كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
رمى الملف من يده على الطاولة أمامه وأصابع يده الأخرى
تشتد تدريجيا على الهاتف الذي يثبته على أذنه يسمع بوضوح
الهمس المتداخل في الطرف الآخر ثم صوت التي قالت برجاء
" أمي أرجوك تحدثي معه فهو يبدوا مستاء جدا وأخشى أن يأتي
هنا وستسوء الأمور حينها أكثر "
شد على فكيه وتنفس بعمق فيبدوا أن ابنته تفهمه أكثر من
والدتها فهو كان بالفعل سيفعلها ولن يمسكه عن الذهاب هناك
إلا أن ترفض جميع اتصالاته وليس له أن يتوقع أي سوء هذا
الذي قد يصل له الأمر ، ساد الصمت في الطرف الآخر لبعض
الوقت قبل أن يصله صوتها البارد
" نعم "
صر على أسنانه يتمسك بآخر ذرة صبر يملكها وقال بجمود
" هل أفهم لما طردت الحرس من منزلك ؟ "
وصله سريعا ذات ذاك الصوت البارد المستفز رغم رقته
" منزلي ويحرسونني أنا و... "
قاطعها صارخا فيها من فوره ومحررا ذاك الوحش الغاضب
الذي كاد يدمر أضلعه
" غسق تحترميني رغما عن أنفك فأنا زوجك ، وإن لم يكن
كذلك فأنا ابن عمك والمسئول عنك أحببت ذلك أم كرهته "
وصله صوتها الحانق وكأنه لم يهددها قبل لحظات
" إن كان مطر الماضي المتحكم الآمر لازال مسيطرا عليك
فغسق لم تعد تلك الحمقاء أبدا ... "
" غسسسسققق "
صرخته الغاضبة تلك أسكتتها فورا ولوقت حتى ظن أنها قد
تجن وتفعلها وتغلق الخط في وجهه إلى أن وصله صوتها
الساخط هذه المرة
" هل أعلم فيما أخطأت مثلا تعاملني بهذه الطريقة وكأني طفلة في
عهدتك ؟ بينما أنا التي يحق لها أن تغضب لأن أحدهم يتجسس
عليها حتى أنه وصل لغرفة نومها "
قال من فوره متجاهلا ما قالت ونبرته لم تخلوا من الضيق والحنق
" هل أفهم أنا ما الداعي لتستنجدي بالقوات الوطنية وما دخل
ابن العقاد ذاك يكلف رجاله بحراسة عرشك مولاته "
لو كانت تقنية الاتصالات يمكنها نقل أشياء غير ترددات الصوت
لكان وصله دخان نيران غضبها وهي تصرخ باحتجاج
" لا أسمح لك باتهامي يا مطر فأنا لست بحاجة لحجج لأتسامر
مع الرجال ويعقوب العقاد إن كنت أريد الذهاب له لما بحثت
عن حجة ولكنت ذهبت له فورا ، ما علاقتي أنا إن كان السيد
عقبة هو من أقحمه في الأمر ... حديثي كان معه هو وليس
مع ذاك الرجل ولم أراه أو أسمع صوته "
توجه جهة النوافذ الطويلة المقوسة والمطلة على أهم معالم
تلك العاصمة وأجابها بالغضب ذاته قائلا
" أجل هذه هي النتائج سيدة غسق وأنتي السبب في كل ما يحدث
حتى الآن "
كانت نبرة صوتها ساخرة هذه المرة وإن لم تخلوا من الضيق
وهي تعلق سريعا
" آه نعم معك حق وجميع من تحدثوا مع رعد أنا السبب فيما
فعلوه وليس أنت "
ضرب بقبضته على الزجاج أمامه وشد أسنانه بقوة حتى كان
يشعر بها ستتحطم فهذا ما لم يكن يعلمه ورعد لم يخبره به أيضا
