كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
وقفت أمام باب غرفة الضيوف وتنفست بعمق تشعر بتردد
وتوتر كبيرين .. لا بل برهبة شديدة من مقابلة ذاك الرجل الذي
لم تراه يوما ولم تسمع سوى عبارات تيم الحاقدة والكارهة له
صغيرا ونهي والدته له عن قول ذلك والنتيجة كانت دائما أن
يخرج غاضبا وكل ما كانت تقوله لها والدته بعدها وحين تنظر
لها بحزن طفولي لأنه خرج
( سيرجع قريبا بنيتي فتيم لا يعرف الغضب أبدا )
تنهدت بحزن ومسحت تحت جفنيها بقوة وكأنها تمنع دموعا لم
تفكر أساسا في النزول ثم مدت أصابعها التي تظهر وحدها من
كم قميصها القطني الطويل وأمسكت مقبض الباب وأدارته ببطء
وفتح ليكشف عن الواقف عند الواجهة الزجاجية للغرفة والمطلة
على الجزء الخلفي للحديقة والبركة الإصطناعية الجميلة تتلألأ
مياهها تحت أضواء الحديقة وضوء القمر ، كان موليا ظهره لها
لكن قلبها انفعل لا شعوريا لطوله وأكتافه ووقفته فإن كان ابنه ذاك
لا يشبهه في الملامح التي لم تراها بعد فهو يشبهه في هذا وبشكل
واضح جداً غير أن تيم يبدوا لها أطول أو أنه أنحف قليلا أو لا تعلم
قد يكون فارق السن فقط ! .
التفت لها الواقف هناك ما أن خطت للداخل بضع خطوات فوقفت
مكانها تنظر له وكما توقعت فهذه الملامح لا تتشابه وتلك أبدا فتيم
بالفعل أخذ من والدته الكثير .. تذكر كم كانت جميلة رغم المرض
والإعياء ، لن تنكر جاذبية هذا الرجل ووسامته رغم الشيب الخفيف
في شعر صدغيه وبعض الشعيرات من لحيته الخفيفة جدا والمحددة
بعناية وبعض الخطوط البارزة جهة فكيه لكن تلك المرأة كانت أجمل
نساء عائلتها ولا تراها بخلت بذاك الحسن أبدا على ابنها فتراه جمع
محاسنهما فأخذ جسد وثقة وطول الواقف أمامها الآن يديه في جيبي
بنطلون بدلته السوداء الأنيقة وجمال والدته الحاد المميز .
شعرت بالإحراج من طول وقوفها هناك وتحديقها به وإن كان هو
نفسه مثلها تماما فقد التزم الصمت أيضا محدقا بتلك الملامح
الجميلة الحزينة البريئة وكأنها ملاك بجناحين صغيرين يسعى لنشر
السلام بين البشرية تشعرك من أول وهلة تراها فيها بأنها فراشة
تلون عالم من يحتويها فعلا بالألوان الجميلة فبمجرد النظر لقسمات
وجهها تشعر فورا بأن ما تحمله في داخلك من هموم ومهما عظم
يتلاشى بسهولة فهي تملك هالة من السكينة والسلام والهدوء تضخ
الناظر لها بدفعات هائلة من الإيجابية ، تلك العينان الذهبيتان المشعتان
والغرة البنية المدرجة والوجه الدائري تشعرك بالراحة ما أن تنظر
إليها .
بادر هو واقترب منها فهو يقدر ترددها لرؤيته لأول مرة في حياتها ،
وصل عندها بخطوات واسعة أنيقة وما أن رفعت يدها لتصافحه
فاجأها بأن شدها لحضنه وطوق جسدها الغض بذراعيه فهذه زوجة
ابنه وإن نبذه .. إنها الماضي .. أجل شيء من رائحة الماضي البعيد ..
من تلك البلدة التي احتضنته حين نبذته قبائله ومن رائحة تلك المرأة
التي عاش معها سنينا قليلة تساوي حياته بأكملها منذ ولد فهذه الفتاة
جزء من عائلة تلك المرأة ومن حياتها فابنه لم يمنحه أي فرصة ليشعر
بأنه الشيء الذي تركته له بعد رحيلها .
