*
*
*
طرق الباب مجددا متأففا بغضب ونظر لساعته قبل أن يكرر
الطرق متلاحقا هذه المرة حتى انفتح الباب وخرجت منه التي
كانت تلبس سترتها وهي خارجة وتمسك مقبض حقيبتها بفمها
وما أن أمسكتها بيدها قالت بضيق تنزل السلالم خلفه
" لم تترك لي وقتا ولا لشرب فنجان قهوة ما كل هذا الاستعجال ؟ "
وقف والتفت لها فوقفت فجأة حتى كادت تقع وقال بحدة
" أوقات عملي لا يمكن تقليصها ولا تأخيرها آنسة غيسانة
عليك فهم هذا من الآن وصاعدا ، وها قد علمت وقت مغادرتنا
فكوني جاهزة قبله بوقت "
كانت ستتحدث لكنه قاطعها بأن أشار بإصبعه خلفها قائلا بأمر
" أغلقي باب شقتك فورا لما تركته مفتوحا ؟ "
نظرت خلفها قبل أن تعود بنظرها له قائلة بسخرية امتزجت بالحدة
" ومن سيسرق الكنز المدفون فيها وليس بها سوى ثيابي ؟ "
أشار مجددا قائلا بغضب
" غيسانة تغلقيه فورا أو لن يكون رد فعلي طيبا أبدا "
تأففت في وجهه وعادت أدراجها قائلة بغضب
" أجل يحق لك فأنت سيد هذه العبدة حاليا "
تجاهلها تماما ونزل السلالم ما أن أغلقته وقد عادت ناحيته
وقالت بضيق وهي تسير خلفه شبه راكضة لتجاري سرعته
وهو يتجه جهة سيارته
" بما أنك كنت تعلم أني سأأخرك لما لم تذهب بمفردك اليوم
حتى أعلمتني بموعد مغادرتنا بدلا من تركي هكذا أواصل
مسيرة الجوع لليوم الثالث على التوالي "
وصل السيارة وفتح بابها والتفت لها حيث أصبحت أمامه تماما
وقال بضيق مماثل
" تعلمين سلفا أني أخرج مبكرا من الليلة التي قضيتها في الشقة
أم أن نومك الثقيل حتى الظهيرة لا يترك لك المجال للشعور بأي
شيء ؟ اليوم ستستلمين راتبك مقدما وأحذرك يا غيسانة من
الاستهتار في صرفه لأنك ستكملي باقي الشهر جائعة حينها "
وركب مغلقا الباب خلفه بقوة متجاهلا صراخها الغاضب من
خلفه فدارت حول السيارة وركبت وقالت ما أن تحرك بالسيارة
" وكيف سيكون هذا ؟ راتبي للأكل ولا
مطبخ في ذاك الجناح
الضيق ؟ ظننت أنه بإمكاني استخدام مطبخ الشقة ؟ "
أدار المقود ليدخل شارعا فرعيا وقال ببرود
" شقتي أعيش فيها لوحدي ويستحيل أن نتشارك في مطبخها
وراتبك يكفي حسب اعتقادي ، وما أعلمه أنك لا تجيدين الطبخ
فما هذا الذي ستعدينه في مطبخي أم ستأكلين المعلبات التي
أشتريها ؟ "
نظرت له بحقد ولم تستطع قول شيء فهذا ما كانت تصبوا له
فعلا أما الآن فلن يبقى من راتبها شيء إن هي أنفقت منه
على الوجبات يوميا ، قالت تنظر بطرف عينها لنصف وجهه
المقابل لها
" وجبة الغداء يوفرها مطعم الشركة أليس كذلك ؟ "
أوقف السيارة عند الإشارة وقال بذات بروده القاتل ينظر
أمامه ويضرب بأصابعه على المقود
" بالتأكيد لكنه يخصم من رواتب الموظفين وأنتي ستعاملين
كواحد منهم ولك الخيار كالبقية وطبعا بعد أن تقرئي لائحة
رسوم التكاليف "
شدت على أسنانها بغيظ لا يمكنها ولا التعبير عنه ، أسوأ قرار
كان ذاك الذي اتخذته حين قبلت بذاك العقد المزيف وأوقعت
نفسها في كارثة لن تسامحها عليها ما عاشت ، نظرت له مجددا
وقالت باستياء ما أن تحركت السيارة
" هل يعقل أن أنزل للأسفل إن أردت كوب قهوة ؟ أي ظلم هذا ؟ "
أوقف السيارة في الموقف الخاص بالشركة ونظر لها وقال وهو
يخرج المفتاح منها
" ليست مشكلتي ولا تنسي الخروج ليلا ممنوع "
نظرت له بغضب وما أن فتحت فمها لتتحدث رفع هاتفه لأذنه
ودخل في مكالمة مع أحدهم ونزل من السيارة تاركا إياها تشتعل
في صمت لا يمكنها ولا التنفيس عنه فنزلت أيضا وضربت الباب
بكل قوتها وركلتها بقدمها بغضب وزاد اشتعالها رؤية الذي كان
يأخذ حقيبته من الكرسي الخلفي يمسك ضحكته على حركتها
الغاضبة تلك فشتمته هامسة ثم تحركت تتبعه حتى دخلا من باب
الشركة الزجاجي فوقفن موظفات الاستقبال فورا لدى رؤيته
والنظرات الفضولية تحدق بها فاقتربت حتى أصبحت ملاصقة
له ورفعت أنفها بكبرياء أمام تلك النظرات التي كانت تغضبها ،
ولتزيد النار حطبا أدخلت يدها في ذراعه وأمسكت بكم سترته
وما أن نظر لها بسبب حركتها تلك ابتسمت له ابتسامة كرتونية
واسعة فسحب ذراعه مدعيا النظر لساعته وهما عند المصعد
ثم مد يده ليدها وأمسكها ففغرت فاها من الصدمة وكانت المفاجأة
الأعظم أن وضع مقبض حقيبته فيها وتركها تهوي بها للأسفل مع
فكها السفلي وأدار ظهره لها ونظر جهة المصعد الخاص وضغط
زره وتركها للبركان الذي يغلي داخلها والذي زاده كتم أولئك
الموظفات لضحكاتهن ما أن رأين ما حدث فشعرت بجسدها
بأكمله يرتجف غضبا لن تستطيع التعبير عنه ولا حين يصبحان
لوحدهما بسبب ذاك العقد الذي وقعته بنفسها وكتبت ساعة
موتها معه
*
*
*
أبعدت اللحاف عن جسدها وغادرت السرير فلم تستطع النوم
أبدا والموجودة بعيدا عنها هناك غاضبة منها ، جمعت شعرها
في جديلة جهة كتفها الأيمن وأمسكت غرتها بمشبك صغير
فتحررت منه بضع خصلات معانقة جبينها وحاجبيها ، توجهت
لباب الغرفة وفتحته بهدوء وخرجت بدون حذاء حفيف خطواتها
الخافتة لاحتكاك جوربها بالأرض يكاد يسمع في ذاك المنزل
الساكن تماما فالوقت متأخر ولا أحد يتحرك فيه غيرها فعليها
جلب الهاتف لتتصل بوالدتها به لأنها لن تعرف صاحب الرقم
وخاصة في هذا الوقت فستجيب فورا وما أن تجيب عليها سيكون
بإمكانها شرح الأمر لها بل وترجيها لتسامحها ولتفهمها بأنها
لن تكررها مجددا ، تكره أن تزعجها هذا الوقت لكن لا حل
أمامها غيره فإن اتصلت بها صباحا ستكون في الجمعية ولن
تجيب عليها وهذا الوقت ستكون فيه مستيقظة لتصلي وتقرأ
وردها قبل صلاة الفجر ، وعدها عمها صقر أن يأخذها لكن متى
ما وجد وقتا وإن كان كما قال سيحاول أن يكون قريبا فهي تستبعد
أن يكون قبل يوم أو يومين لأنه لن يتفرغ لست ساعات فقط ليأخذها
ويرجع هنا ، وصلت بهو المنزل وأخدت الهاتف وحملته في حضنها
وعادت أدراجها بخطوات أسرع هذه المرة فما أن تذكرت حديثه عن
جنية قد تكون سكنت المكان وقت غيابهم شعرت بقلبها سيخرج
من بين أضلعها من الخوف ، دخلت الممر مسرعة وقفزت صارخة
دون شعور منها ما أن وجدت ذاك الجسد أمامها مباشرة وكاد
الهاتف أن يقع من بين يديها ويتحطم ، وضعت يدها على صدرها
وتنفست بقوة عدة مرات حتى كادت تبكي من ذعرها وقالت بصعوبة
" يا إلهي ... لقد أفزعتني "
وتراجعت للخلف لازالت يدها على قلبها تتنفس بقوة وصعوبة
هربا من الذي كان يتقدم نحوها حتى أصبحا في مجال الضوء
الخافت لبهو المنزل فأنزلت رأسها تعض طرف شفتها حين
اكتشفت أن الواقف أمامها بقميص داخلي بدون أكمام وبنطلون
قصير لم يتجاوز ساقيه يتنقل في المنزل هكذا وكأنه منزله !
بل ما هذا الذي جاء به من هذه الجهة والممر الجنوبي هو
الأقرب لغرفته وقدومه من ممر غرفتها معناه ضعفي المسافة
أو يزيد ؟
" من هذا الذي تتسللين ليلا من أجل محادثته ؟ "
رفعت نظراتها المصدومة له حين وصلتها عبارته الساخرة تلك
وكان نظره على الهاتف الذي تحضنه بقوة كي لا يقع قبل أن
تنتقل لعينيها فتسرب الحنق مع أوردتها حتى اشتعل في حدقتيها
الزرقاء وقالت بضيق
" اطمئن فلن أتحدث مع صديقي الانجليزي زعيم المافيا ذاك "
تحرك نحوها وقد دس يديه في جيبي بنطلونه فتراجعت للخلف
خطوتين وما أن حاول التحدث قالت بحنق مقاطعة له
" لن أسمح لك باتهامي مجددا ولا تنسى بأنك من رفض أن أخبر
والدي وأنا على استعداد لفعلها فورا "
ارتد رأسه للوراء ورفع ذقنه ناظرا لها فهذه المحتالة الصغيرة
ليست كما يبدوا عليها وتيقن الآن من أن دماء والدها تسري
في عروقها بقوة ، هذا ولم يعرف والدتها بعد ليعلم ما جمعت
منهما فها هي تهدده مجددا بأن ما يملكه ضدها لا أهمية له
وقد يتحول لسلاح ضده في أي وقت ، ابتسم بسخرية قائلا
" أنا لم أتهمك كان مجرد سؤال بديهي فإن قابلك والدك
لسألك مثله "
ضمت الهاتف لحضنها أكثر وقالت بضيق " بل تتهمني وفي
كل مرة وكل شيء وسبق وأخبرتك بأنها كانت مرة وحيدة "
رفع يده ومرر أصابعها على فكه وصولا لعنقه حتى تخللت
شعره ونظره على عينيها التي تسدل رموشها فوق حدقتيها
الزرقاء الصافية تتجنب النظر له ... يستغرب أنها حتى الآن
لم تحاول أن تبرر له موقفها وسبب ما فعلت وما دفعها لذلك
فلا يمكنه أن يصدق أن ابنة مطر شاهين تتربى على الرذيلة !
لو أنها كذبت وقالت بأنه من أرسلها هناك لهدف معين لكان قد
يصدقها أو أن يدخل الشك قلبه على الأقل لكنها فضلت الصدق
ولازالت تتمسك به حتى الآن رافضة أن تصوغ أي أكذوبة ولا
تفسير لذلك سوى أنها تتستر على أحدهم ولا تريد إخباره هو عنه ...
ابنة والدها حقا والدمية الجميلة كما يسميها جدها وقد صدق
فعلا فلم تبدوا أقل من دمية بتلك الجذيلة والخصلات المعانقة
لجبينها وملامحها الفاتنة الطفولية ، شد على فكيه ورفع نظره
بعيدا عنها ثم قال
" حسنا لما لا نعقد اتفاقا ؟ "
رفعت نظراتها المستغربة له فالتقت بنظرته الهادئة الموجهة
لحدقتيها مباشرة مما جعل دقات قلبها تزداد الى درجة مرعبة
فهي لم تعد تأمن هدوء هذا الرجل أبدا .. لم تعرف الرجال ولم
تدخل عالمهم المعقد من قبل وتشعر بالفعل بأنها أجبن من أن
تواجهه بقوة تشبهه فهو يفوقها في كل شيء حتى في سنوات
عمره وخبرته في الحياة لكنها لن تستسلم ولن تشعره بأنها
ضعيفة ليستغل ذلك وستتمسك بتلك القوة وإن كانت زائفة
ومجرد قشور فهي خسرت ثقته في جميع الأحوال بل خسرته
بجميع تفاصيله وهذا أكثر ما بات يؤلمها وليست تفهم لما كل
هذا الشعور القاسي بالألم والضياع !
" هل يستلزم الجواب كل هذا الوقت من التفكير ؟ "
زمت شفتيها بحنق من نبرته الساخرة ومن ثقته بنفسه ..
ذاك الوسيم المغرور المتعجرف ، ثبتت نظرها على عينيه
وهمست بجمود
" أحاول أن أفسر ما تقول "
مد سبابته لجبينها ودفعها منه برفق وقال بابتسامة
" هل سيفعلها هذا العقل الصغير حقا ؟ "
أبعدت يده عنها بضيق فها هو يستغل كل تلك العبارات ضدها ،
قالت بذات ضيقها
" أجل وقد قرر أنه لا اتفاق بيننا أبدا ولا يحق لك محاسبتي
ووالدي يمكنني شرح الأمر له وحده وسأرضى بعقابه مهما
كان قاسيا "
دس يديه في جيبيه مجددا ومال نحوها قليلا وقال
" حسنا وماذا بشأن ذاك الخاتم ؟ "
تراجعت خطوة للوراء وقالت بحزن
" ذاك يخص شخص أحبه كثيرا وقد مات من وقت قريب "
وعضت طرف لسانها وقد شعرت أن موقفها يزداد سوءا عن ذي
قبل وهي ترى تلك النظرة السوداء في عينيه الداكنتين وليست
تفهم لما تلك النظرة الغاضبة وما الذي قالته يغضبه ؟ لكنها لن
تفسر له أبدا فليفعل ما يحلو له وليظن بها كيف يشاء ، أخرج
يده من جيبه يمسك في أصابعها شيئا ما وقد رفعه أمام
وجهها قائلا
" وهذا ؟ "
نظرت له بصدمة ما أن اكتشفت بأنه خاتم الزواج الخاص
بوالدها والذي أحضرته معها من منزل والدتها ، أجل كيف نسيت
أمره وبأنه كان في يدها حين دخلت المكتب ؟ قال حين طال
صمتها وتحديقها به بين أصابعه
" هذا أيضا يخص شخصا ميتا ؟ "
خطفته منه بسرعة وقبضت عليه بقوة تضم قبضتها لصدرها
قائلة بضيق
" لا تقل هذا قسما إن مات صاحبه أن أموت "
كانت عبارتها تلك ما كسر باقي الجبل الجليدي بل ما حطمه
نهائيا وقد أمسك ذراعيها بيديه مقربا لوجهها منه متجاهلا
نظرة الخوف في عينيها وهمس من بين أسنانه
" ستصيبينني بالجنون حتما يا ابنة مطر ... أقري الآن بالحقائق
جميعها وكاملة أيضا "
فعرفت حينها بأنها تمادت كثيرا فقد كان ثمة لمعان خطير في
عينيه الباردتين جعل قلبها ينتفض بشدة وأعلنت الإستسلام فورا
فهي من الغباء أن فكرت بأن تخوض حربا ضد رجل مثله
بأسلحتها الضعيفة وموقفها السيء أساسا ، بلعت ريقها
وهمست بخوف
" هذا يخص والدي والآخر مربيتي فأبعد يديك لأنك تؤلمني "
سمعت حينها صوتا أشبه بتنهيدة ارتياح تسربت من تلك
الأضلع والصدر العريض بلغت من الرقة ما جعلها ترتاب أن
تكون من نسج خيالها وقد أبعد يديه عنها ومرر أصابعهما
خلال شعره للخلف وكأنه يبعدهما لأبعد نقطة عنها وتراجعت
هي للخلف عدة خطوات تنظر جانبا حيث الخطوات البطيئة
التي كانت تقترب من مكانهما فاقتربت منه مجددا ودفعته
من صدره بيدها بقوة هامسة
" غادر هذا والدي "
فتراجع سريعا جهة الممر الذي خرج منه لكنه لم يغادر كما
طلبت بل اتكأ بظهره على الجدار يديه في جيبيه يسند إحدى
قدميه للخلف ثانيا ركبته وينظر جانبا حيث تقف متجاهلا
إشارتها بأن يغادر يخفي الظلام المحيط بنصف جسده العلوي
ابتسامته على تكرارها لإشارتها حانقة لتعمده البقاء فقررت
أن تغادر أيضا بما أنه يتعمد أن يفعل ذلك لكن الذي خرج من
هناك لم يترك لها مجالا لتفعلها وقد وصلها صوته من خلفها
قائلا باستغراب
" تيما !! "
فتنهدت باستسلام وأشارت بأصابعها مهددة الذي ما يزال
واقفا هناك قبل أن تلتفت للذي نظر فورا لما بين يديها فقالت
من قبل أن يسأل
" أردت الاتصال بوالدتي لأنها قد تجيب فهي لا تعرف رقمه "
أنهت عبارتها تلك وتمنت أن رمته خلفها ليصيب رأس ذاك
المتطفل فلعله يرتاح الآن بعد أن علم الحقيقة ، قال الواقف
هناك بعد صمت لحظة وبجديته المعهودة
" سأتصرف بخصوص اجتماع عمي صقر وسأطلب منه أن يأخذك
لها فلا داعي لإفزاعها باتصالك هذا الوقت "
أنزلت الهاتف من حضنها ونظرت له بين يديها قائلة
" شكرا لك أبي "
أولاها ظهره وقال مغادرا
" لغرفتك إذا ولا تنسي حجابك وأنتي تخرجين منها مجددا حتى
يغادر قاسم من هنا "
مدت شفتيها بعبوس ووضعت الهاتف عند أقرب طاولة لها
وعادت جهة الممر الذي خرجت منه وما أن ظهر لها الذي
لم يغادر مكانه نظرت له بضيق وابتعدت في سيرها قرب الجدار
الآخر وهمست بحنق ناظرة له
" هل ارتحت الآن ؟ "
وما أن أنهت عبارتها تلك ركضت هاربة ما أن تحرك الواقف
هناك جهتها قائلا بابتسامة
" تعالي هنا لنرى "
*
*
*
ارتمت على الأريكة متنهدة بتعب تنفخ الهواء من بين شفتيها
بقوة تشعر بأنه سيغمى عليها من شدة التعب والإعياء فلم
تجلس دقيقة منذ وصلا إلى هنا والساعة الآن أصبحت الرابعة
ونصف مساء وتلك المضطهدة جعلتها تقوم بنصف عملها
وصعدت ونزلت بين الأقسام بعدد ضعف الساعات التي مضت
بثلاث مرات أو يزيد ولولا المصعد الخاص بالإدارة لكان عليها
صعود السلالم أو النزول منها كلما وجدت المصاعد العامة مغلقة
كي لا تتأخر هذا غير البحث مع تلك الفاشلة بين الأوراق والملفات
ولولا أن أوقفتها عند حدها لكانت استغلتها لتقوم بجميع أعمالها
وهي جالسة ، لا تفهم لما لا تتصل بموظفيهم لجلب ما تريد كما
يفعل البقية أم أن تلك الحرباء تفعل ذلك عمدا لتبعدها أو لتتعبها ؟
نظرت ناحيتها وكما توقعت كانت تنظر لها تلك النظرة الحقيرة
الكارهة وكأنها شوكة غرست في حلقومها فجأة ... أجل وما
ستتوقع من سكرتيرة عديمة أخلاق مثلها فجميعهن متشابهات
أول ما ستفكر فيه الحصول على رب عملها أو بالأحرى ماله
إن لم تحصل عليه هو ... هه تلك الفاشلة لا تعلم بأنه عربي مسلم
معقد متحجر متعجرف لن تحصل منه على شيء أكثر من عبارة
( صباح الخير كلاولديا ) التي يهديها لها كل صباح .
انفتح باب مكتبه وخرج منه يحمل سترته في يده فقفزت واقفة
فيبدوا أن يوم عملها الشاق سينتهي أخيرا ، أغلق باب المكتب
وقال ناظرا للتي وقفت من خلف مكتبها فور خروجه
" سأخرج لتناول الطعام يمكنك أخذ قسط من الراحة ولتأكلي شيئا "
أشارت له تلك برأسها بحسنا من فورها بينما نظرت لهما الواقفة
هناك ببلاهة ... يخرج ليتناول الطعام !! ألم ينتهي عملهم بعد ؟
حسنا وماذا عنها فهي لم تتناول شيئا أيضا ومديرة قسم المحاسبة
المتعجرفة تلك رفضت أن تصرف لها أي مبلغ قبل انتهاء يوم دوامها
الأول حسب القوانين طبعا ، راقبت نظراتها الذي تحرك من هناك
حتى مر قربها قائلا
" هيا جيسي أم لا تريدين الأكل ؟ "
نظرت حينها للواقفة هناك نظرة ماكرة وابتسمت بشر على تلك
النظرات الحارقة التي أرسلتها سكرتيرته نحوها فقد تركها تخرج
لتأكل وحدها أو تتصرف في نفسها بينما هي سيأخذها معه ويبدوا
أن تلك الفاشلة لم يسبق لها أن حضت بوجبة طعام برفقته ، رفعت
سترتها وحقيبتها ورفعت أنفها متعمدة وغادرت خلفه فهذا جزائها
على ما فعلته بها ولولا يقينها من أنها لن تصدقها وستسخر منها
لاعترفت أمامها وإن مكرهة بأنه خطيبها لكن ما سيكون موقفها
وهي تخبرها بذلك وبعينيها تراها تعمل كمرافقة له ؟ دخلت معه
المصعد وقالت مبتسمة
" وأخيرا وقت راحة ، أنتم إلى أي وقت تعملون ؟ ما أعلمه
أن دوام الشركات ينتهي عند الخامسة أو السادسة ؟ "
قال الواقف أمامها ناظرا لأضواء أرقام المصعد التي تهبط تنازليا "
ونحن دوامنا كذلك فهي قوانين موحدة لكن المدير وسكرتيرته
حالة استثنائية دائما إن كان ثمة أعمال مهمة لا تؤجل ونحن
مقبلون على مشروع مهم لشراء معمل طباعة "
تنهدت بضيق متمتمة
" تعني أياما أكثر من العمل المضني ؟ "
قال مبتسما بسخرية
" وماذا رأيت من الأعمال المضنية ؟ لازال هناك رحلات
العمل والحفلات والسهر على العقود والصفقات حتى الصباح "
نظرت له بصدمة وقد منعها باب المصعد الذي انفتح حينها
من الحديث وقد خرج منه من فوره فتبعته حتى وصلا سيارته
وما أن صعدت وأغلقت الباب حتى قالت بضيق
" وما علاقتي أنا بكل ذلك ؟ تركني شقيقي كخطيبة لك وسافر
وليس كعاملة لديك "
قال ببرود وهو يتراجع بالسيارة للخلف
" كنت كذلك وأنتي بنفسك من اخترت أن تغيري من موقعك
في حياتي فلا تلومي إلا نفسك يا غيسانة "
ضربت بقبضتها على فخذها وقالت بغضب
" أنت خدعتني واستغليت الوضع ومطر أخطأ حين رماني في
عهدة رجل لن يعاملني مثله مطلقا "
نظر لها مبتسما بسخرية قبل أن ينظر للبوابة التي خرجت
السيارة منها وقال
" هل باتت معاملة مطر لك سابقا تعجبك ؟ عجبا منك يا غيسانة "
أبعدت شعرها الذي تطاير مع الريح ما أن أسرع بالسيارة على
الطريق وقالت بضيق
" كان يعاملني كشقيقة يحبها على كل حال ، صحيح أن أفكارنا
ومعتقداتنا لا تتشابه وخلافاتنا كثيرة لكن ذلك لم يجعله يعاملني
يوما كعبدة لديه أبدا "
قال بضيق أيضا هذه المرة ونظره على الطريق
" أراد لك الأفضل لكنك ناكرة للجميل وإن عاد الآن مسئول
عنك أقسم أنك ستعودين كالسابق وأسوأ وستتذمرين منه طوال
الوقت لأنك امرأة برأس فارغ تريد فقط ما يخدم مصالحها
لا يعنيك كيف ولا لما حتى أنك وبكل غباء وقعت عقد عمل
دون التفكير في العواقب ولم تسألي نفسك من يكون رئيسك
ذاك وما قد يفعله بك فقط لأنك أردت الهرب مني لا يهم كيف
ولا إلى أين ، هذا هو تفكير النساء المتحررات السخيفات "
شعرت بأنه طعنها في مقتل درجة أن أخرسها تماما لكن بعض
الحقائق تكون أسوأ من أن يعترف المرء بها وسرعان ما بحثت
عما تطعنه به وبالطريقة الأمثل فقالت بحدة
" إن كانت زوجتك السابقة امرأة كهف جاهلة عاشت كجارية
لديك تضحك لك بكل بلاهة فقط لأنك منحتها ابتسامة رضا فهذا
لا يعني أنك تسعدها كثيرا بذلك يا .... "
أمسكت فمها بيدها وقد شعرت بأسنانها تحطمت جميعها درجة
أن دموعها نزلت دون إرادتها بسبب كل ذاك الألم تنظر بصدمة
ليده التي لازال يرفعها بعد ضرب فمها بظهرها بقوة وقد صرخ
وكأنه يهددها بضربها بها مجددا
" لا تتحدث واحدة مثلك عن تلك المرأة التي قدمت الكثير لي
دون أن تنتظر مقابلا مني ، من تحدت ظروفها وظروفي فقط
لتهبني عائلة واستقرارا وأنا أعيش وسط أناس ليسوا من قبائلي
ولم يتقبل أغلبهم وجودي بينهم ، من تحملت المرض والجوع
والمعاناة رافضة رجوعي كي لا أموت مقتولا ... لن تساوي
ولا ظفرها يا غيسانة أتفهمين ذلك "
كانت يدها لازالت على فمها ترتجف كارتجافه تحتها من الألم
ولازالت دموعها تنزل دون توقف ، تعلم بأنها تهورت وأخطأت
في ذكر تلك المرأة لكنه من أجبرها على ذلك وها هو لازال
يهينها بل وضربها أيضا وهي من لم تمتد يد رجل عليها سابقا ،
نظرت باستغراب للطريق التي سلكها والتي أدخلتهم للحي الذي
يسكنون فيه بدلا من المطعم الذي كان يفترض بأن تأكل فيه بعد
كل هذا الجوع والإعياء ! أوقف السيارة أمام باب البناية وقال
بذات غضبه
" انزلي هيا ولشقتك فورا لا أريد رؤيتك لباقي اليوم أو ارتكبت
فيك جرما ولا تخرجي يا غيسانة من الباب أو قسما أتاك مني
ما لم تريه سابقا "
نزلت فورا وضربت الباب خلفها ودخلت البناية راكضة لازالت
تمسك فمها وعبراتها التي فاقت صبرها وتحملها لكل شيء .
*
*
*
تبع بنظره الخادمة التي مرت بجواره تحمل ذاك الكيس الكبير
المنفوخ عاليا لتتمكن من السير به مستغربا مما يجري هنا
وفي هذا الصباح الباكر فعاد أدراجه وتبعها صاعدا السلالم
خلفها حتى وصل ممر غرفة والديه ودخل خلفها الغرفة التي
دخلتها ووقف ينظر مستغربا المكان والخادمتين مع والدته
في تلك الغرفة التي لم تكن موجودة سابقا وقد أصبحت مجهزة
تجهيزا كاملا وكأنها غرفة ملوك ، نظر للتي انتبهت لوجوده
بعد إغلاقها للخزانة المليئة بالثياب الجديدة وقال
" أمي ما هذه الغرفة ولمن ؟ "
مسحت يديها بالمنديل المعقم قائلة
" ليمامة طبعا "
نظر لها بصدمة تجاهلتها كما تجاهلته وانشغلت مع الخادمة
التي دخلت للتو وبدأتا في وضع ذاك الغطاء المحشو بالقطن
على السرير ... ليمامة وهنا وتجهزها بنفسها مع الخادمات !!!
حتى أنها ذكرت اسمها دون حتى أن تقول زوجتك ! اقترب منها
حتى وقف خلفهما يديه وسط جسده وقال
" ولما غرفتها هنا وممر غرفتكما رفضت سابقا أن يكون فيه
أحد ولا ابنتيك ؟ "
قالت وهي تعدل الوسائد البيضاء المطرزة بالخيوط الزهرية
" أجل كان من حقنا في كل هذا المنزل الواسع جهة هادئة تخصنا
والآن أريد يمامة قربي هنا "
قال بضيق ولازال يمسك خصره ناظر لها منشغلة عنه تماما
" لو لم يكن لديك ابنتان لعذرناك بممارسة الأمومة عليها ....
لما لا تضعي جهازا ليزر أيضا ينذرك إن مر أحدهم من
هنا لغرفتها ؟ "
وقفت والتفتت له ونظرت له تلك النظرة النارية الغاضبة التي
يعرفها جيدا والذي تخصه بها وحده دائما لأنه الوحيد الذي
يوصلها لتلك المرحلة المتقدمة من الغضب دون أن يهتم
للعواقب التي يعلم بأنها ستسقط على رأسه ، أمسكت وسطها
بيديها مثله أيضا مقابلة له الند بالند وقالت لمن حولهما
" أتركونا وحدنا "
فخرجن ثلاثتهن فورا وأغلقت آخر واحدة الباب خلفها فقالت
حينها بحدة
" أعتقد أن أمر الفتاة لا يعنيك يا أبان وأنك بلسانك قلت بأنك
لا تريدها وبأنها حجة وها قد أسقطها من على عاتقك فأنا
المسئول الوحيد عنها ما أن تدخل هذا المنزل ولا رأي ولا قرار
لك فيما يخصها سواء كانت غرفتها هنا أو في أي مكان
ولعلمك فقط بأن هذه المرة الأخيرة التي ستدخلها فيها وتحت
أي سبب كان وسأريك أي أمومة هذه التي سأمارسها عليها "
لوح بيده وقال بضيق وكالعادة دون اكتراث لغضبها
" أعتقد أن الطابق الثالث صمم ليكون منزلين لي ولغيهم يفتح
سلالم كل واحد منهما على الطابقين حتى السفلي وبه ثلاث
غرف فلن يقترب منها الغول أبان ومكانها هناك أفضل من
أن تضايق غيهم أو تتضايق من وجوده "
كتفت يديها لصدرها وقالت ببرود
" غيهم غرفته ستنتقل للأعلى أيضا أما أنت فقد اخترت أن
تستقل في طابقكم منذ وقت ويمامة ستكون هنا وانتهى النقاش
في الأمر "
أمسك خصره بيديه مجددا وقال بذات ضيقه
" وأي نقاش هذا الذي ابتدأ لينتهي وأي دور لي فيه أساسا ؟
أعتقد أن عقد الزواج سيشمل اسمي معها وليس أنت ومن
دون وجوده لا شيء سيأتي بها هنا فرجاء يا أمي أ.... "
قاطعته بغضب رافعة سبابتها أمام وجهه
" قسما أن تدخل هنا وإن زوجتها لوالدك ونقاش في الأمر
لا أريد فلا تجعلني أقسم بشيء سيندم عليه كلينا مستقبلا ،
سبق وقلت لا تريدها وبمحض إرادتك ولن تفكر مجرد التفكير
أن تجبر تلك الفتاة على ما لا تريده أتفهم ؟ "
نفض يديه وقال بغضب مماثل
" ومن قال هذا يا أمي فأنا أعلم منك بصغر سنها لكن أن
تهمشيني وهي زوجتي ولا قرار لي فيما يخصها فأمر لن
أرضاه أبدا "
صرخت فيه من فورها
" قل الآن أنك ترفض الزواج منها يا أبان وأرح رأسك ورأسي "
سكت تماما ولم يعرف ما يقول فما سيكون موقفه مع يمان
إن هو رفضها الآن ؟ ثم هو لن ينسى أبدا دموعه وسعادته
بخلاصه وخلاصها يكفيه أنه رفض مساعدته له وأن يعمل معهم
رغم كل إلحاحه الشديد ، يبدوا أن الواقفة أمامه تعلم ذلك جيدا
وباتت تتخذ أساليب قتال جديدة فهو أكثر من يعرفها فلم يكن هذا
رأيها سابقا وكان عليه أن يتزوجها رغما عنه كما كانت تقول ،
طرقات على باب الغرفة قطعت كل ذاك الجو المشحون بينهما
حين تحدث ذاك الصوت الرجولي وقد انفتح الباب ببطء قائلا
" أمي "
وفتح ذاك الباب على اتساعه كاشفا عن صاحب ذاك الجسد
الطويل ببذلة الطيران الخاصة ونظر لهما ومقبض الباب لازال
في يده وقال باستغراب
" ما بكما تتشاجران أمي ولمن هذه الغرفة ؟ "
نظرت له ولازال تنفسها الغاضب يخرج قويا فعلم أن أمرا
سيئا جدا حدث وأسوأ منه قد يحدث إن لم تهدأ ابنة شاهين
الحالك تلك حتى أنها لم تستقبله بذاك الحضن وتلك النظرة
الفخورة والابتسامة المحبة كعادتها حين يرجع من رحلاته
التدريبية رغم أنه هذه المرة تغيب لفترة أطول من سابقاتها
فأهم ما في هذه المرحلة هو اكتساب أكبر عدد من ساعات
الطيران في الجو لأنها من سترفع درجته ككبتن طيران ، سحبت
نفسا حادا ونظرها لازال مركزا على عينيه وقالت بجمود وإن
كانت أنفاسها الغاضبة لازالت تخرج كالإعصار
" قل أنك تفعلها الآن يا غيهم وتتزوج من التي رفضها شقيقك "
نقل أبان نظره بينهما بصدمة بينما دخل هو مقتربا من والدته
وأمسك رأسها وقبله وقال
" أتزوجها يا أمي وكانت من تكون فقط لا تغضبي فجميعهن
نساء الواحدة تأخذ مكان الأخرى أما أنتي فلا أحد يأخذ
مكانك أبدا "
نظرت حينها للذي لازالت نظراته المصدومة تحدق بهما وقد
قال من فوره وبحدة
" أمي ما هذا الذي تنويان فعله ؟ ماذا ستقولون لوالد الفتاة ؟
غيرنا اسم العريس ! "
ضربت كفيها وقالت بحنق
" نقول له ابننا ظهر أنه طفل ولا كلمة له فزوجها للآخر وامسحها
في وجه والدته "
قال بغضب
" لن تضعيني في هذا الموقف مع صديقي يا أمي ، لن أسمح
بذلك أبدا وأبعدي ابنك عن كل هذا والفتاة سأتزوجها
وانتهى الأمر "
تجاهلته ونظرت جهة غيهم وقالت ناظرة لعينيه ويدها تمسح
على ذراعه
" استحم أنت الآن وسأرسل لك الطعام لغرفتك بني لتنام
بعدها وترتاح "
وخرجت من هناك دون أن تضيف شيئا نظرات غيهم تتبعها
حتى غادرت ثم نظر للذي كان يكتف ذراعيه لصدره ناظرا له
بغضب وقد قال من فوره
" في المرة القادمة أبرز شهامتك بعيدا عما يخصني يا ابن والدتك "
حرك رأسه بيأس منه وقال بجمود
" لست أعلم كم مرة سأشرح لك بأن إغضابها لن تجني منه شيئا
سوى تردي وضعك مع الجميع وأولهم من عرشه فوق السماء
وأنك ستخرج خاسرا في حرب أنت فيها الأضعف ووالدك يقف
في صفها دائما "
وتابع بابتسامة ساخرة
" ثم أين خططك الرائعة تلك ؟ ظننت أني ما أن سأصل سأجدك
خلصتنا من ذاك الزواج كما تقول وليس لأجد عروسك في انتظاري "
خرج حينها بخطوات غاضبة قائلا
" بل هنيئا لي ولك بمستقبل ترسمه والدتك كيف تشاء "
حرك الواقف هناك رأسه بعجز وخرج أيضا لازال يمسك قبعة
الطيران تحت ذراعه وتوجه جهة ممر غرفته
*
*
خرج من مبنى المحكمة وتخطى عتبات بابها الرخامية المرتفعة
مبتعدا عن المارة الداخلين والخارجين من ذاك المكان الذي لا
يتوقف عن استقبالهم ، وقف أمام سيارته ونظر للورقتين في يده
فها هو وثق اليوم طلاقين لامرأتين ليس يعلم ما سيكون مستقبل
كل واحدة منهما بعد هذا اليوم وهل سيصل به الأمر لأن يندم على
كل هذا يوما ما خاصة من سعى بنفسه لطلاقها ؟ التفت للخطوات
خلفه وكأن ذاك الشخص قرأ تماما ما كان يفكر فيه ولم يكن سوى
من وقع على إحدى الورقتين بنفسه وقال فورا ناظرا لعينيه
" لم أكن أريد قول ما سأقوله الآن قبل أن أوقع ورقة الطلاق
كي لا تظن أني سأقول ذلك فقط لأغير من قرارك ، وفقط لنكون
على بينة من أجل المستقبل فابنة عمتك هي من دمرت حياتنا
معا بغرورها وأنانيتها ومن أجبرني على الزواج بأخرى لأنه
ما أن تعسر وضعي المادي قليلا وتوقعت أن أفلس حولت حياتي
لجحيم ولولا الأولاد ما أبقيتها معي يوما بعدها "
رفع عمير الورقتين وقال
" ابنة عمتي لم تعد زوجتك ولا يحق لك أن تتحدث عنها لا بالخير
ولا بالسوء وما كان بينكما يجب أن يدفن حيث كان فأنا لن أسمح
أبدا بذلك وعمتي يوم طلبت مني إنصافها أنصفتها بما أرضاك
أنت وبموافقتك كي لا أظلم أحدا منكما "
ابتسم الواقف أمامه ابتسامة جانبية وقال
" وهذا ما أعرفه عن رجال مطر شاهين لكن تذكر فقط ما سأقول
وما وعدت أنت به وما أنا واثق منه فإن فكرت ابنة عمتك في
التضحية بطفلاي من أجل مطامعها وتخلت عنهما بسبب أنانيتها
أن أبنائي لن يتربوا إلا عندي وما تركتهم إلا لأنك من سترعاهم
ولأنك وعدت بأنه بإمكاني رؤيتهم متى أردت وأنا اخترت أن
يكونا لدينا بالتناوب أسبوعين بأسبوعين وإن كرهوا يوما الذهاب
معي سأتركهم من نفسي لها "
مد عمير يده له فصافحه ذاك شادا عليها وقال
" وهكذا يفكرون الرجال الحقيقيون يا قصي وبما أنها من طلب
الطلاق سقط حقها في المطالبة بأي شيء وأنا بالفعل لا أريدك
عدوا لي بل أن أكسبك صديقا فتبقى والد أبناء ابنة عمتي اللتان
لا أحد لهما غيري "
*
*
*
*
سحبت الكرسي وجلست ووضعت حقيبتها تنظر للتي جلست
مقابلة لها عند إحدى طاولات مقهى الجامعة وقد رمت حقيبتها
أيضا وتنهدت قائلة بضيق
" ما كل هذا ؟ ست ساعات في محاضرتين متتاليتين مملتين !
لا أسوأ من كين سوى موادكم ماريه بالله عليك ما الذي فهمته
مما قيل فيهما ؟ "
اتكأت بذقنها على راحة يدها وتمتمت ببرود
" لا شيء طبعا وكأني لم أعرف الإنجليزية حياتي "
أخرجت ساندرين هاتفها من حقيبتها بعد رنينه ونظرت لشاشته ثم
قلبته على الطاولة بعدما غيرته على الوضع الصامت وقالت
" لقد تأخرت عنهم قليلا هذا هو السبب وصديقات كين أولئك
سيساعدنك بالتأكيد "
رفعت غرتها بأصابعها وتنفست بتعب هامسة
" أتمنى ذلك "
وهذا جل ما كانت تتمناه وتعلق أمالها عليه فتغيير سير دراستها
وتأخرها قليلا عن الالتحاق بالجامعة سبب لها مشكلة كبيرة
فهي لا تعلم شيئا تقريبا عن أساسياتها هذا إن استثنت الأرقام
والعمليات الحسابية المعقدة لأنها كانت تبدع في فكها وحلها دون
عناء لكنها شعرت فعلا بأنها في دوامة والأساتذة يشرحون دون
توقف ولا لأخذ نفس والأسئلة ممنوعة وليس على لسان كل
واحد منهما سوى عبارة واحدة من حين للآخر
( ابحثوا عن هذا في الكتب الخارجة (
ويرفعون عن عاتقهم طبعا مهمة شرح ما يعتبرونه ليس من
مهامهم ولن يستطيع الطالب فهم أي محاضرة قبل أن يبحث عن
كل تلك التعقيدات أي أنه لا جدوى منهم سوى في نقل المحاضرة
فقط ، كين أخبرها أنه مع الوقت ستتأقلم مع نظام الجامعة وطرق
أساتذتها وسيصبح كل شيء سهلا وهذا ما وجدته فعلا فهو كان
يعلم على ما يبدوا بأنها لن تفهم شيئا مما سيقال اليوم لذلك طلب
من تلك الفتاة تحديدا صاحبة النظارات الطبية السميكة أن تعيرها
جميع مذكراتها ومسودات المراجع في أقرب وقت ممكن فهو
وفوق تسلمه مهمة تعريفها بالمكان شبرا شبرا حتى أنهم قاموا
بزيارة الغرف الخاصة بالإذاعة الطلابية هناك ومطابع الجريدة
وتجليد الكتب ومشاريع التخرج بحث لها عن أهم وأنبغ الطالبات
اللآتي درسن قبلها ومن أبدين استعدادهن الكامل لمساعدتها ،
نظرت للتي عادت للجلوس بعد مغادرتها لجلب القهوة وقالت
وهي تأخذ الكوب الورقي منها
" لما شقيقك ترك المنزل وغرفته ما تزال هناك ؟ "
رفعت ساندرين كتفيها وقالت وقد بدأت بتحريك القهوة المخفوقة
في الكوب بالملعقة البلاستيكية ونظرها على ما تفعل
" كين يفكر كجميع من يعيشون هنا ... الاستقلال والحرية ومواجهة
تقلبات المستقبل بقوة ليثبت لنفسه أنه قادر على أن يعتمد عليها
فقط لذلك اختار الخروج من المنزل رغم أن والدي لم يكن راض
أبدا عن ذلك لكنه استسلم نهاية الأمر "
قالت الجالسة أمامها بفضول
" هل يقيم هنا في سكن الطلاب ؟ "
حركت رأسها بالنفي ووضعت الملعقة جانبا قائلة
" والدي رفض ذلك كان خائفا عليه من أن يقع فريسة لأسباب
الانحراف خاصة أنه غادر منذ كان في التاسعة عشرة لذلك اختار
له بنفسه أين سيقيم وطبعا كان ذاك شرطه ليوافق على مغادرته "
ثم رفعت كوبها ورشفت منه وهمهمت بتلذذ قبل أن تضعه مجددا
قائلة
" طلب من تيم أن يسمح له بمشاركته شقته وكانت تلك أول
محاولات والدي الفاشلة للتقرب من ذاك الكنعاني "
نظرت لها باستغراب وهمست
" يقيم مع تيم ؟ "
حركت رأسها بالنفي فورا وقالت
" أخبرتك أنها محاولة فاشلة فزوجك رفض بطريقة تعد لبقة
أمام طباعه وكرهه لنا وأرسله ليشارك شخصا آخر شقته وكان
صديقا له قد وافق والدي عليه فورا لكن ذاك الشاب غادر بريطانيا
منذ وقت قصير وأصبح كين مضطرا للبحث عن شريك آخر لدفع
إيجار الشقة حتى يتخرج وحينها سيكون بإمكانه العمل في مكان
جيد وبراتب ممتاز فهذا ما توفره الشهادات الممنوحة من هذه
الجامعة "
نظرت لكوبها قبل أن تعود بنظرها لها قائلة
" ولما رفض أن يقيم معه ؟ هو ليس فرد من عائلته على كل حال "
حركت كتفيها قائلة
" لم يكلف نفسه شرح أسبابه ولا أحد يعلم لما "
وتابعت بنبرة ماكرة تنظر لها بطرف عينها وهي ترتشف من
كوب قهوتها
" يبدوا أنه لديه صديقة ما يرفض أن يفتضح أمرها "
وضحكت فورا على التي شرقت بالقهوة وبدأت بالسعال
فمدت لها بكوب الماء قائلة بضحكة
" أمزح ماريه فلا تموتي هنا وأسجن بسببك ، ثم اطمئني أجزم
بأن ذاك اللوح البارد لم يعرف امرأة في حياته "
أخذت الكوب منها وشرب منه وقالت بضيق وهي تضعه بقوة
على الطاولة
" مزاحك سخيف هل تعلمين ذلك ؟ "
ضحكت من فورها وكانت ستتحدث لولا علا رنين هاتفها مجددا
فنظرت للمتصل وقلبته مجددا دون أن تجيب فقالت
الجالسة أمامها
" لما لا تجيبين على هذا الشخص الذي يتصل بك من وقت ؟ "
رفعت كوب قهوتها قائلة ببرود
" لن أجيب عليها تلك الهازانية الحمقاء وسأعلمها درسا لن
تنساه أبدا كي لا تبيع صديقتها من أجل هازاني أحمق مثلها "
نظرت لها باستغراب وقالت
" هي من الهازان أيضا ؟ "
وضعت الكوب وأومأت برأسها إيجابا وقالت بضيق
" أجل للأسف وكنت غبية حين عقدت صداقة حمقاء معها
ونسيت بأن تلك الدماء الخائنة تجري في عرقها "
تمتمت الجالسة أمامها ببرود تنظر لكوب قهوتها
" توقفي عن نعتهم بالخونة ساندي أو أنا من ستغضب منك "
تأوهت من فورها قائلة
" عذرا ماريه لم أقصد اهانة زوجك "
وتابعت تكتم ضحكتها
" ونسيت أنها ابنة عمه أيضا "
رفعت نظرها لها وقالت مستغربة
" عمه !! "
شربت آخر ما في كوبها وقالت
" أجل ولديه ابن وإبنة وهو الوحيد من أعمامه الذي فر ولم
يصلبه ابن راكان أمام الناس ، ولديه عمة أيضا هي زوجة
لابن ضرار سلطان صاحب إحدى أكبر شركات صنع الطائرات
والطيران في بريستول وطبعا جميعهم في عداد الموتى بالنسبة
له ووالدي معهم ، وهذا بالإضافة لوالده "
نظرت لها هذه المرة بصدمة لم تفق منها بسهولة وقد همست
بحروف بالكاد تسمع
" والده على قيد الحياة !! "
حركت رأسها بنعم وقالت
" أجل فر أيضا من الموت الذي كان سيلحقه لأراضي الحالك
وعاش هنا ويملك أيضاً إحدى كبرى شركات صنع الورق
والأدوات المكتبيه والهندسية في لندن وجامعتي يتعاقدون كثيرا
مع شركته تلك وأسمها بات مشهورا فيها كما الحال مع
جامعات عدة "
حركت رأسها بعجز عن استيعاب كل هذه الحقائق التي تستغرب
أساسا كيف استوعبها عقله ما أن وجدها هنا أمامه ..!
قاطع أفكارها تلك رنين هاتفها في حقيبتها ففتحتها وأخرجته
ونظرت لشاشته قبل أن ترفع نظرها للجالسة أمامها تنظر لها
بفضول وقالت
" هذا تيم !! "
ضحكت من فورها وقالت
" عليك أن تراجعي جميع تصرفاتك اليوم فثمة خطأ سيوبخك عليه
بالتأكيد "
نظرت لها بضيق فقالت تمسك ضحكتها
" لا تجيبي وأخبريه أنك كنت في المحاضرة "
نظرت للهاتف ولإسمه في شاشته وأغرتها الفكرة فلينتظر
وليجرب شيئا من التجاهل الذي يعاملها به ، عاد الهاتف
للرنين مجددا فهمست الجالسة أمامها مبتسمة
" إن اتصل بي سأخبره بأنك في مقهى الجامعة "
نظرت لها بحنق ولم تستبعد أن تفعلها هذه المجنونة فالتهور
يسري في دمائها ، تنهدت بعمق وفتحت الخط تراقب إشارة
الجالسة أمامها بأن تفتح مكبر الصوت لتسمع معها لكنها
تجاهلتها بحركة رافضة من رأسها ووضعت الهاتف على أذنها
ليصلها فورا ذاك الصوت الرجولي العميق الجاد
" مرحبا ماريا "
شعرت بتلك الضربات الحمقاء في قلبها تتصاعد تدريجيا
ما أن سمعت صوته وعبارته تلك فها هو هذه المرة رحب بها
على الأقل وتذكر أصول اللباقة ، تاهت الحروف مع أنفاسها
المضطربة قبل أن تجيب بل ولم يعطها من في الطرف الآخر
وقتا لتصيغ تلك الكلمات وقد قال دون أن ينتظر ردها أكثر
" هل أنتي في الجامعة الآن ؟ "
همست فورا
" أجل"
قال مباشرة
" كيف كانت محاضراتك اليوم ؟ "
قالت بعد تردد لحظة
" جيدة نوعا ما "
وصلها صوته فورا
" ما تعني بنوعا ما ؟ هل من مشاكل واجهتك هناك ؟ "
مررت أصابعها في شعرها للأعلى وقد أخفضت رأسها حيث
كانت تتكئ بمرفقها على الطاولة تنظر لحقيبتها تحتها وقالت
" وجدت بعض الصعوبة في الفهم لأني لم أ ...... "
قاطعها من قبل أن تنهي حديثها
" قد تحتاجين لدورة لتعلم المبادئ أولا ماريا أليس كذلك ؟ "
زمت شفتيها وقبضت أصابعها لا شعوريا على الهاتف وقالت
" يبدوا لي ذلك ثم ثمة طالبات هنا أبدين استع ....... "
قاطعها مجددا
" سأهتم بأمر إلحاقك بدورة مسائية مدتها أسبوعان وستكون
كافية ، أين أنتي الآن ؟ "
مطت شفتيها بحنق ولو كان أمامها الآن لخنقته لا محالة ،
قالت ببرود
" في مقهى الجامعة "
وصلها صوته الحانق فورا
" لما تقوليها هكذا ماريا ؟ "
شدت أصابعها في شعرها حتى آلمها من شدة غيظها منه وقالت
" تيم لما تقف لي على الكلمة ؟ أنا أجبت على سؤالك فقط "
قال وكأنه لم يسمعها
" من معك هناك ؟ "
دست عينيها في راحة يدها التي لازالت تتكئ بمرفقها على
الطاولة تعض طرف شفتها بقوة آلمتها غيظا ليس منه فقط
بل ومن نفسها وصمتها عنه حتى الآن فلن تتخيل أنه اهتماما
منه مطلقا فقد يولي اهتماما بالقطة التي تنام أسفل منزله أكثر
منها ، قال مناديا حين طال صمتها
" ماريا .... "
تنهدت بعمق وقد حررت شفتها وقالت بجمود
" مع ساندرين فهي اختارت أن تكون معي اليوم لأتعرف على
المكان ، هل ثمة سؤال آخر ؟ "
سمعت بوضوح تنفسه القوي دليل تمسكه بالصمت عن الصراخ
الغاضب في وجهها وقال
" حدثني عم والدك اليوم بخصوص سيارة لك "
شعرت بغصة مؤلمة في عمق قلبها من قوله عم والدك بدلا من
عمي أو حتى عم والدتي ولا يمكنها لومه على نبذه للجميع فهي
أكثر من عايشت ما عاناه ووالدته وما حدث معهما فكم ناما
جائعين وكم تحمل المهانة والسب والشتم من الجميع وكم رأت
الأسى والحزن في عينيه على حالتها وعن عجزه عن فعل أي
شيء ليوفر لها علاجها على الأقل وتعترف بأنه لا يحق لأحد
الآن أن يعترض على نبذه لهم وكل واحد منهم يعيش هنا
مرفها متجاهلين تلك التي ماتت بسبب المرض والإهمال ،
تنفست نفسا عميقا وهمست
" أخبرتني ساندرين عن ذلك "
قال من فوره
" ما رأيك أنتي في هذا ؟ "
لوت لسانها داخل فمها تمنع نفسها عن قول تلك العبارة التي
تعلم بأن ثمنها سيكون توبيخا معتبرا منه ، فمنذ متى كان يأخذ
رأيها في شيء يخصها ؟ قالت بكل ما استجلبته من هدوء
" لا يمكنهم تكريس وقتهم لإيصالي للجامعة دائما فلكل واحد
منهم عمله المرتبط به ولست أرى الحافلات ولا سيارات
الأجرة حلا "
قال من فوره
" لا بأس إذا لكن الاستهتار ممنوع ماريا والخروج بها ليلا
ممنوع منعا باتا وتحت أي سبب كان ولن يركب معك فيها غير
عمك أو زوجته وابنته "
سوت جلستها وهي من أعلنت عليه الحرب هذه المرة وقد
قالت بضيق والدموع بدأت بملئ عينيها المحتقنتان غصبا وأسى
" تيم لا أفهم لما تقيد نفسك فعلا بفتاة لا تريدها درجة أن تحاول
جعلها تكره كل شيء حولها لتكرهك أنت "
أنهت جملتها الحانقة تلك تسحب الهواء لرئتيها وأشاحت
بوجهها جانبا متجاهلة التي صفقت لها بصمت مشجعة
تمردها الأول عليه وأغمضت عينيها بشدة ما أن وصلها
صوته الغاضب
" لا احد يجبرني على تحمل أمر لا أريده ماريا أتفهمين هذا ؟
أعيدي هذا الكلام مجددا وسيكون لي حساب آخر معك "
شدت على أسنانها بقوك وغضب ورمت الهاتف على الطاولة
متمتمة بضيق
" المتعجرف أغلق الخط في وجهي"
ضحكت الجالسة أمامها من فورها ولم تهدأ من ذاك الضحك
إلا بعد وقت وقالت
" ما الذي كنت تتوقعينه منه مثلا ؟ أن يقول لك لا بالله
عليك لا أريد أن تبتعدي عني"
نظرت لها بضيق ووقفت وحملت حقيبتها وقالت تدس
الهاتف فيها
" ها قد انتهت قهوتك فلنغادر من هنا فهذا المكان بات
خانقا بشكل مقيت "
وقفت تلك من فورها وحملت حقيبتها أيضا وغادرتا معا
على صوتها قائلة بنزق
" لست أفهم لما يعكر لك ذاك الهازاني مزاجك وأدفع أنا الثمن ؟ "
*
*
*
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع