لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

قصص من وحي قلم الاعضاء قصص من وحي قلم الاعضاء


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack (1) أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 26-07-17, 08:59 PM   المشاركة رقم: 161
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 


الفصل الخامس

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ‏

أسعد الله مساؤكم بكل خير أحبتي شكرا من أعماق قلبي

لمنتدى ......... إدارة ومشرفات وأعضاء رائعين وحتى

زوار اجتذبتهم روايات برد المشاعر المتواضعة ، تخونني

الكلمات أمام كمية العطاء الا محدود الذي تقدمونه لي

وأعجز سوا عن عبارات شكر بسيطة لإدارة تعطي

كاتباتها حقوقهم ككاتبات ومشرفات أخوات وصاحبات

وفيات وأعضاء راقيين أمثالكم ، شكرا للقب الذي أتمنى

من الله أن أستحقه بجدارة لنهاية مشواري معكم وشكرا

لعبارات المباركة الرائعة التي أحطموني بها راجية من الله

أن أكون عند حسن ظنكم بي دائما



وأشكر بشكل خاص وكبير غاليتنا فيتامين سي على ما

قدمته وقامت به من أجل وصول فصلنا اليوم لكم على

تعبها واستقطاعها من وقتها لمساعدتي ليصلكم الفصل

في وقته ووقوفها معي في المشكلة التي واجهتني مؤخر

شكرا لك أخت غالية لم تلدها لي أم ومشرفة شرف لهذا

القسم والمنتدى ومتأكدة من أني إن طلبت المساعدة من

الغاليات لمارا أو توباز ما قصرتا أبدا فلم أرى تعاون

وتفاني واجتهاد مثلما رأيت منكم

ودمتم في رعاية الله وحفظه جميعا ‏‏( اختكم برد المشاعر ‏‏)‏


********

مدخل ~

بقلم / ثلج دافىء

من غسق لمطر

احببتك واهديتك قلبي.... عشقتك وملكت كياني.
اخاف عليك من انفاسي.... اشتاق لك وانت امامي.
فلم تتركني اعاني.... وتزرع في قلبي ضغاني.
جرحك كبير ومزقني .... لم ذهبت بعيدا عني .
بعد ان اخدت قلبي مني .... جسد بلا روح تركتني.
لما كل السعادة سلبتني.... لم تترك لي حتى ابنتي .
يامطر ياوجعي وقاتلي.... يامطر ياخاذلي وتاركي.
لا تعد وتعصف بداخلي..... ارجوك ارحم حالتي .

******

سحبت تلك اليد بالأصابع الطويلة والسمراء القوية
الكرسي أمامها ووصلها ذاك الصوت الرجولي الواثق

" هل تأذني لي بإفساد خلوتك سيدة غسق دجى الحالك "

ارتفعت نظراتها المصدومة تدريجيا من الساقان
الطويلتان للخصر النحيل البارز من تحت المعطف
الشتوي الثقيل المفتوح للصدر والكتفان العريضان
ليرتكز على الرأس المنحني والقبعة السوداء التي
ارتفعت يده لإزالتها وهو ينحني بجسده قليلا ليعدل
وضع الكرسي , وما أن أزالها عن رأسه حتى تحرر
شعره الأسود الناعم الكثيف وكأنه كان في سجن
ضيق لينزل متدرجا بنعومة على بعضه ،
جلس مقابلا لها ووضع القبعة على الطاولة
وقال مبتسما

" أعتذر عن مقاطعتي لخلوتك "

لم تجتز صدمتها بسهولة تنظر لملامحه الرجولية
وعيناه السوداء وحاجبان مستقيمان فوقها ,
بلعت ريقها بتوتر من الموقف ومن وجوده هنا
وهذا الوقت فلم تتوقع أن تراه هنا ولا في منامها
همست حين وجدت صوتها

" مرحبا سيادة اللواء "

وجالت بنظرها سريعا في المكان وكما توقعت
توزع حولهما أشخاص بملابس رسمية لكنها
موحدة فهي تعلم أن هذا الرجل يستحيل أن
يتحرك في أي مكان بدون حراسة مشددة
فكيف في وضع كوضع البلاد الآن عادت
بنظرها له حين قال بذات ابتسامته

" أعلم أن وجودي غريبا بعض الشيء بل تطفل
مبالغ فيه لكني كنت متوجها بالفعل لمكتبك في
الجمعية وسعدت أن كنت هنا وليس هناك "

جالت بنظراتها في عمق عينيه المركزة على عينيها
ولم تفهم سبب مجيئه لزيارتها في مكتبها !
أي أنها لم تكن مجرد مصادفة كما اعتقدت ,
وكان عليها أن لا تفكر في ذلك من أساسه
فهل سيتجول رجل مثله في الشوارع يقتنص
مقابلة الناس بالمصادفة وهو بتلك المكانة
كقائد أعلى للجيش في البلاد ؟
شتت نظرها عنه وعن عينيه المحدقة بعينيها
ليقع على الجريدة تحتها فأغلقتها فورا ولم تفتها
النبرة الخاصة في صوته وهو يقول

" قرأت المقالة اليوم , كان لقاءا مميزا بالفعل "

شعرت بالحرارة تصعد في جسدها رغم برودة الجو
فأزاحتها جانبا هامسة بابتسامة مائلة

" أحيانا عليك أن تسكت الرأي العام في قضايا
لن يصمت عنها مهما التزمت أنت الصمت
ومهما طوت صفحاتها السنين "

جاءها تعليقه سريعا وقد امتزج صوته
بضحكة خفيفة خشنة

" معك حق ولن أستغربها منك "

شدت قبضتها دون شعور وتحركت قدمها على
الأرض ولا تفهم معنى هذه الإشارات في كلامه ؟

قالت تراقب يدها على الطاولة

" كيف حال والدتك وابنك ؟ "

حرك كتفيه العريضان قبل أن يقول متنهدا

" أمي بأفضل حال لكن سامر لا يعجبني أبدا فأنتي
تعلمي من في مثل حالته سيكون حساساً جدا
ويصعب التعامل معه بعض الأحيان "

نظرت لحركة الناس خلف كتفه وقالت بلمحة حزن

" أجل فمرضه مختلف كثيرا عن غيره ويحتاج
اهتماما ورعاية خاصتين لا تشعرانه باختلافه
عن غيره وهذه مهمة صعبة جدا في غياب الأم ,
وجدته امرأة كبيرة تحتاج وحدها لمن يعتني بها "

حرك رأسه موافقا لكلامها فنظرت له مجددا
وقالت بتوجس

" ما هذا الشيء الذي جعلك تفكر شخصيا
في زيارة مكتبي ! هل ثمة أمر خطير ؟ "
حرك رأسه نافيا بتنهيدة رجولية عميقة
وإن لم تكن تتوهم فقد رأت ترددا في عينيه
لم تتخيله من شخص مثله وفي مكانته ،
قال بصوت رخيم ونظره على عينيها

" ثمة أمر أحتاج التحدث معك فيه ، والمقالة
هي ما شجعني على القدوم لك "

*
*
*


نظر له لوقت بعدم استيعاب قبل أن يقول

" هل أنت جاد حقا في هذا يا زعيم ؟ "

كتف مطر هذه المرة ذراعيه لصدره وقال باختصار

" أجل "

تحركت حدقتاه السوداء لوقت بتفكير قبل
أن تستقرا على الجالس مقابلا له مجددا وقال

" ما أعلمه أن القوانين تمنع عنا كل هذا ؟
ثم وبعيدا عن كل ذلك أنا لا أريد هذا النوع
من العلاقات , وتلك الفتاة سخيفة، وأفكارها
ساذجة وتصيب المرء بالمرض "

شقت ابتسامة طفيفة شفتا الذي ارتكز بمرفقيه
على ركبتيه ينظر لتلك الأحداق والنظرة الحادة
الواثقة فيهما وقال

" أعلم عن ذوقك يا تيم وأنا لم أطلب منك أن
تتزوجها أو أن تحبها , إنها سمكة ذهبية وطعم
إن التقطناه كسبنا كل ما نريده "

وتابع بجدية وهو يعدل جلسته مجددا

" هل تعلم أن علاقاتها السابقة كانت بشبان وحدها
من كان لها السلطة في إدخالهم حتى للاجتماعات
والحفلات الخاصة جداً ؟ وأن والدها كان على علم
بسفرها خلفك ؟ أي أنه لم يمانع علاقتها بك وهو من
لا يسمح بذلك لأي كان ويفرض عليها قيودا مشددة "

تمتم المقابل له بفتور واضح

" لا أراها تلتزم بقيود , إنها منحلة تماما "

ضحكة خفيفة لا تسمع إلا نادرا كانت ردة فعل
مطر الأولى قبل أن يقول

" المعلومات التي حصل عليها وقاص من مكتب
المدعي العام كانت مهمة والتي التقطها جهاز
التصنت قبل أن يفقد أهميته لكنها ناقصة وكنت
أفكر فعلا في الطريقة التي يمكننا جلب الأدلة
والتأكيدات عنها وها قد جاءتنا الفرصة المواتية "

وعاد لجديته وصلابته وهو يقول

" علينا ونحن نحاول حل وضع البلاد في الداخل
أن نقطع اليد التي امتدت لأبنائها من الخارج
ولم ننتبه لها طيلة هذا الوقت ونحن من اجتهدنا
كل هذه الأعوام لنوصل البلاد لما وصلت له اليوم
وتركنا ثغرة مخيفة مثلها , الجنرال غامسون تحديدا
لديه الأجوبة جميعها والتحركات القادمة , والمقربين
منه هم أول أهدافنا فعلينا نهاية الأمر قطع أذناب
الإخطبوط لنشل حركة الرأس "

مرر تيم أصابعه على قفا عنقه قبل أن يقول
معلقا بعدم اقتناع

" هل تريد مني بالفعل أن أتسكع مع تلك الفتاة المدللة ؟
هل تعي معنى أن يكون بيننا علاقة ما ! "

كان مطر سيتحدث فسبقه قائلا بجدية

" علاقتي بماريه خط أحمر "

ابتسم المقابل له مجددا وقال

" أفهمك يا تيم وأنت لست مجبرا على ما تفكر فيه "

قال مشككا في كل نواحي تلك الفكرة

" كانت هذه الأمور من أهم أسباب الإيقاع بمن كانوا
مثلناعلى مر عصور وهذا ما تجنبناه نحن ونجحنا فيه
فما غير قراراك فجأة ؟ ماذا إن اكتشفت تلك الفتاة
شيئا عن هويتي ؟ "

قال مطر من فوره

" أعتقد أن سمعتك كعدو للنساء لم تغب عن تلك المرأة
ولن يجبرك أحد ولا هي على شيء فيمكنك وضع حد
بينكما وأنا اجزم على أنك لن تفشل في ذلك والدليل
إخراجك لها من غرفتك كما وصلني من معلومات "

تنفس بقوة قائلا

" هي أرجعت ذلك لجذوري اليونانية "

حرك مطر رأسه موافقا وقال

" وبهذا تحررت من أعظم أسباب رفضك للأمر "

وتابع بابتسامة مائلة

" وبذلك وفائك لزوجتك لن يدنسه شيء "

تمتم بخشونة

" المسألة مسألة مبدأ "

ارتسمت تلك الابتسامة الكسولة على شفتي مطر
وكما توقع لن يعجبه حديثه وهو أكثر من يذكره
بنفسه وبكرهه في الماضي للحديث عن النساء
أمامه خاصة الأقرب منهن له ، وقف وقال

" عليك الآن أن تنام وترتاح بعد الرحلة الطويلة التي
قطعتها وسنبحث أبعادالأمر أكثر صباح الغد وندرس
جميع نواحيه قبل أن أسافر ثم سنكون على اتصال دائم "

وقف أيضا وحمل سترته السوداء التي كانت
مرمية بجانبه وقال

" أراك هذه المرة تأمرني بذلك ولا تأخذ رأيي كالسابق !! "

اقترب منه مطر حتى وقف أمامه وأمسك كتفه بقوة
وقال ناظرا لعينيه

" أجل إنها أوامر هذه المرة يا ابن كنعان ,
أعلم أن الأمر سيؤثر على مخططك الجديد
وأن التضحيات ثمنها غال جدا وتُخسرنا الكثير
لكن الرجل إن أراد شيئا لن يقف أحد في وجه
تحقيقه يا تيم ومهما طال به الوقت والعمر "

أبعد نظره عنه مشيحا بوجهه جانبا وكأنه ينفرد بنفسه ويستقطع لحظات عزلة ثم نظر له مجددا وقال بثبات

" في كل الأحوال وبسبب مهنتي وشخصيتي المزيفة
كان سيكون وضعي وماريه مختلفا وثمة تدابير
قد تكرهها هي بالفعل , وما تطلبه الآن لن يزيد الأمر
إلا تعقيدا وسيكون عليا أن أضع مساحة أوسع بيننا
واجبرها ونفسي عليها بدون تقديم أسباب ولا أعذار "

اشتدت قبضة مطر على كتفه أكثر وقال بابتسامة مائلة

" وأنت تستطيع فعل ذلك وأكثر منه يا تيم,
ثم لا تنسى وعدك منذ أربعة عشرة عاما
أن الخيار سيكون لها حين تكبرا "

ابتعد ليتحرر كتفه من قبضته وتوجه جهة الباب
قائلا بنبرة لا تحمل أي مزاح ولا تردد

" لن أعدك ولا غيرك بشيء فيما يخص ذلك "

وابتعد خارجا ومغلقا الباب خلفه دون أن يضيف شيء
وترك الواقف مكانه ينظر للباب الذي خرج منه بكل
ثقة واستقلالية كما دخل , ارتفعت زاوية فمه بشبه
ابتسامة وتمتم

" قسما لو لم تكن متزوجا يا تيم ولم يكن قاسم موجودا
لاخترتك بنفسي لابنتي "

*
*
*

لم يسمحوا لها سوى بارتداء حذائها وظنت للحظات
أنها ستذهب معهم حافية القدمين لرفضهم العودة
لغرفتها ضنا منهم أنها تنوي الهرب , وكيف تهرب
من جريمة لا تعرفها ! وانتهت حرب الحذاء ليدخلوا
في جديدة وعمها يرفض ركوبها معهم في سيارة
الشرطة وهم يرفضون ركوبها معه وحجته أنه لا
ينقصه فضائح أمام الناس وأنه له ابنة يخشى على
سمعتها واستقر الأمر أن ركبت في سيارة عمها
وأحد الشرطيان معهما , لم تنطق بحرف ولم تعترض
على أي شيء وهل كان يحق لها ذلك ؟ خاف على ابنته
من حديث الناس ولم يفكر بالتي جعلها ملهى لأحاديثهم !
واليوم فقط اكتشفت أنها لم تعش الإذلال الحقيقي سابقا
وهي تسمع عبارته تلك والسب والإهانات التي أمطرها بها
أمام رجال الشرطة وهم يسوقونها كالمجرمين وليست تعلم
حتى ما تكون جريمتها تلك ! ولا تذكر أنها أجرمت في حق
أحد ! بل العالم بأسره من أجرم في حقها فأين ميزان العدل
معها هي ؟ وصلوا مركز الشرطة ونزلت معهم وكل تلك
الحروب التي خاضوها ضدهم تلاشت حين طلب عمها أن
يدخل معها لغرفة التحقيق حيث المكان الوحيد الذي تمنت
أن لا يكون معها فيه فهذا الرجل وحده كفيل بجعلها تكره
كل شيء حولها فلما يجمعوا المصائب أمامها ؟
وقفت أمام الضابط الذي ما أن رآها حتى قال

" أنتي ماريه أحمد هارون ؟ "

تنهدت بأسى وأومأت برأسها إيجابا ,
فهل أصبح الناس يعرفونها مجرمة في أي مكان !
أم لا نساء يدخلن هنا سواها ؟
أشار لها لتجلس على الكرسي ولم ترفض ذلك أبدا
فلم تعد ساقاها تحملانها وتشعر بجسدها بأكمله
يرتجف من الغضب من كل شيء حولها ،
أشار للواقف قربها برأسه قائلا

" وأنت ما سبب وجودك هنا ؟ "

قال عمها من فوره

" أنا عمها ووليها القانوني وأريد أن أعرف جريمتها الجديدة "

نظرت له بغضب وهو يوهمهم أيضا بأن لها جرائم
سابقة وكأنه يخرجها من مركز الشرطة كل يوم ،
كانت تتمنى ككل مرة أمنيتها التي تعجز للأسف
عن تحقيقها وهي ضربه حد أن تشفي غليلها منه ,
وتعلم أن ذلك أبعد من أن تحققه يوماً ، لكن ما أثلج
صدرها هذه المرة هي الكلمات القاسية التي خرجت
من الجالس خلف طاولة مكتبه قائلا

" المعلومات لدي أنها متزوجة فلا ولاية
ولا وصاية لك عليها فاخرج حالا "

قال ذاك من فوره

" زوجها فار من البلاد من أعوام طويلة وتركها
حجر في حلقومي فلن أخرج وأعتقد أن هذا حق
من حقوقي كمواطن ولأنها امرأه .... "

" قلت اخرج فورا أو جعلت الواقفين في الخارج
يرموك في الشارع "

ألجمته تلك الصرخة وأيبست لسانه وأشعرت
الجالسة أمامه بالنشوة فهنا علم حجمه وهو
من يرى نفسه سلطانا وأن كل ما يريده يتحقق
لكن النظرة السوداوية من الجالس أمامها وحاجباه
الأسودان المعقودان جعلاه يخرج دون نقاش وكل
ما استطاع فعله أن قال بغضب وهو خارج

" لن أكلف نفسي عناء جلب محام لك فتعفني في السجن "

تأففت بصمت وليست تعلم ما ذنبها هي في كل هذا !
هل هي من طلب من الضابط إخراجه ؟ أم عليها دائما
دفع ثمن ما يعنيها ولا يعنيها ، قال الجالس مقابلا لها
ولازالت النظرة العابسة لم تفارقه
لتعلم أنه دورها بعد عمها

" أعطي الجالس خلفك بياناتك وأجيبي عن أسئلته "

نظرت حينها للخلف سريعا ورأت الشرطي الجالس هناك
والذي لم تنتبه لوجوده وقت دخولها وعلمت أن سيده هذا
يجعله يجلس عند الجدار لا تخرج إلا أنفاسه ,
تنهدت باستسلام وعادت بنظرها للأمام
ودوّن ذاك الشرطي بياناها الشخصية سريعا
وما أن لاذ بالصمت ولم يلقي أي سؤال آخر علمت
أن دوره قد انتهى فنظرت للجالس أمامها وقالت

" هل حان دوري لأعلم سبب جلبي إلى هنا ؟


" نظر لملف ضخم تحته وقال بجمود

" برآء رجب هارون .
تعرفين صاحب هذا الاسم بالتأكيد ؟ "

نظرن له باستغراب لبرهة ثم قالت

" أجل هو ابن عمي "

رفع نظره لها وأخرج شيئا من درج في طاولته
رماه أمامها وكان هاتف محمول أسود اللون وقال

" وأنتي من يسجلك في هاتفه بتؤمة القلب "

شعرت بقالب ثلجي وقع على قلبها
وهربت بنظرها حياءً منه وهمست

" لا أعلم هوية المسجلة لديه , الهاتف له هو وليس لي "

قال من فوره

" لكن شريحة الرقم المسجل تحت هذا الاسم أنتي
مالكها الأصلي والرسالة التي وصلته ليلة البارحة
منك وتعلمين بالتأكيد ما يكون فحواها "

رفعت نظرها له وكانت ستتحدث فاتسعت عيناها
بصدمة توقفت معها أنفاسها حين تابع قاطعا
أي مجال لها للحديث

" وصاحب هذا الهاتف تعرض لحادث مدبر فجر اليوم والمعلومات عن السبب لديك بالتأكيد "


*
*
*


عبر بسيارته تتبعها سيارة حرسه الشخصي
من البوابة الواسعة والحراسة المشددة حوله
الرجال بزي الجيش وأسلحة رشاشة لا تفارق
أكتافهم ولم يعترض عبوره أي أحد منهم حتى
وقفت سيارته عند باب مبنى المقر الواسع
بطوابقه المرتفعة ونزل منها ضاربا بابها بقوة ,
وبإشارة من يده أوقف من كانوا يريدون الدخول
خلفه فلا يريد حماية هنا ولا مرافقين .
اجتاز ممرات المقر العسكري تلحقه بعض نظرات
الجنود المستغربة ليس لأنه بزي مدني ولا لأنه
يعرف طريقه فيه دون أن يدله أحد فهو يحفظ هذا
المكان منذ كان ابن العشرين عاما ورغم تطويره
والتجديد فيه على مر السنوات إلا أن أروقته وحجراته
لازالت كما هي كأكبر مركز للجيش في الجزء الغربي
من البلاد حيث ما كانت تعرف سابقا بمدن وحدود صنوان ,
بل تبعته بعض النظرات المستغربة من وجوده هنا
لأول مرة منذ أمسك والده حكم البلاد وحتى بعدما أصبح
عضوا في البرلمان الحاكم , طرق أحد الأبواب المغلقة
وفتحه لتنتقل أعين الجالسين في الداخل له ووقع نظره فورا
على الجالس منتصف المكان متوسطا جلستهم بلباسه العسكري
الذي دمج اللونين البني مع الرمادي يضع ساق على الأخرى
ويمسكها بيده من فوق الحذاء الأسود الطويل , بلغ الواحدة
والأربعين الآن ولا يره إلا يتراجع للوراء ولا يعلم جنونه هذا
متى سيتوقف وأين سيصل , قال ولم يزح نظره عن عينيه

" عذرا هل لي بالاختلاء لدقائق مع شقيقي "

وقف حينها الرجال الخمسة وخرجوا في صمت
وقال الجالس هناك بابتسامة مائلة

" مرحبا يا رعد , ما هذه الزيارة المفاجأة
والتي لا أعتقد أنها ودية أبدا "

أغلق رعد الباب وقال بجمود

" هل أفهم سبب ما يجري وتفعله يا جبران ؟
آخر ما أتخيله أن يكون أحد أبناء شراع صنوان
واحد ممن يجرون البلاد للفوضى والدمار "

وقف حينها على طوله وقال بحدة وأعصاب مشدودة

" لا تتهمني بشيء لا يد لي فيه فأنا لست من قتل
والدي ورماح ولا من حاول قتلك , إنهم الحالك
كنت أعلم أنهم لن يصمتوا طويلا بعد مافر
زعيمهم المزعوم وتركهم , هم وراء كل ما حدث
حتى اليوم ولن نقف نتفرج حتى يبدءوا بتصفيتنا
واحدا بعد الآخر
فعمليات الاغتيال والاختطاف الأخيرة كانت
لشخصيات مهمة في الجيش والشرطة وبعض
المسئولين وجميعهم رجال من صنوان والهازان
فمن سيكون وراء ذلك غيرهم
وهم من بدءوا الآن بوضع الحواجز حول مدنهم .
لن نقف نتفرج عليهم , ونحن الآن في صدد جمع أكبر
قواتنا لنحمي أنفسنا وعائلاتنا قبل أن نجد أسلحتهم
موجهة لأعناقنا "

صرخ فيه بغضب ملوحا بيده

" هراء ... لن اصدق أن من وقفوا مع والدي بداية
توحيد البلاد وبنوها حجرا حجرا أن يفعلوا الآن
ما تقوله , مشاكل البلاد بدأت من قبل أن يتحرك رجال
الحالك أو لنقل رجال مطر شاهين في الماضي ,
وما كان ما فعلوه إلا رد فعل على ما يجري .
فلا تسحبوا ضعاف النفوس معكم وترجعوا بالبلاد لما
كانت عليه فلن يكون ثمة خاسر غير الشعب ..
لا أنت ولا هم ولا من يدعمون أمثالكم من الخارج والداخل "

كتف يديه لصدره وقال ببرود

" سر خلف شعاراتك هذه حتى تجد نفسك أنت خارج
البلاد أو جثة مرمية على قارعة الطريق فلازلتم على
ما يبدوا منخدعين بذاك الرجل المسمى مطر شاهين ,
أقسم أن يكون هو وراء كل هذا ليحكم البلاد وقل جبران
شراع قالها يا مغفلين , وها هم الحمقى ينادون باسمه
في مظاهراتهم وحدث ما يريد هو وأمثاله "

حرك رعد رأسه بعدم تصديق هامسا

" لو كان والدي حيا أعلم ما كان فعل لك "

ابتسم الواقف أمامه بسخرية أقرب للمرارة وقال

" فعلها وطردني من قبل موته ومن أجل مدللته
العزيزة تلك , وبنفسه من نصبني قائدا لجيش المنطقة
الغربية ثم نعتني بالطفل والإمعة من أجل بطلكم ابن
شاهين طبعا , رجل مزبلة التاريخ ومن سيُفتضح أمره
للجميع قريبا وبالدليل القاطع "

مرر أصابعه في شعره وتنفس بعمق ، لا يستطيع
استيعاب كل هذا السواد الذي أصبح يغلف عقله
وأفكاره والحقد الذي تحول لطوفان سيدمر كل ما
بنته الناس بشقائها وتعبها , بل وأول من سيدمر
به نفسه , قال بمزيج من الضيق والحنق


" لا تجعل كرهك الشخصي لذاك الرجل يتحول
لكره للحالك بأجمعها يا جبران , لا ذنب للبلاد
وشعبها فيما بينكما , دمرت نفسك بسبب امرأة
فلا تدمر البلاد أيضا من أجل الانتقام "

صرخ فيه من فوره

" أنا لا آبه لامرأته الغالية تلك التي رماها خلفه
معلقة كالجارية ، لكني له وسيموت ويتحطم على
يداي قسما وأنا ابن شراع "

رفع رعد يديه وقال بسخرية

" وتقول أنك لا تأبه ؟ لما تنتقم منه إذا ؟
ولما تحقد عليه بهذا الشكل !
لا تقل أنه وراء موت والدي ورماح أيضا ؟
تلك سخافة لن يصدقها أحد
وأنت رجل جيش وتعرف ذلك جيدا "

عاد للجلوس مكانه وقال بحقد شع من عينيه
البنيتان كألسنة من نار

" رجاله وهو واحد هم تربية يديه يحملون أفكاره
وتسري فيهم مجرى الدم وهم وراء مقتلهما
ولن تخضع صنوان لحيلهم مجددا "


قال رعد من بين أسنانه وقد وصل الغضب به
لأقصى حدوده من أفكاره تلك

" لا أريد للتاريخ أن يعيد نفسه كما حدث مع رماح
يوما وأرفع أنا سلاحي في وجهك قريبا لأني
سأقتلك دون تردد حينها ولن أندم يوما وإن
مت في السجن "


رفع الجالس مكانه ذقنه وقال بلامبالاة

" حينها أنا من سيفعلها قبلك وأعدك أن لا أموت في
السجن ولن أدخله من أساسه "


حرك رعد رأسه معلقا بسخرية

" لن أستغربها منك وأنت من كاد يفعلها
مع رماح سابقا وكذبت وزورت الحقائق
ودمرت حياة التي تزعم أنك تحبها !
ولن أستغرب أيضا أن تكون أنت هدف
مطر شاهين بسبب فعلتك تلك التي اجزم
بأنه لم ينساها لك ويغذي حقده كما تفعل أنت تماما ,
ولو علمت غسق لكرهتك باقي عمرها "

تمتم شيئا لم يفهمه قبل أن يقول بنزق

" ستكرهني أكثر حين يموت حبيبها ذاك فلا فرق عندي "

هز رأسه متنهدا باستسلام ثم فتح باب الغرفة
وقال مغادرا

" لا تلم إلا نفسك إن أصبحت مسجونا
بتهمة الخيانة قريبا "

وغادر من هناك قلبه ينزف ألما على شقيقه
الذي سجن نفسه لأعوام في حقده حتى تحول
لوحش سيطر عليه وأصبح على استعداد لنسف
كل شيء مقابل التنفيس عن ذاك الحقد ,
يعلم جيدا أنه سيكون خاسرا بما يفعل
وأن مطر شاهين لن يفصله عن تحطيم أحلامه
السخيفة هذه وقبلها عظامه إلا رجوعه
للوطن ليكون أول من سيقتص منهم
عن الحاضر والماضي،ويخشى فعلا من
ذاك اليوم الذي أصبح لا يراه بعيدا أبدا

*
*
*

استقام في وقوفه ومسح جبينه المتعرق رغم
انخفاض الحرارة فالشمس أطلت عليهم اليوم
من خلف السحب الكثيفة طيلة الأسبوع الماضي
وكان عليهم طبعا إنهاء العمل في مزرعتهم
الخاصة وعليه تحديدا إنهاء مهمته في مد خط
أنابيب الري الجديد بمساعدة والده وعامل وحيد
رفض استئجار غيره كالعادة , فكان عليه أن
يكون أيضا مزارعا زيادة على هندسة الزراعة
التي درسها مجبرا ولا يحق له الاعتراض لكي
يتحقق طبعا حلم والده بتحويل الجزء الشمالي
والأكبر من المزرعة لحقول مقسمة من أجل
زراعة الخضروات الموسمية , حلم لم يسبق
لغيره في هذه المنطقة التفكير فيه وسيقع على
عاتقه هو طبعا تحقيقه ... حلم عليهم هم دفع
الكثير من أحلامهم للهاوية لكي يتحقق .
نظر يسارا حيث الجالسة على الأرض عند
أحد أحواض الأشجار تسوي من تربته
التي انجرفت بسبب الأمطار الأخيرة
وتنهد بحزن فلا يكسر قلبه ويدميه سوى
هذه الفتاة التي فوق اعتنائها بمواشيهم
وكل ذاك العدد الكبير من الدجاج وأعمال
المنزل .عليها أن تساعد أيضا في هذه
المزرعة البائسة ولا يحق لها الاعتراض
ولا يراها تحاول فعل ذلك أساسا ,
وتلك حسنتها الأعظم فهو يعلم أن حديثها
واعتراضها لن يزيدا وضعها إلا سوءا ,
عاد لضرب الأرض بالفأس بقوة
يفرغ فيها غضبه الذي لا يستطيع إخراجه
ولاإخماده ، ما هذا الظلم الذي تلقاه
الفتيات في المزارع هنا؟
بل يرى أن شقيقته لا تحضى ولا بجزء
مما يتمتعن به من حقوق , لا دراسة
لا أوقات راحة لا خروج من المنزل
ولا في المناسبات والأعياد ، حتى خالهم
الوحيد لم يتدخل من أجلها يوما
ويلتزم الصمت لا مبالي ، بل حتى هو
شقيقها يقف عاجزا أمام والدهم المتسلط
صعب الطباع الذي تحكّم حتى في مصيره
هو الرجل وقراراته فكيف بها هي الفتاة ؟
ومن هذا الذي يستطيع أساسا مناقشته
في أمرها والجميع يتجنب غضبه المشتعل
لأبسط الأسباب وعصبيته الدائمة

. " يمــــــــااامة "

رفع نظره سريعا ولازال يرفع الفأس المثبت في
قبضتيه القويتين ونظر جهة والده الذي قال بقسوة

" تحركي خالتك تناديك من هناك أم أصابك الصمم ؟ "

شد بقبضتيه أكثر على خشب مقبض الفأس ونظره
على التي وقفت من فورها تنفض التراب الرطب
العالق في يديها قائلة بنبرتها الهادئة

" حاضر أبي ذاهبة لها حالا "


وكان ذلك ما فعلته فورا وهي تسرع راكضة جهة
المنزل المتواري خلف الأشجار ، طبعا كي تصل
بسرعة ولا تزعج تلك المرأة أحبالها الصوتية أكثر ،
وما هي إلا لحظات وعادت راكضة كما غادرت
وتوجهت جهة الطفلين التوأمان اللذان يلعبان في
التراب المشبع بأمطار الأيام الماضية وأخذتهما من
هناك رغم اعتراضهما الشديد الذي وصل لأن ضربها
أحدهما بقدمه باكيا وهي تسحبه بالقوة ، أبعد نظره
عن كل تلك الجهة وذاك المشهد وعاد لضرب الأرض
بفأسه بقوة متمتما بقهر

" أجل فعليها إدخالهما للحمام وتغيير ملابسهما
وغسلها فورا وإطعامهما وكأنه لا والدة لهما "

كانت كل ضربة للأرض بفأسه تخرج من صميم غضبه
من نفسه قبل كل شيء ويلحقها أنفاسه القوية الساخنة ،
هو على استعداد لتحمل ما يأتيه من هذا الرجل حتى
تدميره لمستقبله وهو يدخل تلك الكلية المتدنية المستوى
ولا يكون مع أقرانه ومن هم في مثل مستواه الدراسي
الممتاز لكن شقيقته ما ذنبها في تحمل كل هذا وهي في
هذا السن ؟ لا حل أمامه سوى إخراجها من هنا وترك
هذا المنزل والمدينة للأبد ، لكن أين سيذهب بها فلا
عمل لديه حتى الآن رغم شهادته بدرجة امتياز كمهندس
زراعي فهذه المهن احترف فيها الناس منذ نشأتهم مما
جعلهم مستغنيين عن أمثاله , وإنشاء عمل خاص به في
هذا التخصص يحتاج للمال , أومكتب خاص وكلاهما أمر
مستحيل ووالده لا يمكنه ولا طرح الأمر عليه

" يمـــــــــــااان "

كان الصوت هذه المرة رجوليا أيضا لكنه لم يكن صوت
والده الخشن الحاد بل صوت شبابي لين ، وقف على طوله
ونظر حوله ليكتشف حينها فقط أن والده لم يعد هنا ولا
العامل أيضا ، نظر جهة الذي أعاد النداء مجدد ملوحا بيده
من خلف الأسلاك الشائكة البعيدة التي يرسمون بها
حدود مزرعتهم الواسعة ثم رمى الفأس من يده وتوجه
نحوه يمسح جبينه وعنقه بالقطعة القماشية التي كان
يربط بها رأسه ، وصل عنده ورفع يده لليد التي كان
يرفعها له الواقف مقابلا وضربا كفيهما ببعض وقال
أبان مبتسما

" هكذا إذا ؟ تزيد من لياقتك بالعمل هنا أوقات الفراغ
يا محتال ، كنت أخبرتني دربت عضلاتي معك "

ابتسم يمان ابتسامة خالية من أي مرح فما لا يعلمه
الواقف أمامه ولا يريد هو الحديث عنه أنه عامل في
هذه المزرعة ومنذ سنوات وليس تمرينا ما يقوم به الآن ،
تمتم ببرود

" وما يفعل شخص مثلك بالتمارين من هذا
النوع وأنت عضو في نادي رياضي ؟ "

أمسك أبان العمود الحديدي القصير تحته والمستخدم
لتثبيت الأسلاك وثبت حداء قدمه اليمنى على السلك
العلوي وقفز قفزة عالية ليصبح في لحظة واقفا أمام
صديقه المقرب وقال ينفض يده مما علق بها

" هذا النوع من التمارين مختلف وشيق وفي الهواء
الطلق أيضا ، وأخبرني أنت الآن ما بك تترك
هاتفك مقفلا ؟ أحاول منذ الأمس وبلا فائدة "

حرك كتفيه قائلا

" لقد تعطل ... أخذته لمحل تصليح وقال أن عطله
يحتاج لثمن هاتف جديد فاستغنيت عنه , لذلك عليك
أن تأتيني هنا كلما أردت مني شيئا "

أمسك وسطه بيديه وقال

" أشتري لك هاتف هدية أيسر من قدومي هنا لك كل يوم "

طوى يمان قطعة القماش ودسها في جيب بنطلونه هامسا

" وأنا لن أقبل هديتك وأنت تعلم ذلك جيدا "

مد أبان يده لجيب بنطلونه واستلها منه وقال وهو
يحاول ربطها على رأسه كما كان يمان يفعل

" هكذا جيد , والآن لنقم بالإحماء معا "

تنفس الواقف أمامه بقوة وقال ولا حل آخر
أمامه غير قول الحقيقة

" أنا أساعد والدي هنا في المزرعة
ولست أمارس الرياضة "

ضربه على كتفه بخفة وقال مبتسما وهو يتوجه
للجهة التي جاء منها

" رائع إذا سأساعدك ونتحدث فيما قطعت كل هذه
المسافة من أجله فقد تمكنت من الوصول لذاك
الرجل أخيرا "

سار يمان خلفه قائلا

" حقا وصلت له وتحدثتما معا !! "


*
*
*

مرت الساعة الأولى ولحقتها الثانية , والثالثة
تكاد تنقضي أيضا وهي جالسة على ذات الكرسي
يحاصرونها بالأسئلة التي لا تنتهي وقد لحق به
ضابط آخر جلس أمامها مباشرة بل واستدعوا
عمها أيضا حين رفضت قول غير الذي قالته
وبأن برآء أخبرها عن رسالة وتهديد مجهولين
ولم تخبرهم أن أسمها ورد في تلك الرسالة
خاصة أنهم لم يجدوها في هاتفه ، لكن حديثها
يبدوا لم يقنع الجالس خلف الطاولة , وآخر تهديد
له كان برميها في السجن تحت التوقيف إن هي
لم تتحدث بكامل الحقيقة ، صرخ عمها من خلفها

" قولي الآن ما يريده منك ، أقسم إن دخلت السجن
أن لا تدخلي منزلي من جديد , وعمك رجب
ما أن يستعيد ابنه وعيه سيكون هنا وهو يتوعدك
بما لا تتخيلينه "

ضمت نفسها بذراعيها وابتسمت بمرارة
فالمنزل منزلها وباسمها ذاك الذي ينسبه
لنفسه ، وعمها ذاك لن يكون أقسى عليها
من شقيقه ، هي تعلم ما يتمناه الواقف خلفها ,
أن يثبت أن تيم وراء كل هذا ويكسب قضيته
في المحكمة , قال الجالس خلف طاولة
المكتب وبنفاذ صبر

" لعلمك فقط إن مات ذاك الشاب فلن يخلصك من
القضية وقتها ولا اعترافك بكل شيء "

غطت عيناها بكف يدها ونزلت الدموع التي
لم يعد يمكنها التحكم بها أكثر فلا ينقصها
هموم وضغوط نفسية بعد ,
يكفيها ما علمته من ذاك المحامي ثم جلبها هنا ..
والآن عليها أن تعترف عن أشياء إن علم بها
الواقف خلفها لن يرحمها فوق قهره لها وستضر
حتى ابن عمها معها إن شاع ما كان يريده ومصمم
عليه ، قال الجالس مقابلا لها وببرود

" البكاء لن يخرجك من هنا "

رفعت رأسها حينها ورمت يدها جانبا
وقالت بغضب باكي وهي تخرج من هدوئها
لأول مرة منذ دخلت هنا

" ألا رحمة في قلوبكم أبدا ؟ أنا لا أبكي استجداءً
لرحمتكم فكل واحد منكم أقسى من الآخر "

صرخت بألم حين شدت تلك اليد شعرها للخلف
بقوة ارتفع معها وجهها للأعلى حتى شعرت بأن
عنقها سيتحطم وصرخ عمها من فوقها

" قسما يا نجسة إن لم تلزمي حدودك وتقري
بالحقيقة أن أدفنك هنا قبل خروجي "

وزاد من شده له حتى كانت تشعر به يتقطع
بين أصابعه والدموع تتدفق حارة من طرفي عينيها ,
والموجودان معهما لم ينطقا بأي حرف وكأنهما
يشجعانه على تعذيبها لتعترف ، رفعت رأسها
أكثر لتخفف من ألم شده لشعرها رغم أن ذلك
لا يزيدها إلا تحطما في عنقها وكتفيها ودموعها
ترفض التوقف رغم كتمها لبكائها وآلامها ، همست
بوجع وخفوت لم يسمعه غيرها


" سامحك الله يا تيم لمن تركتني بعدك ؟ "

انفتح حينها باب الغرفة دون طرق ودخل منه شاب
ببذلة رسمية سوداء أنيقة وقميص رمادي ومشية
واثقة لم يتردد خطوة حتى وصل للجالس خلف
الطاولة ومد له ببطاقتين قائلا

" هذا اسمي والأخرى من طرف من أتيت
فاعتبرني محام لها أو ما في البطاقة
الأخرى كلاهما سواء "

توجه بعدها ناحيتها وبقبضة من أصابعه القوية
على رسغ اليد التي لازالت تشد شعرها دون رحمة
أجبره على تحريره من بين أصابعه ودفع يده جانبا
بقوة قائلا

" وإن كنتم تريدون شراء صمتي عما يجري هنا
الآن فأخرجوا هذا الرجل من المكان حالا "

كان الذي ابتدأ يشتعل غضبا ويمسد رسغه
بأصابع يده الأخرى سيتحدث ويصرخ كعادته
لولا أسكتته تلك الكلمات الآمرة

" أخرج من هنا "

فنظر بضيق للجالس خلف الطاولة وصاحب
ذاك الأمر الذي لن يستطيع مناقشته فيه ثم نظر
للجالسة على الكرسي تحته يخفي وجهها الشعر
البني الذي انسدل عليه بسبب إنزالها لرأسها
مخبئة عينيها ودموعها الصامتة في كفها
وحاضن همومها الوحيد ، وها هي تعيش الإذلال
تلو الإذلال ولم يبقى أحد من البشر لم يشهد عليه ،
رفعت رأسها تمسح عينيها بقوة ما أن سمعت
صوت الباب الذي ضربه عمها خلفه وهو خارج
ووصلها صوت الذي أصبح واقفا خلفها جادا
حازما وواثقا من أن ما سيقول لا نقاش فيه

" ستغادر موكلتي الآن وأنا من سيهتم بالأمر ،
وإن احتجتم لأقوالها في شيء سأرافق أحدكم
لمنزلها ... وباللباس المدني طبعا "

وقفت من فورها والتفتت له بكامل جسدها
ونظرت له بعينان محمرة مجهدة ونظرة تنطق
غضبا وقهراً وقالت موجهة سهام نظراتها لعينيه

" أنا أرفض أن تكون محام لي وأخبر من أرسلك
أني في غنى عنكم "

لم يحتج الأمر كثيرا لتفهم من أين جاء هذا الشاب
وثقته الكبيرة بنفسه وإلجامه لضباط الشرطة وكأنه
رئيسهم ، لقد سئمت من كل هذا ... تعبت من مطاردة
خيال رجل يظهر لها في أشخاص يخرجون من العدم
ليتحكموا في مصيرها
( المحامي الذي حارب عمها ومحاميه بشراسة
ليطعن في قضية الخلع التي يرفعانها ثم مبعوث
الوزارة الذي مرر أوراق قبولها في الجامعة
والآن خرج لها هذا )
وكأن الجدران تتنصت عليها وتنقل ما يجري معها
ليتدخل هؤلاء الأشخاص متى ما أرادوا هم فقط
وممنوع عنها طبعا السؤال عن أي شيء وممنوع
عليهم تقديم أي إجابات لها مهما سألت ، رفع ذقنه
بثقة وقال بتصميم محارب

" أنا هنا مكلف بمهمة محددة وهي إخراجك
من هذا المكان فورا وليس لأخذ رأيك بالأمر ،
والموجودان هنا يعلمان جيدا أن كل ما عليهما
هو التنفيذ أو خسرا رتبهما قبل صباح الغد "

نظرت لهما فورا فكانا ينظران لها في صمت
مبهم مميت فعلمت فورا أن هذا الرجل يقول ويفعل
وهما يبدوا يعلمان ذلك جيداً من البطاقتين اللتان
سلمهما لهما ، لكنها لا تحمل أي رتبة تخشى
أن تخسرها بل لم يعد لديها أي شيء تخسره ،
كانت ستتحدث لولا انفتح الباب مجددا وكان
الداخل منه هذه المرة ابن عمها برآء يمسك
كتفه الذي يبدوا مصابا وقد خطى للداخل
بصعوبة يسنده شقيقه الأصغر منه ، نظر
لها أولا ثم نظر للضابطين قائلا بصوت ضعيف

" أنا بخير وأتنازل عن البلاغ الذي قدمه والدي ,
وماريه لا علاقة لها بكل هذا "

*
*
*

كانت أحاديثهما وضحكاتهما تتسرب مع نسمات
الهواء البارد وهما في عمل مستمر يتبعان الخطوط
المرسومة على الأرض بفأسيهما ، يعرف الكثير
عن تواضع صديقه هذا لكنه لم يتخيل يوما أن لا
يشمئز أو يتذمر ما أن يعلم بعمله بنفسه في أرضهم !!
والأغرب من ذلك كله أن يقرر مشاركته العمل ويحفر
معه الأرض بثيابه الفاخرة الأنيقة هذه دون حتى
أن يهتم للأتربة التي أصبحت تعلق بها والتراب
الملطخ بالماء الذي يتناثر على قماش بنطلونه غالي
الثمن كلما ضرب فأسه في الأرض ، انسجما في
الحديث والضحك حد أنهما لم يشعرا بالخطوات التي
اقتربت منهم حتى قال صاحبها

" من هذا يا يمان ؟ "

فاستقاما كليهما ينظران لصاحب ذاك الصوت الخشن
والواقف أمامهما عاقدا حاجبيه ويداه تمسكان وسط
جسده ونظره ينتقل بينهما ، بشعر رمادي تغلب فيه
لون الشيب على السواد بقليل وعينان رماديتان
وكأنهما قطعة من ذاك الشعر ، مد أبان يده له وقال
مبتسما ليخفف من حدة الموقف وغضب الواقف أمامه


" مرحبا يا عمي ، اسمي أبان أيوب الشعاب وأنا
صديق قديم ليمان ، آسف على دخولي دون إذنك ...
الخطأ كان مني "

نظر لملامحه وثيابه لوقت قبل أن يمد يده
مصافحا له وقد لانت ملامحه قليلا وهو يقول

" أنت ابن عائلة بلال الشعاب ووالدتك تكون
شقيقة الزعيم مطر شاهين ؟ "

أومأ بنعم قائلا

" أجل أنا حفيده ومطر شاهين يكون خالي "

ابتسم ابتسامة لم يتخيل يمان أن يوجهها والده
يوما لأحد أصدقائه ولا حتى له هو ابنه فأشاح
بوجهه وعلى ملامحه نظرة ضيق فقد كره أن
ينظر للأمر من ناحية مادية بشعة دون حتى أن
يعلم إن كان هذا الصديق حسن طباع أم مجرم
يتعاط المخدرات ، قال شادا على يده

" زارتنا البركة إذا ، وكنت دخلت المجلس لما تقفان هنا ؟ "

وهذه كانت أقسى على ابنه من سابقتها وهو من
حذره سابقا من جلب أصدقائه لمجلس منزلهم
والسهر فيه !! سحب أبان يده منه قائلا برحابة

" جئت لأتحدث مع يمان في أمر وأحببت
أن أساعده ونحن نتحدث "

ربت بيده على ذراعه ثم نظر للواقف بجانبه
وقال وقد عاد لأسلوبه الجاف

" كنت أريدك أن ترفع عمود الساقية معنا هناك "


وغادر دون أن يضيف شيئا ليفهم أنه عليه
اللحاق به , كان سيتحدث فقاطعه أبان قائلا

" لا بأس سأغادر أنا الآن وأراك في وقت لاحق "

وكان سيغادر لولا أوقفه قائلا

" لكننا لم نتفق بعد على مشوارنا القريب ولن أستطيع
التحدث معك عبر الهاتف فانتظرني هنا قليلا وأعود لك "

وغادر دون أن يترك له مجال للاعتراض ولا
الحديث فحرك كتفيه ورفع الفأس مجددا وعاد
لضرب الأرض به مبتسما وهو يتذكر تعليقات
يمان على اعوجاج الخط الذي حفره وتفكيره
بأكمله معه ومع الطريقة التي سيجعله بها يقتنع
بكلامه ويغير سير مستقبله بعدما تخرج من كلية
الزراعة تلك , فهو أكثر من يعرف أنها لم تكن
طموحه ولم يكن يفهم سر اختياره لها فجأة !
واليوم بل والآن فقط خمن السبب والذي سيكون
ذاك الرجل بالتأكيد خاصة بعدما رأى بعينه عمله
هنا بيديه لذلك عليه أن يقنعه بأي طريقة بأن يقبل
مساعدته رغم أن أمله أصبح يتراجع بعدما تقابل
وذاك الرجل ، نزل مستندا بقدميه ليخرج حجرا
اعترض حفره وما أن مد يده له شعر بذاك الثقل
الذي سقط على ظهره حتى ظن أن شقيقته الصغيرة
المشاغبة تلك لحقت به هنا لولا أن هذا الوزن أثقل
منه ، ومن دون أن تتاح له فرصة ليتحدث أو يتحرك
التفت تلك الذراعان النحيلتان على عنقه ودخل ذاك
الصوت الراجي لأذنه مباشرة يشعر بأنفاسها الدافئة
تداعب طرف وجهه


" يمان أعطني هاتفك المعطل .
أنت لم تعد تريده أليس كذلك ؟
أعطني إياه وإن كان لا يعمل "

سند جسده بيده الأخرى أيضا وأمسك ضحكته
ما أن عرف هوية التي انقضت عليه فجأة , ومن
غيرها تحب اللعب بالأشياء المتوقفة ؟ ولأنه له
نفس طول شقيقها ويلبس سترته بعدما تبادلا
سترتيهما وهما يسترجعان ذكرى أيام مراهقتهما
ولأن شعره يخفيه بقطعة القماش الملتفة على رأسه
لن يستغرب أن تخلط بينه وبين شقيقها ، أمسك تنفسه
وعض شفته بقوة حين شعر بشفتيها على خده وقبلتها
الطفولية الطويلة وقد قالت برجاء أكبر

" أرجوك يمان أرجوك أرجوك أرجوك "

خرج صوته بضحكة صغيرة ونفس مسحوب

" سأعطيك هاتفي أنا فقط ابتعدي عن ظهري
قبل أن يصبح وجهي في التراب "

اختفى حينها ذاك الجسد من فوقه في لمح البصر
وسمع تلك الشهقة العالية فاستدار جالسا على
الأرض مسندا يديه للخلف على التراب الرطب المحفور
ونظر لها ولازالت فاغرة فاها الصغير جدا تنظر له
بصدمة وكأنها تريد التأكد فعلا من أنه ليس شقيقها ،
بينما ابتسم هو ابتسامة مائلة ينظر لملامحها وقد
ربطت منديلا خاصا فوق رأسها مما أبعد تلك
الخصلات البنية المتشابكة والمجنونة عن وجهها
وبرزت أكثر عيناها الرمادية الواسعة وطرفاها
الناعسان الواضحان الآن ، رفع يده وفرقع بأصبعيه
وأشار يسارا قائلا بتسلية

" شقيقك قادم من هناك الآن وسيقص
جناحيك أيها الطائر الصغير "

فلم يشعر إلا بالتراب ينهال عليه وهي ترميه به
بعد غرفه بقبضتيها من الأرض قائلة ببكاء
وهي ترفس بقدميها

" أنا من سيخبر يمان عنك وسترى "

خبأ وجهه خلف ذراعه متجنبا التراب المتساقط
عليه كرذاذ المطر وكان ضحكه المتواصل قد أنهك
قواه للمقاومة أو الوقوف وقد قال من بين ضحكاته

" تخبريه عن ماذا يا حمقاء ؟
عن كسرك نظارتي والعبث بأغراض سيارتي
أم عن احتضانك لي وتقبيلي ؟ "

رمت عليه آخر حفنة تراب في يدها وغادرت
من هناك راكضة على صوت مناداته لها ضاحكا
والتي جعلت ركضها يزداد خوفا


*
*
*

بدأ بأخذ حاجياته الخاصة ورميها في الحقيبة تحته
والتي قد رتب فيها ثيابه سابقا ، يخرجهم من الخزانة
ويرميهم فيها بعشوائية وجل تفكيره في الرحلة التي
وكلت له قبل رجوعه للبلاد , هي ليست أول مرة
يتعاونون فيها مع شخصيات مهمة في فرنسا لكن
أن يكون هناك وحده ودون أن يفعل شيئا غير الانتظار
لأيام قبل اللحاق بهم أمر غريب !! ولا يحق له السؤال
فالإجابة ستكون ذاتها ( دواعي أمنية لرجوعهم للوطن )

" لا تضع كل شيء بداخلها فرحلتك بعد يوم تقريبا
وستضطر لفتحها كل حين لأخذ شيء منها "

نظر خلفه حيث الجالس على طاولة السرير يسند
إحدى قدميه بمقبض درجها الحديدي ويثبت الأخرى
على الأرض ثم عاد بنظره لما يفعل وتمتم ببرود

" لما لا تتركني وشأني ؟ تقف على رأسي وكأنك والدتي "
ضحك ذاك من فوره وقال

" لو كنت والدتك لسافرت معك , سأفتقدك حقا
يا قاسم وعلي أن أبحث عن رفيق جديد يدفع معي
إيجار الشقة , وعلي أيضا أن أبحث هذه المرة عن
واحد ليس جلفاً مثلك "


ضرب غطاء الحقيبة بقدمه مغلقا لها وجحده بنظرة
جانبية قائلا ببرود

" لعلمك فقط أنا من سكن هنا قبلك ومن سمح لك
بمشاركتي المكان , ولولا طلب زوج والدتك ما وافقت "


قفز ذاك واقفا على قدميه
وقال ضاربا كتف الواقف أمامه
" بل قل تيم من طلبها منك لأنه كان الهدف الأساسي
وهو رماني معك هنا ليرفض طلب عم والدته بشكل
غير مباشر "

التفت له وقال وهو يمسك خصره بيديه

" لا أعلم أنتم لا تفهمون تيم أم ترفضون ذلك ؟
إن كان باستطاعة تيم أن يستقبل أحدا للسكن معه
دون أن يثير الشكوك حوله بسبب عمله في المنظمة
لكان أنا أول من فعلها , وزوج والدتك لم يحاول إلا
إحراجه بذلك لرفضه فكرة أن تيم يرفضهم بالكلية "

حرك الواقف أمامه رأسه متمتما

" أفكاركم أنتم العرب غريبة !
وزوج والدتي وابنته ساندرين أكبر مثال ،
ولا أستثنيك وتيم أيضا بالطبع "

نزل لحقيبته وقال وهو يغلقها

" وهذه وجهة نظرنا حيالكم أيضا ,
أي أنه كل واحد منا في نظر الآخر
صاحب أفكار ومعتقدات غريبة "

ووقف ما أن انتهى على صوت الواقف خلفه
قائلا بهدوء

" لا أفهم سبب طلب الزعيم سفرك أيضا معهم ؟
لما أنت فقط من أفراد المجموعة ؟ "

دار بكامل جسده له وقال

" قد يكون السبب أني من عائلته وإن كنت ابن
عمته فقط فأكثر ما يتوجس منه الزعيم مطر
هو كشف هويته التي عاش بها هنا ما أن يصير
في البلاد هناك وسيكون المتضررون حينها
أنا وخالي دجى في المقام الأول لأننا الأقرب له
هنا ولا قيود لتحركاتنا معا طيلة أعوام ,
هذا هو السبب الوحيد برأيي "

رفع حاجبيه وعلى وجهه علامات عدم الاقتناع قائلا

" لا يبدوا لي سببا مقنعا ! "

وتابع يراقب الذي عاد لتفتيش الخزانة والأدراج

" ما أعلمه أن له ابنة ، هل ستسافر أيضا ؟ "

قال المنشغل بالبحث في آخر درج

" وأنا مثلك لا أعلم إلا أنها موجودة ولا معلومات
لدي عنها إطلاقا ومؤكد سيأخذها معه , لمن
يتركها هنا برأيك وحتى عمه سيلحق به قريبا ؟ "

قال وهو يراقبه يستوي واقفا

" وما ستفعل بشأن رجوعك هناك ؟ ماذا رتبت للأمر؟
فما أعلمه أن والداك متوفيان ؟ "

قال وهو يفتش محفظته ودون أن يلتفت له

" ترك لي والدي بعض الأملاك فعائلته كبيرة
ومعروفة في جنوب الحالك , ثم لا تنسى أني جمعت
مبلغا لا بأس به من عملي هنا ، والزعيم مطر قال
بأنه سيرتب جميع أموري قبل أن أصل لأنه سيكون
هناك قبلي بأيام , ولا أفهم أي نوع من الترتيبات تلك
يعني ولم أسأل "

شعر بتلك الوكزة من أصبع الواقف خلفه في وسط
ظهره ووصله صوته بنبرته الماكرة

" وتلك الفتاة ألم تجدها قبل سفرك ؟ "

التفت له وقال بضيق وهو يبعد يده

" يكفيك تسريبا للشائعات , لقد أعلمت الجميع عنها
وحولت الأمر لفضيحة , كان الخطأ مني فما كان عليا
الاتصال بك لأخذها من هناك "

ضحك الواقف أمامه ثم غمز له قائلا بذات مكره

" وما الذي كنت تفعله قبل يومين
قرب ذاك الملهى الليلي ها ؟ "

لكمه في معدته شاتما له بغيظ لكمة جعلته ينحني
ضاحكا ثم قال وهو يغادر الغرفة ومن قبل أن يعلق ذاك

" أمامي عشرة أيام في باريس ولم أنهي من ترتيبات
الأمر شيئا فوداعا الآن "

وغادر الغرفة وباب الشقة خارجا منه ووقف مكانه
وهو يغلق بابها ينظر للذي كان سيضع إصبعه على
جرس الباب للتو وقد سند يده على الجدار والأخرى
يدسها في جيب بنطلونه مميلا وقفته قليلا ينظر له
بابتسامة مائلة وتمتم ما أن وقع نظره على عينيه

" كنت تريد المغادرة دون توديعي يا قاسم ؟ "

ترك ذاك باب الشقة وتوجه للوقف بقربه من فوره
وتعانقا فورا , عناق رجل لرجل صديق لصديق
وصاحب لصاحبه فهذا بالفعل الشخص الذي سيفتقده
بعد رحيله من هنا ( تيم شاهر كنعان ) الشخص الأقرب
له بين الجميع هناك , ضرب بقبضته على ظهره هامسا

" كنت سأمر بك الآن فهل تتخيل أن أغادر
دون أن أودعك يا كنعاني "

ابتعد عنه وضرب فكه بيده ضربة خفيفة
وقال ناظرا لعينيه

" اعتني بنفسك يا قاسم , البلاد في حالة فوضه
فلا تستهن بالأمر يا صديقي "

ابتسم له وأمسك كتفه بيده وشد عليه قائلا

" لا تقلق من ناحيتي فأنت من عليه الاعتناء بنفسه ,
أقسم أنك أكثر من أخاف أن يصيبه مكروه
بين المجموعة بسبب عملك السري ذاك ,
حتى وقاص لا أرى أن الخطر يحدق به مثلك "

دس يديه في جيبي بنطلونه وقال

" هل تراني فتاة أمامك يا أخرق ؟
كن أنت فقط بخير ولا تقلق بشأني , ولنتمنى أن تجمعنا مفارقات الحياة قريبا "

عاد لاحتضانه مجددا دون أن يعلق , لا يريد حقا
أن يفترق عنه من أجل تيم وليس من أجل نفسه
فهو الأقرب له يحاول دائما فهمه والتقرب منه عكس
ما يفعل الجميع وهم يرون أنه يرفض الاحتكاك بأي
أحد فيختارون تجنبه دائما ولا يعلمون مثله أن هذا
الكنعاني كلما أصررت أن تقترب منه أكثر سمح
لك هو بالاقتراب من عالمه , رغم تحفظه الشديد
وأفكاره المتصلبة وعناده الأسود هو لم يراه
إلا رجلا لا ينافسه إلا زعيمهم مطر ويراهن على
أنه أيضا يمكنه قيادة وتولي مصير بلاد كاملة دون
أن يهاب أو يتراجع ولا أن يرف له جفن ولا أن يخسر ,
وفي المقابل كان شعور تيم ناحيته متساويا فهو
لم يراه سابقا إلا مختلفا عن الجميع وحكم عليه
من أول مرة رآه فيها ووقع نظره عليه وشدته
بالفعل شخصيته المختلفة عن غيره , وإن كان له
أن يختار شقيقا لاختاره أن يكون مثله في كل شيء ,
ويعز عليه فراقه بالفعل , شعور لم يشعر به منذ
أعوام طويلة , بل منذ ترك تلك البلاد مودعا فيها
جسد والدته المتواري تحت التراب وذكرياته البعيدة
معها , وطفلة علقها معه في مصير مجهول حتى
اليوم تاركا إياه لكلاب بشرية لم ترحمه هو يوما لترحمها ,
ابتعد عنه ودفعه براحة يده من ظهره قائلا

" لا شيء لدي اليوم تقريبا وسأرافقك حيث ذهبت
وإن كان لحبيبتك وغرفة نومها "

ضحك قاسم من فوره وقال وهو ينزل السلالم برفقته

" لا تسرب الشائعات ضدي يا أحمق
فأنا خارج من المجموعة دون طرد "

*
*
*


منذ رجوعها من قسم الشرطة صباحا وهي سجينة
غرفتها ولم تخرج ولا لجامعتها البائسة التعيسة
مثلها فهي مقتنعة الآن بأمر واحد فقط وهو أنه
من في مثل وضعها كان عليها أن لا تفكر في
الخروج أساسا من هذه الجدران الصماء , دست
وجهها في ركبتيها تضمهما بذراعيها وهذا مكانها
منذ ساعات لم تغادره إلا لتصلي وتدخل الحمام ,
خرجت من قسم الشرطة رافضة مرافقة ذاك الشاب
الذي خرج لها من العدم منصبا نفسه مسئولا عنها
وركبت سيارة ابني عمها , لم تكن المسافة لمنزلها
قريبة لكن الصمت هو ما كان مسيطراعلى جو تلك
السيارة حتى وقفت أمام باب المنزل , وما أن نزلت
منها وقفت عند نافذة الذي لم يرفع نظره بها رغم
علمه بوقوفها هناك , هي سبق وحذرته فلما يغضب
منها الآن ؟ ثم ما ذنبها هي في كل ما حدث وهو من
لم يأخذ ذاك التهديد بجدية ! ما هي موقنة منه أنه
فعل شيئا أوصله لهذا الحال فالتهديد كان تحذيريا فقط ,
أي أنه ثمة ما حدث وسيكون بالتأكيد تدخلا منه في
سير القضية وها قد جاءته النتائج , رغم صده
المتعمد والواضح لوجهه عنها والتجهم في ملامحه
العابسة قالت ناظرة لنصف وجهه المقابل لها

" آسفة بشأن ما حدث لك يا برآء ,
لو كنت أخذت بنصيحتي ما حدث كل هذا "

تمتم ببرود دون أن ينظر لها

" هذا فقط ما استطعتِ عليه يا ماريه ؟ "

شدت قبضتيها وهمست بأسى

" لو بيدي شيء لمنعت به الأذى عن نفسي قبلك"

نظر لها هذه المرة لكن نظرته لم تحمل إلا كرها
دفينا فهمت فورا أنه ليس موجها لها ، وقد توضح
الأمر سريعا حين قال بضيق

" كان عليا أن أتوقع إجراما كهذا من كنعاني القتل
والخيانة متأصلان في جذورهم , وكان يجب أن
أتوقع أكثر من ذلك من قذر كان منذ صغره مجرما "

فقد لسانها حينها زمام الأمور وأصبحت الكلمات
تتدفق منها دون شعور رغم غضبها القاتم أيضا
من كل ما يجري وقد تحرك رأسها مع رميها ليدها
ليتطاير ذاك الشعر البني الحريري حول وجهها صارخة

" آل كنعان ليسوا خونة والتاريخ شهد لهم بذلك ،
وتيم لم يكن مجرما يوما بل أنتم من صورتموه كما
تريد عقولكم "

أنهت جملتها الغاضبة تلك وسحبت نفسا قويا
لصدرها تكابد دمعة القهر والغضب كي لا تقفز
من عينيها فبالرغم من كل ما يحدث وكرهها لترك
ذاك الرجل لها وحيدة في عالم لا يغلفه إلا السواد
حولها من كل جانب إلا أنها كرهت حقا نعته له بكل
تلك النعوت الجائرة وعائلته التي فقدت أغلب أبنائها
بسبب تهم هم أبرأ الناس منها , تحولت نظراته لها
لشيء لم تستطع تفسيره سوى بأنه حقد غير اتجاهه
من غيرها لها وقال بحروف صلبة

" أقسم ما فعلت ما فعلته اليوم إلا من أجلك أو لكنت
قدمت شكوى ضد ذاك الطفل الذي يرى نفسه قادرا
ويهدد ويفعل , وما فعلت كل ما فعلته إلا لأنك ابنة
عمي وما يمسك يمسنا "

أنهى جملته تلك وأغلق زجاج النافذة وانطلقت
السيارة فورا , ابتسمت بمرارة وهي تتذكر كل ذلك
الموقف , هدد وفعلها حقا كما قال وموقنة من أن برآء
لن يفكر في تحديه مجددا بعدما رأى بعينه ما فعل له
دون أن يتردد لحظة ولا حتى أن يدخل البلاد ,
وهذا التهديد هكذا فالفعل سيكون أسوأ بالتأكيد ,
فهي كانت تقف بقربه حين وقف ذاك المحامي
المجهول أمامهم وقال ونظره على عيني برآء تحديدا
( هذه ليست سوى مزحة صغيرة فابتعد فورا عما
كنت تقحم أنفك فيه )

وذاك كان أكبر دليل لها عن هوية مرسل ذاك
الشاب وعن تصرف ما فعله برآء في سير قضية
فك عقد الزواج المعلقة في المحكمة من أعوام ,
رفعت رأسها مجفلة ونظرت بصدمة لباب الغرفة
الذي انفتح بقوة ودخل منه عمها وجهه أقتم
سوادا من تلك الليلة وصرخ من فوره

" لا تفرحي كثيرا بما حدث يا نصف المرأة "

