها
لهاتفه الذي لازال يخرج منه صوت جده الصارخ الغاضب بعيداً
منخفضا
( وقاص أجب .... أين أنت الآن ؟ .... تكلم يا وقاص)
ثم عاد ورفعه مجدداً لوجه الجالسة مكانها , من كانت منذ قليل في
نظره الخرساء الصامتة
المظلومة من قِبل الجميع , الجميلة التي لم يعبها إلا ذاك الصمت التام
القاتل , صاحبة أجمل عينان زرقاء قد سكب المحيط مياهه الغامقة في
حدقتيها الكبيرتان وملامح بلغت من الرقة أن يحار المرء ما أن يراها
بأن تكون مرت فعلا بمآسي في حياتها اقتصرت فقط على نظرات
عدائية صامتة كانت ترميهم بها .
هل فعلا هذه المرأة تتحدث !! هل صاحبة هذه الملامح
الفاتنة والشعر البني الفاتح الناعم الذي التفت بضع خصلات منه حول
أصابعها الممسكة بسياج السلالم الخشبي بسبب طوله هي فعلا لها
صوت ويمكنها التحدث وبالإنجليزية أيضا ؟؟
لم يستطع انتزاع نظراته المصدومة من وجهها بينما كانت هي تنظر
لكل شيء حولها عداه وكأنها تتعمد الهرب من مواجهته أو هكذا خيل
له حتى استقر نظرها على هاتفه المرمي تحت قدميها ثم رفعته به
وابتسمت بسخرية وهي تقول ناظرة لعينيه
" لما لا تخبر جدك أنها أنا قبل أن يقطع رحلته عائدا لبريستول قبل
الصباح ؟ "
لم يعلق على جملتها تلك بل لم يستطع قول شيء وكل ما فعله حينها أن
حرك رأسه وهو يضرب كفيه ببعضهما ثم رفع يديه جانبا وقال بعدم
تصديق
" قولي أنها مزحة يا زيزفون وأنه ليس صوتاً هذا الذي يخرج من
حنجرتك "
نظرت له ببلاهة للحظة فهذه آخر ردة فعل كانت تتوقعها منه بعدما
فعلته وقد سمع جده صوتها القريب وعبارتها الإنجليزية تلك .
تعلم أن الحقيقة ستكون صادمة لأي فرد من تلك العائلة
لكن ليس درجة أن تنسف لدى هذا الرجل باقي الحقائق الأسوأ
المترتبة عليها
أبعدت نظرها عنه مجدداً وقالت ببرود
" وما الغريب في ذلك ؟ الجميع تقريبا يتحدثون "
خرجت منه ضحكة صغيرة مكتومة لم تعبر إلا عن صدمته التي لم يفق
منها بعد وتمتم بسخرية
" الجميع نعم لكن ليس البكم منهم يا ابنة عمي "
نظرت له بسرعة وهي ترميه بتلك النظرة العدائية مجدداً قائلة
" أنا لم أقل أني خرساء بل أنتم من قال ذلك .
ولا تنعتني بابنة عمي مجدداً "
كان جوابه الصمت التام محدقا بحدقتيها الزرقاء التي تلون محيطها
الغامق بغيوم رمادية غاضبة .
لم يعد يعلم ما يريد قوله وما عليه بالفعل أن يقول وهو يدرك أن
الجالسة أمامه تسمعه , تسمع ... !! تتحدث ... !! لا هذا فوق طاقة
استيعابه حقا ! وتقول بكل بساطة
أنهم من افترض ذلك !! من هذا الذي أخبرهم بأنها خرساء ومنذ
ولادتها ..؟ أليست جدتها ؟
ثم هو لم يعرف عنها إلا ذلك منذ بدأ بالبحث عن أي معلومات تخصها ,
كانت مجنونة وظهر غير ذلك تقريبا !
وكانت خرساء وها هي تسمعه وتحادثه الند بالند فما بقي أيضا من
حقائق مخفية سيكتشف أنها عكس ما يظن ؟
تقول يخبر جده ... ؟ يخبره بماذا ... ؟
هي تعلم جيداً أنه لن يفعلها فلما تطلب منه ذلك ؟
هل لتضعه موضع الغبي مجدداً وهو من دافع عنها وجلبها
إلى هنا دون علمه ... فما سيقول له ؟
هذه حفيدتك الخرساء المظلومة مهضومة الحقوق ها
هي تتكلم وتسمع ! بل وحتى سجنهم الوهمي ذاك كانت بكل بساطة
تخرج منه وهو يعلم ؟؟
نظر لهاتفه الذي بدأ بالرنين فيبدوا أن جده قرر أن يغير من أسلوب
استجوابه هذه المرة
لكنه لم يكن على استعداد أبداً للتحدث مع أحد ولا الجالسة أمامه أيضا
فكل ما فعله وقتها أن استدار نازلاً السلالم وتاركا كل شيء خلفه
ولأول مرة منذ عرف فيها هو وقاص نفسه يهرب من مواجهة
واقع ما مهما عظم حجمه فكيف إن كان ذاك الواقع امرأة ؟؟!!
*
*
*
لحظة صمت طويلة تلك التي عمت المكان وكأنه لا أحد فيه وكأن ما
أدلى به من لحظات قد أخرس حتى الجدران وحتى صوت الريح الباردة
في الخارج وكأن العالم بأجمعه قد مات وتحجر وتوقفت عجلة الزمن
تماما عن الدوران ... ابتداءً بعمها الجامد مكانه كالصخر فاغراً فاه
ليس بفعل الصدمة بل عجزاً عن قول أي شيء
ولم يستطع ولا إبعاد نظره عن تلك العينين التي أصابته نظراتها
السوداء الحاقدة في الصميم انتقالا لزوجته التي كانت تمسك فمها
بيدها من الصدمة
ليس بسبب رؤيته مجدداً أيضاً فهم يعلمون أنه موجود رغم اختفائه
بدليل دفاعه الشرس عن عقد الزواج الذي حاولوا إبطاله على مر
سنوات مضت بل بسبب جملته التي قالها تلك متوعدا لهم بمستقبل
أسود سيطاردهم كظلالهم فهي كغيرها من الموجودين
هناك تعلم أن صاحب هذا المظهر والحضور المدمر والثقة العالية
بالنفس لن يكون صاحب تهديدات مازحة أبداً ولا ممن يقول ولا
يمكنه التنفيذ .
فكيف وهي موقنة من أن جميع ما يملكونه مصدره امرأة تكون زوجته
قانونيا وستتحول ملكيته له
ما أن يظهر لتسقط وصاية عمها عليها حسب قانون ابن شاهين القديم
والذي تمسكت به البلاد بعد رحيله لما رأوا فيه من صلاح ومنافع .
أما من لم يفهموا ما يجري هناك فكانوا الفئة الأغلب سواء الخادمات
اللاتي كن يتبادلن نظرات مستغربة وهمسات غير مفهومة أو الابنة
ذات الخمسة عشرة عاما ونظراتها المستغربة تنتقل بين والدها
والشاب الغريب عنها تماما والذي رحل وهي بالكاد تخطو خطواتها
الأولى .
كان قيس هو من كسر صمت الأموات ذاك مجدداً ما أن استوعب حقيقة
هوية الواقف أمامه واستطاع أخيراً أن يتذكر أين رأى تلك الملامح
سابقاً .
استجمع أنفاسه وحوّل نبرته للبرود وكأن الأمر لا يحرك فيه ساكنا
وهو يقول
" ما الذي جئت تريده ؟ "
تيم هذه المرة من لو كان في مزاج أفضل وليس عدو طفولته من يقف
أمامه لفعل ما لا يحدث معه إلا نادراً وانفجر ضاحكاً فهذا الرجل لم
تغيره السنين وكما توقع الأبله الجبان يبقى أبلهاً وجباناً
مهما علا وتغطرس .
تحركت شفتاه بابتسامة ساخرة جامدة كفيلة بإيصال رسالة موت بكل
برود وبساطة وخرجت الأحرف أقوى وأعمق منها وهو
يجيب " زوجتي "
كلمة رغم قلة حروفها ... رغم تفوهه بها وحيدة يتيمة ورغم عدم
أهميتها للواقفين قرب الباب جميعهم إلا أنها كانت كفيلة بقتل الواقفة
عند منتصف عتبات السلالم هناك درجة أن جعلتها تنهار
جالسة عليها تمسك أصابعها بطرف العتبة الرخامية تحتها كي لا تقع
مغشياً عليها ودموعها الحارة تتدفق من مقلتيها دون توقف .
كلمة لم تعني لهم شيئاً لكنها حملت جميع معاني الكلمات بالنسبة لها
كلمة كم تمنت أن تسمعها منه هو تحديداً .. ليس بلهجة ساخرة ولا
هازئة كما كانت تسمعها على مر الأعوام من ألسن الآخرين وهم
يسخرون من حالها ووضعها ، كانت تريد سماعها هكذا
بأحرف قوية واثقة صادقة لا أحد يستطيع مواجهتها بالاستهزاء ولا
الاستنقاص كما كان يحدث معها هي سابقا حتى توقفت من أعوام
طويلة عن ذكرها وتذكير الناس بحقيقة وضعها .
كان جواب عمها وردة فعله أهون على نفسه من أي شيء وكأنه ألقى
عليه دعابة لم يستطع أن يضحك عليها ولا مجاملا وقد حرك يده
ملوحاً بسخرية
" وعز الطلب ، خذها من الآن "
قست عيناه السوداويتان لتصبحا حجرين غاضبين جعل تلك النظرات
السوداء التي لم تفارق عينيه لحظة تشتد اسوداداً وغضباً سرعان ما
تحكم به وكأنه يخمد بركان ثائر داخله بحرفية من يتحكم
في انفعالاته ببراعة لأعوام حتى أصبح مضرباً للمثل والعضو الأهم في
منظمة سرية شعارها الموت والقتل دون رحمة ، رفع ذقنه معززاً ثقته
القوية تلك بنفسه في نظر كل من وقع عليه منهم وقال ببرود
" وحدها ؟ "
سؤال رغم اقتصاره على كلمة واحدة إلا أنه كان يعبر عن جمل طويلة
وعبارات قد اختصرها على نفسه وعلى الجميع ، سؤال كان واضحاً
جداً رغم استعسار فهمه بالنسبة لهم وهم يتبادلون النظرات المستفهمة
حتى قال قيس ساخراً هذه المرة
" وهل تريد أخرى معها ؟ "
" بل ومالها بأكمله "
كان جوابه مباشراً وسريعاً درجة أن وقع كالصاعقة المباشرة عليهم
مثلما خرج من شفتيه بلا أدنى اهتمام لما يعنيه بالنسبة لهم درجة أن
استيعابهم له تلاشى مع الهواء الداخل من الباب خلفه
وكان النصيب الأوفر من وقع كل تلك الصدمات على التي وقفت على
طولها مجدداً تنظر له بصدمة
رغم أن نظره لم يلتقطها بعد لأنه لم يبعده عن عيني الواقف أمامه
والذي انتظر طويلاً أن يلتقيه ، لا تصدق ما سمعته الآن !
هل هذا ما عاد لأجله !
هل لأجل المال هو هنا الآن ؟
المال الذي سيمتلكه بملكيته لها فقط كما حدث مع عمها ؟
اللعنة التي كانت سبب كل ما هي فيه حتى اليوم !
ألأجل هذا فقط هو هنا ؟
عادت دموعها للنزول مجدداً حارقة قاتلة هذه المرة تشبه الحقيقة
المرة الجديدة التي وجدت نفسها فيها .
لما يعاملها الجميع كسلعة رخيصة ؟
أين العدالة وأين الصواب من كل هذا ؟
تمنت أنها لم تملك يوماً ذاك التعيس المسمى مالاً ، بل ليتها ماتت قبل
هذا اليوم وانتهت .
صرخ قيس هذه المرة خارجاً عن كل بروده السابق
" لا مال لأحد لدي لأني من بناه بشقائه وتعبه ، إن كنت تريد تلك
البليدة خذها ورافقتك السلامة أو لا شيء لك عندي والقانون
الفاصل بيننا "
ما أن أنهى جملته الغاضبة تلك بكلمات تدفقت من شفتيه كالسيل كان
عنقه في لمح البصر في قبضة الواقف أمامه يشد أصابع يده الواحدة
عليه بقوة وقد همس من بين أسنانه المطبقة على بعضها بغضب دفين
" قلت هي ومالها وجرب أن ترفع صوتك في وجهي مجدداً "
كان يرتجف تحت ضغط قبضته القوية تلك بسبب أنفاسه التي كانت تكاد
تتوقف والشهقات النسائية المصدومة تتعالى خلفه .
أليس هذا هو الفتى الذي كان يجره على الأرض كالشاة قبل أربعة
عشرة عاما مضت ؟
أليس هذا صاحب ذاك الجسد النحيل الذي كان ينهال عليه ضرباً وهو
صامت لا حول له ولا قوة ؟ فها هو اليوم وطوله قد فاقه بكثير
وبقبضة لعنقه من أصابع يد واحدة أعجزه عن الحركة والكلام
بل وحتى التنفس وهو من لم يحسب لهذا اليوم حساباً ، حقيقة مهما
أنكرتها تلك العائلة وتناستها مع مرور السنين إلا أنها الآن أقوى من
أن يخفيها أي شيء لأنها واقع ملموس ولا مفر لهم منه .
