كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
وقفت سياراتهم أمام أحد بوابات أسوار تلك المدن والتي فتحت
أمامه لعلمهم المسبق بقدومه ونزل أولا وقد أشار لباقي مرافقيه
بيده فلحق به عمير فقط ودخلا من دون حراسة ولا حتى أسلحة
ومن دون أن يجتاز بسيارته تلك البوابة المفتوحة وسارا وسط تلك
الأعين المحدقة بهما بفضول من كل مكان وجهة وكما توقع حتى
دباباتهم وراجمات الصواريخ مجهزة فمن ضمن مطالب استقلالهم
كان عتاد حربي كامل لا يستخدمونه إلا في الحالات القصوى ولن
يلومهم في طلبهم هذا فهم كانوا بحاجة لما يدافعون به عن أنفسهم
حال أعاد الماضي نفسه واقتحم العرب مدنهم ليجبروهم على
الخضوع لهم مكرهين .
سارا في خطوات موحدة وكأنهما رجل واحد ووجهتهما الواقفين
على مسافة منهما وقد أغلقت الأبواب بعد دخولهما على الفور وها
هو يسلمهم نفسه بنفسه فإن أرادوا المقايضة به فلن يمنعهم شيء
عن أسره لديهم وهم لا يعلمون أن شقيقة زعيمهم ليست عند
رعد شراع وأنه لا يعلم عن مصيرها شيئا وأنها رهينة عند ألد
أعدائه ودخل لهم بدون حماية تاركا حرسه الشخصي وقوات الحماية
الخاصة خارج تلك الأسوار لأنه يعرف جيدا كيف يفكر هؤلاء الناس
ويعرفهم أكثر من أي عربي لأنه سبق وتعامل معهم لأعوام حين كان
زعيما لذاك القطر من البلاد ووحده من فتحت الأبواب أمامه بعد
عودته وهم من رفضوا الاندماج مع العرب أو استقبال أي منهم
بسبب ما عانوه في الماضي وقبل استلامه هو لزعامة الحالك
وابرام الاتفاقيات معهم والتي حقنت دمائهم وأعادت لهم حقوقهم
المهدورة كما ضمنت لهم حقهم كأفراد من ذاك الشعب وحتى بنود
الاتفاق التي تركها بعده ضمنت لهم تلك الحقوق حال قبولهم بالاندماج
مع تلك البلاد أو رفضهم فبقي مطر شاهين رمزا للعدالة والثقة لديهم
رغم اختفائه ومرور كل تلك الأعوام .
وصلا عند تجمع العشر رجال الواقفين في استقبالهم برفقة زعيمهم
وأشقائه الإثنين وتبادلوا السلام بالأيدي ولم تفته أبدا نظرات ساجي
وهو عقبته الأعظم إن تخطاها حدث ما يريد .
بعد أن تبادلوا السلام والعبارات الرسمية المختصرة قال مطر ناقلا
نظره بينهم
" هل أنفرد بزعيمكم وشقيقيه قليلا ؟ "
لم يبدوا على نظرات أولئك الرجال الرضا أبدا فقال
" الأمر يخص امرأة وهي شقيقتهم ولهم هم الحرية فيما يريدون
إخراجه فيما بعد "
بدا الاقتناع واضحا على أشقائها فتفكيره كان سليما تماما لكن
من حولهم لم يبدوا له أن جميعهم اقتنعوا بما قال وقد قال أحدهم
مشيرا برأسه للواقف بجانبه
" وماذا عن الذي دخل معك ؟ "
نظر مطر لعمير قبل أن يعود بنظره لهم قائلا
" هذا يكون رئيس مخابرات البلاد بأكملها ووجوده أمر طبيعي
بل وقانون لا نقاش فيه في هذا الوضع والحال وأثق فيه كما أثق
في نفسي فاستمعوا لي أولا ثم لكم ما تريدون "
تحدث سنمار حينها قائلا وقد أمسك بذراعه
" لك ما تريد فدعونا نقم بواجبكما أولا فالطريق كان طويلا
بالتأكيد والعشاء ينتظركم "
قال مطر من فوره
" دعونا نتحدث أولا ونصل لحل يرضي الجميع ثم نتناول عشائكم
فلن أزور مدنكم ولا أتناول طعامكم اللذيذ بالتأكيد "
ربت سنمار على ظهره وهو يحثه على السير معه وغادروا خمستهم
المكان رغم أنه موقن من أن ما يحمله سنمار في داخله لا يشبه
دواخل شقيقيه أبدا ولا حتى من تركوهم خلفهم فسنمار يشبه والدهم
تماما وكم سعد بأن تم اختياره الزعيم بعده فله ذكاء وحنكة وصبر
والده .
وصلوا لإحدى أبنيتهم التي تشبه الخيام في شكلها وألوانها والتي
يتفننون وحدهم في بنائها بتلك الطريقة وما أن تدخل لها تكتشف
بأنها تشبه صالة استقبال متكاملة وهذا ما يميزهم عن باقي البلاد
أنهم لا ينساقون أبدا خلف التطور المعماري بل يتمسكون بجذورهم
بقوة مهما استعانوا بالتقنيات الحديثة .