وتابع بسخرية يصفق يديه

" لا ويهددني أيضا برسائله السخيفة وبأني سأدفع
الثمن , قسما أن تدفعاه أنتما الاثنين يا حثالة الهازان "

شدت قبضتيها على قماش بنطلون بيجامتها القطنية
وخرج صوتها مختلطا ببحة حرقة ووجع
" رأيت بنفسك اليوم أن حثالة الهازان يهدد ويفعل
فلا تلمني حينها ويكفيني ما بي "

مد يده سريعا لوجهها وأمسك فمها وفكيها بقبضته
متجاهلا ملامحها المتألمة وهي تشعر به يتحطم بسبب
قبضته القوية ،وقال من بين أسنانه

" وأصبح لك لسان أيضا يا ماريه , تشجعت بحثالته
التي يرسلها ؟ ستندمين حين تكونين في الشارع
تنهش الكلاب جسدك وقولي قيس هارون قالها
فذاك الغبي وضع حسم القضية في يدي الآن "

ثم دفعها بقوة بعد صفعة اعقبت تحريره لفكها
الصغير أشعرتها بأن نصف وجهها قد مات وخرج
من الغرفة بخطوات غاضبة تاركاً إياها منكمشة على
السرير تئن البكاء كالوجع ولم يفكر حتى أن خطواته
العرجاء التي أصبحت ما هي عليه الآن بفضل مالها
الذي نهبه ظلما وجورا , وها هو ما أخبرها عنه
ذاك المحامي حقيقة بالفعل وأن نهايتها ستكون الشارع
ما أن يكسب عمها قضية الخلع ويطلقها منه

*
*
*

نزل من السيارة ضاربا بابها خلفه بقوة هزتها في
مكانها وصعد عتبات المنزل بسرعة ودخل من الباب
متوجها للسلالم من فوره حين أوقف الصوت الذي نادى
من خلفه


" نجيب "

فوقف والتفت للتي اقتربت منه تنظر لوجهه
باستغراب سرعان ما انقلب لفزع فقلق وهي ترى
اللاصق الطبي في جبينه والكدمة الزرقاء المنتفخة
تحت جفنه الأيمن والجرح في طرف شفته وقد جف
الدم عليه , وصلت عنده وأمسكت ذراعه قائلة بصدمة

" نجيب من فعل بك هذا ! مع من تشاجرت تحدث ؟
وأين كنت ليلة البارحة لم تنم هنا ولم أراك ؟ "

همس من بين أسنانه

" أمي اتركيني وشأني الآن وسنتحدث فيما بعد "

كانت ستتحدث لكنه تركها وصعد عتبات السلالم
دون اكتراث لها فحركت رأسها متنهدة بيأس
وغادرت متمتمة بضيق

" عدنا للمواويل القديمة يا نجيب والشجار
مع أفراد عصابات الشوارع "


بينما صعد هو وهدف واحد يراه أمامه فلم يمسكه
عن العودة هنا إلا ذاك الشاب الغبي الذي كاد يفضح
أمر ما يدبر له , وصل للطابق الثاني وتوجه للسلالم
وتابع صعوده وسلك الممر ونظره على ذاك الباب
تحديدا ليوقفه مكانه الصوت الحازم من خلفه


" توقف مكانك يا نجيب "

وقف والتفت للذي كان قد أصبح يقف عند رأس
السلالم بعدما لحق به , يلبس بنطلونا رياضيا
وقميص قطني بأكمام طويلة , ثياب جعلت الواقف
مكانه يدرك فورا أنه لم يغادر المنزل اليوم وكأن
يترصد له بالتأكيد , نظر له تلك النظرات التي لا
تحمل إلا كرها متأصلا قد غذى جذوره على
مر الأعوام وقال


" لا تتوهم بأني سأسكت لك عنها يا وقاص , وآخر
مرة تلك التي تتدخل فيها في شؤوني الخاصة
فأنا ما كان ليرف لي جفن إن وجدتك تذبح زوجتك
الغبية البدينة تلك عند باب المنزل فلا تتدخل بيني
وزوجتي وهذا آخر تحذير لك "


وما أن أنهى عبارة التهديد تلك حتى التفت متابعا
طريقه فلم يشعر بنفسه إلا وهو يلف حول نفسه
حتى فقد الإدراك بالمكان للحظات قبل أن يشعر
بجانب وجهه يصطدم بالجدار بقوة وقد وصل له
من كان واقفا هناك في لمح البصر , كان يشعر
بعظام فكه تكاد تتحطم بسبب ضغط الواقف خلفه
على رأسه بإحدى يديه والأخرى تلوي ذراعه خلف
ظهره بقوة حتى شعر بها ستخلع من مكانها وشُلت
حركته تماما بسبب دفع ذاك الجسد القوي له ، همس الواقف خلفه تلفح أذنه أنفاسه الغاضبة

" قسما أكسرها لك إن امتدت عليها مجددا يا نجيب ,
زوجتك ابنة عمي وشأنها يعنيني عكس زوجتي
بالنسبة لك , وحتى وقت عودة جدي ستكون تحت
حمايتي ولن تقربها وإن قتلتك فهمت "


حاول دفعه عنه بجسده بقوة تزدادا وهنا شيئا
فشيئا وقال من بين أسنانه

" ابتعد عني أقسم أن أربيها من جديد تلك السافلة
كي تتعلم أن لا تسخر مني مجددا "

ضغط بمرفقه على جانب عنقه حتى كاد يفقده
تنفسه وقال بتهديد

" قسما يا نجيب وأنا وقاص ابن سلطان ابن ضرار
أن أرميك في السجن دون تردد إن دخلت الغرفة
بل والجناح بأكمله وجرب فقط أن تختبر صدق يميني "

ثم أفلته ووقف يشد قبضتيه بجانب جسده ينظر
له نظرة تهديد لا تقبل أي تراجع وهو يلتفت
ناظرا له محركا لفكه بأصابعه بملامح متألمة
غاضبة حاقدة تعجز عن فعل شيء غير إرسال
تلك النظرات وهو من يعلم بأنه إن أقسم بتلك
الطريقة ينفذ دون تراجع ولا حتى تفكير في
العواقب , وأنه لن ينتصر عليه وهو محامي
فكيف به نائباً للمدعي العام، لكنه له ويعرف كيف
يأخذ حقه منه وبطريقته الخاصة , غادر من أمامه
عائدا أدراجه بعدما رماه بسمومه مهددا


" ستندم يا وقاص وقل نجيب قالها ... وابنة عمك
الخرساء تلك معك "

واختفى خلف السلالم نازلا ونظرات الواقف مكانه
هناك تتبعه حتى اختفى ثم بصق حيث كان يراه شاتما
بهمس ونظر لباب الجناح المغلق , لا يمكنه البقاء
في المنزل أكثر وحراسة هذا المكان طوال الوقت
ويعرف شقيقه ذاك جيدا ما أن سيشعر بغيابه عن المكان
سيعود فورا ، وقف مسندا يده على الجدار ونظره على
الصندوق المثبت فيه بجانب الباب يحوي شاشة صغيرة ومجموعة أزرار برمز سري يعلمه جميع ساكني ذاك
المنزل وحتى الخادمات ولا يفتح إلا من الخارج ,
أخرج هاتفه من جيب بنطلونه واتصل بأحدهم ونظره
لازال على ذاك الجهاز ويده الأخرى تستند على الجدار ,
أجاب صاحب الرقم بعد برهة قائلا

" أجل يا وقاص "

قال من فوره

" اسمع تيم كيف يمكنني تغيير رمز سري في
جهازحماية خاص بالأبواب دون أن يعرفه غيري "

قال ذاك من فوره وكما توقع من شخصيته
التي يعرفها جيدا لا يسأل عن شيء لا يخصه

" انظر للرمز أسفل الجهاز وأمليني إياه "

فعل كما قال فورا وهو ينزل على قدميه ناظرا
فوقه ويقرأ له الرمز والرقم الموجود تحته حتى
قال من في الطرف الآخر

" اقرأ لي الأزرار الآن غير أزرار الأرقام طبعا
وهل الصفر من ضمنها أم أنها تسع أرقام فقط ؟ "

فعل ما طلب منه وأعطاه أسماء الأزرار المتبقية
فوصله صوته الجاد الواثق

" هذا من الأجهزة الحديثة المعقدة لكننا سنتغلب
عليه بالتأكيد فاتبع ما أقول بالخطوة "

وتابع معلقا بتملق بارد

" وسينجح الأمر بالتأكيد بما أن من في الطرف
الآخر شخص ذكي مثلك وليس بليد سأحتاج
معه لنصف يوم لينجح ذلك "

ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيه المزمومة
بحنق لتتسلل ببطء إلى ملامحه المتجهمة الغاضبة
وقال وهو يشغل شاشة الجهاز

" بسرعة إذا قبل أن اثبت لك العكس "


*
*
*

مررت المشط سريعا في طيات شعرها الحريري
الطويل ثم لفته بعشوائية وثبتته في مؤخرة رأسها
بمشبك كبير ليتمكن من جمع لفاته جميعها ثم نظرت
للمرآة تدس خصلات غرتها خلف أذنيها ونظرها
ليس على أصابعها وما تفعل بل سافر لملامحها وهي
تنظر لوجه المرآة الحالسة أمامها فيها .. العينان السوداء
الواسعة التي لم تزدها نظرة الحزن والفقد والوجع إلا جمالا
يتكسر على أعتاب الصمت الحزين فيهما ، ومبرزاً لونهما
البشرة شديدة البياض والصفاء ،وشفاه وردية ناعمة
لازالت تحتفظ بذاك الامتلاء المغري رغم صغر حجمها
يظهر في انفراج شفتها العلوية التي تأخذ شكل انحناءة
القوس , أدارت عينيها بعيدا وتنهدت بعمق ,
لا تعلم لما يرى الجميع ويقرون بأنها لم تتغير وكأن
السنين لم تمر بها بينما ترى هي نفسها عجوز
دمرتها الفواجع والأحزان ورسم فراق أهلها
خطوطا عميقة في بشرتها لا يراها أحد سواها ,
باهتة كئيبة كصورة مقلوبة لا يمكنك أن ترى منها
سوى خيالات وخطوط وهمية واهنة ، هكذا كانت
ترى نفسها مهما اختلف الواقع الذي يراه الجميع ،
ملأت رئتيها بالهواء وأخرجته حارا شعرت به
تسلل من أوردتها ومن صميم أعماقها وعادت
بنظرها لوجهها في المرأة وابتسمت بمرارة ,
لا تصدق أن ذاك الرجل يفكر حقا فيما قال !
تتزوج ؟ وممن منه هو !! كادت تضحك في وجهه
ما أن أنهى جملته تلك , بل كادت أن تجمع الناس
حولهما ليستمعوا لتلك الدعابة , لا وحجته ابنه ..!
كيف لعقله أن يصور له أنها ستفكر في الزواج مجددا ,
صحيح أنها ارتكبت أكبر حماقة في التاريخ وقالت
في تلك المقالة أن مطر شاهين ربطها بحكم والدها
للبلاد لكنها أيضا صرحت برفضها القاطع لخوض
تلك التجربة مجددا , وحتى إن لم تذكر ذلك كيف
لرجل في مثل مركزه وعقله العسكري أن يتسرع
هكذا ويطلبها بنفسه ومن نفسها ؟ لا وبعد يوم واحد
من نزول أعداد تلك الجريدة ! لم تتخيل ولا في
أحلامها أن تكون تلك نظرته لها ... زوجة !! أمر
إن لم تسمعه منه بنفسها لكذبته بالتأكيد ! لاويعلم
حتى أن والدها شراع رفض الكثيرين ممن طلبوها
للزواج وأنه كان يرفض دون أن يوضح الأسباب
لتأتي هي الآن وتفجر المفاجأة , سحقا للسانها
كان عليها قطعه قبل أن تقول ما قالته ، هل كانت
تريد بذلك الانتقام من ذاك الرجل الذي علقها بعده
أم لتنتقم لنفسها بعد سماعها لصوت تلك المرأة ؟
لم تعد تفهم شيئا مما يحدث معها وتعبت حقا
من كل هذا , دفنت رأسها بين يدها وانقلبت كل تلك
الأفكار لذكريات حاربتها طيلة سنوات مكوثها هنا ,
بل وتعايشت مع أن لا تتذكرها , كيف يتصورون
أنه لامرأة كانت زوجة لرجل كذاك الرجل أن
تكون لغيره ؟ لاتنكر ذلك ولا تستطيع فعلها مهما
حاولت ومهما كرهته وحقدت عليه , كان رجل إن
رأت هي غيرها في الماضي زوجة له لحسدتها عليه ,
كان رجلا مميزا في كل شيء مهما أنكرت ذلك ،
حتى لمساته وقبلاته يعرف كيف يبعثر بها قلب
الأنثى في ثوان معدودة , كيف يمكنها أن تكون مع
رجل آخر وهي من عرفته هو لا غيره ؟ كيف تقترب
من أي رجل دون أن تتذكر لمسات أصابعه لوجهها
وجسدها .. ؟ همساته الدافئة ببحة صوته المميزة
ونظرته الكفيلة بتحطيم أكثر النساء صمودا وابتسامته
التي بقدر ما يبخل بها يستخدمها سلاحا فتاكاً ؟؟
تكذب إن قالت غير ذلك فكيف وهو من كان يجعلها
تبادله القبلات الحارة ما أن تشعر بملمس شفتيه المداعبة !
حقائق كم تمنت قتل نفسها على الاعتراف بها مجددا
وأمور تغلبت بالفعل على جرحها منه وسنين
هجرانه لها
ورغم كل ذلك هي لا تريده وترفضه وما فعله لن
تنساه له أبدا , أغمضت عينيها بشدة لتدور بها
عجلة الذكريات سريعا وتعلم أنها السبب فهي من
فتحت لها الباب الآن , ورغما عنها تذكرت تلك
اللحظات وهما جالسان فوق ذاك الجبل الذي يطل
اليوم على نافذة غرفتها ، تدفن وجهها في طيات
صدره حيث تخفي دموعها الصامتة ويدها تمسك
بمعطفه بقوة، وكان ذاك يوم لقائها بوالدها شراع
وقد قال كما تذكر حتى اليوم وبالحرف الواحد
وقد قبّل رأسها واتكأعليه بذقنه

( حين مات والدي كنت في الرابعة والعشرين ،
كنت رجلا كما يريده ، لقد صنع مني ما لن
يصنعه أحد ولا نفسي أنا , علمني كيف أكون
قويا كيف أكون ذكيا كيف أقود وآمر , قربني من كل
أمور الدنيا ولم يبعدني شبرا عن الله وعن أمور الآخرة ,
ويوم مات كنت بجانبه كنت أراه وهو يفقد كل ارتباطه
بالحياة وما حوله ... سمعه بصره نطقه , مشهد ما
ضننت أنه سيحفر في ذاكرتي لأعوام وأني سأتمنى
يوما أني لم أراه , بعد موته بعام تسلمت زعامة
الحالك باختياركبار قبائلها دون حتى أن أطلب ذلك
أو أقترحه , رباني لسنوات طوال لأكون زعيما
ولم يكن ذلك إلا بعد موته , صنع شيئا لم يراه
ولم يشهد نجاحه , لم أستطع قول أن موته كان في
وقت خاطئ فالله وحده يعلم الخير في الأمر والشر فيه ,
والدتي لم أعرفها لم أعرف عنها سوى أنها امرأة
فقدت حياتها لأعيش , فتاة أُجبرت على الزواج من
رجل أكبر منها بكثير ولم يغرها ماله وجاهه
بين قبيلته , طفلة عاشت يتيمة الأم ووحيدة والدها
, تمنيت فعلا أن رأيتها أن ربتني مع والدي أن
علمتني ككل أم كيف أعطي أكثر من كل هذا
فلم يعلمني والدي إلا الأخذ )

تسللت الدموع من عينيها المغمضة بشدة وهي
تتذكر جملته حين استنكرت أن يكون كذلك
( أنتي التي لا تعرفينني يا غسق , أنا تربيت
على ذلك , أنا لست ملاكا وثمة عيوب بي أعلم
أنها تخسرني الكثير لكني لا أستطيع التخلص منها )

كانت تضنها ذاك الوقت مجرد اعتراف منه
وتضنه يقربها من نفسه بحديثه معها عما لا
يتحدث به مع غيرها , لكنها مخطئة .. مخطئة
حد السذاجة فذاك الرجل لا يفعل ذلك أبدا ولا يمكن
أن يفتح قلبه ويعترف بضعفه لأي كان ، وكان صادقا
في كل حرف قاله فهو لا يعرف أي درجة من درجات
الأنانية ويبدي الجميع على نفسه ، ولأنها ليست
كمن يضحي بكل شيء من أجلهم رماها خلفه وغادر ,
بل قتلها قبل أن يفعل كل ذلك , رفعت رأسها ومسحت
الدموع التي لا تستطيع وصفها إلا بالحمقاء وهي
أشد منها لأنها سمحت لها بالنزول فهي لن تبكي
ذاك الرجل كما لن تغفر له ما فعل بها ما عاشت
على هذه الأرض , وقفت وتوجهت لهاتفها ورفعته
وجلست على أريكتها المقوسة وطلبت رقم رعد
فورا وما أن فتح الخط حتى قالت

" مرحبا رعد , أتمنى أن لا تكون نائما وأنا أيقظتك ؟ "

قال من فوره

" لا أنا لم أنم بعد ولا نوم يلوح في الأفق على ما أظن "

وتابع بضحكة

" حتى أني شعرت بالسقف سيقع
على وجهي من كثرة التحديق به "

ابتسمت بحزن متمتمة

" قلت لك تزوج وأنت ما أعند رأسك "

سمعت ضحكته الخفيفة قبل أن يصلها تعليقه
وصوته المنخفض

" قسما يا غسق يا شقيقتي الغالية إن عاد مطر
شاهين أن أتزوج وبنفسك من ستحضرين عروسي "

شعرت بذاك الانقباض الكريه في قلبها
وهمست ببعض الضيق

" وما مناسبة ذكر ذاك الرجل الآن ؟
لو أفهم ما الرابط بينه وبين زواجك ! "

وصلها صوته مبتسما


" رابط قوي وقصة قديمة ودفاتر أُغلقت
وحده من سيفتحها يا شقيقتي فافقدي الأمل
ما لم يظهر عدوك اللدود مجددا "

تنهدت متمتمة

" اتركنا من هذا الآن فلا أسوأ من رماح إلا أنت "


قال بضحكة

" بلى هناك جبران أسوأ من كلينا "

شعرت بغصة في حلقها ونطقت بصعوبة


" هل تحدثت معه ؟ "

قال متنهدا

" هو من اتركينا منه الآن فأمره يطول الحديث فيه "

قالت بتوجس من نبرته وحديثه

" حاولت الاتصال به حين كنت محتجزا في مبنى
البرلمان ورفض أن يجيب على اتصالي "

وصلها صوته حانقا

" جبران يدفع ثمن أخطائه السابقة التي عليه
تحمل نتائجها فاتركيه لغيره ليؤدبه فأنا أرى
أن نهايته على يدي ذاك الرجل تحديدا "

حركت رأسها بعدم فهم وهمست


" لا أفهمك يا رعد ولا أعلم لما أشعر أنه ثمة
أمر بينكما يخصني وتخفيانه "


لاذ بالصمت لوقت لم يزدها إلا تيقنا من شكوكها
ثم وصلها صوته هادئا عميقا

" حكاية قديمة يا غسق وطواها الزمن وتأكدي أنه لولا
طلب صاحب الشأن نفسه مني أن لا أتحدث عنه
وأن لا تعلمي أنتي به لما تسترت عن هكذا فعل أبدا "

غضنت جبينها بتفكير ولم يزدها كلامه إلا حيرة
وكثرت الألغاز حولها , وصلها صوته قبل أن تتحدث

" هل أعلم ما هو هذا الأمر الذي جعلك تنغصين عليا خلوتي "

نظرت لأصابع يدها في حجرها وقالت بتردد

" تقابلت اليوم واللواء يعقوب العقاد "

قال بعد صمت لحظة

" تقابلت معه ؟؟ هل تعني أنك خرجت وتقابلتما ؟ "

تنهدت قائلة

" ليس الأمر كذلك بالضبط وليس هذا المهم في
الموضوع فهو أخبرني أنه سيتصل بك فهل حدث ذلك ؟ "

وصلها صوته مستغربا

" كان ثمة اتصال بيننا اليوم ناقشنا فيه بعض الأمور
المتعلقة بالأوضاع الراهنة في البلاد فهل هذا الأمر تعني ؟ "

قبضت أناملها وتنفست بقوة وقالت

" لقد تحدث معي اليوم عن موضوع خطبة وما إلى
ذلك ولم أعرف ما أقول له أنت تفهم حساسـ .... "

قاطعها بصوت مصدوم

" خطبة !! تعني خطبك ؟ "

رطبت شفتيها بلسانها وقالت

" نعم وقال أنه سيتحدث معك وأنه يعلم أن مثل تلك
الأمور كان يجب أن لا يتحدث معي فيها مباشرة
ومن ذاك القبيل فأخبره أنك ترفض ذلك أو أني
رافضة الأمر جملة وتفصيلا "

كان الصمت التام جوابه حتى خيل لها أنه أغلق
الخط في وجهها فهمست

" رعد تسمعني ؟ "

وصلها صوته مستغربا

" غسق ما دفع ذاك الرجل للتحدث في مثل هذا الأمر
ومعك شخصيا ؟ "


قالت من فورها

" لا تفهم الأمر كما يخبرك عقلك يا رعد , هو
فقط ... أعني أنا ... "

وضاعت الكلمات منها ولم تعرف كيف تصيغ الجملة
فقال نيابة عنها

" المقالة تعني أليس كذلك ؟ "


دفنت وجهها في يدها ممررة أصابعها في غرتها
الحريرية وقالت بأسى

" رعد أنـــ... "

قاطعها بنبرة حازمة لم تتوقعها منه وهو يقول بضيق

" هذا ما سيكون متوقعا منه ومن غيره بعد تلك المقابلة
يا غسق , لا أعلم كيف ترتكبين حماقة مثلها ؟ "

