كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
الفصل السادس
المدخل ~
بقلم / زينه 4
السَماء تَشهَق بقوة
الغيَاب سرقُ كَل شَيء حَولي ،
فـ الكَلمَات
لا تُنصفُنا يَا صَغيرَتي لاني لااعرف اسمكِ فـ بما اناديكِ!
ففي كلّ مَرة أوشكُ على إرسال رَسائلي المَبتُورة إليك !،
لااعرف أي البلاد احتوتكِ صغيرتي رضيعة وبعدها كبيره !
اخذوك في جنح ظلام
وغادرو اللاوطان فمن هَول غيَابك وحرماني ،
نَسيت أن أكتب حرفـاَ لكِ ،
أن أتذكركِ ،أن أشتاقك ،
و أن أبكيك كَما يَنبغي لم يمنحوني الفرصـة !
أحلامُنا انا وانتِ ، ،
طُفولتكِ عَبثك
، ذكريَاتنا.... لاشئ !
، بكاؤك ،
إبتسَاماتُك...
كلّها تَحتاج لجدار أقوى من ذَاكرتي تَتكأ عليها ...
ذَاكرتي التي تقتلني بك في كلّ مَرة
لا شَيء يستَحق الكتَابة ...
صغيرتي لان لاشئ فيها
ي تلك الصَغيرة التي تُسمى "بنتي " لَم تَكبري بعد !
هل اخبروكَ عني يوماَ !
ان كأن ذلك فـ امكِ لاتعلم عنكِ شيئاَ حتي اسمكِ حرموني إياها!!
ابحث عنك بوجوه الأطفال هل يشبهونكَ
هذا! ...
ام هذا!...
ام تلك! ...
وطالت بي الآيام ,,
والشهور حتى أصبحت سنوات !!ومازال حرماني طويل!
المضحك هنا
أن احلامي الصَغيرة لَم تَكبرفـ انا احلم بكِ كل لليله ولكن بدون ملامح !
واضمك لصدري حد البكاء ،
ولا يوقضني من حلمي سوا رصيف بارد ووواقع مر !
اشتاق لكِ حد السَماء ...!
مَلاكي ...
العَصافير التي مثلك! ورحلت عن اوطانها ... ستعود يوماَ !
اما أنا فـ برغم دفىء الوَطن الذي اسَكنه!
الا هناك جليد يقبع بداخلي لايذوب ويرهقني !،
وعندما تضيق بي الدنيا احلق ب حلمي لوطن يضم صغيرتي
عندما اتطلع للسماء إلى الغُيوم البَيضاء كَأحلامي !
اناجي الله متي الرجوع لقلبي ! فـ يدأت الأرض تَضيق بي !
أرقب حزني الذي يلتَصق بي كلمّا أدرت وجهي لأمل آخر!!
أحاول أن لا أختنق صغيرتي ...
أركُض في أزقة ضَيقة لا تؤدي إلى أي مَكان من هماَ يسكنني !!
وصَدى الرَحبل الذي اقتَلعكِ من قلبي يَقرعُ كل لَيلة
كـ ندَاء المَوت ، وغُربة الأمكنة !!
الفَراغ الكَبير الذي يَملؤني !!
و رَحيلك الذي لَم أستوعبها إلا الآن !
كل هَذا الألم في أعماقي ،
وَحده طَيفك كَفيل بهَدهدته ،
طَيفك الذي لازال يسكُنني واجهله
عَيناك اللتان ترقبني من هُناك ولااعرفها ، أشعر بهمَا !
الفَجوة التي تُطلين منهَا كلّمَا اشتقت لكِ !!
ولان توقفت ساعات الرحيل انتِ امامي ؟!
ونوديَ في كل أرجاء الصحاري
وفوق رمالٍ ورديّةٍ أن عادت تلك القوافلِ المرتحلة
من سنيين ! فسوف تزينها قبلاتُ اللقاء
فـاكَم اخاف للقاء !، من غيَاب يسرقُ كَل شَيء حَولي ،
هل انتهي !
والصَباحات المبللة بالشوق اليوم تنتظرني بقدومك
فـأرفع عًيناي للسَماء بَحثا عَن سَحابتي
سَحابتي التي لَا تُجيد غَير البُكاء هل اختفت !
فقد بكيت كما السُحب علَى الأرصفَة البَاردة
كَتَرَاتِيل مَطر فْي نفس مَوشُومة بالرَمَاد !!
لَحظَة فَقَط ....!!
قبل العناق
أريد ُأن أتنفس قَليلاَ ،
أن أبكي قَليلاَ ،
أن أَهذِي قَليلاَ ،
أن لا أكون أحلُم! كـ حُلمِ عَاثر !!
ابقَي مَعي ...
فَلا زلت سأشهق بذكرَاك كل لَحظة صغيرتي
******
على رغم من أنهم غادروا باريس نهارا إلا أنهم وصلوا
مطار بلادها آخر الليل وليس السبب طول ساعات الرحلة فقط
بل وفارق التوقيت أيضا ، وما هون الأمر عليها أن طائرتهم
نزلت مطار العاصمة حوران مباشرة والتي كانت تعد عاصمة
الحالك في الماضي وأصبحت عاصمة البلاد الآن بحكم اتفاقية
توحيدها من أربعة عشرة عاما من خلال نظام المحاصة كي
لا يثور العامة معترضين وزعيم صنوان سابقا هو من اختير
لحكم البلاد وليس شخص من الحالك ، والهازان حظيت بالنصيب
الأكبر من مقاعد مجلس الشورى آن ذاك بعد الحالك وكانت
المقاعد الأقل لصنوان ، حوران عاصمة البلاد وتيمور حيث
أطراف الهازان الشرقية اختيرت القلب النابض لتلك البلاد
من خلال اختيار شواطئها مركزا لأكبر ميناء تجاري بل ومرافئ
النفط التي أنشئت فيها , ونالت صنوان الاهتمام الأكبر من
النواحي العسكرية فكانت قاعدة لحماية البلاد امتدت أفرعها
فيها كافة وبذلك لم يعترض أي فرد في تلك البلاد على أي
تغيير تبعه حتى تم أكبر مشروع خاص لإعمارها ووصلت لما
وصلت له اليوم وتراه الجالسة حيث المقعد الخلفي في عاصمة
بلادها التي لم تكن تعرف كيف كانت قبل مولدها لكنها رأت
صورا كئيبة كثيرة لها وتراها اليوم وأضواء مبانيها وأبراجها
العالية تتلألأ في سمائها لتشهد على وصول تلك البلاد التي
كانت تعيش عصور ما قبل التاريخ لما وصلت له اليوم ،
وتعلم جيدا أنها الثمن الغالي لأرواح أزهقت وتشبع ترابها
بدمائها , لشبان فقدوا حياتهم على أمل رؤيتها هكذا
ولأجل رؤية ما وصلت له اليوم ، حُلم حَلم به الكثيرين من أبناء
شعبها وعاشوا من أجله , نظرت للجالس في الكرسي المجاور
للسائق في الأمام ، من لم ترى نظراته مثلها تتجول في كل
شيء بنوه بأنفسهم بل وبناه بتضحيته بكل شيء حتى
المرأة التي كانت زوجته ومتأكدة من أنه كانت لها مكانة
عظيمة في قلبه وإن لم يصرح بذلك , توقعت أن ترى نظرات
الرضا والانبهار منه وهو يرى المشهد حي أمامه لأول مرة
فمهما رأيت كل هذا في التلفاز أو من خلال شبكة الانترنت
أو حتى الصور فهو لن يشبه الواقع بأي شكل كان .
شعرت بقبضة اعتصرت قلبها بقوة وهي ترى شرود نظره
في تفاصيل مقدمة السيارة وصمته التام المبهم الذي جعل
حتى الجالس بجانبه يصمت رغما عنه ، لا تعلم ما الذي
تسافر له أفكاره هذا الوقت تحديدا مانعة إياه من التمتع بما
عاش منذ نعومة أظافره يسعى لتحقيقه ودفع من أجله الغالي
والنفيس , تعترف أنها لا تفهمه أغلب الأحيان ..
لا تفهم صمته وأفكاره ! وهي اليوم ليست أفضل من ذي قبل
ولها أن تتخيل فقط أن تفني عمرها من أجل الحصول على أمر
تترك من أجله حتى أقرب الناس لها ثم وما أن تحصل عليه
لا تشعر بلذته مهما كان إنجازا عظيما ويستحق منها كل
ما فعلت فما الذي سيجعلها لا تسعد بامتلاك ذاك الشيء ؟؟
اعتصرت قبضتها بقوة وكادت دموعها أن تفر من عينيها
ما أن أدركت أن أمرا واحدا قد يكون سبب عدم تمتعها بذاك
الشيء وهو أن تشعر نهاية الأمر أن ما خسرته من أجله
أهم منه , لكن هل والدها سيفكر هكذا ؟؟
لا تتخيل أبد أن يشعر بذلك فهذا ( وطن ) كلمة معناها
كبير جدا بالنسبة لأي شخص يحبه فعلا فكيف بحب
مطر شاهين خصيصا له !!
وباتت تعذره في السبب أيا كان فما في القلب لا يمكن لأحد
معرفته فهي خلال رحلتهم في الجو وعلى متن تلك الطائرة
الخاصة لم تكن ترى ولا تعي شيئا مما حولها وكانت منفصلة
عن كل شيء ولازال قلبها وعقلها بل وجميع حواسها هناك
حيث محطة القطار وكل ما حدث معها اليوم وحول قلبها لكتلة
من الألم بعدما سرقت منها السعادة التي لم تدم إلا للحظات .
رفعت نظراتها المليئة بالدموع ما أن تباطأت سرعة السيارة
تدريجيا وبدأت بمسحها بطرف كم معطفها الشتوي
واتسعت عينيها بصدمة فاغرة فاها بغير تصديق وهي ترى
جموع الناس المجتمعة حول سور منزل واسع علمت فورا
بأنه سيكون منزل عائلتها فوالدها اختار أن يأخذوهما له
رغم عروض رجاله السخية حتى بالمبيت في أفضل فنادق
العاصمة وإن لليلة واحدة فقط حتى يتم ترتيب أمور المنزل
الذي هجره أهله من أعوام طويلة , توقفت حركة السيارة
والسيارات التي تبعتهم حولها على همس مطر من بين أسنانه
" ما بكم يا بِشر !! لما كل هذا المهرجان ؟ "
امتدت يد الجالس خلف المقود وقبضت على كف الجالس
بجواره يريحها على فخذه , شد عليها بقوة وقال مبتسما
وناظرا لنصف وجهه المقابل له
" كيف سنمنع الناس من استقبالك يا مطر ؟
هل تتخيل أن نواجههم بالرصاص أم بالغاز المسيل للدموع ؟
هل ترضاها أنت لهم وتسامحنا عليها ؟
لولا أن حضورك كان مفاجئ لوجدت أمام منزلك مالا يمكنك
تخيل عدده , ولأنه لا أحد كان يعلم وجهتك فيوجد مثل هذا
العدد عند مبنى البرلمان ووزارة الداخلية وضعفه بكثير أمام
مبنى القصر الرأسي وكأنهم يتوقعون فعلا أن تدخله بعد
شراع صنوان "
تنهد مطر محركا رأسه بهمس
" تعلمون أني أكره كل هذا وأنتم وقناتكم السخيفة تلك
التي استقبلت طائرتنا السبب "
ضحك الجالس بجانبه وقال وهو يفتح باب السيارة ليتسلل
منها أصوات صرخات المجتمعين في الخارج مع الريح
الباردة التي دخلتها
" لم تتغير يا ابن شاهين والسنين لم تزدك سوى ابنة "
والتفت برأسه للخلف حيث الجالسة هناك وقال مبتسما
" أتذكر ابني البكر يا مطر ؟ هو في الرابعة والعشرين الآن
وأنت تركته في العاشرة .... هل تتخيل !! "
وتابع غامزا للتي في الخلف
" ما رأيك بعريس جاهز يا ابنة شاهين
قبل أن تتكالب على والدك الأمم تريد نسبه "
لم تستطع إخفاء شهقة الصدمة من كلامه
وقد عاد ذاك للضحك مجددا ونزل من السيارة قائلا
" إذا ضع في حسابك أني أول من تقدم لك يا مطر "
فتح مطر حينها بابه أيضا قائلا
" هيا انزلي يا تيما "
ولم يزد حرفا ونزل ووقف مستقيما خارج السيارة
وحذت هي حذوه ونزلت تنظر بصعوبة بعينان أحرقها
الهواء البارد وهو يلفح حدقتيها التي لازالت مبتلة بالدموع
التي حاولت مسحها منذ قليل ولم تستطع التقدم أكثر
من خطوات معدودة وهي ترى كل ذاك التجمع يسرع
للانتقال حيث الذي ظهر لهم أخيرا والتفوا حوله لا ترى
سوى رجال بأعمار مختلفة يستقبلونه بأحضان وترحاب
عميق يتركه واحد ليستلمه الآخر واكتشفت الآن فقط
ما يعني لهم مطر شاهين ، الرجل الذي فقدوه من أعوام
ولم يستطيعوا لا نسيانه ولا تجاهل وجوده في الحياة .
مسحت الدموع التي عادت للنزول وبغزارة هذه المرة
وهي ترى المشهد الذي كان أعظم من مشهد استقبال
رجاله له في المطار الصغير هناك , ترى البسطاء من الناس
بجميع أطيافهم ، ترى دموع كبار السن وحتى من النساء
وهم يستقبلونه بالدموع ويرغمه البعض على أن يقبلوا رأسه .
الآن فقط أدركت أكثر معنى ما قاسته هذه البلاد
ومعنى ما حققه لهم هذا الرجل قبل رحيله ولازال
ما لا يعلمونه بعد ذلك رغم يقينها من أن كل واحد منهم
كان يعلم أنه موجود وإن كان بعيدا وأنه عاش ويعيش
من أجل إكمال ما بدأه يوما وهو بينهم وإن كانوا يجهلون
مكانه فكيف وهم يرون أنهم اليوم بأمس الحاجة له .
للرجل الذي زرع نواة توحيد البلاد وجعلها تتحول لحلم
عاشه الكثيرين منهم معه من أوله , شعرت بيد على كتفها
فنظرت لصاحبها فورا فإذا به الرجل الذي أوصلهم من المطار
وقد أشار لها بيده قائلا بابتسامة
" هيا أيتها السيدة الصغيرة فسنخلص والدك منهم لتدخلا
منزلكم فكل واحد منكما متعب أكثر من الآخر بالتأكيد "
*
*
*
نزلت عتبات باب المنزل تلف الشال الصوفي حول جسدها
حاضنة له تخفيه عن الريح الباردة التي تشعر بها تتسلل
لعظامها من فوق كل تلك الثياب السميكة .
وقفت بعد خطوات فقدت فيها القدرة على متابعة السير
وملأت دموع الحزن عينيها وهي ترى الجالسة هناك عند
أحد مقاعد الحديقة غير عابئة للوقت ولا الطقس بثياب خفيفة
تتلاعب نسائم الليل الباردة بخصلات شعرها الأسود الطويل .
كم ذكرها هذا بالماضي بتلك الفتاة العنيدة التي تعتصم عنهم
بجلوسها في الخارج والبرد القارص لتجبرهم على تحقيق ما تريد
أو لتعلن احتجاجها عما لا تريده ،عادة ظنت أنها نسيتها من أعوام
فلا تذكر أنها رأتها بهذا الشكل مجددا منذ رجوعها من الحالك
ولا تراه اليوم عنادا منها وفي هذه الليلة تحديدا
وهي بنفسها من كانت منذ قليل في غرفة الكاسر وشاهدت
معه طائرة ذاك الرجل تنزل أرض الوطن وكان كل تصورهم
أنها خارج المنزل ولم ترجع بعد من جمعيتها وليست هنا !