بينما كانت هي متصلبة في حضنه تماما وليست تفهم هل لأنها لم
تعتد هذا النوع من العواطف من المحيطين بها ! لكن شعورها لم
يكن هكذا حين حضنها عم والدها في المطار ولا حتى تيم ! ليست
تعلم لما تشعر بأنه ليس من النوع العاطفي جدا من الرجال وهذا
الأمر تلحظه فيه ما أن تراه .. هو ليس بتعقيد وصلابة وبرود
شخصية ابنه بالتأكيد لكنها تجزم بأنه يشبهه في الكثير من ذلك
وتستغرب هذا الموقف منه رغم أنه لم يراها يوما ! أبعدها عنه
وأمسك كتفيها وقال ناظرا لعينيها المحدقتان به
" كيف أنتي ماريه ؟ "
همست بعد برهة
" بخير ... شكرا لك "
أبعد نظره عن عينيها لبرهة قبل أن ينظر لهما مجددا وقال بحزن
" أتمنى أن لا يكون موقفك مني سلبيا كزوجك "
لم تستطع أبدا التحكم في الدموع التي ملأت عيناها الواسعة ولا
إخفاء المرارة في صوتها وهي تهمس بحزن
" إن ألقيت باللوم عليكم مثله فلن يكون لي مكان سوى الشارع "
نظر لها باستغراب بادئ الأمر ثم قال وهو يبعد يديه عن ذراعيها
" هل أوضاعك معه سيئة هكذا ؟ "
أبعدت نظرها عنه وقالت بسخرية
" تيم ظروفه وعمله وحتى حياته لا مكان لزوجة فيها حاليا "
وتابعت ببعض التردد وقد رفعت نظرها به مجددا
" وأكذب عليك إن قلت أني لست أعذره في موقفه منك "
حرك رأسه برفض قائلا
" أنا لم أتعمد أن أتخلى عنهما صدقيني "
أخفضت رأسها ونظرت ليديها اللتان كانت تشبك أصابعهما ببعض
وقالت بأسى
" تيم لا يمكنه تفهم ذلك أنت لم ترى ما قاساه ووالدته وكنت أنا
شاهده عليه "
أمسك ذراعيها مجددا وقال
" والدته من رفضت أن آخذهما حين استقرت أموري هنا وأن
أفعل لهما أي أمر يكشف أني لازلت على قيد الحياة وقالت بأنها
تريد أن يبقى له أحدنا فاختارت أن تموت هي لأعيش أنا ، كنت
حينها بدأت في عملي الجديد هنا وأصررت على مطر شاهين أن
أدفع أنا لهما المال وليس هو فكان يرسل راتبها مضاعفا بمرتين
ولم يكن أحد منا يعلم بأنه لا يصلهما وبأنهما يعانيان ما يعانيانه
خلف جدران ذاك المنزل "
رفعت نظراتها الدامعة به وقالت بغصة
" من سيعلم إذا ؟ من سيعلم بأنه كان يسرق الرمان من الحقول
ويطعمها البذور بينما يأكل هو قشوره كي تضن بأنه يأكل وكل
اعتقادها بأن عائلة عمي قيس من يعطونهم إياه ؟ وكنت أعلم
بذلك وأخفي الأمر عنه لأنه لا يعلم بأني راقبتهم من خلف الباب "
تدحرجت دمعة من رموشها وهمست ببحة
" حتى أنه عمل في مستشفى مقر الحدود كي يوفر لها الدواء
رافضا أن يتصدق به ذاك الطبيب عليه ، كان يتلقى الضرب
والسب والإهانات من عمي والتهميش والسخرية من الجميع
ولا يتحدث أو يشتكي .. كل ذلك من أجلها فقط "
أخفضت رأسها حياءا مما ستقوله وتابعت دموعها تتقاطر على
الأرض
" حتى أنه اتهم في شرفه ونزاهته وهو فتى صغير واعترف
بذلك فقط ليحميني منهم ، يوم توفيت والدته أرسلته للطبيب
كي لا يحضرها وقت وفاتها وكان سيبات تلك الليلة في الشارع
وفي البرد لأنه يرى أنه لا حق له في ذاك المنزل وأجبرته على
الدخول مكرها وبات ليلته تلك في غرفتهما مع ذكراها ومكانها
الفارغ وحيدا بدونها لأول ليلة في حياته ، ماذا تتوقعون منه إذا ...