قاطعته بضيق مماثل

" كانت نفسيتي سيئة ومن ذاك الرجل تحديدا ، وقلت
ما قلت وانتهى لا يفيد الآن الحديث فيه فقد حاولت
سحب المقالة لكن الأوان كان قد فات "

وصلها تنفسه القوي وقد قال

" ليت الأمر وقف عند ذلك الحد بل اتهمت الرجل بأنه
يقدم الوطن على كل شيء ولن يفهم القارئ إلا أنك
تعني نفسك , لن أستغرب إن وجدت ذاك الرجل
أمام باب منزلك خارجاً لك من العدم ليدق عنقك "

ابتسمت بمرارة متمتمة

" لا تقلق فذاك الرجل تحديدا لا يجلبه شيء يخصني
ولا افتضاح لعبه بالقانون في جريدة "

تمتم متنهدا

" لا أعلم فيما كنت تفكرين حين قلت كل ذلك ؟ لو أن
والدي حيا الآن لسقط من الصدمة "

غزى الحزن ملامحها الجميلة وقالت

" لو كان والدي على قيد الحياة لكانت أمور كثيرة
ليست كما هي عليه "

قال بجدية

" أخطأت يا غسق اعترفت بذلك أم لم تعترفي
وستفتحين على نفسك باب سيتعبك ما سيأتيك منه "

تأففت هامسة

" وما تفعله غسق بنفسها ؟
تموت مثلا ليرتاح الجميع منها ؟ "

فاجأها بضحكته في وقت أبعد ما كانت تتوقعه أن
يضحك ووصلتها كلماته مختلطة برنين ضحكته الرجولية

" كم اشتقت لعباراتك هذه التي دفنتها السنين
خلفها يا مدللة عائلة شراع "

عضت طرف شفتها محرجة منه ومن غباء لسانها
ثم تنهدت هامسة بحزن

" ومن بقي لي منكم عائلة شراع ؟ ذبحتم روحي
على فراقكم واحدا تلو الآخر "

غزى الحزن نبرته أيضا وقد قال بعد صمت لحظة

" حمدا لله على ما اختار لنا فلن يعلم خيرة الأمر أحد
مثله فلا تنتقلي من مقالة حمقاء لتسخط على أقدار الله "

تنفست بضيق وقالت ساخطة

" وداعا الآن سأتركك مع خيال حبيبتك
التي وحدها الحمقاء يا أحمق "

وفصلت الخط على صوت ضحكته ورمت الهاتف
بعيدا تشتمه بحنق فقد عرف بالفعل كيف يلعب بها
ويجعلها تفقد السيطرة على لسانها ، أم أن كل هذا
بسبب تلك الذكريات ليس إلا ؟ نفضت لحاف السرير
وأندست تحته متمتمة بضيق

" هذه نتائج ذكراه ... سحقا لذاك الرجل "

*
*
*

دست ما في يدها سريعا داخل الصندوق الخشبي
المغلف بالقماش وأغلقته ليرجع كما كان مجرد
كرسي قديم ثم وقفت وخرجت من الغرفة وتوجهت
لباب المنزل وفتحته وتنحت جانبا تتجنب النظر للذي
دخل متمتما بفتور واضح

" مرحبا آستي "


نظرت ليديها اللتان تشدهما لبعضهما بقوة وهمست

" مرحبا سنمار .... تفضل "

وأبعدت نظرها أكثر عنه متجنبة التقاء عينيها بعينيه
التي تعلم مسبقا أنهما لن تنظران لها إلا غضبا أو
استياء أو حتى باحتقار وهذا ما تنتظره وتتوقعه
في كل لحظة بعد ذاك اليوم ومواجهتها بأنجوانا
أمام أفراد من قبيلتهم ، بينما دخل هو المنزل عيناه
تراقبان تفاصيله ككل مرة يدخل فيها له وهو يتذكر
والديه , الذكرى التي جعلت من ثورة غضبه تخمد
لدرجة هو نفسه لم يتصورها وهو يتذكر توصيات
والدتهم وقت مرضها بأن يعتنوا بابنتها الصغرى
وأن لا يجتمع عليها فراقها وظلمهم ، تنفس بعمق
متمتما بصلوات الرحمة ثم التفت لها وقال ببرود

" أرسلت في طلبك من وقت , ظننت أنك نائمة
ولست تتجاهلينني ! "

حركت رأسها بالنفي فورا وشعرت بأنها في لحظة
عادت ابنة الخامسة عشرة تخاف نظرات أخوتها
وترتعب من غضبهم ، شتت نظرها بعيدا عنه
وهمست بحزن

" كنت أعلم أنك ستكون غاضبا فأردتك أن تهدأ
أولا وكنت سأذهب أقسم لك "

قال من فوره

" تعلمين إذا أني سأكون غاضب ؟
ومؤكد تعرفين السبب أيضا "

نظرت للأرض ولم تعرف ما تقول ، بماذا تبرأ نفسها
وما ستقول من حقيقة الأمر وتخفي ؟ هي لا تعلم حتى
حدود ما علمه واعتمر رأسه من أفكار وما وصل له
من الحقائق والأكاذيب


" كان عليا إذا أن أصدق ما قيل
دون أن أفكر في الاستماع لك أولا "

رفعت رأسها له سريعا ما أن سمعت جملته تلك
وقالت من فورها

" لا يا سنمار لا تحكم عليا زورا "

وامتلأت عيناها بالدموع وهي تتابع

" أقسم أن ما تحاول أنجوانا قوله غير صحيح وأنالم
أخرق قانون القبيلة لا كابنة لزعيمها ولا كفرد منها
وأن ابن شراع كان أحرص عليا من حرصي على
نفسي ولم أرى منه سلوكا منحرفا أبدا رغم أني كنت
أهتم حتى بأموره الشخصية وهو مريض "

قال وقد اشتد فكاه

" ولا أنك ترفضين الزواج حتى الآن ؟
ليس هو السبب يا آستي ؟ "

تدحرجت الدمعة التي سجنتها لتنساب على برودة
خدها وهمست

" وما علاقة هذا بحديثنا ؟ أنا أقسمت لك
يا سنمار وقلت الحقيقة دون أن انقص منها شيئا "

اقترب منها حتى وقف أمامها وقال بجمود

" لا ليست كاملة فأعطني سببا مقنعا لرفضك الزواج
كل هذه السنوات .... تحدثي آستريا "

تسابقت دمعاتها تباعها وحركت رأسها بقوة ورفض
قائلة بعبرة

" قسما أن ابن شراع لم يلمس جسدي يوما
فلا تترك لتلك المرأة الفرصة لتدمر ثقتك بي "

نظر لعينيها الدامعة لوقت قبل أن يمسك وجهها بيديه
وركز نظره على حدقتيها العسلية الواسعة وقال بجدية

" صمتك وعنادك سيجعلانك لقمة للجميع يا آستريا
وساجي إن عاد وعلم بما يقال فلن يرحم أحدا
وأولهم أنتي ... وأنتي تعرفينه جيدا , لا أريد أن أخلف
عهدي لوالدتنا وهي تموت فلا تصعبي الأمر عليا
كزعيم للثنانيين قبل أن أكون شقيقك "

ازدادت دموعها انسكابا وهي تقول بعبرة

" إذا لتنطبق عليا قوانين القبيلة "

أنزل يديه من وجهها قائلا بضيق


" آستريا ما هذا الجنون ؟ "

مسحت عينيها متمتمة بإصرار

" لماذا ليس من حق ابنة الزعيم أو شقيقته أن
تختارمن تريد لنفسها , هل العواطف محرمة عليها
وعلى البقية بلى "

همس بغير تصديق

" لا تنكرين إذا أنك تحملين له مشاعر خاصة ؟ "

قالت وعينيها في عينيه وقد استجلبت شجاعتها
التي عرفوها بها دوما


" أجل أحببته كل عمري وانتظرته رغم يأسي من
قدومه لكني لم أخطئ معه يا سنمار "

شد قبضته أمام وجهها وكأنه يجبر نفسه ليكفها عنها
ثم أنزلها بعنف وأشاح بوجهه وقال وهو يخرج مغادرا

" تحملي ما سيأتيك من ساجي إذا وأنتي تعرفينه جيدا "

وضرب الباب خلفه وتركها لدموعها وعبراتها ، ركضت
جهة غرفتها وتوجهت لذاك الكرسي القديم وانهارت
جالسة أمامه وأخرجت منه المصحف الذي كانت تخفيه
فيه تحت لباس الصلاة الذي صنعته بيديها وخبأته
عن الجميع , حضنته باكية وهمست من بين عبراتها


" يا رب ارحم روحي المعلقة به يا رب "

*
*
*

لم يتوقف عن التحرك بعشوائية ذهابا وإيابا أمام
الواجهة الزجاجية المطلة على تلك الحديقة المنسقة
بعناية والبحيرة الاصطناعية التي أصوات خرير المياه
النازلة فيها تصله بوضوح ولا تزيده إلا توترا , يكاد
يشتعل من عجزه عن فعل أي شيء حتى الآن ولا
الاتصال بجده فمثل هذه الأمور لا يجدي التحدث فيها
عبر الهاتف , للحظات تمنى أنه لم يستمع لرأي رواح
واستسلم لجنون غضبه ذاك الوقت ولقن نجيب بل
وجميع من في ذاك المنزل درسا في القانون الانجليزي ،
لم ينم ليلة البارحة أيضا ولم يفارق ذاك المشهد خياله
ولا صورة ملامحها التي لم تصبه وحده في مقتل بل
كل من كان في تلك الغرفة وحتى والدة رواح التي
سمع همسها المذهول من خلفه حين فتحت باب الحمام
وخرجت لهم فعلقت بدهشة

( رباه هل هذه حقا المدعوة زيزفون ؟ )

نظر للباب الذي انفتح قاطعا عليه حبل أفكاره
وللداخلة منه بملامح عابسة وكأنها خرجت من
منزلهم الآن وليس منذ فجر أمس , خياره الوحيد
كان القدوم لمنزلهم والطلب من والدها أن يراها
ليفهم منها تشخيصها للتي زارتها هناك وخرجت
ولم توضح لهم شيئا عن حالتها سوى شتائمها
وتذكيرهم بالمبادئ الإنسانية لتذكرهم بأنه يفترض
بهم هم أن يعلموها لغيرهم لا أن تشرحها لهم هي
ابنة السابعة عشرة , ولن يستغرب ذلك منها فكما
سمع عنها هي تعمل ضمن حقول منظمة إغاثة
وعضو في فريق إنقاذ أي ممن يضحون بأنفسهم
من أجل إنقاذ حتى الحيوانات , اقتربت منه هامسة
بفتور ومشتتة نظرها عنه

" مرحبا وقاص "

تنهد يراقب ملامحها العابسة وقال

" إن كان في إمكانك أن لا تلومي من لا دخل له
فأتمنى أن تشرحي لي حالتها فقط "

كتفت يديها لصدرها وتنفست بقوة ونظرت لعينيه قائلة

" وإن لم يكن لك علاقة فثمة من له وأنت رجل قانون ,
وما لا يمكنني تصديقه أن تقف متفرجا ! "

وتابعت قبل أن يعلق وقد فكت يديها

" ولأنه ليس من حقي أن أتدخل فيما لا يعنيني
بالتأكيد فالفتاة تعرضت لضرب كفيل بإسقاط رجل "

وهربت بنظرها منه وهي تتابع من بين أسنانها

" وحائض أيضا "
شد قبضتيه حتى كاد يمزقهما وشعر بالسواد أمامه
يزداد وقد تابعت وهي تنظر لعينيه وجفناه المسدلان
عليهما ينظر للأرض وملامحه بدأت تشتد غضبا

" الرضوض في جسدها كثيرة وثمة تمزق في عضلة
ذراعها وشعب في أربطة كعب قدمها اليمنى ، هذا غير
الكدمات المنتشرة في كامل جسدها , لقد تركت لمرافقتها
حقن مسكنة وهي أخبرتني أنها تعرف طريقة حقنها ,
ولا أضنها ستدوم لأكثر من اليوم وسيكون عليها تحمل
الأوجاع المبرحة حتى تشفى , وطبعا هذا كشف خارجي
فقط فأنا لست بخبرة الأطباء ، فإن لم يلعب الحظ دوره
فقد تتقهقر حالتها في أي وقت

" ولم تزد حرفا على ما قالت بل غادرت الغرفة بهدوء
كما دخلت ليكون صمتها أشد من أي شيء كانت لتقوله
بعد شرحها المأساوي لحالتها تلك وهي في وضع يكون
فيه جسد المرأة أوهن من أي وقت وهو المتزوج من
أعوام ويعلم ذلك جيدا , لكم الجدار بقبضته ثم غادر
من هناك ومن الباب الخارجي لسيارته وغادر منزلهم
فورا , لا يعلم جده كم سيغيب هناك خاصة أنه لم يحدد
وقتا للعودة حتى الآن ووالده لحق به صباح الأمس
ودون أن يعلموه بشيء ، وجل ما يخشاه أن يطول
الأمر أكثر وأن تتضرر تلك الفتاة ولن يتوقف حينها
عن لوم نفسه , غادر من عندهم وعاد من فوره
للشركة فعليه أن يكون هناك أكبر وقت ممكن في
غياب والده وجده فلن يترك كل شيء على عاتق
رواح فهو تخرج حديثا ومهما كان متفوقا فالأمر يلزمه
الخبرة , وبعدما تأكد من تغيير كلمة السر في نظام
الأبواب وأنه لن يُفتح إلا من خلاله أو والدة رواح التي
أعطاه لها لتفتحه في حال اتصلت مرافقتها بالخادمات
لطلب شيء وستعلمه إن حاول نجيب أن يضغط عليها
لتفتحه

*
*
*

فتح له الباب وما أن رآه أمامه حتى قال ببرود

" كنت سأذهب لك الآن إن لم تأتي "

قال دجى وهو يجتازه داخلا

" أعلم أنك غاضب ومستاء وأظن أنه يكفيني ما
أسمعتني إياه في الهاتف ليلة أمس فاتركني أرى
حفيدتي قبل أن تسافر وأن تقتلني "

وتقدم من السلالم وهو يتبعه متأففا بصمت ونظره
كان على التي نزلت تقفز العتبات راكضة وارتمت
في حضنه فورا قائلة

" جدي وأخيرا تذكرت أن تأتي "

قال ضاحكا يداعب شعرها بين أصابعه

" لولا رؤيتك ما أتيت , ألا تري وجه والدك
وتجهمه المخيف ؟ كان يلزمني أن أبتعد عن طريقه
شهرا كاملا ليهدأ أولا "

ابتعدت عن حضنه ونظرت فورا للواقف خلفه
ينظر له بحنق يمسك وسطه بيديه عاقدا حاجباه
الأسودان المستقيمان ويزم شفتيه في خط رقيق ،
ابتسمت بحزن بل وبحب وهي تنظر لملامحه
الرجولية الجذابة العابسة والغاضبة في آن واحد ،
كم تحب هذا الرجل وكم هي فخورة به ، اقتربت
من الواقف أمامها وهمست في أذنه

" الحق عليك لما زوجته ابنتك ؟ "

فانطلقت ضحكة دجى فورا وهي تشد سترته كي
لا يقول ما قالته له فالتفت برأسه فقط للواقف خلفه
وقال بابتسامة ماكرة

" ليرحمك الله حين تجتمع عليك الأم وابنتها "

رد له مطر الصاع قائلا ببرود

" لتعرف فقط ما تكون سلالتك العريقة "

وتابع مغادرا من عندهما

" لا تتأخر في مراسيم الوداع "

وابتعد عنهما بخطوات واسعة واثقة ونظر دجى
للواقفة أمامه وقال فاردا كفيه

" لم أصدق سابقا حين قال لي شقيقي صقر
أن هذا الرجل لا يحترم كبيرا ولاصغيرا ويجعلك
تعتقد بأنه هو عمك "

ابتسمت وهمست بحنان

" ليحفظه الله لنا يا جدي فبالنسبة لي أحبه كيفما كان "

تنهد بحزن وقال مداعبا خدها الناعم بأصابعه يشعر
بذاك الملمس الحريري لخصلات شعرها السوداء

" تذكرينني كثيرا بجدتك أميمه , كان لها قلبا
أنقى من الثلج "

ابتسمت له بحب وحدقتاها الزرقاء الواسعة معلقة
بعينيه السوداء وقالت مبتسمة

" والدي أخبرني أني أشبهها , ألأجل هذا
لا تأتي لزيارتي إلا نادرا "

ضحك وضمها لحظنه قائلا

" بل لأجل هذا أحبك حبا عميقا مختلفا "

ثم أبعدها عن حضنه سريعا وقال

" كيف هي التجهيزات لرحلتك ؟ "

أومأت برأسها هامسة

" جيدة لكني خائفة من المغادرة وحدي ، لما
لا يكون أحدكما معي ؟ "

مسح على شعرها قائلا بحنان

" للضرورة أحكام أميرتي وقد خطط والدك
لكل شيء فلا تخشي شيئا "

تنهدت بعجز وهي من لا تستطيع أن تعترض على
شيء , قرص خدها قرصه خفيفة وقال مبتسما

" سأرى والدك ثم أرجع لك ونتحدث عن كل
ما يخص رحلة الغد حسنا ؟ "

أومأت له بالموافقة وراقبته وهو يبتعد عنها
بنظرات حائرة متوجسة من خبايا تلك الرحلة
التي ستكون فيها وحيدة حتى اختفى عنها خلف
الباب الذي أغلقه خلفه ونظر فورا للواقف عند
النافذة المغلقة ينظر للخارج وقد التفت له ما أن
تحرك للداخل فارتمى على الأريكةالمريحة قائلا

" عند أي نقطة توقفنا البارحة فأنت لم تترك
لي مجالا للحديث ؟ "

أشتد فكا الواقف قريبا منه وقال بجمود

" عمي هذا ليس وقت مزاح "


لوح دجى بيده ثم مرر أصابعه في شعره الرمادي قائلا

" ابنتي ومن حقي أن تتغلب قوى التسامح داخلي
ناحيتها ، أعلم بأنه معك حق في أن ما صرحت به
قد يضرها شخصيا لكن ما حدث لا يمكن تغييره ، ثم
هي لا تعلم أن قولها لذلك قد يعرضها للخطر "

خرج مطر عن جموده البارد وقال بضيق

" لن يكون الأمر تكهنا بالخطر فقط فابنتك ستدمر كل
ما فعلته من أجل حمايتها بحماقتها تلك ، ضننت أنها
تغيرت وليست كما كانت متهورة ومندفعة , كانت
تزوجت مباشرة دون أن تقدم ذاك العرض
السخيف لمعجبيها "

هب دجى مستقيما في جلسته وقال بحدة


" مطر شاهين لا أسمح لك باتهام ابنتي بهذا الشكل
ولا أن تلصق أفكارك بها , ولا تنسى أنها ابنة عمك
وأم ابنتك وكانت زوجتك وتحت جناحك يا رجل "

أشاح بوجهه جانبا ودس يديه في جيبي بنطلونه
ولم يعلق فقال دجى

" هل أعلم سبب غضبك هكذا ؟ المقالة لم تقرأها اليوم
وأعتقد أنك نفثت نيرانك بالأمس بما فيه الكفاية "

مد يده للطاولة الصغيرة بجانب النافذة ورفع شيئا
من عليها ثم رماه أمام الطاولة المواجهة للأريكة
التي يجلس عمه عليها على نظراته المستغربة
وقد رفع سريعا مجموعة الصور من عليها ونظر لها
يقلبها بالواحدة ثم نظر له وقال

" ما علاقة كل هذا بالموضوع ؟ ومن هو هذا الرجل ؟ "

أعاد نظر للصورة سريعا ثم نظر للوقف
أمامه وقال باستغراب

" هذا القائد العام للجيش اللواء
يعقوب العقاد أليس كذلك ؟ "

كتف مطر يديه لصدره وقال ببرود

" أجل والجالسة أمامه ولا تظهر في الصور هي
ابنتك غسق والمكان إحدى مقاهي العمران "

عاد دجى للتفتيش في الصور ينظر للمرأة
التي لا يظهر إلا ظهرها ووجه الجالس أمامها
ثم رمى الصور على الطاولة وقال

" هراء ... من قال أنها هي ولا شيء في الصورة
سوى قفا امرأة "

كان مطر سيتحدث فوقف وقال مقاطعا له

" وإن كانت هي فلا علاقة لك بالأمر ويحق لابنتي أن
تفعل ما تريد , يكفيها تقييدا واضطهادا طوال حياتها "

حرك مطر رأسه بالنفي بحركة عنيفة وقال بحزم

" ترهات .... ألا تتوقع أن ما يريده ذاك الرجل منها
أكبر من ذلك بكثير , ألا ترى حال البلاد الآن وما
تعنيه غسق شراع صنوان لفئة كبيرة من الشعب ؟
إنها ضربة سياسية موفقة لأي طامع في الحكم

" نظر له دجى بصدمة لوقت وملامحه جامدة ككل
شيء حوله وكأنه قطعة من تلك الأثاث قبل أن يهمس
بصوت مصدوم

" ويحك يا رجل ما هذا الذي يوجد في صدرك
إن لم يكن قلباً ؟ أهذا ما يزعجك في الأمر !
أن يتخذها كجسر في حملة سياسية وهو رجل جيش !! "

التفت من فوره للنافذة مجددا وأولاه ظهره يشد
قبضتاه بقوة بجانب جسده وقال دجى مبتسما بسخرية

" ولا تقل لي أن ما أزعجك في باقي المقالة أسبابه
سياسية أيضا ؟ وأنك تركتها معلقة حتى الآن لأسباب
سياسية وهي من كان زواجها بغيرك سيكون تدبيرا
أكبر لحمايتها ؟ ولما يا ابن شقيقي تضع من يراقبها
على الدوام حد أن التقط هذه الصور في وقتها ؟ "

استدار مواجها له مجددا وعيناه ونظراته تحمل كل
معاني العناد والتحدي وقد تنفس بقوة عدة مرات قبل
أن يهمس بصوت عميق


" قسما أقتل أي رجل سيقترب منها "

نظر له المقابل له لوقت قبل أن يتوجه نحوه
ويقف مقابلا له وضرب بقبضة يده اليمنى على
عضلة صدره القوية حيث قلبه وهمس عاقدا حاجبيه

" حرر هذا يا مطر قبل أن يقتلك , ألعيب ليس في
أن يعشق رجل الحروب امرأة بل العار أن يكسب جميع
معاركه الشرسة إلا معركته معها ... ومع هذا "

وقال جملته الأخيرة وهو يضرب بقبضته على قلبه
مجددا ثم تركه وغادر من هناك ومن الغرفة بأكملها ,
وما أن كان عند الباب وقد سحبه من مقبضه معه
قال بصوت منخفض يعلم جيدا أن الواقف هناك يسمعه

" اجزم أنك قادر على إرجاعها لك كما كانت منذ
أربعة عشرة عاما وبسهولة فلا تظلم ابنتي أكثر يا مطر
فأنا لن أسكت لك "



*
*
*

نظرت له بعينان متسعتان وملامح جامدة وكأنها
صورة ميتة على الجدار وقابلها هو بملامح مسترخية
تماما وجل ما يحاول فعله أن لا يضحك ويخسر كل شيء ،
قالت ما أن أفاقت من صدمتها

" تمزح بالتأكيد يا أبان ؟ "

حرك رأسه بالنفي هامسا

" أبدا "

شدت قبضتها وقالت بضيق

" بأي عقل تريدني أن أصدق هذا ؟ تتزوج بفتاة في
الثالثة عشرة ! "

قال من فوره

" أنا لم أقل سأتزوجها قلت أريدها وبينهما فرق
كبير وسأنتظرها بضع سنوات لا مشكلة لدي المهم
أن تكون لي "

بقيت على صمتها تنظر لعينيه نظرة شك وقد حرك
هو كتفيه مبتسما وقال

" أنتي قلت اختار وهذا هو اختياري "

وتابع كي لا تشك بالأمر

" كنت أرفض لأجل هذا السبب
وما تحدثت إلا بسبب إلحاحك "

وما أن شعر بأنها لم تقتنع ولا بسببه وإن كان
حقيقيا سارع بقوله

" أريدها يا أمي ولن أتزوج بغيرها أبداً ، كنت سأحتفظ
بهذا في نفسي وعنها حتى هي إلى أن يحين الوقت
المناسب لكنك لا تتركين لابنك الفرصة ليعشق في صمت "

وختم جملته تلك بابتسامة صغيرة فكان رد فعلها
الوحيد أن وقفت مغادرة دون أن تتحدث بشيء
فضرب قبضته في مسند الأريكة مبتسما بانتصار
ووقف قافزا ما أن رأى التي خرجت من باب المطبخ
تمسك كتابها المدرسي في يد واليد الأخرى تمسك بها
سندوتشا تمضغ ما قضمته منه للتو ، توجه نحوها
ووقف أمامها موقفا لها وقال وهو يغرس
إصبعه في خدها

" أنتي ألا تلاحظين أن وزنك يزداد وقت الامتحانات ؟
يبدوا أنك تهربين كثيرا من الدراسة
بحجة أنك جائعة "

أبعدت يده عنها وتابعت طريقها تمضغ ما في فمها
دون أن تعلق على ما قال فأمسك ذراعها موقفا لها
وهمس عند أذنها مبتسما

" ما رأيك في زيارة لمدينة العمران ؟ هذا وقت تشغيل
الشلالات فالربيع على الأبواب "

نظرت له بعينان متسعة من الصدمة وابتلعت اللقمة
التي كادت تغص بها ثم رمت كتابها من يدها قائلة

" قل قسما تأخذني هناك ؟ "

ضحك من فوره فهو يعلم أن زيارة تلك المدينة التي
اشتهرت بأنها الأجمل بين مدنهم جميعها خاصة
بعد العناية الفائقة التي خصتها بها ابنة رئيسهم
حلم شقيقته الوحيد وأن والدها وعدها بأخذهم هناك
ما أن يجد وقتا ويعلم كما تعلم هي أن ذاك اليوم لن
يأتي لأن والدهم لا يعرف شيء أسمه إجازات
وغيهم لن تفكر في طلبها منه ولا مجرد تفكير , قال
مبتسما بانتصار

" أجل إن فعلت أمرا واحدا أطلبه منك "

قالت بحماس

" اطلب ما تريد "

قرب رأسه منها وقال بصوت منخفض

" أريدك أن تخبري والدتي أنه ثمة فتاة خطبتك لشقيقها
وأنت رفضت الأمر فورا "


نظرت له بصدمة فقال من فوره وبابتسامة واسعة

" كذبة بيضاء صغيرة لن تضر أحداً في شيء "

قالت بصدمة

"هل تعلم ما ستكون نتائج هذه الكذبة البيضاء الصغيرة ؟ ستقطع والدتي لساني بكل تأكيد ، بل وستقطع أيضا
علاقاتي بصديقاتي جميعهن "

حرك كتفه وقال مغادرا

" لا بأس إذا وسنلغي الاتفاق "

وكما توقع لحقت به فورا وقالت وقد قفزت أمامه

" ما رأيك أن نغير من صيغة الجملة كي لا يكون
نتيجتها قطع لعنقي "

نظر لها بتفكير قليلا ثم قال

" هات جملتك المعدلة لنرى "

قالت بعد تفكير لحظة

" اخبرها أن ثمة من لمّحت لذلك بأن سألتني إن كنت
أوافق إن كنت مكان فتاة ما ، هكذا سيكون وضعي
أفضل ولن تحرمني من دراستي على الأرجح بسبب
ما ستضن بأنها أفكار صديقاتي أو حتى أن شقيق
إحداهن سبق ورآني وتحدث معي ... ولحبل المشنقة
فورا يا بثينه "


قلّب الفكرة قليلا في دماغه ثم قال

" لا بأس أنا موافق المهم توصلي لها المعلومة
المطلوبة وتسمعي ردها بالرفض القاطع
للموضوع .... اتفقنا ؟ "

رفعت سبابتها قائلة بابتسامة

" اتفقنا "

وتابعت بعدما قضمت قضمة أخرى من سندوتشها

" أخبرني الآن ما سبب كل هذه التمثلية التي عليا أن
أكون أنا بطلتها "

دفع جبينها بإصبعه قائلا بابتسامة

" إن أخبرتك به ستضيع منك فرصة زيارة العمران
فسيكون الجواب مقابلا لخدمتك البسيطة لي "

رفعت كتابها من الأرض وقالت مغادرة من عنده

" لا ... لم أعد أريد أن أعلم "

راقبها مبتسما بنشوة وهي تصعد السلالم ، سينجح
مخططه بالتأكيد فهو يعرف والدته جيدا لن تفعل أمراً
ليست مقتنعة به وسترى الدليل أمامها في ابنتها ,
دس يديه في جيبيه وصعد السلالم بقفزات وضحك
مع نفسه وهو يتذكرها وما حدث معهما وردة فعلها ،
دفع بقدمه باب غرفته الشبه مفتوح ودخل مغلقا له بها
أيضا ويديه لم يخرجهما من جيبيه متمتما بابتسامة

" وحتى تكبر تلك العصفورة الصغيرة سيكون ثمة حل
أو أتزوجها حينها ما المشكلة ؟ "

*
*
*


أغلقت أزرار معطفها الشتوي الأحمر بعدما دست
الوشاح الصوفي الأبيض الملتف حول عنقها داخله
جيدا وعدلت ياقته وقد أخفت شعرها تحتهما ثم توجهت
للمرآة ولبست القبعة البيضاء المصنوعة من الفراء
الناعم لتحيط برأسها وشعرها لا يظهر منها سوى
وجهها والقليل من عنقها بسبب ربطة ذاك الشال
الشتوي الخفيف , لم يكن بإمكانها ارتداء الحجاب
والأسباب أمنية طبعا فاستعانت بكل هذا لتغطي شعرها
وعنقها , والفكرة ككل مرة كانت لوالدها وكم حمدت
الله أنهم في فصل الشتاء والبرد القارص لما كانت لتتخيل
نفسها تضع قبعة مستديرة كبيرة لتخفي كل هذا !!
تصورت أنها ستكون ككرة من الفراء الملفوفة في
معطف سميك لكنها اكتشفت أن الواقع على العكس
تماما وهي تنظر لنفسها في المرآة وذاك اللون
الأبيض يحيط بملامحها الجميلة مبرزا لها أكثر
ومتناسقا بانسجام مع اللون الأحمر للمعطف
والبنطلون الأبيض الضيق , ولأنهم قرروا أن لا
تأخذ جميع أغراضها اختارت القليل فقط في حقيبة
كتف كبيرة وأنيقة بأرضية بيضاء وأزهار حمراء
كبيرة قد طبعت عليها ، اختارت حذاء أحمر من
أحذيتها التي لن تستطع أخذها معها أيضا وسيتكفل
والدها بأخذ باقي أغراضها معه في الطائرة حتى
باريس , ولأن رحلتها بالقطار ستستغرق ساعتين
ونصف عليها المغادرة أولا ولوحدها , فتحت حقيبتها
وأخرجت منها الصندوق الصغير بحجم كف اليد
وأخرجت منه خاتم الزواج الذي أهدته لها مربيتها
قبل وفاتها وأوصتها سابقا أن تلبسه حين تخرج
لوحدها لأنه سيحميها من الرجال , كانت تمنت
لو أنها لبسته تلك الليلة حين تصرفت بغباء لن
تسامح نفسها عليه أبدا لكن عمتها رفضت ذلك
من أجل إتمام باقي الخطة حد قولها , تعلم أن الله
وحده من يحمي البشر لكنها تصدق أيضا اعتقاد
مربيتها تلك رغم يقينها من أن الرجال الجيدون
فقط من يبعدهم خاتم زواج في أصبع الفتاة
أما السيئون فلا تعنيهم تلك الأمور أبدا ، ورغم كل
ذلك أرادته في أصبعها لتشعر بالأمان وبأن تلك
المرأة الحنونة الطيبة قريبة منها ، التفتت جهة
الباب حين سمعت تلك الطرقات المنخفضة وانفتح
بعد قليل ودخلت الخادمة التي قالت بأدب

" السيد ينتظرك في الأسفل وطلب أن أستعجلك "

رفعت حينها حقيبتها ووضعتها على كتفها وتحركت
خلف التي غادرت أمامها ، لا تصدق أنها ستغادر
هذا المنزل وهذه البلاد ؟ أمور غريبة ومتتالية حدثت
معها حتى أنه يصعب عليها استيعاب البعض منها
وهي من ظنت أن الخروج من هذا العالم ليس سوى
حلم ستبقى تطارده في العتمة حتى ينتهي عمرها ,
وأن المرأة التي أنجبتها والتي تجزم أنها إن التقت
بها في الشارع مصادفة لن تعرفها قد تتمكن من
رؤيتها يوما بالفعل , أن تلمسها حقاً كواقع وليست
خيالا من خيالات أحلامها الوردية ، نزلت السلالم
وغادرت المنزل لتجد سيارة في انتظارها ووالدها
وجدها يقفان قربها ، توجهت للأقرب لها منهما
وارتمت في حضنه وقد طوقها بذراعه ماسحا بكفه
الأخرى على ظهرها قائلا

" سنلتقي في باريس بعد أقل من أربع ساعات
فلما الوداع الآن ؟ "

ابتعدت عن حضنه ونظرت لعينيه قائلة

" لماذا أسافر وحدي ؟ "

وضع يده على كتفها قائلا

" الدواعي أمنية يا تيما كما تعلمين ، وستكونين
محمية لا تخافي يا ابنة مطر شاهين "

حركت رأسها برفض وملأت الدموع عينيها
هامسة ببحة


" أنا لست خائفة على نفسي بل من أن تبقى هنا
وأسافر وحدي ، لا تفعلها أبي أرجوك لأني قسما لن
أغادر باريس حينها ولا تحت التهديد "

ابتسم ومسح على خدها قائلا

" أقسم أني سأكون معك هناك ، هل تصدقين ذلك الآن ؟ "

هزت رأسها بنعم تمسح عينيها الدامعة بظهر كفها
ثم توجهت لجدها وحضنته وقد قال ضاحكا

" أخيرا تذكرتني ! أنا من سيبقى هنا بعدك وليس
والدك لتودعيه قبلي "

تعلقت بحضنه وقد غلبتها دموعها وقالت بعبرة مكتومة

" سأشتاق لك جدي ، كن هناك سريعا أنت أيضا أرجوك "

قال وهو يضمها بحنان

" وأنا سأشتاق لك أميرتي ولا تقلقي سأكون عندك
في أقرب وقت "

ابتعدت عنه تمسح الدموع التي أغرقت وجنتيها
تعدل بيدها الأخرى قبعتها حين علا صوت منبه سيارة
الأجرة يستعجلها فصعدت في المقعد الخلفي ونظرها
معهما حتى تحركت السيارةمغادرة وجل ما تخشاه
بالفعل أن لا تراهما مجددا رغم ثقتها في قسم والدها
الذي لم يحنث به يوما ، وتعلم أنه يستحيل أن تسافر
برفقته فهما لم يترافقا يوما لا داخل لندن ولاخارجها
وكان حريصا على إبعاد نفسه عنها أكثر من حرصه
ناحية رجاله الذي تراه يتحرك معهم بحرية من كثرة
خروجه واستقباله لهم حتى أن البعض منهم كان
يستخدم باب المنزل الرئيسي في دخوله وخروجه ،
شقت بها السيارة الطرقات المزدحمة حتى وجدت
نفسها أمام مبنى محطة القطار التي احتاجت لأن ترفع
رأسها عاليا لتراه ما أن نزلت ، بل لتصل بنظرها لارتفاع
واجهته المقوسة والتي تتكون من مجموعة أعمدة حجرية
تفصلها عن بعضها ألواح زجاجية معتمة ولامعة وتوجد
أعلاها ساعة كبيرة مستديرة اكتشفت من خلال النظر
لعقاربها أن الطريق إلى هنا أخد منها قرابة النصف ساعة ،
نزلت بنظرها لأبواب المحطة والتي كانت أيضا جزئا من
تلك الأعمدة ... كانت سبعة أبواب عالية ومتجاورة
يدخل منها أشخاص لا ينتهون أغلبهم يحملون حقائب
وأغراض أكثر من عددهم ، ، قطار الـ ( ريوستار )
كم سمعت عنه سابقا ولم تراه يوما , مقصد جميع
السياح ، وكيف لا يكون مقصدهم وهو القطار الذي
يعبر تحت مياه بحر المانش في نفق مظلم ليربط
عاصمتي دولتين مختلفتين ( لندن ـ باريس ) تقدمت
من أبواب المحطة تحمل حقيبتها على كتفها ودخلت
إحداها ولأن الوقت نهاية الأسبوع كما أخبرها جدها
ولأنهم في فصل الشتاء فالمحطة ستكون أقل ازدحاما
لكن ما رأته أمامها لا يشبه ذلك أبدا فقد وقفت مكانها
لا تعرف فيما بقيت مشدوهة تحديدا المكان الواسع
الذي لم تتخيله بهذا الحجم حتى أنه يحوي محلات
تجارية ومطاعم أم كم الأشخاص الذين يتحركون في
المكان ! ورغم عددهم الكبير نسبيا إلا أن اتساع المكان
جعلهم ينحصرون جهة خط العبور في المنتصف حيث
ينتهي لسلم كهربائي يقصده أغلب الداخلين ، شعرت
بشيء دفع كتفها للأمام حتى تحركت نصف خطوة
فالتفتت وهي تتوازن فإذا بشاب نحيل أشقر الشعر
يعبر بجانها ورفع كفيه متمتما بعبارة اعتذار لم
تفهمها لأنه تحدث بالفرنسية فأومأت له برأسها
مبتسمة وتحركت من مكانها تنظر للورقة التي دونت
فيها جميع المعلومات التي شرحها لها جدها كي
لا تنساها وتضطرلسؤال الناس كالبلهاء ، لا تعلم
ما هذا النوع من الاختبارات القاسية التي يضعونها
فيه في أول مرة تسافر فيها ! من أخبرهم أنها تريد
أن تختبر قدراتها الذاتية وسيطرتها على الأمور ؟
فهي اعترفت بأنها فاشلة من تلك الليلة التي دخلت
فيها ذاك الملهى الليلي ، قبضت أصابعها على الورقة
بقوة وشعرت بتقلص غبي في عضلة قلبها ونظرت
لا شعوريا خلفها حيث أبواب المحطة وشوارع لندن التي
ستتركها خلفها للأبد كما تتمنى ، لكن ثمة شيء وحيد لازال
يشدها للخلف وتشعر بأنها تترك شيئا من روحها معه ,
ولا تستطيع أن تنكر بأنه ذاك الشاب الذي أنقذ حياتها
وأخرجها من ليلة ما كانت تظن أنها قد تخرج منها
على قيد الحياة , وإن عاشت بعدها لا تعلم كيف ستكون
حياتها تلك ؟ الشاب الذي تجهل مصيره حتى الآن
ولن تسامح نفسها ما عاشت إن اكتشفت يوما أنه مات
بسببها ، تنفست بعمق مستغفرة الله وتحركت من مكانها
فالوقت يداهمها وبقي على رحلتها نصف ساعة تقريبا ،
وقفت منتصف الطريق ونظرت لأحد محلات الهدايا
وأدخلت يدها في جيب معطفها وأخرجت ما فيه من نقود ,
لم تكن أوراقا قليلة ويمكنها شراء هدية لوالدتها فقد
لا تجد فرصة أخرى بما أنهم سيغادرون فرنسا فورا ،
وفي بلادها هناك قد لا يجد والدها وقتا لإخراجها وهي
لا تعرف شيئا عن طبيعة وضعها هناك ، لكن ما تعلمه
أنه لن يجد ما أن يصل وقتا ولا للنوم لحجم الأمور
التي ستكون في انتظاره فهي لا تجهل الوضع هناك
وحساسيته هذه الفترة , غيرت مسارها يسارا ودخلت
المحل الذي لم يكن فيه غيرها سوى شخصان يبدوان
زوجين يختاران هدايا عديدة معا ويبدوا أنهما متخالفان
حول سعر إحداها والبائع منشغل معهما فتوجهت للرف
الآخر وبدأت بالتفتيش بنظرها سريعا على أسعار
الموجودات فأغلب تلك الأشياء تنفع هدية وهي لا تعلم
عن ذوق والدتها وما قد يكون مناسبا ، مسحت عيناها
والدمعة التي كانت ستنزل منهما فكل شيء يمكنها
استيعابه وتصديقه إلا أنها وأخيرا ستلتقي بوالدتها ,
المرأة التي رأت لها ألف وجه في أحلامها وليست تعلم
أيها يكون لها , وقع اختيارها على دبوس حجاب
كان سعره يكفي ليدل على جماله وكان معروضا
في علبة مخملية جميلة , ليست تعلم إن كانت والدتها
محجبة أم لا لكنها لن تتخيل أن والدها الذي كان حريصا
على حجابها إلا للضرورة أن تكون من كانت زوجته
ليست كذلك , دست الهدية في حقيبتها وخرجت
من هناك واجتازت عتبة الباب وهي ترفع نظرها
من حقيبتها التي أغلقتها للتو لتقف متسمرة مكانها ,
ليست هي فقط بل كل شيء من حولها توقف تلك
اللحظة وتلاشت الأشياء الجامدة والمتحركة وضاق
ذاك المكان باتساعه وهي ترى الواقف في الجهة
المقابلة يستند بظهره على الواجهة الزجاجية لأحد
المحلات لافا ساق حول الأخرى وإحدى يديه في جيب
بنطلونه والأخرى يمسك بها علبة عصير وينظر لها
تحديدا دون أن يزيح نظره عنها بل عن عينيها , حتى
حين رفع العلبة لشفتيه ورشف منها رافعا رأسه ثم
أبعدها منزلا إياه عيناه لم تفارقانها , ملامحه الهادئة
الجامدة كانت تعاكس تماما الضجيج في قلبها الذي
كان يكاد يخرج من مكانه تلك اللحظة وأنفاسها التي
باتت تفقد السيطرة عليها وهي تسحبها لرئتيها بقوة
وتتنفس بصعوبة ، هو ذاته ذاك الشاب ... !
قد تخطئ أي شخص إلا هو فرغم شدة الموقف
ذاك اليوم والنور المتمثل في أعمدة الشوارع ومصابيح
الجدران فقط إلا أن صورته ضلت عالقة في دماغها
بكل تفاصيله ... حتى طوله كان كما تذكره جيدا , لم
تكن تعلم أن المصادفات لها أن تلعب كل هذا الدور
وقد تراه في أول خروج لها من المنزل بعد تلك الليلة ,
بل وفي الخروج الأخير لهافي هذه البلاد , لم تستطع
مقاومة امتلاء عينيها الواسعة بالدموع وهي تراه
حيا أمامها وبخير ، لم يفقد حياته ولا أي طرف من
أطرافه ولن تتعرض لتك الأسئلة من ضميرها
المتألم مجددا ، لكن ما لا تفهمه أن الصدمة لم
تصلب ملامحة كما حدث معها وهي تكاد تختنق
بأنفاسها لرؤيتها له !! وسرعان ما وصلت للنتيجة
المؤسفة ... رآها منذ دخولها من بوابة المحطة
وكان يعلم أنها موجودة في هذا المحل تحديدا
وستخرج منه , رمى العلبة من يده لتستقر في سلة
القمامة بقربه ونظره لم يبتعد عن عينيها رغم حركة
الناس في المسافة بينهما وكأنهما صور مثبتة على
الجانبين , وما أن عدل وقفته وتحرك من مكانه خطوتين
للأمام باتجاهها كان رد فعل قلبها الفوري انتفاضه
بشدة في صدرها وشعرت بالحرارة في أوصالها وكأن
أوردتها تشتعل , ودون شعور منها تحركت من هناك
متوغلة لداخل المحطة أكثر بخطوات سريعة لم تلتفت
خلفها أبدا وبالكاد كانت ترى شيئا أمامها وليست تعلم
حتى إن كان بتحركه ذاك يقصدها كما فهمت أم أنه فكر
في مغادرة مكانه فقط , لا تعلم شيئا سوى أنه كان سيغمى عليها بالتأكيد إن اقترب منها أكثر وسمعت صوته ,
واكتشفت لحظتها أنها أجبن بكثير من أن تحقق
دعواتها الغبية تلك بأن تراه وتشكره وتعتذر منه ,
وليست تعلم لما ليست من القوة لأن تواجه موقفا
كهذا ولا تفهم لما قررت فجأة الهرب من ذاك الرجل !!
بل لا تعلم كيف وصلت فجأة لموظفة الدخول وأعطتها
تذكرتها وحينها فقط تمكنت استجماع أنفاسها والالتفات
خلفها فلم يكن هناك سوى رجلين يقفان وراءها تماما
في انتظار دورهما ثم البحث حولها وقد فتشت حدقتاها
الزرقاء الواسعة سريعا في الموجودين في المكان ولم
يكن هناك فيبدوا أنه لم يقصدها وأنها هربت فقط
لتثبت له مجددا أنها طفلة غبية مرعوبة . نظرت
للمرأة التي كانت تحدثها وفي يدها كرت الصعود
الخاص بها فأخذته منها وتحركت من هناك ودخلت
البوابة حيث قاموا بتفتيش حقيبتها ومن ثم ختم
جوازها ، وكانت الإجراءات في غاية السهولة
والبساطة عكس ما تصورت وكانت تخشى , لم تفكر
بالالتفات بعدها ولا تغيير وجهتها ولأن رحلتها سيكون
هذا وقتها بالتأكيد وذاك ما كان مخطط له أن تصل على
موعد الرحلة تقريبا توجهت للبوابة المفتوحة والتي
منها ستتوجه للقطار , نظرت لكرت الصعود الذي سلمته
لها تلك الفتاة لتتأكد من رقم العربة ورقم المقعد الذي
ستجلس فيه , ومن خلال رقم البوابة وصلت للعربة
المعنية ولم تشعر بنفسها إلا وهي جالسة في مقعدها
وتنفست الصعداء وهي تبتسم على حماقتها حتى
أنها اجتازت الإجراءات التي كانت موقنة من أنها لن
تفهم من أمكنتها شيئا ! بل ووجدت نفسها في مكانها
وكأنه ثمة من حملها ووضعها هنا , مسدت جبينها
بأصابعها متمتمة بضيق