لا تعلم هربا من مشاهدة ما رأوه أم من نفسها ؟
وكيف لها أن تلومها وهي من بكت حتى تعبت حين رأت
تلك الفتاة التي نزلت من الطائرة وإن كانت الصورة بعيدة
وغير واضحة ،
لا تتخيل أن تكون مكان الأم الجالسة هناك وهي ترى
ذاك المشهد ولن تلومها على هربها منه وهي من رفضت
حتى رؤيتها وقت ولادتها كي لا يتعلق قلبها بها فكيف الآن
وقد أصبح طولها كطول والدتها .
هذا إن لم تكن خانتها توقعاتها وهربها كان بسبب ذاك الرجل وحده .
مسحت عيناها الدامعة التي أجهدها البكاء وأنفها المحمر
واقتربت بهدوء حتى وصلت للجالسة توليها ظهرها
لتعود دموعها للنزول مجددا تمسك عبرتها وهي ترى
تلك اللفافة بين يديها ، قطعة القماش التي ظنت أنها اختفت
منذ ولادة ابنتها
ولم تتخيل أبدا أنها تحتفظ بها كل هذه السنوات
دون أن يعلم عن وجودها أحد ، مسحت عيناها مجددا
حين شعرت الجالسة على بعد خطوات منها بوجودها
ناظرة لها للخلف قبل أن ترجع برأسها للأمام
تمسح أيضا الدموع التي لم تسمح لهم برؤيتها
طوال تلك الأعوام ولا على فراق ابنتها وليدتها تلك .
اقتربت منها أكثر حتى وصلت عندها وجلست بجوارها
في صمت تام وضمتها لحظنها دون أن تتحدث أي منهما
وتركت المجال لتلك الدموع السجينة لأعوام أن تتحرر
على صدرها ويدها تمسح ذاك الشعر الحريري تشعر
بقلبها يتمزق لأشلآء مع كل شهقة مكتومة
تصدر عن التي اعتبرتها ابنتها منذ أول يوم رأتها فيها .
رحمت حالها وضعفها الذي سجنته في قلبها من أعوام
وهي من عاشت يتيمة الأبوين دون أن تعلم ومع زوجة
أب قاسية آخر جرائمها كانت أن أخبرتها عن نسبها المجهول
وطعنتها تلك الطعنة القاتلة وهي لازالت أبنة السادسة عشر
ورمتها في دوامة الضياع والشعور بعدم الانتماء .
ورغم كل ما قدمه لها شراع وما حاولت هي تعويضه لها
كانت ترى جيدا الحزن في عينيها ذاك الوقت والدموع
التي كانت تخفيها عن الجميع بسبب تجريح البعض لها بكلماتهم .
وليت مآسيها انتهت عند ذلك الحد فقد تركها زوجها
آخذا ابنتها معه وفقدت شقيقها الوحيد والمقرب لها
ثم والدها الذي رباها وتركوها كسفينة تهيم في عرض البحر
فقدت حتى أشرعتها ، مسحت على شعرها مجددا
تضمها لها بقوة وقبلت رأسها ودموعها تتقاطر على
ذاك الحرير الشديد السواد وخرجت حروفها تخنقها عبرتها
" غسق ارحمي نفسك بنيتي فما فات لا يمكن تغييره
والعبرة في المستقبل فقط "
نحب صوت التي تعلقت بحظنها كالغريق وهي تهمس
" ابنتي عمتي .... سأتحمل أي شيء إلا أن تكون هنا
ويحرمني منها ذاك الرجل لينهي قتله لي "
ضمتها بكلتا ذراعيها وبكائها معها يزداد وهي تفقد
باقي ذرات تماسكها الذي كانت تريد مواساتها وتقويتها به
وحمدت الله أنها قررت الاعتصام هنا وفي البرد على أن
تشاهد ما شاهده جميع من في تلك البلاد
بالتأكيد فهي تعلم جيدا ومهما أخفت النائمة في حظنها
الآن دواخلها ما عناه لها ذاك الرجل في الماضي
وكانت ترى بوضوح في عينيها نظرة الانكسار والألم
الذي مصدره القلب تحديدا ، نظرة احتاجت لسنوات
ليس لتمحوها من عينيها بل لتخفيها ببراعة عن جميع
المحيطين بها واختيارها التسلح بكل تلك القوة المزيفة
رغم نجاحها كامرأة مجتمع وابنة لرئيس البلاد وقدوة لكل
منتسبات جمعيتها الضخمة تلك ، هي لم تجرب شعور
الأم سابقا لكنها جربت معنى التعلق بجنين في أحشائها
حين كانت تجهض المرة تلو الأخرى قبل أن يقرر زوجها
الزواج من أخرى ويقرر بالتالي شقيقها شراع تطليقها منه
على أن تضام شقيقته بسبب امرأة ورجل يفترض أنه زوجها .
لذلك هي لم تعرف شعور أن تفقد وليدها لكنها تعلم جيدا
تلك المشاعر التي تولد في داخلها حين تشعر أنه ثمة مخلوق
ما يعيش ويتغذى في أحشائها ومعنى أن تنتظره باليوم والساعة.
أبتعدت عنها فأمسكت وجهها تمسح يديها على جانبيه
ونظرها على عينيها الدامعة وجفناها المحمران وقد همست
بأسى وحرقة دموعها تغطي مقلتيها السوداء الواسعة
يعكسها ضوء أنوار المكان
" حرمت من رؤيتها وهي طفلة وهي تحبو وتقف وتخطو
خطواتها الأولى وتنطق أول كلماتها وتكبر رويدا رويدا .
حتى كلمة ماما لن تكون نطقتها أبدا وتعلمتها هذا إن لم
تقلها لامرأة غيري "
تدحرجت دموعها تباعا وتابعت بعبرة كسرت آخر أبراج
صمودها القوية التي بنتها حول نفسها لأعوام
" لم أندم حياتي على أمر كندمي لعدم رؤيتها ولو لمرة
بعد ولادتها رغم أن ذلك ما كان ليزيدني إلا ألما "
ضمتها لحظنها مجددا تبكي الوجع مثلها
وأكثر منها متمتمة بقهر
" سامحك الله يا ابن شاهين ولا أذاقك ما أريتها "
*
*
*
سارت معه وكما قال بدأ الحرس الذي رافقهم بإبعاد الناس
وإفساح الطريق أمامهم ، وكان الوقت الذي أستغرقوه ليصلوا
باب المنزل أطول مما تتخيل إذا اخترق البعض حرس والدها
ووصلوا له وقد تعامل معهم كما تعرفه ويعرفوه جيدا
ابن وشقيق لكل من يعيش على تراب وطنه لا يرفضه
ولا يترفع عليه ، وما أن أغلق باب المنزل الضخم الذي
رغم قدمه لازال متمسكا بصلابته فاصلا اياهما عن من
اجتمع من البشر وحتى رجاله تنفست الصعداء وكأنها لم
تعرف الهواء يوما .
تبعت نظراتها الرجال بلباسهم الخاص بقوات الحماية الخاصة
والذين وكلوا بحراسة المكان ومن لم تلاحظ والدها يرفض
دخولهم وموقنة من أن وجودهم إجراء أمني ضروري للغاية
خاصة مع أحداث البلاد الأخيرة وما رأته بنفسها من إجراءات
أمنية مشددة من طريقهم من المطار حتى منزل عائلتها .
تحركت ما أن شعرت بخطوات من تحرك أمامها وتبعته في
صمت يشبه صمته الذي لم تفسره هذه المرة بالمبهم الغامض
كالسابق بل بأنه صمت من عادت به الحياة لأعوام مضت ،
من وجد نفسه في لحظة في الماضي الذي تركه خلفه منذ
أربعة عشر عاما ونيف ، صمت لن يستطيع قراءته وفك رموزه
إلا الأشياء الجامدة التي يمران بها خلال سيرهما باتجاه ذاك
المنزل الضخم الذي ظهر لها ما أن توغلا في تلك الحديقة
متشابكة الأغصان الخضراء الطويلة .
كل شيء في ذاك المكان الذي لم تعرفه يوما ولم يتعرف بها
وحتى الحجارة التي تئن تحت وطئت خطواتهما الآن كانت تشعر
بأنها أجساد حية تنبض بالحنين والشوق لأشخاص ليس فقط
كانوا يشكلون مصدرا للحياة حولها بل لأي شخص حي يعيد لهم
صفة الوجود الغير موجودة تلك ، ارتفع نظرها لذاك المبنى
الذي وقفا أمامه وكان من الغرابة والجمال العمراني رغم قدمه
أن يخطف نظرها لوقت تحاول رؤية جميع تفاصيله تحت ضوء
القمر المكتمل ليوقضها من تأملها الصامت ذاك صوت صرير
الباب الخشبي القوي الذي فتحه الواقف أمامها ، الباب الذي
كانت موقنة من أن مفاتيحه لن تستطيع الدخول لأعماق قفله
القديم فكيف إذ به دار داخله بكل بساطة ودون جهد أو ركل
لدقائق ليفتح !
وها هو ككل شيء في ذاك المكان يفاجئها بأصالته ومتانته
التي لم تستطع السنين تغييرها ليفتح بعد سنين طوال ليتردد
صدى صريره في أرجاء المنزل الفارغ متسللا مع ضوء القمر
الذي رسم خطا مستقيما انتهى قبل أن يصل لأقرب جدران
المكان ليتبث أكثر مدى اتساعه الذي يظهر للعيان واضحا من
البناء الخارجي له .
تحركت للداخل تتبع الذي مد يده جانبا ما أن أصبح في الداخل
وكأنه يحفظ كل شبر في هذا المكان وأصابعه تلتقط مكان زر
الإنارة الأقرب للباب دون أي جهد أو بحث وعناء .
منزل علمت الآن أنه جزء من شخصية الواقف قربها حد
سريانه في دمائه ومكوث تفاصيله في ذاكرته .
أمر آخر كان عليها توقعه مسبقا وهي ترى الأضواء تنير
المكان الصامت تباعا وليس كما ترى في القصص والأفلام
منزل قديم مهجور يعني أنه لا كهرباء ولا ماء فيه .
نظرت للذي يقف بجانبها وامتلأت عيناها لا إراديا بالدموع .
كانت تمنى أن أمسكت يده مبتسمة له وتحدثا عن ذكرياته
في هذا المكان لكنها لم تستطع ولا أن تقرب أطراف أصابعها
من كف يده وهي تنظر لحدقتاه السوداء تتجول في تفاصيل
ذاك المنزل ببطء تحكي بصمت قصصا قديمة عن ذكريات
جمعته بهذا المكان ، ورغم جمود ملامحه وهدوء نظراته
إلا أنها قرأت فيهم بوضوح تعلقا عميقا بالمكان وبذاك الزمن
البعيد ولن تتوقع غير ذلك وهو من ولد في هذا المنزل وعاش
وتربى فيه وعاشر أشخاصا بعضهم لم يعد موجودا في الحياة
إلا ذكراهم ، كما الذكريات الوحيدة التي جمعته بالمرأة التي
كانت زوجته لفترة من الزمن ، شعرت بتلك الغصة في داخلها
ما أن ثبت نظره على السلالم الملاصق للجدار يسارا
وجمد هناك عكس ما كان يمسح تفاصيل المكان منذ قليل.
لحظتها فقط تمنت أن قرأت أفكاره التي لم تتساءل عنها يوما
بقدر ما تساءلت الآن وعن مكان تلك المرأة فيها .
انحبست أنفاسها بل وتوقف قلبها عن الخفقان حين سمعا صرير
أحد الأبواب يفتح بعد دوران مقبضه ولم تشعر سوا بيد والدها
التي أمسكت يدها ودسها خلفه سريعا يريد حمايتها من المجهول
أيا كان وهو من يعلم أن لا أحد غيره في تلك البلاد يملك مفتاحا
للمنزل ويستطيع دخوله حتى أنه دخله دون سلاح ولا حماية .
تمسكت في سترته السوداء الثقيلة لا شعوريا وصرير الباب
يزداد في وقت قياسي لا يمكنهما ولا التراجع فيه للوراء ولا
تتخيل أن والدها قد يفعلها وإن فقد حياته وهذا ما تخشاه أكثر
من فقدها لحياتها هي
" انظر لمفارقات الزمن يا مطر شاهين "
شعرت بجميع مفاصلها ارتخت حد أنها كادت تفقد توازنها
وتنهار أرضا ما أن وصلها ذاك الصوت الرجولي الباسم
والودود وما أن أبعدت رأسها قليلا واسترقت النظر
من حيث ذراع الواقف أمامها ظهر لها الرجل الذي تقدم
من الباب الذي فتحه عند نهاية البهو الواسع ، رجل يبدوا قارب
السبعين من عمره رغم أن البياض في شعره لم يتغلب على سواده
بعد مسرح ومرتب بعناية وجسد قوي ثابت في حركته ومشيته ،
أوصاف جعلتها فورا تنسبه لهذه العائلة ولأنه كان يحمل من
ملامح جدها دجى الكثير ما أن اقترب ورأته بوضوح أكبر
وإن كان لا يشبه الواقف ملاصقة له أبدا علمت فورا بأنه
سيكون عم والديها المدعو ( صقر ) ومن غيره قد يملك
مفتاحا لهذا المنزل ، ابتعدت جانبا ما أن وصل للذي نظره لم
يزحه عنه منذ خروجه من ذاك المكان وتعانقا عناقا طويلا
لم تراه ولا بينه وبين رجاله الذين استقبلوا طائرتهم فور
نزولها أرض الوطن ، كان عناقا رجوليا خاصا حقا بأفراد عائلة
الشاهين المعروفة رجال وسمتهم جيناتهم الوراثية بالشجاعة
والبطولة التي ترفض إلا أن تكون أسطرا في التاريخ تتحدث
عنها الأجيال المتعاقبة فكم طالب الناس وخاصة في الحالك
بهذا الرجل خلفا لأسطورتهم مطر شاهين حين ترك البلاد فجأة
ولولا رفضه وخروجه من البلاد بأوامر من ابن شقيقه طبعا
لكان الآن رئيسا لها ولا تراه إلا تصرفا حكيما من والدها
لدرء الفتن المحتملة وقتها بين الحالك وصنوان .
ابتعد عنه عمه بعد كل ذاك العناق الرجولي القوي الفخم ممسكا
كتفه وقد شد عليه بقوة وقال مبتسما ونظره على عينيه
" كنت أعلم أنك لن تصبر على حال البلاد أكثر .
مرحبا بعودتك يا أعظم ابن قد أنجبته "
لم يكن رد مطر سوا بأن ربتت يده على ذراع عمه مبتسما له
قبل أن تتحول نظرات الواقف أمامه للتي أصبحت تقف بجانب
ابن شقيقه وقد اتسعت عيناه بذهول للحظة قبل أن يقول
" لا تقل أن هذه ابنتك يا مطر ! "
ابتسمت له تميل رأسها قليلا وخطفت نظرها للذي كان ينظر
لها مبتسما قبل أن تعيده لعمه وهمست مبتسمة بحياء
" قل أني بشعة ولا أشبهه وسأبكي الآن "
ضحك من فوره وسحبها نحوه سريعا من ذراعها وضمها
لحضنه بقوة قائلا بضحكة
" سحقا للتاريخ يا رجل ، هل هذه الحسناء ابنتك الرضيعة
تلك التي رأيتها سابقا ؟ "
أبعدها عنه سريعا ونظر لوجهها وملامحها الجميلة البريئة
وحرك رأسه بعدم استيعاب قائلا
" ومن كان سيتوقع غير هذا من طفلة والداها هما ؟
لم تتغلب عليك سوى والدتك فتلك لا امرأة أجمل منها على الإطلاق "
" سأصعد لغرفتي لأنام وأنتي يا تيما اختاري أي مكان يناسبك "
نقلت نظراتها التي اكتساها الحزن فجأة للذي غادر من عندهما
جهة السلالم في أول خروج له من صمته والذي كان عقب عبارة
عمه تلك وكأنه يهرب منهما أو من شيء تجهله تماما .