حرر عنقه من قبضته الفولاذية ما أن شعر بأنه بدأ يفقد أنفاسه جدياً
وعجزت يداه حتى عن محاولاتها لإبعاد يده لكن ذلك لم يكن خلاصه
الأخير منه فقد أمسكه من ياقة قميصه سريعاً
يضمها في قبضته وكأنها شيء لا يذكر وليست تحمل جسداً بشرياً وهو
يشده به ناحيته وقد همس مجدداً بتهديد
" ما فعلته بي وبوالدتي سابقاً لن أحسابك عليه وبطلب منها فقط وإلا
لكنت سلخت لك جلدك عن عظامك ثمنا لكل لحظة ألم قاستها وكل ليلة
نامت فيها جائعة لكن ما فعلته بماريه لن تنجوا من الحساب عليه ،
قسما وأنا تيم كنعان أن تدفعوا ثمن حتى الدموع التي لم تروها تنزل
من عينيها "
كان تهديدا واضحاً وصريحاً لم يتردد صاحبه في الإدلاء به رغم أنه لم
يتعدى سمعهما هما الاثنين وعينا الواقف أمامه قد شخصت فيه بذهول
ما أن تابع بذات نبرته القوية المهددة
" قسما أن مصيركم رصيف الشارع بعد أن تتحول حتى ملكية منزل
جدكم لي يا سارقين وهو من كتبه موثقا بإسم والدتي "
هزه بعدها من ياقته قائلا بعلانية هذه المرة
" للشارع فهو مكان أمثالكم "
" لن أغادر معك يا تيم "
عبارة أنثوية مرتفعة تلك التي أسكنت المكان مجدداً ونقلت الأعين منه
للواقفة هناك عند آخر عتبات السلام تقريبا ، وحتى نظره هو تحول عن
الواقف أمامه ولأول مرة ليصل لصاحبة ذاك الصوت بل لصاحبة تلك
العبارة الرافضة ومن ظن أنها سجينة غرفتها وليست ضمن
المخلوقات التي لم يعر وجودها اهتماما ولا من باب الفضول وكل
نظراته واهتمامه كان منصباً على الرجل الذي لازال مرتبطا لديه بتلك
الطفولة البائسة ، ركز هذه المرة نظراته القوية عليها هي لتصبح
نظرات المقارنة من نصيبها الآن بين تلك الطفلة المبتسمة دائما ذات
الملامح الجميلة والطفوليه
لهذه الشابة الحزينة اليائسة يظهر على ملامحها ما قاسته كل تلك
الأعوام دون سؤال , وقد تحول الجسد الطفولي النحيل لجسد أنثوي
مكتمل يحسدها عليه كل من وقع نظره عليها والملامح البريئة
الجميلة وقد تحولت لفتية أجمل منها بكثير ، الطفلة التي كانت تجبره
على مشاهدتها وهي ترقص له مبتسمة وكان وحده يكفيها جمهوراً لها
الطفلة التي كانت تسرق وتتلقى العقاب تلو الآخر فقط من أجله ولم
تهتم يوماً لسخريته منها ولا لانزعاجه من وجودها وهي تثبت له يوماً
بعد يوم أنه وحده ضحكة طفولتها تلك وأن تعلقها الطفولي به يشبه
تعلق الجسد بالحياة إن فقدها يذبل ثم يموت
بل الطفلة التي علمته على مر الأعوام التي مضت أن الكبار مزيفون
ومخادعون وأنهم مجرد دمى يحركها الجشع والشر يفتقدون بالفعل
لبراءة تلك الطفلة الوحيدة التي عرفها ملتصقة به ، حتى يوم وفاة
والدته كانت وحدها من شعر بحزنه ووجوده .
نظرته الثابتة العميقة تلك لعينيها جعلت مشاعرها الغاضبة تتهاوى
للقاع وهبت في أحشائها عاصفة من المشاعر المتناقضة مزقتها إرباً
إرباً , فهل للسنين حقا أن ترسخ المشاعربكل ذاك القدر ؟
هل ضنت سابقاً أن كل ما تحتاجه من هذا الرجل هو الأمان والقوة ؟
هل فعلاً مشاعرها تقتصر على البدائية فقط ؟
لا ليس الواقع كذلك فما سر ضربات قلبها المجنونة الآن وعيناه تحدق
بعينيها العسلية الواسعة ؟
لما تعجز عن إزاحة نظراتها عن عينيه وشعرت مجدداً بتلك الرغبة
الغبية في الارتماء في حضنه ؟
بينما ثمة ما سرق نظراته هو من عينيها اللامعة الواسعة وشعرها
البني المتناثر حول كتفيها وذراعيها حتى منتصفهما والجسد الذي لم
يخفي تناسق معالمه قماش تلك البيجامة السميك ، ما جعل نظره يترك
كل ذلك هو أثر الصفعة الواضح على خدها والدماء الجافة في طرف
شفتها نظرة كانت أقوى وأكثر غضبا من سابقاتها جعلتها لا إراديا
تتراجع للخلف خطوة وقد رفعت أناملها لوجنتها التي لم يختفي ولا
الشعور بالألم فيها حتى الآن وكأنها تخفيها بها وانكسرت نظرتها
للأرض في حركة من جفناها الواسعان كانت كفيلة بإشعاله حد الجنون
هذه المرة
فرفع قدمه من الأرض وضرب بمؤخرة حدائه على الجدار ضربة جعلت
شهقات الموجودات قربه تتعالى وهم يرون نصلي سكين صغيران
حادين ولامعان يخرجان من طرفي حدائه الجلدي
ودون أدنى تردد أو تراجع رفع قدمه وهوى بها على قدم الواقف أمامه
لازالت ياقته في قبضته القوية لينغرس النصلان في مشط قدمه حتى
نهايتهما مع تعالي صرخته الرجولية
وهو يضغط على قدمه أكثر محركاً لها فوقها بدون رحمة هامساً بكره
" تضربها يا عديم الرجولة ، تذوّق إذاً أول عقوباتك وهو عودة قيس
الأعرج من جديد ، من نسي أنه تخلص من ذاك العيب واللقب
بفضلها هي "
لم يرحمه من سحقه لقدمه دون رحمة حتى انحني من الألم رغم شده
له وصرخاته ترتفع من شدة المه مختلطة بصرخات وبكاء زوجته
وابنته وخادماته من خلفه
"ولا واحدة تقترب مني أو قتلتها وقتلته بهذا "
أشهر مسدسه الأسود مصوباً لفوهته باتجاههم وكانت صرخته تلك ما
جمد كل واحدة منهن مكانها ولم يعد يصدر منهن سوى صوت البكاء
وعبارات الرجاء من ابنته وزوجته الباكيتين
فابتسم لهما بسخرية باردة وأدار قدمه مصدر بذلك ابن عم والدته تلك
الصرخة الأعلى واشتد معها بكائهما وصراخهما المنفعل فصرخ فيهما
مجدداً وملوحا بمسدسه جانبا
" أصمتا كليكما الآن لا أريد سماع عويلكما المقرف أو قتلته "
فتحول الأمر للنحيب في صمت والجميع يرى ذاك المنظر البشع والدماء
قد شكلت بقعة واسعة تحت قدميه ويعجز الجميع عن التحرك من
أمكنتهم كي لا يتحول تهديده لحقيقة فكان مشهداً سادياً حياً يُعرض
أمامهم دون أن تستطيع احداهن الاقتراب منه ، باستثناء واحدة فقط
كانت من تحررت قدماها لتصل إليه ، من لم يشملها تهديده ولم تهتم له
وهي تركض نحوه
حتى وصلت له وشدت طرف سترته السوداء وهزته منها صارخة
ببكاء ونظرها على عينيه المحدقتان بها
" توقف يا تيم ، لا تكن نسخة عنه .... توقف الآن "
وتحول الأمر للكمات ضعيفة واهنة من قبضتها الصغيرة أمام عضلاته
القوية البارزة ، هي فقط من تجرأت على اختراق تهديده الواضح لهم .
وهي فقط من جعلته يرفع قدمه بالفعل
محرراً تلك القدم الغارقة في دمائها ما أن دست وجهها في حضنه باكية
والتفت ذراعيها حول خصره تقبض بقوة على ظهر سترته فتركت
قبضته ياقة قميص ذاك الرجل وشد بها رأسها لصدره أكثر تتغلغل
أصابعه في شعرها البني الناعم يدفنها حيث أمانها الذي طالما بحثت
عنه وانتظرته والذي فقدته بفقدانها له منذ غادر بلدتهم الصغيرة تلك .
كانت تسكب دموعها حيث ضربات قلبه الثابتة وتدفن وجهها بقوة في
طيات ذاك الصدر العريض تشد ذراعيها حوله بقوة
وكأنها تخشى اختفائه وفقده من جديد بل وكأنها ليست من رفضت
الرحيل معه منذ قليل وصرحت بذلك علانية وهي تتمسك به الآن تمسك
الطفل بوالدته والرجل الشريف بأرض وطنه فهو الحياة التي فقدت
ألوانها بفقدها له .
هو الماضي الجميل الذي ظنت أنه لن يعود وهو الذكرى الوحيدة
الجميلة الحية من ماضيها , بل وهو الرجل الوحيد الذي لن يحاسبها
أحد على تمسكها هكذا بحضنه الذي لم تعرفه إلا طفلة باكية إن وقعت
وتضررت ثم ارتمت فيه تخفف أوجاعها وإن بالشعور بوجوده .
هو ذات المشهد وذات الأشخاص فقط أن الوجع الآن أكبر والضرر
أعمق والحضن أيضا أقوى وأعمق وأكثر أماناً من ذاك الوقت حين كان
جل ما تحصل عليه منه هو تخفيف ألمها الصغير بكلماته البسيطة تلك .
كان يدسها في حضنه بقوة حيث عبراتها المكتومة ونظراته السوداء
الغاضبة موجهة للجالس أرضا وزوجته وابنيه حوله متشبثون به .
مشهد كم شاهدته لأعوام وهي وحيدة لا تحصل سوى على السخرية
والتجريح منهم ولم يحسب أياً منهم حساباً لليوم الذي ستجد فيه هي
أيضاً حضناً يؤويها ويحميها من ظلم الجميع .
غرس أصابعه في شعرها أكثر يشدها لصدره
وهمس بتأني " أشــشـــش ماريه يكفي بكاء "
جملة لم تزدها سوى بكاءً وتعلقاً به وبكت حتى لم يعد يمكنها البكاء
أكثر وكأن الماضي عاد بهما لذاك الزمان والمكان طفلة تبكي في
حضنه يسكتها بهمساته تلك ذاتها .
فكيف لا تبكي الآن وجل ما كانت تفعله تلك السنين هو البكاء على
حضنه الذي فقدته طفلة ؟
كيف يطلب منها أن لا تبكي ووحده من يعلم ما يعنيه تيم كنعان لامرأة
عانت الظلم والوحشة وسط عائلتها وأهلها لأعوام وقد فقدت كل شيء
حتى ابتسامتها منذ فقدته .
رفع يده الأخرى ومسدسه لازال فيها ولفها حول خصرها النحيل
يشدها لحضنه أكثر كأول امرأة عرفت ذاك الحضن برضا تام منه
ونظرته لهم لم تكن تحمل إلا الوعيد والويلات وكأنه يسرد لهم
حقائق مجردة عن كل ما فعلوه رغم أنه كان غائباً عنهم فمن يمكنه
تصديق أن تلك الفتاة الوحيدة والبعيدة عن الجميع منطوية على نفسها
وحزنها ووحدتها بسبب نبذ الناس لها أن يكون لها رجل كهذا حتى
القتل في منهجه وقانونه مباح كما رأوا أمامهم منذ قليل .
أن يُصرّح وعلانية وبكل ثقة أن كل ما يملكونه أصبح لها وهي من لم
تتجرأ على قولها يوماً رغم أنها صاحبة المال الذي أنكره حتى الناس
من حولها وبأنها لا تستحقه .
أبعدها عن حضنه ما أن خف بكائها قليلاً ممسكاً رسغها ويدها الأخرى
تحاول بها مسح الدموع من وجهها وإبعاد خصلات شعرها الملتصقة
به ونظرها للأرض بينما نظره لم يبعده عنهم ، شد أصابعه حول ذاك
الرسغ الضئيل مقارنة بقبضته وأصابعه الطويلة وقال ناظرا لهم
باستحقار وكأنهم حشرات أمامه
" هي أربع وعشرون ساعة فقط وتكونون
خارج هذا المنزل طوعاً قبل أن تجركم القوات الخاصة منه أمام الناس
, ولا تخرجونمنه بأكثر من خرقكم البالية جميعها وابحثوا لكم عن مكان
غير منزل جدي فلن أستقبل في أملاكي أمثالكم ، ولا يفكر أحدكم في
أخذ شيء من أي مكان كنتم تملكونه , وحتى أرصدتكم المصرفية
اختفت لغير رجعة وأصبح المال بأكمله باسمها من أقل من ساعة
والشركة أيضا ومزرعة الخيول والأراضي ... "
وانتقل يسرد عليه أملاكهم بالتفصيل درجة أن زوجته نظرت له بصدمة
وهي تسمع للمرة الأولى عن بعض المنازل والممتلكات المتفرقة في
البلاد وخارجها ، أمسك طرف الباب وضربه بقوة فاتحاً له أكثر وقال
" وفكر أن تواجه كل ذلك بالقانون يا قيس وسيكون مصيرك السجن .
ولا تتفوه مجدداً بحماقة أنك من استثمر المال فهو أكبر من أن ينجح
في استثماره رجل فاشل مثلك عاش ينفق منه لسنوات دون رقيب "
وما أن أنهى جملته تلك حتى خرج ساحباً لها خلفه من رسغها الأيمن
بيده اليسرى يثبت بيده الأخرى سماعة كانت في أذنه اليمنى محدثاً
أحدهم وهو يجتاز بها فناء المنزل جهةالباب الخارجي له ببيجامة النوم
وحذاء المنزل وكأنه يسرقها منهم سرقة
" لا تكن مزعجاً قلت أنها أربع ساعات فقط وها أنا خارج الآن من
المدينة وتوقف عن اللغط فأنا أدرى الناس بسلامتي "
أنهى عبارته الغاضبة تلك وفتح باب السيارة السوداء المتوقفة عند باب
المنزل ودفعها لتركبها أمام مرأى الجيران الذين جذبهم صوت الصراخ
والبكاء الذي تسلل منذ قليل من باب المنزل المفتوح وهم يرون الآن
الشاب الغريب الذي خرج منه ساحباً خلفه الفتاة التي لا يجهل
شخصيتها أياً منهم وكأنهم يوثقون شبهة جديدة يلصقونها بها مستقبلا
ضرب الباب خلفها ثم نظر لهم وصرخ فيهم رافعاً مسدسه الأسود فوق
مستوى كتفه
" لينطق أحدكم بحرف عنها وحسابه سيكون مع تيم كنعان شخصياً "
أنهى جملته تلك ملجماً جميع تلك الأفواه ولم يبقى منهم سوى أعين
محدقة بصمت يراقبونه وهو يركض بخطوات واسعة حول السيارة التي
ركبها وغادرت صرير عجلاتها يصم الآذان
وانفتحت الأفواه بذهول وهم يرون ثلاث سيارات للقوات الوطنية
الخاصة تخرج من مفترق الطريق
وكأنها تخرج من العدم تطوق تلك السيارة الرياضية السوداء من
نواحيها الثلاث كطوق حماية قانوني يزيد تلك الأفواه خرساً عدا التي
أطلت من نافذة غرفتها في الأعلى تلوح بيدها صارخة ونظرها على
السيارات التي تعبر الشارع الطويل
" حضاً موفقاً ياماريه وهنيئا لك بمثل هكذا زوج "
أنهت عبارتها الأخيرة وهي تنظر لتجمع الجيران في الأسفل مبتسمة
بانتصار دون أن يستطيع أي منهم أن يعلق بشيء .