وهي تظن العكس لما تفوهت بهذا ، لن أغفرها لك يا رعد أبدا ،
همس من بين أسنانه
" غسق متى ستكونين في مكانك الطبيعي ؟ "
" أنا فيه الآن "
كان جوابها قويا ومباشرا فهمس من بين أسنانه مجددا وقد
أولى تلك الإطلالة ظهره
" لا تحولي الأمر لتحد يا غسق لأجعلك تعرفيه قريبا وقريبا جدا "
أغلق بعدها الخط دون أن ينتظر تعليقها ومرر أصابعه في شعره
للأعلى وصولا لقفا عنقه متأففا بغضب لا يظن أنه ثمة شيء
قد يخمده سوى أن يسجن تلك الجامحة العنيدة في قفصه للأبد
ليطمئن ، انفتح باب المكتب حينها ودخل منه الذي قال مبتسما
ما أن نظر له
" ما هذا الوجه العابس يا رجل ؟ اجزم أن ابنة شراع السبب "
دس هاتفه في جيبه قائلا ببرود
" شاب شعر رأسك ولازلت سخيفا "
ضحك ذاك ولم يعلق لحظة دخول صقر وابن شقيقته الذي
أغلق الباب ممررا يده له خلف ظهره فتنحى بشر جانبا ونظر
له مجددا وقال مبتسما
" بما أن أفراد عائلة الشاهين قد اجتمعوا فعليكم أن تعلموا
أنه ثمة حفيده لديكم بدأت تفوح رائحتها الزكية في البلاد ونظرا
لأن كل أولئك الضباط في الجيش سيقومون بحمامية منزل
والدتها فستبدأ وفود خاطبيها بالتوجه لكم وأنا أول من طلبها
منك لابني يا مطر بل وما أن وطئت قدماها أرض الوطن فلا
تنسى هذا "
كان جواب مطر الصمت التام محدقا بعينيه بينما افترسته
نظرات الصدمة للواقف عند الباب أما التعليق الوحيد فكان
من رابع أفراد تلك المجموعة والذي قال ضاحكا
" لكن مهر دميتنا الجميلة مرتفع جدا يا بشر ولن يقدر
ابنك عليه "
ضحك والتفت له من فوره قائلا
" أنتم حددوا الرقم فقط وسيكون لديها من قبل أن تتزوجه "
" تزوج ابنتك وهي في هذا السن يا مطر ! "
خرج الواقف عند الباب من صمته ليسرق نظرته الصامتة
تلك له بينما كان التعليق من خاله الذي التفت له برأسه
قائلا بضحكة
" ونحن لم نصدق ذلك لكنه أكده بنفسه وأمام شقيقته
وابنها كما أنه رفض أبناء شقيقته أيضا "
نقل نظراته المستغربة منه للذي لازال ينظر له بصمت
مكتفا ذراعيه لصدره ... نظرة لم يكسرها سوى حديث
بشر قائلا
" المهم أني أول من طلبها منك يا مطر "
عاد مطر بنظره له وقال ببرود
" وابنك مرفوض أيضا "
تأوه بشر باعتراض بينما لم يكن لدى أي منهم أي فرصة
ليعلق على الأمر ولا ليتحدث والأرض تهتز من تحتهم وألسنة
النيران والدخان الأسود تحكيها تلك النوافذ الطويلة ولا شيء
يعلوا فوق صوت ذاك الانفجار المدوي سوى أصوات الصراخ
التي بدأت تتسرب لهم مع كل ذرة هواء كما رائحة ذاك
البارود والدخان ليكتشفوا بأنها دقائق قليلة فقط تلك التي
فصلتهم عن الفاجعة وسجنتهم في دوامة صدمة ما حدث فجأة ...
كل ذلك وبكل حجمه ذاك حدث فقط في ثوان معدودة فأشباه
الموت أولئك كثر ما أن يضربوا يضربون مباشرة وفي
لمح البصر .
