الفصل الثاني
الفصل الثاني هدية للغالية توباز
المدخل ~
بقلم : ثلج دافئ
من مطر ل تيما
نعم انا اهمشك يابنتي ♥ولكن لذكرى تقتلني
اراها بين عينيكي ♥واسمع صوتها من شفتيكي
لا تبكي ياصغيرتي ♥حتى انا تهت في حيرتي
ضيعت مني مهرتي ♥وفرطت في بهجتي
اعذري اباكي يا صغيرتي♥فبيدي اعميت بصيريتي
من غسق ل تيما
هربت من لقياكي♥لكي لا اتعذب بذكراكي
اخادع الجميع بنسيانكي♥ولكن في قلبي مأواكي
نعم لم انساكي♥ولازلت انتضر لقياكي
كيف انتي صغيرتي♥ياترى هل تشبهينني
هل تعرفين اسمي ♥ام لم تسألي يوما عني
أبعد نظره عن النافذة ودار معطيا ظهره لمنظر الأمواج المتكسرة على
الصخور والتفت للواقفة خلفه تتحدث منذ وقت وكأن كل شيء في
العالم يسير عكسها
كتف يديه لصدره وقال ببرود " أمي سيكون كل شيء
كما خططت وأريد وستري بنفسك فلا تشغلي بالك بشيء "
قالت بضيق " ما هذا الذي يسير كما تريد ! زواجك من تلك الخرساء
المجنونة أم وقوفك تشاهد البغيض المغرور وقاص ذاك يسرق كل
شيءلنفسه
منذ كان طفلا وهو في المقدمة , كنت أضن أن السبب جدك
لكن يبدوا لي أنكم أنتم الفاشلون أمامه ولا سبب آخر "
أمسك جبينه بأصابعه وصاح بحدة " أنتي تقولين هذا أمي فما تركت
لغيرك ؟ الجميع يعلم أن جدي السبب هو من كان يفضله علينا ويقدم
له الأفضل دائما حتى جعلنا عبيد تحت أمرته "
وعاد ملتفتا للنافذة الواسعة يشد قبضتيه بقوة وأسنانه تكاد تتحطم من
الضغط عليها كتحطم تلك الأمواج الغاضبة وذاك المحيط الذي تلون
بسواد مخيف عكسته غيوم شتاء بريستول السوداء , وصله صوت
الواقفة خلفه
وكأنها تتحدث من بئر عميق " وما فعلت تلك الليلة ؟ "
مرر يده على ذراعه وتلك الذكرى عادت أمامه وكأنها الآن وقال بغيظ
" تلك المتوحشة لم تتركني ألمسها ولم تترك شيئا لم ترميني به
وملئت جسدي بآثار أظافرها الكريهة لكني لها وسترى من يكون نجيب
الذي سخرت منه "
قالت من خلفه بضيق " وما ستتوقع منها وهي مجـــ .... "
التفت مقاطعا لها بحدة " ليست مجنونة أمي "
شهقت بصدمة تنظر له بعينين متسعة وهو يتابع " قد تكون خرساء
مريضة بها علل نفسية كبيرة وكثيرة لكن مجنونة لا وهذا ما تأكدت
منه بنفسي ولن أفوت فرصة نسل طويل لأحد أفراد عائلة السلطان
فهذا ما لن يقدمه ولا الحفيد المبجل وقاص الذي لازال يحلم بحمل
زوجته الغبية تلك "
القهقهة الساخرة التي تبعت كلامه جعلت الواقفة أمامه تبتهج وعلقت
بسخرية " يحمل الجدار ولا تحمل تلك المترهلة ولن ينجب إن لم
يتزوج عليها ولن يتركه جدك يفعلها بالتأكيد وهي ابنة أقرب
المقربين له ومصالح مشتركة كبيرة بينهما "
اتكأ للخلف وكتف يديه لصدره لافا ساق حول الأخرى وقال بابتسامة
انتصار " لم تري وجهه حين أخبرت جدي عن كلام عالم الموروثات
ذاك وعن إمكانية كبيرة جدا لإنجاب أبناء متعددين إن تزوج أحدنا من
ابنة عمنا تلك , ولم تري وجه جدي حين علم فقد رأيت في ملامحه
رؤيته المستقبلية لسنين طويلة وإن لم يكن فيها وهو يرى عائلة
السلطان تزدهر بدلا من أن تتلاشى مع موت الرجال فيها , كنت أرى
في عينيه أنه يحسب حسابا لكل شيء حتى تزويج أبنائي منها بأبناء
أعمامهم الثلاثة وإن كانوا واحدا لكل واحد منهم وبذلك أسم نجيب هو
من سيخلد مرتبطا باسمه أكثر من البقية "
عاد للقهقهة بطريقة متوحشة ينظر للأعلى وهو يقول " كاد يغمى
على حبيب جده المدلل حين علم ما كنت أريد فعله "
تلاشت الابتسامة الحماسية للواقفة أمامه تدريجيا وقالت ما أن توقف
ابنها عن قهقهته الساخرة " وما مناسبة حفلة هذا المساء ؟ هل
علمت عن السبب ؟ "
نظر لها وقال ببرود ممررا يده على قفا عنقه " قال جدي أنها مفاجأة
سيتم الإعلان عنها في حفل اليوم , ومن عدد ومراكز المدعوين لها
يبدوا لي الأمر مهما وسيتم الإعلان عن خبر سار "
صرت على أسنانها وقالت بكره " لن يتخطى حفيده وقاص بالتأكيد
لابد وأنه سيعطيه شيئا أو يرقيه فوق مكانته في إدارة أعمال العائلة "
تحرك من مكانه وتوجه لباب الغرف يديه في جيوبه قائلا
" سنعلم ما يكون الليلة على كل حال "
وغادر الغرفة بخطوات كسولة يدندن لحنا إنجليزيا ونظراتها تتبعه قبل أن
تلحق به وتوقفت منتصف الطريق فجأة وهي تراه يتوجه للسلالم المؤدي
للطابق الثالث فحركت كتفيها بلامبالاة وتابعت طريقها بينما صعد هو حتى
كان عند باب ذاك الجناح ومرر الرقم السري ليفتحه ودخل مغلقا له خلفه
ونظره يجول على الردهة الفارغة من أي شخص والتي اختصرت مقتنياتها
على أريكة وكرسيين وطاولة بأذرع خشبية وقاعدة رخامية ثقيلة , لا تحف
لا زجاج لا مناظر على الجدران ولا أي شيء ضنوا أن من في مثل حالتها
قد تضر به نفسها أو غيرها , نظر فورا لباب غرفتها المغلق وما أن تحرك
جهته حتى انفتح باب آخر مقابل له وخرجت منه امرأة متوسطة العمر ترتدي
قميصا واسعا وتنوره طويلة فضفاضة تجمع شعرها للخلف , تحركت فورا
ووقفت أمام باب تلك الغرفة وقالت بنظرات حارقة " إنها نائمة , لم تنم منذ
يومين وما صدقت أن نامت أخيرا , يمكنك القدوم في وقت آخر "
تقدم نحوها تعلو شفتيه العريضة ابتسامة ساخرة وما أن وصل عندها حتى
أبعدها ممسكا كتف قميصها الكتاني برؤوس أصابعه وكأنها شيء موبوء
أو قذر , تقدم جهة باب الغرفة قائلا " هذه المرة سأمررها لك
بمزاجي فقط , ففكري مجددا بالوقوف في وجهي "
ثم فتح الباب ودخل مغلقا له خلفه متجاهلا نظرات الكره الممزوجة بالعجز التي
ترميه بها , توجه فورا وبذات خطواته الكسولة ناحية السرير الموجود في آخر
الغرفة يديه في جيبيه حتى وقف قربه ونظره على النائمة فوقه بدون غطاء
تحضن بإحدى ذراعيها وسادة تغطي بها وجهها لا يظهر منها سوى شعرها
البني المائل للشقرة متناثرا خلفها واليد الأخرى مرمية جانبا لازالت تمسك
بضعف علبة أدوية لم يصعب عليه معرفة نوعها , نزل بنظره لباقي جسدها
المتناسق رغم نحوله وللقميص الأبيض الحريري الذي يغطيه وقد ارتفع حتى
ركبتيها منسجما مع لون بشرتها العاجية الناعمة المشدودة , عاد به صعودا حتى
ذراعها الذي يكشفه كمه القصير والكدمة البارزة فيه بوضوح وابتسم بسخرية
وهو يتذكر تلك الليلة ... ابتسامة سرعان ما اختفت من ملامحه ليعلوها تجهم
مظلم وهو يتذكر ما حدث وشعر سريعا بالغضب من نفسه , لا يعلم ما أوقفه
تلك الليلة عن فعل ما أراد فعله ! صحيح أنها قاومته بشراسة لكنها تبقى أنثى
وأضعف منه ملايين المرات ويمكنه التغلب عليها بسهولة وهذا ما حدث وقد
انتهى بها الأمر تحت قبضته فوق هذا السرير تحديدا ثيابها ممزقة وجسدها
أوهن من أن تقاومه أكثر فما الذي حدث ؟ لماذا لم يكمل الأمر وكيف خرج
من هنا مسرعا تاركا حتى ما نزعه من ثيابه خلفه ؟! شد قبضته بغضب وفكر
للحظة أن يمد يده لذاك الشعر الأشقر ويشدها منه مجلسا لها وينهي ما تراجع
عنه سابقا ولا يعلم ما ثناه عن فعلها وكأن ثمة خوف ما لحظي سكن داخله
مرر أصابعه على فكه العريض وصولا لقفا عنقه ونظره لازال على
جسدها متمتما " لست جبانا يا نجيب وما تريده سيحدث بالتأكيد "
نقل نظره منها للدرج بجانب السرير ومد يده له وفتحه فكان مليئا بعلب أدوية
مختلفة فتش فيها بيده قليلا ثم ضربه مغلقا له وغادر الغرفة متجاهلا حتى الباب
الذي تركه خلفه مفتوحا وغادر الجناح مغلقا له لينفتح باب الغرفة الأخرى فور
خروجه وخرجت منه التي ضلت تكيل له السباب والدعوات طوال طريقها لباب
الغرفة المفتوح حتى دخلته وتوجهت من فورها للنائمة هناك كما تركتها منذ أكثر
من ساعة , سحبت علبة الدواء من بين أناملها ووضعتها على طاولة السرير
وجلست بجانب رأسها تمسح على شعرها الحريري بحنان هامسة بحزن
" ليحفظك الله من شره يا صغيرتي "
*
*
عضت طرف شفتها بقوة تمنع دموعها من الانزلاق وشدت أناملها
الرقيقة على سماعة الهاتف هامسة بصعوبة " رماح !! أهذا أنت حقا
يا شقيقي "
وصلها تنفسه المتعب مختلطا بحروفه المرتخية وهو يقول
" كيف أنتي يا غسق ؟ أفتقدك يا شقيقتي "
رفعت أصابعها المرتجفة تمسح بأطرافها عينيها وقد بللتها دموعها
التي أشبعت رموشها السوداء الكثيفة وهمست ببحة " رعد المخادع
لم يخبرني أنك استعدت وعيك أخيرا وأنه تم نقلك من فرنسا
للندن ... لقد خدعني "
وصلتها النبرة المبتسمة في صوته رغم تعبه وهو يقول " كان كل شيء
سريا يا غسق فأنتي تعلمي الظروف الحالية وأن نجاتي من الموت خبر
لا يعلم عنه الكثيرين حتى تتحسن أوضاع البلاد وحالتي الصحية "
تذكرت عتبها وقتها وغزا الضيق نبرتها وهي تقول " كان يفترض أن
لا يكون سرا على البعض أيضا يا رماح , متى سترحم تلك الفتاة
المسكينة يا شقيقي ؟ لست تعلم حالتها منذ ذاك الحادث , جليلة
لا تستحق منك كل هذا , يكفي تركك لها معلقة لأعوام "
ساد الصمت للحظات وفهمت فورا سببه وسبب تهربه من الحديث
عن الأمر فهمست بنبرة يائسة " في كل مرة أقسم أني لن أحدثك
في الأمر لكني فاشلة دائما وفي كل شيء "
وصلتها رنة تلك الضحكة المتعبة مختلطة بأنينه المتألم وقال " فاشلة
وأنتي رئيسة جمعية الغسق ! بل وأميرة تلك المملكة البيضاء
الضخمة ! ماذا تركت للناجحين إذا ؟ "
كانت ستعلق لولا سبقتها كلماته قائلا بهمس متعب " ليس هذا حديثنا
الآن يا غسق ولا ما جعلني أغامر وأتصل بك "
شعرت بنبضات قلبها تعلو حتى وصلت لحد الصخب وبشفتيها
تجفان وهي تهمس " ماذا هناك يا رماح ؟ "
*
*
" تحرك الآن ... الهدف جاهز يا تيم "
همس الصوت الرجولي في أذنه بتلك العبارة عن طريق السماعة المثبتة فيها
فوضع الكأس من يده وتحرك من هناك يغلق زر بذلته الرسمية
السوداء يتفادى التصادم مع أي من الموجودين في تلك الصالة الواسعة
ونظره ذات الوقت على الجسد الأنثوي الرشيق الذي انساب على
تفاصيله قماش أزرق حريري قد لامس الأرض رغم علو كعبي حذائها
, تظهر منه بشرة ظهرها العاري ناصعة البياض
وهي توليهم ظهرها وقد تدرج عليه شعر أحمر بلون الكرز تجاوز
كتفيها بقليل
تتحدث بانسجام في الهاتف الذي تضعه على أذنها وفي يدها الأخرى
كأس شراب قدمه لها النادل للتو ترتشف منه كلما تحولت لوضع
الاستماع للطرف الآخر وقد تركت زخم تلك الحفلة خلفها ووقفت قرب
باب الشرفة الزجاجي المقسم لثلاث أجزاء واسعة وصوت ضحكاتها
الرقيقة يسمع بين الحين والآخر
اقترب من مكان وقوفها بعد مروره بالنادل الذي كان يقف عندها وقد
أشار له بإيماءة من رأسه ليفهم أن دوره انتهى وسيستلم هو باقي
الخطة , وقف خلفها ببضع انشات فقط يدعي انشغاله بمسح طرف
حدائه اللامع منحن له للأسفل .
حفل هو السادس لهذا العام وقد ضم شخصيات بارزة ومهمة في
بريطانية
وهي مناسبة تقف لها الدولة على قدم وساق .. التنسيق والتحضيرات
كلها على أعلى مستوى والحراسة تكون مشددة وليس أي مجموعة
تلك التي يسمح لها بالتواجد هنا وهذا تحديدا سبب وجوده ضمنهم كأحد
أفراد الوحدة العسكرية الخاصة وهي مجموعة رجال متعددي الجنسيات
ينطوون تحت تلك الوحدة مشكلين الفريق الأول لمواجهة الأزمات
العالمية ويقع مقرها في انجلترا وتضم أعضاء من القوات البريطانية
الخاصة والفرق الأجنبية في الجيش الفرنسي
والقوات الأمريكية وقوة الدلتا وهم النخبة في القوات الخاصة
الأمريكية ويشكلون معا مجموعات متماسكة من المحاربين يقومون
بأعمال خطرة لا يفكر أحد ولا مجرد التفكير في القيام بها ويعملون في
أخطر الأماكن وأكثرها صعوبة كما يقومون بحماية الشخصيات المهمة
والأماكن التي تجتمع فيها
كما أنهم وحدة دُربت تدريبا خاصا ليس جسديا فقط بل ولمواجهة أكثر
الضغوط النفسية شدة والتأقلم مع الضغط النفسي فأصبحت توكل لهم
المهام الأخطر في العالم وفي الخفاء فهم يعملون بلا عرفان لهم
بالجميل لذلك لا ينتسب لها أي شخص , فالذي سوى وقفته الآن
منتصبا على طوله قد استحق وبجدارة أن يكون أحد أهم أعضاء تلك
الوحدة التي حملت أسم ( أرمور ) أو ( الدرع(
وهو يفاجئ الجميع بقدرته على أداء المهام وتحكمه التام في توتره
وبرود أعصابه في أصعب وأشد مهامهم تلك .... ( تيم صقر ) هو
المعنى العربي للاسم الذي حمله وهو كان لطفل فقد خلال غرق سفينة
في قلب محيط المكسيك
واختفى لخمسة أعوام لم يجد أحد جثته ولم يكن من الناجين وبتلاعب
بسيط في اختبار الحمض النووي وتشابه قوي في ملامح الطفل المفقود
والفتى الذي ظهر ليأخذ شخصيته لم يصعب عليه أن يعيش على أنه
شخص آخر لا يحمل من تيم شاهر كنعان سوى أسم مشطوب وذكريات
من طفولة أغلبها كان مريرا ليصبح اليوم شخص آخر
تعتمد عليه مجموعة أخرى كلفت نفسها لحماية وطنها الأصلي ,
لحمايته خارجيا ممن يكيدون له فكان بذلك من أبرز رجالها لوصوله
لأن انضم لهذه القوات الخاصة التي تصل حتى لمنازل الرؤساء
ومجالس البرلمانات الحاكمة فلا يصعب عليه بذلك جلب
بعض وأهم المعلومات وتحركات بعض الشخصيات والدخول لأوكار
العدو تحت أسم مزور ودرع حامي يدعى بــ (القوات البريطانية
الخاصة(
نظر لساعته ما أن استوى واقفا وعلم حينها أن ساعة الصفر قد حانت
فخمس دقائق فقط هي المدة الكافية ليأخذ ذاك الدواء مفعوله , وما أن
أنزل يده حتى رفعها سريعا وهو يتلقى ذاك الجسد الرشيق القوام الذي
ترنح مكانه قبل أن يهوي للأرض فكان خصرها النحيل في أقل من جزء
من الثانية في قبضة ذراعه ورأسها يتكئ على العضلة البارزة في
صدره غائبة عن الوعي تماما , وما أن التفت الأقرب لهم من
الحضور الموجودين هناك ناحيتهما وبدأ البعض بالتحرك جهتهما
مذعورين حتى أخرج بيده الأخرى بطاقة من جيبه ورفعها أمامهم فجمد
الجميع مكانهم حين علموا عن هويته أو نوع العمل الذي يقوم به هنا
وهو حماية كل واحد منهم فهو من أحد الذين لا يمكن مجرد الشك في
أنه قد يؤذي أي شخص فيهم خاصة ابنة الجنرال ) غامسون ) القائد
الأعلى للقوات البحرية , رفعها بين ذراعيه بخفة وتحرك بها
من هناك قبل أن يصل الخبر لوالدها وحرسه الشخصي , وما أن وصل
باب القاعة الواسع حتى فتحه الخدم أمامه وخرج بها قائلا بأمر قاطع
" أين يمكنني وضعها ؟ "
انطلقت إحدى الخادمات قائلة بخوف من رؤيتها للوجه الشاحب لذاك
الجسد بين ذراعيه " غرفتها الخاصة بعد طابقين وثمة مصعد هنا "
قال قبل أن تتحرك " أريد مكانا أقرب وأكثر أمنا حتى نعلم سبب ما
حدث لها "
أنهى جملته تلك وعيناه تتجولان في المكان وكأنه لا يحفظ تفاصيله عن
ظهر قلب من قبل أن يدخله رغم أنها المرة الأولى التي يدخله فيها
فكان عليه دراسته جيدا قبل المضي في الأمر , ابتسم بانتصار حين
أشارت الخادمة بيدها قائلة " هناك مكتب والدها إنه في نهاية الرواق
الغربي وهو آمن تماما سأرافقك لفتح بابه لك "
وسارت أمامه فورا وهو يتبعها حتى أدخلته ذاك المكتب بواسطة بصمة
من أصبع ابنته النائمة بسكينة بين ذراعيه فدخل دون أن يبدي أي
اهتماما بأمر دخوله هناك ولا أن ينظر لأي من تفاصيل تلك الغرفة
يحسب أنفاسه بدقة فأي خطأ قد يودي بحياته أو يكون السبب في
اختفائه مدى الحياة حيث لن يتمكن أحد من إيجاده
وكان من يكون , وضعها برفق على الأريكة المواجهة لطاولة المكتب
تحديدا وقال وهو ينزع المنديل الحريري عن عنقها لكسب وقت مع
الواقفة خلفه " على سيادة الجنرال أن لا يعلم عن أمر سقوطها حتى
نتأكد من سلامتها ومَن السبب وراء ما حدث معها , الشوشرة حول
الأمر ستعيق عملنا , لقد أبلغت قائد الفرقة "
قالت من فورها " أبلغنا الحرس بالتكتم والموجودين في القاعة
سيحرصون على ذلك فهذا المتعارف في مثل هذه الاجتماعات "
هز رأسه بحسنا يتحسس النبض في رسغها يسرق بتلك الحركة نظره
لساعة معصمه يحسب ما بقي له من وقت حتى تفيق ثم وقف قائلا "
تبدوا حالتها جيدة , أريد عطرا قويا لنتأكد إن كان السبب الإغماء مجرد
إرهاق أو سوء في التغذية "
لم يلتفت للواقفة خلفه متمنيا أن لا يكون طلبه موجودا هنا وابتسم
بانتصار حين تحركت تلك من خلفه قائلة " سأحضر لك واحدا حالا "
وخرجت من فورها فتحرك فورا جهة قدميها فعليه التحرك بسرعة ,
نزع حدائها عنها حيث كانت قدماها في جهة طاولة المكتب وفي حركة
سريعة وخفيفة ثبت جهازالتصنت الصغير الدائري تحت قاعدة الطاولة
الخشبية المصقولة بواسطة علكة شفافة
كان يمضغها لأجل هذا الغرض تحديدا وأنزلها ليده ما أن انتقل لنزع
الحداء منها , وقف على طوله بعدما أنجز مهمته وتوجه لرأس النائمة
على الأريكة دون حراك وبوخزه بسيطة من دبوس في ساعته تجعدت
ملامحها بتألم وفتحت ببطء عينيها التي تلونت حدقتيها بزرقة
المحيط تنظر للوجه بالملامح الجامدة والنظرة الحادة الواثقة المحدقة
بها فرمشت بعينيها قليلا
وكأنها تريد رؤيته بوضوح وهو يقف على طوله وقد قال ببرود ناظرا
لها " جيد أنك أفقت أيتها الأميرة "
رطبت شفتيها الرقيقة بطرف لسانها قبل أن تقول مبتسمة " هل يحدث
هذا في الواقع حقا وثمة منقذين شبان ووسيمين !! "
تراجع خطوة للخلف ودس يده في جيب بنطلونه قائلا بذات بروده
" يبدوا أنك تقرئين الكثير من القصص الرومانسية السخيفة "
خرجت منها ضحكة صغيرة وهي تسوي جلستها وترتب خصلات
شعرها الأحمر قائلة " بل يبدوا أنه أنت الذي لا تعرف المزاح أبدا "
تصلب فكاه وكان سيتحدث لولا أوقفه الصوت الذي همس في أذنه
بتحذير
"تيم لا تبالغ في القسوة معها كن حذرا وأبعد طبعك النزق جانبا "
صر على أسنانه غيظا فلو كان الآن أمامه كان يعلم كيف يجيب على
ملاحظته السخيفة تلك , تنفس بقوة ومد يده لها قائلا " جربي أن تقفي
سموك يبدوا أنه دوار بسيط بسبب الإرهاق فقط "
أمسكت يده فورا ووقفت تنظر حولها للأرض تبحث عن حدائها قائلة
" لا أشعر سوى بالراحة لخروجي من ذاك المكان الخانق "
ثم انحنت ورفعت الحداء ممسكة أشرطته بأصابعها واستقامت في وقفتها
وقالت مبتسمة وناظرة لعينيه " شكرا يا ..... "
ومدت يدها متابعة بضحكة صغيرة " لم أعرف ما هو أسمك "
مد يده وصافحها قائلا ولا يزال يتمسك بجموده " تيم "
سحبت يدها وقالت تمررها على شعرها الحريري القصير ترسم
ابتسامة رقيقة على شفتيها المطلية بأحمر شفاه زهري خفيف " أسم
جميل وأنا أدعى لوسي فلا تنادني بسمو الأميرة مجددا وشكرا على
مساعدتي ونقلي إلى هنا "
رافق حديثها ذاك دخول الخادمة وفي يدها زجاجة عطر باريسي فاخر
وقد قالت مبتسمة بحبور " حمدا لله أراك بحال أفضل
سيدتي يمكنك
الانضمام للحفل مجددا الآن قبل أن يقلق سيادة الجنرال "
حركت عينيها بضجر قبل أن تستقرا على الواقف أمامها وقد مسحت
جسده بنظارتها ابتداءً بشعره الأسود الكثيف الناعم لبشرته التي
أعطتها الشمس لونا مميزا فعينيه السوداء بنظرتها الواثقة الحادة
لشفتيه الرقيقة الحازمة نزولا لجسده الذي لم تستطع تلك البذلة
السوداء الأنيقة إخفاء تفاصيله المتناسقة وعضلاته القوية البارزة
وصولا لساقيه الطويلتان , رفعت نظرها له مجددا حين همس
بثقة " أرى الوضع مطمئن ولا داعي للقلق أو عدم العودة هناك "
حركت الحداء بيدها قائلة باستياء " بلى لكني لا أريد العودة لذاك
المكان "
وتابعت مبتسمة له بمشاغبة " ما رأيك في نزهة في الخارج وعشاء
في مطعم أنت تختاره ؟ "
أنهت جملتها تلك على شهقة الخادمة المصدومة من قرارها ذاك
فرماها بنظرة باردة كالثلج ثم تحرك من هناك ووجهته باب الغرفة قائلا
" إن كان لا شيء لك تفعلينه سموك فأنا ثمة مهمة تنتظرني هنا ولا
يمكنني تركها "
وغادر الغرفة على الكلمات الساخطة التي وقعت في أذنه من تلك
السماعة المثبتة فيها " هل جننت يا معتوه ! كيف تتحدث معها بتلك
الطريقة "
أخرج خيط السماعة من بذلته حتى وصل الجهاز المثبت في منتصفه
وهمس بحدة مقربا له لشفتيه " أنجزت المهمة وأعتقد أنه ليس من
ضمنها أن أطيع فتاة مدللة تريد التسكع في شوارع لندن "
*
*
" عفوا "
عدلت سترتها بعد اصطدامها الخفيف بكتف المار من الباب قبلها وهي
تدخل ثم جالت ببصرها في المكان حتى وقع على الجالسة عند طاولة
خلف الزاوية يظهر لها جانب وجهها وملامحها المكتئبة التي تنبئ عن
مزاجها السيئ تحرك الملعقة في كوب القهوة أمامها دون توقف ,
هزت رأسها مبتسمة وتوجهت نحوها وما أن وصلت عندها حتى
جلست على الكرسي المقابل لها ووضعت حقيبتها على الطاولة وقالت
مبتسمة وهي تسحب الكرسي بجسدها لتقترب من الطاولة أكثر "
صباح المزاج السيئ , ما بها السيدة ماريه متجهمة هكذا ؟ "
وضعت ملعقتها في الصحن وقالت ببرود وهي ترفع الكوب
لشفتيها " لم نعد في الصباح آنسة زهور "
تمتمت تلك بالشكر للنادل الذي وضع لها كوب قهوة أمامها ثم رفعت
كمي سترتها قائلة " حسنا ما لديك اليوم يبدوا أن مشوارك لم
يكن موفقا "
أراحت ذقنها على يدها وهي تسندها بمرفقها على الطاولة وقالت
بضيق" استطعت أخيرا أن أصل لذاك الشاب المحامي لكني لم أحصل
منه على شيء فهو موكل من شخص موكل من آخر مجهول وكأنني
أدور في متاهة مغلقة "
شفطت الجالسة أمامها من كوبها شفطه صغيرة ثم أعادته مكانه تضيف
له مزيدا من السكر وقالت وهي تحرك الملعقة " ماريه عليك نسيان
أمر ذاك الشاب والالتفات لدراستك فالمحاضرات تضيع منك إن
لم يكن لديك علم بذلك "
تحول اللون العسلي في حدقتيها لومضات ذهبية غاضبة وهي تقول
" لن أذهب لأي مكان وليضيع العام بأكمله فلست أهتم "
قالت الجالسة أمامها بضيق " هل الإضراب عن الدراسة حل
في رأيك ؟ "
أجابت بضيق مماثل " بل وسأضرب عن الطعام أيضا بما أنه على
ما يبدوا يعلم عن كل ما يحدث معي وعليه أن يظهر ويتحمل معي
عقبات ما تحملته وحدي لأربعة عشر عاما "
قالت تلك بحنق " على من تضحكين يا مريه ؟ هل ستقنعينني الآن أن
السبب هو ما يقال وتحملك له ؟ قوليها لشخص آخر لا يعرفك "
تجاهلتها وأشاحت بوجهها جانبا فقالت زهور بجدية ونظرها على ملامحها
المستاءة " ماريه حل مشاكلك ليس في ظهوره بل في قضية خلع
وزواج من غيره فتنتهي بذلك كل مشاكلك وأولها كلام الناس عما حدث
في الماضي "
نظرت لها وقالت ساخرة بمرارة " ومن برأيك سيرغب بالزواج
ممن تقولين عنها ؟ هل ثمة عاقل يفعلها ! "
أجابت من فورها " بلى وتعرفيه جيدا "
وقفت وسحبت حقيبتها وغادرت من هناك ترفع الخصلات التي
تساقطت من شعرها بسبب حركتها العنيفة قائلة بضيق " الحق
على أتحدث معك في أمور أعلم أنها لا تعنيك شيئا "
قفزت تلك خلفها وسحبت حقيبتها على عجل ولحقت بها حتى كانت
بجانبها وقالت وهي تسير مجارية خطواتها " لا تغضبي مني ماريه
لدي حل لك وشخص قد يساعدك كثيرا فيما تبحثين عنه "
*
*
وقف على طوله وقال بضيق ناظرا للجالس أمامه " ما هذا الهراء
الذي تقوله يا مطر ؟ وكأني لم أفهم معنى ما ترمي إليه "
نصب ساق على الأخرى ناظرا له للأعلى وتابع بذات بروده " أنت
تفهم ما كنت أقول بالتأكيد , واجلس ودعنا ننهي حديثنا بعيدا عن
الغضب والتصلب "
جملته تلك وبروده القاطع لم يزيدا الواقف أمامه إلا اشتعالا وهو يصيح
بحدة شادا قبضتيه " لن تورطني مع شقيقتك المجنونة تلك يا مطر
ليس لك الأحقية في إملاء أوامر شخصية عليا مثلها "
وتحولت لهجته للسخرية وهو يتشدق هازئا " بعد أعوام من فشلك في
إقناعها بشكل حضاري كما كنت تقول وبعدما تجاوزت تلك المنحلة
سن طيشها وتمردها الدائم عليك ودخلت سن الثلاثين أصبحت تفكر
كمثيلاتها الانجليزيات وتريد الآن الارتباط والزواج لأنه السن
المناسب في نظرهن "
وانقلب مزاجه للغضب مجددا وهو يقول بحزم " لكني لست الطعم
أبدا يا مطر , لن أتزوجها وإن علقوا مشنقتي "
وسحب أنفاسه القوية الغاضبة ما أن أنهى جملته ولم يقابلها سوى
الهدوء في نبرة الجالس أمامه وهو يقول " اجلس نكمل حديثنا
يا شاهر ولك ما تريد "
جلس على مضض غير مقتنع ولا بالاستماع لذاك الحديث , رفع كوب
الماء ورشف منه جرعة كبيرة على صوت مطر الجاد قائلا " لم أقل
تتزوجها ولن يجبرك أحد على ذلك , هي خطبة مزيفة لمدة معينة أنا
وأنت فقط نعلم طبيعتها "
وضع الكوب بعنف مبالغ فيه وقال بتشديد " ابحث لك عن شخص
غيري يروض تلك المجنونة لأني سأقتلع عينيها ما أن أراها
أمامي , ولا تنسى كرهها لي و... "
قاطعة بحزم " قلت أنه عقاب وليس ترويضا وإن حدث ذلك أيضا
فسيكون أفضل وكلانا كاسبان "
مرر ذاك أصابعه في شعره الأسود الذي خالطه لون رمادي خفيف جدا
وهمس من بين أسنانه " تعاقبها على ماذا ولما أنا الجلاد تحديدا ؟ "
قال مطر مباشرة " لأنها تكرهك طبعا وعليها أن تتعلم درسا جيدا لفعلة
ما كنت لأغفرها لها لو تحدثت عنها لذلك أُفضل تركها في نفسي "
كان شاهر سيتحدث وملامحه المتصلبة القاسية تنبئ عن نوع ذاك
الحديث فسبقه مطر قائلا " اطلب المقابل الذي تريده ولا تنسى أن
المسألة مجرد تمثيلية صغيرة , خذها من باب التسلية إن أردت "
عاد للوقوف على قدميه وقال بضيق " منذ متى أطلب مقابلا لأي شيء
أفعله ؟ أنت تهينني بهذا يا مطر , جد مسوغا آخر لأفكارك التي تريد
تطبيقها عن طريقي , ثم لا تنسى تيم هو لم يغفر لي حتى اليوم كل ما
حدث في الماضي ويعاملني وكأني غريب عنه بل وأسوأ فتصور
النتيجة وهو يعلم عن هذه الخطبة اللعينة "
كان رد مطر لا مباليا وهو يقول " لن يغير الأمر شيئا إن لم تفعلها
هل تضن بأنه سيعترف بك والدا له إن لم تفعل ما طلبت منك ؟
وضعكما سيء في الحالتين يا شاهر "
شد قبضتيه بقوة وقال بتصلب " أنت تعلم مثلي عن الظروف وقتها
ورغم شرحي الأمر له وأن والدته كانت تعلم عن وجودي وأنها من
رفض أن أخرجهما من هناك كي لا اعرض حياتي للخطر لم تتغير
نظرته للأمر
وبقي على رأيه بأني سبب موتها وهي لم تبلغ الثلاثين عاما بعد وأني
سبب تردي حالتها الصحية "
وتابع بمرارة وحرقة " حتى أنه صرح بأن موتي كان أشرف لي من
تركها تموت وأنه تمنى أن خسرت أنا حياتي لأهبها لها وتبقى هي "
أبعد مطر نظره عنه وهو يتابع بضيق " ستكبر الفجوة بيننا يا مطر إن
حدث ما تخطط له وإن كان زائفا فأنت تعلم أكثر مني كم هو عنيد
وشديد المراس ومتصلب الرأي ولا أحد يفرض عليه شيئا ولا يتبع إلا
كلام عقله وكأنه دفن عواطفه مع والدته من أعوام فما الحكمة التي
تراها فيما تريد مني فعله ؟ حتى أنك ترفض التحدث معه في الأمور
الشائكة بيننا رغم يقينك من أنك وحدك من يحترمه ولا يرفض له طلبا
وإن كرهته نفسه "
وقف مطر مثله وصار مقابلا له لتقارب طولهما وقال بحزم " لا أحد
يستطيع لومه يا شاهر فوحده من يعرف مقدار تلك المعاناة التي
عاشها عليك أن تسلك طريقك وحدك وسط الأشواك التي غرستها
بينكما سابقا
لا تنتظر من أحد أن يشهر سيفه ويقطعها لتنبسط لك الطريق فلا
يتعلم المرء إلا من تجاربه "
تصلبا فكي الواقف أمامه وخرجت حروف كلماته كالفولاذ وهو يقول
ببرود " يقولون دائما اسمع نصيحة مجرب فأعطني نصيحتك بعد
اكتمال تجربتك يا ابن شاهين "
أكمل جملته تلك ولم يفته الخطوط القاسية التي ظهرت في وجه
الواقف أمامه وتصلب ملامحه وهو يفهم مغزى حديثه ذاك وقد تحول
حوارهما لأشبه بمعركة بين قائدين وهما ينظران لبعضهما كنمرين
يستعدان للقتال
كسر مطر ذاك الجو المشحون قائلا بجدية وملامحه لا تزداد إلا صلابة
" يوم أكون في موضعك الآن لن أطلب من أحد أن يصلح ما
قمت أنا بتدميره يوما بيداي "
حرك شاهر رأسه مبتسما بسخرية وقال " عواطف المرأة ليست
كالرجال يا مطر لن تعرف ذلك أكثر مني "
قال مطر مباشرة " ولن تعرف أنت من كانت زوجتي أكثر مني
مثلما لن تعرف تيم كما أعرفه أنا "
كان سيتحدث لولا قاطعه الواقف أمامه بحدة " لنرجع لموضوعنا
الأساسي ولا تخلط الأمور لتهرب "
زم ذاك شفتيه وتلقى تلك الكلمات بصبر فهو يعرف معنى إثارة
موضوع تلك المرأة أمام مطر وسبق وحذره عمه دجى من فعلها , رفع
أصبعه وقال بنبرة قاطعة " شرط أن تتحدث مع تيم في الأمر وتخبره عن هذه
اللعبة , أنا لست مثلك أبني آمالا على قدراتي وحدي لإصلاح شق
تحول مع الأعوام لصدع زلزال في أرض صلبة "
همس مطر وقد عاد للجوس " لك ذلك "
تنفس شاهر بقوة معلنا استسلامه وقال " ماذا بشأن سفر عمك وقاسم ؟ "
قال الجالس تحته دون أن ينظر له " لازلنا نتباحث الأمر وثمة عثرة
في سفر قاسم "
قال شاهر باستغراب " عثرة ماذا تلك وأوضاع البلاد هناك لا
تحتمل أي تأجيل ؟ "
همس مطر ونظره جانبا " الموضوع شخصي "
هز الواقف فوقه رأسه باستسلام متمتما " لو أعلم ما مخططك الجديد
هذا ؟ وأتمنى أن لا توقع ذاك الشاب في مطب مثلي "
ودون أن يكترث للنظرة التي رماه مطر بها وقد دمجت الضيق بالاستهجان
تحرك من هناك ووجهته الباب المغلق عليهما وما أن أمسك بمقبضه
وفتحه حتى وقف مكانه والتفت بوجهه للجالس خلفه وقد عاد التمرد
للسانه مجددا وشجع نفسه بأن لا بأس في أن يأخذ ثمنا كدفعة أولى
على رمي نفسه في براثن شقيقته المتوحشة تلك , قال ما أن حول مطر
نظره له منتظرا سبب توقفه المفاجئ " ليكن في علمك يا مطر أن
الحديث عن الأمر ليس أبدا كتجربته وما أن تصير في وضعي الآن
ستجد نفسك ترضى بأنصاف الحلول "
لم يعر اهتماما لتغير ملامح الجالس هناك وتابع وهو يشق طريقه عبر
الباب " سترى بعينك وتصدق حين تغفر لوالدها الذي تركها كل هذا
الوقت تضن أنه ميتا , صدقني ستغفر له دون قيود أو شروط "
شد الجالس على الكرسي أصابعه على مقبضيه وآخر جملة قالها
ذاك تصله وهو يغادر " بينما ستعجز أنت عن فعلها وحدك يا
ابن شاهين وسترى بنفسك "
*
*
نظرت للهاتف المحمول بين يديها بحزن يصلها صوت المجيب الآلي
وهويخبرها مجددا وللمرة ما يقارب العاشرة بأن الرقم مشغول ,
تحركت الواقفة خلف سريرها الجالسة عليه حيث كانت تقف عند الباب
الزجاجي لتلك الشرفة الواسعة , دارت حول السرير حتى أصبحت
أمامها وقالت ببرود " جيد يبدوا أننا تعادلنا "
رفعت نظراتها بها وارتفعت رموشها السوداء الطويلة كاشفة عن
ترقرق الدموع في تلك الأحداق الزرقاء الواسعة وقالت برجاء شبه
باكي " سأحاول مجددا بما أن الرقم ليس مغلقا فثمة أمل ولن أسمح
لك بالتراجع عن اتفاقنا يا غيسانة "
لوحت تلك بيدها أمام وجهها قائلة بسخط " اتفاق ماذا وأنتي أفسدت
كل شيء ؟ لولا طيبة قلبي ما أكملت ذاك الاتفاق الأخرق فلم يعد
من حقك أن .... "
قاطعتها الجالسة أمامها بعبرة مخنوقة " بلى كان اتفاقنا أن تجلبي رقما
يوصلني لوالدتي وأن أكلمها من هاتفك مقابل مساعدتي لصديقتك تلك "
تخصرت الواقفة فوقها وقالت بضيق " وأنتي لم تساعدي كارميلا بل
ورطتني معها وأفسدت كل شيء بخروجك الذي كان لا داع له فقد كاد
الرجل يقع في المصيدة ونرجع القرص منه وينتهي كل شيء لكنك
فررت كالدجاجة "
شدت أناملها المرتجفة على الهاتف بسبب ذكرى ما حدث ودمعتها
اليتيمة تلك تفارق رموشها متدحرجة على وجنتها المشمشية الرقيقة
وقالت بضيق
" كيف تريدين مني البقاء هناك ؟ أنتي لم تري نظرات ذاك الرجل كدت
أموت رعبا وأنا أراه يقترب مني , هل كنت تتوقعين أن أستقبله
بالأحضان مثلا ؟ "
صاحت بها بحنق " وما جنيت من خروجك يا غبية ؟ لقد فقد الرجل
قدمه وتحولت تلك الليلة لكابوس ما ضننت أننا سنفيق جميعا منه "
أسدلت رموشها للأسفل مجددا وهمست بحزن تكابد دمعة جديدة
ترفض الخنوع لسيطرتها " معك حق ما الذي جنيته سوى أني أوديت
بحياة شاب لا دخل له من أجل انقادي , كنت أستحق أن ألقى مصيري
هناك وأواجه خطئي وحدي "
تأففت الواقفة فوقها وتحركت بخطوات غير منتظمة ضجرة وكسولة
وهي تتمتم " كان عليا أن لا أتق بك وأنسى بأنك مجرد عربية جبانة
وطفلة تفتقر لحسن التصرف "
رفعت نظرها بها مستاءة فوقفت مقابلة لها مجددا وقالت مشيرة
بسبابتها تغلق أمامها أي باب للرد على هجومها " جربي هيا ولآخر
مرة بعدها سآخذ هاتفي منك وأعتقد أننا تصافينا وتساوينا "
رفعت الهاتف لأذنها وهمست ناظرة لعيني الواقفة فوقها " سأجرب
لآخر مرة ولعلمك فقط فأنتي الجبانة وليس أنا لكنت ذهبت بنفسك
ولم ترسليني "
ثم أبعدت نظرها عنها فورا متجاهلة النظرة النارية التي رمتها بها
وشعرت بها تجلس بجوارها وقلبها يدعوا بأن ينجح الأمر الآن ولا
تفقد فرصتها الوحيدة لسماع ولو صوت المرأة التي تاقت لرؤيتها
ولو لمرة في حياتها وللمسة حانية حنونة منها
*
*
وضعت السماعة ويدها لازالت عليها وأمسكت جبينها بيدها الأخرى
رأسها للأسفل مغمضة عينيها بقوة لا تصدق ما سمعته منه وأنه قاله
لها هكذا وبكل بساطة , شعرت بصداعها يزداد حدة وهي تتذكر تلك
الجملة تحديدا من بين كلماته ( أنتي لم تعودي ملزمة بشروط ابن شاهين تلك التي تركها خلفه
وقيدك بها كسلعة رخيصة لبقاء والدي في مركزه رئيسا للبلاد ولتوحيد
أقطارها , لقد تحررت منه بموت والدي ولم تعودي حكرا للعيش
على شروطه وذكراه )
زادت من شد أصابعها على صدغيها أكثر وصوته لازال يرن في أذنيها
كالطرق على الحديد ( جبران يحتاجنا جميعا يا غسق بل يحتاجك أنتي
أنتي من يمكنه ردعه عن ذاك التفكير المجنون , هل تعي معنى أن
يقود حركة تمرد أو حتى أن يكون جزءا فيها ؟ )
أيقضها من أفكارها تلك وحرر صدغيها اللذان كادا يتحطمان من ضغط
أصابعها رنين الهاتف مجددا فرفعت رأسها ونظرت له بعينان مجهدة
لتجمد نظراتها على شاشة كاشف الأرقام فيه فما بال الأرقام الخارجية
تنهال عليها اليوم ولما لا يكون مكان رنينها كالعادة على مكتبها الخاص
هناك أو هاتفها المحمول !! استغربت من الشخص الذي قد يعلم برقم
منزلها ويستخدمه إن كان رماح أغلق منها للتو ؟ مدت يدها بتوجس
لسماعته تشعر أنها ستكون أثقل من الفولاذ فلم يعد قلبها يتحمل أكثر
ثقل هذا اليوم عليها .. كوابيسها البارحة .. لقاء رعد ثم مكالمة رماح
وكم تخشى الآن من هذا الجهاز وما يحمل وراء رنينه الملح , رفعت
السماعة ببطء ووضعتها على أذنها وقررت الصمت وأن لا تُعرف
عن نفسها حتى يتحدث من في الطرف الآخر لكن كل ما وصلها
كان صوت أنفاس مضطربة فقط , شدت أناملها على السماعة
وخرج صوتها منخفضا فوق رقته " غسق شراع تتحدث .. من
المتكلم ؟ "
تناهى لها صوت هامس من تلك الثقوب الملتصقة بأذنها , كان همسا
بعيدا وكأنه دعاء خافت أنثوي رقيق , غضنت جبينها الصغير مقربة
حاجبيها الرقيقان وشعرت بنغزة ما في قلبها لم تفهم سببها , خانتها
يدها المرتجفة وكانت ستعيد السماعة مكانها لولا تصلبت أصابعها وشعرت
بتلك القبضة تطبق على قلبها بقوة , ذات تلك اليد الحديدية التي
اعتصرت قلبها من أعوام طويلة وذات ذاك الصوت الذي لم تنساه يوما
وحفر في ذاكرتها لأعوام , صوت امرأة سكن أحلامها لسنوات خلت
وحاربت ذكراه بشراسة حتى ضنت أنها نسيته لكنها ميزته الآن
وبسهولة ميزت رقته الممزوجة بخشونة أنثوية .. ذاته لم يتغير من
أعوام وهو يصلها الآن ساخطا " آه يا رجل أنت لا تعرف طرق
الأبواب أبدا "
شعرت بالهواء يفرغ من رئتيها حد الاختناق وصوت آخر بعيد
بنبرة رجولية مبحوحة ساخرة متسلية يصل لها " هل عليا حقا
طرق باب غرفة من غرف منزلي يا غيسانة "
لم تشعر بنفسها إلا وهي تضرب سماعة الهاتف به بقوة مرة واثنتين
وثلاثة , كانت تضربها بكل قوتها صارخة لا تعلم ضرباتها ما تصيب
منه وما خلفت وقطع منه تتناثر هنا وهناك , كانت تضربه وتصرخ
بعبارات هي نفسها لا تفهمها ولا تعلم ما تكون غير أنها نار مشتعلة
دفنت داخلها لأعوام وأعوام , بركان سدت فوهته بحرفية لوقت طويل
وخرج عن سيطرتها الآن حد أنها لم تعد تعي ما تفعل وما تقول
وفقدت صلابتها تلك التي تمسكت بها كدرع قوي حولها وعادت لها كل
تلك الذكريات التي دفعت عمرها ثمنا لدفنها , عاد لها كل ما حدث تلك
الليلة يضربها كموج غاضب من الألم والحرمان , فإن أخطأت
الصوت الأول فلن تخطئ الآخر , إن لم تعرف صوت تلك
المرأة فهي تعرف صوت ذاك الرجل كما تعرف نفسها
*
*
تحولت نظراته منها للجالسة بجوارها والتقطت عيناه فورا توترها لتسقطا
على الهاتف في حجرها مما زاد اضطرابها وهي من فقدت كل قدرة لها
على التماسك والتفكير بل حتى إنهاء المكالمة ما أن انفتح الباب ورأته
أمامها , تحرك نحوها عاقدا حاجبيه وهمس وقد نقل نظره بينها
وبين الهاتف المرتجف في يديها " ما الأمر يا تيما ؟ "
كادت دموعها أن تنفجر من عينيها وتعترف بكل شيء لولا أسعفتها
الجالسة بجوارها حين اختطفت الهاتف من يديها بخفة قبل أن يصله
قائلة بسخرية " ابنتك لم ترث الشجاعة منك على ما يبدوا , لقد جفت
عروقها من مقطع صغير لرجل يقتل على أيدي مجموعة إرهابية "
وسارعت لفتح قائمة الأفلام المحملة بعد أن مسحت تلك المكالمة بخفة
خبير وقلب قوي قبل أن تختطف أصابعه الهاتف منها , نظرت له فوقها
بضيق وتمتمت ونظرها على عينيه المركزة على حركة أصبعه على
شاشة هاتفها " لا تخف لم أكن أريها مقاطع مخلة ولن أكون
سببا في انحرافها "
ثم وكزت الجالسة ملاصقة لها بمرفقها تحذرها من خوفها المبالغ فيه
وكان رد تلك عليها وكزة مماثلة فهمست بضيق من بين أسنانها " هل
كان عليك تلاوة كل تلك الصلوات الغبية لتحدثيها ؟ لقد أضعت
الوقت والفرصة يا جبانة "
رمى لها بالهاتف بعدما فتش قائمة المكالمات الواردة والصادرة فحيلتها
تلك رغم ذكائها لم تنطلي عليه وهو من يعرف ابنته جيدا ويعرف
شقيقته تلك أكثر منها لكن لا بأس سيعلمها درسا لن تنساه حياتها
ويجعلها تسيرعلى الطريق القويم , دس يديه في جيبي بنطاله وقال
ببرود ونظره
على اللوحة الزيتية المعلقة على الجدار البعيد " ثمة من خطبك
مني وأنا وافقت "
نظرتا لبعضهما باستغراب ثم له وخرجت غيسانة من صمتها أولا قائلة
باستنكار " لازالت صغيرة على الزواج يا مطر ! هل جننت ؟؟ "
انتقلت نظرته الصقرية لعينيها فورا فارتدت للخلف قليلا من تأثير ذاك
الغضب الغريب المبهم عنها فيهما وقال بجمود " أنتي وليس هي "
وقفت بشهقة قوية ونظرت له مصدومة فقال قبل أن تتحدث
" وموعد الزواج طبعا هو من اختار تحديده ولو كان الأمر
بيدي لكان نهاية الأسبوع "
صرخت فيه باستنكار " ما هذا الهراء ؟ "
ازداد اللون الأسود في عينيه قتامه وقال بحزم " تحدثي معي
باحترام يا غيسانة "
رفعت يديها جانبا وقالت بحدة لم تستطع التغلب عليها " اجعلني أفهمها
بروية إذا , في أي عالم نعيش نحن يخطبني المجهول منك ! "
عاد لبروده قائلا " في عالم أنك شقيقتي وأننا مسلمون وعرب , لا
تتخيلي أنك ستتزوجين بالطريقة التي يتزوج بها الإنجليز لن أعلم
عن ذاك الزوج إلا يوم زفافكما فأبارك ذلك بكل ترحاب "
أشارت لنفسها وقالت بحنق " باختياري ورضا مني على الأقل
أراه أتعرف عليه "
كتف يديه لصدره وقال " سبق ورأيته وتعرفيه منذ زمن بعيد وفترة
الخطوبة ستكون كفيلة بأن تتعرفي عليه كما تشائين "
نقلت نظراتها بضياع بينه وبين الجالسة على السرير قبل أن يستقر
نظرها على ابنته المحدقة بها بذهول يشبه ذهولها ثم قالت بحنق
" قولي شيئا .. لما جالسة كالبلهاء ؟ اليوم دوري غدا الدور عليك "
زمت تيما شفتيها بحنق قبل أن تفرج عنهما قائلة " لن أعارض
والدي فهو يعلم ما يصلح لي "
نظرت لها بصدمة وتمتمت بضيق " تبقين طوال حياتك دابة
يسوقها الرجال "
أنهت عبارتها تلك ونظرت للواقف أمامهما ما يزال محتفظا بجموده
وصلابته وقالت بنظرة تحدي " وافقت أنت على الخطبة حسنا أحترم
قرارك لكن أمر الزواج لي الحرية فيه "
قال مباشرة " بل وافقت زواجك به إلا إن غير هو رأيه طبعا "
لوحت بقبضتها في الهواء صائحة بحنق " لا هذا فوق احتمالي , هل
لأجل هذا رفضت أن آخذ الجنسية البريطانية وأبقيتني تحت عهدتك
كالجارية لتتحكم بمصيري وقراراتي ؟ "
قال من دون أدنى اهتمام بغضبها واعتراضها " أعتقد أنك لم تعودي
صغيرة واحترمت قراراتك بهذا الشأن لوقت طويل ولن أجد لك
زوجا أفضل منه خاصة أمام المستقبل "
شدت قبضتيها بقوة تحاول إخماد النار المشتعلة في داخلها وقالت بتنفس
لاهث " لا تنسى أنك من رفض أكثر من شخص سابقا "
قال ببرود " ليسوا عربا وتعرفين رأيي جيدا في ذلك , عليك أن
تنسي نصف دمك الانجليزي ذاك لأنك عربية يا غيسانة "
حاولت قدر جهدها أن تتماسك فهي تعلم جيدا غضبه إن أخطأت بأي
كلمة تهينه بها وفكرت أنه ثمة فرصة بما أن ذاك الخطيب المجهول
في يده إلغاء كل تلك المهزلة فلا أسهل من أن تجعله يفر منها هاربا
همست من بين أسنانها " ومن يكون هذا الذي لن تجد لي
زوجا أفضل منه ؟ "
قال من فوره " شاهر كنعان "
توقع أن يرى أول بوادر غضبها القاتم , أن تفعل أي شيء وإن إحراق
نفسها إلا ردة فعلها تلك حين وقعت على السرير خلفها ضاحكة , بل
ودخلت في نوبة هستيرية من الضحك فنقل نظره منها لابنته الجالسة
بجوارها تنظر لها بصدمة ثم عاد بنظره لها وقد قالت من بين ضحكها
" قل دعابة غيرها يا مطر , ذاك الرجل يكره أن يراني وإن من بعيد
وعيناه كادت تحرقني بنظراتها الكارهة في المرات القليلة التي
رأيته فيها "
فك ذراعيه من على صدره وقال " بل خطبك ووافقت ومسئوليتك
ستنتقل له من الآن "
وثبت واقفة خارج السرير ورمت شعرها المربوط للخلف وقالت بحنق
" لست موافقة , ذاك آخر رجل قد أفكر فيه بوابا لمنزلي وليس
زوجا بل وحتى خطيبا "
قابلت كلماتها الثائرة تلك كلماته الباردة قائلا " بل خطيبك رغما
عنك وستتزوجينه لأني وليك "
اجتازته في لمح البصر وصرخت وهي تعبر باب الغرفة خارجة منه
" لن يحضا بها ذاك الهمجي البربري ويطوق عنقي بيديه , لست
موافقة واعتبره تمردا أو رفضا أو ما يكون "
وغادرت الممر تتبعها كلماتها الغاضبة حتى اختفت فعاد بنظره من
الباب الذي خرجت منه للجالسة على السرير مكانها أمامه فهربت
بنظرها منه فورا ونظرت ليديها في حجرها ووصلها صوته الحازم
" أراك تحتكين بها كثيرا هذه الفترة , لا أريدك نسخة عنها يا تيما "
هزت رأسها بلا فورا ولازالت تنكسه للأسفل وهمست " لن أخالف
أوامرك يوما , وإن زوجتني أنا به سأوافق "
تنهد بصمت تنهيدة فهمت الجالسة أمامه فورا أنها ليست تنهيدة راحة أبدا
ونظره على شعرها الأسود بتموجاته الناعمة السميكة متساقطا على كتفيها
وذراعيها , دار موليا ظهره لها ووجهته الباب حتى خرج منه وأغلقه خلفه
بهدوء تاركا إياها وحيدة فاندست في سريرها فورا تحت الأغطية السميكة
مغمضة عينيها بقوة لا تفكر في شيء سوى في ذاك الصوت الأنثوي الرقيق
الذي لازال محفورا في رأسها وهي تسمع اسم والدتها منها تحديدا فستكتفي
وإن بذكرى صوتها لباقي العمر حتى إن لم تستطع الحديث معها وإخبارها
من تكون , دفنت رأسها تحت الوسادة متمتمة ببكاء خافت حزين
" أحبك أمي .... كم أحبك وأشتاق لك "
*
*
شد بأصابعه الطويلة على الكف الناعم بينها وهي تمسك بأصابعها
منديل ورقي تقبض عليه في كفها بقوة لإيقاف الدم النازف منه ويدها
الأخرى تسند بها جبينها ورأسها المنحني للأسفل وأصابعها تخللت
خصلات غرتها المقصوصة الناعمة بعدما تحررت من حجابها المنسدل
على كتفيها , نظرلها الجالس بجوارها كفها في حضن يديه وقد أصبح
طوله يفوق طولها بقليل لنموه السريع مؤخرا وهو يدخل سنوات
مراهقته الأولى , زم شفتيه التي حفها
شارب خفيف ينظر بأسى لملامحها وعيناها المغمضة ويعجز لسانه عن
قول أي شيء وكم يحتاج الآن تحديدا لوجود عمته جويرية , لا يفهم
سبب ثورة والدته المفاجئة وهي من تتسم بالهدوء والرقة وكأنهما
جزء من جسدها قبل شخصيتها
بل ويحار أكثر في جمودها المطلق جفناها يشتعلان احمرارا يعي جيدا
سببه
وهو رفضها التام لأن تذرف أي دمعة لسبب لازال يجهله , تنهد بحزن
ورفع يده من فوق كفها النائم في كفه الآخر ومسح به على شعرها
الحريري هامسا بأسى " أمي هل أصبحت بخير ؟ هل أتصل بالطبيب ؟ "
رأى بوضوح طرف لسانها يرطب شفتيها قبل أن تتمتم ساخطة " عليك
أن تتوقف عن مشاهدة تلك المسلسلات السخيفة , طبيب ماذا هذا
الذي ستحضره لي ؟ "
اتكأ بجبينه على رأسها يحضنه بيده وقال بحزن " لا أريد أن أخسرك
أنتي أيضا أمي , حالك لا تعجبني منذ ..... "
وتكسر صوته وهو يهمسها بصعوبة " ... منذ وفاة جدي شراع "
رفعت رأسها قليلا وما يزال ملتصقا برأسه وضمت كتفيه بذراعها
تحضنه بلطف ونظرها هائم في الفراغ أمامها تشعر بقلبها ينزف كطير
جريح وهو يتابع بعبرة حزن " فقدت والداي قبل أن أعرفهما , فقدت
جدي وعمي رماح بغدر وبدأت أفقدك أيضا وأنا أراك تبتعدين عنا يوما
بعد يوم , أخبرني عمي رعد سابقا أنك لست أبدا غسق التي كانت قبل
زواجها من ابن شاهين لكني أراك الآن أخرى غيرهما كلاهما "
ابتعدت عنه تمسح بظهر كفها خفناها وهمست ترفع حجابها فوق
رأسها
" أنت مدلل كثيرا , هل سبق وأخبرتك أني السبب في ذلك ؟ "
مد شفتيه بعبوس ينظر لها وهي تعيد لف حجابها وتمسح كف يدها
بالمنديل الملطخ ببقع من الدماء وعلم أنه أفسد كل شيء بالتطرق
للحديث عن ذالك الرجل ولن يفيد الاعتذار منها الآن , راقبها وهي
تقف وقد سحبت حقيبتها
فوثب واقفا وتبعها ما أن تحركت قائلا " لماذا الذهاب للجمعية اليوم ؟
أرى مزاجك سيء منذ الصباح "
قالت وهي تعبر الرواق الخلفي لبهو المنزل وهو خلفها " أخبر رئيس
الحرس في الخارج أن يقوم بإلغاء خط المنزل وأن يرسل أحدهم ليتفق
معهم لمد خط آخر غيره "
رفع حاجبيه مستغربا ولازال يتبعها ولأن الوقت لم يكن يسعفه ليسأل
عن أي شيء وثب أمامها قبل أن تدخل من الباب وقال برجاء " أمي لا
تغضبي مني قسما لن أذكر اسم ذاك الرجل مجددا "
تنهدت قائلة بضجر " كاسر لا تكن طفلا فذاك الرجل لم يعد
يعنيني لا هو ولا ذكره "
نزلت كتفاه وخنع هامسا " حسنا آسف على ألا شيء "
وشقت ابتسامته الواسعة شفتيه ما أن رأى شبح تلك الابتسامة على
ملامحها الحزينة ثم قفز في مكانه عدة قفزات صارخا وقبضتاه للأعلى
وقال بضحكة " الله أكبر , أين أنت يا عمي رعد لترى فقد كسبت الرهان "
أمسكت طرف كتف قميصه بأصابعها وقالت تسحبه جانبا
" لا أحد يفسدك مثل عمك ذاك "
تنحى جانبا ولحقتها كلماته الباردة وهي تفتح الباب " ظننت أنك
من أفسدني وليس عمي رعد "
همست وهي تدخل " بل أفسدناك كلانا "
وعبرت خطواتها ذاك الممر الأبيض الطويل وكلماته تصلها مادا رأسه
من عند الباب الذي تركته خلفها " أنا رجل ولست مدللا وستري ما
سأكون مستقبلا , وأحبك أمي مهما قلت عني ولا يمكنني
العيش من دونك "
وسمعت صوت الباب يقفل خلفها فوقفت عند آخر ذاك الرواق الذي
سيوصلها مباشرة لمكتبها ثم سندت يدها على الجدار وأراحت جبينها
عليه , لا تريد أن تنهار وأن تتراجع للخلف , تريد أن تبقى غسق التي
أصبحت عليها منذ أربعة عشرة عاما قوية واثقة من نفسها والأهم
رمت الماضي خلفها بما فيه , أغمضت عينيها بقوة تريد طرد ذاك
الصوت من أذنيها , تريد نفيه كما نفته طيلة تلك الأعوام .... لن يفهم
أحد لن يفهم أي منهم السبب الحقيقي خلف ما سموه بغسق الجديدة
فليس ما كسرها وقتل قلبها تركه لها ولا طلاقها منه ولا أخذه لابنتها
معه ولا حتى تكبيله لها وربطها دون زواج فهي في كل الأحوال ما
كانت تريد ذلك وعافته بل ما كسرها هو الخذلان وجرح القلب الذي
أحب بكل ما فيه , رفعت رأسها واستقامت في وقفتها وتحركت من
هناك رافضة الغوص أكثر في تلك الأفكار التي ترى أنها تخطتها منذ
زمن بعيد ولن تسمح لأي شيء وأيا كان بإرجاعها متقهقرة للوراء
ولا ابن شاهين نفسه ولا ألف اعتذار تشك أنها ستسمعه منه فلن
يؤذيها أكثر من الأذى الذي لقيت منه ولن يأخذ منها
أكثر من أخذه لفلذة كبدها وحرمانها منها , وصلت لباب آخر في نهاية
ذاك الرواق لم يكن سوى باب مصعد مزدوج , رفعت يدها وضغطت
على تلك الأزرار بجانبه بخفة ومهارة مدخلة الرمز الخاص به لينفتح
ودخلته تاركة خلفها ذاك البساط الأحمر السميك والممر الطويل الذي
يفصل منزلها عن مبنى الجمعية التي اختارت أن يكون ملاصقا له
فكانت واجهته واجهة منزل بطابقين ضخمين فخمين أما سطحه
فامتداد من مبنى حلزوني الشكل يعلوه , من يقف أمام ذاك المنزل يرى
أمامه مبنى أبيض اللون قمته ترتفع وكأنها قبة تغطيه عن مشرق
الشمس خلفه وهي ليست سوى امتداد لطوابق مبنى جمعية الغسق
التي تكون واجهتها خلفه والتي يعرفها كل من يعيش على أرض تلك
البلاد بل وحتى خارجها فمن سيجهل ما الذي صارت عليه مدينة
العمران سابقا
حتى إن تغير اسمها مع مرور الأعوام ليصبح ( مملكة الغسق ) أو كما
يناديها البعض ( المملكة البيضاء ) نسبة لألوان مبانيها الموحدة ,
ومنهم من أطلق عليها إعلاميا ( مملكة النساء ) لما احتوته تلك
المدينة من مرافق حضنت نساء في حاجه للمساعده أو ما يسمونهن
بالنساء المنكوبات وأصبحت تلك المملكة خلية نحل تحوي جميع
الفئات العمرية وأصبحت ملجأ لأغلب من يعانن في تلك البلاد على مر
أعوام حتى حضت بمكانة لم يتخيلها أحد في البلاد , كانت ثوان فقط
تلك التي احتاجتها لتصعد لوجهتها وسحبت الباب
من مقبضه جانبا ودخلت لعالم آخر مختلف تماما عن ذاك الذي تركته
خلفها ... مكتب فخم عاجي اللون وواجهة زجاجية واسعة تطل على
أجمل مناظر تلك المدينة وثلاثة أبواب بيضاء مصقولة ومفعمة بنقوش
ذهبية واضحة تتماشى مع ألوان الستائر المتداخلة بانسجام ... إحداها
باب لقاعة اجتماعات واسعة تحمل ذات الطابع الأبيض المذهب والآخر
لجناح صغير متصل بذاك المكتب الواسع أما الثالث فموصول بغرفة
سكرتيرتها المباشرة التي تعد الرابط بين مكتبها وباقي أروقة ومكاتب
وطوابق ذاك المبنى , سحبت الباب خلفها ليرجع ذاك المنظر الطبيعي
مكانه وليعود جزءا من جدار ذاك المكتب , وقعت نظراتها فور على
صورة والدها شراع التي توسطت الجدار المقابل لها بشعره الرمادي
وابتسامته الحنون ونظرته الواثقة فعادت أحشائها للتمزق وليست تعلم
كم ستحتاج من الوقت لتعتاد النظر لها كل حين وهي موقنة من أنها
لن ترى صاحبها مجددا دون أن ينتابها هذا الشعور !! ربما تحتاج
لأعوام أو لدهور لكنها لن تستطيع انتزاعها من مكانها مهما عانت لأن
ذلك لن يخفف عنها شيئا فمكانه في قلبها قبل جدار مكتبها الأصم
وصورة ميتة لا حياة فيها كقلبها الذي تركه بعده وكأيامها التي
أصبحت تراها ملونة
بسواد قاتم منذ فقدته فكم خافت هذه اللحظات وكم تمنت أن لا تراها
لكن الموت لا يمسكه أحد , تنفست بعمق وأبعدت نظرها عنها للباب
الذي فتح يمينا وللسيدة متوسطة العمر التي دخلت منه مبتسمة وقالت
وهي تغلقه خلفها " أخبرتني راوية أنك تريدين رؤيتي سيدتي , كل
شيء جاهز والاجتماع كما طلبت بعد ساعتين "
تحركت من مكانها وقالت وهي تضع حقيبتها فوق مكتبها " جيد علينا
مناقشة أمر ما قبل أن أجتمع بهم "
وتابعت وهي تخرج بعض الأوراق منها " هل جهزتم القاعة
في الأسفل من أجل لقاء الليلة "
جلست تلك قائلة " كل شيء جاهز سيدتي كوني مطمئنة "
*
*
رفع طرف كم سترته الفاخرة ومرر أصابعه الطويلة على الساعة في
معصمه ثم رفع نظره لباب القاعة الضخم المفتوح يقابله من بعيد
السلالم العريضه المؤديه للطابق الثاني من منزلهم , تأفف بحنق ودس
يده في جيب بنطلونه الكحلي ولم يعد يستمع لا للواقفين أمامه ولا
حوله , أصر عليها أن تنزل وتكون ضمن الحاضرين في الحفل وبأنها
مناسبة مهمة بالنسبة له تحديدا
ولمظهره أمام المدعوين , لا يعلم ما الحل معها فقد جرب جميع الطرق
ولم تنجح وفي كل مرة تتهرب من حفلاتهم إن أقيمت هنا أو كانوا
مدعوين لها
فإما أن تعتصم في غرفتها بعذر مضحك أو بدون عذر أو أن تحضر مرتدية
تلك الفساتين السوداء التي تضن أنها تساعدها على اكتساب مظهر
بوزن أقل وتجلس جامدة عند أحد الأرائك كتمثال حجري تحاول إخفاء
ما تظن أنها تخفيه من جسدها ذاك , تنهد بضيق محركا رأسه بعجز
فهو لا يكره جسدها بقدر كرهه لعدم ثقتها بنفسها بسبب التفكير فيه ,
رفع كأس العصيرلشفتيه ورشف منه جرعة كبيرة ووقع الحديث الدائر
خلفه في أذنه وكان أحد النواب المرشحين في البرلمان يتحدث مع جده
وقد ابتعد حديثهما عن السياسة التي تعمقا فيها لوقت وسألته زوجة
ذاك بنبرة لطيفة مبتسمة
" أين زوجات أحفادك ؟ علمت أن حفيدك الثاني تزوج أيضا فلست
أرى لها أثرا ولا زوجة وقاص ! "
وجاء جواب جده الجاهز سلفا وصوته الذي لم يخلو من الجمود"
زوجة وقاص تعاني بعض الرشح والطبيب طلب منها الراحة التامة أما
حفيدتي زوجة نجيب فتعاني من بعض الظروف الخاصة ويصعب
تواجدها معنا "
علق زوجها فورا " سمعنا أنها خرساء ألهذا السبب تتمنع عن حضور
التجمعات ؟ لا أرى ذاك سببا أبدا "
غير ضرار الموضوع مباشرة قائلا " أرى أن سير العملية الانتخابية
القادمة مخطط له خارجيا "
وجذبهما فورا لمستنقع السياسة الذي ألهاهم عن حديثهم السابق ,
شد أنامله على عنق الكأس الكريستالي بقوة ولا يعلم لما شعر فجأة
بتلك الأنفاس وملمس
ذاك الجسد النحيل الغض في حضنه وكأنها فيه الآن , شعوره بالندم
أصبح يتعاظم شيئا فشيئا فما كان عليه السعي وراء إيجادها وإقناع
جده بأن يضمها
لعائلته وأن يعترف بها حفيدة له أمام الجميع , لم يتخيل أن تصل
الأمور لما وصلت له الآن , سعى جهده لإقناع مطر شاهين من كان
يرفض وبشكل قاطع أن يخبر أي معلومات عنها وبعد ثلاثة أعوام من
المحاولات اليائسة
فاجأه بقراره في أنه سيساعده في إيجادها ! قرار كان مفاجئاً له ولن
يصدق أنه وليد المصادفة فهو يعرف ذاك الرجل جيدا ويعرف صلابة
رأيه لا يتراجع عنه مهما حدث إلا إن كان ثمة من أقنعه غيره ! ونهاية
الأمرأوصله لخيوط توصل لها فقط وأنكر أن يكون مسئولا عنها أو
أنها تحت حمايته وقد لاحظ أنه لم يسأله عنها منذ دخلت قصرهم وذاك
ما أكد له أن لا مسئولية له عنها لَما كان رضي تزويجها وهي بهذه
الظروف , لو علم أن هذا سيحدث وأن نجيب سيستغل الأمر ما فكر في
البحث عنها من أساسه فكل ما كان يريده أن ترجع الفتاة لعائلتها
الحقيقية وأن يُعنى بها عناية من هم في مثل وضعها وتتلقى الرعاية
التي تستحقها كحفيدة لضرار سلطان
وأن يكفر جده عما فعله في حق والدها ووالدته ومن يكونا زوجته
وابنه
لكن ما رآه العكس وهو يرفض أن يوقف ذاك الزواج ألا منطقي
وإصراره على تنفيذ ما خطط له نجيب , ولأول مرة يرى جده لا يكترث
ولا لغضبه منه وسفره كل تلك المدة ! لا يفهم أسبابه ودوافعه ولا
يصدق أن الأسباب التي قدمها نجيب تقنع رجلا مثله حتى إن كانت
صحيحة !!
اعتذر بانحناءة بسيطة من الواقفين حوله وتوجه حيث باب الشرفة الواسعة
وخرج منه ليستقبله نسيم الليل البارد مداعبا وجهه وشعره الأسود الناعم
القصير المصفف بعناية يتحرك متناغما مع حركة طرف سترته الفاخرة
المرتفع قليلا بسبب يده التي لازالت حبيسة جيب بنطاله , نزل عتبات
الشرفة المقوسة وأخذته خطواته البطيئة حيث أشجار الحديقة المنسقة بعناية
وارتشف باقي كأسه معطيا ظهره لكل ذاك الضجيج والموسيقى والضحكات
التي تركها خلفه , لا يعلم لما لا يشعر بلذة ما وصل له وسبب احتفالهم
هذه الليلة !! لماذا يشعر أن ثمة هوة في حياته لم يسدها شيء !
أصبح رجلا ...
نجح في حياته ... قاد أعمال العائلة بجانب والده وجده وأثبت جدارته ...
أصبح محاميا لامعا ووصل لمكتب المدعي العام .. تزوج وأسس حياة
مستقلة ولم يعد ما ينقصه هو الاكتفاء الجسدي كرجل كما يعتقد الكثير
من العزاب ولازال يشعر بذاك الفراغ في عالمه وكأنه يبحث عن شيء
لم يجده حتى الآن ! وكأن ذاك الشيء ليس مكملا من مكملات الحياة
بل أساسا من أسسها المهمة , ارتشف آخر ما في كأسه ودار للخلف
بحركة واحدة سريعة
حين شعر باليد التي لامست مرفقه وابتسم بفتور للوجه الذي قابله ,
ذاك الوجه البيضاوي والبشرة النقية شديدة البياض يحيطها شعر أشقر
لامع وكأنها أشعة شمس ذهبية تسربت وسط الظلام والأضواء الخافتة
وعينان خضراء واسعة بلون العشب الندي الذي برق في ضوء النهار
, ترسم ابتسامة رقيقة أنثوية على ذاك الثغر الصغير , أبعدت يدها عن
مرفقه تبعد بأناملها خصلات شعرها قائلة برقة " ما الذي يخرج وكيل
النيابة الجديد وسبب كل ذاك الاحتفال للخارج تاركا ضيوفه ليكون في
هذا المكان البارد ! "
وضع الكأس من يده على طرف الطاولة الحجرية بجانبه ودس يده
الأخرى أيضا في جيب بنطلونه قائلا باختصار " أردت هواء نقيا , ما
هي أخبارك أنتي إيلينا ؟ لم أحضا بفرصة التحدث معك اليوم "
خرجت منها ضحكة صغيرة ورفعت خصلات غرتها الخفيفة للأعلى
كاشفة عن جبينها الصغير قائلة " كيف سنتحدث وأنت سيد المكان وكل
من في تلك القاعة ثمة موضوع لديه يحدثك فيه فلم أراك واقفا لوحدك
ولا لثانية واحدة "
واسترسلت فورا تحكي له عن أهم أحداث الأسابيع الماضية التي لم
يلتقيا فيها بسبب سفره الطويل ذاك , فكما اعتادت هي على أن تحدثه
عن كل ما يحدث معها اعتاد هو على سماعها دون تذمر , إيلينا الفتاة
الشقراء الانجليزية التي التقى بها أول مرة في رحلة بحرية نضمها
ميناء قناة بريستول الجديد حين تم نقله هناك ولأن شركتهم كانت من
الشركات التي ساهمت في بنائه نظموا تلك الرحلة لرجال الأعمال
والنخبة التي عملت على تشييد ذاك الصرح الواسع
وقد التقت به عند سطح تلك السفينة منذ أربع سنوات حين كانت ابنة
العشرين عاما فتاة مرحة سلبت لب الكثير من الرجال في تلك الرحلة
لجمالها الفتي ومرحها
حيث كانت كالفراشة الملونة التي تنشر ألوانها في كل مكان تصل إليه , ورغم
الاهتمام الواضح لمعظم رجال الأعمال على ظهر تلك السفينة بها إلا
أنها اختارت مرافقته ودعت نفسها بنفسها لذلك , لازالت تتذكر عندما
رأته للمرة الأولى ووجدت فيه ما يثير الفضول , شيء من الاكتفاء
الذاتي وكأنه لا يهتم مثقال ذرة برأي أي شخص آخر فلم تستطع
مقاومته بل واقترحت قضاء الأمسيات معه ولم يؤثر فيها
أبدا حديثه الصريح حين كان جوابه أنه رجل مسلم يختلف عمن تعرفهم
ولا يمكنه ولا التواجد معها في مكان منقطع لوحدهما وإن كان في
وضح النهار , بل لاحظ أنها تقبلت الأمر برحابة وقالت وقتها بابتسامة
عذبة ( صديقان إذا يا وقاص رضيت بذلك حبي)
وامتدت صداقتهما تلك لما بعد تلك الرحلة رغم يقينه من عدم اقتناعها
بأسبابه وبالحد الذي وضعه بينهما ولم ينسى اللحظة التي انهارت فيها
دفاعاتها وكيف بكت بحرقة حين أعلمها عن قرار زواجه وموعده
القريب واعترفت وقتها أنها كانت تعيش على أمل أن تتغير مشاعره
نحوها وثارت نهاية الأمر ورمته بكلماتها
الغاضبة اللاذعة قائلة ( هكذا أنتم الرجال العرب لا تتزوجون من امرأة عبثتم معها
حتى إن كانت عربية مسلمة بل تختارون امرأة لم تعرفوها قط لأنكم لا
تثقون فيمن قد تفعل ما تفعلونه أنتم وهذا ما لا نفعله نحن ) وتلقى
اتهاماتها يومها بصبر وتفهم
رغم أنه يعلم مثلها أنه لم يعبث معها ولم يعدها بشيء بل كان صريحا
معها منذ البداية
وجل لقاءاتهما كانت ضمن حفلات أو اجتماعات ورحلات عمل نتيجة
لمركزوالدها وجدها والد والدتها , وكانت تلك المرات قليلة جدا التي
طلبت فيها وألحت أن يلتقيا لأمر تريد إخباره عنه أو أخد مشورته فيه
بحكم أنه محامي وأنها تدير مجموعة صغيرة من معامل طباعات الإعلانات التجارية
زمت شفتيها الصغيرة
حين أدركت أنه لم يكن منتبها لكل ما كانت تقول وتتحدث عنه بحماس
وأن عينيه معها لكن تفكيره سافر بعيدا ولم يشعر إلا بملمس أصابعها
الدافئة على خده البارد
بسبب مواجهته للريح لتعيده لعالم الواقع وأصابعها تداعب خده بنعومة
وقالت مبتسمة تميل رأسها قليلا " وقاص أنت لست معي أبدا , لا
أشعر أنك بخير
اليوم وقد لاحظت شرودك طوال الحفلة رغم وقوفك بين الكثير ممن
يتحدثون معك أو عنك "
وتابعت وأناملها تتابع حركتها نزولا لعنقه " لن يكون غياب زوجتك
عن الحفل السبب أليس كذلك ؟ هي ليست أول مرة تتغيب فيها عن
مكان يفترض أن تكون فيه بجانبك ولم أراك تهتم سابقا فما بك ! "
رفع رأسه وذقنه قليلا وجعلها حركة عادية لكن كل غرضه منها كان
التهرب من لمستها تلك رغم يقينه من أنها ستفهم بأنها رفض لها
بطريقة لبقة وكان ذلك واضحا من إبعادها ليدها مع ارتفاع رأسه وكأنه
يحاول رؤية شيء ما في الأعلى
بأكثر وضوح ... لكن ذلك حدث فعلا حين جمدت ملامحه وكأنها
منحوتة على حجر
وشعر بذاك الانقباض في أضلعه وهو يرى تلك النافذة المضيئة الوحيدة
في الطابق الثالث والأخير في المنزل القابع أمامه , يعلم أنه لا ساكن
لكل ذاك الطابق الواسع إلا شخص واحد بينما يعيش هو وزوجته في
جناح مخصص في الطابق الثاني
وتحتل زوجات والده وأبنائهم ذات الطابق أما جناح جده ففي الأسفل
حيث مكتبه وقاعات الاحتفال والرقص وغرف الجلوس والطعام , لم
يسبق أن لاحظ ذاك النوريشع من تلك النافذة لأن ستائرها لم تبتعد
سابقا ويكاد يرى الآن جميع تفاصيل الظل
الواقف خلفه واليد والذراع النحيلة التي تبعد الستار المخملي الفاخر
جانبا , بل ويكاد
يشعر بملمس ذاك الشعر والجسد بين أصابعه من جديد , من تكونين يا
حفيدة ضرار
الجديدة وما سر خروجك يومها والجميع يعلم أن جناحك محصن لا
يمكن العبث بأنظمته !!
أنزل رأسه بسبب اليد التي شدت على ذراعه مع انسدال ذاك الستار
ذات الوقت ونظر للواقفة أمامه وهي تقول بعبوس " وقاص هل فقدت
حاسة السمع يا رجل ! "
رسم ابتسامة صغيرة تجسدت في جاذبية غريبة لشفتيه الحازمة وقال بهدوء
" ما رأيك لو نتقابل غدا في أي مطعم تختارينه وأستمع لحكاياتك
الشيقة
فالليلة كما تقولين يبدوا أنني لست بخير "
أومأت برأسها فورا وبحماس فهذه أول مرة يطلب هو فيها موعدا معها
وأن يخرجا سويا رغم شكها في أنه اختار ذلك فقط ليتهرب من إرغام
نفسه على التركيز معها الليلة كالسابق حيث كان مستمعا جيدا
وناصحا صبورا وهذا أكثر ما يشدها إليه
إضافة لما لاحظته طوال تلك السنوات الأربع من تحفظه الشديد رغم لفته لانتباه الكثير من النساء حوله إن كان في محيط عمله أو أعمال عائلته
التفتت للخلف حين سمعت الخطوات التي اقتربت منهما ليظهر صاحبها
من خلف ظلال النور المتكسر
بين أوراق الأشجار القريبة ولم يكن سوى جده ضرار وقد وقف بجانب
الواقفة أمامه ترسم الأضواء خطوطا على ملامحه الجامدة وترمي
ببريقها على صفحات شعره الفضي الذي لازال يحتفظ بكثافته , يمسك
في يده عصاه السوداء اللامعة
التي لا تفارقه مثبتا بها وقفته المستقيمة بملامستها للأرض بثبات تشد
أصابعه على رأس الصقر المصنوع من الذهب الذي يعلوها .
كان يعلم من ملامحه أنه مستاء إما من تواجده هنا لكل هذا الوقت أو
من أمورأخرى لا يهم فهما على خلاف وإن كان بسيطا منذ سفره
الأخير
خرج ضرارمن صمته ليملأ صوته الجهوري الصمت الوجس قائلا بجمود " الحفل لم
ينتهي وضيوفك لم يغادروا بعد يا وقاص "
تحركت حينها الواقفة بجانبه واعتذرت بلباقة عائدة للداخل فلم يفتها
الجو المشحون
الذي طرأ على وقوفهم ذاك من ملامح الجد المتجهمة الصلبة والملامح
الباردة المستفزة للواقف أمامه , وما أن توارت خلف ظلال الأضواء
خلفهما حتى تحدث ضرار مجددا " ما حدود علاقتك بهذه الفتاة يا
وقاص ؟ "
لم تعجبه نبرة الاتهام في صوته وهو من رباه ويعرفه جيدا لكنه يفهم
تماما أن كل ما يصدر عن جده الآن أسبابه أمور أخرى بعيدة عن كل
الانتقادات التي يوجهها له , قال ببرود " أنا في التاسعة والعشرين يا
جدي ولم أعد طفلا وأعلم الصواب من الخطأ جيدا "
زم ذاك شفتيه فلن يلوم إلا نفسه فهو من رباه على أن يستقل
بشخصيته حتى عنه
هو جده رغم احترامه البالغ له , قال بنفاذ صبر " حتى متى ستلتزم
الصمت عن تصرفات زوجتك الصبيانية ولأي مدى سيستمر كذبنا
وتسترنا على أفعالها تلك ؟ "
ظهر شبح ابتسامة ساخرة على شفتيه فلازال الواقف أمامه يحوم حول
السبب الحقيقي للنظرات الغاضبة التي يراها في عينيه , مرر أصبعه
في شعرات قفا عنقه رافعا نظره للأعلى حيث تلك النافذة التي لازالت
تسبح في الظلام ولم تُفتح
ستائرها مجددا بعد تلك المرة الوحيدة وقال وذات تلك الابتسامة
الساخرة لازالت تعلو شفتيه " هل تحدث السيد فيليبس معك اليوم ؟ "
أتاه الرد منه فورا " تعلم إذا أن ما فعلته أمر خاطئ وسيجلب لك
المتاعب "
عاد بنظره له وأعاد يده في جيبه مجددا وقال بجمود " أنت تعلم رأيي
في الأمرمنذ البداية , والدي لن يتحدث كعادته أما نجيب فلا يعنيني ما
سيفعله "
كان الواقف أمامه سيتحدث وملامحه لا تزداد إلا قسوة وسوءا لكنه
سبقه قائلابحزم " سبق وقلت أني خارج ذاك الموضوع وأنا مثلكم
وصلني البلاغ فقط من ذاك المحامي ولا صلة لي بالأمر فعلى حفيدك
ذاك أن يعلم أنه ثمة ما يوقفه عند حده إن فكر في التمادي على حق
فتاة مريضة وضعها خاص
وجدت نفسها زوجة لرجل لا تعرفه وقد تكون لا تعرف حتى
معنى الزواج منه "
قال ضرار بضيق مهددا " نجحت في المحاماة ووصلت لمكتب المدعي
العام لا بأس لكن لا تمارس تلك القوانين علينا يا وقاص أتفهم ؟
وتتخيل أنك تحاصرنا بالقانون فلست غبيا لأصدق أنه لا يد لك في
الأمر وإن من بعيد "
لم يعلق فتابع ذاك حديثه بحزم " ما لا أريده هو خلافات تتحدث عنها
الناس بين أحفادي , ثم الطبيب قال أن الفتاة تعاني من اضطرابات
نفسية لا أكثر
وأعتقد أن الخرس لا يمنع المرأة من الزواج "
صر على أسنانه ومر ذاك الموقف أمامه مجددا وصوت بكائها الخافت
من صدمتها
لوجودها المفاجئ بين ذراعي رجل لا تعرفه وتصلب جسدها في حضنه
وكأنه قطعة من خشب فهو ليس غبيا ليفوته أن يلاحظ أن تصرفها لم
يكن تصرف فتاة مجنونة
أبدا , تحدث جده مجددا حين لاحظ صمته المتعمد " مؤكد تذكر أنك
سبق وأقسمت أن لا تتدخل في الأمر قبل سفرك ونعتّ كل تلك الفكرة
بالجنون
فما سبب تدخلك الآن ؟ "
رفع الكأس الذي وضعه على الطاولة سابقا وقال مغادرا من هناك
" قلت أنه لا علاقة لي بالأمر فابحثوا عن السبب بعيدا عني "
*
*
نزلت السلالم بخطوات سريعة غاضبة فقد انتظرته لساعات وبلا فائدة ,
كان ثمة أمل لديها أن تراه وتتحدث معه مجددا في موضوع الزواج
التعيس ذاك
لكن أملها تلاشى اليوم , تمتمت وهي تنظر لباب مكتبه المغلق
والأصوات تخرج منه " هذا الرجل متى يكون لوحده ؟ "
تأففت بغضب ما أن تذكرت ما دار بينهما ثم تحركت من هناك ووجهتها
باب المنزل فلا جدوى من انتظاره وستؤجل حديثها معه لوقت آخر
وترى حلا للمصيبة التي رماها فيها , نزلت العتبات كعب حذاها
يضرب بوضوح على أرضيتهم الرخامية متمتمة بسخرية
" قال يزوجني قال ! هل هي فوضى ؟ "
وما أن خرجت حتى تدثرت بالمعطف جيدا حول جسدها بسبب البرد
الذي استقبلها وسارت بخطوات سريعة خفيفة بالكاد تسمع بسبب
طريقة سيرها
لا تنظر سوى أن تجد نفسها في سيارتها ثم في شقتها ففي سريرها
وتنام نوما ينسيها ذاك الكابوس الذي تنتظر أن تستفيق منه وتجد أنه
اختفى
وقفت مكانها ونظرت يمينا تبعد خصلات شعرها المتموجة عن وجهها
والريح يرميها عليه , دققت النظر حيث المسبح الذي توسط تلك
الجهة والأضواء الخافتة حوله وخيال الرجل الواقف هناك معطيا ظهره
لها
والخادمة التي غادرت من عنده للتو , كان ينظر لمعصمه ويبدوا ينتظر
شخصا والملل تسلل له , ابتسمت ابتسامة ذئب وجد فريسته فهي لن
تخطئ صاحب ذاك الجسد وإن كان في النور الخفيف وموليا ظهره لها
فجسده الأقرب لشقيقها والاختلاف واضح جدا وهو لون شعره البني
الغامق اللامع تحت ضوء المصباح الأقرب له , اقتربت من تلك الجهة
بخطوات خافتة كخطوات رقصات الباليه الذي احترفته لسنوات عند
طفولتها ومراهقتها , اقتربت منه تسير على رؤوس أصابعها وكأنها
ترقص على الحلبة رقصة الفراشة والعنكبوت , اقتربت أكثر من ذاك
الجسد الطويل يلفه معطف سميك وصل طوله لركبتيه ولازال نظره
ويده يعبثان بساعة معصمه المضيئة ولم يشعر بها حتى وصلت عنده
ووقفت خلفه مباشرة وبعد نفس قوي جذبته لرئتيها مدت يديها
ودفعته من ظهره بكل ما تملك من قوة جعلت الغافل عما يجري حوله تماما
يترنح بقوة ورغم محاولاته لأن يتزن وجد نفسه في مياه المسبح
المتجمدة وصوت ضحكتها يعلو فوق صوت اصطدامه به
صارخة " أرني أي زواج هذا الذي تحلم به معي يا مزيف "
تراجعت للخلف فورا حين رأت يديه تمسكان بحديد سلم المسبح
وابتعدت أكثر
وهي ترى جسده يظهر من هناك والماء يقطر منه وقد خرج
بحركة هادئة جعلت التوجس يسكنها وكأنها ليست من فعل ذلك بكل
قلب قوي للتو
راقبته يقف خارجه وقد خلع معطفه ورماه أرضا ولم ينظر ناحيتها
مطلقا
وكأنه لا يعلم بوجودها , مرر أصابعه في شعره ينفضه من الماء
ونظراتها المتوجسة تتبع حركاته حتى خيل لها أنه لا يعلم بأنه ثمة من
دفعه أو أنه موقن
من أنها فرت هاربة ولا وجود لها هناك , تراجعت تحت الظلام الذي توفره
أوراق الشجر فوقها وابتسمت بانتصار وهي تراه يخلع قميصه المبلل
أيضا ويختار البقاء عاري الصدر في هذا البرد على تركه على جسده
تصفقه الرياح المتجمدة وكادت ضحكات النشوة أن تخرج من حلقها وهي تسمع
شتائمه الهامسة التي تصلها مع الريح وهمست من بين شفتيها الباسمة بسخرية
" هذا ليس سوى الدرس الأول فقـــ... "
كانت صرختها مدوية حين قفزت وفرت هاربة ما أن انطلق ذاك الخيال
الطويل جهتها بسرعة لم تلحظها وكأنه نمر رشيق وسريع تصيد
الفرصة المناسبة للانقضاض على فريسته وقد نجح فعلا في مباغتتها
حيث اجتمعت عليها المفاجأة والفزع وعلو كعب حدائها وتخبطها
الخائف في الظلام فكان
من السهولة أن يصل لها في لمح البصر ما أن ركض خلفها وأصبحت ذراعها
في قبضة أصابعه الفولاذية ورفعها عن الأرض بخفة وجسدها ورأسها يتلوى
دون أي أمل في الخلاص منه وشعرها المموج يضرب وجهه بسبب
الريح وحركتها العنيفة , همس من خلف أذنها مطبقا أسنانه المصطكة
من البرد
" ستدفعين ثمن هذا يا غيسانة "
حركت قدميها في الهواء تضرب بها ساقيه خلفها وصرخت
" أتركني يا همجي , أقسم أن تندم إن فعلتها ورميتني في الماء "
تقدم بها عدة خطوات تاركا المسبح يختفي خلفهما وقال وأصابعه تشتد
على ذراعيها أكثر " الفاشل فقط من يحارب بذات السلاح , عنقك أصبح
بين يداي يا ابنة شاهين الحالك وستري ما سيأتيك مني "
رفعت رأسها للأعلى في مواجهة الريح تشعر بملامسته لذقنه خلفها
وقالت بكره " أرني أفضل ما لديك إذا يا بربري فلن تنطلي عليا
كذبتك التي أقنعت بها شقيقي ولا أصدق أن ترغب بي زوجة
ولن ترى ذاك اليوم وإن قتلتك "
صر على أسنانه بغيظ يتوعد صاحب هذه الفكرة من أساسها , ما
يكسر ظهره أنه لا يستطيع رفض طلبه مهما كان صعبا فكيف وهي كما
قال مجرد تمثلية , لكنها أشد على نفسه من الواقع وهو يكره هذه
المرأة حد الغضب من ذاك الرجل الذي يراه كاملا ويعتبر تساهله هذا
معها النقطة السوداء الثانية في سجل مطر شاهين , تركها بعنف مبالغ
فيه وكأنه
يرميها رميا وقال بسخرية يراقب ترنح خطواتها لتتزن " صدقي أنها
حقيقة واقتنعي مثل شقيقك , وأحذرك من الآن أني لن أكون
رحيما مثله "
راقبها تنزع حذائها وتغادر بخطوات غاضبة يعلو البنطلون الجينز
الضيق الذي يلف ساقاها الرشيقتان معطف من الفراء السميك , تمتم
بغضب يعود أدراجه " ما كنت لأقترب من طريق تسلكينه يا غيسانة
لكن شقيقك أراد وتحملي نتائج ما يريد "
رفع سترته ومعطفه المبتلان كحال باقي ملابسه وتوجه جهة سيارته
وركبها لا يشعر بأصابعه ولا ذراعيه من شدة البرد الذي تعرض له
جسده ولازال يقاومه ببنية قوية , غادر من هناك يتابع سيل شتائمه
التي وصلت لجد جدها ويتوعد شقيقها قبلها
*
*
كتفت يديها لصدرها مبرزة بحركتها تلك جسدها المتناسق وخصرها
النحيل من تحت كنزتها الصوفية الطويلة المغلقة والأنيقة , ثنت ساق
حول الأخرى يلفهما بنطلون جينز باهت اللون تحاول أن تبدد بتلك
الحركة بعض التعب
من كثرة وقوفها .. نظرها مركز على شاشة الحاسوب اللوحي المثبت
على الطاولة أمامها وحدقتاها العسلية الواسعة تتحرك بين الأسطر
والمساحات تباعا وسمعها مع الجالس تحتها مواجها لتلك الشاشة لا
يظهر لها منه إلا شعره الأسود اللامع والنجمة الوحيدة المعلقة على
كتف بذلة الشرطة المحتضنة لجسده , لفت نظرها أمر مريب تبعه
صمت ذاك الشاب
فأجفلت فجأة ونظرت له تحتها لتكتشف أنه لم يعد ينظر لشاشة
حاسوبه بل لوجهها فوقه فتراجعت خطوة للخلف لا إراديا
وشتت نظرها بعيدا عنه هامسة " جيد فهمت فأين المشكلة ؟ "
عاد بنظره لشاشة حاسوبه مبتسما من حركتها المفاجئة تلك وقال وهو
يتصفح الموقع مجددا " المشكلة أن ما تطلبينه يا آنسة أمر
قد يكون خطرا جدا عليك "
لوت شفتيها بامتعاض وتمتمت ونظرها على حركة السهم على الشاشة
" لا تقلق بشأن ذلك الأمر ولن أوضح لك ما سأفعل إن كان
غرضك من النصيحة معرفة السبب "
وقف دافعا بعجلات كرسيه الجلدي للخلف فابتعد خطوتين أخريين
تراقبه
وقد انحنى على طاولته يكتب شيئا ما في قصاصة ورقة صغيرة ثم
استوى في وقفته ومدها لها قائلا " الرمز مكتوب فيها وعليا أن
أؤكد لك مجددا أن تكوني حذرة "
أخذت الورقة بأطراف أصابعها ودستها فورا في الحقيبة الملتفة حول
كتفها وجسدها قائلة " شكرا لك أنت أسديت لي معروفا لا يقدر بثمن "
وتابعت وهي تغلقها وترفع نظرها به " لم تكذب زهور حين قالت أن
ما أريده سأجده لديك فهذا رابع قسم شرطة أزوره , وتأكد بأني لن
أضركما بأي شيء فقد أتيت هنا بسيارة أجرى وسأستخدم أيضا
جهازا محميا من الاختراق "
حرك كتفيه قائلا " كنت أود لو أفدتك بمعلومات ملموسة كما تريدين
لكن يمكن لذاك الموقع أن يخدمك بما أنك ترفضين إعطائي الاسم "
أبعدت خصلات من شعرها البني خلف أذنها اليمنى قائلة
" سيفيدني كثيرا شكرا لك "
لكنه على ما يبدوا لم يكتفي بذلك النوع من الشكر ومد يده قائلا
بابتسامة واسعة " على الرحب والسعة "
رفعت يدها مجبرة وصافحته ساحبة إياها بسرعة جعلت ضحكة صغيرة
تفلت منه وهمس لها مبتسما " هل تمانعين في كوب قهوة ظهر غد ؟ "
تصلب ظهرها ونظرت له بصدمة قبل أن تنقل نظراتها حيث الجالسان
خلف مكتبيهما في ذات الغرفة ينظران لها مبتسمان بطريقة مضحكة
وتلعثمت قليلا قبل أن تقول بضيق " إن كنت تريد مقابلا للورقة
غير المال فسأعيدها إليك حالا "
مرر أصابعه على قفا عنقه وقال مبتسما " لما تفهمين الأمر بهذا
النحو ؟ أنا لم أطلب مقابلا منذ البداية "
اجتازته قائلة ووجهتها باب المكتب المفتوح " إذا شكرا لك مرة
أخرى وكانت فرصة سعيدة "
وخرجت من هناك يصلها بوضوح صوت ضحكات زميليه ما أن
غادرت فتمتمت بحنق تخرج بعض خصلات من شعرها من تحت
حزام الحقيبة عند كتفها " حسابي ليس معك بل مع ابنة خالتك
الحمقاء زهور تلك "
وغادرت من هناك وخرجت من نهاية ذاك الشارع المكتظ بسيارات
ورجال الشرطة المتوقفة عند بوابة مركزهم الواسعة في تلك المدينة
التي تبعد عن مدينتها عشرين ميلا وكالعادة دخلتها من دون سيارتها
وقفت ونظرت يمينا فكان على امتداد الشارع الفرعي أعمال حفريات
والطريق مغلق والأشرطة الصفراء منتشرة في المكان تمنع مرور أي
شخص غير الذين يتحركون خلفها بعشوائية , تنهدت بعجز ونظرت
للأعلى حيث السماء الملبدة بالغيوم السوداء وقطرات المطر التي بدأت
بالتساقط منها , أغمضت عينيها بقوة لسقوط إحدى تلك القطرات
العمياء في عينها فأنزلت وجهها ومسحتها بظهر كفها بقوة , ضمت
ياقة كنزتها المفتوحة على فكيها وخداها المتوردان من البرد وسارت
مسرعة جهة الشارع الآخر
نظرها على خطواتها فوق الرصيف تاركة شعرها البني
للريح الباردة تتلاعب به وحبات المطر الرقيقة تزينه كقطع متناثرة من
الألماس , سلكت الشارع متجاهلة جميع الأصوات حولها وركض
الناس للاختباء قبل أن يزداد ذاك المطر جنونا , شدت قبضتها على
الورقة فيها
وضمتها لشفتيها وشعرت بتلك الدمعة وهي تسقط من رموشها المطبقة
إلي الأرض وحذائها يدوس عليها تاركا إياها خلفه ككل سنوات حياتها
التعيسة الماضية تلك , غشت سحابة دموع دافئة عينيها ولهث تنفسها
وهي تهمس مغمضة عينيها تسير بلا رؤية " عليا أن أجدك يا تيم
عليك أن ترجع كما وعدت , لا تتركني لظلم البشر أكثر من ذلك "
" هيه يا آنسة "
وقفت مكانها ومسحت عيناها بطرف كمها ومدت يدها لباب السيارة
التي وقفت أمامها تفتحه ودخلتها مغلقة الباب خلفها فورا تنفخ أنفاسا
ساخنة في قبضتيها وقال الجالس في المقعد الأمامي خلف المقود ينظر
لها في المرآة " انتظرتك بعيدا , لم يسمحوا لي بالوقوف طويلا حيث
باب مركز الشرطة ورأيتك وأنتي تغادرين لكن الشارع
كان مزدحما "
مسحت بظهر كفها على وجنتيها تدس بأصابع يدها الأخرى تلك
القصاصة
في جيب بنطلونها الأمامي لتضمن أنها لن تفارقها فلن تستأمن عليها
في حقيبة ليست ملتصقة بجسدها التصاقا , حركت شعرها بأصابعها
تبعد عنه حبات المطر التي لم يتشربها بعد قائلة " عد بي من حيث
جئنا لقد انتهى مشوارنا "
انطلق من فوره مغادران شوارع مدينة بينبان ولم يحتج الأمر للكثير من
الوقت ليصل بها لمدينتها ويقف بالقرب من باب منزلها فالشوارع لم
تكن مزدحمة بسبب الأمطار التي بدأت بسجن الكثيرين في أماكنهم ,
ترجلت من السيارة بعدما أعطته أجرا سخيا جعله يتمنى أن يكون هو
من يوصلها
كل يوم وتوجهت للمنزل من فورها وصعدت لغرفتها مباشرة مغلقة
بابها خلفها بالمفتاح .
خلعت عنها الكنزه الصوفية التي تبلل كتفاها بسبب الأمطار
ثم زادت من التدفئة الكهربائية في الغرفة وتوجهت للخزانة تجر معها
كرسيامغطى بالقماش يأخذ شكل قلب , صعدت فوقه حافية القدمين
ومدت جسدها ويدها للأعلى بصعوبة حتى وصلت للصندوق الموجود
هناك وسحبته بحذر
كي لا توقعه , قفزت من الكرسي وتوجهت فورا لسريرها ونظرها على
الصندوق الذي كانت تفتحه وما أن جلست على طرف السرير حتى
رمت الصندوق جانبا بعدما أخرجت منه ذاك الجهاز الأسود المسطح
الصغير
شغلته فورا وبخفة وبدأ إصبعها بالتحرك على شاشته بسرعة وإتقان
حتى اتصل بالانترنت وتنقلت بين مواقع معينة كما علمها ذاك الشرطي
الشاب
حتى وصلت لوجهتها المحددة وأدخلت الرمز الذي أعطاها إياه , كانت
ضربات قلبها تتصاعد تدريجيا وهي تُدخل تلك الأحرف والأرقام حتى
ضغطت على أيقونة الدخول وكادت تصرخ بأعلى صوتها حماسا حين
نجح الأمر ووجدت أمامها صفحة طويلة مليئة بالأسماء الانجليزية كلغة
ذاك الموقع فانتقلت بأصبع مرتجفة لمربع البحث لتكتب ما تريد البحث
عنه , كتبت الاسم الأول بالانجليزية فظهر لها سريعا ثلاث خيارات شبه
متشابهة فاختارت احدها فورا وكانت الصورة لرجل قارب الأربعين من
عمره أشقر الشعر فعادت للخلف واختارت الاسم الآخر وكانت الصورة
والمعلومات أيضا لا تنطبق عليه , هي لا تملك من صفاته سوى ما
تحمله ذاكرتها عن ملامح ذاك الفتى الذي عرفته في صغرها وليست
تعلم إن تغير أم لا
لكنها ستميز بسهولة لون الشعر والعينين وحتى العمر بل وتلك النظرة
التي لم تراها في شخص غيره ولازالت محفورة في ذاكرتها حتى الآن
, ماأن ضغطت على الاسم الثالث والمتبقي ( tem falcon ) حتى
ظهر لها خط أحمر كتب فيه ( أنت تدخل لعين الزمرة )
فقبضت أصابعها بتوتر وفكرت لبرهة عن معنى تلك العبارة المكتوبة !
هل الاسم له مكانة خاصة !؟ مسحت بسبابتها على شفتيها ثم ضغطت
موافق متجاهلة ذاك التحذير تشعر بشرايينها تُشد بقوة من فرض تلهفها
لمعرفة ما يحوي ملف ذاك الاسم وإن كان صاحبه أم لا , فجأة رمت
ذاك الجهاز بقوة على الجدار وقفزت جهته صارخة وركلته بقدمها
بقوة حتى تأكدت من أنه تحول لقطع واتكأت بجبينها على الجدار
فوقه تنظر لحطامه من بين دموعها التي تقاطرت فوقه
ولكمت الجدار بغضب
*
*
دفعه لداخل السيارة قائلا " تحرك هيا نفخت لي رأسي يا رجل "
ركب الكرسي متأففا وأغلق الباب بامتعاض وصوته يخرج من النافذة
المفتوحة يصل بوضوح للذي لف حولها ليجلس في مقعد السائق
" وضعي لا يشبه وضعك يا أبان متى ستفهم ذلك "
جلس أبان في كرسيه مغلقا الباب خلفه وشغل السيارة قائلا " من يسمعك
يضنك تتحدث عن ابن رئيس البلاد أو عن عملية ترويج للممنوعات "
وتابع والسيارة تتحرك بهما " أعدّها مغامرة صغيرة يا رجل فلسنا
نعارض الشرع ولا القانون "
كتف يديه لصدره قائلا بتنهيدة " لا تنسى أن والدك يكون ابن عائلة الشعاب
المعروفة وأن والدتك تكون ابنة شاهين الحالك شقيقة الأسطورة مطر
شاهين أما أنا فإن علقت فلن يخرجني منها أحد ولن أغامر بحياتي
لأني أحتاجها أكثر مما تحتاجني "
نظر له أبان بطرف عينه قائلا بمكر " من هذه التي تحتاجها أكثر مما
تحتاجك ؟ لا تقل أنها الحياة "
وانطلقت ضحكته مرتفعة والسيارة تشق بهما الشوارع المظلمة
بسرعة
ارتفعت تدريجيا فتمتم الجالس بجانبه بحنق " لن يفهم شخص مثلك ما
يعانيه شاب مثلي "
توقف عن الضحك ونظر له قائلا بهدوء " يمان لما لا تفتح لي قلبك
ألسنا صديقين ؟ لما أشعر أنه ثمة أمر يشغل دهنك دائما ! هل تعاني
من مشكلة ما ؟ أخبرني قد أساعدك في شيء , لا تسخر من حجم قدراتي "
هز رأسه هزة خفيفة منكرا شكوك الجالس بجواره واكتفى بصمته وقد
أشاح بوجهه جانبا جهة نافذته يراقب أنوار الشوارع والسيارات , عن
ماذا سيخبره
وما الذي سيساعده به ! همومه التي لا نهاية لها وسببها والده
وزوجته أم عن شقيقته ذات الثلاثة عشرة عاما .. طفلة قد ظلمتها
الحياة والظروف من يراها
يضنها شبحا مما ترى وتعاني , من كره العودة لمنزلهم نهارا كي لا
يرى تلك المعاناة التي إن تدخّل لمنعها عنها كان نصيبه مثلها
ونصيبها مضاعفا حتى
أصبح يهرب من ذاك المنزل حتى آخر الليل ليدخله وهي نائمة , هذا إن
لم يجدها معاقبة تنام على أرضية المطبخ الباردة وليس بيده شيء
سوى تغطية جسدها النحيل المرهق ببطانيته الوحيدة وسحبها منها
كاللصوص وقت الفجر
كي لا تراها تلك المرأة , يعلم أن هروبه لن ينفع شقيقته في شيء ولن
يزيده إلا كرها لنفسه وهو يفر كالجبان ولا يفعل شيئا حيال وصية
والدته له قبل موتها
ولا بإخراجها من ذاك المنزل وتلك الحياة التي تستصعبها حتى
الخادمات فكيف بمن في مثل سنها وجسدها , لا يمكنه مواجهة ذاك
الوجه كل نهار .. تلك الابتسامة
الصغيرة والملامح الحزينة التي تقابله بها كلما دخل من باب المنزل
وهي تركض جهته تسأله إن كان يريد طعاما أو أن تفعل له أي شيء
آخر ولم تتحدث يوما عن أي شيء مما تعانيه ولم تطالبه لحظة بأن
يجد لها ولمعاناتها حلا , وأي حل هذا
الذي قد يقدمه لها ولا أمل لخروجها من منزلهم فلم تبلغ سن زواج
ليأتي من يأخذها
منهم ويشك أن تفرط تلك المرأة في خادمة تخدمها ليل نهار دون مقابل
إلا إن كان زوجا سيستفيدان منه , ومن هذا الزوج الذي سيفكر أن
يناسب رجلا مثله !
شعر بسرعة السيارة ازدادت فجأة فنظر للجالس بجانبه وأمسك بمقدمة
السيارة قائلا بخوف " ما بك يا رجل ! "
نظر أبان في مرآة السيارة الأمامية وقال وهو يزيد السرعة أكثر "
ثمة سيارة خرجت خلفنا منذ تحركنا , إنها تقصدنا مسرعة "
نظر خلفه ورأى السيارة التي أصبحت تجتاز السيارات مسرعة لتلحق
بهما كما
قال فشعر بخوفه يزداد أكثر وأول ما مر أمام عينيه صورة شقيقته
الوحيدة وكل ما يخشاه أن تفقده هو أيضا , نظر للجالس بجانبه يتحكم
بحركة المقود ببراعة
وقال " ماذا يريدون منا ؟ "
لم يجبه أبان وهو يدير المقود بقوة ويدخل طريقا فرعيا أوصلهما
للطريق
الساحلي مباشرة وأصبحت السيارة تتسابق مع الريح بجوار البحر , نظر
ورائه مجددا ثم نظر له وقال بتوتر " أصبحتا اثنتين "
نظر أبان في المرآة لمرتين متتاليتين ثم همس من بين أسنانه وهو
يدوس مكابح السيارة أكثر " تبا لهم "
كانت السيارة تكاد تطير فوق الطريق الواسعة بسبب سرعتها الجنونية
ولا صوت يسمع فيها سوى همس يمان متشهدا وهو يرى انقلاب
سيارتهم أقرب
من نجاتهم من ملاحقيهم المجهولين , في كل مرة كانت إحدى
السيارتين تسرع
حتى تكاد تسير بجانب سيارتهم ثم تتراجع للخلف بمناورة من الجالس
خلف المقود
يحاول أن ينقد صديقه على الأقل ولم يعد يفكر في نفسه حتى خفت
سرعتها فجأة
فنظر يمان خلفه ثم لأبان وقال بذعر " ما بك توقفت ؟ "
أوقف السيارة جانبا وسحب المفتاح منها على أصوات صرير عجلات
السيارتين خلفهما وتوقف إحداهما أمام سيارتهم والأخرى خلفها على
عرض الطريق الجانبي وقال " هم يلاحقونني أنا , لن أتسبب في
أذيتك معي "
نظر له باستغراب على صوت أبواب السيارتين وهي تغلق بعد نزول
من فيها وقد همس " وما أدراك بأنك المقصود ؟ "
سحب أبان مسدسا من جيب سيارته ودسه في جيب بنطلونه الخلفي وسحب
مفتاحا وضعه في الجيب الأمامي ثم وضع له مفتاح السيارة في يده وقال
وهو يفتح الباب لينزل منها " لأن كلتا السيارتين كانتا تقتربان من
نافذتي يا ذكي .. لا تحتاج لتفكير "
نظر له يمان باستغراب وهو يقف خارج السيارة , أجل كيف نسي أنه
تخرج حديثا من كلية الحقوق وسيفكر كأي محامي وسيستنتج سريعا
من يقصد أولئك الرجال الأربعة الواقفين أمام السيارة , نظر خلفه
ووجد رجلين آخرين في الخلف
فعلم أن الأمر أخطر مما يتوقع كليهما , نظر لمفتاح السيارة في راحة يده وهو
يعلم أن أبان يريد منه مغادرة المكان لذلك أعطاه له , فتح باب السيارة
ونزل منها يراقبه وهو يقترب بثقة وخطوات ثابتة من أولئك الرجال ,
راقبه حتى وقف أمامهم يديه في جيبي بنطلونه الجينز وقد قال أحدهم
مباشرة وبصوت
غليظ جهوري " أبان يعقوب الشعّاب ثمة ما علينا التحدث فيه لوحدنا
وبعيدا عن هنا "
أنهى جملته تلك ونظر خلف كتف الواقف أمامه حيث وقعت نظراته
على يمان فورا فشعر برجفة الخوف تسري في جميع عروقه , التفت
أبان له برأسه فقط وقال " خد سيارتي وغادر من هنا واتركها لديك
حتى آخذها منك بنفسي "
فتح فمه مصدوما قبل أن يغلقه شادا على شفتيه بغضب من ثقته بنفسه
ومن أنه سيرجع حيا ليأخذها منه وهم ينوون أخذه للمجهول وحيدا ,
نقل نظره بين الواقفين جميعهم ولا يعرف كيف يمكنه أن يساعد صديقه
ولا يتخيل أن يتركه
وحيدا معهم وهو حده من يعرف ما يحدث معه الآن , استقر نظره على أبان
فحرك كفه ملوحا له وقد غمز بعينه قائلا بابتسامة ساخرة " هيا لا أريد
أن تفقدك حبيبتك المجهولة تلك بسببي وتكيل الدعوات لي طوال الوقت "
صر على أسنانه بقوة وهمس شاتما له قبل أن يتحرك حول السيارة
ليركب خلف المقود متمتما بغيظ وهو يشغلها " معتوه ولا يتغير أبدا ,
حتى وهو يواجه المجهول وقد يكون الموت يلقي بدعاباته السخيفة "
*
*
عطس مجددا وأخذ كومة المناديل التي مدها له الجالس أمامه وقال دجى
ببرود " نصف التسجيل لم أسمعه بسبب عطاسك المتكرر , ما بك
يا رجل كنت بالأمس بكامل عافيتك ؟ "
رمى المناديل من يده بقوة وكتف يديه لصدره ولم يعلق ينظر بطرف
عينه بضيق للواقف عند النافذة موليا ظهره لهم وذاك حاله منذ بدأ
عرض تلك المكالمة المسجلة مسبقا ,
نظر للآلة أمامه على الطاولة وأعاد تشغيلها مجددا
فلا فرصة للانتقام منه كهذه التي أتته على طبق من فضة وسيستغلها
بسبب ما ورطه به وما فعلته به شقيقته تلك ليلة البارحة , عادت الآلة
للدوران حتى منتصف ذاك الشريط ثم توقفت وعادت للحركة ببطء
وخرج ذاك الصوت
الأنثوي الرقيق الناعم رغم نبرة الضيق فيه ( رماح أنت لن تتوقع مني
فعلها بالتأكيد ؟ أنا لست مسؤلة عن تصرفات جبران ولن أكون
ضحية قراراته المجنونة دائما(
نظر بابتسامة شامتة للواقف هناك يشد قبضتيه ببعضهما بقوة
ومرفقاه يتكئان على حافة النافذة المفتوحة ينظر للخارج ورأسه
للأسفل وصوت رماح المتعب يملأ صمت المكان قائلا
( غسق أنتي نقطة ضعف جبران
الوحيدة , من أجلك سيفعل أي شيء ويفعل ما يفعله الآن وبسببك
أصبح ما عليه شخص لم نعرفه سابقا أبداً , بل منذ دخلت الحالك من
أعوام وأصبحت زوجة لذاك الرجل(
غزى الضيق نبرتها الرقيقة وهي تقول ( يكفيني من هذا , لقد نبذت
الرجال بجميع أنواعهم وطبقاتهم ما من شيء يمكنني التضحية الآن
من أجله , والدي وتركني ... وحده من كنت قد أقبل لو طلب مني
ذلك وإن مكرهة(
قال برجاء غزى صوته المرهق ( فكري في الأمر يا غسق من أجلي يا
شقيقتي بل من أجله وأجل مستقبله , أنتي لم تعودي ملزمة بشروط ابن
شاهين تلك التي تركها خلفه وقيدك بها كسلعة رخيصة لبقاء والدي
في مركزه رئيسا للبلاد ولتوحيد أقطارها , لقد تحررت منه بموت
والدي ولم تعودي حكرا للعيش على شروطه وذكراه وجبران يعلم ذلك
جيدا وهذا نصف سبب ما يفعله , جبران يحتاجنا جميعا يا غسق بل
يحتاجك أنتي
أنتي من يمكنه ردعه عن ذاك التفكير المجنون , هل تعي معنى أن
يقود حركة تمرد أو حتى أن يكون جزءا فيها ؟ هو يقود نفسه للضياع
يا غسق فكري فيه وإن من أجل ذكرى والدي(
كانت ستتحدث فقاطعها من فوره ( فكري فيما قلت يا غسق لا تتخذي
أي قرار وليد اللحظة , قد لا أراك مجددا يا غسق فحياة كل واحد فينا
أبناء شراع صنوان مهددة بالخطر وإن كنت خارج البلاد , فأعتبريه
الطلب الأخير(
خنقت العبرة المكتومة صوتها الناعم وهو يخرج من تلك الآلة الصماء
) يكفيني من الفراق يا رماح , يكفيكم ما تفعلونه بي وتوقف عن
ذكر الموت حالا(
قال بإلحاح ( عديني إذاً أن تفكري في الأمر , قولي فقط أعدك أني
سأفكر فيما قلت وأنا أ ثق في وعودك وحسن قراراتك(
تنفست بعمق استطاع كل من في تلك الغرفة سماعه ثم خرج صوتها
مجددا ( أعدك يا رماح بأن أفكر وليس أن أنفذ ... )
أوقف الجالس في الجانب الآخر الشريط قائلا " ما جدوى إعادة سماع
هذه المكالمة فالمفيد وصل وهو أن ابن شراع الأكبر ضمن من تلوح
حولهم الشبهة في أحداث البلاد الأخيرة "
همس دجى مكتفا يديه لصدره
" إن مس ابنتي سوء لن أسامح منهم أحدا "
نظر شاهر للذي لا يزال واقفا هناك ولم يتحدث بشيء حتى الآن وهو
وحده من كان يريد سماع صوته , يبدوا أن السنين لم تعلمك أن تقدر
تجربتي يا ابن شاهين وما مررت به ولن يكون ذلك إلا على يد ابنة
عمك تلك , أمال ابتسامة
مستفزة ونظره لا زال على الواقف هناك وقال " لا تخشى على ابنتك
فهي أثبتت نفسها وبجدارة امرأة استحقت لقب درع المرأة الذهبي الذي
أطلق عليها
فتلك الجمعية التي تديرها بل مدينة العمران بأكملها عائداتها السنوية
بالملايين
وتنفق تلك الجمعية ما يزيد عن مليوني جنيه شهريا تُصرف رواتب
لعائلات ونساء هن بحاجتها , وتدير بنفسها سبعين محلا تجاريا
ومركزا كبيرا وسط المدينة
وشركتين صغيرتين للتصدير مردود كل ذلك تصرفه على خمسين ألف
امرأة وسبعة ألاف عائلة وخمسمائة قضية في محاكم الدولة , هذا ولم
نتحدث عن المعامل والمصانع الصغيرة والمطاعم في تلك المدينة فكل
ما فيها يعود لتلك الجمعية , فمن تدير كل ذلك بحرفية وذكاء لن تهاب
من مواجهة أي خطر
ولن تحتاج لرجل يرعى مصالحها ولا ليحميها "
ابتسم الجالس في طرف الأريكة المقابلة ناصبا ساق على الأخرى فهو
يفهم سبب كل هذا الحديث وهدف شاهر من قول كل ما قاله , اتكأ
بظهره للخلف مسندا ذراعه على ظهر الأريكة وقال مبتسما " سمعت
أن نصف رجال الأعمال في تلك البلاد تقدموا لخطبتها ... رقم مبالغ فيه
بالتأكيد لكني أجزم
أنه مقارب للحقيقة فأغلب زوجات أولئك الرجال شكل لهم ذكرها
كابوسا مرعبا "
غمز له شاهر ضاحكا بصمت وسرعان ما جمدت ضحكته تلك ما أن
التفت الواقف هناك وقال بجمود " سجلت البلاد اليومين الماضيين
خمس حالات اختطاف لرجال شرطة , ثمة أخبار عن جماعات تجمع
السلاح وعن تأييد شعبي لبعضها "
قال عمير من فوره " كارثة إن دُمر جهازي الشرطة والجيش وضاع
تعب
الأعوام الماضية جميعها , على قادتهم أن لا يتفككوا وأن لا يدخلوا في
الصراع مع أي طرف أو ضاعت البلاد "
عقب دجى يشد قبضته " لن يضيع تعبنا ذاك كله , خسرنا الكثير من
أجل ما وصلت له البلاد وحاربنا الوحوش من أجلها مبعدين أي خطر
خارجي للمساس بها لتنهار الآن من الداخل رغم درع الوقاية
الخارجي الذي
شكلناه حولها !! ذاك أسوأ كابوس قد يعصف بالبلاد "
جلس مطر في الكرسي المتبقي في تحلقهم ذاك حول الطاولة الزجاجية
الدائرية المنخفضة وشبك أصابعه ببعض يتكئ على مرفقيه وغاب بنظره
للأرض قائلا بهدوء غزى بحة صوته الجهوري " كلفت من كان حلقة
وصل مع ابن شراع المدعو رعد وهو من دخل البرلمان مؤخرا بعد
وفاة والده وثمة تجمع لبعض النواب حوله يريدون أن يستلم البلاد بعد
والده لكنه يرفض وكذلك
ثمة معارضين للفكرة ويرون أنه ابتعد عن السياسة طوال السنين
الماضية باختياره
والمرحلة الانتقالية تحتاج لشخص ملم بكل شيء , وكل ما قاله رعد
شراع أنه لن يكون عضوا في البرلمان ما أن يستلم رئيس البلاد
مهامه كان من يكون رغم بلائه الحسن حتى الآن "
علق أحد الجالسين بحيرة " الأخبار لا تسر وما يفعله أولئك الرجال
كمن يحفر في الرمال , لو أعلم من وراء مقتل شراع صنوان وإدخال
البلاد في كل تلك البلبلة ؟ وكأنهم يريدون إرجاعها لما كانت عليه "
قال شاهر من فوره " مستحيل فالقبائل تناسبت وتداخلت وإن كانت
النسبة ثلاثون في المائة فقط ويستحيل تفرقتها وتجزئتها لثلاث محاور
كما في الماضي "
علق دجى مبتسما بسخرية " لا تنسى ما حدث للكوريتين انقسمتا رغم
كل تلك الجذور وتفككت العائلات وعلِقوا للأبد فلا تستبعد ذلك لدينا بل
سيكون الوضع أسوأ فلا تنسى أننا مجتمع قبلي , ومن دبر كل ذلك
غرضه إلهاء الناس بقتال بعضهم وسلب ما يمكنه الاستفادة منه وهم
غافلون عنه بالقتل والدماء وأول ما
سيتناحرون عليه هو النفط فآباره في الجنوب وأغلب مصافيه في
الشمال وهو ممتد في خط الوسط للبلاد أي أن الكارثة لن يتخيل حجمها
أحد خاصة مع كل التحركات السرية الحالية في الداخل , ونحن هنا لم
يعد بيدنا شيء سوى كف أدى من هم خارجها لكنه لا يكفي أبدا خاصة
وأننا فقدنا حلقة الوصل بالداخل وهو شراع صنوان "
وقف مطر مجددا ونظراتهم تتبعه وقد عاد للوقوف أمام تلك النافذة
شادا قبضتيه
بقوة وكمي قميصه مرتفعان لمرفقيه كاشفان عن ساعديه القويان
يداعب النسيم البارد خصلات شعره الأسود وقد أطبق جفنيه برفق
وكأنه ينسلخ عن كل ما هوحوله وينأى بنفسه مع أفكاره وقد أطبق
الصمت على مجلسهم ذاك وكأنهم جزء
من تلك الأفكار التي تدور داخله , يعلمون أن ثمة ما سيفصح عنه في
أي لحظة
وهو ما سيراه الحل الوحيد والأخير لما يحدث في تلك البلاد التي فدوها
بأرواحهم وبسنوات حياتهم الماضية وبأحبابهم وكل ما تركوه هناك
خلفهم , من تسرب حبها في شرايينهم مع الدماء .. حب أناني لم
يشاركه ولم ينافسه شيء فقد كان رمزا
للتضحية والعطاء دون مقابل حتى أخذ منهم الغالي والنفيس .
التفت لتلك الأعين المحدقة به بصمت ونظراته قد جالت بينهم , يفهم
فيما يفكر كل واحد منهم وكم من آمال يعلقونها على قراراته وما قد
يفعله من أجل تلك البلاد التي كافحوا لأعوام طويلة من أجلها , دفع
الكثير من أجلها ولن يسمح لأي كان بأن يدمر
ما فعلوه ووصلوا إليه وإن اضطره الأمر لأن يحارب أبناء وطنه
جميعهم إن كان تفكيرهم سيقود البلاد للخراب والدمار , لقد ضحوا من
أجلها ولكي ينقذوها ممن أراد الفتك بوحدتها من خارجها ولن يسمح
بأن يكون أبنائها في الداخل هم سبب
حدوث ما عجز عنه الكثيرين في الخارج , شد قبضتيه بجانبه بقوة
ونظره إلى الأعين المحدقة به بفضول قبل أن يقول بجمود " سأكون
ضمن الرحلة
التي ستنزل أرض الوطن "
أعين متسعة تلك التي حدقت به تعلوها الصدمة عدى نظرة عمه
الباسمة المتفهمة , وكان أول من خرج من ذاك الصمت المميت الذي
أعقب قراره
هو شاهر الذي علق ساخرا " المجموعات هنا تحتاجك أيضا ولا أعتقد أن ابن شراع الأكبر ذاك سينال شيئا ولا يبدوا لي أنه كسب المعركة "
تحركت خطوات مطر ووجهته الباب قائلا بجمود " الوضع لم يعد
يحتمل الصمت عنه فاترك دعاباتك السخيفة لنفسك "
راقبته نظراته الحانقة حتى خرج ضاربا الباب خلفه فنقل نظره منه
للجالس بجانبه
وقال ببرود " إياك أن ترجعها له يا دجى , أقسم أنه لا يستحق ولا ظفرها "
وقف دجى وقال " أنا خارج ملعبكم هذا حاليا فأنا قد أدخل البلاد تحت أسم
مزور , وأعتقد أن الأمور كما أوضح مطر أصبحت لا يُسكت عنها "
وقف عمير أيضا وقال ناظرا لدجى " إذا الرحلة سيكون فيها أنا وأنت
وتميم وقاسم ومطر "
قال متوجها للباب " يبدوا لي ذلك ... ولا تنسى ابنته فلن يتركها
هنا وحدها بالتأكيد "
*
*
أبعدت اللحاف عنها ببطء وهي تجلس مغلقة المنبه الصغير على
الطاولة بجانب سريرها ومررت أصابعها في شعرها تشده للخلف , لم
تحضا بدقيقتين تنام فيهما بسلام كانت أحلامها جميعها كوابيس وجبران
من احتلها , تراه مقيدا بالسلاسل
وتراهم يجرونه على الأرض , وتارة خلف القطبان يلومها لأنها لم
تنقذه وينعتها بأنها جبانة ولازالت تعيش على ماض رفضها وأنها أجبن
من أن تتخلص من ذكرى رجل طلقها ورماها خلفه , وكانت تلك آخر
عبارة سمعتها منه في آخرمرة رأته فيها , وقفت وتوجهت للنافذة
وفتحتها على مصراعيها واستقبلت هواء
الصباح البارد , كانت الساعة السابعة والضباب لازال يرسم خطوطا
متفرقة على المساحات الخضراء المقابلة من المدينة وقرص الشمس
ارتفع لؤلئينا قد فقد لونه الذهبي المشع وهو يعانق الجبال , أبعدت
خصلة من غرتها طارت أمام عينيها
ثم دفنتهما في كفها تغرز أسنانها البيضاء الصغيرة في شفتها السفلى
بقوة تشعر بألم في داخلها يصعب عليها كتمانه ولا التعبير عنه ففوق
تمزقات الماضي زادها
إصابة رماح وابتعاده .. رحيل جبران غاضبا والملامة هي طبعا ..
أحداث البلاد الأخيرة وتدهورها المفاجئ .. والأسوأ من كل ذلك رحيل
والدها الحبيب , بل والأكثر ألما منه حديثه الأخير لها وحدهما قبل
موته .
أبعدت كفها وأغلقت مصراع النافذة واتكأت عليه بجبينها ترى من خلال
زجاجه صورة لنصف وجهها تتداخل مع خضرة المنظر الضبابي خلفه
ونصفه الآخر
كان جهة المصراع المفتوح يلفحه برودة ذاك الهواء وكأنه انقسم
لنصفين
مر قرابة اليومان ولم تستطع حتى الآن أن تقرر شيئا بالنسبة لوعدها
لرماح , لا يمكنها خداع جبران وإيهامه بمشاعر لن تستطيع منحها له
ولا لأي رجل لأنها
أصبحت مشوهة من الداخل ومات في قلبها شيء يصعب على أي بشر
إحيائه من جديد , ليست تفهم لماذا تتعقد الأمور وتتشابك حتى يصبح
عليها هي وحدها في النهاية حلها وإن كرهت نفسها , وإن لم تفعل ذلك
ستجد أنها ملامة من الجميع
نهاية الأمر , ورغم يقينها من أن جبران لا يفعل ما يفعله الآن للضغط
عليها أو عليهم فالسنين كفيلة بأن تغيره وأن ينضج عقله لكنهم جميعا
سيرون أنها السبب وأن الحل بيدها كما سبق وفكر رماح .
تحركت من هناك ونزعت قميص نومها الخارجي من مكانه ولبسته
على عجل وهي تسمع الخطوات الراكضة في الخارج وتعلم أنها
للكاسر بكل تأكيد
فتحت باب الغرفة وخرجت منها تربط حزام القميص الحريري لحظة
وقوف الذي كاد
يصطدم بها فنظرت لجسده نزولا ثم عادت بنظرها لعينيه وقالت مستغربة
" كاسر لما ببجامة النوم حتى الآن ؟ ألا مدرسة اليوم ! "
تلعثم قليلا وهو ينظر خلفه من حيث جاء قبل أن ينظر لها ويهمس
بتوتر
" كــ ... كنت , أعني أشعر بأني سأصاب بالرشح وأخاف أن تسوء
حالتي إن ذهبت "
نظرت لشعره الغير مرتب ثم لوجهه وقالت غير مقتنعة " في أشد حالات
الزكام كنت ترفض التغيب عن دراستك فما يبقيك اليوم وما سبب هذا
الركض و...... "
نقلت نظرها فورا لنهاية الممر حيث تحتل غرفته ذات ممر غرفتها
وباختيار منه , غضنت جبينها مقربة حاجبيها باستغراب تركز سمعها
لصوت التلفاز
المرتفع الذي تجاوز فجأة باب الغرفة المفتوح ثم ركضت فورا جهته
تغلق قميصها على صدرها بيد والأخرى تثبت حزامه كي لا ينفتح ودخلت الغرفة
على خطوات الكاسر الراكضة خلفها قائلا " أمي انتظري حتى نتأكد
من الخبر أولا ومن وجوده هناك "
المخرج ~
بقلم/ أميرة الوفاء
قررت العودة يا مطر ..
بعد جرح ظل لسنوات مسيطر ..
حانت المواجهة فما هو العذر ..
هي لن تقبل منك أي مبرر ..
أخدت ابنتها وتركتها لعذاب وعبر ..
تنزل كل مرة لك تتذكر ..
لابنتها تشتاق ، تحن ، تنتظر ..
أعوام كثيرة سهرت بها تفكر ..
تبكي ولا تنام إلا بعد الفجر ..
إبعادك لتيماء كان لها آخر الصبر ..
غسق (كرهتك) وانتهى الأمر ..
أنت السبب يا مطر ..
فكيف ستصلح الأمر ..
نهاية الفصل الثاني ....
موعدنا القادم الأربعاء الساعة العاشرة مساء
إن شاء الله ودمتم في رعاية الله وحفظه جميعا