ماذا ؟ "
أنهت عبارتها تلك تمسح دموعها المتقاطرة من عينيها تباعا
فبالرغم من جرحها منه وغضبها عليه إلا أنها لا تستحمل التفكير
أو الحديث عن ماضيه وعن ألمه الذي يرفض هو الاعتراف به
منذ كان طفلا فكيف بالآن ؟ رفعت رأسها ونظرها للذي لاحظت
صمته المبهم بعد حديثها فصعقت به يمسك عيناه بأصابعه بقوة
منزلا رأسه للأسفل و ... يبكي !! وسرعان ما أولاها ظهره وسار
جهة الواجهة الزجاجية تمسح أصابعه تلك الدموع التي يرفض
أن تفضحه أكثر وكأنها لم تنزل سابقا ولا أمام نفسه ، مسحت
دموعها التي عادت للنزول مجددا وساد الصمت طويلا بينهما
وكأن كل واحد منهما يرفض إشراك الآخر فيه قبل أن تكسره
قائلة بصوت منخفض ونظرها على قفاه
" تيم ليس غاضبا من أجل نفسه .. أنا متأكدة من ذلك رغم أنه
لم يتحدث أمامي عن الأمر "
التفت لها وقال
" هل يأتي لزيارتك ؟ "
نظرت للأسفل فورا وقالت
" أحيانا "
وصلها صوته فورا
" لا أعلم لما أشعر بأنك لا تقولين الحقيقة ماريه فأنتي من النوع
الذي لا يعرف الكذب وما في قلبك تظهره ملامحك ، أنتي وحدك من
قبلها تيم من ماضيه لم يحملها إثم ما حدث مع والدته ولم يتخلص
منك في حاضره ولم ينبذك فظننت أنك تستطيعين مساعدتي لأنك
ستكونين الأقرب له من بين جميع المقربين منه لكن يبدوا أن
أموركما أيضا ليست على ما يرام "
لم تستطع رفع نظرها به ولا التعليق على ما قال وهي تسمع
خطواته مجتازا لها ثم فتح باب الغرفة وقال
" إن احتجت أي شيء أخبريني فقط ماريه وإن انزعجت يوما من
البقاء هنا فمنزلي مفتوح لك في أي وقت تريدين "
استدارت منادية ما أن غادر
" عمي "
وعضت طرف شفتها منزلة رأسها ما أن التفت لها ، تريد أن تعلم
أن تفهم على الأقل ، لن تفضح سره أبدا لشخص آخر غير ساندرين
التي لولا أنها أخبرتها قبل أن تعلم منه لما فعلتها أبدا لكنه ذكر اسم
مطر شاهين قبل قليل وصلته به وعليها أن تتحقق من شكوكها ،
رطبت شفتيها بطرف لسانها ورفعت نظرها له وقالت بتردد
" هل يعمل تيم في مكان آخر غير تلك المنظمة ؟
أ .... أنا أعني عملا سريا آخر ؟ "
نظر لها عاقدا حاجبيه باستغراب لبرهة قبل أن يقول
" لما تسألين ماريه ؟ "
شعرت بضربات قلبها تتصاعد بسرعة فها هو لم ينكر وإن علمه
بذلك بل سألها لما سألته أي أنه .... قالت برجاء حزين
" أرجوك عمي جوابك سيشكل أهمية كبيرة بالنسبة لي ، أريد
فقط جوابا وإن بكلمة واحدة "
كانت تنظر له بأمل كسير ضعيف استشفه ذكائه بسهولة فقلبها
العاشق كأي أنثى كان يتأمل في أن يكون ثمة تبرير ... ثمة سبب
وإن كان يصعب عليها استيعابه والتعايش معه المهم أن يكون
صادقا حقا فيما قال ولم يكن يكذب ، راقبت حركة شفتاه بأمل
يحتضر وهو يحركهما ببطء وقد قال
" نعم "
ثم استدار وغادرا تاركا إياها واقفة مكانها تتنفس الهواء وكأنه
ينعدم من المكان حولها وقد مررت أصابع كلتا يديها في شعرها
للخلف تشعر بضربات قلبها وصلت أقصاها ... إذاً ما قاله صحيح
والمهمة موجودة بالفعل ، لكن ... نزلت دموعها رغما عنها فليس
يمكنها تصور ذلك أبدا وتحت أي مسمى كان وامرأة انجليزية ... !
أي لا ضوابط في حياتها ولا في علاقتهما .