كان مطر أول من اجتاز تلك الصدمة وقد تحرك جهة الباب
هامسا من بين أسنانه
" سحقا للأوغاد "
فأوقفته أصابع بشر التي التفت حول ذراعه وأداره جهته
وقد صرخ فوق كل ذاك الصراخ والركض في الخارج
" لا تخرج يا مطر حتى يهدأ الوضع قليلا ، لا تعرض حياتك
للخطر يا رجل "
سحب ذراعه من بين أصابعه بسهولة ما أن شدها منه وقال
صارخا بغضب
" وفيما سيجدي اختبائي هنا كالنساء ؟ اتركني أعلم من فقدنا
على الأقل "
وما أن تحرك مجددا كان قاسم في وجهه هذه المرة وقد أمسك
بكلتى ذراعيه قائلا بجدية
" الوضع تعمه الفوضى في الخارج يا مطر وقد يكون من
فعل هذا يقصدك شخصيا وخروجك الآن قد يتم استغلاله في
مثل هذه الظروف ، أنت لن تهب الحياة لمن فقدها بخروجك "
أشاح بوجهه عنه وتنفس بغضب شاتما من بين أسنانه وقال
عمه من خلفه
" قاسم معه حق يا مطر والانفجار يبدوا في موقف السيارات
وليس في المبنى لنغادر ، اترك من في الخارج يتصرفون أولا
وكن واثقا في رجالك ، خسارتك في هذه المرحلة معناها أن
ترجع البلاد أسوأ مما كانت فلا تتهور "
شد قبضتيه بقوة واستدار للخلف وتحرك جهة مكتبه ساحبا
هاتفه اللاسلكي من حزامه لحظة ما انفتح الباب على اتساعه
فالتفت فورا ناحية الذي وقف أمامه يتلقف أنفاسه وقد قال
" حمدا لله أنكم تأخرتم قليلا ، سياراتكم كانت المقصودة
يا زعيم لولا لطف الله بنا جميعا "
قال مطر من فوره
" من مات يا تميم ؟ ما هو حجم الأضرار ؟ "
سحب نفسا طويلا وزفره بقوة قبل أن يقول
" لا ضحايا حتى الآن ... بعض الجرحى من الحراس وطقم
أطباء القصر الرأسي يتولون الأمر والإسعاف ستقوم بنقل من
حالتهم تستدعي الحاجة لذلك كما أن رجال الأمن والقوات
الخاصة يسطرون على الوضع سريعا وتم إخلاء هذا المبنى قبل
أي من مباني القصر "
تحرك حينها خارجا من هناك وثلاثتهم خلفه قبل أن يحيطوا به
رجاله في الخارج ومن كل جانب وكل واحد منهم على استعداد لأن
يخسر حياته ولا تخسر البلاد ذاك الرجل الذي علمهم الاحتكاك به
لأعوام طويلة بأن التضحيات من أجل ذاك التراب الغالي أثمن من
أن يقدم قبلها أي شيء لتزف له الأرواح دون تراجع ولا تفكير .
*
*
*
وقف ينظر باستغراب للتي أغلقت الباب وغادرت وكأنها
لا تراه أمامها فنظر حوله واكتشف حينها بأنه يقف في الجزء
المظلم من بهو المنزل لذلك يبدوا أنها لم تراه ولم تنتبه لهمسه
باسمها ! بل فهم الآن سر تلك النظرة الجامدة الخالية من أي تعبير
التي رمقته بها وكأنه لا يراها وهي تخرج من هناك ، توجه جهة
باب المكتب من فوره وفتحه ودخل ينظر لكل شيء حوله ،
لم تخرج شيئا في يدها أي أنها لم تاخذ شيئا من هنا إلا إن
كانت قد خبأته في ثيابها ، توجه فورا جهة الجهاز المخفي
هناك والموصول بجميع المقابض البلاستيكية في تلك الغرفة
والمصممة بتلك الطريقة الفريدة من نوعها ولا أحد يعلم بأنها
عبارة عن جهاز كشف بصمات حيث لا تفتح إلا لبصمات معينة
ومسجلة فيها وهم ( هو وجده ووالده ) وليس كذلك فقط
فهو يسجل أي بصمة غريبة عنه ، حرك إصبعه على شاشته
بسرعة وحرفية وابتسامة جانبية تزين شفتيه ما أن تذكر