تعلقت نظراتها به وهو يصعد العتبات اثنتين عقب ثلاثة
بخطوات واسعة واثقة زادها جسده القوي الصلب والبذلة التي
لا تعتقد أنها ستليق بغيره أكثر منه وقد تابع مبتعدا للأعلى
" سأراك فجرا يا عمي "
فقط هذا ما قاله قبل أن يتوارى عنهما في الأعلى .
عادت بنظرها للواقف أمامها حين حرك كتفيه قائلا بابتسامة مائلة
" هل تعرفني ابنة مطر شاهين أم أعرفها بنفسي "
ابتسمت من بين حزنها وترقرق حدقتيها الزرقاء الواسعة
بالدموع وهمست ببحة
" بلى أعرفك حكى لي عنك جدي دجى كثيرا "
ضم كتفيها بذراعه وقال سائرا بها للداخل أكثر
" ومهما حكا لي عنك أيضا فقد فقت توقعاتي ، تعالي لتختاري
مكانا تنامين فيه ، المنزل مليء بالغبار وشديدة البرودة كما
ترين لكن الأوضع فيه ستتغير سريعا "
وقف بها عند مفترق طريق بين ممرين وقال مشيرا بسبابته
" هنا الممر الأكثر غرفا حيث كانت غرفة شقيقتي نصيرة
رحمها الله وعمتك جوزاء ، وفي الممر الآخر لم يكن ثمة
غرف مستخدمة سوى غرفة والدتك سابقا فاستخدمي إحدى
الغرف هنا حتى الغد ليتم تجهيز غرفة لك بما أنه يبدوا أن
والدك يرفض ترك هذا المنزل العتيق العريق "
التهمت نظراتها المستغربة ملامحه المسترخية وعيناه
الناظرة للبعيد وقالت
" غرفة والدتي !! أليست غرفتهما في الأعلى كما فهمت ؟ "
نظر لها لبرهة مبتسما قبل أن تنطلق ضحكته مرتفعة
ونظراتها له لا تزداد إلا استغرابا لضحكه بدلا من إجابتها !
نظر لها مجددا وقال يمسك ضحكته
" بالتأكيد غرفتهما في الأعلى وإلا كيف وصلت أنتي هنا "
شعرت أن قدرا من الماء البارد سكب عليها وبخداها يشتعلان
احمرارا وهي تهرب بنظراتها منه خجلا فتابع بضحكة
" لديها غرفة هنا لم تتركها وتصعد للأعلى إلا بعد ثلاثة أشهر
فلك أن تتخيلي عناد ودهاء التي تكون والدتك فهي دون ذلك
زارتها مرات عدة وهما زوجان "
نظرت له متنهدة بحزن تشعر بأن أملها في رجوعهما
يموت قبل أن يولد داخلها ، همست ببحة
" هل كانت أحوالهما سيئة لهذا الحد ؟ "
حرك رأسه بالنفي مبتسما وقال " لم يكن حال جميع من كانوا
في هذا المنزل أفضل من الأوقات التي كانت فيها هنا بيننا
لكنها أجمل عنيدة ومحاربة من أجل نفسها رأتها عيني "
ابتسمت أيضا تمسك دموعها من النزول من تلك الأحداق
الواسعة فقرص خدها الصغير الناعم قائلا بابتسامة محبة
" ولا تقلقي ستكون هنا وعلينا جميعا تحقيق ذلك فلن يكون
عدلا أن تكوني العنصر الأنثوي الوحيد هنا حين يأتي جدك
أيضا للعيش في هذا المنزل وقاسم ابن شقيقتي نصيرة
رحمها الله "
نظرت له باستغراب قائلة
" ابن شقيقتك ؟ "
بادلها ذات النظرة قائلا
" نعم ألا تعرفيه وهو يعيش في لندن منذ ولادتك وأحد
رجال والدك المهمين ؟ "
نظرت له وكأنها لم تراه سابقا فأومأ برأسه قائلا
" لا بأس يبدوا أن والدك كان يحصنك ضد حتى أقاربك .
هو ابن عمته لم أراه منذ كان ابن الخامسة عشرة قبل أن
يختفي خلف حدود الهازان "
وتابع مبتسما
" كان ما أعند رأسه يشبه والده حتى في تهوره
دون التفكير في العواقب "
عبست ملامحها الجميلة متمتمة
" ولما أفراد عائلتكم جميعا يحملون ذات الصفات "
حضن كتفيها بذراعه ضاحكا وسار بها جهة الممر الآخر قائلا
" لأن دماء الشاهين تجري في عروقنا ولن تكوني أفضل حالا
منا يا حفيدة شقيقي .
عليك أن تنامي الآن وترتاحي وأنا أيضا وصلت طائرتي
قبل طائرتكما بأقل من ساعتين وعليا أن أنام ولاحقا سأحكي لك
عن كل شيء حتى جدنا شاهين الأكبر ذاك وما فعل واشتهر به "
وصلا حينها لباب غرفة فتحه وقال وهما عند الباب
" أراك صباحا ، تصبحين على خير "
رفعت جسدها على روؤس أصابعها وقبلت كتفه هامسة
" وأنت بخير "
وتابعت مبتسمة
" أناديك عمي صقر أم خالي ؟ "
ضحك وقال
" كلاهما سواء فأنا قريب لوالديك كليهما ، المهم أن لا تناديني
جدي صقر فأنا أكبر من جدك دجى ، إن احتجت شيئا فجناحي عند الباب الذي خرجت منه وقت دخولكما "
ثم غادرا من عندها متمنيا لها من جديد ليلة سعيدة
وراقبته عيناها وابتسامتها المحبة حتى اختفى وهي تتذكر
ما حكاه لها جدها دجى عنه وعن أنه رفض الزواج بإ صرار
شديد بعد وفاة زوجته وابنه وعاش هكذا وحيدا ، كم يذكرها
بجدها الذي اشتاقت له منذ الآن وجل ما تتمناه أن تراه قريبا .
دخلت الغرفة التي احتاجت لوقت لتجد زر الإنارة لتفتحها
رغم أن الممر كان مضاء ، جالت نظراتها في الغرفة التي
غطى أثاثها الغبار كحال باقي المنزل ، كانت بسرير واسع
وخزانة ثياب كبيرة وطاولة عند النافذة الطويلة وكرسيان
من الخشب الثقيل ، أثاث يحمل الفخامة رغم قدمه ومن يراه
يدرك فورا أن أيدي بشرية هي من صنعته ونقشته وصقلته
ليبقى عريقا مهما طالت السنين .
أغلقت باب الغرفة التي لم تزدها إلا شعورا بالحنين لتلك المرأة
التي لا تسمع سوى حكاياتهم عنها وهي تلامس بأناملها كل شيء
في ذاك المكان وحتى الستائر القديمة السميكة فهذه الأشياء
الصماء الجامدة عرفتها أكثر منها وإن كانت ستكون عاشت
ضمن جدرانها لساعة واحدة فقط فكيف بأشهر ، مسحت الدمعة
التي انسابت على خدها فلا تريد التفكير الآن سوا بأنها ستراها
قريبا وتكون معها ، أنزلت الحقيبة من كتفها ووضعتنا على
السرير وخلعت معطفها وحجابها لتكتشف حينها برودة المكان
الحقيقية ، أخرجت من الحقيبة عدة الاستحمام البسيطة التي
وضعتها فيها والثياب المريحة فتلك كانت ضمن ما رأتها
ضروريات قد تحتاجها وها هي احتاجتها بالفعل فحقائبها لم
تراها حتى الآن ، دخلت الحمام المرفق للغرفة ورغم بساطته
وقدم طرازه كان واسعا ومريحا ، فتحت صنبور المياه الذي أصدر
صوتا أوجسها قبل أن تتدفق منه المياه حمراء صدئة وبدأ
لونها يتلاشى تدريجيا حتى أصبح نقيا تماما .
مدت يدها تحته وارتجفت فورا وهي تبعدها بسرعة بسبب
برودته لكن لا حل أمامها وعليها أن تستحم وإن بالقليل منه
فقط كي لا تمرض بسبب كل هذا البرد ، وبعد حمام سريع
لم تستطع تسميته أبدا بالاستحمام خرجت للغرفة راكضة
تضم جسدها بالمنشفة البيضاء الكبيرة التي وجدتها في
الخزانة مع أغطية سرير سميكة وأخرى خفيفة صيفية .
لبست ثيابها سريعا واندست في السرير الذي رتبته كيفما كان
تغطي جسدها المرتجف باللحاف بقوة والذي جعل الدفء يتسلل
سريعا لجسدها المنكمش فيه ، لا تعلم بسبب جودته أم بسبب
حنينها للتي استخدمته سابقا وكأنها تنام في حظنها الدافء .
أغمضت عينيها برفق وابتسامة دافئة تزين شفتيها وهي تتذكر
كلام عمها صقر عنها ، وسرعان ما ماتت ابتسامتها وببطء
وشعرت بالإعياء فجأة وليست تعلم لما ظهرت صورة ذاك الشاب
أمامها الآن ! ليتها فقط وجدته قبل أن تغادر المحطة ، حسنا وإن
وجدته ما كان سيغير ذاك في الأمر وفي فكرته عنها ؟
دست وجهها في الوسادة المحشوة بالقطن وهمست بأسى
" لما لم ينفذ تهديده ذاك باختطافي من الرجل الذي يضنني ملكا له ؟
لما لا يحمل صفات العناد والتهور هو أيضا ؟ "
*
*
*
التفت خلفه ما أن اجتاز بوابة محطة القطار ورفع نظره
سريعا لسماء لندن داكنة الغيوم وكأنها تختبر فضاعة قراره
المفاجئ ذاك بانعكاس لون كل تلك السحب الكئيبة في عينيه ،
يعلم أنه قرار جنوني لكنه لا يستطيع أن يقنع نفسه بغيره فبعد
ساعتين فقط في باريس وجد نفسه يقطع تذكرة قطار جديدة
تعيده للندن يحمل الحقيبة التي أخذها معه ففكرة صغيرة جدا
أو ليقل غبية بأن يبحث عن اسمها عن طريق رقم المقصورة
والمقعد اللذان كانت تجلس فيهما جعلته يدور حول نفسه
كالجواد المربوط في قرار لا يستطيع سوى وصفه ببداية التهور
لجلب اسم فتاة بريطانية مجهولة ولها حبيب أو لنقل خطيب
أيضا ، ساعاتان فقط كانتا المدة الكافية لاختبار صبره ليجد
نفسه بعدها يتصل برقم محطة القطار ووجد نفسه بعدها فورا
في شباك التذاكر في محطة غاردلي نور بباريس عائدا من حيث
انطلق وكأنه سيجدها مثلا أمامه هنا ما أن يصل وهو من نزل
القطار وتركها هناك ! لا يعلم حقا ما يحدث معه وهذا ما عاد
أدراجه لأجله إجابة واحدة عن السؤال المبهم التعيس
( ما يريد من فتاة وجدها في ملهى ليلي بل وفتاة رجل غيره ؟ )
هل هو فضول ليس إلا ؟
أم أنه تحدي سخيف مع رجل لا يعرفه !
أم بسبب تلك الصورة للوجه الجميل تحيطه هالة هدوء ورقة
لم يراهما في فتاة من قبل ، والعينان الزرقاء بنظرتها الصافية
البريئة التي رفضت أن تفارقه وألهبت مشاعره كالسعير وهي
ترفض مفارقته منذ تركها في مقصورة القطار ؟
لم يعرف نفسه صاحب قرارات جنونية سخيفة سابقا !
ولأنه لا يريد أن يتحكم به عقل الشاب الذي عرفه منذ أصبح
هنا العقل الذي يرفض الأخطاء والهفوات ركب سيارة أجره
وغادر المكان قبل أن يتراجع في قراره موقفا جميع أفكاره
حتى التفكير في ذاك الوجه والجسد مجهولان الأسم والهوية
حتى الآن فهو لا يستطيع تصديق أن صاحبة ذاك الوجه
والصوت أن تكون فتاة ملاهي ليلية ومطاردة من عصابة !
وقفت به السيارة تحت المبنى الفاخر بطوابقه الخمس حيث
العنوان الذي أعطاه للسائق ونزل بعدما دفع له أجرته وأنزل
حقيبته معه وكل أمله أن يكون صاحب تلك الشقة موجودا الآن
فوحده من يستطيع أن يساعده ويجلب له ما يريد معرفته وهو
وحده من يمكنه أن يفتح له قلبه الذي أصبح لغزا بالنسبة
له نفسه !
صعد السلالم بخطوات كانت تتردد تدريجيا حتى خيل له في
لحظة أنه سيغادر لشقته السابقة التي تركها لولا أن وجد
أصبعه يضغط زر باب الشقة دون استئذان ، وما هي إلا
لحظات وانفتح الباب ووجد أمامه آخر شخص كان يتوقع
أن يجده وقت يطلبه ، كان يرتدي بنطلون قصير فقط عضلات
صدره القوية والبارزة لا يسترها شيء ينظر باستغراب أيضا
لآخر شخص أيضا كان يتوقع أن يجده أمامه الآن ، تحدث قاسم
أولا مخترقا ذاك الصمت ونظرات الاستغراب
" هل ستسمح لي بالدخول قليلا أم أنك كنت سعيدا برحيلي الأبدي "
جالت نظرات تيم الحاذقة الحادة في المكان تتأكد من خلوه
من أي شخص مريب قبل أن تقبض أصابعه الطويلة القوية
على ذراع الواقف أمامه وسحبه للداخل مغلقا باب الشقة
بيده الأخرى ليحتويهما هوائها الدافىء وقبل أن يفكر
بالتحدث سبقه الذي رمى حقيبته على الأرض قائلا ببرود
" قررت البقاء في لندن نهائيا "
نظر له الواقف أمامه باستغراب لوقت قبل أن يهمس بجدية
" هل يعلم الزعيم بهذا القرار الأخرق ؟ "
همس بضيق من بين أسنانه
" ليس أخرقا فهو قراري وحدي ، ولست أول من يتخذ قرارات
لا يسمح لأحد مناقشته فيها مهما كانت خرقاء على ما أضن "
ابتسم الواقف أمامه بسخرية من مقصده ذاك من كلماته
ثم تحرك من هناك وتمتم ببرود قاصدا إحدى الغرف
" أغلق الباب بالمفتاح إذا واتبعني "
حرك رأسه متنهدا وتبعه ودخل خلفه حيث وجده جالسا
مقابلا لشاشة حاسوبه المحمول ينظر لها بتركيز يستند
بمرفقيه على ركبتيه وسيجارة بين أصابعه يتصاعد
الدخان منها .
وقف عند الباب مكتفا يديه لصدره حين وصلته نبرة تيم
الباردة ولم يرفع نظره به
" هل ستخبرني الآن ما عاد بك هكذا فجأة أم ستنام لنتحدث
صباحا حين لن تجدني لأني مسافر لبانغار فجرا "
تمتم قاسم باستياء
" سأتحدث إن أغلقت جهازك هذا وانتبهت لي
وأطفأت أيضا هذا السم الذي يأكل صحتك يا دكتور تيم "
رفع نظره له وكان سيتحدث لولا أن تشنجت ملامحه فجأة
وضرب سريعا شاشة حاسوبه الذي كان يجزم الواقف عند
الباب أنه سيكون كسر شاشته متعمدا بحركته تلك .