ركضت بعدها لهاتفها حين علا بنغمة رسالة وفتحتها سريعا رغم
أن الرقم كان رقم محاميه فمن فرط سعادتها وحماسها لا تستبعد أن
تفعل أي شيء , وإن كان أمامها الآن لقفزت نحوه حاضنة له دون
تفكير شاكرة لصنيعه .
تتبعت حدقتاها كلمات رسالته بحماس
( إن دخل تيم السجن وتحولت صديقتك لأرملة فسيكون بسببك يا
طويلة اللسان(
أخرجت لسانها لأحرف رسالته مبتسمة ، في ظروف غير هذه ما كانت
لتفكر في الرد على رسالته لكن سعادتها بخلاص ماريه منهم جعلتها
تجيب فورا
( ما كنت لأسمح له هو أن يصبح أرملاً ويتزوج بأخرى بعدها فموته أشرف له من أن يقتلها عمها(
توقعت كالمرة السابقة أن لا يرسل رداً على رسالتها تلك لكن فاجأتها
الرسالة التي ظهرت على الشاشة وجعلت عيناها تخرجان من مكانهما
خلف شهقتها المصدومة فور أن قرأت ما فيها
( ألستِ طالبة في جامعة الإتحادية الكبرى ؟ انتظريني إذا في الفصل
الجديد ولن تجتازي مادة القانون التجاري وإن شاب شعر رأسك يا أم
لسانين(
*
*
*
تثائب يغلق فمه بظهر كف يده ثم مرر أصابعه في شعره المبلل
والمسرّح بعناية وقال بكسل
" أمي بالله عليك هل حقا تريدين مني أخذك هناك ؟ وفي هذا الوقت ! "
كتفت يديها لصدرها قائلة
" أجل فالرحلة لحوران تأخذ أكثر من أربعة ساعات ذهابا
ولن أستطيع بذلك العودة هنا اليوم , وأعتقد أنه لا شيء لديك
وغيهم في رحلة تدريبية وإلا كنت طلبت ذلك منه وليس منك طبعاً "
تأفف ودس يديه في جيبي بنطلونه الجينز متمتما بضيق
" عشنا ورأينا أمهات يحببن فقط الأبناء الذين يشبهون أزواجهم "
قالت من فورها عاقدة حاجباها الرقيقان
" ماذا قلت يا ابن أيوب ؟ "
لوح بيديه أمام وجهه قائلا
" لا شيء يا ابنة شاهين الحالك , يكفيني إيصالك
هناك كعقاب فوحده كاف وزيادة "
نظرت له بطرف عينها نظرة يفهمها جيدا فتنهد باستسلام قائلا
" والدي كان من سيأخذك فما تغير في مخططكما فجأة ؟ "
قالت من فورها وبذات ضيقها
" تغير أنه وعدني أن نغادر من هنا منتصف النهار وأنا
أراه منشغل جداً اليوم ويفعل ذلك من أجلي فقط , ولأنه له إبنان
أطول منه وقد جعل لكل واحد منهما سيارتان بدل الواحدة فعليك
فعل ذلك بدلا عنه ودون نقاش "
رفع رأسه ونظر للسقف متمتما بابتسامة
" يا رب ارزقني زوجة مثلها أنام وتسهر على راحتي "
ضربته بالحقيبة في يدها قائلة بضيق
" وتزوج إذاً بما أنك تتوق للراحة , ثم وكأنه ينقصك
نوم ورفاهية ؟ "
مسد ذراعه حيث ضربته وقال متألما بتمثيل
" بالرفق علينا يا ابنة الحالك , كل هذا لتري شقيقك الذي كان
يجب أن يأتي هو لزيارتك وليس أن تشدي أنتي الرحال له من
الصباح الباكر ؟ "
رفعت حقيبتها مجدداً هامسة من بين أسنانها
" أباااان "
فقفز للخلف خطوة قائلا
" حسنا ... حسنا , نذهب لحوران ما في الأمر "
" أمي ... "
كانت ستتحدث لولا قاطعها ذاك النداء الأنثوي من خلفها فالتفتت
برأسها فقط ونظرت للتي تقف عند نهاية السلالم في الأسفل ثم نظرت
للواقف أمامها وقالت قبل أن تغادرمن عنده
" تحرك بسرعة ولا تتحجج بأن سيارتك بها خلل ما لتأخر الرحلة "
وغادرت من عنده على صوت تمتمته متحركا خلفها وكأنه يتعمد
أن تسمعه
" أمري لله والدتي ولا مفر لي منك يا حبيبة القيادة العليا للمنزل "
فتنهدت بيأس تهز رأسها متوجهة جهة التي تنتظرها هناك
فطوال سنين مكوثها هنا لم تجد حلاً لطويل اللسان هذا الذي ومنذ
صغره لا يخشى فعل أو قول شيء ولا يفكر في العواقب فكبر هكذا
متمرداً وعنيداً وما يعنيه يأخذه كمزحة صغيرة فكيف بما لا يعنيه ؟؟
وصلت عند الواقفة مكانها والتي كانت نظراتها تراقب أبان حتى اختفى
ثم نظرت لوالدتهاوقالت بصوت منخفض
" لقد تحدثت معها البارحة بالهاتف وسألتها كما طلبت مني "
نظرت لها لبرهة باستغراب قبل أن تستوعب عما كانت تتحدث
ثم قالت
" جيداً فعلت فأمامكم يومي إجازة قبل الامتحان القادم .
ها ماذا قالت لك عنها ؟ "
حركت بثينة كتفيها قائلة
" قالت أنها لا تدرس "
قالت جوزاء من فورها " تقصدين لا تدرس في مدرستكم ؟ "
حركت رأسها بالنفي قائلة " بل لا تدرس أبداً "
نظرت لها باستغراب لوقت قبل أن تقول " أبداً أبداً ... ؟ "
أومأت برأسها بنعم قائلة
" أجل فقد قالت حوراء أنها لا تخرج من المنزل أبدا "
قالت جوزاء بفضول
" أخبريني عن كل ما قالته لك عنها "
قالت من فورها
" قالت أن والدتها متوفية وأن والدها تزوج من أخرى رزق منها
بتوأمين من ثلاث سنين فقط وأنها لم تراها إلا مرات قليلة جدا وأن
زوجة والدها تمنعها حتى من حضور المناسبات "
نظرت لها جوزاء بصدمة بينما تابعت هي بضيق
" تصوري يا أمي أنها تعتني بالطفلين منذ ولدا وهي ابنة العشر سنين وتهتم بالدجاج والأغنام في مزرعتهم وتساعد في المزرعة أيضا وكل هذا ويحرمونها من الدراسة كباقي الفتيات في البلدة "
رمشت الواقفة أمامه قليلا قبل أن تقول
" وأين والدها من كل هذا ؟ "
أجابت من فورها
" ما فهمته من حوراء أنه رجل قاس جدا وسريع الغضب والجميع
يتجنبه ولا أصدقاء له من البلدة تقريبا وأنه جعل ابنه الأكبر يدرس الهندسة الزراعية مرغما رغم تفوقه وأنها فتاة مطيعة جداً درجة أنها لا ترفض ما يطلبون منها فعله ولا تشتكي لأحد ولا حتى عائلة والدتها "
تمتمت جوزاء بضيق
" لا حول ولا قوة إلا بالله ... ما هذا الاضطهاد !! "
وتابعت متمتمه وهي تلتفت خلفها
" وذاك الأحمق يريد تأجل الأمر حتى تكبر ؟
كبرت عللك يا ابن جوزاء "
قالت بثينة باستغراب
" تأجيل ماذا ومن هو ذاك الأحمق ؟ "
نظرت لها وقالت
" لا شيء انتبهي أنتي لدراستك ولا أعلم من الخادمات أنك تجلسين
أمام التلفاز أو غضبت منك وأنتي تعلمي غضبي جيدا , واعتني بشقيقتك جيداً فلن اتأخر في حوران كله يوم واحد فقط "
تنهدت باستسلام قائلة
" حاضر أمي رغم أن ابنتك وحدها كفيلة بإلهائي عن الدراسة "
قالت مغادرة من عندها
" اهتمي بشقيقتك ولا تتحججي يا بثينة فغيرك ربت توأمين "
وغادرت مبتعدة عن التي استدارت مغادرة من هناك أيضا متمتمه بضيق
" أنا الحمقاء جلبت لها ما قلبته ضدي , لا أعلم أيهما سأتحجج
به هروبا من الآخر دراسة مملة أم طفلة مشاغبة لا تتوقف عن الحركة ؟ "
وما أن خطت خطوتين حتى أوقفتها اليد التي أمسكت بظهر بيجامتها وسحبتها خلف العمود الرخامي
فالتفتت مبعدة يده عنها بحركة من ذراعها قائلة بضيق
" أبان لقد أفزعتني "
قال باستهزاء
" حقا افزعتك يا رقيقة القلب ؟ آسف إذاً "
تأففت في وجهه وكانت ستغادر فأمسك يدها موقفا لها وقال
" ما الذي كنت تتهامسين ووالدتي فيه ؟ ولما غيرت رأيك في زيارة العمران ؟ لا أعلم لما يخبرني قلبي أنك تلعبين لعبة نتائجها خطرة جدا يا بثينة "
استلت يدها منه قائلة
" لعبة ماذا هذه الخطرة يا غبي ؟
أنا لا ألعب معك ولا بك فكن مطمئنا "
كتف يديه لصدره قائلا
" إذاً ما الذي أخبرتها به همسا منذ قليل ؟ "
قالت بضيق
" موضوع يخص النساء ولا يخصك فكن مطمئناً , ثم هي
طلبت أن لا أخبر أحدا وأنا لن أفعلها ولا على قطع عنقي
أو سأخبرها أيضا بما طلبته مني من باب العدل طبعا "
نظر لها بصدمة قائلا
" تعترفين إذاً أن الموضوع يجمعنا نحن الأثنين يا أم العدالة "
شهقت في وجهه قائلة
" أنا لم أقل ذلك "
وتابعت بضيق
" لا تتهمني بما لا يد لي فيه والموضوع حقا لا يخصك بل
طلبت مني السؤال عن فتاة تدرس في مثل سني وأنا فعلت
ما طلبت ولا علم لي بشيء "
نظر لها بفضول سرعان ما تحول لحماس وهو يقول
" حقا سألتك عن ذلك ؟ "
نظرت له باستغراب دون أن تجيب فتابع
" وما جلبت لها من معلومات يا جهاز الاستخبارات العالمي "
قالت بحنق
" لا دخل لك في ذلك ولن أقول ويكفي ما علمته "
غادر من عندها ضاحكا وهو يقول
" لا يهم المهم علمت أن لها وجود "
وابتعد على نظراتها المستغربة فلم تعد تفهم شيئا مما يجري
حولها ويقحمونها فيه وما علاقة أبان بتلك الفتاة ولما تسأل
والدتها عنها ؟؟
شعرت بشيء ما شد بنطلون بيجامتها فنظرت تحتها سريعا للتي تفرك عينيها النصف مفتوحتان وقد خرج صوتها الرقيق الطفولي مختلط بعبرة بكاء مكتومة
" أين ماما ؟ "
أمسكت يدها وسحبتها معها بسرعة قائلة
" ماما في الحمام تعالي سأريك ما في خزانتي ويكاد يقتلك فضولا يا رفيقتي ليوم وليلية الله وحده يعلم كيف سيكونان "
*
*
*
رفعت المنشفة التي وقعت منها أرضاً ورمتها في سلة الغسيل
ثم فتحت باب الحمام وشهقت بقوة وقبضت بأناملها على ياقة
روبها الحريري وفرشاة الأسنان في يدها الأخرى تنظر بصدمة
للواقف أمامها يضع منشفة على كتفه وببيجامة النوم أيضا
ويمسك وسطه بيديه ينظر لها مبتسما بسخرية وقد قال حين طال صمتها وتحديقها المصدوم به
" ساعة كاملة لتغسلي أسنانك ! كم من الوقت تأخذينه في
الاستحمام ؟ "
تراجعت خطوة واحدة للخلف ورمت الفرشاة من يدها دون أن تهتم حتى لمكان سقوطها وصاحت بحنق
" ما الذي تفعله هنا ؟ "
قال بذات سخريته
" عجبا !! هل يسألون الشخص ما يفعل في شقته ؟ "
لوحت بيدها بغضب وكانت ستتحدث فلم تجد أي كلمات تتفوه
بها لأن ذلك هو الواقع
لكن لما ومطر بنفسه أخبرها أنه يملك مالا أكثر مما يملك هو !!