جلسوا جميعهم حول طاولة بيضاوية الشكل صنعت من خشب
الزان الثقيل وبدأ مطر حديثه أولا قائلا
" أود فعلا أن لا ينفض اجتماعنا هذا إلا وقد وصلنا لاتفاق يرضيكم
قبلي "
علق ساجي فورا وكما توقع
" لن يرضينا سوى دمها ودم ذاك الرجل معها أو كانت حربا لا آخر
لها "
" ساااجي "
كانت لهجة سنمار التحذيرية تلك ما طمأن مطر لكنها لم تؤثر بالذي
حاولت التحدث مجددا
" أنت .... "
فصرخ فيه هذه المرة
" اصمت ودعنا نستمع له أولا أو أخرجتك من هنا "
لاذ بالصمت وإن مكرها وقال مطر
" شقيقتكم ليست عند رعد شراع "
شخر ساجي بسخرية بينما كان جواب شقيقيه الصمت وهذا ما توقعه
فقال بجدية
" والدكم كان يثق بي وتعلمون ذلك جيدا "
قال اوسو هذه المرة
" كان يقول بأنك العربي الوحيد الذي يثق في يمينه وبأنك من إذا
قال فعل "
قال بجدية
" وأنا اقسم لكم بمن عرشه فوق السماء أنها ليست معه ولم تصل
له ولم يكن يعلم بهروبها إلا مني "
قال سنمار
" وماذا عمن قالوا بأنهم رأوه وكيف ستخرج وحدها ؟ "
نظر لعينيه وقال بجدية
" ذاك جوابه عند من قال هذا ويمكنكم معرفته بسهولة ، فكروا
في الأمر جيدا فحتى رعد شراع ما كان ليفتح لها الأبواب لتخرج
وحراسها رجالكم وأنا سبق وأقسمت لكم بأنه لم يراها "
تبادلوا نظرات صامتة علم فورا ما ورائها فهم يعلمون بالتأكيد من
مصدر ذاك الخبر وإن جهله هو ، قال ساجي وبجمود
" أين هي إذا ؟ "
قال ناقلا نظره بينهم
" سنتحدث في هذا لكن قبل ذلك ثمة ما علينا التفاهم فيه "
نظروا له ثلاثتهم باستغراب فتابع بجدية ملقيا طعمه الذي يعلم بأن
أيا منهم لن يرفض التقاطه
" حددوا مهر شقيقتكم ولكم ما تطلبون وأيا كان غير الحرب
والدماء وستنسون أمرها تماما "
*
*
*
لم تكن تتوقع يوما أن تعيش رعبا وتوترا كالذي عاشته اليوم
واللحظة ، كانت تشعر بجسدها يتعرق بأكمله ولم تعد تفكر فقط
في ذاك الذي يقود الطائرة ولأول مرة كما أخبرت والدته والدتها
بل وفي جميع تلك الأرواح من بلادها فأن لا تنزل عجلات الطائرة
جميعها تعد كارثة خاصة أنهم لجأوا لجميع الحلول في الحالات
المشابهة ولم تنجح فلم يستطع مهندس الطائرة فكها يدويا لأن
مفصلها كان عالقا بسبب فقدان الهيدروليك الرئيسي من الطائرة
وتبدد زيته بالكامل ولا حتى بنفضها في الهواء عن طريق جذبها
بطريقة معينة ضد الجاذبية علها تنفك بذلك فجهودهم جميعها
ذهبت أدراج الرياح ومما زاد ذعرها ذاك المهندس الذي نزع أيضا
سماعته من رأسه قائلا
" سلمت تلك الأرواح للرب "
مما جعلها تمسك قلبها لا شعوريا فأن يقول ذلك أحد المهندسين
الجويين فمعناه أن الحلول لديهم قد نفذت وسيعتمدون على مهارة
مساعد الطيار في الهبوط بها بشكل سليم موازنا بين عجلتي الطائرة
والجناحين فإغماءة كابتن الطائرة كان كارثة في حد ذاته فغالبا
ما تحدث هذه الحالات لأسباب عرضية أكثر منها مرضية وليست
تفهم حقا إن كان حقيقة أم أن ذاك الطيار يتهرب من مسؤلية
ما يجري أو بسبب سوء حظ مساعده فأن تفقد الطائرة الاتصال
الآلي بغرفة المراقبة ومدرج الهبوط يعد في حد ذاته مصيبة
فالهبوط الآلي يوجه الطائرة ذاتيا لمكان هبوطها وبدقة أما أن
يستعينوا برادار الهبوط فمعناه أن يكون هبوطهم يدويا بشكل
مطلق لا تدخل لأي أجهزة الكترونية حديثة فيه وهذا وحده يحتاج
لخبير في الهبوط وفوقها بثلاث عجلات فقط وليس أربعة أي إن
نجت الطائرة من الهبوط المدمر واستقرت على الأرض بشكل سليم
فلن تنجوا من خطورة السير على المدرج بشكل مائل واحتكاك
جناحها بالأرض ومن ثم تعرضها لخطر الانفجار بنسبة أكبر من
نجاتها .
نقلت نظراتها بينهم بتوتر وكان صوت المرحل الجوي وحده
ما يملأ صمت ذاك المكان يعطيه تعليمات الهبوط وبشكل متكرر
حتى كانت ستحفظها وليست تعلم كيف تكون الأجواء لدى من
يتلقى كل تلك المعلومات في الطرف الآخر فمن تكرار المهندس
الجوي لكلامه يبدوا أن الجالس خلف مقود الطائرة هناك يلوذ
بالصمت .
نظرت لموظفي ذاك القسم الذين دخلوا أيضا يراقبون الوضع
وهمساتهم المستجدية لله لا تتوقف والأعين جميعها محدقة
بتلك الشاشات التي ظهر فيها جسم الطائرة في السماء كنقطة
بعيدة لدخولها المجال الجوي للمطار فتوجهت جهة السماعات
في المقعد الشاغر ورفعتها ووضعتها على أذنيها تمسكها بكلتا
يديها وكما توقعت لا صوت لقائد تلك الطائرة الحالي ولولا إشارات
أزرار الأجهزة أمامها لاتصاله بهم لضنت أنه لا يسمعهم ولم يتلقى
أي معلومات منهم ، وإن دل ذلك على شيء فهو يدل على أنه لم
يعد بحاجة لتلك المعلومات التي يكررها على مسمعه كالببغاء
وينقصه فقط أن يصرخ فيه ليصمت بل ما يحتاجه الآن فعلا هو
أن يشعر بأنهم يثقون في قدرته على فعل ذلك فهم يهملون هذه
النقطة لأنهم يرونه مجرد مساعد طيار لم يقد رحلة سابقا ويعولون
على الحظ أكثر من ثقتهم في مهارته وهذا ما عليها هي فعله فهو
بالتأكيد وكما يبدوا حفظ جيدا تلك الاحداثيات التي يكررها له منذ
وقت .