لم يستطع قاسم التحرك من مكانه وهو يشعر بدوران مقبض
الباب خلفه وقد انفتح سريعا وهو يرى ملامح الجالس هناك
كيف تصلبت وسمع بوضوح شتيمته الحمقاء تلك له لأنه
لم يغلق الباب كما طلب منه ، ظن أنه ثمة مسلح سيباغتهم
الآن وآخر ما توقع هو الصوت الرقيق والأنثوي الذي خرج
من خلفه
" أوه تيموثي أتصل بك من أكثر من ساعة ولا تجيب ،
جيد أن باب المنزل كان مفتوحا ظننتك نائما "
التفت حينها قاسم للتي اجتازته دون حتى أن ترفع نظرها له
وإن من باب الفضول وليس الأدب وإن بتحية ونظر باستغراب
للجسد الطويل النحيل يعلوه ذاك الشعر الأحمر القصير كألسنة
لهب مشعة .
كانت نظراته لا تعبر سوا عن صدمته وهي تصل عند الذي
وقف على طوله وقد تعلقت بعنقه بعدما قبلت خده دون أي
خجل أو تحفظ وهمست له كلمات في أذنه بينما كان نظره هو
على عيني الواقف عند الباب تنظران له بصدمة ، رفع قاسم
يديه لا إراديا وأشار لخنصر يده اليسرى هامسا بشفتيه فقط
" أنت متزوج يا رجل ! "
ولم يكن جواب تيم سوى أن رفع له إبهامه وقد أمسك خصر
المتشبثة به مانعا إياها من الابتعاد عنه كي لا تلتفت وتراه ،
حركتان فهمهما قاسم سريعا مما جعله يغادر الغرفة والشقة
فورا قبل أن ترى تلك الفتاة وجهه فهذا ما هو موقن الآن من
أنه السبب وراء جمود ملامحه من الصدمة حين دخلت ، لكن
من تكون تلك ولما لا يريدها أن تعرفه ! بل يبدوا أنه كان
كارها لوجودها ويتهرب من اتصالاتها وزيارتها .
رمى كل تلك الأفكار من رأسه لحظة رميه لحقيبته في سيارة
الأجرة التي توقفت أمامه وركب وغادر من هناك ، ما الذي جاء
به هنا بحق الله ! لو يعلم فقط ما ينوي فعله تحديدا غير البقاء
في هذه البلاد وأفراد عائلته غادروها ؟ حتى خاله دجى سيستقر
في بلاد آخر حاليا تحسبا لأي طارئ بعد ظهور مطر شاهين ،
توقفت السيارة بعد سيرها لأكثر من عشرة دقائق لحظة رنين
هاتفه فأخرجة وما أن نظر للأسم على شاشته شتم من بين أسنانه
" تيم الأحمق ... سحقا لك من رجل "
فتح الخط مجيبا دون أن يفكر في مغادرة السيارة التي يشك
أنه سيغادرها أساسا ، وما أن وضع الهاتف على أذنه حتى
وصله ذاك الصوت الجاد الحازم
" قاسم ما أرجعك للندن ؟ "
قال دون تردد
" لن أغادر .... الآن على الأقل وقد يكون دائما "
وصله صوت مطر الغاضب وإن كان التعب واضحا في
نبرته المبحوحة
" ما هذا الجنون الذي تتفوه به ؟
ما سر اعتراضك الآن تحديدا ؟
ما حدث معك في رحلتك جعلك تتخذ هكذا قرار صبياني ؟ "
صر على أسنانه وحاول أن يتنفس بهدوء وهو يهمس مجيبا
" هل خروجي من هنا أمر مسلم به يا زعيم ؟ "
أتاه جوابه فورا وبشكل قاطع
" أجل ... وقبل أن تتسبب بمشكلة لأحدهم قبل رحيلك كما كنت
ستفعل قبل قليل مع تيم فإن رأت تلك الفتاة وجهك ما استطعت
الظهور بشخصيتك الحقيقية حتى الله وحده يعلم متى "
كان سيتحدث فقاطعه بأمر لا يقبل أي نقاش
" غادر البلاد فورا يا قاسم ، إن كنت لا تريد الرجوع للوطن
تلك مشكلتك واختر أي دولة أخرى غير إنجلترا، ولعلمك لن
تكون في أي بلاد تختارها إلا متزوجا "
تأفف بصمت ممررا أصابعه في شعره الأسود الناعم وأخرج
نفسا قويا وهو يتنهد مستسلما وقد تمتم بجمود
" سأغادر "
ودون أي كلمة أخرى قطع مطر الاتصال معه فنظر لهاتفه
ضاغطا عليه بأصابع وقبضة قوية كفيلة بتحطيمه ثم نظر
للجالس بجانبه ينظر له باستغراب وقال بضيق يدس هاتفه في
جيب سترته
" خذني لمحطة واترلو لأدرك القطار الأخير لليوم "
*
*
*
نظرت من الباب النصف مفتوح خلسة تحضن كتابها المدرسي
تنظر للتي توليها ظهرها منشغلة بترتيب ثياب غيهم بنفسها
في الخزانة وكأنه لا يوجد لديهم خادمات ! ولن تستغرب هذا
منها فهي تكن له مشاعر خاصة عنهم جميعا وحتى ابنتها
الأخيرة والصغرى التي لم تتجاوز الثالثة فكيف بعد أن أصبح
طيارا كما تريد وتتمنى حتى إن كان الثمن أن كسرت حلمه
وقراره بأن يلتحق بالجيش وحجتها التي لم تخجل أن تصرح
بها أنها لا تريد نسخة أخرى عن شقيقها الغائب ويصبح ثمة
شخص آخر في عائلتها يدفع كل شيء حتى حياته وأقرب الناس
له من أجل الوطن ونداء الواجب ، ولأنها طبعا لا تحب مهنة
بقدر الطيران كان هو فريستها وتراها اقتنعت الآن أكثر بعد
أحداث البلاد الأخيرة واحتمال انخراط رجال الجيش فيها , دفعت
الباب وتقدمت للداخل فأبان ما أن علم أنها لم تتحدث معها حتى
الآن هددها بسحب مكافأتها ولن تحلم بزيارة تلك المدينة مهما
عاشت , اقتربت منها وجلست على طرف السرير فقالت جوزاء
ومن دون أن تلتفت لها
" ما هذه الدراسة التي لا تكون إلا بالدوران في أرجاء المنزل
طوال الوقت "
عبست ملامحها الرقيقة وتمتمت
" على الدماغ أن يأخذ فترة راحة كي يستوعب المعلومات الجديدة "
التفتت برأسها ونظرت لها ثم عادت لما تفعل قائلة ببرود
" لا أراك إلا تأخذين أوقات راحة لدماغك أما الدراسة .... ؟
حمدا لله أن كان الفاشلون فيها من أبنائي أنتي وليس أخويك "
مدت شفتيها بعبوس ولا يمكنها الاعتراض فهي تعترف بذلك
بنفسها ولولا حوافز والدها الخيالية كل عام تجزم أنها ما كانت
لتجتاز ولا المرحلة الابتدائية , ابتسمت وقلبت ذاك المزاج في
لحظة وقالت تمهد للموضوع الذي تجزم أن فيه دق عنقها
" أمازلت مصرة على الذهاب وحدك لحوران ؟
ونحن نريد رؤية خالي مطر وابنته "
أغلقت الخزانة والتفتت لها قائلة
" ودراستك لمن تتركيها يا نبيهة ؟ ثم شقيقتك ستتعبني خلال
الرحلة وعليك الاعتناء بها هنا فلن أستأمن غيرك عليها وهي
لا تتوقف عن الحركة والركض "
تنهدت باستسلام ولا شيء لديها غيره طبعا فها هي والدتها
حضت برحلة لحوران فور أن نزلت دموعها الغالية كما قال
عنها والدهم وأمامهم ووافق فورا على أخذها إما اليوم أو في
الغد أما هي فتحجج مرات ومرات عدة بعمله الذي تراه تبخر
الآن , وكيف ستتوقع أنه قد يرفض وهو من يبديها حتى على
نفسه ومن لا يرفض لها شيئا منذ عرفته , بل ومن يلومه فيها
وهي كلما تقدم بها العمر ازدادت حسنا لا يعرف إلا في عائلتها
عائلة الشاهين حالك ، الجمال الذي ورثه منها بالدرجة الأولى
أبان معذب قلوب جميع الفتيات في مدرستها لأنه يقوم بإيصالها
أغلب الأحيان , قالت مبتسمة ما أن وجدت الفكرة لفتح ذاك
الموضوع معها
" ابنة خالي مطر تكبرني بعام واحد أليس كذلك ؟ "
قالت التي بدأت بجمع الثياب المتسخة
" بل بقرابة العامين "
حركت رأسها بمعنى ليس هذا موضوعنا وقالت بحماس
" تصوري أن شقيقة صديقتي في مثل سنها وستتزوج الآن "
رفعت تلك الملابس المرمية على الأرض قائلة
" وما الغريب في الأمر "
نظرت لها باستغراب لوقت ثم قالت
" هل تزوجينني في مثل سنها مثلا ؟!! ثمـ.... "
وبلعت الكلمات مع ريقها حين استوت والدتها واقفة ونظرت لها
عاقدة حاجبيها بل وكادت تقر بكل مخطط أبان لولا أسعفتها تلك
حين قالت
" هل تدرس معك ابنة أسعد صياد التي تكون شقيقة يمان
صديق أبان ؟ "
نظرت لها باستغراب وعدم استيعاب وقالت بعد تفكير لبرهة
" لا لم أسمع باسمها "
قالت جوزاء من فورها
" اسألي عنها هناك إذا فقد تكون رسبت عاما وتدرس أقل منك
أو أنها متفوقة وقفزت عاما واجتازتك كغيرها "
لوت شفتيها وقالت
" سأسأل عنها من يسكنون في بلدتهم تلك فلديا صديقة تعرف
عائلتهم جيدا "
حركت رأسها موافقة وغادرت من هناك على تنهيدة الارتياح
للجالسة على السرير وقد قفزت منه واقفة وغادرت الغرفة أيضا
تهف على وجهها بكتابها متمتمة
" ظننت أنه أجلي , الأحمق أبان كاد يورطني ....
عفت العمران لم أعد أريد زيارتها "
*
*
*
سار حتى الحاجز الخشبي المضلع والذي يكشف تلك الطبيعة
أمامه وبعض أوراق أشجار الزينة تكاد تخترق فتحاته ،
صوت حشرات الليل لم تزده إلا توترا ورائحة الحشائش المرتوية
بماء المطر لأول مرة يشعر بها خانقة تحبس أنفاسه ، يعلم أنه
كان يفترض به أن غادر بها من المنزل للمستشفى فورا وهذا
ما كان عازما عليه من وقت رآها وجسدها النحيل الشاحب
يحتضن أرضية الغرفة لكنه فكر بها هي نفسها قبل غيرها
وكما قال شقيقه رواح سابقا ستكون زيزفون المتضرر الأول من
الفضيحة ، مرر أصابعه في شعره وتنفس بقوة يستجدي هواء
نقيا يغذي رئتيه المتشنجة ، منذ جاء بها لهذا المنزل الريفي
وهي في الأعلى بعدما وضعها هناك وحقنها بالمسكن وهو هنا
في الأسفل يفكر ويدرس أبعاد أمر يعلم أنه سيجلب له المشاكل
مهما حاول سد الثغر فيه ، لكنه لن يهتم الآن سوى بسلامة النائمة
في الأعلى ، هو حل واحد أمامه الآن وإن علم بعدها أن حالتها
لا يمكن الصمت عنها فسيأخذها للمستشفى وليحدث ما سيحدث
لن يهتم فالفضيحة قادمة لا محالة وقتها لأن تلك الفتاة ستموت
وسيتعرضون للمساءلة القانونية جميعهم وقتها وليس نجيب
وحده وسيكونون يستحقون ذلك ، ضرب بقبضته على الحاجز
الخشبي عدة مرات ونظره شارد للبعيد سترته مرمية على
الأريكة خلفه وقميصه الأبيض مهمل تماما ومظهره بات آخر
ما يشغله ، اختار أن يكون منزلا بعيدا عن بريستول ولا يتبع
لأملاك عائلته كي يضمن عدم اقتراب نجيب منه وحتى وقت
عودة جده الذي لم يعد يجيب ولا على اتصالاته ويكلف
مساعدته الخاصة بذلك ، لذلك اختار هذا المنزل الذي يخص
أملاك عائلة صديقته الإنجليزية إيلينا ، أكثر شخص يمكنه
الوثوق بتكتمه عن أمر وجودها هنا لأن السبب لن يتركها
تعرفه أبدا وقد اختارها من بين جميع من يعرفهم هناك لأنه
يعلم درجة تكتم تلك الفتاة وسبق أن شهد لها مواقف كثيرة
مشابهة إن معه أو مع غيره ، نظر لساعته التي كانت تشير
للحادية عشرة وتأفف بصمت فلا يمكنه ترك الوقت يمضي
هكذا فهو ليس في صالحها ومن طلب مساعدته يبدوا أنه لن
يأتي .
تحرك من مكانه ناويا الصعود للأعلى لولا أوقفه صوت الخطوات
التي وصله صوت تكسر الأغصان تحت وطئتها بوضوح لتثبت
قوتها وثباتها ومرونة تلك الساقين التي تتحركان ولن يكون
صاحبها إلا الشخص المنتظر بالتأكيد والذي سرعان ما ظهر
عند الباب المقوس في ذاك الحاجز وارتمى ظل ذاك الجسد
الطويل على أرضيته الخشبية الملساء بسبب الأضواء القوية
خلفه بينما كان المنزل يغرق في ظلام نسبي سوى من ذاك
الباب وفتحات الحاجز الطويلة .
وقع نظره فورا على الواقف جانبا وقد قال ببعض الضيق
" تأخرت يا رجل ، لو أني ذهبت لجلبك لوصلنا منذ وقت "
تقدم للداخل متمتما ببرود
" إنك في ريف لندن الشمالي فهل تدرك المسافة
من هناك ومن بريستول ؟
ثم كان ثمة مصيبة حمقاء كان عليا التخلص منها أولا "
وجال نظره سريعا في أرجاء المنزل الريفي الأنيق الفخم
والمفتوح على تلك الطبيعة الخلابة وقال عاقدا حاجباه الأسودان
ما أن وصل نظره لعيني وقاص المحدقة به
" إن كانت امرأة فسأغادر فورا "
تأفف وقاص وقال محركا رأسه بضجر
" لا تنسى أنه سنة واحدة تفصلك على أن تكون طبيبا فهل
ستطرد النساء حينها ؟ "
قال بجمود
" أنت أيضا لم تنسى بالتأكيد أن التخصص الذي أدرسه بعيد
جدا عن النساء ، فإن كان ثمة مصيبة ورائك فلن أساعدك
في مداراتها مهما حاولت "
قال وقاص محركا يده بانفعال
" لو كنت مسؤلا عن تلك المصيبة ما طلبت من أي أحد المساعدة
فيها ولا نفسي فلا أضنك تعرفني مجرما من قبل "
وكان تعليق الواقف عند الباب أن دار بظهره فورا ليغادر لولا
أن لحق به وقاص وأمسك ذراعه وهمس ناظرا لنصف وجهه
المقابل له
" إنها ابنة عمي يا تيم وتحتاجك بالفعل "
نظر لعينيه بصمت فتابع بجدية يشد على ذراعه أكثر
" أقسم أنها ابنة عمي وأسمها زيزفون وزوجة نجيب شقيقي
" ضاقت عيناه السوداء المحدقتان به وتصلبت ملامحه نتيجة
سماعه لذاك الاسم وعادت به ذاكرته سريعا للوراء بل لأربعة
عشرة عاما مضت ويوم التقى مطر شاهين وجها لوجه أول مرة
وهو ابن الثالثة عشرة وجملته تلك التي قالها له
( تيم شاهر كنعان وزيزفون ضرار سلطان لن يحتاجا لأحد
تخلى عنهما )
دار بجسده مجددا وقد همس بجمود
" أين هي ؟ "
تحرك حينها وقاص وهو خلفه ولولا ذاك الاسم ما تبعه ولا
دخل ذاك المنزل وتحت أي سبب كان فكل ما بات يريد معرفته
حالة صاحبة ذاك الاسم التي شملها مطر شاهين ذات يوم
مساويا مأساتها بمأساته ذاك الوقت وها هي الأدلة أمامه
الآن وعليه معالجة الأمر بطريقته الخاصة ، صعد السلم
الخشبي يتبعه حتى وصلا باب غرفة فتحه ودخل وهو خلفه
وما أن تنحى جانبا حتى ظهر له الجسد القابع فوق السرير
الواسع يغطيه لحاف أبيض سميك ومفعم بالنقوش الذهبية
الأنيقة لا يظهر منه سوى وجهها الذي تغطي ضمادة طبية
مستطيلة المساحة فوق حاجبه الأيمن ، رموش بنية كثيفة
تغطي مساحة تلك الأجفان الواسعة منسدلة على وجنتان
محمرتان بشدة وشفاه جافة منفرجة قليلا تخرج منها أنفاس
متقطعة ومتتالية وكأنه لا منفذ لها للخروج سواه .
تقدم مقتربا منها وجلس على طرف السرير بجانب جسدها
ومد أصابعه لوجهها فورا وفتح بهما جفن عينها اليمنى ثم نزل
لشفتها مبعدا لها بتحريكه لذقنها ، كشف على نبض ساعدها
ونظره على ساعة معصمه ثم وقف على طوله وانحنى لحقيبته
وفتحها ثم مد يدها للحاف وسحبه عن جسدها بقوة وغضب قائلا
" أخرج من هنا يا وقاص وأغلق باب الغرفة "
عبارة جعلت الواقف خلفه يتيبس مكانه وعيناه تكاد تقفز من
مكانها فالتفت له الذي أصبح السرير وذاك الجسد بالفستان
القطني القصير خلفه وقال بأمر
" أخرج يا وقاص حتى أتم عملي "
قال ذاك من فوره
" ولما أخرج ؟ ثم من كان قبل قليل يرفض الكشف على امرأة ؟ "
حرك تيم سبابته وكأنه يطرده من منزله قائلا بحدة
" أخرج يا وقاص ولا تنسى أني طبيب كما تقول وأنها زوجة
شقيقك وليست زوجتك وأن الواقف أمامك الآن في عنقه قيد
قسم بامرأة تكون زوجة له فاخرج الآن أو خرجت أنا "
*
*
*
تقلبت تحت اللحاف منزعجة فلم تشعر بالراحة أبدا في هذا السرير
الذي قد يكون مريحا وفاخرا ذاك الوقت لكنه الآن يعد صلبا بالنسبة
لجسد اعتاد تلك الأنواع فرنسية الصنع ولولا رائحة والدتها التي لا
وجود لها سوى في مخيلتها وقد سرق معالمها الزمن كانت تجزم أنها
ستبقى جالسة ومستيقظة طوال الليل ، جلست ورمته عنها مرعية
سمعها باستغراب للأصوات في الخارج ثم رفعت هاتفها ونظرت
بدهشة للساعة فيه فلم تكن تتخيل أنها نامت كل هذا الوقت
وهي من كانت تشعر بأنها لم تنم أبدا .
مدت ذراعيها للأعلى بتكاسل متثائبة ثم غادرت السرير فبالرغم
من كل التعب والإرهاق والنوم الغير مريح على الإطلاق تشعر بدفعة
نشاط لا حدود لها فقط لأنها في بلادها وأخيرا ، غادرت السرير ووقفت مكانها وهي ترى حقائبها على الأرض ، كيف لم تشعر
بدخول من أحضرها !! حركت كتفيها بعدم اكتراث ثم توجهت
نحوها وسحبت أكبر واحدة فيهما جهة السرير وفتحتها
وأخرجت حذائها المريح الذي لم تكن تتحرك بدونه ولبسته
وغادرت الغرفة وما أن اجتازت الباب حتى كثرت الأصوات
التي كانت تسمعها بعيدة جدا واقتربت الآن فسارت لآخر
الممر تدس كفاها في كمي فستانها القطني الطويلان .
وما أن وصلت الردهة الواسعة حتى وقفت مكانها تنظر
باستغراب للنساء اللآتي يتحركن في كل أرجاء المنزل بنشاط وجد
كبيرين لتنظيف المكان والماء والصابون يغطي أغلب الأرضية التي
أصبحت فارغة تماما من الآثاث الذي كان موجودا فيها .
اقتربت احداهن منها مسرعة وكانت في منتصف العشرين تقريبا،
وقفت أمامها وقالت مبتسمة
" صباح الخير آنستي ، أعتذر إن سببنا لك الإزعاج كان علينا
أن ننجز عملنا قبل عودة السيد مطر كما أمر "
وتابعت باسترسال ودون توقف ولا لأخذ أنفاسها
" سننهي كل شيء سريعا وسيقوم عمال شركة تجديد بتغيير
المكان جذريا كما فهمت وسيقوم العمال بإصلاح مد أنابيب
المياه الساخنة والتدفئة كما .... "
" منذ متى غادر والدي ؟ "
قاطعتها بسؤالها الذي أجابت عليه تلك من فورها
" يبدوا لي منذ الفجر لأننا دخلنا هنا بعده بساعة تقريبا ولم يكن
موجودا ، هل أحضر لك طعام الفطور في الغرفة ؟ "
حركت رأسها برفض وقالت ونظرها حيث البقية وقد بدأ بعضهن
بسرقة نظرات الفضول نحوها
" عمي صقر غادر أيضا ؟ "
حركت تلك رأسها ويديها فورا وانطلق لسانها مجددا فتنهدت
بضيق ولم تعد تسمع من كلماتها المتدفقة شيئا تفكر في تركها
لوحدها بين جدران منزل آخر هي فيه وحيدة الاختلاف الوحيد
أنه أكبر حجما وأكثر وحشة .
عادت أدراجها جهة غرفتها فلا يمكنها ولا الخروج لحديقة المنزل
الواسعة بسبب العمال الذين سيكونون منتشرين فيها بالتأكيد ، أغلقت
باب الغرفة خلفها وتوجهت لحقيبتها مجددا وسحبتها هذه المرة جهة
الخزانة ستلهي نفسها بترتيب ثيابها وحاجياتها فهي تريد هذه الغرفة
وتريدها هكذا ولن توافق على تغيير ولا طلاء جدرانها
*
*
*
همس قرب أذنها
" أين والدتي ؟ "
انتفضت مفزوعة ودفعته من كتفه قائلة بضيق
" كاسر أفزعتني ، هل أخبئها في جيبي مثلا ؟ "
تنهد متمتما
" ستكون ذهبت للجمعية بالتأكيد ، طرقت باب غرفتها البارحة
كثيرا ولم تفتح لي "
بادلته الواقفة أمامه تنهدا حزينا عميقا وحركت رأسها بقلة
حيلة فكما توقعت لحظة ضعفها تلك البارحة ستغطيها بصمودها
اليوم وكأن شيء في البلاد لم يتغير لكنها غير متيقنة هذه المرة
من أن ذاك الدرع الوهمي سيصمد وأن مشاعرها اتجاه ابنتها
ستتفوق على كل شيء حتى على كرامتها وكبريائها المجروح
من ذاك الرجل .
تحركت من مكانها والكاسر خلفها حتى جلست عند هاتف
المنزل ورفعت السماعة واتصلت فورا برعد الذي أجاب بعد
وقت قائلا
" أهلا يا غسق "
قالت من فورها
" لست غسق أم لا أحد في هذا المنزل غيرها ؟
أو ليس لك عمة تسأل عنها من وقت لآخر ؟ "
ضحك قائلا
" بلى وحتى غسق لم أراها منذ آخر مرة زرت المنزل ورأيتكما .
ثم لو تشتاقين لي لأقمت معي في منزلي أنا ابن شقيقك وليس هي "
تمتمت ببرود
" أجل اقلب الطاولة على رأسي لا أحد يقدر عليكم أنتم
رجال السياسة "
وكان رده ضحكة صغيرة أعقبها صوته المبتسم
" بما تأمرني إذا شقيقة شراع صنوان "
انقلب مزاجها العكر فجأة وقالت بتوجس حزين
" هل تحدثت مع غسق اليوم أو رأيتها ؟ "
قال مباشرة
" لا ... كنت في ازميم والآن عائد من هناك ، الأوضاع
اليوم مقلوبة رأسا على عقب وعليا أن ادرك الاجتماع
الثاني لأعضاء البرلمان "
نظرت بطرف عينها للذي جلس ملاصقا لها وأذنه على سماعة
الهاتف ليسمع معها وقالت بحيرة
" ما حدث أيضا في هذه البلاد صبيحة وصول الرجل الذي تأمل
الكثيرين فيه ؟ "
" قولي ما سيحدث أكثر من هذا فيبدوا أنكم لم تطلعوا على نشرات
الأخبار وتروا حملة الاعتقالات الواسعة التي بدأت من فجر اليوم
وطالت حتى مسؤولين في قطاعات مصرفية واستثمارية ورجال
سياسة ودين .
هذا الرجل قادم وهو يعرف جيدا ما سيفعل وما كان يجري قبله "
همست بتوجس بعدما اجتازت صدمتها مما سمعت
" هل رأيته ؟ "
وصلها صوته مباشرة
" أخبرتك أني كنت في أزميم ، اجتمع صباحا بالوزراء وبعض
رجال الشرطة وهناك اجتماع آخر لرؤساء البرلمان أشك أن أدركه
كما سيجتمع ببعض رجال الجيش كما سمعت ، يبدوا أنه يجري
تعديلات جوهرية فآخر ما وصلني أنه طرد وزير الإعلام من
الاجتماع "
شهقت بقوة تتبادل والجالس بجانبها نظرات مصدومة وقالت
" وكيف يخرج هكذا من العدم فجأة ويتحكم في البلاد وكأنه الرئيس ؟
بأي سلطة وهو لا يحمل أي صفة ولا عسكرية "
قال ضاحكا
" لا يسمعك أحد مناصريه المنتشرين في كل مكان ويقطعوا عنقك ،
كيف تقولين هذا عن رجل مثله الجميع يعلم أنه وحده بعد الله من
أوصل البلاد لما هي عليه وبعده رجاله اللذين استقبلوه كرئيس
وقائد لهم كما كان ولو رأيت الإحتفالات في البلاد اليوم ما كان
هذا رأيك ، ابن شاهين مدعوم حتى من الخارج والتهنئات
برجوعه ترسل لنا منذ ساعات الصباح الأولى .
اتركينا من كل هذا الآن وأخبريني لما تسألي إن تحدثت مع غسق ؟
لقد تجنبت التحدث معها حاليا فأنتي تعلمي مدى كرهها لذكر ذاك الرجل
، هل من مكروه عمتي ؟ "
تنهدت بحزن قائلة
" قلبي يكاد ينفطر عليها يا رعد لا تنسى أن ابنتها وصلت مع ذاك
الرجل ، إنه قلب أم ذاك الذي تحمله بين أضلعها فأخبر ذاك الرجل
أن لا يمسك ابنتها عنها ويقتلها فوق قتلاته السابقة لها "
سمعت بوضوح صوت تنهده قبل أن يقول بهدوء
" أعدك أن أتحدث معه في ذلك على هامش الاجتماع ولن نستبق
الأمور فقد يكون لا يفكر في ذلك مطلقا "
وتابع من قبل أن تعلق
" أكاد أصل حوران الآن وداعا عمتي سأزوركم في أسرع وقت ،
سلمي لي على الكاسر "
أبعدت سماعة الهاتف عن أذنها ونظرت لها قبل أن تغلقها بهدوء
على صوت الكاسر المستغرب
" قال سيأتي أم سيذهب لرؤيته ؟ "
وقفت وقالت مغادرة
" قال سيتحدث معه وكم أخشى أن يكبر رأسه العنيد بسبب ذلك "
*
*
*
لم يستطع مفارقة ذاك الممر ولا الجدار المحاذي لباب تلك الغرفة
يستند عليه بظهره تارة وبكف يده تارة أخرى ونظره لا يفارق
الأرضية الخشبية تحته ، فبقدر ما هو مقتنع من أن ما فعله سابقا
ويفعله الآن صحيح بقدر ما يخشى أن تموت النائمة على السرير في
الداخل جثة هامدة ويلوم نفسه حتى يموت .
يعرف جيدا نظرة تيم تلك قبل أن يطلب منه الخروج وبعدما أجرى
فحصه المبدئي لها فحالتها تبدوا لا تطمئن أبدا ولولا ثقته في قدرات
الموجود في الداخل وهو من تفوق في تخصصه الذي اختاره
( طب جراحة قلب الأطفال وحديثي الولادة ) لما تركها دقيقة بين
يديه ولغادر بها للمستشفى حالا ، انفتح باب الغرفة أخيرا ورفع
نظره بالذي خرج منها يحمل حقيبته وفي يده الأخرى ورقة
مدها له فورا قائلا
" هذه الأدوية تطلبها من الصيدلية المدون اسمها وصاحبها فيها
رغم بعد المسافة فغيره لن يعطيك إياها بدون وصفة طبيب كما تعلم "
لم يستطع قراءة شيء في ملامحه التي لم تكن تحمل إلا البرود
القاسي وشيء ما يشبه الغضب المدفون وهذا ما يتوقعه منه .
أخذها منه وقال ونظره على عينيه
" ما حالتها وهل يلزمها نقل للمستشفى ؟ "
حدث ما لم يكن يتوقعه منه أبدا وهو من يعرف ببروده الدائم
وتجنبه لكثرة الحديث والإسهاب في أي موضوع لا يخصه
مهما كانت أهميته حين فاجأه بملامحه المشدودة وهو يهمس
من بين أسنانه
" أقسم أنه أنذل رجل عرفته في حياتي وإن لم يكن لك
موقف فستكون أنذل منه يا وقاص "
تنفس بقوة مبعدا نظره عنه وكما توقع علم دون أن يخبره .
نظر له مجددا وقال
" نال مني ما يستحق وأنا في صفها للنهاية ومهما كلف الأمر
وتفاهمي سيكون مع جدي حين يرجع من رحلته فأخبرني الآن
عن حالتها هي
" قال مباشرة وبجموده ذاته "
فقر دم حاد وسوء تغذية ، المرهم يستخدم لقدمها ورسغها
ولا تحركهما إلا للضرورة وليهتم أحدهم بطعامها جيدا .
ثمة مرهم أيضا للرضوض والكدمات يستخدم يوميا وحقن
وكبسولات كتبتها أيضا تأخذها بانتظام فحالتها لا يمكن وصفها
بالجيدة أبدا فهذا كله ليس الأسوأ "
نظر له باستغراب وترقب وقد تابع والحدة تتسلل لملامحه
" حين تتعافى يجب أن يتم عرضها على طبيبة نسائية فانتفاخ
الجزء الأيمن من رحمها قد يكون سببه أنه تحرك من مكانه
وهذا سيضرها مستقبلا إن لم يعالج في وقته ، قسما لو كان
شقيقك شقيقي أنا أو ابني لقطعت له تلك القدم القذرة "
وتابع مغادرا من أمامه
" لذلك لن أسكت له عنها أبدا والقادمة ستكون مني "
راقبه حتى اختفى نازلا السلالم ثم رفع رأسه للأعلى ممررا أصابعه
في شعره متأففا بصمت ، لم يتوقع ولا أن يعلق على الأمر فإذا به
يضع لنفسه موقفا فيه أيضا ويعلم جيدا معنى ما قال وسيفعله
بعض رفاقه من عناصر تلك المنظمة بطلب منه وهو تلقين شقيقه
ذاك درسا سيصعب عليه نسيانه مهما عاش وهو سيكون المتهم
الوحيد به طبعا ، أخرج هاتفه وأرسل رسالة لتيم فورا كتب فيها
( سأتصرف في الأمر بمعرفتي يا تيم فأبعد أصدقائك أولئك عن الأمر
لأن جسد نجيب لن يستحملكم وسأكون الملام حينها وهو الضحية )
وصله الرد وأسرع مما يتوقع وذاك طبيعي حين يكون صاحب
الرد تيم وكلماته القليلة المختصرة ( من أجلك فقط ) دس هاتفه
في جيب بنطلونه الخلفي ونظر للورقة في يده وللعنوان المدون
عليها مع أسماء الأدوية ، سيحتاج لأكثر من ساعتين ليصل هناك
ثم طريق العودة سيأخذ ذات الوقت منه أي لن يصل إلا وقت الفجر .