شدت حزام روبها حول خصرها بإحكام قائلة بضيق
" لا أصدق أنه لا مكان لديك غير هذه الشقة التي امتلكتها مؤخرا "
مرر أصابعه في شعره وقال بلامبالاة
" بلى كان لدي فيلا كئيبة واسعة وخالية تصيب المرء بالمرض
من شدة الملل فيها فبعتها لأني لا أحتاجها بما أنه لدي خيار أفضل "
ضربت قدمها بأرضية الحمام قائلة باستنكار
" لكني أعيش فيها وصديقتي أيضا ومطر أخبرني أنك لن
تخرجنا منها "
كتف يديه لصدره قائلا
" بلى وأنا من قال ذلك وموافق عليه أيضا "
ضربت قدمها بالأرض مجدداً وبقوة أكبر هذه المرة صائحة بغضب
" ما الذي تفعله هنا إذا وبملابس النوم ؟
هل ضاقت بريطانيا بك لهذا الحد ؟ "
قال ببرود من يسكب بنزينا باردا حد التجمد على نار مشتعلة
" لا تصدري كل هذا الضجيج في الحمام فثمة ما يسمى بالجن تسكن فيه تسمونهم أنتم أشباحاً يا جاهلين "
قفزت دون شعور منها خارجه ونظرت له بضيق وهو يدخله ضاحكا وقد أغلق الباب خلفه
فشتمته هامسة رغم أنه لم يعد موجوداً أمامها سوى الباب الذي دخل منه .
توجهت لغرفتها وما أن وصلتها حتى عادت أدراجها جهة الغرفة المجاورة لها والتي كان بابها مفتوح قليلا .
وما أن دخلت وقع نظرها فورا على التي أغلقت باب خزانتها للتو ونظرت لها وقالت بضحكة مكتومة
" ما بك وجهك كقطعة من البورسلين ؟ "
أشارت بيدها خلفها وقالت بضيق
" من سمح لذاك الرجل بدخول الشقة ؟ أنتي أليس كذلك ؟ "
ضحكت من فورها قائلة
" لا طبعا فهو من دخلها بمفتاحه الخاص وأعتقد أنه من يستقبلنا
هنا وليس العكس "
شدت قبضتاها بغضب وهمست من بين أسنانها
" وعرّفك بنفسه أيضا ذاك الهمجي ؟ "
جلست تلك على طرف السرير وقالت ببرود وهي ترفع اللحاف وتدس ساقيها تحته ونظرها عليهما
" أجل وقال بأنه سيقيم هنا لفترة وأنكما مخطوبان يا جاحدة .
هل تخشي أن أسرقه منك مثلا ؟ "
نظرت لها بصدمة سرعان ما تحولت لحنق وهي تقول
" وبما سأخبرك ؟ بخطبة كنت أظن أنها ستنتهي لأني لست موافقة عليها ؟ هذا الرجل لا أعترف به خطيبا أبداً "
استوت تلك في استلقائها وقالت مبتسمة تشد اللحاف حتى ذقنها
" لا تكوني غبية جيسي فلست أراه إلا رجلا مناسباً فما أن تبادلت معه حديثاً قصيراً أدركت بأنه أفضل شخص رأيتك برفقته منذ عرفتك "
ضربت باب الغرفة قائلة بغضب
" هنيئا لك به إذاً "
وغادرت من هناك جهة غرفتها بخطوات غاضبة ودخلتها مغلقة
بابها خلفها بقوة زلزلت الجدران
فهذا لم يكن في حساباتها أبداً وباتت تتوقع الأسوأ من ذاك الرجل
ولن تصدق أنه يفضل العيش هنا في الشقة معهما مهما كانت
مرفهة ويترك منزلاً كبيراً يخصه وحده
ولن يعني ذلك إلا أن هذا القليل من كثير جداً ينتظرها منه .
أمسكت هاتفها ولم تعرف تتصل بعمها أم شقيقها الذي لا تعرف
أساساً أرقام هواتفه الجديدة هناك وتعلم أنها لن تجد حلاً لكل
هذا لدى أياً منهما فهما يشجعان هذه المهزلة المسماة خطوبة
ولن ينصفاها أبدا .
رمت الهاتف من يدها متمتمه بحنق
" ثمة حل واحد فقط لكل هذا وسأفعله "
*
*
*
لا يعلم كم من الوقت مضى وهو يقف مكانه هناك وكل ما يعلمه
أنه كان وقتاً طويلاً مهما قصر والأفكار تدور به في دوامات متصلة
وهو يقف عند الحجز الخشبي يراقب الظلام في الخارج وهذا فقط ما
يعلمه أن الوقت ما يزال ليلاً .
لا يعلم ما يوقفه كأفكاره هكذا ؟ هل ليقرر في أمر حسم قراره فيه
مسبقاً ولن يتراجع عنه مهما كان الأمر ؟
إذاً ما هذا الذي يجعل عقله يدور في دوامة واسعة حد أن شعر
بالألم في رأسه ؟
مرر أصابعه خلال شعره الغزير وتنفس بعمق مخرجاً ذاك الهواء من
شفتيه نافخاً له بقوة فما عادت له رغبة ولا في العودة لعمله المتراكم
مجدداً , مرر أصابعه نزولا لقفى عنقه ثم أدار رأسه ونظر لأول
مرة للمكان الذي نزل منه ليكتشف حينها أن التي تركها هناك لازال
جالسة مكانها تحضن ساقيها وفستانها القصير مجموعاً حول ركبتيها
وتريح ذقنها عليهما
تنظر له بصمت يشبه صمته , لا بل يختلف عنه كثيراً فهو موقن من
أنها تستطيع قراءة صمته ذاك جيداً
بينما يعجز هو عن فعلها ولم يعد يمكنه التكهن بما تفكر فيه تلك الفتاة
وما أرادته حقا بحديثها ذاك الوقت تحديداً.
فليس يعتقد أنه سيعنيها أن تصنع شرخاً واسعاً بينه وبين جده
فالغبي فقط من سيعتقد أنه لن يستطيع معالجة الأمر وإن بإخباره
الحقيقة التي سيعرفها أساساً من تلقاء نفسه ما أن يعلم بأنه أخرجها
من المنزل فما كان غرضها الحقيقي من كل ذلك ؟؟
طال الصمت بينهما بطول تحديق كل واحد منهما بالآخر هي
تجلس مكانها وعلى ذات هيئتها
يغطي أغلب جسدها ذاك الحرير البني الطويل وهو يقف مكانه
يديه في جيبي بنطلونه الرياضي المريح وقد ارتفعت بحركته تلك
أطراف قميصه الشتوي تلقي الأنوار الخفيفة في الخارج والتي
تتسلل من فتحات الحاجز الخشبي خلفه ظلال مضيئة على ملامحه
الساكنة تماماً .
كانت ردة الفعل الأولى ناجمة من الجالسة في الأعلى وقد أبعدت يدها
ورفعت بها الإبريق الفارغ واخترق صوتها الرقيق المنخفض سكون
المكان حين قالت
" ألن تجلب لي بعض الماء أم قررت معاقبتي بالموت عطشاً ؟ "
وجد رأسه يتحرك بالنفي لا إرادياً وتحرك من مكانه وصعد
عتبات السلالم بخطوات واسعة
حتى أصبح عندها وبدلاً من أن يأخذ منها إبريق الماء ويحمله حملها
هي بين ذراعيه عن الأرض وسار بها في صمت جهة الغرفة يدها
تقبض على ظهر قميصه لتتجنب التعلق بعنقه كي تثَبت نفسها
حتى وضعها على السرير وغادر في صمته ذاته نظراتها تتبعه
ثم سمعت خطواته وهو ينزل السلالم وما هي إلا لحظات وعاد
حاملاً الإبريق الممتلئ بالماء
ووضعه على طاولة السرير ونظره على التي أخذت علبة الأدوية
وأخرجت منها قرصين فتمتم بخشونة
" قرص واحد "
فرمت أحدهما في سلة القمامة الصغيرة تحتها دون تعليق ثم قالت
ونظرها على قرص الدواء الدائري الصغير في كفها
" لما أنت غاضب مني ؟ لقد آلمت ذراعي وقتها حقاً فأنت كنت
غاضب ولا تعلم بشدك القوي عليها "
لم يعلق على ما قالت ولم يفارق نظره ملامح نصف وجهها
المقابل له حتى رفعت رأسها ونظرت لعينيه مباشرة فقال بجمود
" ألم يدي لذراعك جعلك تنطقين بينما ضرب نجيب المبرح لك لا ؟ "
أبعدت عينها التي تلونت أحداقها بذاك الغضب الرمادي القاتم
مجدداً وتمتمت تقبض بأناملها على قرص الدواء في كفها بقوة
" أعتقد أن ما جلبك لجناحي وقتها صوت صراخي المرتفع "
حرك رأسه يميناً مبعداً نظره عنها أيضاً ومرر أصابعه في شعره
وشعر بذكرى ذاك اليوم ومنظرها ذاك يعرض أمامه وكأنه الآن ,
وكأنها تذكره بعجز الجميع عن إنصافها
وأن الوضع هو ذاته إن كانت خرساء أو لها لسان يتحدث أكثر
من لغة .
نظر لها حين وصله صوتها الهادئ مجدداً
" إن كان بسبب رد فعل جدك فالأمر سهل أخبره بالحقيقة
وينتهي كل شيء "
شد على فكيه بقوة من دون أن يعلق فهذه الفتاة وضعت عقله
بين نقطتين ضيقتين .
لا يصدق أنها تحمل من البراءة بهذا القدر الذي يظهر عليها
ولا يمكنه أبدا النظر لها كمذنبة وتغيير رأيه بها ولا يستطيع فهم
خبايا امرأة يجهل عن ماضيها وحياتها الكثير مهما كان محامٍ ناجح
فمن تكونين يا زيزفون ؟؟
لم يتحدث ولم يزح نظره عن وجهها حتى رفعت
نظرها به مجدداً وقالت بابتسامة صغيرة لم تخفي السخرية فيها
" أو أن الأمر يخص علاقتك المتأزمة بزوجتك ؟ "
شد قبضته بقوة ومال بجسده نحوها في حركة جعلتها تتراجع
زاحفة قليلا للوراء وقد وصلت قبضته لأنفها سريعاً وهمس
يضغط بها عليه ونظره على عينيها القريبة منه
لدنوه الكبير منها
" هل تعلمي إن لم يكن وقاص غبيا وكنتِ محللة له الآن
ما كنت سأفعل بك ؟ "
اتسعت عيناها الزرقاء بصدمة وعدم استيعاب وهمست بصوت
تغلبت عليه رجفة خوف رغماً عنها " ماذا تقصد ؟ "
دفعها بقبضته حتى ارتمى رأسها على الوسادة القريبة منه
وهمس مغادراً
" أقصد سحقا لوقاص "
وغادر مغلقا باب الغرفة خلفه
*
*
*
ما أن نزل آخر عتبات السلالم حتى وقع نظره على الواقف عند باب
جناحه ينتظر نزوله من وقت مستندا بإطار الباب ومكتفا يديه لصدره
ينظر له نظرة من لا مفر له من موافقة ما يريد
وإن كان نتيجته جدال مؤكد قد يتحول لشجار كما يتوقع ، تحرك نحوه
في صمت وكان رد فعل عمه صقر مماثل إذ دخل الجناح في صمت
أيضا ووقف منتصف ردهته حين سمع صوت إغلاق مطر للباب
بعد دخوله فالتفت ناحيته وملامحه لم تخفي ضيقه أبداً
وكان سيتحدث فسبقه مطر قائلاً بجدية وقاطعاً سيل توبيخه
الطويل له فوراً
" رجاءً يا عمي ما بيني وبين غسق لا أريد لأحد أن يتدخل فيه
ولا حتى والدها نفسه "
كانت كلمات واضحة ومفهومة لن يكون المقصد منها سوى
الصمت التام
لكن عبارته تلك لم تجد أي صدى عند الواقف على بعد خطوات
منه وقد انفجر فوراً
" تيما ليست أمراً عالقا بينكما يا مطر ولا أحد له أحقية التدخل
فيه ، غسق والدتها ولها الحق مثلك تماماً بل وأكثر "
تنفس مطر بقوة قبل أن ينطق بذات كلماته الجادة
" وأنا لم أنكر هذا الحق "
لوح صقر بكفه قائلا بذات ضيقه
" وما معنى رفضك أن تذهب لها ؟ ما معنى أن لا تشرح
لها أسباب تركك لها كل تلك الأعوام وأخذها منها ؟ ظننت أن
أول ما ستفعله فور نزولك أرض الوطن أن تضمها لحضنك
مجدداً , أن تجبر كسرها السنوات العجاف الماضية
أن تلملم جروحها النازفة من كل مكان وهي من فقدت كل شيء
حولها حتى الرجل الذي رباها ورعاها
وليس أن تتجه فورا لمشاكل غيرك تُخرج لها حلولاً من تحت الأرض
متجاهلا أقرب الناس لك وأحوجهم لحلولك تلك ... ابنة عمك التي
رميتها ليس لإهانتك لها فقط وأنت تتخلى عنها بل ولألسن الناس
أجمع وهم يلتهمون لحمها بعدما رماها ابن شاهين ورحل ، وابنتك
المراهقة الرقيقة التي تبكي شوقاً لوالدتها بالخفية عنك كي لا
تجرحك ولا تعصيك ... "
قاطعه ببرود وكأنه لا يشتعل أمامه غضباً
" اذهب واسرد سيل تلك الأسباب والأعذار أمامها وستكون محظوظا
إن لم تطردك "
وتابع وقد تحولت نبرته للحزم مغلقاً أي باب لنقاش أعمق في الأمر
" ما بيني وبين غسق لن يستطيع أحد فهمه ولا شرحه فاتركوا
الأمر لي يا عمي رجاءً "
حرك صقر رأسه متأففا وكأنه يجبر نفسه على الصمت وليس
الفهم والتفهم كما طلب منه
وهو أكثر من يعلم بأنه على حق وأنه لا رجل على وجه هذه
الأرض يمكنه أن يفهم ما بها وأن يحتويها ويلملم جراحها إلا
الواقف أمامه الآن ولا حتى والدها الحقيقي مثلما عجز شراع
صنوان وأبنائه عن فعلها رغم وجودهم حولها طيلة الأعوام
الماضية .
ورغم الحب والتفهم الذي يغدقونها به , فما أقسى أن يكون
طبيب جراحك النازفة دون توقف هو من غرس نصل سكينه
في قلبك طعنة تلو الأخرى .
تحرك من مكانه عدة خطوات حتى أصبح واقفا أمامه مباشرة
وشد بيده على كتفه وقال بحزم وعيناه تنظران للأحداق السوداء
أمامه مباشرة
" أنت من بات يلقبونه برجل العدالة يا مطر فلا تظلم ابنة
عمك وتحرمها ابنتها "
أومأ له برأسه موافقاً دون حديث فشد على كتفه أكثر وقال
" بل أنطقها يا مطر وعدني بذلك ولا تجعل من الفتاة ورقة
لعب بينكما "
أومأ له برأسه مجدداً وخرجت الكلمات من شفتيه هادئة متأنية
هذه المرة
" أقسم لن أمسكها عنها يا عمي وأعتقد أنه سيرضيك أن تنتزع
ابنة شقيقك حقوقها بيديها "
نظر له صقر لبرهة باستغراب وكان سيتحدث لولا قاطعه الباب
الذي طُرق طرقتين خفيفتين قبل أن يدور مقبضه وينفتح كاشفاً
عن التي كانت خلفه والتي قالت بحياء ما أن اكتشفت وجودهما
" آسفة عمي ظننت أنك لوحدك أو غادرت "
وكانت ستتراجع ساحبة الباب معها حين قال مطر والذي كان
يوليها ظهره
" تعالي يا تيما "
فوقفت مكانها ونظرت لعمه الواقف مقابلا له ولها نظرة ملئها لوم
وكل ما فكرت فيه أنه أخبره عما دار بينهما من حديث وفهم والدها
بذلك أنها تريد مغادرة المكان لوالدتها وأنها لا تريده وذاك ما كانت
ترفض أن يشعر به والدها ولا عن طريق الخطأ.
قال صقر مبتسما لها وموضحا موقفه لتفهمه هي فقط
" تعالي فوالدك معه حق يتصبح في وجهك كل يوم قبل أن يخرج "
ابتسمت له حينها بارتياح وهمست له محركة شفتيها فقط
" شكرا يا عمي "
أومأ لها صقر برأسه مبتسما دون أن يعلق وتحرك جهة باب
جناحه الآخر والذي يوصله للخارج مباشرة وغادر مغلقاً إياه
خلفه تاركاً الواقفة هناك مكانها تنظر للذي لازال موليا ظهره
لها وقد وصلها صوته الجاد
" أغلقي الباب وتعالي يا تيما فثمة ما علينا التحدث عنه "
دست خصلات شعرها خلف أذنيها بتوتر وتحركت بخطوات
مترددة نحوه بعدما أغلقت الباب كما طلب وما أن وصلت عنده
حتى رن الهاتف في جيب بنطلونه فأخرجه ونظرله ثم وضعه
على أذنه قائلا
" نعم "
سكت قليلا ثم دار بجسده للخلف مواجها لها وقال ناظراً لعينيها
ومحدثا من في الطرف الآخر
" افتحوا الأبواب ولا أحد منكم يعترض طريقها "
ثم أنهى المكالمة ودسه في جيبه مجدداً وتحرك من هناك
ونظراتها المستغربة تتبعه وقد قال بأمر مجتازا لها
" ابقي هنا ولا تخرجي دون أن آذن لك "
*
*
*
توقفت بسيارتها النسائية الفاخرة أمام باب المنزل الذي لم تزره ولا
مصادفة طيلة الأربعة عشرة عاماً الماضية.
ولم تتخيل أن تدخله من تلقاء نفسها مجدداً , لكن ما يدفعها هذه المرة
ليس نسباً مجهولاً تبحث ورائه ولا قلباً جريحاً يستجدي الرحمة من
ذكريات قد طوتها السنين خلف تلك الجدران الصماء.
بل ابنتها ... طفلتها التي انتشلوها من رحمها
للمجهول وللبعيد حيث لا يمكنها الوصول لها فكيف بإمكانها أن تصبر
على فراقها أكثر من ذلك وهي تعلم أنها هنا ؟
أي قلب هذا الذي سيطاوعها على فعلها !
دخلت ولم تتساءل عن السبب الذي جعل الأبواب تفتح أمام سيارتها
دون أن يوقفها أي فرد من كل تلك الحراسة المشددة عند بوابته
الحديدية الواسعة .
ولا عن باب المنزل الداخلي الذي وجدته مفتوحاً حين ركنت سيارتها
بعيداً عنه بضع خطوات وكأن دخولها هناك معززبأوامر لا نقاش فيها
ووصولها أمر مسلم به .
لم تفكر في كل تلك الأمور ولا الإيماءات
المدججة بالاحترام وسيارتها تعبر أسوار ذاك المنزل الضخم فهي هنا
من أجل شيء واحد ولن تعرفها جدران هذا المكان بعدها مجدداً .
نزلت من سيارتها تاركة بابها مفتوحاً وكأنها تخبر نفسها قبل الجميع
أن وجودها هنا لن يتجاوز الدقائق المعدودة لترجع من حيث جاءت
لمملكتها البيضاء لحيث غسق الحاضر تاركة الماضي هنا خلفها مجدداً
الماضي الذي حاولت جهدها وهي تشق أسواره الآن أن لا تلتفت لأي
زاوية ترجعها إليه .
لا الحديقة التي شهدت ضحكاتها يوماً , لا تلك الطاولة بمقاعدها
الحجرية لا الأشجار لا الماء ولاصوت الطيور التي كانت تسمعها كل
صباح في ذاك الماضي البعيد ولا حتى المكان الذي كان يركن فيه
سيارته سابقاً .
هي لم تعد من هنا لا تنتمي لهذا المكان ولا تريد لأغلال ماضيه
أن تقيد مشاعرها به مجدداً فلم تعرفه إلا دخيلة غريبة ويوم
تحررت منه باختيارذاك الرجل وليس بإرادتها هي تحررت منه
وللأبد .
سارت رأساً نحو الباب الخشبي الضخم المفتوح وصعدت عتباته
القليلة ووقفت مكانها ما أن اجتازته ببضع خطوات
ضربات قلبها تزداد صعوداً حد الألم ليس بسبب رائحة المكان التي
لم تغيرها السنين في داخلها ..
ليس بسبب الوجع الذي اتقد في قلبها ما أن رأت تفاصيل المنزل
الذي احتاجت لأعوام كي تتخلص من بقاياها العالقة في قلبها الصغير
المذبوح .
بل ما جعل قلبها يخفق بسرعة لدرجة شعرت معها أنه يسحق في
داخلها هو الباب الذي انفتح ببطء
كاشفاً عن صاحب الجسد الطويل الذي وقف أمامه ينظر لها بصمت
بقميصه الأبيض وزريه العلويين مفتوحان وبنطلون أسود شديد
الأناقة وكأنه قادم لتوه من إحدى اللوحات المعلقة على الجدران
هل يتوقف الزمن هكذا ليأخذ أحدهم للمستقبل كما هو ؟
أليست هذه ذات العينين السوداء التي عرفتها من أربعة عشرة عاماً ؟
أليس الشعر ذاته ؟
الحاجبان الأنف المستقيم واللحية السوداء المقصوصة بعناية !!
لما ظلمها هي الزمن وباتت ترى نفسها بكل ذاك الهرم
بينما لم تفعل السنين بهذا الرجل سوى أن زادته القوة إن في
عضلات جسده المتناسق الطويل أو في شخصيته القيادية المسيطرة
أو حتى في نظرته الذكية الواثقة التي أعطت معناً جديداً لعبارة مهيب .
شدت قبضتاها بقوة بجانبي جسدها وكرهت نفسها فوق المستوى
الذي ضنت أنها وصلته ناحية ذاك الرجل , لم تتخيل أن الكبرياء
أصعب شعور تمسك به الإنسان منذ القِدم إلا تلك اللحظة .
أن العناد ووأد المشاعر أمر يستنزف كل طاقة الجسد لتستطيع
فقط التمسك به بوهن , كانت تجاهد جهاد جندي وسط ساحة العدو
فقد سلاحه وعزيمته وكل شيء
وهي تصارع باستماته حتى عيناها المجهدة كي لا يرى الرجل الواقف
هناك يحدق بهما تحديداً كم هما مليئتين بالألم وخيبة الأمل وأنّ مجرد
رؤيتها له أشعلت الغيرة في قلبها
وكأن ما حدث ذاك اليوم يحدث الآن .
أنْ لا يقرأ في حدقتيها السوداء الواسعة أن نظرة واحدة منه
كفيلة حتما بجعل قلبها ينفعل بطريقة جنونية .
لا ليست غسق ولن تعترف بنفسها إن فعلتها
وإن استطاعت نسيان كل ما قاسته سابقاً بمجرد النظر للرجل الذي
جاهدت عمرها حد أن تيقنت من أن لقائها به لن يحرك بها ساكناً ,
أنها لن تنظر له إلا كأي رجل يعبر رصيف الشارع أمامها لا يعنيها في
شيء ولم تعرفه يوماً .
وكما تحولت هي لامرأة لا تعنيه منذ تركها خلفه عليه أن يكون
كذلك وأكثر , وكما تركها للزمن يدمر دواخلها حتى حولها
لرماد بينما حاز هو على كل ما حرمت هي منه .
كانت قوية وثابتة رغم أنها من الداخل تحترق كالرماد بسبب
كل تلك الأفكار التي رمتها في دوامة آنية
ولم تكن تعلم بأنها لازالت تمتلك من غسق الماضي كل شيء
وأنها أيضاً وقفت أمام الواقف هناك وكأنها شبح عادت به
أطياف الماضي رغم ملابسها السوداء ورغم حجابها
الأسود والذي لم يزد سواد عينيها وحاجبيها الرقيقان ورموشها
الكثيفة والبشرة ناصعة البياض إلا فتنة .
أنها لازالت حسناء صنوان الكفيلة بتحطيم أسوار قلب أي رجل
يراها أمامه مهما كان منيعاً ومحصناً فكيف بمن عرفها أقرب
له من غيره ؟
من نامت في حضنه وبكت وتحدثت أنثى تحتمي من كل شيء
بحضن رجولته ؟
من عرفها وارتبط بها قبل أن يراها ومن كانت وحدها قادرة
على العبث بمسارات حياته وشخصيته كيف تشاء .
أجل لازال هناك تلك النظرة العنيدة المحاربة التي عشقها
فيها منذ رآها أول مرة ترميه بها الآن دون رحمة .
كانت نظراتها من أعلنت الهزيمة أولاً وهي تبعدها عن عينيه
وقد أخذت أجراس الانذار تقرع في عقلها الباطن قبل أن
تهزمها مشاعرها ودارت بحدقتيها في المكان وتمكنت ببراعة
أن تنظر له باستخفاف وكأنه كومة أخشاب لا تساوي في نظرها شيئاً .
وما أن وصل نظرها للسلالم بجانبها سكبت على جرحها الرماد
طامره ألم طعنته فيه وأبعدته عنه مديرة وجهها بحركة سريعة
وعلى شفتيها ابتسامة باردة تحكي كل معاني السخرية
ليس من المكان ولا من الماضي البعيد بل من تفاهة مشاعرها
آن ذاك حين غفت على عتباته تنتظره في الليل الطويل البارد .
من تعزيزها لرجولته وهي تنتظره وتحترق عليه غيرة , حركة إن
أرادت بها إصابة الواقف هناك في مقتل فقد أصابت هذه المرة
هدفها وببراعة
" أين ابنتي ؟ "
كانت عبارتها تلك ما كسر الصمت التام بينهما ما أن عادت
بنظراتها الباردة لعينيه
وكأنها تطالب بحق من حقوقها لا نقاش لأحد فيه وهي من
تركتها له في صمت ما أن وضع شروطه تلك منذ أعوام مسلمة
في فلذة كبدها لتلحق باقي خسائرها العظيمة تلك .
أما اليوم فها قد زال كل سبب جعلها تصمت وتصبر وتكابر
لأعوام فوالدها مات والبلاد عاد شبح التفكك يهاجمها من جديد
فلن تصمت على حقوقها بعد اليوم , انتظرت أن يعلق على ما
قالت وطال انتظارها ولا جواب سوى الصمت وتلك النظرة
الهادئة المبهمة التي لم تفارق عيناها ..
نظرة جعلت قلبها ينفعل بطريقة غريبة حتى كادت تفقد السيطرة
عليه مجدداً وهو يتقدم نحوها بخطوات بطيئة وقد كابدت كل جهدها
كي لا تتراجع بسبب اقترابه .
وقف على بعد خطوات قليلة فتنفست نفساً متقطعا كي لا يظهر
ارتياحها بتوقفه المفاجئ وكأنه تراجع عن أمر ما لازالت تجهله
ولا تعلم أنه لم يمنع نفسه إلا عن امساكها وضمها إلى صدره ،
عن سحق ذاك الجسد الأنثوي النحيل وسط أضلعه حد أن يشبع
شوقه المتراكم من أعوام , تراجع خطوتين للوراء مجدداً
ولم يعد بإمكانها التكهن بردود أفعاله فكما عرفته سابقاً رجل يفعل
أكثر مما يتحدث ويقرر
ولا أحد يناقشه في قراراته وعلى هكذا تربى واعتاد واعترف
بذلك لها بنفسه سابقاً كما قاله لها كل من عرفه .
لكنها ليست غسق الأمس ليست تلك الفتاة التي استجدت عطفه
عليها وغفرانه لأخطاء لم ترتكبها , من لا تخرج ولا تدخل ولا تتنفس
إلا بأوامر منه .
هي الآن أصبحت حرة سيدة نفسها ليس منذ وفاة والدها شراع بل
منذ طلقها وتركها خلفه ولا حكم له عليها ولا من باب القرابة فهي
لا تعترف بهم أهل لها .
تعالت ضربات قلبها فوق ضعف المستوى الخيالي السابق
حين مال برأسه لليمين قليلا وتحركت حدقتاه السوداء هناك في
أول مرة تفارق فيها عيناها وكأنه ينظر لشيء ما خلف الباب
الشبه مغلق خلفه وخرج صوته ونبرته الرجولية العميقة
المبحوحة قائلاً
" تيما تعالي "
امتلأت عيناها بالدموع التي لم تستطع التحكم بها أكثر وهي
تسمع اسم ابنتها الذي لم تعرفه إلا الآن يليه صوت الباب الذي
انفتح من خلفه ببطء ثم الصوت الأنثوي الرقيق قائلا
" نعم أبي "
شدت قبضتاها حتى شعرت بأظافرها تخترق لحمهما تشعر
بقلبها يرتجف فأغمضت عينيها لبرهة راجية أن تخفي الموت
البطيء الذي كانت تشعر به في أعماقها , وما أن فتحتهما
وقع نظرها فوراً على التي أصبحت واقفة بجانبه تنظر لها
باستغراب سرعان ما تحول لسُحب من الدموع والحنين ..
لا تعرف المرأة الواقفة هناك لكن عمها صقر أخبرها بأنه
لا امرأة أجمل من والدتها وهذه لا أجمل منها على الإطلاق ,
لم تراها يوما لكن عيناها تخبرانها بأنها تشبهها تماماً , بأنها مثلها
تبحث عن جزء منها فقدته من أعوام طويلة
وبحثت عنه حتى في أطياف أحلامها , شعرت بقدميها تتحجران درجة
أنها لم تستطع التحرك من مكانها وبلسانها يثقل رافضاً الحركة
والحديث خشية أن تكتشف أن ظنونها خاطئة
وأن هذه المرأة ليست سوى عمتها التي تجهل شكلها أيضاً , لكن إن
كانت هذه عمتها حقاً فكيف ستكون والدتها !
ليست تتخيل أن تصل امرأة لكل هذا الحسن غير المسماة بحسناء
صنوان , هذه لا امرأة أبداً أجمل منها ولم تلبس يوماً الأسود واحدة
بجمالها
كانت تستجدي كل شيء فيها لفعل أي شيء غير الدموع التي جرت
من مقلتيها دون استئذان وانطلقت راكضة جهة الواقفة هناك عند باب
المنزل ما أن تحركت شفتاها هامسة دون كلام
" ابنتي ... "
ركضت ناحيتها بدون تفكير ما أن وصلتها تلك الإشارة التي كانت
تنتظر أي شيء يشبهها
لتتأكد أن الأمر حقيقة فعلاً وأنها والدتها التي انتظرت لقائها باليوم
والساعة لأعوام طويلة مضت , أن حلمها الطويل البعيد المستحيل ذاك
تحقق فعلاً والذي كاد أن يكون مستحيلاً من جديد ما أن علمت أن
والدها يرفض ذهابها لرؤيتها .
ارتمت في حضنها وبكت كطفل صغير لا يفكر في التوقف عن البكاء
أبداً , بكت الشوق والحنين .. بكت السنين القاسية التي قضتها بعيداً
عنها , بل وبكت سنيناً من الوحدة تمنت فيها أن تسمع وإن صوتها
من بعيد .
كانت تضمها بذراعيها بقوة بينما هي خائرة القوى أمام كل
ما حدث يداها مرميتان جانباً
لم تستوعب حتى الآن أن تكون هذه ابنتها !
هي أكبر وأنضج مما كانت تتخيل , أجمل مما صور لها خيالها من
صور ! وأرق من أن تكون ابنة القاسي الواقف هناك ... أجل
هذه ابنتها هي وتشبهها في كل ذلك .
تمكنت من تجاوز صدمتها أخيراً ورفع يديها وضمتها بشوق
يشبه شوقها وأغمضت عينيها بقوة وتلك الدموع الحارة تنساب
منهما , ابنتها صغيرتها الوحيدة التي حرمت من رؤيتها وهي تصل
لهذا الطول والعمر فما أصعب الفراق حين نضن أنه أبدياً وما
أشد اللقاء حين ينسف كل تلك الاعتقادات ,
من قال أن الأم هي فقط التي ربت وسهرت وتعبت فما سر ما تشعر به
الآن وهي تحضن فلذة كبدها التي كبرت بعيداً عنها ؟
أجل لم تسهر ليلة لبكائها ومرضها لكنها سهرت ليالٍ طويلة في
مناداتها بصمت تدفن شوقها وحنينها وأمومتها تحت ركام مشاعرها
مرغمة .
ضمت رأسها بيدها تدفن وجهها ودموعها الصامتة في شعرها
تقبل خدها تارة وخصلات شعرها تارة أخرى ولم تعد تهتم لشيء
أو لأحد ولا للواقف هناك ومن أقسمت سابقاً أن لا يرى دموعها
مجدداً والذي لم تنتبه ولا بأنه اختفى بعد ذاك المشهد ولم يعد له
وجود في المكان .
أبعدتها عنها تمسح لها وجنتيها الغارقة في الدموع تنظر بعينين
باكية لتلك الأحداق الزرقاء وهمست ببحة وحزن
" كيف حالك بنيتي ؟ اسمك تيما أليس كذلك ؟ والدك ناداك كذلك ؟ "
عادت للارتماء في حضنها تبكي بعبرة تجعل الحجارة تنطق وهي
من ضنت أنه لا وجع أكبر من فراقها لها لتكتشف الأسوأ وهو أنها
لم تعرف اسمها إلا الآن ، أي ظلم هذا الذي عاشته هذه المرأة التي
حتى بكائها يرى ولا يسمع ؟
ما يكون هذا السبب الذي لازالت تجهله جعلهم يأخذونها منها ؟
تعلقت في حضنها أكثر وقالت بعبرة
" أحبك أمي .... قسما أشتاق لك في كل نفس أتنفسه "
ضمتها أكثر تقبل رأسها ودموعها تسقي تلك الخصلات السوداء
الناعمة .. تسقي حنينها وشوقها لسماع تلك الكلمة التي وحدها كفيلة بإرواء أمومتها الضائعة ...
( أمي ) ما أعظمها من كلمة لم تعرف معنى لذة سماعها إلا الآن ، كم
افتقدتها .. كم حلمت بها
وتمنتها بحجم شوقها لطفلتها التي لم تراها منذ ولدت .
أبعدتها عنها مجدداً وأمسكت وجهها تشبع نظراتها المشتاقة
بملامحها البريئة الجميلة
ابنتها التي بالفعل هي انثى ناضجة كاملة عكس ما رسمت لها من
صور طوال الطريق الطويل الذي قطعته من منزلها إلى هنا تتخيل
حتى أن ترفضها لأنه أخبرها أنها لا تريدها , لا تنكر أنها رسمت
له صوراً أبشع من القسوة , وكيف لا وهو من
استطاع حتى أن يأخذها منها دون رحمة .
مسحت بكفها على وجنتيها مجدداً هامسة
" لا تبكي بنيتي لن يفرقنا شيء ولا أحد مجدداً أعدك "
أمسكت يدها وقبلتها ثم ضمتها لحضنها وهمست أيضاً ناظرة
للأحداق السوداء الدامعة لأجمل عينان رأتهما منذ ولدت
" سامحيني أمي ، سامحيني أرجوك فلم يكن ثمة طريق
يوصلني إليك "
مسحت بكف يدها الأخرى على شعرها قائلة بحنان
" الذنب ليس ذنبك يا تيما ليس ذنبك ولا ذنبي بل ذنب من
حرم الأم وابنتها من بعضهما "
جمدت ملامحها ولم تعرف ما تقول بل لم تترك لها هي أي مجال
وقد سحبتها من يدها خارج المنزل قائلة
" لكن ذلك لن يحدث مجدداً وسنكون معاً للأبد "
وقفت ما أن نزلت السلالم بسبب التي جمدت مكانها والتفتت لها وقد قالت بعبرة
مكتومة والدموع تملأ عينيها مجدداً
" أمي ما تعني بأنه لن يحدث مجدداً ؟ "
قالت من فورها وبجدية
" أعني أني لن أتركه يأخذك مني مجدداً وسنكون معاً
ولا أحد له الحق في أن يفرقنا ولا القانون "
مدت يدها وأمسكت كفها وضمته بين كفيها وقالت ودمعتها
الأولى تتدحرج من عينيها
" أمي أتركينا ندخل ونتحدث بروية عن كل هذا "
نظرت لها باستغراب لبرهة ثم همست
" نتحدث عن ماذا في الداخل ؟ "
شدت على يدها أكثر تضمها لصدرها وقالت برجاء باكي
" أمي أرجوك دعينا ندخل , أمي هو والدي أيضاً وسيكون وحيداً بدوني أنتي لــ.... "
سحبت يدها منها وقاطعتها قائلة بحزم
" لن أدخل منزله ولا تفاهم لي معه في أي شيء وخصوصاً أنتي "
مررت أصابها في شعرها ترفعه للأعلى عن وجهها وقالت ببكاء لم
تستطع إمساكه
" أمي أرجوك والدي سيكون وحيداً , الوضع معه يختلف عنك ولا
يمكنني تركه للأبد "
نظرت لها بصدمة قائلة
" ترفضين المغادرة معي ؟ "
أمسكت يدها مجدداً قائلة برجاء باكي
" أمي حلفتك بالله أن لا تفهمي الأمر
كما .... "
سحبت يدها منها مجدداً قائلة بضيق
" وحيد يا تيما ؟ والدك وحيد هنا ! وأنا من وضعي يختلف عنه ؟
أنا التي أعيش وسط عائلة أبنائها ليسوا أشقائي وعمتهم لم
تكن يوماً عمتي .. أنا هي التي لست وحيدة بينما والدك وحيد !! "
تراجعت بعدها خطوة للوراء وقالت بسخرية تنطق أحرفها
مرارة وكأنها تخرج من صميم أوجاع قلبها المتراكمة تراقب
عينا ابنتها الباكية
" كان عليا أن أتوقع هذا وأن ترفضينني يا ابنة مطر فأنتي تربيته "
حركت رأسها برفض ودموعها تزداد نزولاً وقفزت راكضة خلفها
ما أن استدارت الواقفة أمامها مغادرة جهة سيارتها وأمسكت
بيدها تحاول إيقافها قائلة ببكاء
" أمي انتظري أرجوك .... أمي ليس الأمر كما تحاولين فهمه "
كانت تتبعها ممسكة بها تحاول إيقافها وتترجاها باكية
وكل ما كانت تفعله الأم المجروحة بعمق إسكات صوت قلبها
وصم أذنيها تسحب قدميها وكأنها تمشي على الجمر وهي تترك
ابنتها للمرة الثانية يأخذوها منها في صمت لكن هذه المرة تلك
الرضيعة لم تعد كما كانت لا يمكنها أن تقرر مصيرها بنفسها وها
هي اختارت وبطريقة قاسية هي أكيدة بأنها كفيلة بجعلها تندم على
قدومها إلى هنا بنفسها وهي من لم تكلف نفسها عناء أن تشعر بها ..
بمشاعر تساوي ما فعلته من أجلها وهي تدخل هذا المكان مجدداً ,
كان جرحها من ذاك الرجل ما يزيد اشتعالها حينها وهو يسجل انتصاره مجدداً عليها لتخرج من المكان خاسرة ...
أجل خسرت كل حرب دخلتها معه ، حتى ابنتها التي حرمها منها
دون أي ذنب عرف كيف يجعلها له وللأبد فلن تستغرب الآن أنه
لم يرفض رؤيتها لها ونادها فور طلبها لها .
" تيما "
كان ذاك الصوت الرجولي الآمر ما جعل من كانت تتبعها وتسحبها
لعلها تجبرها على الرجوع تترجاها ببكاء تقف مكانها وتلتفت له
وهو واقفً عند الباب ينظر لها عاقداً حاجبيه ,
وما جعل التي وصلت عند باب سيارتها المفتوح تسجل وجعا
ً جديداً وجرحاً أعمق من مما سبق جميعا
فسحبت يدها منها دون أن تنظر لأي منهما وركبت سيارتها
تجاهد كل شيء فيها وأولهم قلب الأم الكسير كي لا تلتفت للتي
بدأت بالطرق بكفها على زجاج النافذة تناديها باكية
وتترجاها بنحيب يصلها بوضوح وتشعر به يمزق قلبها بلا رحمة ,
لكنها ابنته وهي من نسي ذلك , ابنته التي اختارته عليها رغم
أنه من استحوذ عليها بأنانية لأربعة عشرة عاما مضت فأين حقها
هي فيها ؟
أين العدل يا ابنة مطر شاهين يا ابنة الرجل العادل مع الجميع !
ما أن وصلت أفكارها عند تلك النقطة داست مكابح السيارة
وأدارت المقود بقوة وتحركت من هناك مرغمة نفسها على تجاهل
التي تبعت سيارتها ولازالت تطرق نافذتها باكية ومتجاهلة لأول
مرة في حياتها أوامر الواقف هناك عند أعلى عتبات الباب
رغم مناداته لها بأمر مجدداً فكيف تترك من انتظرت طوال عمرها
أن تراها وإن من بعيد ؟
كيف وهي رأتها وسمعت صوتها واختبرت حضنها الذي لم
يضاهيه حضن ؟
لما يطلب كل واحد منهما منها المستحيل ؟ كيف تترك والدها للأبد
فهو والدها فوق كل شيء ؟
وكيف تترك والدتها تحرمها منها مجدداً وهي من لم تصدق أن
وصلت لها ..