امتدت أصابعها ودون تردد لذاك الزر الأخضر أمام الكرسي الذي
تقف بجانبه وفتحت مجال الاتصال بتلك الطائرة وتحدثت هي هذه
المرة وبالعربية قائلة
" نحن هنا نثق بك كما الجميع في الطائرة وستنجح بالتأكيد "
كانت تعلم بأنه يسمعها ويفهمها عكس الموجودين حولها محدقين
بها باستغراب وكما توقعت لم يمنعها المرحل أو يطردها ليس لأنها
موظفة في قسمهم بل ولأنها تحدثه بذات لغته الأم وإن لم يكن يفهم
ما تقول فهوا يعلم بالتأكيد أنها تحاول فعل ما لم يفعلوه هم حتى
الآن وأثبت لها ذلك إيماءته لها مبتسما فبادلته الابتسامة فورا
ورفعت نظرها مجددا بتلك الشاشة المقابلة لها والطائرة التي
أصبحت تقترب من مجال الرؤية أكثر وتحركت شفتاها من جديد
أمام ذاك الميكرفون الأسود الرقيق الموصول بالسماعات على
أذنيها قائلة
" أنت ستفعلها اقسم بذلك ... أنا أثق بك "
انحسبت أنفاسها وتوقف قلبها عن الخفقان حين خرج ذاك الصوت
الرجولي العميق ضاربا أذنيها بنبرة باردة
" أستطيع حتى أن أقف بها على رأسك لو تصمتي قليلا "
ضربت براحة يدها على الطاولة تحتها تزم شفتيها الرقيقتان
بحنق من هذا البارد المتعجرف الذي باتت شبه موقنة من أنه
لم يكن يلوذ بالصمت كما توقعت .
قالت مجددا وبضيق هذه المرة
" أرني كيف ستقف بها على أرض المطار وليس رأسي وأريد أن
أراك واقفا على قدميك في مبناه وليس على حمالة لسيارة الإسعاف
جثة هامدة طبعا "
ونزعت بعدها فورا السماعات كي لا تسمع تعليقه رغم أنها تستبعد
ذلك واكتفت كالواقفين خلفها بمراقبتها تقترب على الشاشة تجمع
كفيها أمام شفتيها تدعوا الله هامسة وضربات قلبها تتصاعد تدريجيا
مع اقترابها أكثر حتى أصبح بإمكانهم رؤيتها كاملة في وضع الاستعداد
للهبوط التام وهمست وقلبها يكاد يتوقف
" يا رب لا تجعل ساندرين تسخر مني بتحطم طائرته وموته فيها "
مسحت دموعا تسربت من عينيها لا شعوريا مبتسمة بحمق على
أفكارها الغبية وقاومت بشدة كي لا تغمض عينيها مستجيبة لرأي
عقلها بالهرب من مشاهدة هبوط قد يكون كارثيا وانسابت دموعها
دون توقف ما أن أزال المرحل الجوي سماعاته وقال محدقا
بالشاشة في الأعلى
" فعلنا كل ما بوسعنا وسنترك الباقي لمهارة ذاك الطيار الصامت "
كانت الطيارة تقترب من المهبط تشعر بها وكأنها ستسقط على
جسدها وتسحقها معهم ، كان شعورا لم يضاهيه أي شعور وكأن
جميع من في تلك الطائرة يقربون لها ... وأليسوا هم كذلك ؟
من دمها من وطنها البعيد الغالي فكيف لا تشعر بكل ذلك اتجاههم ؟
كانت تعصر قبضتاها بقوة لم تعد تشعر ولا بألم اختراق أظافرها
للحم كفيها ونظراتها الدامعة تراقب عجلات الطائرة وهي تقترب
من أرض المهبط وتعالت تأوهات الفرحة ما أن حطت عليه
باتزان تام وقد وازن بالفعل في هبوطه بها بين وزنها وجناحيها
والثلاث عجلات التي ارتكزت عليهم بقوة اثنتان يسارا وواحدة فقط
يمينا لكن الخطر لم ينتهي عند ذاك الحد وجميعهم يعلمون ذلك وقد
هبطت الطائرة على جناحها الأيمن الذي انحرف جهة الأرض ولازالت
تسير على المدرج مصدرا صريرا عاليا واحتكاكا كبيرا بالأرض
أفقدها إياه وقد انحرفت عن مسارها فأغمضت عينيها وغطت وجهها
بيديها فلا يمكنها رؤية ذلك أبدا فإن انفجرت الطائرة سينفجر قلبها
معها بالتأكيد .
بقيت على ذاك الحال حتى سمعت صوت الصرخات والتصفيق الحار
من الموجودين قربها فأبعدت يديها ونظرت بعينين باكية وابتسامة
واسعة للطائرة المتوقفة بشكل مائل تحيط بها سيارات الإطفاء
والإسعاف من كل جانب وتم فتح أبواب الطوارئ لينزل الركاب
فالتفتت للواقفة خلفها وتبادلتا حضنا قويا تبكي وتضحك في آن
واحد فليست تصدق أبدا أن تلك الطائرة وصلت الأرض فعلا وأنها
توقفت بنجاح ودون أي أضرار ، بدأ الموظفين جميعهم بتهنئتها
وكأنهم يعلمون بأنها بالفعل في استقبال أحد الموجودين ضمن
تلك الرحلة لعلمهم فقط بأنها رحلة من دولة عربية .
بدأ المهندسون بالخروج من هناك فنظرت لشاشات العرض
وكانت الطائرة قد تم إخلاؤها تماما فخرجت أيضا راكضة من
هناك وتوجهت فورا حيث صالة الإستقبال الخاصة بطواقم الطائرات
وما أن دخلت وقفت مكانها تنظر للمضيفات والمضيفين يدخلون مع
طقم المهندسين الفنيين ووجدوا استقبالا رائعا في انتظارهم يهنئهم
الجميع بوصولهم بسلام في حادثة لم يكن لها سابقة أبدا وفرصة
نجاتهم منها كادت تكون صفرا .
كانت نظراتها تبحث من بعيد عن شخص لم تراه بعد وكانت
ستستطيع التعرف عليه من زيه المميز لكن لا أثر له على ما يبدوا
ولا حتى الطيار الآخر فهل أغمي عليه أيضا ونقلوهما معا بالإسعاف ؟!
هل يبدي كل تلك الشجاعة والثبات ثم يغمى عليه ... !مستحيل .