قبض على الورقة وتحرك من هناك لكن وجهته لم تكن السلم المؤدي
للطابق السفلي بل باب الغرفة الذي لا يزال نصف مفتوح ، دفعه
براحة يده ببطء ودخل فوقع نظره فورا على النائمة على السرير
مكانها جسدها مغطى باللحاف بأكمله سوى ذراعها الخارجة منه
ممدودة بجانب جسدها وقد حقن فيها مغذي قام بتعليقه في العلاقة
الخشبية الخاصة بالغرفة وبقايا حقنتين مرميتان على طاولة السرير .
نقل نظره من هناك لوجهها الذي يبدوا أن شحوبه قد تناقص عن
السابق كثيرا وتنفسها أصبح أكثر يسرا وانتظاما وإن لم يرجع
لطبيعته فهو أفضل مما كان بكثير .
أبعد نظره عن تفحص وجهها الجميل المتعب وسحب الباب خلفه
بهدوء مغادرا ، لا يريد تركها وحيدة هنا لكن لا حل أمامه فحتى رواح
لا يمكنه الاستعانة به ولا يريد أن يعلم أي شخص من عائلته بمكانها ولا حتي هو
*
*
*
وصل قاعة الإجتماعات الرئيسية على الوقت تماما كما يلاحظ من
حركة الحراسة المشددة المدعومة حتى برجال الجيش والشرطة ،
صافح الذي مر بجواره ووقف له بعدما وصل خلفه مباشرة وهو
العضو عن رابطة الشباب الثقافية وكان من الهازان ، قال مبتسما له
" من كان يتوقع صباحا كهذا يا رجل !
أي مطر جنوني نزل على سماء بلادنا اليوم ؟
لم أنم البارحة أراجع مع نفسي ملفي المشؤوم إن كان به
جرائم سأحاسب عليها صباحا ولم أصدق أنني حتى الآن لست
ضمن المعتقلين ! "
خرجت ضحكة رعد رغما عنه لروح ذاك الرجل المرحة وقال
" وأنا لم أنم البارحة لكن ليس خوفا من اعتقالي مثلك بل من
أن لا أجد صباحا أحد غيري هنا وجميعكم في السجن "
بادله الضحك وسارا معا قائلا
" جاء في وقته يا رجل ، يكفي أن كل تلك السواتر الترابية
وبوابات التفتيش الغير قانونية المنتشرة في أغلب الجنوب اختفت
بأمر واحد منه ، البلاد تحتاجه بالفعل وقسما أن كل هازاني كان
قلقا على مصيره وترى الأمل اليوم يشع من وجوه الجميع "
همس وهما يقتربا من الباب المحاط بحراسة مشددة
" لا خوف على البلاد أبدا بعدما عاد هذا الرجل "
واجتاز الباب عند عبارته تلك تاركا خلفه الذي أوقفه أحد
الخارجين وقت دخولهما وتقدم وحده للداخل حيث البهو
الواسع بأرضيته وأعمدته الرخاميه وصور جدرانه الضخمة
التي تزيد المكان هيبة لما تحمله من معالم بلادهم الشهيرة
يترأسها تلك الصورة التي وضعت فيه من وقت تأسيسه
منذ عشرة أعوام ولم يحركها أحد من مكانها تضم شخصان
كل واحد منهما يولي الآخر ظهره ويأخذ نصف تلك الصورة
وهما ( شراع صنوان و مطر شاهين ) صورة تظهرهما كوجهين
لعملة واحدة وهما كذلك بالفعل فأحدهما قاد البلاد لوحدتها الأكيدة
وسلمها للآخر ليبنيها حجرا حجرا من الصفر ، وما أن اختفى نصف
تلك العملة انقلبت على وجهها الآخر مجددا ليظهر النصف الثاني الآن
وينقذ ما بنوه معا ، أبعد نظره عن تلك الصورة ممنيا نفسه بأن قاتل
والده لن ينجوا من قبضة نصف الصورة الآخر ذاك وتحرك للداخل
وهو يرى حركة الوافدين جهة باب غرفة الإجتماعات وبعضهم ضباط
وعقداء في الجيش ببذلهم العسكرية وأغلبهم كانوا رجال مطر شاهين
سابقا فيبدوا أن هذا اليوم كما قال ذاك الرجل سيكتب أيضا في التاريخ
وهم يرون كل رجال الدولة أولئك يحاسبون ممن لم يرحم فيهم أحدا ولا
من كانوا يعرفون برجاله والأقربين له ، تحرك نحو تلك الجهة يرد
تحية بعض من رفع يده محييا ويصافح أيدي من يقفون لتحيته دون أن
يتبادل أي منهم أطراف الحديث مع أحد وكأنهم يتوجهون لغرف
امتحانات ابتساماتهم فقط ما تدل على اطمئنان البعض لما يجري ،
يبدوا أن الاجتماع السابق هنا لم يكن بالمستوى الجيد لأغلبهم وهذا
ما يراه في بعض الخطوط المتجهمة في ملامحهم ويبدوا أن البعض
الآخر يتوقع الأسوأ ، ولن يستغرب كل هذا بعد قدوم ذاك الرجل أو
لنقل ظهوره من العدم مجددا ودون سابق إنذار هكذا فجأة ليشكل
شبحا مرعبا لكل من ظن أنه لن يخرج مجددا أو متيقن من موته ،
وقف ما أن كان عند الباب الخشبي الضخم المرتفع والمفتوح ونظر
للواقفين جانبا وكانوا ثلاثة رجال يولونه ظهورهم إثنين منهم بلباس
عسكري ويقف مقابلا لهم السبب الأول في كل هذا التحرك المفاجئ
بلباس رسمي هذه المرة ينظر للذي يحدثه وهو أحد الواقفين أمامهم ،
ملامحه القاسية تدل على ضيق صاحبها وحاجباه الطويلان معقودان
وكل تركيزه مع ما يقول ذاك الواقف أمامه ولا يشاركه إلا بكلمات
قليلة على ما يبدوا ، لازال كما عرفه ورغم مرور كل تلك السنوات
ما يزال الرجل القائد القوي حتى وقفته تتفجر قوة وثقة في النفس
كجواد بري أصيل هدوئه وجس حذر وجموحه قاس يفتك بكل ما حوله
، يقود ولا يقاد أبدا والأحمق فقط من يفكر في ترويضه ، لم تزد
السنين ملامحه وحركاته سوى خبرة وقوة وقيادة يراها الأعمى
والبصير وكأنه مطر شاهين الأمس يقف أمامه الآن ، يرغمك على
الاعتراف بإعجابك به أحبت نفسك ذلك أم كرهته ، التقت نظراتهما
ما أن حول مطر نظره عن الواقفين أمامه فكانت نظرة طويلة عميقة
وصامتة انتهت بتحرك رعد ناحيتهم في قرار مفاجئ منه ودون أي
تخطيط مسبق وهو من كان قد قرر أن يحادثه بعد اجتماعهم لكن
المصادفات لعبت دورا رائعا كما يرى ، ويبدوا أنه نسي أن هذا الرجل
لم يتصرف يوما إلا كواحد منهم وليس ممن لا تراه إلا وهو يدخل باب
القاعة ثم يخرج منه ، ما أن وصل عندهم حتى تحرك من كانوا حوله
مبتعدين ويبدوا بأمر منه لم يتعدى الكلمتين أو الثلاث كما لاحظ ، وقف
أمامه مباشرة ودون شعور منه ابتسم ابتسامة لم تعبر إلا عن سعادته
وافتخاره برجل مثله ابن لهذه البلاد بعيدا عن النقطة الشخصية
الوحيدة وهي ( غسق ) ابتسامة بادله الواقف أمامه مثيلة لها حملت
شكرا عميقا لأمور قدمها للوطن مطر وحده من يعلم بها وهو من كان
على اتصال به مؤخر وإن لم يكن ذاك الاتصال مباشرا ، مد رعد يده
أولا وتصافحا بقبضتي يدين قويتين عبرتا عن احترام متبادل لم تغيره
السنين
" مرحبا بعودتك لبلادك يا ابن شاهين "
عبارة كسرت ذاك الصمت الذي لم يكن يغلف أحدا غيرهما في ذاك
المكان الواسع الذي تداخلت فيه النبرات الرجولية ببعض الأحاديث
العابرة ، عبارة ترحيب قابلها الواقف أمامه بأن ربت بيده الأخرى على
ذراعه دون أن يعلق فتابع رعد
" أعتذر بشأن الإجتماع فلم أستطع الوصول إلا الآن "
سحب مطر يده قائلا بهدوء
" لا بأس في ذلك يا ابن شراع فالأمر حدث فجأة ثم أنا أعلم
جيدا أين كنت وما تفعل في تلك المنطقة ، لو كنت ستقطع رحلتك
من أجلي ما وافقتك فما تفعله يخدم البلاد في المقام الأول "
قال من فوره وبجدية
" لا تأخذك بي رحمة لأني ابن شراع يا مطر ولا رأي صنوان إن كنت
قصرت في شيء فاقتص للشعب مني وخذ بحقهم "
ابتسامة اعجاب تلك التي ارتسمت على شفتي الواقف أمامه وربت على ذراعه مجددا قائلا
" لن يقول جملتك هذه من يعرف أنه فعل شيئا ،
رحم الله من رباك يا رعد "
قال حين لاحظ بأنه ينوي إنهاء الحديث بينهما
" عندي إذا دين في عنقك يا ابن شاهين "
نظر له مستغربا فتابع رعد من قبل أن يسأل
" أعلم أنه ليس وقته وأنه من المبكر الحديث في ذلك لكني أقسمت
لنفسي سابقا أن أتحدث معك فيه ما أن أراك "
أومأ مطر برأسه هامسا بجدية
" قل يا رعد ، ما هذا الدين الذي في عنقي لك كل
هذه الأعوام ؟ "
سحب نفسا عميقا وقال
" بلى منذ أعوام بل منذ تركت قرى الثنانيين وعدت لصنوان "
عقد حاجباه الرقيقان الأسودان ينظر له باستغراب بل ليس
كذلك إنه يعلم تلك النظرة جيدا وسبق أن رآها في عيني هذا الشخص
تحديدا والمنفرد بها ، نظرة الذكاء الذي يصيب عين الشيء مهما خفي
عنه ، نظرة من يمزق الأسطر ليكشف ما خلفها ، وكان توقعه في
محله حيث ارتفعت زاوية فمه مبتسما بسخرية حين قال
" لا تقل أنها تلك الطفلة ابنة زعيمهم السابق ؟ "
أومأ برأسه موافقا وهمس مبتسما
" طفلة في ذاك الوقت وكبرت الآن معلقة بوعد تقاسمناه كلينا وقيدت
أنت ذاك الوعد بسلاسل من فولاذ وقت رحيلك وآن الأوان لتكسرها
وتحررها هي على الأقل لأني ظلمتها بذلك دون قصد مني "
حرك مطر رأسه برفض عاقد حاجباه والضيق ارتسم
على قسمات وجهه وقد قال
" ألا تعلم قوانين الثنانيين يا رعد ؟
لابد أنك تجهلها لما كنت أوقعتها في حماقة كتلك وهي
ابنة زعيمهم ! إن افتضح أمركما لن يرحمها أحد منهم ولا عائلتها "
شعر بأنه داس على قلبه بحذائه وسحقة به دون رحمة
فهمس وبالكاد يجد الحروف من هول ما علم منه
" هل تضن أنهم قتلوها منذ زمن "
تنفس بقوة متمتما
"لنأمل الأيسر من ذلك وسأرى ما يمكن فعله فوفدهم سيصل
قريبا وسأرى ما يمكن فعله لضمهم للبلاد مجددا لكن تغيير
قوانينهم هذا ما لا أعدك بشيء محدد حياله "
شد رعد قبضته يعتصرها بقوة فلم يكن يتخيل أن الأمور يمكن
أن تكون هكذا وأن تلك الحبيبة قد تكون ماتت من أعوام بل قتلت
بدم بارد وبسببه هو ، لم يستطع ولا استجدائه في شيء حيال
الأمر وبنفسه قال أن قوانينهم لا أحد يمكنه التحكم فيها ولا هو
على ما يبدوا ، نظر له وكان سيتحدث فوقفت الحروف على رأس
لسانه وهو يرى جمود ملامح الواقف أمامه وتلك النظرة النارية
من حدقتيه الفاحمتان وقد جمدتا على شيء ما خلفه فهم فورا أنه
سيكون شخصا لا يمسكه عن قتله إلا أن يكون عنقه بين أصابعه ،
التفت برأسه فقط ووقع نظره على من توقع فورا أن تلك النظرات
كانت تقصده بالتأكيد ، صاحب الجسد الطويل القوي الذي زاده لباسه
العسكري هيبة وقوة وشعره الأسود الناعم الكث يتحرك مع حركته
رغم أن طوله لم يتجاوز أذنيه ، عاد بنظره للواقف أمامه ونظراته
لازالت ستلتهم ذاك الرجل ونظرات رعد المصدومة لا تفارق تلك
العينين التي تتقد نارا ولا يفهم سببها ولا يتخيل أن يكون ما تحدثت
عنه غسق فمن أين سيعلم !
هل سيكون ذاك الرجل أحد من تدور حولهم الشبهات حول ما يحدث
في البلاد الآن ؟
لكن مستحيل !