الشخص الوحيد الذي تعرف على هذا الجهاز ما أن نظر
لمقابض المكتبة ولم يكن سوى ( تيم ) وفي زيارته الوحيدة
لهذا المنزل والمكتب فكم يذهله ذاك الشاب بذكائه ! انفتحت
امامه قائمة طويلة نظر لها فورا فلم تكن ثمة بصمات غريبة
فجميع أفراد عائلته سجلت بصماتهم فيه وحتى الخدم وإن لم
تكن تفتح لهم ، إذا هي لم تحاول أو تفكر في فتح أي شيء
هنا ولا حتى في لمسه إذا ما هذا الذي كانت تفعله في هذا
المكان ! لن يصدق أن امرأة مثلها ستدخل إلى هنا كحب استطلاع
فقط خاصة وأنه وجدها سابقا متسلله من جناحها المحكم الإغلاق
أي أنها ستكون تحفظ هذا المكان كاسمها ، غادر ذاك المكتب
أيضا بعدما يئس من إيجاد أجوبة لتساؤلاته ككل مرة فأغلق
الأنوار والباب خلفه وغادر حيث الجهة التي سلكتها فهذه
الطريق الأبعد عن جناحها فلما ستضطر للذهاب منها إن لم يكن
سببا واحدا وراء ذلك ؟ وقف مكانه واستدار حيث المكان الآخر
الذي كانت تنبعث منه الأضواء وكما توقع كانت غرفة الشاي
ذاتها التي دخلتها صباحا جلست في شرفتها ، دفع الباب الشبه
مفتوح ببطء ودخل فكان المكان فارغا تماما بينما تلك الستائر
الناعمة تتطاير كاشفة عن ذاك الجزء المفتوح من الباب الزجاجي
المقسم والمطل على تلك الشرفة التي كانت تحتل تلك الجهة بأكملها ،
تحرك من فوره حيث تتسرب تلك النسائم الربيعية القوية الدافئة
مقارنة بكل ذاك الشتاء البارد الذي غادرهم للتو ، أبعد طرف
الستارة بيده ووقف مستندا بإطار الباب يلف ساقا حول الأخرى
يده في جيب بنطلونه يراقب الجالسة في ذات مكانها السابق على
حافة الشرفة تنظر للحديقة المضاءة وتذكر فورا صديق جده ذاك
الرسام العجوز الذي سافر لليونان منذ عامين ليعيش مع ابنته
التي توفي زوجها ذاك الوقت ، كان يحب الجلوس على الكرسي
في تلك الزاوية تحديدا من الشرفة وقد قال له ضاحكا ما أن سأله
مرة عن السبب ( أنت شديد الملاحظة يا وقاص ، أتعلم أن هذه
الجهة من الشرفة تطل على أفضل منظر لتلك النافورة الحجرية
المميزة ؟ إنها روح الفنان يا وقاص ... والفنان الحقيقي لا يرسم
ما يعجبه أبدا كذاك المشهد مثلا بل يكتفي بالتمتع بالنظر له دائما(
ابتسم واتكأ براسه على طرف الباب ينظر للتي تتطاير خصلات
شعرها الذهبية الطويلة مع النسيم قبل أن يسرق نظره دفترها
الخاص بالرسم الموضوع على الطاولة فهل كانت هنا قبل
ذهابها لمكتب جده أم أنها تركته هنا مكانه منذ الصباح !!
" هل تأكدت من أني لم أسرق من مكتبكم شيئا ؟ "
عاد بنظره لها سريعا ينظر لنصف وجهها المقابل له بصدمة ،
هي إذا رأته هناك فلما تصرفت إذا وكأنها لم تراه ! هل تعتبره
شخصا لا وجود له بذاك الشكل ؟ لو يفهم مرة واحدة هذه
المرأة كيف تفكر وفيما تحديدا ؟! عدل وقفته ودس كلتا يديه
في جيبيه وخطى نحو الخارج خطوتين وقال ونظره لم يفارق
ملامحها
" أنتي فرد من هذه العائلة يا زيزفون ويحق لك دخول أي مكان
في المنزل ومتى تشائين ، وتعلمين جيدا أني لا أعارض ذلك أبدا
ومنذ وقت "
اكتفت بالصمت والتحديق بعيدا ولم تعلق فتنفس بعمق وقال
" متأكد من أن زوجة والدي أخبرتك عن حفل العشاء فلما