تقدمت بضع خطوات قبل أن تقف مكانها وعضت طرف شفتها
بقوة ترفع شعرها خلف أذنيها ما أن دخل ذاك الشاب المفقود من
البوابة والذي التفتت الأنظار جميعها له وقد بدأوا بمصافحته وحتى
طقم مضيفين الطائرة وقد تبادل الأحضان مع الرجال منهم فقط
وحتى موظفات المطار الثلاث صافحهن بيده فقط عكس من دخلوا
قبله لم يمانعوا استقبال تلك الأحضان بالترحاب وهذا أول
ما أعجبها فيه .
كانت تضع يدها على قلبها لا شعوريا تشعر به سيخرج من مكانه
ونظراتها تتنقل في تفاصيله ، كان بشعر بني ناعم ومصفف للخلف
بعناية لحية خفيفة بنية أيضا أبرزت بياض بشرته وعينان تبدوان
واسعتان كثيفتا الرموش لم تتبين لونهمابعد يعلوهما حاجبان
طويلان ... كان يلبس سترة الطيران الزرقاء بخطوطها الذهبية
المميزة وربطة عنق من ذات اللون تلتف حول ياقة قميص ناصع
البياض تحتها وكان يمسك بالقبعة تحت ذراعه ،كان رائعا وفوق
ما تخيلته ويبدوا شخصا واثقا من نفسه قوي عزيمة بالفعل ورجل
للمهمات الصعبة ولن تستغرب أن تكون له تلك الشخصية والثقة
فهو حسب ما قالت والدتها عائلة والده ذات نفوذ في بلاده ووالده
رجل أعمال كبير ومعروف زد عليه أن خاله يكون الأسطورة مطر
شاهين فما كان عليها أن تتوقع شابا أقل من هذا .
كاد يغمى عليها وتتوقف جميع أجهزة جسدها الحسية ما أن وقع
نظره عليها وتبادلا نظرة طويلة تشعر بأنفاسها توقفت بسببها
فلابد وأنه خمن أنها من تحدثت معه .. نظرته أثبتت ذلك جيدا
وزاد عليها تلك الابتسامة الجانبية التي زينت شفتيه وأمسك
قبعته ووضعها على رأسه لتكتمل تلك الصورة الرائعة وكأنه
يقول لها
( ها قد وقفت في مبنى المطار على قدمي )
فضحكت فورا وبصمت ورفعت إبهامها مبتسمة له ، وماتت
ابتسامتها ما أن وقف ذاك الانجليزي الطويل بينهما وأخفى رأسه
وجهه عنها فمدت شفتها بعبوس وسرعان ما عادت وعضت على
طرفها ما أن أحنى الواقف هناك رأسه ناظرا لها من خلفه وكادت
تقفز حينها صارخة بسعادة لولا أمسكت نفسها بصعوبة وليست
تعلم هل النساء جميعهن حمقاوات مندفعات هكذا أم هي التي سلب
عقلها ذاك الشاب ومن أول لقاء لهما ؟ لم تهتم أبدا بأن تبحث عن
إجابة لسؤالها هذا وقد وجدت قدماها تقودانها لا إراديا حيث ذاك
التجمع هناك ووقفت مباشرة أمام من لم يزح نظره عنها فأبعدت
نظرها عنه وكما توقعت قد نزل بنظره لجيب سترة بذلتها الخاصة
بعملها يبحث عن القطعة المعدنية التي تحمل اسمها كموظفة هناك
وكما باقي الموظفين لكنها كانت أذكى منه ونزعتها من قبل أن تصل
الطائرة لما كانت تذكرتها وقت انتظارهم المأساوي لهبوط طائرته ،
عادت بنظرها له ما أن ارتفعت نظراته لعينيها مجددا وابتسم من
فوره ابتسامة كادت تحولها لرماد فمدت يدها له قائلة بابتسامة
" كان هبوطا رائعا ... هنيئا لك "
صافحها مدمرا باقي مشاعرها المشتعلة وقال بابتسامة ونظره لم
يفارق عيناها البنيتان
" المهم أن المهبط بخير "
تغلبت ضحكتها عليها ودون شعور منها وقد فهمت مقصده فورا
وهذا ما توقعته فهو استطاع معرفتها سريعا وهذا طبيعي فثلاث
نساء فقط هنا واحدة منهن في الخمسين من عمرها واثنتان
شقراوتان ملامحهما انجليزية بحتة فلم يتبقى غيرها رغم أنها
تشك بأن يكون هذا هو السبب ولولا بحثه عن اسمها لكانت شكت
بأنه يعلم من تكون .
سحبت يدها من كفه ورفعت كتفيها قائلة بابتسامة
" بلى وطائرتك وقفت فوق رأسي بسلام ... نحن فخورين حقا بك "
نظر لعينيها مبتسما بصمت نظرة وابتسامه أنيقة أوصلتا قلبها
للجنون وقد علقت نظراتهما ولم يعد بإمكانها إبعادها عن عينيه
ولم تعد تعي شيئا حولهما ولا أحاديث وضحكات الموظفين والمضيفين
ليقطع كل ذاك الاتصال الصامت الذي رغم قصر مدته شعرت به
طويلا جدا بقدر روعته ،وقوف ذاك الجسد قربهما والذي سرق
انتباه الجميع ولم يكن سوى مدير المطار والذي صافحه فورا قائلا
" كنت رائعا يا بطل ... منذ قليل كنت على اتصال مع السفارة وسيتم
إرسال لجنة لإغلاق الملف من الناحية القانونية ما أن يتم فحص
الطائرة وأخذ شهادة الطيار "
ابتعدت حينها وقت انشغالهما بالحديث معا وقد أولاه كامل انتباهه
وأعطاها جانب وجهه وجسده فاكتفت بالمراقبة من خلف الزجاج
المعتم الفاصل تريح راحة يدها عليه تنظر مبتسمة لصاحب تلك
الابتسامة والوقفة الواثقة يده في جيب بنطلون بذلته والأخرى
يمسك بها القبعة التي نزعها مجددا فستكتفي بهذا القدر ولن تتركه
يكتشف من تكون خاصة أنه نال خمس نجوم بالنسبة لها وقلبها
يكاد يجن كلما تذكرت الطريقة التي نظر لها بها . اقتربت من الزجاج
الفاصل ملتصقة به تنظر مبتسمة بشغف للذي ما أن ابتعد عنه مدير
المطار جال بنظراته في المكان والموجودين حوله يبحث عنها ،
أولت الزجاج ظهرها واتكأت به عليه ترفع رأسها للأعلى مغمضة
عينيها بقوة وهمست بسعادة
" يا إلهي أهكذا يكون الحب ؟ أهو رائع بهذا الشكل ويحدث
أسرع من أي شيء ؟ "
كتمت ضحكتها تغرس أسنانها في طرف شفتها وغادرت من
هناك فعليها أن تبتعد عن أي مكان سيكون فيه .