أن داست قدمها البلاد التي تعيش فيها فقط لأنها فيها ,
تباطأت خطواتها مع ابتعاد السيارة صارخة ببكاء تنظر جهتها
والريح الباردة تلفح قسمات وجهها الغارق بالدموع وتتلاعب
بخصلات شعرها السوداء الطويلة
" أمـــــــــــي ..... عودي من أجلي أرجوك "
" أمـــــــــــــــــــي "
لكن ندائها ذاك لم يجد صداه ككل رجاءاتها السابقة فعادت راكضة
جهة الواقف مكانه
وصعدت عتبات الباب حتى وصلت عنده وأمسكت يده قائلة برجاء باكي
" أبي لا تتركها ترحل أرجوك ... أبي حلفتك بالله ترجعها فهي
إن غادرت لن ترجع أبداً .... أرجوك أبي افعلها من أجلي "
مسح بيده على شعرها ثم ضم رأسها لصدره يدفن بكائها ونحيبها الموجع فيه وأخرج
هاتفه بيده الأخرى ضغط أحد الأزرار ووضعه على أذنه قائلا
" أغلقوا الباب لا أريد للسيارة المتوجهة نحوه أن تخرج
وأنا قادم لكم الآن "
ثم أبعدها ونزل العتبات قائلا
" عودي للداخل يا تيما "
*
*
*
غادروا المدينة فوراً ولم يقتصر الأمر على مدينتها فقط وهما يجتازا المدن الواحدة تلو الأخرى
وتلك السيارات السوداء لازالت تتبع سيارتهما كظلها ، شدت أنامل يديها المرتاحتان في حجرها
منذ انطلقا مغادرين رغم أنها تشعر بالتشنج في جميع أطرافها ، لا تصدق كل ما حدث اليوم
ولا يمكنها استيعابه دفعة واحدة فكيف من سجينة في غرفتها تجد نفسها فجأة هكذا في سيارة
تشق بها طرقات بلادها مسرعة كالريح ومن يجلس بجانبها ويقودها هو تيم كنعان نفسه !!
لا ولن ترى تلك العائلة ولا أولئك الناس مجددا ! استرخت على ظهر المقعد الجلدي المريح
خلفها وتنفست نفساً عميقاً شعرت بأنه خرج من وجع أعماقها ، لا تعلم إلى أين هما ذاهبان
وإلى ماذا سينتهي بهما الأمر وكل هذه الطريق الطويلة ولا يعنيها ذلك مطلقا ،
كل ما فهمته من حديثه الذي لم يتوقف مع أشخاص تجهل حتى أسمائهم أنه لن يمكث في البلاد أكثر من أربع وعشرين ساعة
أوامر صارمة وضوابط أمنية عالية وحراسة مشددة فقط لدخوله
وخروجه لفترة يوم واحد فقط محسوب بالساعة والدقيقة فكيف لها أن تصدق أن
رجوعه سيكون سببه مالها ! ما سيحتاجه شخص مثله بالمال ؟ .
عادت لسرقة نظراتها القصيرة على اليدين والأصابع الطويلة الممسكة بالمقود بقوة وتحكم
وكأنه ليس من يخرج من مكالمة يدخل في الأخرى بطريقة لم تفهمها
وهو من لم يبعد يديه عن مقود سيارته التي تكاد تحلق بهما من السرعة !
كان يتحدث عبر السماعة المثبتة في أذنه
وكأنها توصله بالعالم أجمعه دون وجهة أو دليل تارة بالعربية وتارة
بالإنجليزية وحتى الفرنسية
ولغة أخرى لا تستبعد أنها ستكون اليونانية بالتأكيد ، لم تستطع رفع
نظرها لوجهه
ولن تحاول إقناع نفسها بذلك أبداً وقد اكتفت بمراقبة تلك اليدين والساقين الطويلتين وهي تسرق النظر ناحيته بين الحين والآخر
فإن كان كل هذا يشعرها بتوتر مدمر لم تعرفه حياتها فكيف إن واجهت
عيناه بهذا القرب وهما وحدهما في سيارة مغلقة ؟
أبعدت نظرها ووجهها أيضا جهة النافذة وتنفست بعمق تتمنى فقط
أن يتوقفوا عن التحدث إليه ليصمت فصوته لوحده كفيل بجعل قلبها
يرتجف كطفلة صغيرة لعمق نبرته الرجولية واتزانه الذي إن دل يدل
على شخصية قوية واثقة ومستقلة
كانت لتفاجئ بكل هذا لو لم تعلم مسبقاً أنه عضو في تلك المنظمة السرية
العالمية وليس أي عضو فيها بل من أفرادها النخبة
وليست تعلم كيف وصل لكل ذلك ومن ورائه ويدعمه بقوة هكذا
درجة أنه يحميه هنا داخل البلاد كي لا تنكشف هويته الحقيقية حيث
يعمل هناك ؟
( رجال يتحدون الموت ويقدمونه لغيرهم بكل سهولة(
ارتجفت أوصالها جميعها حين تذكرت العبارة التي قرأتها في
ذاك الموقع
وأصبحت الآن تؤمن بصدقها بعدما رأت بعينها ما فعله بعمها وكأنه
يمازحه بشوكة صغيرة
فلم يرف له جفن وهو يراه يصرخ متألماُ من سحق قدمه بحدائه المدعم
بنصلي سكين.
ضمت جسدها بيديها ونظرها لازال على صور الأشجار المصفوفة
بجانب الطريق تتلاشى متعاقبة بسرعة
قبل أن تغمض عيناها المرهقتان ببطء ونامت ... أجل انتقلت لسكون
النوم بسرعة هي نفسها لم تتخيلها وكأنها لم تنم من قبل بل وكأنها
لم تشعر بالسكينة والاطمئنان في نومها كما الآن
نامت وجسدها المرهق لازال يشعر بدفء حضنه وذراعيه القويتان
الملتفتان حولها فهي لم تخرج من مشاعر تلك اللحظة حتى الآن .
نامت بسكينة وعمق درجة أنها لم تشعر بالوقت ولا توقف السيارات
حولها
ولا الأبواب الكثيرة التي فتحت بالتتابع واغلقت بقوة ولا حتى بفتح
الباب الذي بجانبها .
فقط ما شعرت به حينها الألم الساخن في وجنتها المتورمة حد أن
خرج أنينها الخافت وفتحت عيناها فجأة
مجفلة تنظر لعيني الذي كان مائلا ناحيتها وقد وقف مستوياً لحظتها
وابتعدت أصابعه عن وجهها ويده الأخرى يسندها على أعلى باب
السيارة ، مد يده وأمسك يدها وسحبها منها في صمت.
فنزلت تتبعه منصاعة بالكاد تستطيع مجاراة خطواته الواسعة وهو
يدخل بها من باب الفندق الفخم الزجاجي الواسع الذي انفتح فور اقترابهم
منه ودخل تتبعه بخطوات شبه راكضة لتجاريه وأفراد القوات الخاصة
يسيرون كطوق حولهما ,
لا زالت ببيجامتها التي أخرجها بها من هناك تمسح بكف يدها
عينيها التي لازالت واقعة تحت تأثير النوم درجة تعسر الرؤية عليهما ..
وكأن الماضي لم يتغير فيه شيء عداه وكأنها ماريه الطفلة يسحبها من
يدها ونظرات الموجودين في قسم الاستقبال الواسع تتبع دخولهم وكأنه
ينقصها جمهور يراها بهذا المشهد وكأنها طفلة تُسحب من غرفة نومها .
لم يتوقف إلا وهم قرب أبواب المصعد حيث توجه نحوهم رجل في
الخمسين من عمره تقريباً وامرأتان صغيرتان في السن بثياب موظفات
الفندق وقد قال باحترام
" كل ما طلبتموه جاهز سيدي "
وتابع وهو ينظر لإحدى الواقفتان خلفه
" ستقوم العاملات بإيصال الآنسة وسيتكفلن بالباقي "
نقلت نظراتها المستغربة بينهم قبل أن تنتقل للذي تحدث مع ذاك الرجل
قائلا بجدية
" سأعتمد عليكم "
أومأ له ذاك الرجل موافقا وبكل ثقة فتحرك ورجاله يتبعونه تاركاً إياها
معهم ونظراتها تتبعه مبتعداً جهة الباب الذي دخلوا منه يرفع يده ليعيد
سماعة أذنه مكانها , أجفلت
لملمس تلك اليد ونظرت لصاحبتها فوراً فكانت إحدى الفتاتين حيث
أن الأخرى غادرت وذاك الرجل أيضا دون أن تشعر بهما , قالت مبتسمة
" هلا تبعتني
سيدتي لآخذك لغرفة زوجك "
نظرت لها بصدمة ضنت تلك الفتاة أن سببها معرفتها بأنهما زوجان
ورئيسها نعتها بلقب آنسة
فأدخلت يدها في جيبها وأخرجت بطاقة أرتها إياها برفعها فقط أمام
وجهها فعلمت ما أن نظرت لها بأنها تخص أفراد المخابرات في الدولة
فشعرت برأسها يدور مجددا في تلك الحلقات المتشابكة وقد دستها
سريعاً هامسة لها بابتسامة
" عليك أن لا تخشي شيئا فأنتي تحت الحماية "
ثم تحركت وتتبعها كالمنومة مغناطيسياً لباب المصعد المفتوح وقد بدأ
بالصعود بهما الطابق تلو الآخر حتى انفتح الباب وخرجتا منه حيث
الباب الأقرب له.
وأدخلت الفتاة بطاقة أخرى أخرجتها من جيبها لينفتح فوراً وأشارت لها بيدها قائلة بابتسامة
" تفضلي سيدتي ولا يمكنني تسليم البطاقة لك حسب الأوامر طبعا
ويمكنك الاتصال لطلب أي شيء "
نظرت لها باستغراب لبرهة ثم قالت
" هذه الغرفة لتيم ؟ "
أومأت لها بنعم وقالت
" ستجلب لك العاملات فوراً كل ما طلب إحضاره لك وسنعمل على
راحتك في كل ما تطلبين "
قالت وكأنها لم تستمع لأي كلمة
" وما مدة حجزه هنا ؟ "
قالت تلك من فورها
" اليوم والليلة "
عضت طرف شفتها لا شعورها قبل أن تحررها ببطء وهمست تشعر
بجفاف تام في حلقها
" وما الذي طلبه تجلبوه لي ؟ "
حركت تلك كتفيها بتلقائية وقالت مبتسمة
" الطعام وملابس نوم وأخرى للخروج وستصلك فوراً "
أمسكت شهقتها بشق الأنفس كي لا تخرج أمامها وابتعدت من عندها
سريعاً حيث وجدت نفسها داخل غرفة فخمة أغلق بابها خلفها فوراً
فتنفست بتوتر متمتمه
" يا إلهي ما يعني بثياب النوم ؟ "
حركت رأسها بقوة تبعد عنه كل تلك الأفكار وتقدمت للداخل فوقع نظرها
على السرير الواسع بأغطيته الفاخرة وعند طرفه توجد حقيبة سفر صغيرة
مفتوحة علمت فوراً أنها ستكون له , ركضت جهة السرير كطفلة صغيرة
واندست تحت أغطيته التي كانت تحمل عطراً رجالياً فاخراً تذكر جيداً أين
استنشقت مثله ... إنه ذاك الحضن
الذي لازالت ترتجف شوقاً له كلما تذكرته
*
*
*
رفع الهاتف فور رنينه وأجاب ونظره على الأوراق تحته قائلا بابتسامة
" مرحبا بأم رواح لوحده "
وصلته نبرة صوتها الباردة
" بل ووقاص قبلك فأين هو الآن وأين ذهب بالفتاة ؟ "
قال وقد انتقل لحاسوبه
" لا أعلم ولم يخبرني , يتابع طبعا الأعمال معنا من مكان أجهل حتى
إن كان داخل إنجلترا أو خارجها ويرفض الحديث في الموضوع "
وتابع بضيق
" وأغلق طبعاً الخط في وجهي مرتين حين سألته عنها وأخبرته
أن جدي لن يعجبه ما فعله هو أيضاً "
وصله صوتها قائلة بضيق
" وما نهاية كل هذا ؟ نجيب يتوعده عند خروجه ودخوله
والمرأة التي تعتني بها لا تتوقف عن السؤال عنها باكية "
أغلق حاسوبه بقوة قائلا ببرود
" نجيب لن يستطيع فعل شيء بما أن وقاص في الموضوع وهو
يعرف ذلك جيداً , وتلك المرأة أخبريها أن تكون مطمئنة فلن تكون
تلك الفتاة في مأمن كما مع وقاص , أعترف بذلك وإن كرهته نفسي "
وصله تنهدها الواضح وقد قالت
" لا أرى شقيقك ذاك إلا يزيد من حياته تعقيداً ومشاكلاً مع جده
وهو من كان لا يحتمل ولا أن يُغضبه أحد "
كان سيتحدث فسبقته قائلة
" وأنت أين خرجت من قبل الفجر ؟ هل ذهبت للشركة ؟ "
نصب ساق على الأخرى وقال مبتسما بمشاكسة
" بل في حضن شقراء جميلة تنسيني وقاص وشقيقه وجدهما معهما
والشركة أيضاً "
لم يستطع إمساك ضحكته بسبب شهقتها القوية المصدومة ثم قالت بضيق
" سترى حسابك مني يا كاذب , وتزوج إذاً لما تحلم وتتمنى فقط ؟ "
دار بالكرسي الجلدي قائلا بضحكة
" قريبا يا أم رواح فقط دعواتك لابنك المسكين "
قالت ببرود
" أرسل الله لك عروساً تجعلك تدور حول نفسك ولا تعرف يمينك
من شمالك "
ضحك من فوره ودار بالكرسي مجدداً حين انفتح باب المكتب وقال
ونظره على الذي دخل منه
" وداعاً يا أمي ورائي عمل كثير الآن أراك مساءً "
وأنهى الاتصال دون أن يسمع تعليقها ووضع هاتفه ينظر للذي جلس
مقابلا له وقد قال مبتسما
" إنه إنجاز عظيم يا رجل , لم يمضي على نشر الإعلان سوى ساعتين
وزار صفحة الموقع أكثر من مليون شخص "
دار بالكرسي قبل أن يثب قافزاً منه ثم دار حول الطاولة ووقف أمامه
وقال مبتسما بانتصار
" سأنتظر رأي وقاص فأنا تركتها له مفاجأة وهو لم يراه بعد "
قال مبتسما وهو ينظر له فوقه
" كم كلفتك الفتاة في المقطع ؟ لابد وأنها ما أن علمت عن اسم الشركة
ذكرت رقما خيالياً "
لم يستطع رواح امساك ضحكته وقال ما أن أنهى ضحكه
" ولا فلس "
نظر له بصدمة وقال محركاً كفيه " مجاناً "
نظر للساعة في معصمه وقال مبتسماً وهو يشير لعقاربها بسبابته
" انتظر قليلاً وستعرف "
وما أن أنهى جملته حتى انفتح باب المكتب بقوة بسبب القدم التي
ضربته بقوة ووقفت أمامه صاحبة الإعلان نفسها تمسك خصرها
بيديها تلبس ملابس منظمة الإغاثة تنظر له بغضب تكاد تشتعل
معه عيناها
*
*
*
قفز جالساً من نومه ما أن اخترق صوت رنين هاتفه الأجواء الساكنة
حوله فمرر أصابعه في شعره وحرك رأسه يميناً فنومه القاسي على
الأريكة وفي البرد دون غطاء جعل الألم يتسلل لجميع مفاصله حتى
أن ضوء الفجر بدأ يتسلل للمكان ولم يشعر به .
لا يذكر كيف نام هنا فآخر ما يتذكره بأنه استلقى فوقها مغطياً عينيه
بذراعه يحارب عقله وأفكاره يحاول ترجمة وفهم كل ما حدث ولازال
لا يستوعب أغلبه .
نظر للهاتف الذي عاد للرنين مجدداً وتأفف بحنق وهو يرفعه ويجيب
عليه بصوت مرتخي من أثر النوم
" نعم "
وصله فوراً ذاك الصوت الغاضب
" هل استيقظت أخيراً واكتفين من حضن تلك المرأة لتفكر أن تجيب "
تنفس بعمق نفساً طويلاً بطول صبره على كل شيء حوله وقال بهدوء
" لا أعتقد أن الأريكة تنفع لتكون حضن امرأة "
صاح فيه من فوره
" هل تضنني أحمق أم أصم ولم أسمع صوتها بأذني "
استند بمرفق يده الحرة على ركبته ينظر للأرض وقال بذات هدوئه
" أنا لم أنكر ذلك لكني لم أنم معها ولم ألمسها ومـ .... "
قاطعه بصوته الغاضب
" كفا حمقاً يا وقاص فأنا لست طفلاً , هذه نتائج ترك زوجتك لمنزلها
ونتائج رفضك لإجرائها الجراحة أن تبحث عن المتعة لدى غيرها وهي
من ظهر أنه معها حق "
هو من خرج عن هدوئه هذه المرة وقد قال بضيق
" الجراحة لن تجريها أولن تبقى على ذمتي يوماً واحداً بعدها وهذا
الكلام هي تعرفه جيداً "
أبعد هاتفه ناظراً له حين أغلق الخط في وجهه ثم رماه جانباً ودفن
رأسه بين بيديه
لا يفهم لما تتعقد حياته يوماً تلو الآخر ؟
ما الذي فعله يستحق أن يعاقب عليه هكذا ؟
أجل يعلم خطأه وهو إطاعته لجده يوم عرض عليه أن يزوجه من يختار
هو وهو وافقه
وها قد حصد النتائج التي كان يحصدها أساساً منذ اليوم الأول لزواجهما .
وقف مستغفراً الله بهمس وتوجه لحمام الطابق الأرضي توضأ وخرج
وصلى الفجر
وقبل أن يبدأ في إعداد ما ينفع إفطاراً توجه للأعلى ولتلك الغرفة تحديداً
وفتح بابها ببطء دون أن يطرقه ظناً منه أن الموجودة في الداخل قد
تكون نائمة وكان عليه التأكد أولاَ
فوقف مكانه ومقبض الباب لازال في يده ينظر للجالسة على السرير
تحاول لف الشاش الطويل حول كاحلها وعبوة المرهم مرمية أمامها
فيبدوا أنها قررت إعفائه من جميع مهام العناية بها ليبتعد عنها .
استدارت وهي ما تزال جالسة مكانها مولية ظهرها له دون أن تنظر
ناحيته وتابعت ما كانت تفعله
فأمال وقفته مستنداً بإطار الباب وقال مبتسما بسخرية
" هل أفهم أنا هذه المرة سبب هذا الغضب بينما أنتي المخطئة ؟ "
لم تعلق على ما قال ولازالت تحاول لف الشاش وشده بإحكام فتابع
مكتفا يديه لصدره ونظره على شعرها الحرير الذي يغطي ظهرها
" إن كان غرضك الإيقاع بيني وبين جدي فهنيئاً لك بهذا "
لم تعلق أيضاً وكأنها تتعمد استفزازه فحاول هو لعب لعبتها أيضاً وقال
" أجل يبدوا أنك خرساء متى ما تريدين ذلك فقط "
خرج حينها صوتها الرقيق المنخفض قائلة ببرود
" أعتقد أنه الشيء الوحيد الذي بقي من حقوقي "
لم يستطع إخفاء الابتسامة التي شقت طرف شفتيه ولا يفهم ما السر
في هذه المرأة التي تستطيع قلب مزاجه للعكس كيفما كان .
نقل الحرب لمضماره هو هذه المرة وقال يستفزها
" جاوبي على السؤال إذاً يا ابنة إسحاق ضرار السلطان "
وكما توقع تماماً التفتت له وبكامل جسدها ورمت باقي الشاش المفتوح
من يدها قائلة بضيق
" نادني بهذا مجدداً وسترى يا ابن عائلة السلطان الحقيقي "
ليست ابتسامته ما حاول امساكها وقتها بل وحتى يديه عنها فلا يفهم حقاً
ما تثيره هذه المرأة من أعاصير في داخله تجعله في كل مرة يتصرف
بتهور هو نفسه لا يعرف فيه نفسه !
هل السبب عنادها الأنثوي المذهل ؟
أم القوة والذكاء المتدفقتين من عينيها الزرقاء الغامضة ؟
أم أنه الكره الدفين لهم جميعاً والذي تواجه بسببه كل محاولاته
لمساعدتها بالنكران ؟؟!!
تأففت مبعدة نظرها عن عينيه وسحبت الشاش تعيد لفه من جديد قائلة ببرود
" هل تتوقف عن هذه الأسئلة الحمقاء إن قلت أنه لا إجابة تعجبك لدي ؟ "
فك يديه عن صدره ومرر أصابع يده اليمنى في شعره الأسود الناعم
ينظر لها نظرة محارب يستمتع بجولاته إن كانت خاسرة أم لا
وقال بابتسامة ساخرة مستفزة
" هو سؤال أخير إذاً ويمكنك الإجابة عليه بالتأكيد "
نجح في سرقة نظرها وانتباهها له مجدداً فتابع مستغلا الفرصة
ونظره لازال على حدقتيها الزرقاء
" ما الذي حدث معك يا زيزفون الفترة ما بين موت المسمى
عكرمة وخروجك من منزله حتى فترة دخولك المصحة النفسية ؟ "
*
*
*
مرر أصابعه في شعره بقسوة وهو يستمع للواقف أمامه وقد قال
ما أن أنهى كلامه
" حسنا والخلاصة يا عمير ؟ ظننت أن في إمكانكم فعل شيء ما "
حرك عمير رأسه قائلا بقلة حيلة
" تحدث عن جميع مشاكل وفرقة البلاد قبل توحيدها ولا تفكر
في التحدث عن انحياز وقوانين الثنانين ولا أعتقد أن الزعيم مطر
لديه أكثر من هذا.
استعادة أراضيهم وضمهم للبلاد مجدداً قد يساعدك كثير بالتأكيد ,
هذا إن لم يعلموا شيئاً عنكما طبعاً لكن اختراق القانون لديهم
أمر أصعب من تصوراتك
لأنه يخص الثنانيين جميعهم وهو كفيل بجعلهم يعلنونها حرباً
على زعيمهم وعلى الجميع حال تدخلنا .... "
قطع كلامه حين لاحظ تبدل ملامح الواقف أمامه ثم ابتسم ومد
يده لذراعه وأمسكها بقوة قائلا
" من المفترض أننا كبرنا على تحكم المشاعر بنا يا ابن الزعيم
شراع فلا تجعل من عشق امرأة نهايتك يا رجل ولا تفكر بتهور "
حرك رعد رأسه بالنفي هامسا بضيق
" أنا لا أفكر في التهور بأي شيء قد يضرها هي في المقام الأول
وسأنتظر لقاء الزعيم مطر بوفدهم المنتظر والذي أرجوا أن لا يتأخر "
تنهد عمير قائلا
" لا فائدة ترجى منك ولا من كل ما قلت "
وتابع بابتسامة ساخرة مزجت المرارة مع عمق الذكرى
" ولا تعلم يا رعد قد يكون في كل ذلك خير لك واسأل مجرب
فالتضحيات أحيانا تكون نتائجها في صالحنا رغم سلبياتها "
نظر له باستغراب لوقت ثم قال
" هل تعني أنك تركت شخصاً ما برحيلك من هنا واكتشـ .... "
قاطعه بإيماءة من رأسه قائلا بذات ابتسامته الساخرة
" أجل من كانت خطيبتي وابنة خالتي ، طلبت منها انتظاري
وطالبتها بعهد بيننا يشبه ما كان بينكما أنت وتلك الثنانية
فهل تصدق أنها رفضت وصرخت بهستيرية واتهمتني وقتها
بأني لا أحبها وأني أتهرب من الزواج منها وأريد تركها معلقة ،
كان عليا أن أعلم أن ردة فعلها ستكون كذلك وأنا أكثر من كان
يعرف أنانيتها ودلالها المفرط لكن مشاعري نحوها كانت تؤملني
في أمور لا وجود لها "
كانت نظرات رعد المستغربة تتحول للصدمة شيئا فشيء حتى قال
" ولم تنتظرك وأنت وعدتها بأن ترجع لها ؟ "
خرجت منه ضحكة تنطق بؤس ولا مرح فيها أبداً وقال
" تزوجت ما أن سافرت أنا من هنا بعد الزعيم مطر بفترة قصيرة
ولم تهتم أبداً "
حرك رعد رأسه بعدم استيعاب وقد تابع عمير باستهزاء
" حتى الذي ترك طفلة خلفه كبرت ورفضت أن تفك عقد زواجها
منه بينما لم تستطع الراشدة الناضجة تفَهم أسباب خطيبها الذي كان
يجمع ثمن مهرها الخيالي فقط ليرضيها "
قال رعد باستغراب
" من الذي ترك طفلة ؟ "
ربت عمير على ذراعه قائلا بابتسامة
" لا تهتم لكل هذا وأخبرني ما حدث بشأن صنوان وهل من
أخبار عن شقيقك ؟ "
حرك رعد رأسه بيأس وقال متنهداً
" كبار بعض القبائل وافقوا التفاوض ومنهم من سلم في دم أبنائه
واعتبرهم خونة مخربين للبلاد لكن البعض الآخر يرفض ويحتمون
بهم وكل الخوف من تحشدهم ومن أن يأمر الزعيم مطر قوات
الجيش بالتدخل خاصة وأنه سبق وكلفهم بإحضارهم أحياء
للمحاكمة العسكرية وها نحن ننتظر قدومه فهو لم يصل حتى الآن
رغم أن عمه وصل منذ وقت طويل "
كان عمير سيتحدث لولا قاطعه الذي اخترق خلوتهما , صاحب
اللباس العسكري
المخصص بالرتب العالية في الجيش والطول والوقفة الواثقة
فتصافحوا ثلاثتهم
وغادر عمير معتذراً ونظر رعد للواقف أمامه حين قال
" هل نتحدث قليلا يا رعد ؟ "
تنفس رعد بعدم ارتياح من نبرته وطلبه وقد فهم تقريباً ذاك
الموضوع فقال
" بالتأكيد يا يعقوب فالوقت أمامنا بما أن الاجتماع لم يبدأ بعد "
أومأ له برأسه موافقاً لحظة ما علا صوت رنين هاتف رعد الذي
نظر لشاشته فوراً
ولرقم منزل غسق الظاهر فيها , لابد وأنها عمته جويرية فوحدها
من تتصل به بالخط الثابت للمنزل لرفضها اقتناء هاتف خاص ,
اعتذر من الواقف أمامه
وفتح الخط ووضع الهاتف على أذنه قائلا
" أجل عمتي "
عقد حاجبيه مستغرباً بسبب نبرة التردد في صوتها حين قالت
" مرحبا بني ... هل أنت قريب من هنا يا رعد "
قال من فوره " لا عمتي أنا في حوران هل من خطب ؟ "
قالت بعد صمت لحظة " غسق غادرت المنزل منذ الفجر
ولم ترجع حتى الآن و.... "
قاطعها بصدمة " غسق خرجت منذ الفجر ؟ أين ذهبت ذاك
الوقت عمتي تحدثي ؟ "
انتبه حينها فقط للذي لازال يقف أمامه ولتبدل ملامحه وتوجسها
لدى سماعه اسمها
فابتعد مشيراً له بيده معتذراً على صوت عمته قائلة بقلق
" سألتها وقالت لمنزل ابن شاهين ولم ترجع حتى الآن ولـ.... "
لفت نظره خروج صقر مسرعاً جهة باب القاعة الخارجي
يدس هاتفه في جيبه
درجة أنه لم يعد يسمع ما تقول فقال بغضب وهو يركض
جهة الباب
" كيف ذلك عمتي ؟ لما الآن فقط تخبريني "
وغادر ولازالت كلمات توبيخه لها تتبعه متجاهلاً حتى الذي انطلق
خلفه منادياً له وركب سيارته وانطلق من هناك وفي إثره الذي ركب
سيارته أيضاً وخرج خلفه مسرعاً
المخرج ~
بقلم / همس النهاية
تـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ م
غفراني له أصبح مستحيلا، كإستحالتي لمس البشر للعنان السماء
أو أن يصبح البحر خالي من هموم ومأساة!
أو أن نلمس الثريا وسهيلا في لحظة حلماء!
أو أن نبلغ الفضاء بغمضة من عين نجلاء
فقد دمر ماكان صعب البناء، ليتحول كل شيء إلى أشلاء
منثورة تدفعها أعاصير هوجاء
ليصبح الغفران سيد الظلماء!، بلون أدهم كليلة غبراء
فلا أمل من زرع حنين في أرض قحلاء؟!
فلن ينبث إلا شوكا ودماءًا سوداء؟!
فبعض الذنوب لا يمكن أن تمنح الغفران، حتى بعد عبور قرون وأزمان.
*****
نهـــــــــــــــ الفصل السابع ــــــــــاية