" جبانة هل كان سيختطفك مثلا أو يقتلك ؟ "

نظرت للمقعد بجانبها ثم لصف المقاعد في الطرف
الآخر وعبست ملامحها الجميلة , العربة كانت مجهزة
تجهيزا حديثا ومقاعدها طويلة ومريحة كتلك التي في
الطائرات لكنها تمنت حقا أن كانت هناك فالمقاعد في
تلك الجهة فردية وليست تعلم من سيكون صاحب
رقم الكرسي الملاصق لها , تنهدت باستسلام فلا
يمكنها الاعتراض على هذا , أرخت ساعديها على
حقيبتها في حجرها ولم تفكر أن تضعها في الأعلى
حيث يضع البقية حقائبهم وهم يأخذون أمكنتهم فلن
تفارقها أبدا وستتحمل وجودها على ساقيها أو عند
قدميها إن لزم الأمر , بدأ الأغلبية بالجلوس في
أماكنهم وصاحب الكرسي بجانبها لم يحظر بعد حتى
ظنت أنه سيكون فارغا , لكن سرعان ما تبدد ذاك
الأمل وهي تلمح تلك الساقين التي وقفت عند الكرسي
لأن كرسيها كان الملاصق للنافذة , رفعت نظرها للأعلى
سريعا ونظرت باستغراب للذي ابتسم لها وقال بضع
كلمات بالفرنسية فتذكرت فورا أنه ذات ذاك الشاب الذي
اصطدم بها عند الباب وكان مستعجلا على ما يبدوا ,
ولم تستغرب الآن تأخره خاصة إن كان اشترى تذكرته
من هنا ولم يقم بالحجز مسبقا , جلس في الكرسي متنهدا
براحة ثم نظر لها وقال بإنجليزية ركيكة بعض الشيء

" ضننت أني لن أدرك القطار لولا أن الأمور
تتيسر هنا بشكل مبهر "

أومأت له برأسها موافقة وعلى شفتيها ابتسامة
طفيفة ثم سرعان ما أبعدت نظرها عنه للنافذة
بقربها حين تحرك القطار معلنا بدأ رحلتهم التي
ستأخذ منهم ساعتين ونصف للوصول لمحطة
غاردلي نور في باريس وحينها ستكون مع والدها
فرحلته بالطائرة لن تأخذ أكثر من خمس وأربعين
دقيقة حيث سيصل قبلها هناك , وكما أخبرها سينطلقان
فورا وفي أقرب رحلة لموطنهماالأم وهذا أكثر ما
يسعدها فهي لا تتخيل أن تبقى يوما آخر بعيدة عنه
بعدما حُسم أمر هجرانهم الطويل له , نظرت لأصابعها
التي كانت تقبض بها بقوة على حزام حقيبتها
لتظهر فورا صورة من رأته هناك منذ قليل وتركته
مع كل شيء بقي هنا .... طفولتها الوحيدة , مربيتها
المتوارية تحت تراب لندن والمنزل الذي عاشت فيه
لأكثر من أربعة عشرة عاما سجينة جدرانه , ثم
أسوأ ذكرى وأكبر خطأ اقترفته في حياتها وقت
ذهابها لذاك الملهى الليلي من أجل شيء لم تعرف
أنه سيتحقق لها الآن وبسهولة دون أن تضطر
لمخالفة أوامر والدها والمغامرة بنفسها وحياتها ،
شعرت بجسدها ارترتجف من مجرد ذكرى تلك
الليلة فدست يديها بين حقيبتها وجسدها تحمد
الله هامسة وقد رضيت بدفن ذكرى ذاك الشاب
هنا بما أنها ستدفن ذكرى تلك الليلة معه أيضا ،
بدأت رحلتهم بالريف الإنجليزي وخطف نظرها
سريعا تلك المناظر التي تأسر الأنظار والطبيعة
منقطعة النظير , ارتجف جسدها بأكمله حين
شعرت بتلك اليد التي امتدت ناحيتها لتكتشف أنها
للشاب الجالس بجانبها ومن نسيت وجوده تماما وقد
قال مشيرا للخارج وبذات الكلمات الإنجليزية الركيكة

" من هناك أتيت حتى محطة واترلوا لأركب هذا القطار ,
المكان هناك رائع وأجمل مما يظهر هنا "

حبست أنفاسها تنظر ليده التي بدلا من أن يرجعها
مكانها استقرت فوق حقيبته وحمدت الله أنها دست
يديها منذ قليل , نظرت له حين علت ضحكته في
أرجاء العربة الساكنة وقال شيئا بالفرنسية ثم سحب
يده وعاد للتحدث بالإنجليزية قائلا ونظره على وجهها
ونظراتها المذعورة

" ما بك يا فتاة أنا لا آكل الجميلات "

وعاد يتمتم بالفرنسية وهو يعدل جلوسه فعادت
بنظرها للنافذة مجددا ولم تنظر ناحيته مطلقا وهي
تسمع همسه يدندن لحنا فرنسيا لا تفهم منه شيئا
وعلمت حينها أن رحلتها ستكون سيئة جدا برفقة
هذا المختل عقليا بالتأكيد , دست يديها أكثر تحت
حقيبتها وألهت نفسها برؤية تلك الطبيعة منقطعة
النظير والأرض التي يغطيها بساط أخضر ممتد وقد
بدأت الأمطار بالهطول لتعطي لذاك المشهد رونقا
مختلفا وكأنها صورة من سراب رسمت فوق سطح
الماء النقي , كان الجالس بجوارها لازال لم ينهي
سيمفونيته بعد وقد بدأ بمضغ شيء ما وهو يغني
بهمسات لن يكون لغيرها شرف سماعها والانزعاج
بها بالتأكيد , وما هي إلا لحظات وسمعته يتحدث
مع أحدهم بالفرنسية وكان شخصا علمت فورا أنه
يقف قرب كرسيهما ويحدثه ، وما هي إلا لحظات
ووقف ذاك الشاب وغادر , فتنفست الصعداء فيبدوا
أحدهم استدعاه سريعا أو أن يكون الحظ ابتسم لها
وقد دعاه للجلوس قربه في مكان ما , لكن فرحتها
تلك أيضا لم تكتمل وهي تشعر به عاد للجلوس سريعا
فتنفست بعمق وعلق ذاك النفس في آخر حنجرتها
وانتابها شعور يشبه التحول لصنم حجري وذاك العطر
يتغلغل مع أنفاسها ليعيدها لذكرى ما حدث تلك الليلة
ولذاك الجسد والحضن فاسترخت على ظهر مقعدها
دون أن تنظر جانبا حيث الجالس بجوارها وكأنها تريد
التأكد أولا أنه بالفعل تم تغيير ما واختفى ذاك الشخص
كما اختفى صوت غنائه , وببطء نقلت حدقتيها فوجهها
وتوقفت نبضات قلبها التي كانت للتو تعدوا في سباق
ماراتون حين وقع نظرها على اليد والأصابع التي كانت
تعيد مسند الكرسي الجانبي مكانه , وما أن وصلت
للسترة الرمادية التي تعاكس لون سترة الذي كان يجلس
بجوارها علمت فورا أنه تغير وليس ملابسه فقط فهذه
الأكتاف العريضة لا تشبه أبدا جسد ذاك الفرنسي النحيل ,
رفعت نظرها لوجهه أخيرا ليعلق على نصفه المقابل لها
وهو منشغل بتركيب جهاز شحن هاتفه في جهاز الكرسي
ولم ينظر جهتها حتى استوى جالسا وهو يسترخي في
جلوسه والتفت إليها لترى في عينيه تلك النظرة الحائرة المرتبكة التي جعلت الدماء تجف في عروقها وفقدت
السيطرة على نظراتها التي علقت في عينيه الفاحمتين
لتتعلم وقتها فقط معنى أن يعبث شيء ما خفي بدواخلها
حد أن تفقد السيطرة على أطرافها ، لم تفهم لما شعرت
من نظرته تلك أنه يريد قول شيء ما ويعجز عن ذلك
أو عن إيجاد صيغة ملائمة , تنفست هواءً ملأ صدرها
الذي ارتفع وهبط مع خروجه وهمست مبتسمت وحدقتاها الزرقاء ترفض أن تحرر عينيه من شباكهما

" It seems that you will never stop taking me out of bad Situations "

( يبدوا أنك لن تتوقف أبداً عن إخراجي من المواقف السيئة)

تحركت حدقتاه في ملامحها الجميله الرقيقة والطفولية
وكأنها ترسم تفاصيلها وتخزن صورة لذاك الوجه
الدائري الصغير شديد بياض البشرة والمحاط بفراء ناعم
ناصع البياض وكأنه ينقص تلك الملامح الناعمة أشياء
تطفي رونقها عليها وتبرز أكثر زرقة تلك الأحداق
الواسعة والوجنتان المتوردتان ، عاد بنظراته لتعانق
زرقة عينيها وكأنه يتفنن بالفعل في تعذيبها ، ثم
ودونما رأفة بقلبها الوليد .... ابتسم , لتتسلل تلك
الابتسامة في قسمات وجهه القاسية الجذابة لتكتشف
حينها فقط أنها لم تعرف حياتها معنى الوصول بقلبها
لحالة الانتشاء ومعنى أن يبتسم كل شيء حولها معانقا
روحها بسعادة لا يمكنها وصفها ولا التعبير عنها ,
كان قلبها يرقص بين ضلوعها وهي تنظر لملامحه بهذا
القرب منفصلان تماما عن كل شيء حولهما , تريده
فقط أن يخرج من صمته , أن يقول أي شيء وإن كان
لا معنى له , تريد أن يترجم نظرته وابتسامته التي يكاد
يذبحها بها لكلمات وأن تختفي منهما لمحة التردد
البغيضة التي لا تفهم سببها , عضت طرف شفتها
لا شعوريا وهي تنظر لجفنيه يسدلان للأسفل قليلا وشفتاه
تنفرج ليقول شيئا قرر أن يخفي حتى نظراته عنها وهو
يتفوه به مما جعل أنفاسها تعلق في حلقها من الترقب
ليدمر كل ذاك الانتظار والمشاعر المتزاحمة وهي ترى
الجمود الذي طغى على ملامحه المسترخية وتحولت
نظرته الدافئة تلك لنظرة أخرى تشبه برودة شتاء لندن
وكآبته مما جعل أوصالها جميعها ترتجف فنزلت بنظرها
ببطء وكأنها تبحث عن مشنقتها حيث كانت نظرته قد
استقرت وكادت تبكي وهي تنظر لما وقع نظره عليه
( خاتم الزواج ) يتوسط خنصر يدها اليمنى , كرهت تلك
اللحظة نفسها وحظها وكل موقف سيء في الحياة اتفق
عليها ليجمعهما معا في كلى المرتين , شعرت بالكآبة
وهي تنظر لوجهه الذي أداره بعيدا عنها وقد عاد ذاك
الحاجز الصلب للوقوف بينهما وشعرت حقا بالعجز , لا
يمكنها التبرير وقول أن هذا الخاتم ليس لها وأنه مجرد
إجراء حماية وهمي بائس ظنت أنها ستحمي به نفسها
فإذا بها تدمر كل شيء فما سيكون موقفها وهي تبرر له
عن أمر لم يسأل عنه ؟ وهل سيصدقها مثلا وهي فتاة
الملاهي الليلية كما يظن ، وتستغرب حتى أنه جلس
بجوارها وابتسم لها , انتزعت بالقوة نظراتها المليئة
بالأسى واللهفة من وجهه ونظرت للنافذة تقبض بيديها
بقوة على ذراعي حقيبتها لتتحول تلك الصور الريفية
الجميلة في الخارج فجأة لسواد ما أن عبر القطار نفق
بحر المانش وكأن الطبيعة نفسها متفقة ضدها ,
لم تستطع النظر له مجددا ولا تريد أن ترى تلك النظرة
في عينيه أو أن يتهمها بالتلاعب , كان النفق سيأخذ من
رحلتهم عشرين دقيقة قبل أن يشق بهم أرياف فرنسا وكانت
تعلم وقتها أن رحلتها لن تتحول أبدا لأسوأ مما وصلت له ,
كانت تريد شكره عما حدث وأن تعتذر أيضا بما أن الفرصة
أصبحت أمامها وبأن تشرح موقفها من كل ما حدث تلك
الليلة وأن تخبره أنها عربية ومن ذات دولته لكن ذلك كله
تلاشى كتلك الطبيعة التي اختفت ليحل محلها سواد تتخلله
أضواء صناعية كئيبة , شعرت بتشنج كبير في أطرافها
ونظرت له دون شعور ما أن سمعت تمتمته تلك وعلا
الضجيج في قلبها وهي تنظر لعينيه المغمضات وقد اتكأ
برأسه للخلف على مسند الكرسي ، ماذا يعني هذا !
لما يقتلها بهذه الطريقة القاسية ! شعرت بقلبها يتفتت
كالطوب الطري وأشفقت على نفسها حد الألم , تمنت
أن كانت تمتمته تلك شتما لها بالعربية التي سيظن أنها
لن تفهمها ولا كان ما سمعته الآن وكأنه يذكرها بأنه
رجل لا يليق بفتاة أوراق سجلها أسود أمامه , استرخت
أيضا وبألم في معقدها ونظراتها الكئيبة تراقب خطوط ذاك
النفق الطويل ولازال يصل لمسامعها صوته الرجولي
العميق المنخفض وهو يتلو الآيات الواحدة تلو الأخرى
تلاوة متأنية وبنبرة مرتخية ( سورة الرحمن ) كانت
ما اختار قتلها بها آية تلو الأخرى وكأنها لم تسمعها
سابقا ولم تقرأها مئات المرات , لكنها ليست هكذا ليس
بهذا الصوت وبهذه المعاني التي تحملها الآن في كلماتها ،
لما يختار تلك الأيات التي تتحدث عن الجنان والحور العين !
هو موقن من أنها لا تفهم ما يتمتم به ولا يقصده رسالة
موجهة لها ... إذا فالمعني به نفسه , حقيقة كانت أقسى
عليها من الموت ذاته والذي ذبحها به تدريجيا , لم تعد
تشعر بالمسافات بعدها ..
لا باجتيازهم ذاك النفق ولا بأرياف فرنسا الخلابة حتى
توقف قطارهم معلنا الوصول لمحطة غاردلي نور في
باريس وشعرت بذاك الجسد بجانبها وهو يقف حاملا
معه كل شيء حتى حدقتيها التي ارتفعت معه تنظر له وهو
يحمل حقيبة حاسوبه المحمول من الأرض بجانبه دون أن
ينظر ناحيتها أبدا , شعرت بقلبها توقف فجأة حين التفت
لها وهي ظنت أنه خطى خارج الكرسي ليغادر ، نظر
لعينيها التي ما تزال محدقة به بنظرة لو استطاع فك
رموزها لعلم كم هي مشتتة ولا تعلم كيف تغير موقفه
الجديد منها ، وكأنها غيرت القديم مثلا !
عاد لاعتصار قلبها بقبضته المؤلمة مجددا حين تحركت
شفتاه وخرج صوته بنبرة خالية من أي تعبير كحال
ملامحه ونظرته لها

( Why don't you tell that man to care about his responsibilities rather than leaving you vulnerable for problems caused by your indiscretion every time )
( لما لا تخبري ذاك الرجل أن يهتم بما هو مسئول عنه ولا يتركك تتعرضين لمشاكل سببها طيشك في كل مرة )

ليست تعلم لما ارتسم في ذاك الوقت وجه والدها أمامها
وكأنه المعني بكلامه ذاك واتهامه الصريح باستهتاره كما بطيشها هي , خرج صوتها شبه هامس فوق اختناقه وقد
تخلله الضيق من اتهامه

( He did not fail to protect me On a day )

( هو لم يقصر في أمر حمايتي يوما )
كانت تلك كلماتها التي بررت بها فقط موقف أبيها
متجاهلة اتهامه الآخر لها والدفاع عن نفسها أمامه
رغم يقينها بأنه يعني شخص آخر مختلف تماما عن الوالد ، وكان جوابه أقسى من كل ما مر عليها حتى الآن وهو يدير ظهره مغادرا وقائلا بعربية يعتقد أنها لن تفهمها

" لو لم يكن دربنا سينقطع هنا في كل حال لعلمته
درسا جيدا معناه أن يأخذ غيره شيا لم يستحقه يوما "

وتوارى عنها بين الأجساد الخارجة من عربة القطار
فوقفت دون شعور منها وبدأت تندفع بينهم أيضا تحاول
الوصول له رغم أنها لم تعد تراه , غادرت القطار تنظر
في كل اتجاه للأشخاص الذين يتحركون هناك بعد خروجهم
من أبواب عرباته وقد وتحول الأمر لركض في كل اتجاه
وهي تبحث عنه بينهم , تريد أن تجده بل عليها حقا فعل
ذلك فهي نفسها لم تتخيل ذاك الشعور الذي تركه فيها
ما أن ابتعد , شعور بالوحشة والكدر !! شعور لم تكن تشعر
به وهو بقربها ولا حتى بعدما ناء بنفسه عنها وعاد
لقوقعة صمته الطويل , كانت الدموع تملأ عينيها وهي
تبحث بين كل أولئك الأشخاص ولا تراه فوقفت منتصف
المكان وصاحت بالعربية

" أين أنت ؟ علينا أن نتحدث "

أجفلت بقوة ونظرت خلفها ما أن شعرت بتلك اليد على
كتفها ومسحت عينيها بقوة ليظهر لها صاحب الملامح
الغريبة الواقف أمامها وقد قال بالعربية وصوت منخفض

" أنتي الآنسة تيما بالتأكيد ؟ أنا موكل بإيصالك حيث
والدك فالطائرة تنتظر وصولك "
نظرت له بعدم استيعاب لوقت قبل أن تنظر حولها وكأنها
تأمل وللمرة الأخيرة أن تجد من فقدته هنا وللأبد وبسببها
هي , سارت برفقة ذاك الرجل الغريب ما أن علمت أن
ما تريده وتتمناه لن يحدث أبدا , ولأنه لا إجراءات وقت
الوصول غادرت المحطة فورا في سيارة كانت تنتظرها
في الخارج لتقلها للمطار

*
*
*

اقتربت من الجالسة قرب نافذة الغرفة تسند خدها براحة
يدها ونظرها للخرج تمسك شعرهاالقصير للأعلى وجفناها
يشتعلان احمرارا لبكائها المستمر لساعات ومنتفخان من
قلة النوم ، وصلت عندها ولامست كتفها بيدها قبل أن تجلس
أمامها قائلة ببرود

" جمانة عليك أن تتوقفي عن البكاء على أطلال ذاك الرجل
وتفكري في خطوتك القادمة فأنتي تعلمي مسبقا أنه لن يفعلها
ويتصل بك أو يستجدي عودتك له "

نظرت بطرف عينها للجالسة أمامها تناقضها في كل شيء
ابتداءً بملامحها الجذابة وجسدها المتناسق النحيف وانتهاء
بشخصيتها القوية المستقلة وكأنهما ليستا شقيقتين ، نظرت
مجددا للطبيعة في الخارج من خلف زجاج نافذتها ولم تعلق
فقالت تلك بضيق

" تحدثي معي أنا لم آتي هنا لأشاهدك وأنت تبكي "

همست ببرود دون أن تنظر لها

" ومن أجبرك على المجيء ؟ "

حركت رأسها متنهدة بيأس ثم قالت بجدية

" عليك أن تصري على رأيك ولا تضعفي كالسابق فقد علمت
من أمي أنه يتعرض لضغط كبير من والدي وحتى جده فابقي
على رأيك حتى يوافق على ما تريدين "

ابتسمت بسخرية هي أقرب للحزن وحدقتاها السوداء
تمتلئ بالدموع متمتمة

" لا أحد منكم يعرف وقاص على ما يبدوا "