*
*
*
أشاحت بوجهها جانبا وقالت بضيق
" لا أريد ... قلت أنني بخير لما تصرين دائما على معاملتي
كطفلة بل وجلبت ولي أمري معك هذه المرة "
تنهدت الواقفة فوقها بعجز والتفتت للواقف خلفها والذي بادلها
نظرة صامتة قبل أن ينظر للجالسة على السرير مكتفة ذراعيها
لصدرها ومشيحة بوجهها بعيدا عنهما وقال بهدوء
" زيزفون إن كنت متعبة نستدعي الطبيب لا تكوني عنيدة على
حساب صحتك ، ومربيتك ما كانت لتقلق لو كان هذا أمرا معتادا "
نظرت لها فورا نظرة فهمتها تلك سريعا فهذه ليست أول مرة تمر
بمثل تلك الحالة وهي تعلم ذلك جيدا لكنها الأولى التي تستعين
فيها به وهذا أكثر ما بات يزعجها فهي تراه يتقرب منها كثير
وهي مرحبة تماما بالفكرة رغم أنها شرحت لها مرارا بأنها لا
تريد مساعدة منه ولا من أي أحد ، كسر وقاص ذاك الجو
المشحون مجددا ونظره على التي لازلت تحدق في مربيتها بضيق
" حسنا لا بأس إن كنت تري أنك بخير فلا داعي لإحضار الطبيب "
أبعدت نظرها ليديها في حجرها ولاذت بالصمت فقال مجددا
" ماذا بشأن خروجكما من أجل حفل الليلة ؟ "
التفتت له التي خشيت أن تصطادها نظرات الجالسة أمامها قبل
أن تتحدث ولن تستطيع قول شيء حينها فقالت سريعا
" سائق المنزل قال بأنه مشغول ولن يرجع قبل أول المساء وأنا
لن أحتاج من السوق لشيء كنت أود فقط أن يأخذ ز... "
" خالتي ... "
أسكتتها تلك النبرة الآمرة المهددة فورا فأغمضت عينيها وسحبت
نفسا عميقا قبل أن تفتحهما مجددا محدقة بالواقف أمامها ومن
فهم سريعا نظرتها تلك فأومأ لها برأسه بهزة خفيفة فابتسمت
له وغادرت نظره يتبعها حتى خرجت مغلقة الباب خلفها فعاد
بنظره للجالسة على السرير أمامه وقال
" هي تحبك وتقلق عليك وهذا ما يدفعها لمساعدتك وأ.... "
قاطعته بضيق
" لا أريدأهتماما من أحد .... "
" اتركيني انهي حديثي يا زيزفون "
صرخته الآمرة تلك جعلتها تصمت تماما بل ونظرت له وإن كانت
نظرة تهديد لا مكان للرقة فيها فتابع بحدة متجاهلا نظرتها تلك
أو حتى رأيها هذه المرة
" هل أخطأت لأنها تحبك ؟ إن كانت تكرهك لوجدنا لك عذرا ،
هي تقلق عليك حقا وتلجأ لمن سيساعدك كان من يكن وإن
كان ألد أعدائك "
وتابع مشيرا للباب بسبابته
" حتى أني أجدها مرارا تقف عند باب غرفتك تستمع حتى
لأنفاسك وأنتي نائمة من خلف الباب وفي المقابل تعاملينها
كخادمة لديك "
قالت بامتعاض
" وما الذي تفعله أنت خلفه ؟ "
صرخ فيها فورا
" لا شيء سوى أني مغفل مثلها "
حدقت في عينيه بصمت لبرهة قبل أن تبتسم بسخرية قائلة
" جيد هذا يعني أنه بدأ صبرك ينفذ وسأرتاح من زياراتك قريبا "
همس من بين أسنانه
" أبدا "
حدقت في عينيه بضيق دون أن تعلق فتابع ببرود
" ليكن معلوما لديك يا زيزفون بأن صبري أطول من صبرها هي
عليك كل هذه الأعوام "
كانت ستتحدث فسبقها قائلا بأمر
" هيا سآخذك لتشتري ثوبا وكل ما يلزمك "
قالت بضيق
" لا أريد ولن أحضر حفلكم السخيف ذاك "
قال بضيق مماثل
" سخيفا كان أو رائعا ستحضرينه ولست أظن أنك ممن
يخلفون وعودهم للناس أبدا "
شدت على أسنانها بقوة تنظر له بغيظ فهو أمسكها من يدها
التي تؤلمها ونسيت أنها وعدت تلك المرأة اللحوحة المزعجة
بالفعل أن تحضر الحفل فهي لم تتركها أساسا حتى أخذت منها
ذاك الوعد أحبت ذلك أم كرهته ويبدوا أنها أخبرت هذا المزعج
الآخر أيضا ، رمت اللحاف عنها بقوة وغادرت السرير متمتمة
بكلمات غاضبة لم يفهمها فأمسك برسغها ما أن مرت بجانبه
ونظر لنصف وجهها المقابل له وقال بهدوئه المعتاد
" إن لم يكن حديثي من أجلها وليس نفسي لكنت اعتذرت
أتفهمين هذا يا زيزفون ؟ "
نظرت لوجهه القريب منها ولعيناه ومقلتاه التي باتت تحار
فعلا في لونهما فتراهما أحيانا بلون عسلي غامق وفي ضوء
الشمس خضراء وفي حالات غضبه النادرة سوداء مدمرة كما
تحار في لون شعره الذي يتغير للبني إن واجه ضوء أشعة
الشمس فتراه في كل مكان بملامح مختلفة ! حدقت في تلك
الأحداق بصمت شاركها فيه كما في النظر لحدقتيها السمائية
اللون الواسعة المستديرة قبل أن تشيح بوجهها عنه وقد
همست ببرود
" أنا إذا لم أعد أحدا بالخروج لشراء أي ثوب "
قال ونظره لازال على ملامحها
" تعني أنه يوجد لديك واحدا على الأقل ؟ "
تجنبت النظر له أيضا ولم تعلق ، تعلم من نبرة صوته وسؤاله
بأنه يتوقع العكس بل وواثق منه أيضا فهي لم تحضر حفلا يوما
ولم تخرج للسهر في أي مكان فلما كانت ستحتاج لها ؟ تحرك
تاركا رسغها حين لم تعلق وقال متوجها جهة خزانة غرفتها
الضخمة
" دعينا نرى إذا "
ركضت خلفه مسرعة ووقفت أمامه رافعة ذراعيه جانبا
وقالت بضيق
" لن تفتحها "
حدق فيها باستغراب رافعا حاجبه فتلقفت أنفاسها قبل أن تقول
" هذا أمر شخصي لن أسمح لك بأن تفتش أغراضي "
قال بجمود
" أنا لن أفتشها بل سألقي نظرة على الفساتين التي يفترض
أن تكون معلقة فيها "
شدت على أسنانها بغيظ فلا تستبعد أبدا أن تكون أخبرته
حليفته الجديدة تلك بأنها كانت تعيش في فيلا ريفية معزولة
فثقته تبدوا واضحة من نظرته ونبرة صوته ، قالت بإصرار
" وإن يكن لا تفتح خزانتي "
قال من فوره
" أخرجيها أنتي لأرى "
صرخت فيه بضيق
" وقااااص .... لما أنت مزعج هكذا ؟ "
ابتسم مميلا طرف شفتيه وقال
" ثوب واحد إذا لأتأكد "
تأففت بضيق قائلة
" ليس لدي ... هل سيخلصني هذا منك ؟ "
قال بذات ابتسامته
" لا بالطبع وستغادرين معي لتشتري ثوبا يا زيزفون إن بالطيب
أو الإكراه وتعلمين جيدا بأنك تحتاجين ذلك فتوقفي عن العناد "
أشاحت بوجهها عنه فترك رسغها وقال مكتفا ذراعيه لصدره
" هيا غيري ملابسك سنغادر الآن "
قالت ببرود ولازالت تتجنب النظر له
" اخرج أم سأغيرها وأنت هنا ؟ "
تحرك من مكانه حينها ووجهته الباب قائلا
" سأنتظرك قرب الباب لا تتأخري "
وخرج مغلقا إياه خلفه ووقف بجانبه مسندا كفه بالجدار ينظر
للأرض فليس يضمن أن لا تتهرب منه أبدا ، خزانتها تحوي
سرا ما تخفيه هو متأكد من ذلك ورد فعلها كان أكبر دليل لكنه
لن يستعجل وسيأخذ بنصائح طبيبها جيدا فعليه البحث بعيدا عنها
أولا وحين تحين فرصة مواتية سيرى ما تخفيه هناك .
غير وقفته واستند بالجدار ينظر لساعته كل حين يخشى أن
يصيب توقعه وتكون نائمة في سريرها وهو ينتظرها هنا !
وقف مبتعدا عن الجدار وما أن فكر في أن يطرق الباب ليفتحه
بعدها انفتح من تلقاء نفسه ووقفت أمامه التي خانت توقعاته
بالفعل وغيرت ملابسها استعدادا للخروج فقد ارتدت بنطلون
جينز أسود وسترة طويل مفتوحة بلون عيناها لها نقوش سوداء
عند ياقته الدائرية وأكمامها وقميص أسود ضيق مظهرا جسدها
النحيل المتناسق ولأول مرة تلبس غير القمصان القطنية
والبيجامات الحريرية فهي لا تخرج أساسا من غرفتها سوى
لغرفة الشاي تلك مؤخرا ووحيدة ، أما شعرها فتركته مفتوحا
واكتفت فقط بقوس شعر أسود رقيق رفعت به غرتها للأعلى
والتي كانت أساسا بقصة خفيفة ولم تكن كثيفة أبدا فنزلت
خصلات من ذاك الشعر على كتفها وصولا لخصرها النحيل
كما بعض الشعرات الحريرية على جبينها ... يحار هذه الرائعة
لما تكون عدوة للرجال ويمكنها أن تكسب قلب من تختاره من
نفسها ودون عناء وليس بسبب جمالها الخارجي فقط بل وقوتها
وذكائها .
ابتسم من سذاجة أفكاره التي لو علمت عنها لقطعت عنقه
باتأكيد وأشار لها بيده قائلا
" نغادر ؟ "
تحركت وقد سار بجانبها قائلة ببرود
" هل أعلم ما المضحك ؟ أنا أم أنت أم كلينا ؟ "
أطلق العنان لضحكته هذه المرة وإن كانت قصيرة ومنخفضة
وقال يجتازان الممر المؤدي لبهو المنزل
" بلى كلينا ولن أقول السبب كي لا ترجعي أدراجك "
حركت حدقتيها بملل ولم تعلق وما أن اقتربا من باب المنزل
توقفا بسبب اللذان دخلا منه وكانا رواح وضرار الجد الذي
نظر لكل واحد منهما في صمت وكان التعليق من الذي لا يمكنه
ترك أحد ولا شيء في شأنه قائلا بابتسامة ماكرة
" أرأيت يا ضرار سلطان ؟ لم ترحمني اليوم أبدا بينما حفيدك
الأكبر يخرج للتنزه مع ابنة عمه ! "
أشاحت الواقفة أمامهما بنظرها الذي لم تدع له المجال أساسا
للنظر لأي منهما بينما تنهد وقاص بضيق وكانت نظرات جده
مسلطة عليه تحديدا وقد قال بجدية
" أين ذاهبان ؟ "
نظر له وقال مباشرة
" لديا موعد في اكسفورد وسآخذ زيزفون في طريقي للتسوق
هناك من أجل حفل الليلة "
نقل نظره منه للواقفة بجانبه لازالت ترفض النظر ولا للجهة
الموجود فيها أصابعها تكاد تتمزق من شدها لقبضتيها قبل أن
يعود بنظره للذي قال له بجمود ومحدقا بعينيه
" لما لا تتصل بزوجتك ؟ "
كان الضيق من نصيبه هو هذه المرة فها هو يضغط عليه
مساوما بزيزفون مجددا ولن يسمح لهذا أن يستمر ويتكرر دائما ،
قال ببرود وإن كان الغضب بات يشتعل كالجحيم داخله
" أظننا تحدثنا عن هذا سابقا جدي "
قال ضرار بملامح مشدودة
" تعرف أنت أيضا ما تحدثنا فيه جيدا يا وقاص "
تنهد بحدة مغمضا عينيه وها هو كما توقع بل ويستمر بالضغط عليه ،
لم يكن يريد التحدث عن الأمر لا أمام رواح ولا زيزفون خاصة لكنه
من دفعه لذلك وعلى هذه المهزلة أن تنتهي ، قال بأحرف مشدودة
هذه المرة
" جدي قسما ترجع زيزفون لغرفتها وسأحضر لها أنا ما تحتاجه
ولن تلعب بي تلك اللعبة مجددا "
نظر له بتحد فبادله ذات النظرة يعلم كل واحد منهما عن عناد الآخر
جيدا وما الذي قد يصلان له بسبب هذا ، وما أن تحركت الواقفة
بجانبه لتغادر من هناك شد يدها بقوة مانعا إياها من تنفيذ ما تفكر
فيه بينما نظراته لم تفارق الواقف أمامه والذي ما أن كان سيتحدث
حتى سبقه رواح قائلا بابتسامة وحدها المخالفة لكل ذاك الجو
المشحون
" اوه حسنا لا تتشاجرا بسببي كنت أمزح فقط وزيزفون أنا
أيضا مستعد لأخذها حيث تريد وأينما تريد "
وتابع بضحكة وكعادته متجاهلا مزاج من حوله
" إنها الحفيدة الأنثى الوحيدة هنا ويفترض أن تكون مدللة من
قبل الجميع "
شدها وقاص من يدها وسار بها بينهما خارجان من الباب دون أن
يعلق أي منهما بشيء ولا أن يهتم برأي الذي رافقته نظراته
الغاضبة وهو يجتازه غير مبال بتهديده الصريح فلن يرضى بالتدخل
في شئونه مجددا يكفي أن تركه لعب في مصيره سابقا حين ربط
طلاقها من نجيب باستمرار زواجه من جمانة وللأبد فلا يتخلص هو
من تلك المرأة أو لا تتخلص هي من حفيده المنحرف ذاك .
سار بها حتى وصلا السيارة البنتلي السوداء المركونة قرب الباب
وفتح لها بابها فجلست في كرسيها الجلدي المريح بصمت فأغلقه
ودار حولها وركب كرسيه وغادر من هناك فورا وبدأت تلك السيارة
الحديثة في ابتلاع الطريق كقرش عملاق ليس بسبب سرعتها المميزة
فقط بل وغضب الجالس خلف مقودها والذي استشعرته الجالسة
بجانبه بسهولة فهذا الشاب يصعب تعكير مزاجه والعبث بأعصابه
كما لاحظت عليه مرارا لذلك فاستيائه يمكنك أن تشعر به وإن كان
يخفيه خلف صمته .
كتفت ذراعيها لصدرها ونظرت جهة نافذتها فهذه هي نتائج عناده
وإلحاحه فليتحملها ... لكن لما قال ما قاله لجده ! هو حاول الضغط
عليه ليتصل بزوجته ويبدوا أنها هي ذاك السلاح لكن ما كانت السابقة
التي تحدث عنها ؟ ولما يضغط عليه بسببها ! بل ولما يرضخ هو له
من أجلها ؟
نظرت له ولنصف وجهه المقابل لها تحاول تفسير وفهم ما حدث ؟
إذا هذا هو سبب تحريرها من سجنها في الأعلى وكأنها سجين
سياسي خطير حتى النوافذ مؤمنة بالكامل وكاتمة للصوت والباب
لا يمكن فتحه إلا بكلمة معينة ؟ لكن ما كان المقابل ! أيخص
زوجته تلك ؟ بالتأكيد سيكون كذلك والدليل أنه قال تلك اللعبة
مجددا أي أن السابقة تشبهها .
" لا تحاولي تفسير ما حدث كثيرا فهو ليس مهما ولك خاصة "
زمت شفتيها بحنق واستوت في جلستها مكتفة ذراعيها
لصدرها وقالت ببرود ناظرة للطريق أمامها
" أتعلم بأنك أكبر مغفل في التاريخ "
شقت ابتسامته تلك الملامح العابسة المتجهمة وسرق نظره
لها قبل أن يعود به للطريق مجددا فهذه الفتاة لا يهنئ لها بال
إن لم تقلب مزاجه وكيفما كان ، يعلم بأنها استطاعت فك وفهم
خبايا حديثهما بسهولة بينما عجز رواح عن فعلها لذلك لم يكن
ينوي قول ما قال لولا استفزاز جده له وليس لسبب يخصه
بل لأنه يرفض أن تجمع سلبيات أكثر عن جدهما ناحيتها لكنه
لا يراه إلا يصر على إتساع الفجوة بينهما وكأنه يتعمد أن
يزيد من معدل كرهها المرتفع له .