مسحت دموعها بقوة وخرجت من هناك وعادت جهة غرفتها
وتوجهت لسريرها مباشرة جلست عليه ورفعت هاتفها واتصلت
به فورا قبل أن يتغلب عليها ترددها فعليها أن تفهم منه وأن يشرح
لها أكثر عن طبيعة عمله ذاك وحدود صلته بتلك الفتاة ، مسحت
دموعها التي انسابت فقط لمجرد التفكير في الأمر وعاودت الاتصال
مجددا حين لم يجب وضربات قلبها تتصاعد مع رنينه .. تعلم بأنه
غاضب منها أيضا وقد لا يجيب عليها لكنها لن تتوقف عن المحاولة
فما كان ليوضح لها بالقدر الذي سيقنعها هي لكنها الآن تعلم
وستحاصره بمعرفتها لطبيعة عمله الآخر ، مررت أصابعها في
غرتها الناعمة ورطبت شفتيها الجافتان ما أن انفتح الخط تشعر
بضربات قلبها ترتفع حد الجنون حين انفتح الخط ولم يتحدث
فقالت فورا
" تيم أ..... "
" من أنتي ؟ "
تصلبت يدها كما لسانها وجميع أطرافها بل وتجمد كل شيء حولها
وانسابت دموعها دون استئذان وهي تسمع ذاك الصوت الأنثوي
الغاضب والذي قالت صاحبته مجددا
" من أنتي أجيبي "
*
*
*
أطلقت شتيمة بذيئة حين انغلق الخط في وجهها وأبعدت الهاتف
ونظرت له هامسة بغيظ " الوقحة سترى حسابها مني "
التفتت لباب الحمام الذي فتح فجأة ونظرت للواقف أمامه ببنطلون
جينز فقط يمسك منشفة يجفف بها بشعره وقد توقف تماما عما
كان يفعل ينظر لها بصدمة سرعان ما تبدلت للاستهجان فأمسكت
خصرها بيديها وهاتفه لازال في إحداها قائلة بضيق
" من هذه ماري ديفسينت تيموثي والتي تتصل بك مقربة
منتصف الليل ؟ "
رمى المنشفة من يده بعنف وتوجه جهة قميصه القطني المرمي
على السرير ولبسه في حركة غاضبة عنيفة ثم توجه نحوها سحب
الهاتف من يدها وقال بضيق " ما الذي أدخلك هنا لوسي ؟ ومن
أين تحصلين على نسخ مفاتيح منزلي ؟ ... سحقا للحثالة "
ثم لوح بيده بغضب والهاتف فيها متابعا ومن قبل أن تتحدث
" بل وتفتشين هاتفي دون استئذان أيضا ؟ كم مرة نبهتك عن
التصرفات الصبيانية هذه ؟ ثم ما تفعلين أنتي أيضا في منزلي
مقربة منتصف الليل ؟ "
قالت باستياء وصوت باكي وقد ضربت الأرض بحذائها العالي
" والدي في انتظارك فلم يحصل على وقت فراغ غير هذا الوقت
ثم أنا من حقي أن أعلم من تكون هذه التي تتصل بك الآن وأنت
بنفسك قلت لا حبيبة ولا صديقة لديك "
" لم أقل ذلك .... سحقا "
صرخته تلك لم تزد الأمر إلا سوءا فقد صرخت فيه بالمثل
" أجل فأنت سبق وأخبرتني أنه ثمة امرأة وأنا لم اصدق ذلك لأنك
لم تخرج مع إحداهن سابقا وها قد علمت من تكون "
وما أن أنهت عبارتها تلك خرجت من الغرفة ضاربة الباب خلفها
فشتم بحنق وانتظر قليلا وكما توقع لم يسمع صوت باب الشقة فنظر
لهاتفه في يده واتصل بماريه أولا فتلك المدللة الخرقاء لم تفسد
هذا الأمر فقط بل إن ضلت على شكها بأنها حبيبته فستفعل أي
شيء للتخلص منها ، توجه جهة باب الشرفة الزجاجي أصابع
تشد شعره للخلف بقوة وأصابع اليد الأخرى تثبت الهاتف على
أذنه وكلما قطعت عليه الاتصال حاول مجددا حتى وجده مغلقا
فرماه على السرير بطول يده شاتما بغضب وسحب سترته بعنف
وغادر الغرفة فوقع نظره فورا على الجالسة على الكرسي تحرك
قدمها بغضب مشيحة بنظرها عنه فقال ببرود مستندا بالجدار
خلفه ومكتفا ذراعيه لصدره
" لو ركزت على اسم عائلتها لاكتشفت أنها قريبة لي من جهة
الأم ومؤكد تعرفين اسم عائلة والدتي وهي فتاة يتيمة الأبوين
أنا المسئول الوحيد عنها وقد قمت بنقلها من إيطاليا من مدة
قصيرة من أجل الدراسة وتعيش مع قريبة لنا كلينا ، هل يكفي
هذا أم أشرح أكثر ؟ "
لم تتحدث ولازالت على حالتها تلك فشد على فكيه بقوة وغضب
وكره تلك اللحظة مهمته ومطر شاهين بل والنساء اللواتي لا
يفهمن معنى التبرير أبدا ، فك ذراعيه وقال بنفاذ صبر
" تعلمين جيدا بأنه لا علاقة بيني وبينها فتحركي لنغادر لوالدك
أو سأنام "
وقفت على طولها واستدارت بجسدها ناحيته وقالت بسخط
" لن تخجلني مع والدي مجددا تيموثي أتفهم ؟ ثم ما هذه الطريقة
التي تراضي بها امرأة غاضبة ؟ "
كاد يضحك في وجهها ولا رغبة له أساسا في الضحك ، يراضي
امرأة غاضبة ! قد أثبت عجزه عن ذلك من قبل أن يراها الآن ،
بل تهذي هذه المرأة بالتأكيد فسيقطع يده قبل أن تلمس طوعا
جسد امرأة غير تلك وهذا ما يراه حقا لها وحدها ، قال بذات بروده
" لا طرق أخرى لدي وأنا لم اغضبك "
سارت جهة باب الشقة قائلة بتذمر
" يالك من بارد وأحمق لكن لا بأس سنهدم حاجزك هذا قريبا "
وغادرت تاركة الباب مفتوحا خلفها فتأفف بنفاذ صبر وتبعها
فسيقتلها بالتأكيد إن لم تنتهي تلك المهمة قريبا .
*
*
*
مسح وجهه بكفيه مستغفرا الله بهمس وأبعد تلك الأوراق عنه
مجددا ، هو يؤمن بشيء واحد فقط أن زيزفون لم تفعلها ...
من وكيف ولما هذا ما عليه اكتشافه أو اعتزل المحاماة
لباقي حياته .
سحبها نحوه مجددا ككل مرة أبعدها فيها وعاد لدراسة كل بند
وكل سطر كتب في تلك الأوراق لا يغفل عقل المحامي في رأسه
عن كل صغيرة وكبيرة رغم تشابك وتعقد الأحداث فالأدلة جميعها
ضدها .. كانت في العاشرة ! عمر لا يصلح للقتل إلا إن كان الدافع
قويا فهذا يحدث أحيانا ويدفع من في عمرها لارتكاب جرائم
مشابهة ، لكن لما كانت هيئة المحلفين من دافعت عنها ! لما
لم يستلم قضيتها أي محام ليظهر الحقيقة ؟ أين الشخص الذي
كان يحميها وأخرجها من البلاد وأنقدها من القضية وقتها لم
يسعى لإظهار الحقيقة ؟ ما السر الذي يخشون أن ينفضح
بظهور مجريات الأحداث الفعلي ؟ وهذا الموقف كان مشابها
لموقفها تماما وهو ما جاء في ملف القضية .. الصمت التام
من جانبها رغم جميع التهم الموجهة لها ! فلما لم تدافع عن
نفسها ولا حتى بعد إرسال مبعوث المحكمة لها في المصحة
قبل ثلاث سنوات وحين كانت في الخامسة عشرة حينها ؟
إن لم تكن هي من فعل كل ذلك فلما الصمت عن قول الحقيقة ؟
هي خرجت من القضية بحكم حالتها المرضية والنفسية وقتها
فلم يستطيعوا ولا استجوابها بشكل جيد وقانوني لأنها كانت شبه
فاقدة للعقل بسبب ما حدث تلك الليلة لكن القضية لازالت معلقة
في بلادها كما أنها لازالت مسجلة كنزيلة في ذاك المصح وهذا
جدار حماية جديد لها فلا تصلهم أي معلومات بأنها شفيت فعائلة
المقتول لم يسقطوا حقهم بعد وهي تجاوزت الآن السن القانوني
والسجن سيكون مصيرها حال فتحت القضية من جديد ، تقرير
طبيبها الخاص عن حالتها مشابه تماما لما شهده هو نفسه تلك
الليلة فهي في حالة ألا وعي تذكر حادث احتراق والدتها فقط
حين كانت تقول صارخة
( إنها تحترق تعالوا أرجوكم ... أوقفوه بسرعة فسيحرق كل شيء (
إذا هذه هي الجريمة الأولى وهذا دليل براءتها منها وإن كان
القضاء لا يعترف بمثل هذه الأدلة لكنها بالنسبة لمحام هو دليل
قاطع لكن ماذا عن الجريمة الأخرى ! هل قتلته فعلا لأنه أحرقها ؟
أم ثمة من قتلهما كليهما ؟ لكن لما ستصمت عنه إن كان قاتلا !
هل ستحمي قاتل والدتها ؟
ضم رأسه بين يديه ونظره على تلك الأوراق المبعثرة أمامه
فلا جديد فيها رغم السنوات الخمس التي كانت تفتح فيها القضية
في كل مرة قبل أن تغلق منذ ثلاث سنوات ، إن كان زوج
والدتها هو من قتلها ثم هي قتلته فمن هو الذئب في رسوماتها ؟
أهو زوج والدتها أم أنه القاتل الحقيقي ؟ إن كان زوج والدتها
فكيف ظهر الآن ذاك الأسد بينما كان طوال الوقت فريسته أرنب
ضعيف ! إن كان ميتا فكيف سينقض عليه ذاك الأسد !!
إلا إن كان الأمر نفسيا .. أي حرب داخلها فقط !
فتش مجددا وأخرج ورقة معينة اشتدت أصابعه عليها لا شعوريا
وهو يقرأ أسطرها وشعر بقلبه ينقبض وكأنه توقف عن ضخ
الدماء لجسده وعن استقبالها منه فلما طلبت لجنة المحلفين هنا
تقريرا طبيا بتعرضها للاغتصاب ؟ لماذا وأين التقرير الطبي
ولما لم يتم ذكر هذه النقطة في القضية لاحقا ؟ اتكأ بجبينه
على راحة يده وشد صدغيه بأصابعها بقوة لا يريد أن يفكر في
هذا أبدا فحينها لن يسامح ولا نفسه فيما مرت به ولن يلومها
أبدا إن لم تسامحه هو أيضا وليس جده فقط بل وجميع من يمت
لعائلة ضرار سلطان بصلة .
عاد للبحث مجددا بين شهادات الشهود فبحكم أن الجريمتان
حدثتا في مزرعة فشهادة الجيران كانت ضعيفة وشحيحة أيضا
والجميع أقروا بحالتها المرضية سابقا بسبب الأكياس المائية
في دماغها وانطوائها عن الجميع فبالكاد كانوا يرونها بينما
شهد الجميع بعلاقتها العميقة بوالدتها وبأنها كانت تخشى
عليها حتى من احتكاكها بالأطفال كي لا تتعرض للسخرية
بسبب تأخرها في إدراك ونطق الكلمات أما زوجها فكان
الحاضر الغائب في شهاداتهم فلم يكن لديه أي احتكاك بهم
وليس له أي أصدقاء منهم وكان يقضي أغلب وقته في
المنزل لم يكن لديه عمل محدد يستقر فيه ولا يملك شهادة
أو مؤهلات وحتى في عائلته لم يتم ذكر أصدقاء أو أعداء له .
ثمة شخص واحد كان له احتكاك مباشر بتلك العائلة الصغيرة
وهو ( بشير ) شقيق الزوجة من الأم أي خال زيزفون لكنه
لم يدلي بأي شهادة وقد أثبتت المحكمة أنه كان بعيدا عن ساحة
الجريمة تلك الليلة بطولها لكن ثمة أمر مريب ذكر عنه وهو بأنه
( الشخص الوحيد المقرب من تلك العائلة والوحيد الذي شك
في قدراتها العقلية وفي ذات الوقت استبعد أن تكون مؤذية)
ثمة أمر مريب في أقواله لكنه لم يكن في مكان الجريمة
وبشهادة أكثر من شخص ! جمع الأوراق معا وأعادها لذاك
المغلف ورفع دفترها من الأرض وفتح على تلك الرسمة تحديدا
محدقا بذاك الأسد المنقض على فريسته بقوة وثقة وبدأت
التساؤلات تدور في رأسه فهل تيقن عقلها الباطن من أنه ثمة
من سيقتص من الجاني حيا كان أو ميتا ؟ وإن عنت بذاك الأسد
العدالة وبالذئب قضيتها ليس إلا لكن ماذا إن كانت ترمز
لأشخاص حقيقيين ! حينها سيكون ثمة مذنب حي طليق وثمة
من باتت تثق بأنه سيهزم تخفيه خلف جرائمه طوال تلك الأعوام .
وقف وترك الدفتر من يده وتوجه لباب الشرفة الزجاجي ووقف
أمامه يراقب الليل والسكون وتذكر فورا حديثهما الأخير
وعبارتها تلك
( لكنك لن تجد حل لغز الجريمة فيها وستعتمد على ذكائك
هذه المرة يا وقاص )
وهذا أكبر دليل على براءتها .. دليل واضح جدا على أنها تنتظر
شخصا يستطيع فك خيوطها بذكائه وحده دون أن يعتمد على أي
شهادة منها ، لكن عبارتها الأخرى !!
( وهذه قد تلعب فيها العلاقات الشخصية دورا مشابها ... فهي
إذا ليست من اختصاصاتك )
فلما قالت أن العلاقات الشخصية ستلعب فيها دورا إن كانت هي بريئة !
من هذا المذنب الذي قد يقف عاجزا أمام تقديمه للعدالة ؟
شد قبضته على زجاج باب الشرفة وقد ظهرت أمامه صورتها
وذاك البريق في عينيها الواسعة حين قالت بحزن
( ذاك لن يأخذ له أحد بحقه ومهما حاول )
ضرب بقبضته على الزجاج أمامه هامسا من بين أسنانه
" أنا من سيأخذ بحقك ... قسما يا زيزفون أن أفعلها "
*
*
*
شدت الحبل جهتها بقوة بينما كان يشد طرفه الآخر الواقف في
الجهة المقابلة لها من البئر الواسع العميق حتى ظهر لهما الدلو
الكبير المليء بالماء فهذا هو حالهم كلما أصاب مضخة المياه
الكهربائية عطل ما فسيحتاجون لوقت لإصلاحه وعليهم حينها
إخراج الماء بالطريقة البدائية الشاقة ، فعلى تلك الآبار كان
يعتمد أهالي تلك القرى فشبكات المياه الحكومية قديمة وبسبب
المشاريع الزراعية والري الجائر لم يعد يصلهم من تلك المياه
شيء فأصبح اعتمادهم على أبار المياه الجوفية وسحبها
بمضخات المياه بشكل مستمر مما يؤدي لتعطلها شبه شهريا
فحتى مياه الأمطار التي تنزل على مدنهم طوال موسم الشتاء
لا يتم الاستفادة منها بشكل منظم وسليم فتتضرر بعض الأراضي
بينما يستفاد البعض الآخر وجميع الحلول التي كانت تسعى
الحكومة لتوفيرها سابقا كانت تنتهي بالفشل إما بسبب عدم
تعاون أهالي تلك الأرياف أو بسبب شجارهم المستمر على
سبل الاستفادة منها فيتحول الحل لمشكلة معقدة ، وحتى الشركات
الزراعية التي تتبنى المشاريع في هذه الأراضي الخصبة تجني
الفائدة دون أن تفيدهم ومشاكلهم بشيء .
ابتسمت للذي تلقى هو الدلو وسكب المياه منه في الحوض
الحديدي ثم عادا لإنزاله مجددا تراقبه مبتسمة بحزن فكم تشفق
على حال هذا الفتى فعمره نصف عمرها تقريبا ويقوم بخدمتهم
جميعا وحتى أشقائها من هم في عمر والده فلا تسمع في ذاك
المنزل سوى
( إسحاق تعال هنا ... إسحاق خذ هذه هناك ... إسحاق إرفع
هذا للأعلى )
وأيسرها كان دائما
( إسحاق ساعدني في ذلك )
فعلى الأقل يتشاطر معه العمل .
تحار أحيانا في قصته المدفونة خلف الماضي والغموض وسر
إحضار أشقائها له رضيعا وقد قالوا بأنهم وجدوه مرميا على
طريق حدود الهازان مع الحالك وتشعر دائما أنه ثمة ما يخفونه !
صحيح أن لون عيناه الزرقاء وبشرته لا يشابه قبائل الحالك
وخاصة الجنوب أبدا لكنها لا تصدق أن يكون الأمر مجرد
مصادفة ورقة قلب منهم ليحضروا طفلا لقيطا لمنزلهم !
ثم ذاك الرجل الذي أخذه قبل أعوام وقال بأنه ابنهم ثم عودته
بعد عامين في حال مزرية وتغيره بعدها وكأنه ليس من كانوا
يعرفونه سابقا حتى أنه فقد صوته نهائيا بل وتراه منذ ذاك
الوقت منطوي أكثر على نفسه شارد الذهن وثمة حزن عميق
يسكن تلك العينان الجميلتان بل ورأته عدة مرات يجلس عند
احدى الأشجار ويبكي بالخفية .. تشعر بأنه ثمة سر عظيم
ورائه وليست تعلم ما يكون ! كم مرة انتابها الشك في أن
يكون من سلالة دجى الحالك فوالدة ذاك الرجل خماصية من
الهازان طلقها والده تحت ضغط كبير من جدهم شاهين بعد
ولادتها لدجى مباشرة ثم لم يعد يعلم أحد عن مصيرها !!
لكن إن كان كذلك فمن الذين احتالوا عليهم وأخذوه منهم
سابقا وأين ولما ! بل وكيف أعادوه منهم وبأي صفة !!
هل يكون ابن آخر لتلك الإيرلندية زوجة شقيقهم يحيى أيضا
ومن أحد إخوتها ؟
استغفرت الله بهمس وأخذت منه الدلو وسكبت هي ما فيه
هذه المرة قبل أن ترفع نظرها بالتي كانت متوجهة نحوهما
مسرعة تمسك جريدة في يدها يتلاعب الهواء بفستانها الطويل
المطرز تتحرك ضفائرها الطويلة المثنية ضاربة لخصرها وذراعيها ،
تشبهها في كل شيء تقريبا حتى في سنوات عمرها وملامحها
وسواد ذاك الشعر الطويل المضفور غير أنها تحب ثني ضفائرها
الطويلة تلك عكسها كما تختلفان في طباعهما فبقدر هدوء هذه
وطبعها المسالم فتلك تحاول دائما ابداء أراء عقيمة في عائلة
لا تعير لرأي المرأة بالا وتدافع عن حق لن تحصل عليه منهم
أبدا ، ما أن وصلت عندهما قالت بضيق تلوح بالجريدة في يدها
" حوراء تعالي وانظري ما يوجد هنا "
قالت وهي تضع الدلو جانبا
" أنتي التي تعالي لننقل حوض المياه للمنزل واتركي عنك ما لا
ينفعك في شيء "
تأففت واقتربت منها قائلة
" قلت انظري لهذه "
ووقفت بجانبها وأرتها إياها قائلة بسخرية
" انظري لهذه الحسناء في الصورة هل تتوقعين من تكون
هذه بدر البدور ؟ "
ضحكت حوراء رغما عنها على ابتسامة الواقف أمامهما على
مسافة قليلة فقالت جيداء بحنق
" وما قلته يضحك ؟ هي بدر بالفعل فكيف إن وضعتها بجانب
شقيقك شعيب ؟ "
أرتها عنوان المقال وقالت تتبع حروفه بإصبعها
" غسق شراع صنوان "
ضربت بعدها بيدها على الصورة قائلة
" هل علمت الآن لما يبحث شقيقك المصون عن نسبها بجميع
الطرق زائغ العينين ذاك ؟ "
استلت منها الجريدة قائلة
" دعيني أرى هذا ! "
نظرت عاقدة حاجباها الرقيقان الطويلان للمقال تحتها ثم أشارت
لصورة الواقف فوق المنصة قائلة تمسك ضحكتها
" وهذا مطر شاهين ؟ يا حسرة قلبي عليك يا شعيب "
ضحكت جيداء من فورها وقالت
" هو وتلك المرأة وجهان لعملة واحدة ، قسما لا رجل أغبى
منه في التاريخ يبحث عن شيء في امرأة غيرها "
طوت حوراء الجريدة ومدتها لها قائلة
" حسنا شكرا لإيصال الخبر بسرعة وهيا ساعدينا في حمل هذا "
رمت الجريدة من يدها دون اهتمام أين سيستقر بها الأمر في
تلك لأرض الواسعة بأشجارها المصفوفة على مد النظر
وقالت بضيق
" أيعجبك أن يسعى أشقائك لإيجاد زوجات لهن من نسل ذاك
الرجل الذي قد يكون تحلل تحت التراب من أعوام طويلة
ويتركوننا نحن نظفر الشيب في حبائل طويلة ؟ "
تنهدت الواقفة أمامها بضيق وقالت
" لا نفع مما تقولينه يا جيداء وإن سمعتك والدتك لقطعت لسانك "
ضربت يديها في وسطها فرنت أساورها الذهبية في نغم خفيف
وقالت بضيق
" هذا ما يوقف حالنا هكذا عبارات الاستسلام هذه ، قارب عمرك
للسابعة والثلاثين إن لم تكوني تعلمين ذلك ولولا جذور قبيلتك لخط
الشيب في جدائلك يندب حظك معك فلما يطبقون حدادهم علينا بينما
يتزوجون هم من نسل دجى الحالك ؟ "
ثم أشارت بإصبعها للجريدة التي يتلاعب الهواء بأوراقها تحتها قائلة
" هذه ... ! هذه يتزوجها شعيب ! قسما إن نام معها في غرفة
واحدة ما خرج لنا بعدها أبدا "
لم تستطع حوراء إمساك الضحكة التي شاركها فيها الواقف صامتا
كعادته وإن كان يحاول كتمها بجهد فنظرت لهما بحنق قائلة
" وما الذي قلت يضحك ؟ هذا بدل أن تبكيا على مستقبلكما الرائع "
قالت حوراء ما أن توقفت عن الضحك
" سمعت أيضا أن ابنتها من ابن شاهين تنافسها في الحسن أي
أننا لن نتخلص من شعيب فقط بل ونوح معه أيضا "
زمت شفتيها بحنق قبل أن تقول
" يا سعادتك يا ابنة غيلوان ، ستبقي وحدك دون زواج ولا أولاد
وشقيقتك معك أيضا "
قالت مبتسمة
" بلى هناك مايرين وأويس أيضا "
لوت شفتيها بسخرية قائلة
" مايرين ستتزوج كما تزوج شقيقها فهم انشقوا عن العائلة من
أعوام طويلة حين أراحهم هازار منا .. ليته شقيقي فقط ، أما
أويس إن قرر أن يتزوج فلن يقف في طريقه أحد وهم يعلمون
ذلك جيدا ، ثم هو أحق من غيره فعلى الأقل يجد من تخدم والدته
الضريرة "
انحنت حوراء جهة الحوض قائلة
" ويحي كيف نسيت ؟ عليا الذهاب لرؤية ما تحتاجه فأويس لن يرجع
قبل الغد وأنا لم أذهب لها اليوم ، بسرعة ساعداني لحمل هذا "
*
*
*
|