ترفضين ما هو حق لك كفرد من أفراد العائلة ولم تذهبي معهم ؟ "
" ولما لم تذهب أنت ؟ "
رفع رأسه عاليا وحركه مبتسما فهذه المرأة حتى أجوبتها على
أسئلته أسئلة جديدة ! ورغم ذلك نظر لها وقال
" كنت سأصل متأخرا لأني كنت مشغولا هذا المساء وفي هذه
المجتمعات يعتبرىون ذلك افتقادا للباقة وسوء تصرف "
خرجت منها ضحكة صغيرة ساخرة ونظرت ليديها في حجرها قائلة
" بل الأغنياء منهم فقط ، إنهم تافهون حقا حتى أنهم ينجذبون
لمن يصل متأخرا دائما "
قال مبتسما وقد انحنى للدفتر الموضوع فوق تلك الطاولة
الزجاجية ذات الأذرع المصنوعة من الخيزران كما الكراسي
المحيطة بها
" هذا طبع البشر جميعهم يا زيزفون ينجذبون لمن يختلف
عنهم في كل شيء "
نزلت بقفزة صغيرة ونظرت له قائلة بابتسامة ساخرة
" لهذا تزوجت أنت بتلك المرأة ؟ "
استوى واقفا يحمل ذاك الدفتر في يده وقد تصرف وكأن سؤالها
مجرد أمر عادي لا أهمية له ولم يؤثر بمزاجه وقال بسخرية
مماثلة يقلب دفترها مغلقا ونظره عليه
" لو كانت امرأة غيرك لفسرت حديثها هذا غيرة منها "
وتابع بابتسامة مائلة وقد حول نظره لعينيها المحدقة به
" ثم إن فسرنا جميع العلاقات بمفهومك هذا فسيعني ذلك بأنك
الزوجة المناسبة لنجيب "
قالت بضيق ما توقعه تماما
" أيمكنك أن لا تقارنني بمشاريع حياتك الفاشلة "
حرك دفترها والهواء يتلاعب بأوراقه قائلا بابتسامة جانبية
" لم أغضب حين تحدثت عن زوجتي بل وتنتقدين اختياراتي
أيضا فلما يغضبك ما أقول ؟ "
قالت فورا وبسخرية لاذعة
" لأني أغار طبعا "
تاهت نظراته للحظات في ملامحها الفاتنة حتى في أوج حنقها
وغضبها وشعر بشيء ما في داخله يشبه الرغبة في الضحك
دون توقف وهو يتخيل فعلا أن تغار هذه المرأة من زوجته
أو من أي امرأة أخرى تقترب منه ... هنا ستنكون نهاية
الأرض بالتأكيد ، رفع دفترها بجانب وجهه وقال مبتسما
" لا أريد أن يصل حديثنا للشجار يا زيزفون فهل لي أن
أشاهد هذا ؟ والخيار لك طبعا "
نظرت له في يده قبل أن تشيح بنظرها جانبا وقد قالت ببرود
" لن تجد فيه أجوبة عما تبحث عنه إن كان ذاك غرضك "
قال بذات ابتسامته
" لا فأنا لا أبحث عن أجوبة أبدا بل أريد رؤية ما أبدعت فيه
أيضا من رسمت الجزء المفقود من تلك اللوحة "
تحركت من مكانها وقالت ببرود مجتازة له
" لكنك لن تجد حل لغز الجريمة فيها وستعتمد على ذكائك
هذه المرة يا وقاص "
تبعها بنظراته المصدومة حتى اختفت خلف تلك الستائر البيضاء ....
نادته باسمه وليس ابن ضرار ! وجريمة !! أي جريمة هذه التي
تحدثت عنها ؟ نظر للدفتر في يده وشعر بأنه يحمل سراً ما ..
سر آخر و ...... جريمة أخرى مدفونة ! لا هذه لن تكون كتلك
بالتأكيد هذه جزء من ماضيها هي .
رفع الغلاف ولا يعلم لما يشعر بتوتره يزداد تباعا وكأنه يواجه
حقيقة مخفية لأول مرة في حياته ولم يعرف جرائما بعدد شعر
رأسه ، رفع الورقة الأولى الفارغة وكان في مواجهة أولى
رسوماتها تلك ... كانت لامرأة لا بل لزيزفون في سن أكبر
قد تكون في الخامسة والأربعين !! مرر أنامله على
ملامحها ببطء ...
كانت وكأنها صورة حقيقية بدون ألوان ؟ هذا ابداع
منقطع النظير .... !! جدتها ... هذه جدتها بالتأكيد لقد
أخذت جميع ملامحها إلا هذه الابتسامة التي لم يراها على
شفتيها أبدا ولا أي واحدة من مثيلاتها ، كانت بملامح
مسترخية وابتسامة دافئة جدائلها قد استقرت في حجرها
من طولها ، أهذه هي المرأة التي جعلت جده ضرار السلطان
يتزوجها وسراً عن الجميع ؟ بل ويتركها في صمت كما
تزوحها ! رفع الورقة بسرعة وكأنه يهرب أيضا وبكل حمق
مما عانته تلك المتوارية خلف الماضي البعيد الأليم ، كانت
الرسمة التالية لرجل بلباس جيش عرفه سريعا ما أن نظر له
هذا ( عكرمة عماد الدين ) أحد رجال مطر شاهين ومن
مات بعد توحيد البلاد بعامين وبعد معاناة مع سرطان الرئة ...
يذكره جيدا فقد رآى صورته في الصحف كما أنه الرجل الذي
اهتم بزيزفون بعد وفاة جدتها ، يحار كيف لها أن تتذكر كل هذه
الوجوه والتفاصيل رغم صغر سنها ذاك الوقت !! هل توجهت
طاقتها الذهنية وقت مرضها لتخزين الصور ؟ قلب الصفحة
يريد معرفة باقي تسلسل حكايتها فظهر له وجه امرأة أخرى ...
هذه كانت بشعر أسود عكس جدتها التي كانت تظهر خطوط
رسمها بوضوح أنه شعر فاتح اللون كما عينيها تماما أما هذه
فسواد شعرها لا يضاهيه سوى عيناها وقد تدلى ذاك الوشاح
الأسود الخفيف على شعرها وكتفيها وكأنها اعتادت أن
تلبسه هكذا ...
كانت مبتسمة أيضا لكن ابتسامتها تلك كانت حزينة وشيء
ما في عينيها يشبه الدموع فمن تكون هذه ؟ أهي زوجة ذاك
الرجل أم ....... والدتها ؟
من منهما التي تولت رعايتها بعد موته ؟
ذاك هو الجزء المخفي عنه من الحكاية ، قلب الورقة مجددا
ليكتشسف حينها أن الصدمة الحقيقية كانت في الطريق إليه .....
هذا جده !! لا هذا ليس هو هذا أصغر منه بكثير لكنه يشبهه
تماما فكيف لها أن تعلم عن شكله من قبل أن تولد هي ؟
ثم عينيه ..! هذا لون عينيه ليس كجده لكن ملامحه ......!!
قبضت أصابعه لا شعوريا على تلك الأوراق وشعر بالعجز
أمام كل هذا فمن سيكون إن لم يكن هو ! ابنه إسحاق ... ؟
والدها !! لكن كيف لها أن ترسمه وهي لم تراه وقد قتل
منذ كانت جنينا في أحشاء والدتها ؟ حرك رأسه بعجز
ويشعر بأنه داخل متاهة وأصبح يخشى مما ستخفيه تلك الأوراق
أيضا لكنها سبيله الوحيد ليعرف ما عنت بقولها وما حدث معها
رغم توضيحها للأمر له وبأنه لن يجد من ماضيها وسبب حالتها
تلك شيئا هنا ، تنفس بعمق وهو يكشف عن الورقة الأخيرة
وحاجباه يعقدان ببطء وهو ينظر لتلك الرسوم التي لم تكن
لشخص هذه المرة بل لمنزل يحترق ... لا بل كان نصف
منزل تشتعل فيه النيران وأخشابه تتهاوى أما النصف
الآخر فكان .... ( ذئب ) يقف على قائمتيه الأماميتان ويرفع
رأسه للسماء ويعوي ، شعر بقلبه انقبض بقوة وبطريقة
غريبة وهو ينظر لذاك الحيوان والمنزل والنيران المشتعلة
وقد تذكر جملتها الباكية تلك في ذاك اليوم ( إنها تحترق تعالوا
أرجوكم ..... أوقفوه بسرعة فسيحرق كل شيء)
مرر أصابعه في شعره ونظر للأعلى أنفاسه القوية تخرج
متلاحقة وكأنها نيران تشب في صدره ..... ثمة جريمة
بالفعل ونار وأحدهم يحترق ثم موت ومتهم بريء ومجرم
قد يكون طليقا لكن من !! من التي احترقت ومن أحرقها ...
أكانت تلك هي الجريمة أم ..... ثمة من قتله انتقاما لها !!
تحرك من مكانه فورا بخطوات سريعة لم تتوقف حتى كان
أمام باب الغرفة الذي طرقه طرقات قصيرة منخفضة ومتتالية
كي لا تشعر به الموجودة في الغرفة المجاورة ولم تتوقف
طرقاته تلك حتى انفتح الباب وخرجت منه التي نظرت له
مستغربة وقد همست فورا " سيد وقاص ما ..... "
سحبها من ذراعها مبتعدان عن المكان وأوقفها أمامه
وقال ناظرا لعينبها
" من الذي كان يزور زيزفون ؟ ماذا حدث في ماضيها ؟
لابد وأنك تعرفين شيئا ... أي شيء وإن لم يكن مهما "
حركت رأسها بالنفي هامسة
" لست أعلم سيدي أقسم لك ... لم أراه يوما ولست أعلم
حتى إن كان شخصا واحدا أم عدة أشخاص فحتى زيزفون
نفسها تتكتم عن أمره وبشدة "
فتح الدفتر على صورة ذاك الشاب وأراها إياها وقال
" هذا هل رأيته سابقا ؟ "
نظرت لها بصدمه قبل أن تنظر لعينيه قائلة
" السيد ضرار ! "
حرك رأسه بالنفي ثم أخرج هاتفه من جيبه وفتش فيه قبل
أن يريها إياه قائلا
" وهذا ؟ "
نظرت للصورة لبرهة ثم نظرت له وقالت
" هذا مطر شاهين رأيته مرارا في الصحف والتلفاز لكني
لم أراه في غيرهما أبدا "
لوح بالدفتر في يده قائلا بضيق
" ومن سيعلم إن لم يكن أنتي ؟ عليا معرفة كل شيء ...
علينا إنقاذ زيزفون من ماضيها ومن نفسها ومن كل شيء
قبل أن تنتهي تماما "
ملأت الدموع عينيها سريعا وقالت بحزن
" ليته بيدي شيء لفعلته دون تردد لكني لا أملك لها إلا الدعاء
وظننت أن دعائي وضعك أنت في طريقها لتساعدها "
تنفس بعمق قبل أن يقول
" حسنا ماذا كانت ترسم سابقا ؟ عن ماذا تحكي لوحاتها
ورسوماتها في الماضي ؟ "
حركت رأسها نفيا قائلة
" لا شيء "
نظر لها بصدمة هامسا
" ما يعني لا شيء ! "
قالت من فورها
" كانت ترسم فقط ما كان يطلبه منها معلمها ذاك ولم ترسم
بنفسها شيئا أبدا إلا حين طلب منها هو أن تريه رسما
من تعبيرها لا علاقة له بدروسهم ولا بالأشياء التي يختار
أن ترسمها "
أومأ برأسه يحثها على المتابعة فقالت بتوجس
" كانت اللوحة لذئب "
نظر لها بصدمة شعر بأن أنفاسه توقفت معها قبل أن يورق
ذاك الدفتر ويرفعه أمام وجهها قائلا
" كهذا ؟ "
وضعت يدها على صدرها وقالت بحزن
" أجل لكن ليس هكذا كان يقف على صخرة مرتفعة وخلفه
قمر مستدير وتحت مخالبه أرنبا صغيرا وكان يعوي هكذا
رافعا رأسه للسماء وكأنه يسجل انتصاره على ذاك المخلوق
الضعيف ، لقد أثنى ذاك الرسام كثيرا على لوحتها تلك لأنها
لم تعتم ملامح ذاك الذئب رغم أن القمر كان مكتملا خلفه بل
أظهرتها بشكل متكامل ومميز ... فقط الأرنب والصخرة كانتا
معتمتين ، وقد أهدته تلك اللوحة ورفضت أن تبقى لديها "
نظر للدفتر في يده ولصورة ذاك الحيوان المفترس قبل أن
يسحب نفسا قويا لصدره مغمضا عينيه ... لا يريد أن تأخذه
أفكاره لذلك .. لا يريد ولا تخيله مجرد تخيل ، مد لها بالدفتر
قائلا بنبرة جوفاء
" أعطيه لها صباحا "
وغادر من هناك فور أن أخذته منه لا يجد تفسيرا واحدا لكل ذلك
ولا حتى لسبب رسمها الآن بينما كانت ترفض ذلك في الماضي !!
*
*
*
|