تحرك مطر مجتازا له فدار بجسده مع حركته قائلا
" وأمر آخر .... "
التفت له من كان قد أصبح خلفه مباشرة فنظر لعينيه بشيء من
التوجس الحذر بل والتردد الذي لم يفت الواقف أمامه قطعا وقد قال
" ألا يحتمل التأجيل يا رعد ؟ "
حرك رأسه برفض قاطع لا يقبل أي جدل فهو يعلم أن فرصة أخرى
ليكونا معا ووحدهما وباختياره لن تتكرر مجددا لوقت سيكون بعيدا
بالتأكيد أمام كل ما ينتظر هذا الرجل من تراكمات أشهر عصفت بالبلاد
والأمر لن يحتمل أن يؤجله ولا للغد ، ثم نظرته لذاك الرجل تؤكد أنه قد
لا يسمع منه مجددا ، قال مركزا نظره على حدقتيه السوداء
" هو رجاء أكثر من كونه طلب يا ابن شاهين "
دار حينها مطر ناحيته بكامل جسده وظهر توجس ما في نظرته
أقسم الواقف أمامه أن يكون سببه إدراكه لمن سيتحدث عنها تحديدا
فاستجمع كل طاقته لمواجهته بأمر شخصي كهذا وقال بثبات وإن كان
مزيفا وبدون مقدمات
" ... غسق "
ولم تخنه التوقعات حين لمح ذاك البريق الخطير الخاطف في عينيه
وتحدث مطر هذه المرة هامسا
" ما بها ؟ "
فجاراه في الهمس بسبب تحديق الواقف هناك بهما بعدما وقع نطره
عليهما ، نظرات ملئها فضول فيبدوا أن شقيقته تلك ستتسبب بحرب
وشيكة بين هذا الرجل وأغلب رجال الدولة لذلك عليه قول ما يريد
قوله ، قال برجاء لم يستطع إخفاء انكساره وكأنه يقتلع أشواكا
غرزت في لحمه
" أرجعها لنا غسق التي نعرفها قبل أن تصبح لديك ، هذا رجائي
الوحيد منك يا ابن شاهين"
عقد الواقف أمامه حاجبيه المستقيمان واقترب منه خطوة أخرى
حتى صارا وجها لوجه ، وإن لم يكن يتوهم حينها فقد شعر بأن ذاك
الرجل ذا الإرادة الصلبة والقوية رآه وللمرة الأولى والأندر متباعدا
عن نفسه عيناه مشوشتان وأفكاره بعيدة كل البعد عن مكانهما وكأنه
في خصام مع العالم بأسره ، لم يستطع قراءة السبب وراء كل ذلك هل
هو أمر مدفون خلف تلك السنين أم أنه ثمة جديد يجهله ؟
خرجت الكلمات من شفتي الواقف أمامه واثقة جادة ميزتها نبرته
المبحوحة ذاتها التي لم تغيرها السنين
" سأرجعها لك كما تريد يا رعد لكن اتركني أولا أعيدها غسق
التي عرفتها أنا "
ودون أن يضيف شيئا غادر من أمامه ليتبعه جميع من انتشروا
في ذاك المكان متوجهين حيث الباب الذي دخله كأسد قوي مسيطر
تنقاد خلفه حتى أقوى وأعتى الوحوش ، تنفس ملأ رئتيه هواء شعر
به ولأول مرة منذ أعوام طويلة نقيا باردا منعشا حد الشفاء من ألالم
وتراكمات كل تلك الأعوام فلم تخنه ثقته في ذاك الفهد الصياد المحارب
وبأنه لن يترك أنثاه الفريدة من نوعها لأحد غيره ويثق فعلا في
قدرته على ذلك رغم عناد تلك الجامحة ، سار حيث توجه الجميع
متمتما بابتسامة
" ليرحم الله إذا ذاك المدعو يعقوب منه "
*
*
*
كل ذاك الألم الذي كانت تشعر به شعرت لحظتها أنه انتقل لجفنيها
الثقيلان وهي تفتحهما بصعوبة ممررة أصابعها فوقهما وكأنها تختبر
بصرها رغم النور القوي في المكان .
شدت يدها الأخرى فشعرت بوخزة مؤلمة امتدت على طول ذراعها
فنظرت لها فورا فإذا بحقنة مغذي مثبثة فيها ، رفعت نظرها للأعلى
وهي تنظر للقارورة التي كانت تكاد تنتهي وانتبهت حينها للمكان
الجديد تماما عنها ! لا تعرف هذا المكان وليس جناحها ولا غرفتها في
ذاك المنزل ولا لأي من المنازل التي عاشت فيها سابقا ولم ترى من
قبل هذه الثريا المعلقة في السقف ولا هذه الجدران المغطاة بورق
الحائط ! هي ليست في مستشفى ولا في منزل تلك العائلة
فأين تكون !؟
آخر ما تذكره خروج مربيتها فجأة ثم سمعت صوتا رجوليا يحدثها
تعرف نبرته تلك جيدا لمن تكون ، كانت ترفض دخوله لا تريد رؤيته
ولا أن يراها لا هو ولا غيره منهم لذلك قررت التحامل على ألمها
والوقوف لتدخل حمام الغرفة حتى يغادر لكن الأمر كان أصعب مما
تخيلت ورغم صمودها وعنادها فقدت السيطرة على ذاك الجسد المنهك
ما أن بلغت منتصف الطريق كما فقدت صلتها بكل شيء حولها ولم تعد
تعي شيئا حتى هذه اللحظة .
كان شعور الألم قد زال بشكل كبير أكثر حتى من تلك الحقن التي كانت
تحقنها بها مربيتها كما أن شعورها بالدوار حتى وهي نائمة بدى لها
أنه أخف بكثير من السابق ، نظرت لقارورة المغذي مجددا وعلمت
أنها السبب وأن ثمة سائل ما حقن فيها بواسطة الحقنة المرمية على
الطاولة جعلها هكذا ، رفعت يدها أمام وجهها مجددا ونظرت للرباط
الخاص بالفك والشعر وكانت تشعر بواحدة أخرى مثلها عند كاحلها
فعلمت فورا أنه ثمة طبيب زارها هنا وفعل كل هذا ، لكن ما سر نقلها
لأجل كل هذا !
أنزلت ساقيها أسفل السرير وتساندت على مرفقها حتى جلست ثم
سحبت حقنة المغذي ووقفت ببطء وتحركت من هناك جهة باب الحمام
المشترك مع الغرفة تعرج بسبب ألم كاحلها الذي كان يمزقه كلما
داست على قدمها تحاول بيدها أن تستند بكل ما تمر به في طريقها
والأخرى تبعد بها شعرها الطويل عن وجهها قدر استطاعتها بسبب
الإلتواء فيها أيضا ، لا يمكنها مغادرة هذا المكان ولا حتى استكشاف
مكان وجودها وليس أمامها سوا الانتظار لترجع لذاك المنزل مجددا ،
وقفت مكانها منتصف الطريق حين رأت السترة السوداء المرمية
بإهمال على الطاولة وغيرت اتجاه خطواتها المتعثرة جهتها
*
*
*
نظرت من بعيد لهاتفها الذي صدح رنينه في أرجاء الغرفة للمرة فوق
العاشرة وأمسكت يديها عن رفعه والإجابة عليه .
لن تضعف وتستسلم ولن تجيب أو تتحدث إلا مع المدعو تيم كنعان
كما طلبت ، هذه فرصتها لإخراج ذاك التنين من جحره وإن أحرقها
هي لا يهم فلن تسكت أكثر عن حال صديقتها وهي أكثر من يرى
معاناتها وعاشتها معها منذ صغرها ، كانت ترفض سابقا وجود هذا
الرجل في حياة صديقتها تلك ولا تريد لسبب الداء أن يكون هو الدواء
ولا أن يكون حل مشاكلها عن طريق مسببها لكنها اقتنعت الآن أنه لا
حل غيره وعلى هذا الحل أن يكون سريعا ومستعجلا ، وما يؤكد لها
أنها تفعل الصواب عدم توقف هاتفها عن الرنين تقريبا منذ أن اتصلت
بذاك المحامي أي أنهم يهتمون لأمرها بتوصية مشددة ولا يستطيعون
معرفة ما يجري معها في داخل ذاك المنزل كما فهمت من موقفهم الآن
ولابد لديهم علم بما حدث وسبب سجن ماريه فهم على دراية بكل ما
يحدث معها خارج منزلها بينما تجهله هي ، سمعت صوت رسالة
وصلت هاتفها فقفزت ناحيته وفتحتها فورا وكما تتوقع هي من ذاك
المحامي وكان فيها
( أجيبي يا زهور فما تفعلينه ليس في صالحك ولا
صالح صديقتك ولا حتى زوجها )
أخرجت لسانها عند كلمة زوجها وكانت سترمي الهاتف حيث كان
لكنها غيرت رأيها وأرسلت له ردا على رسالته
( أقسم أنكم شركاء في الإجرام الذي يطبق حيالها الآن
وأولهم المدعو زوجها )
أرسلتها دون تردد فستفعل أي شيء ليكون لذاك الشاب موقفا واضحا
حيالها فقد اقتنعت الآن أنه مخرجها الوحيد من كل ما هي فيه ،
صرخت دون شعور منها وكاد الهاتف أن يقع من يديها بسبب قفزتها
في مكانها حين علا صوت رنينه وظهر على شاشته رقم دولي ، من
مفاجأتها وحماسها لم تستطع ضغط زر الإجابة فقلبها كان يصخب
بجنون وكأنها المعنية بتلك المكالمة بل وكأنه زوجها هي والذي لم
تراه منذ كان صغيرا ، لا تصدق أنه فعلها واتصل بها !
وهذا إن لم تكن خدعة منهما ؟ ما أن عاد الهاتف للرنين حتى فتحت
الخط ووضعته على أذنها فورا
" ما بها ماريه ؟ "
شعرت بالدم جف في عروقها وكأن جسدها تحول لتمثال حجري ثقيل
ما أن سمعت تلك النبرة القوية والصوت الخشن الحازم وشعرت
وكأنها مذنب يقف في قاعة محكمة ، قالت بهمس
" أنت تيم كنعان ؟ "
" تحدثي ما بها ؟ "
تحول كل ذاك الخوف والرهبة من تلك النبرة والصوت لضيق وغضب
من تغطرسه الواضح جدا ، وماذا كانت ستتوقع من شخص أعطاها
جميع الأسباب لتكرهه سابقا وعلى مر أعوام ، قالت بضيق
" يعنيك حقا أمرها وتسأل !
عمها يسجنها وأخذ هاتفها ومنعها عن جامعتها "
وصاحت بعنف متابعة
" ويضربها يا زوجها يا ابن عائلة كنعان الشرفاء من ماتوا من أجل
أن لا يخونوا وطنهم ويؤذوا شعبه "
أبعدت الهاتف فور إنهائها لجملتها تلك ونظرت له بصدمة هامسة
" أغلق الخط في وجهي !!! "
رمت الهاتف بعيدا عنها ووقفت متمتمة ببرود وهي
تتوجه لنافذة غرفتها
" المهم وصله ما كان عليه أن يعلمه ، أعانك الله يا ماريه على
هكذا زوج ، هذا لوح وليس رجلا !! "
أبعدت الستائر ووقفت تراقب كعادتها منذ أمس فهي لا تتوقف عن رصد
كل ما يجري في ذاك المنزل لعلها تفهم شيئا مما يحدث هناك خاصة أن
ذاك الرجل المدعوا قيس لم يغادر المنزل اليوم كما لاحظت وهذه ليست
عادته ! ألصقت وجهها في الزجاج البارد بسبب لفح الهواء له في
الخارج وهمست بأسى
" أخرجك الله من هذا الجحيم المسمى منزل يا صديقتي "
*
*
*
وضعت ساق على الأخرى متكئة على السرير ورفعت هاتفها حتى
ظهرت في شاشته الواسعة عالية الدقة صورة الموجودة عند جدار
الغرفة بملابس رياضية زرقاء غامقة مكونة من قميص ضيق بدون
أكمام وبنطلون قصير تربط شعرها ذيل حصان وتمسك غرتها
المقصوصة بحزام رياضي تلفه حول رأسها ، وصلها صوتها الساخر
قائلة
" أخبريني يا ابنة الهازان الغبية التي لا تعرف ما تقرر كأسلافها ما
الذي جعلك تقررين ترك عمل المضيفات فجأة بعد كل ما عانيته لتكوني
هناك ؟ "
عضت كنانة شفتها بغيظ من تعليقها ذاك وهي من لم تتوقف عن
إهانتها وتوبيخها منذ أخبرتها بقرارها ترك عملها كمضيفة وكأنه
ينقصها توبيخ من والدتها الغاضبة منها حتى الآن ، قالت وهي تنظر
لصورة ساندرين في هاتفها
" هيا سأبدأ بحساب الوقت "
قفزت تلك من فورها بحماس وانقلبت رأسا على عقب يديها على
الأرض وساقيها معلقتان في الهواء للأعلى مقابلة للجالسة على
السرير ، شعرها الطويل نزل على الأرض تحتها تبتسم بحيوية وهي
تبعد إحدى يديها عن الأرض وترفعها جانبا ليرتكز جسدها على يد
واحدة فقط وهدفها كان تحطيم الرقم الذي سجلته كنانة آخر مرة فهذه
كانت لعبتهما التنافسية منذ الصغر ، قالت ساندرين بصعوبة بسبب
انسحاب أغلب الدم والطاقة لأعلى جسدها المقلوب
" أنتي هل تحسبي الوقت أم ما الذي تفعلينه ؟ "
ابتسمت كنانة قائلة
" أمامك أربعون ثانية لتجتازي الرقم "
وابتسمت بمكر وهي تعدل من وضع هاتفها ، سأريك ما تفعل ابنة
الهازان الغبية يا ساندرين يا ابنة الحالك فعقابك عند أبن الهازان
تحديدا ، ضحكت دون شعور منها فنزلت ساندرين جالسة على الأرض
تتلقف أنفاسها القوية تخرجها من فمها وقالت
" ما الذي يضحكك دون سبب يا غبية ؟ "
دست تلك هاتفها قائلة
" صديقي بالتراسل وضع تعليقا على صورة تدفعي نصف
عمرك كي لا تقرئيه "
حركت رأسها بعدم فهم قائلة
" أي صديق هذا فلم تخبريني عنه ؟! "
خرجت ضحكتها وهي تقول مغادرة السرير
" هازاني غبي ما تفعلين أنتي به ؟ "
*
*
*
لوح بقبضته القوية بغضب في وجهه وكأنه يبعد حتى الهواء
من طريق كلماته الغاضبة وهو يصرخ مجددا
" هراء .... هل ستقنعني يا قائد قوات الجيش ويا من تتحرك جميع
فصائله حسب أوامرك أن شرذمة من الأوغاد ستعجز أمامها ؟
وحتى متى ؟ إلا أن يجد الشعب نفسه تحت رحمتهم وأنت تتحجج
بحجج سخيفة حتى الأطفال لا يتفوهون بها "
كتمها الواقف أمامه أيضا كباقي الإهانات السابقة بل كباقي السيل من
الشتائم الذي تلقاه منه ما أن غادر جميع من حضروا ذاك الاجتماع
ومن اختار لهم هو حظوره طبعا لأن ثمة أعضاء في البرلمان ورجال
من قيادات الجيش رفض أن يدخلوه وأصدر قرارا بمنعهم من السفر
خارج البلاد حتى يتم محاكمتهم وعسكريا أيضا ، أي أن العقوبات
على من تثبت عليه التهم لن تكون يسيرة أبدا واختارها لأنه يعلم أن
المحكمة العسكرية لا ترحم أحدا ، وكانت تلك أول إشارة ليفهموا
جميعهم بل والشعب بأكمله أن الحكم سيكون من اليوم والساعة
عسكريا وسينسف الحكم المدني والأحزاب والبرلمانات حتى متى
عقل الرجل الواقف أمامه فقط من يعلم إن كان سيستمر حتى يتم
ضبط الفوضى في البلاد أم سيكون للأبد ، غادر المجتمعون القاعة بعد
جلسة لم يروها إلا سحبا لأجسادهم على الحديد الملتهب وهم
يحاسبون حسابا دقيقا على كل ما حدث منذ أشهر أو منذ يوم وفاة
شراع صنوان بل وبعضهم تعرض للمساءلة عن أمور دفنها التاريخ
من أكثر من عشر سنين ، قضايا وملفات جعلت أعين البعض تخرج من
مكانها من الصدمة المكتومة داخلهم ليؤكد لهم بذلك أنه كان مطلعا
على كل كبيرة وصغيرة تحدث خلفه بل وخلف كل جدار من جدران
مؤسسات الدولة ولازال هناك ما لوح به في آخر اجتماعهم وهي
( الوطنية للنفط والعالمية للأستثمار ) أي أنه سيخرج بكل درهم نهب
من البلاد من تحت جلود آخذيه ، كانت جلسة علق بعض من خرج
منها فور خروجهم قائلا
( سحقا لهذا ... كيف سيكون يوم القيامة ؟ )
وكيف لا يكون ذاك تعليقهم وهم وقفوا في مواجهة من لم تزده السنين
إلا تحكما وقيادة وثقة في قرارته ورجاله يجلسون على جانبيه كنسور
جارحة تعلق على كتفي القائد العظيم ، من بنى كل ما هم فيه الآن بكل
قطرة دم سفكت من رجاله، بجهده وعنائه لسنوات وكل تلك التضحيات
التي قدمها ليصل للعبث الذي يراه أمامه اليوم ، لم يرحم فيهم أحدا
رغم أنهم لم يكونوا ضمن معتقلي فجر هذا اليوم والذين سحبوا من
منازلهم كالأغنام ولا ضمن من طردوا من اجتماعاتهم وسيقدمون
للمحاكم قبل أن يقرر مصيرهم ، ناقشهم وحاورهم وحاسبهم قبل أن
يتلقى كل واحد فيهم أوامره ويغادر عدا عمه الذي لم يفارقه اليوم
ولم يطلب منه هو الخروج احتراما له بما أنه لم يفعلها من تلقاء
نفسه وبقي الشخص الوحيد الذي طلب عدم خروجه ومن وضع لومه
الأعظم على عاتقه وعامله كما عرف هو نفسه مطر شاهين من قبل
أربعة عشرة عاما خلت حازم في الحق وطوفان غاضب في وجه
الأخطاء والهفوات مهما كانت صغيرة ، رمى إصبعه جانبا وصرخ
بعنف
" انظر إلى أين أوصلوا البلاد من تسميهم بالسذج الذين لعب الغير
بأدمغتهم ، حتى متى كنت ستقف تتفرج ورجال الجيش في صنوان
ينقادون خلفهم واحدا تلو الآخر ؟ إن كانت البرلمانات والأحزاب
مجرد كذبة من الغرب على المسلمين ولا طائل أو رجاء فيهم وبما
أن الشرطة جهاز أمني فقط أين أنتم يا رجال الوطن ؟
أنتم من كان عليكم احتواء كل تلك الفوضى التي تفاقمت أمام
أعينكم حتى كانت ستبتلع البلاد بأكملها ، ماذا فعلتم سوى أنكم
أغلقتم منافذ الحالك ونشرتم البوابات الأمنية الحمقاء وأرسلتم
بذلك رسالة لأبناء البلاد بأن الحالك ستحاربهم وبأنها تحمي
نفسها فقط والباقي لا علاقة لها به ، كيف لرجل جيش أن يفكر
بهذا المنطق الهزلي الساذج
" شد الواقف أمامه قبضتيه بجانبه بقوة ولن يستطيع سوا الصمت
أو موافقته فيما يقول فإن أخبره عن أسباب ما فعله بعض رجاله
للضغط عليه ليرجع لا يستبعد أن يطرده ليس من هنا فقط بل ومن
منصبه وأن يقدمه للمحاكمة العسكرية أيضا ومن سيخلصه حينها
من براثن أولئك القضاة العسكريين ، أشار له مطر بسبابته بين
عينيه تحديدا وقال بحدة
" إن تضرر أحد بسبب تلك الشرذمة التي سمحت لها بالفرار
والاندساس الآن في أماكن مجهولة قسما يا يعقوب يا ابن العقاد
أن تقدم للمحاكمة أيضا وأن تسحب رتبك من قبلها ، وعليك يقع
عاتق مطاردة أولئك العسكريين وإحضارهم "
تنفس الواقف أمامه ملأ رئتيه ونطق في أول خروج له من صمته
"الوضع كان حساسا جدا يا زعيم ، لا تنسى أن ابن شراع ضمنهم
وما سيعني القبض عليه بالنسبة لصنوان خاصة أنه كان قد اتخذه
والده كآمر عسكري للمنطقة الغربية "
صرخ فيه بحدة
" حجة أوهن من أن تفكر في قولها ، ماذا كنت ستقدم للبلاد حال
تركهم يحشودون أكبر عدد ممكن حولهم ويشعلون فتيل الحرب التي
كادوا ينجحون في فعلها ؟ ماذا كنت تنتظر ؟ أن تتحول لثلاث أجزاء
كالسابق ؟ "
زم شفتيه المحفوفة بشارب خفيف قبل أن يحررهما قائلا
" علاقتي بشراع صنوان وأبنائه كانت أكبر من أي تهور مشابه
فكيف أجازيه بقتل ابنه أو سجنه دون أن أحاول التفاهم معه أولا ،
وكنت قد خضت شوطا في ذلك وأبلغني بثقته بي لأن والده كان كذلك
وقد وثق بي حد أن استأمنني على سر ابنة عمك لأجل حمايتها "
نظر له مطر بصدمة سرعان ما تحولت لغضب أسود شاركه فيها
عمه الذي همس بغير تصديق
" أخبرك شراع !! "
نظر له وقال
" أجل وهي تعلم أيضا "
رماهما بقذيفته الأخرى دون اكتراث بل ولم يكفيه كل ذلك فقد عاد
بنظره جهة صقر مجددا وقال
" وكنت قد تقدمت لخطبتها وبما أنك هنا وعمها فأنا
أعود وأطلبها منك "
لم يستطع صقر إخفاء صدمته ولا انفراج شفتيه العاجزة عن الحديث
ولا التصديق ، سبق وأن سمع عن هذا الرجل لكنه لم يتخيل يوما أنه
كما قيل عنه شجاع حد التهور دون تردد فبأي عقل يفاتحه في
موضوع كهذا في وقت يتلقى فيه تعنيفا قويا عن أمور كان سيكون
ثمنها بلاد بأكملها ! وكأنه يرى نفسه على صواب ولا يكترث بكل ما
قيل وسمع ، نظر صقر فورا وبتوجس حذر لابن شقيقه الذي تحرك من
مكانه جهة الواقف أمامه لا تفصله عنه إلا خطوات معدودة حتى كانت
ياقة تلك البذلة العسكرية بين قبضتيه وانقض عليه كنمر مفترس
فركض جهتهما فورا وحاول فك يديه عن ياقة الذي لم يحرك ساكنا
ينظر فقط لعينيه وقد همس مطر من بين أسنانه يشده ناحيته أكثر
" كررها مجددا يا ابن العقاد لأدفنك هنا"
حاول صقر سحب يده قائلا بضيق
" توقف يا مطر ولا تنسى مكانته ومكانتك ، الأمور لا يكون
التحدث فيها هكذا "
فك مطر ياقة الواقف أمه بقوة فنطق ذاك وهو يعيد ترتيبها
" لم أعلم عنك سابقا ولم أسمع سوا برجاحة عقلك وتحكمك في
انفعالاتك ، وظننت أنها أصبحت حرة منذ أربعة عشرة عاما وما فعلته
من حقي "
وغادر من هناك ما أن أنهى جملته تلك ووجهته الباب المغلق تاركا
خلفه نارا أضرمها كالسعير تأكل أحشاء من وصفه بالحليم ذو العقل
الراجح ولا يعلم أن ما يمسكه عنه وقتها قبضة عمه القوية على
رسغه مانعا إياه من اللحاق به وتحطيم أنفه المغرور بقبضته فهو لم
يحذر غضب الحليم إذا اتقد وكأنه ينتقم منه على سيل التوبيخ الذي
تلقاه منه رغم أنه لا يتوقع ذلك من رجل قائد جيش رجل حرب مثله
وهو من يفهم رجال الحروب جيدا وفيما وكيف يفكرون ، وها هو
تأكد أن غرضه من التقرب منها ليس سياسيا أبدا ، استل رسغه
بعنف من قبضة عمه الذي قال بضيق
" تعقل يا مطر فلست أعرفك سابقا هكذا تأخذ حقك بيديك رغم أنه لا
يمكن تسميه الأمر بأنه حق لك "
نظر له بعدائية واضحة وكأنه يحارب كل شيء حوله وكان سيتحدث
لكنه تراجع في آخر لحظة وغادر من هناك بخطوات واسعة غاضبة
فحرك صقر رأسه بيأس هامسا
" هذا وهي لم تعد زوجته وتركها من نفسه !! "
*
*
*
غرست أصابعها في غرتها التي انزلق عنها الحجاب الأسود الذي
يماثلها نعومة وحريرية ولم يكن يمسكه ويثبته إلا المشابك المحكمة
عليه ، كان اليوم مرهقا ليس جسديا فقط بل ونفسيا ووضع قناع البرود
واللامبالاة لم يتعبها كما اليوم وهي تحاول التمسك به بينما هو يأبى إلا
أن يسقط وينكسر ، رغم الحركة المستمرة في مكتبها ونشاطهم
المتزايد اليوم والاجتماعات الدورية لأعضاء مجلس إدارة الجمعية إلا
أن تلك الهمسات والتمتمات وتناقل الأخبار وتبادل الهواتف المحمولة لم
يفتها أبدا وكل واحدة من الحاضرات كانت تتابع عن كثب أخبار البلاد
وأحداث اليوم الذي تفجرت بها جميع مواقع التواصل ومحطات الأخبار
، وحدها فقط من باتت لا تعلم عنها رغم أن تلك الهمسات والهمهمات
جعلتها في قلب الحدث أحبت ذلك أو كرهته ، وكان عليها طبعا أن لا
تفقد سيطرتها على أعصابها التالفة تلك أمام الأعين المحدقة بها بترقب
وفضول ، لكن ذلك فوق طاقتها وتحملها فهي في النهاية بشر فكيف
ستتحكم في ذاك القلب الذي تشعر به يرتجف كنافذة منزل قديم تصفقها
الريح ، كيف ينسى ذاك القلب أو يتناسى أن القطعة من كبدها تلك هنا
وعلى بعد أميال منها وتسمع الحديث عنها بينهن وإن لم تفهمه جيدا ،
شعرت بيد على كتفها مما جعلها ترفع رأسها محررة خصلات غرتها
من بين أصابعها وبدأت بترتيبها على صوت جليلة الهادئ بنبرته
الحزينة
" غسق تبدين لي متعبة اليوم والعمل هنا لن يتوقف أبدا ، لما لا
تغادري للمنزل ؟ سنقوم نحن بكل ما يجب "
حركت رأسها برفض دون أن ترفعه لها فسحبت تلك الكرسي وجلست
عليه مقابلة لها ونظرها على ملامحها الجميلة ونظرتها التي تغلب عليا
الإحباط الذي لم تعد تقوى على إخفائه ، وسرعان ما امتلأت مقلتاها
السوداء الواسعة بالدموع فور أن وقع نظرها على عيني صديقة
طفولتها المقربة ومن تعرفها أكثر من غيرها وتقرأ وتفهم حتى صمتها
كجسدين بروح واحدة فإن أخفت ما في داخلها عن الجميع تعلم أنها لن
تستطيع أن تخفيه عنها .
أمسكت جليلة بيديها وهمست ببحة عجزت أن تخفيها
" هل رأيته البارحة ؟ "
إيمائتها النافية كانت خفيفة بالكاد تحرك معها رأسها فشدت تلك
على يديها أكثر وعجز لسانها عن قول أي شيء ، ولا تراها إلا جيدا
فعلت فهي التي لا يعنيها أمره تقريبا ما أن رأته يخرج من تلك الطائرة
وينزل سلالمها بذاك اللباس والشخصية القيادية المسيطرة تتفجر ثقة
وإستقلالية كاد يغمى عليها فكيف بمن عاشت معه كزوج وعرفته
لأشهر أقرب له من أي امرأة على وجه الأرض ومن تركها خلفه
وهاجر دون حتى أن يقدم أسبابه ، دون أن يعتذر أو حتى أن يعدها
برجوعه ويطالبها بانتظاره ، همست مجددا
" جيدا فعلت يا غسق "
تدحرجت الدمعة التي لم تعد تقوى على إمساكها أكثر حين خرجت حروفها المخنوقة بعبرتها
" ابنتي هل كانت معه ؟ "
ابتسمت جليلة من وسط حزنها والدمعة التي ترقرقت في عينيها وهي تجيبها هامسة مع حركة رأسها إيجابا
" أجل "
وكما توقعت بل تمنت أن تكون ردة فعلها تلك من أجل ابنتها وليس
من أجل ذاك الرجل تحديدا ، مسحت على ذراع اليد التي كانت تمسح
دمعتها بظهر كفها قائلة بابتسامة حزينة
" لم تكن صورتها واضحة لأنها بعيدة لكنها كانت المرأة الوحيدة
التي نزلت من طائرتهم تلك وكان واضحا أنها صغيرة في السن ،
ومن حسنها الذي برز من بعيد واضحا فلن تكون إلا ابنتكما "
أنهت جملتها مبتسمة بحنان وهي تراقب التي وقفت وبدأت
بترتيب حجابها وكما عرفتها لأعوام لحظة الضعف تلك ستنبذها
سريعا كما ظهرت وتستغرب حتى كيف نزلت منها تلك الدمعة الوحيدة ،
وقفت أيضا وقالت بتوجس من فتحها للموضوع الذي كلفت وحدها
به من الجميع
" ثمة اجتماع بعد يومين لبعض الحقوقيين ورؤساء مؤسسات مدنية
تابعة للدولة والجمعية من ضمنهم "
لم تستطع قول أكثر من ذلك وهي تراقب التي رفعت حقيبتها وقالت
ببرود وهي تضعه على كتفها
" أرسلوا إذا من ينوب عن الجمعية فذاك الرجل يبدوا أنه سيسعى
لزجنا ضمن ناهبي مال الشعب "
فغرت جليلة فاها مصدومة قبل أن تقول
" جمعية الغسق لم تعرف إلا بنزاهتها ولم نمول يوما أي مشاريع غير
قانونية والأموال التي نجمعها جميعها من متبرعين ومن المؤسسات
التي تحركها وجميعها بشكل قانوني وموثق فلا خوف من تلك
النقطة أبدا "
التفتت لها بعدما حملت أوراقها تحضنهم لصدرها قائلة بلا اهتمام
" وإن يكن دعوه يتأكد بأن غسق شراع صنوان أنزه من أن تحاسب
على أموال تصرفها على الناس "
تنهدت الواقفة أمامها بصبر متمتمة
" إذا لعلمك يا ابنة دجى الحالك وترفضينه بأنك أنتي عينا مطلوبة
للإجتماع وليس أحدا ينوب عنك "
لوحت بقبضتها قائلة بضيق
" لست أنا من رفضه بل هم من لم يريدونه لي ولم يريدوني
ويعاملونني إلا ببنة شراع ، وأنا لن أحظر ذاك الإجتماع فليفعل
ذاك الرجل ما يحلوا له "
حركت رأسها بيأس قائلة
" غسق نحن لسنا وحدنا من تم استدعاؤنا حتى الجيش والشرطى بل
وأعضاء البرلمان الحاكم قدموا تقاريرهم ونوقشوا فيها ، لا تدعي
لأمور شخصية بينكما أن تظهرك بمظهر غير لائق بك كسيدة مجتمع
عرفها الجميع من أرقى وأفضل سيداته "
صاحت في وجهها فورا
" ابنتي ليست أمرا شخصيا وسآخذها منه وإن بالقانون "
نظرت لها جليلة بصدمة وأمسكت ذراعيها بقوة وقالت بجدية
" غسق لا تفتحي على نفسك بابا لن يأتيك إلا بالمشاكل ولا تجعلي
منه عدوا لك ، ليس لرجل بكل ذاك العدل أن يحرم أما أبنتها ... "
قاطعتها مبعدة يديها عنها بعنف
" لم يكن معي عادلا يوما ، أنصف الجميع حتى من لم يروه يوما
وأنا لا ، كان عادلا مع الجميع وأنا ظلمني أشد ظلم "
وتابعت بكره ودمعة الأسى تملأ محاجرها مجددا
" أكرهه فهو من جعلني أكره الحياة ، خانني خدعني أخذ ابنتي مني
وتركني وفوق كل هذا كان يخفي عني حقيقة نسبي ومن أكون وتركني
أعيش غريبة مضطهدة وأنا في وسط أهلي وعائلتي قبل قبيلتي ، ذاك
الرجل لا يعرف معنى العدل أبدا وابنتي من حقي أنكر ذلك أم اعترف به
والقانون الفاصل بيننا هذه المرة فلم تعد غسق تلك الفتاة الساذجة التي
تعيش لتلبي رغباته فقط ويقودها حيث وكيف يشاء "
أنهت كلماتها تلك وغادرت من عندها فتنهدت من تركتها خلفها متمتمة
" أعانكما الله على بعضكما "
*
*
*
يتبـــــــــــــــــــــــــع
|