رن هاتفه فأخرجه من جيبه ووضعه على الوضع الصامت
ما أن نظر لاسم المتصل وأعاده لجيبه وتجاهل بعدها جميع
اتصالاته حتى بات رنينه مزعجا بالفعل فأجاب عليه هذه
المرة قائلا باختصار
" مرحبا "
ولم يستطع ذكر اسمه احتياطا بسبب الجالسة بجانبه فقال من
في الطرف الآخر وبضيق
" تكلفني بالبحث عن قضية عمرها ثمان سنوات أكثر تعقيدا
من حياتي ثم أتصل ولا تجيب ؟ "
نظر بطرف عينه للجالسة بجانبه قبل أن يعود به للطريق قائلا
" يمكن للقضية أن تنتظر قليلا سأتصل بك أنا حين يكون لدي وقت "
وصله صوته فورا
" حسنا يبدوا الوضع غير مناسب لديك نتحدث لاحقا ... وداعا "
ابتسم ممتنا لذكائه وأعاد هاتفه لجيبه وما هي إلا لحظات
وتحدثت الجالسة بجانبه مجددا وببرود ساخر هذه المرة
" لست أفهم لما يعتمدون في قضاياهم عليك "
كتم ضحكته غارسا أسنانه في شفته السفلى وحرك رأسه
مبتسما فهذه الفتاة تصر على الانتقام منه اليوم ولا يفهم
لما فغضبها غامض كمزاجها تماما ! مرر أصابعه على قفا
عنقه قائلا
" لو كانوا لا يثقون بقدراتي ما لجئوا لي أساسا "
لم يتأخر تعليقها اللاذع المستفز أبدا وقد نظرت له قائلة
" كان عليهم أن لا يعتمدوا على محام مهمل مثلك يركن القضايا
على الرف حتى وقت لاحق "
نظر ناحيتها سريعا فأشاحت بنظرها عنه جهة نافذتها ، فهم الآن
سبب استيائها منه !آآخ منك يا حفيدة ضرار ، عاد بنظره للطريق
وقال
" المحامي الناجح يعمل بصمت بعيدا حتى عن موكله أحيانا وعليه
أن يثق دائما به يا زيزفون "
نظرت له فورا وكما توقع وقد قالت بحدة
" ما تعني بكلامك هذا ؟ "
قال بلامبالاة ولم يبعد نظره عن الطريق
" لم أعني شيئا فما الذي فهمته أنتي أغضبك هكذا ؟ "
نظرت جهة نافذتها مجددا هامسة بحنق وصله بوضوح
" مغرور "
فابتسم واستمر في القيادة في الصمت فالنتيجة حصل عليها وأوصل
لها ما يريد إيصاله وردود أفعالها الغاضبة لا تعنيه بل اعتاد عليها
وألفها فإن لم تستقبله وتودعه بها في يوم ما سيكون عليه عرضها
على الطبيب حينها .
دخلت سيارته شوارع لندن بعد ساعة ونصف تقريبا من خروجهما
ولم يتبادلا فيها غير ذاك الحديث ولم تبعد الجالسة بجانبه نظرها عن
نافذتها ولا بسبب شوارع لندن المزدحمة ، بما أن موعده سيكون في
ذاك الشارع فسيكون وصل بها للمكان المناسب فهو أشهر شارع
أوروبي للتسوق وستجد الخيارات أمامها مفتوحة .
ركن سيارته عند مركز تجاري خاص بمتاجر جون لويس المشهورة
ثم فتح باب السيارة ونزل في صمت ففتحت بابها ونزلت أيضا وتبعته
حتى كانا في الداخل ونظرت حولها بملل .. ليست ترغب فعلا في
التواجد هنا لكنها ما كانت لتتخلص من هذا المزعج إن لم تأتي
معه ثم هي بحاجة لثوب فعلا ولن تخرج لهم ببجامة نوم بالتأكيد .
وقف والتفت لها فوقفت لوقوفه ما أن كانا حيث محلات الملابس
والماركات المشهورة وقال ناظرا حولهما
" هنا ستجدين أفضل وأنسب ما ستبحثين عنه "
وتابع وقد عاد بنظره لها
" وبعض الأسعار خيالية أيضا فكم بحوزتك من مال ؟ "
أدارت مقلتيها الزرقاء بعيدا عنه وقالت ببرود
" ومن أين لي بالمال وأنا والجدار في منزلكم سواء ؟ "
ابتسم وأخرج لها بطاقته قائلا
" في نظر نفسك فقط يا زيزفون "
وتابع من قبل أن تعلق مادا لها إياها
" هذه بطاقتي يمكنك شراء ما تريدينه ومهما كان ثمنه "
نظرت لها في يده ثم لعينيه فأمسك يدها ووضعها فيها قائلا
" اقسم أنه مالي ولا علاقة لجدي به فأنا لا علاقة لي بأعماله سوى
في استشارات قانونية ولست آخذ أتعابا عليها أيضا "
تنهدت بضيق وقبضت أصابعها عليها وأبعدت يدها وقالت ناظرة
يمينا حيث حركة الناس والمحال التجارية مصطفة بواجهات زجاجية
وكأنها محل واحد مشترك
" أتعني أنك ستتركني هنا ؟ "
نظرللساعة في معصمه وقال
" عليا زيارة صديق لي هنا وأعدك أن لا تأخر "
وتابع وقد عاد بنظره لها
" ثم أنا لن ازعجك بوجودي في اختيارك لما ستشترين وأريدك حقا
أن تأخذي كل ما ترغبين به ويمكنك الخروج والتجول في باقي الشارع
إن لم يعجبك شيء هنا "
نظرت له وقالت ببرود
" وكيف ستعرف أين سأكون في هذا المكان ؟ "
مرر أصابع في شعره ناظرا للبعيد ولم يعلق .. أجل كيف نسي هذا
الأمر فهي لا تملك هاتفا والبحث عنها في مبنى بسبع طوابق أمر خيالي
فكيف في شارع طوله يقارب الكيلو مترين وبين نصف مليون شخص !
إنه أمر أصعب من المستحيل عينه حتى أن سيارته لا يمكنها أن تكون
علامة لها فلا يمكنه تركها هنا فركن السيارات ممنوع حتى أن دخول
السيارات الخاصة مخالفة يحاسب عليها القانون لولا صلاحيات مركزه
التي تخوله لذلك ، نظر حوله ممررا أصابعه في شعره يريد حلا سريعا
للأمر .
" الأفضل أن تعود بي للمنزل "
نظر لها وأمسكها من يدها وتحرك بها قائلا
" لن تخرجي من هنا إلا بما جئنا من أجله ، سأركن السيارة في
الموقف ثم نرجع هنا معا "
ولم يترك لها مجالا لا للرفض ولا للنقاش تتبعه منصاعة وإن
مكرهة تحاول فقط تجنب الاصطدام بأحد المارة بسبب إسراعهما تكاد
لا تستطيع مجاراة خطواته ، وقف بها فجأة حتى كادت تصطدم به
ونظر جهة أحد المتاجر بعيدا عنهم قليلا قرب المخرج وابتسم فورا
وهو ينظر للموجودة داخله فها هو وجد الحل المناسب .
*
*
*
|