مدت يد شقيقتها الكبرى وأمسكت بها كفها
وقالت دون يأس

" بلى أعرفه وأعرف جده أيضا فلن تخسري المعركة
إلا إن رجعت له من تلقاء نفسك "

حركت نظرها لها هذه المرة وقالت بمرارة من يدرك
الحقيقة أكثر من غيره

" سيجدها حجة للتخلص مني فوقاص لا يحبني وإن كان
يتعامل معي من باب العشرة بالمعروف ، وبعد سفره الأخير
عاد شخص آخر غاضب ومستاء وضجر من كل شيء
حوله والجميع هناك لاحظ ذلك واعترف به "

تركت يدها قائلة

" وإن يكن , كوني مثله ولو لمرة وأصري على
ما تريدين وأقنعي والدي به بعيدا عن سلاح الدموع
لأنه لم يعد يجدي في هذا العصر ، لقد تحدثت معه قبل
صعودي لك هنا وأقنعته جهدي بمطلبك وأعتقد أنه
بدأ يفكر جديا فيما تريدينه والباقي عليك فلا تفسدي
كل ما قمت به بخضوعك وخنوعك والعودة هناك "

انفرجت شفتاها الممتلئتان عن أول ابتسامة منذ
قدومها وقالت بملامح شع الأمل في قسماتها
الحزينة العابسة

" حقا والدي اقتنع بإجراء العملية ؟ "

قالت من فورها

" أجل أو لنقل تقريبا فلم أخرج من عنده حتى
أقنعته بأساليبي الخاصة "

وقفت وتوجهت نحوها وحضنتها بقوة قائلة ببكاء

" شكرا لك يا جيهان أنتي أسديت لي معروفا كبيرا ، كنتِ
دائما تحصلين على ما تضعينه في رأسك .. أنا أحسدك "

أبعدتها عنها قائلة بجدية وناظرة لعينيها الدامعة

" وأنتي كذلك عليك أن تكوني هكذا ، وكل ما عليك
فعله هو تحريك عقل الأنثى وعدم الاستسلام ولا مراعاة
أحد على حساب نفسك فاجعليها هي المركز الأول والمهم
بالنسبة لك , وكوني أنانية يكون الجميع كما تريدين
وبالتالي تحصلين على ما تريدينه , وتوقفي عن البكاء
الآن كأول خطوة "

مسحت عينيها فورا بظهر كفها الممتلئ قائلة

" فليتركوني أجري العملية وستري أن دموعي ستتوقف وسأكون إنسانة جديدة حتى أنتي لن تعرفيها "


وقفت وقالت تسحبها معها ممسكة بيدها

" تعالي إذاً لتغسلي وجهك ثم أخبرك بأول ما عليك فعله
لنجعل ذاك المحامي العنيد يغير رأيه "

قالت تتبعها جهة حمام الغرفة

" لم يعد محام فقد أصبح وكيل نيابة "

وقفت والتفتت لها عند الباب وقالت

" لن أستغرب أن يصبح حتى مدعٍ عام ولهذا عليك
السعي لتكسبيه لتكسبي كل شيء فالحمقاء فقط من
تفرط في رجل مثله "


*
*
*


فتحت باب الغرفة ودخلت مسرعة جهة التي تئن من
الألم مرتمية فوق السرير وتحضن جسدها المرتعش
فحقن مسكنات الآلام التي كانت تحقنها بها وتركتها
لهما تلك الفتاة قبل مغادرتها انتهت وانهار جسدها
الواهن أمام أثار الضرب المبرح لجسدها , وصلت
عندها وأمسكت كتفها قائلة بخوف وقلق

" زيزفون أ .... "

" آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه "

أبعدت يدها سريعا حين خرجت منها تلك الصرخة
المتألمة وقد أدركت سريعا أن إمساكها المفاجئ لها
السبب ، فلم تجد أمامها سوى شد اللحاف بقبضتيها
هامسة ببكاء على حال المرتمية أمامها لا حول لها ولا قوة
" أراني الله فيكم يوما أسودا يا عائلة ضرار سلطان "

ثم تحركت من هناك حتى وصلت الباب ثم عادت ودارت
حول نفسها ولم تعد تعلم ما تفعل فلن يجدي ولا اتصالها
بهاتف الخدم فما فهمته أنهم يرفضون إحضار طبيب
لها وهذا ما كانت تتوقعه من أناس مثلهم سيتسترون
على أفعال ابنهم بالتأكيد ، اقتربت من رأسها الذي
تخفيه بين ذراعيها ولا يخرج إلا صوت أنينها المكتوم
المتوجع وانحنت عند رأسها وقالت تمسح دموعها
الرافضة التوقف

" زيزفون أخبريني ماذا أفعل لك ؟ هل أخبر ذاك الشاب الذي ... ؟ "

انكمشت على نفسها أكثر وخرج صوتها متقطعا
من الألم ومقاطعا لها

" لا .... لا أريد أن أرى منهم أحدا يا خالة أرجوك "
ضربت بكفيها على فخذيها وقالت بعبرة تغلبت عليها

" وهل أتركك هكذا تتألمين لــ.... "

وبترت جملتها والتفتت للخلف حين سمعت باب الجناح
انفتح فوقفت على طولها وتوجهت لباب الغرفة وجل
ما تخشاه أن يكون ذاك الرجل عاد ليقضي على ما تبقى
منها , وأقسمت في قرارة نفسها أنها لن تتركه يدخل
لها وإن قتلها , فليضربها هي هذه المرة ويرحم تلك
المسكينة ، لكن كل ذلك تبدد وقد وقفت مكانها عند باب
الغرفة تنظر للذي أغلق باب الجناح خلفه ودون أن يلتفت
له ، لصاحب الجسد الطويل والبذلة السوداء الأنيقة
والملامح الارستقراطية الفريدة من نوعها ، قال ونظراته المستغربة على عينيها الباكية

" كيف هي الآن ؟ "

نظرت للخلف ثم له ونزل بنظرها لكيس الأدوية في يده ,
عليها أن تجلب لها مسكن آلام وتخشى أن تطلبه منه
فتغضب منها ولا يمكنها الصمت أكثر عن حالتها فهي
تقيأت كثيرا ولم تتناول شيئا رغم أخذها المسكنات ,
وها هي انهارت الآن أمام آلامها التي ما كانت لتعبر
عنها بأنينها المتوجع إن لم تبلغ أقصاها وهي من تعرفها
جيدا منذ أعوام , فتحت فمها وأغلقته عدة مرات ولم
تعرف ما تقول ونظرها يتنقل بين الكيس في يده وعينيه المحدقتان بها حتى ضغط على الكيس بقوة وقال بنفاذ صبر

" ماذا هناك ؟ .... تكلمي "

وما أن فتحت فمها لتتحدث حتى شهقت تمسك فمها بيدها
ملتفتة للخلف وقفز هو راكضا جهة باب الغرفة الذي
خرج منه صوت سقوط قوي على الأرض ودخل ووقف
مكانه وكما توقع ذاك الجسد النحيل شديد البياض مرمي
على الأرض دون حراك قرب حمام الغرفة يغطي أغلبه
الشعر البني المتناثر حولها , ودون تفكير أو تردد توجه
نحوها ورفعها من الأرض وخرج بها من الغرفة مسرعا
وتاركا الواقفة عند السرير ومن ظنت أنه سيضعها عليه
ونزل السلالم يحملها بين ذراعيه حتى وصل سيارته
ووضعها في الكرسي بجانب كرسي السائق برفق ليسقط
ذاك الجسد الفاقد للوعي تماما جهة الكرسي المجاور
فضرب الباب ودار حول السيارة راكضا وركب بعدما
رفع جسدها برفق مسندا لرأسها على كتفه ومثبتا جسدها
بذراعه الملتفة حول كتفيها والأخرى تتحكم في حركة المقود
وغادر بها من هناك يتبعه صوت صرير عجلات سيارته
المسرعة بجنون ‏


*
*
*

دخلت غرفتها ضاربة بابها خلفها بقوة فهذه ثالث
مرة تحاول فيها زيارتها وتمنعها خادمات ذاك المنزل
بحجج سخيفة جدا لا يمكنها تصديقها خاصة أنها تجد
هاتفها مقفلا على الدوام ولم تذهب للجامعة أيضا ،
تخشى أن مكروها قد أصابها أو أن ذاك الرجل المتوحش
عمها يسجنها في المنزل وأخذ هاتفها بالتأكيد ، لكن لما
سيفعلها وهو لم يسبق له أن فعلها ! ثمة أمر حدث بالتأكيد
وهي تجهله فهي لا تظمن أبدا اجرام تلك العائلة ، رفعت
هاتفها ودعت الله بقلبها مستجدية أن لا تضر صديقتها بما
ستفعله فهو حلها الوحيد ، طلبت الرقم الذي لا يعرفه أحد
غيرهما واختارتا أن يكون سريا عن الجميع للحالات الطارئة
فقط ، رن الهاتف مرة .. اثنتين .. ثلاثة ، وكانت ستقطع
الاتصال بسبب خوفها المتصاعد لولا انفتح الخط ووصلها ذاك
الهمس الأنثوي الرقيق المخنوق بعبرته

" مرحبا زهور "

همست باستغراب

" ماريه ما به صوتك هكذا ! هل أنتي متعبة ؟
لما لا تخرجي ولا يتركونني أصعد لك وهاتفك .... "


قطع كلماتها صوت البكاء المكتوم الذي وصلها بوضوح
فهبت واقفة وصاحت

" ماريه ما بك ؟ هل ضربك ذاك المتوحش
لذلك يخفيك عن الناس ؟ "

لم تسمع ردها لأنها أغلقت الخط ، ولم تفكر في إعادة
الاتصال مجددا خشية أن يكون أحدهم دخل لها ، كانت
تشعر بأنها تشتعل من الغضب حتى أنها وقفت وجلست
مكانها عدة مرات تعجز عن فعل أي شيء وإن إحراق
نفسها العاجزة عن مساعدة صديقتها التي تردى حالها
لأسوأ من السوء الذي كان عليه ، أمسكت هاتفها
مجددا تشعر بحرقة الدموع التي تكاد تتسلل من عينيها
المحتقنة من الغضب المكتوم وطلبت الرقم الذي ما كانت
لتتخيل أن تسمح لها نفسها باستخدامه ، وكم حمدت الله
وقتها أنها أحذته بالخفية سابقا من هاتف ماريه وكأن
شيئا ما داخلها أخبرها أنه سيأتي اليوم الذي ستحتاجه فيه
مهما كرهت لجوئها له ، سمعت الرنين يتكررواشتعالها
يزداد معه تضرب بطرف حذائها على الأرض حتى انفتح
الخط أخير فقالت وقبل أن يتحدث من في الطرف الآخر


" أنت محامي المدعوا تيم كنعان أليس كذلك ؟ "

وصلتها تلك النبرة الرجولية العميقة الواثقة وإن كانت
تحمل الكثير من التوجس

" نعم أنا هو ، وأنتي زهور الحاج بالتأكيد فما الذي
اضطرك للاتصال بي ؟ "

زاد غضبها واشتعالها الأسودان متجاوزا صدمتها
لمعرفته اسمها وقبله رقم هاتفها ، همست من بين
أسنانها التي تكاد تحطمها من الضغط عليها

" إذا ثمة أمر لا تعلمة لا أنت ولا موكلك ذاك ولن أقوله لغيره "

*
*
*

نزل السلالم راكضا وكاد أن يقع في نهايتها ولف حوله
مثبتا نفسه ومتوازنا به وتابع خطواته الراكضة حتى كان
في الغرفة التي اجتمع فيها الجميع وما أن دخل وقع نظره
أولا على والدته التي كانت تبكي وتمسح دموعها ونظرها
على شاشة التلفاز تتكئ برأسها على كتف الجالس بجانبها
يضمها له بذراعه ، وشقيقته ذات الثلاثة أعوام تقف أمام
الشاشة الضخمة مباشرة وكأنها تفهم حقا ما يجري ، نقل
نظره لشقيقته الأخرى والمعلق نظرها بالتلفاز أيضا وتمتم
وهو يحك شعره

" ضننت أني أول من رأى الأمر وقادم لإخباركم "

" ها هم ... ها هم "

قفزت الطفلة أمام التلفاز وانتقل نظره أيضا له وقد تحركت
الصورة الشبه جامدة أخيرا وهي تعرض من وقت الطائرة
الخاصة المتوقفة مكانها وبابها مفتوح وخمس سيارات
سوداء متوقفة تحتها وقرابة العشرون رجلا متباينين بين
اللباس المدني والعسكري قد وقفوا حول سلالم الطائرة
وأعينهم تعلقت أيضا بذاك الباب الذي كشف أخيرا عن
النازلين منه وعلى رأسهم من انتظره كل واحد منهم
باليوم والساعة والدقيقة ، وأن يستجيب لنداء وطنه الدامي
من جديد ، من لم يفتقدوه اليوم ولا الأمس بل من أعوام
وأعوام وهم من كانوا رجاله وأعوانه والمقربين له
وبفقده فقدوا وقتها حتى لذة انتصارهم وبهجة توحيدهم للبلاد ،
شد أبان قبضتيه بقوة مبتسما بحماس لا يعرف كيف يصفه
وهو يرى الرجل الذي لازال يملك له صورا في ذاكرته حين
رآه في منزل عائلة والدته من أعوام طويلة شعر بأنها تطوى
الآن كالصفحة وهو يراه من جديد وكأن ما حدث كان بالأمس ،
هو تماما كما يذكره ذات تلك الوقفة القيادية والثقة المتفجرة
من كل شيء فيه وأولها نظرته الثابتة القوية ما أن وقف
خارج باب الطائرة في الأعلى تتلاعب الريح الباردة بأطراف
سترته وياقتها ، وما جعل ضربات قلبه تتعالى حماسا هو لباسه
.... البذلة الخاصة بالقيادات العلية للجيش في البلاد ، السترة
سوداء اللون تزينها أزرار ذهبية وشارات فوق كتفيه العريضان
تأخذ لون الذهب أيضا تبرق تحت الأضواء القوية وكأنه يقول
لكل من يراه ها قد جئت كما ذهبت رجل حروب لا يقبل الهزيمة
ولا التلاعب بالذمم وأن الوطن هو الجزء الحي النابض في
داخلي فلن يثني عزيمتي عن الدفاع عنه إلا الموت ولذلك أنا
من أجله فقط أعيش ، رفع أبان قبضتيه لمستوى وجهه يشعر
بأنه يكاد يقفز طائرا من شدة حماسه وهو يرى مشهدا لن ينساه
بسهولة وكبار رجال الجيش وعدد كبير من رؤساء البرلمان
الرئاسي في البلاد وقد بدؤوا باستقباله بأحضان رجولية قوية
طويلة عبرت عما يكنه كل واحد منهم في داخله لذاك الرجل
الذي أوصل حلمهم للنجاح ثم تركه في أيديهم واختفى ، شد
قبضتيه أكثر يسمع تمتمات والدته الباكية تعبر بكلمات متقطعة
عن كل ذاك الشوق والحنين للشقيق الذي بكته وبكته لأعوام
وضنت حتى أن الموت قد أخذه ولن يعود ، ملأت الدموع لا
شعوريا عيناه وهو يرى أن مسكن الآم وطنه الحبيب قد ظهر
أخيرا فهمس مبتسما بحماس

" وأخيرا عدت يا كنز هذه البلاد "

أما الجالسة هناك فكانت شهقاتها الباكية تزداد ما أن رأته ينزل
سلم الطائرة ورجاله الذين اختفوا معه فجأة ينزلون خلفه , حلم
كم راودها في نومها وصحوتها وكم خشيت أنه قد لا يتحقق أبدا
، وقفت على طولها صارخة ببكاء تمسك فمها بيدها ووقف
البقية لوقوفها حين رأت الفتاة التي خرجت آخرهم من باب
الطائرة تحاول تثبيت حجابها الأبيض الذي تتلاعب به الريح
الباردة

*****

المخرج ~

بقلم / أميرة الوفاء

مارية
رحلت وتركتني أعاني الويلات ..
أنتظر لسنوات ..
أتساءل إن كنت من الأحياء أو الأموات ..
أراك في أحلامي ..
وأحدث صديقتي عنك كل أيامي ..
إنه صديق الطفولة إنه تيمي ..
وطال الإنتظار ..
ولعبت بي الأفكار ..
فلم يبق مجال ..
وعدتك أصبحت محال ..
منذ اليوم لن يكون هناك سؤال ..x
x

***

أستريا
لما لا تفهمون ..
أن قلبي لا يستطيع أن يخون ..
فهو بحب رعد مجنون ..
دعوني وشأني ..
ألا ترون شوقي وحنيني ..
ألا يظهر ذلك بعيني ..
كلامكم معي لن يجدي ..
حتى لو كان كل العالم ضدي ..
سأفي بوعدي ..
وأنتظر رعدي ..
x

***
تيماء
أمي يا ما حلمت بكِ ..
تمنيت لقياكِ ..
واشتقت لأراكِ ..
لأتمتع بحضنكِ ..
بقيت أعد السنين ..
يقتلني الشوق والحنين ..
وتسيل الدمعة من العين ..
كلما تخيلت صورتك ..
وأنا أعانقك وأحس بقربك ..
أخيرا .. لقد عدت ..
ولن يفرقنا إلا الموت ..x

****

نهاية الفصل الخامس
موعدنا الأربعاء القادم الساعة العاشرة مساء ودمتم
في رعاية الله وحفظه

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 26-07-17, 09:06 PM   المشاركة رقم: 162
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 58 ( الأعضاء 20 والزوار 38)
‏فيتامين سي, ‏نوره نوره نوره, ‏sareeta michel, ‏امال العيد, ‏خرباشات, ‏الجابيه, ‏مملكة الغيوم, ‏نونوا ونونو, ‏مارية سارة, ‏الترف المغنج, ‏hoouur, ‏وافتخر اني عراقي, ‏samam, ‏atmin, ‏الوان الدنيا, ‏87huda, ‏زهر التيوليب, ‏منوني, ‏vida.rose

قراءة ممتعة لكم ..... وردود ممتعة للغالية برد المشاعر .......

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 26-07-17, 10:49 PM   المشاركة رقم: 163
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
قارئة مميزة


البيانات
التسجيل: Feb 2015
العضوية: 289774
المشاركات: 1,941
الجنس أنثى
معدل التقييم: شيماء علي عضو ماسيشيماء علي عضو ماسيشيماء علي عضو ماسيشيماء علي عضو ماسيشيماء علي عضو ماسيشيماء علي عضو ماسيشيماء علي عضو ماسيشيماء علي عضو ماسيشيماء علي عضو ماسيشيماء علي عضو ماسيشيماء علي عضو ماسي
نقاط التقييم: 4305

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
شيماء علي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 

مساء الانواار 😻
بصراحة فصل اليوم ما قدرت اقراه بدون تعليق وبنفس الوقت ما ادري ايش اقول
القفلة طبعاا متصدرة المشهد
يعني يمكن ما هي بقسوة القفلات قبل بس والله انها تجلط 😹😻
اكثر القفلات تشويق من اول الرواية
ماني قادرة انتظر للاربعا القادم واطالب بفصل مبكر جدا جدا
يعني اليوم مثلا 😇😇
اما عن الاحداث
خليني اتوقع سيناريو مجنون ما قبل ما يروح من راااسي 😹
اولا سنمار ما خيب ظني اللي ما افشيته وطلع متفهم وكذا يتبقى عندنا ساجي 😹 >> اسمع مذكرني بذاك المغني اللي اسمه شاجي 😹
المهم
بيجي ساجي كالمجنون ويبا يورط البنت بزواجه ويخلص من الحكي فيدخله رعد ومطر كدا صحبة ويخطبوها للمسكين معذب القلب
هيييييح
بالمناسبة البنت فعلا شجاعة بغباء
اتخيل بسس لو عرفو انها مسلمة
اخوها بيذبحها اقل واجب
.
.
قبل ما اتبخر من جديد
ميشوو وفيتو الله يقويكم ويسعدكم انتو الاثنين
ونلتقي عما قريب

 
 

 

عرض البوم صور شيماء علي   رد مع اقتباس
قديم 26-07-17, 11:38 PM   المشاركة رقم: 164
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Jul 2017
العضوية: 326303
المشاركات: 44
الجنس أنثى
معدل التقييم: نوار حوران عضو على طريق التحسين
نقاط التقييم: 97

االدولة
البلدSyria
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
نوار حوران غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 

الله الله فصل خرافي يسلم ايدين من كتب وايدين من نقل
رااااائع كالعادة يامبدعة
ناقصو انو تكون الكاتبة بينا الله يهدي بالها ويبدل حالها لأحسن حال ويفرج عنها وعن بلداها وكل بلاد المسلمين
لاتعليق فصل رائع متقن استنزف كل طاقاتي الخيالية من دقة الوصف وجمال الافكار وتجسيد الشخصيات وتسلسل الأحداث
بالتوفيق للكاتبة وشكرا فيتامين سي عالنقل متتظرين الفصل السادس بشووووق كبير

 
 

 

عرض البوم صور نوار حوران   رد مع اقتباس
قديم 27-07-17, 12:21 PM   المشاركة رقم: 165
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Oct 2016
العضوية: 321094
المشاركات: 72
الجنس أنثى
معدل التقييم: سرابالحكايا عضو على طريق الابداعسرابالحكايا عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 174

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
سرابالحكايا غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 

رائع الجزء يفوووق. الوصف ابدعتي يابرد المشاعر
دخول قوي لسنمار وقفله قويه أيضا بانتظارك

 
 

 

عرض البوم صور سرابالحكايا   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
(الجزء, المشاعر, المطر, الثاني)،للكاتبة, الرااااائعة/, جنون
facebook




جديد مواضيع قسم قصص من وحي قلم الاعضاء
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


LinkBacks (?)
LinkBack to this Thread: https://www.liilas.com/vb3/t204626.html
أرسلت بواسطة For Type التاريخ
Untitled document This thread Refback 27-06-17 09:03 PM


الساعة الآن 07:27 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية