الفصل العاشر

وقفت روث على قمة الهضبة الصخرية , وكانت اطراف ثوبها تتحرك حول ساقيها المرتجفتين . وهبت نسمة حارة فتطاير شعرها وجفف الدموع فوق وجنتيها.
وقفت جامدة تحدق بالبحر لكن بسبب عينيها المغرورقتين بالدموع لم تر شيئاً سوى تعابير وجه فرناندو القاسية.منتديات ليلاس
هتفت باسم ستيف وكأنها تخفف من توتر اعصابها , وحمل النسيم الحار فوق جناحيه هتافها الى الرجل الذي كان يخطو خطوات سريعة نحوها. ودارت تترنح لدى سماعها وقع الخطوات فوق الاغصان اليابسة على الأرض.
" تنادين على ستيف طبعاً. ومن غيره لتنادي عليه؟"
نظرت روث الى فرناندو والهلع يطل من عينيها , كان يبدو شاحباً شديد التوتر وهو يقف امامها تماماً. ارادت ان تندفع نحوه, لترتمي بين احضانه وترتاح فوق صدره كما يرتاح هو فوق صدرها. ودت لو يقول انه يحبها حباً صادقاً ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث. تمنت لو انها ساعة الغروب ترافقها عاطفة حب عارمة ومجد ساطع وحب ابدي لا يموت. لكن للأسف لن يحصل شيء من هذا كله .. بعد الآن.
" ظننت .. ظننت انك ستيف " همست اخيراً من بين انفاسها المتلاحقة وهي تهدئ من افكارها المتصارعة وتوقفها عن اضطرابها وهيجانها الكبير. قالت بهدوء" انه سبب وجودي هنا, ارجو ان لا تنسى ذلك , كيف حاله ؟" سألته مستطلعة بشوق عن حاله.منتديات ليلاس
لم يتحرك فرناندو , بل بقي واقفاً امامها يتأملها بعينين زائغتين لا حياة فيهما.
قال لها " إنه يعاني من صدمة , وهذا واضح في ظل هذه الظروف , لقد تركتهما بمفردهما حتى يتوصلا الى تفاهم على كثير من الامور "
سوت روث اطراف ثوبها بيدين مرتعشتين , ارادت ان تصفعه في وجهه على بشاعة شراسته اللامتناهية , لأنها الطريقة الوحيدة كي تحافظ على نفسها من الانفجار غضباً عليه. لكن كل الذي فعلته انها رفعت وجهها عاليا ونظرت اليه ببرودة اعصاب.ريحانة
" ألم .. ألم تشبعه ضرباً؟" سخطت بازدراء , وعيناها تضيقان" انني لن احتمل ابداً رؤيته يتألم"
ضاقت عيناه هو الآخر " ولِمَ..اشبعه ضرباً؟ فقلبي يميل إليه "
انفجرت روث بغضب " كاذب! فلا قلب لك! كانت نيتك دائماً ان تدمره وتدمرني "
" روث؟"
" لا تستعطي الشفقة مني. إن جئت إلى هذا المكان لتطلبي السماح مني, فهذا ما لن امنحك اياه. لأنني لن اسامحك ابداً كما انني لن انساك ماحييت!"
اسرعت بالابتعاد عنه لكنه التقط ذراعيها ودار بها نحوه , وهو يهز كتفيها ليهدئ من اضطرابها . كانت لمسته كعقاب اخير بالنسبة اليها . والعذاب الأسوأ من هذا كله كان عندما راحت يداه تمران على وجنتيها . فتراخت اعصابها , واجتاحتها عاصفة من العواطف المؤلمة الى ان ألم بها دوار شديد مثل كل قدرة لديها.

صاح بحرارة " إلى اين انت ذاهبة ؟" وعيناه تعودان الى طبيعتهما وهما تومضان بخطر شديد.
قالت " طبعاً, إلى ستيف , هذا هو سبب وجودي هنا, هذا سبب استدعائك لي إلى هذا المكان. انه في حاجة إليّ"
" إنه في حاجة الى ماريا الآن يا روث, دعيه في حاله.. دعيه بنفس الطريقة السهلة التي تركتني بها"
انفرجت شفتا روث وكأنها تلقت صدمة عنيفة " أدعه.. أدعه في حاله.. كما تركتك!" همست غير مصدقة " لقد طردتني من حياتك بغدرك و خيانتك!" وحاولت جاهدة ان تحرر نفسها من قبضته المحكمة لكن محاولاتها بدت فاشلة.منتديات ليلاس
كانت عيناه تنذران بالخطر , والغضب العاصف يغير من لون بشرته " الغدر والخيانة؟ كيف تقولين هذا وأنا لم أقدم لك سوى الحب بعاطفة لاهبة, لكنك قذفت كل ذلك في وجهي ولم تمنحيه أدنى اهتمام. لقد وهبتك قلبي و روحي"
صاحت روث " لم تهبني شيئاً يا فرناندو ! قلبك و روحك كانا ابداً لماريا لويزا"
هزها بعنف" تعلمين جيداً ان هذا ليس صحيحاً ! اتعلمين ان لا شيء بيننا"
" كان كل شيء بينكما.. الذي اعتقدت بأنه ملكنا .. في سفيل .. وهنا. احببتك وكنت دائماً اظن انك تحبني "
" احبك يا روث" همس بعاطفة كبيرة اغرتها في ان تصدق كلامه. لكن , كانت استنتاجاتها تصرخ بالحقيقة عالياً, وهي ان هناك شيئاً يربطه مع ماريا لويزا وسيبقى دائماً , فهناك قيد يشد وثاقهما ومامن شيء يمكن ان يحله لا منها ولا من ستيف.
احست في خضم صراعها المتاجج في نفسها بين الصدمة والرعب الشديد, وشعرت بموجة من الأمل تداوي قلبها الجريح كشعاع منير اضاء عتمة ظلام السماء . ارتخت اعصابها المتوترة وهي ترتمي بين احضانه. احست بقواها تتلاشى , ولم تستطع ارادتها ان توقف ماكان يختلج في نفسها.ريحانة
كانت قائمة ولا تزال , تلك العاطفة الملتهبة وذلك المجد الكبير والاندفاع الحار في مشاعرها والتي ادركت انها ستحتفظ بها له دائماً. لكن لا مكان لكل هذا في حياته وصرخ قلبها بنداء موجع.
" آه , لا... ارجوك لا تفعل هذا بي يا فرندو" واجتاحتها نوبة بكاء مريرة وهي تبتعد عنه. كانت عيناه متستعتان كظبي خائف هارب من براثن الأسد وهي تحدق به " إنك تعلم ان هذا لن يتم ابداً"
" أبسبب حبك لستيف؟"انفعل بغضب من غدرها المرير. ثم قبض على كتفها بقوة بينما كانت تحاول جاهدة التحرر منه.
" نعم , بسبب ستيف .. ليس بسبب حبي له كما تعتقد , بل بسبب اهتمامي بشأنه و .. الاهتمام يفعل فعله كما الحب. الآن , وفي هذه الدقائق العصبية , يحاول جمع اشلاء حياته بعدما بعثرتها انت بوحشية قاسية"

احتج فرناندو بعنف " لم أقم بأي شيء يؤذيه. لا يقع اللوم علي بذلك, ابداً كان ينبغي على ماريا لويزا ان تخبره , لقد خدعته . كان من واجبها ان تطلعه.."
اندفعت روث " وكان من واجبك ان تطلعني يا فرناندو. في تلك الليلة الأولى التي عدنا والتقينا فيها مجدداً في ذلك المطعم قرب الميناء , كان عليك عندها ان تخبرني بأنها في حياتك. لكنك تركتها ترحل مع ستيف وماكان عليك ان تسمح بذلك. كذلك جعلتني أبقى معك بينما هما كانا معاً وما كان عليك ابقائي. ولا يحق لك ذلك, ولا يحق لك ابداً . لقد منحتك كل شيء, قلبي و روحي قدمتهما , لكنك.. لكنك استعملتني اداة لحقدك وغدرك!"
تحررت فجأة منه بعدما تراخت قبضته وكانت فرصة سانحة لها لتحرر نفسها منه . تراجعت إلى الخلف, وعيناها الزرقاوان تعبسان بعصيان, وهي تضغط على قبضتي يديها بقوة .
"سأذهب إلى ستيف الآن واخلصه من كل هذه المصائب. لقد قلت لي انه سيحتاج الى مساعدتي وكنت صائباً من هذه الناحية. فلا احد منا يستحق ذلك الألم والكدر اللذين سببتهما لنا. سنخرج كلانا من حياتكما وفي امكانك عندئذ ان تستمر في وجودك الشاعري الذي تقاسمته معها قبل مجيئنا الى هذه الجزيرة. انك لا تستحق تلك الطفلة الرائعة.. انكما لا تستحقانها ابداً , كما انها لا تستحق ذاك الغدر من والديها !"
دارت واسرعت تجري بعد ماقالت ما ارادت قوله , اسرعت هائمة لا تعرف طريقاً تسلكه . واحست فجأة بقبضته تمسك بها من الخلف واخذ يدور كل شيء من حولها فسقطت بقوة على الأرض .
قاومت بيأس , وهي تلكمه تارة وتنشي اظفارها وتصرخ في وجهه بأعلى صوتها تارة اخرى . وبقيت على حالها في هذا العراك معه الى ان تلاشت قواها . هوت الى الوراء بارهاق شديد , وبدأت تبكي وتنوح بقلب يعتصره الألم لا تعي شيئاً.منتديات ليلاس
"اصمتي الآن , ياحبي, ياحياتي"
صرخت" ايها اللعين! اني اكرهك , اكرهك!"
قال ملاطفاً" انت لا تعرفين الكراهية. انك تحبينني , تحبينني أنا ولا احد سواي واحبك أنا ولا احد سواك. لم احب سواك ولن احب بعدك"
" وانت لست سوى كاذب!" قالت معترضة بقوة , وصدرها يعلو و يهبط بلهاث شديد" انك لا تحب ابداً. حتى انني لا اصدق انك تحب ماريا لويزا او طفلتك . انت لا تعرف معنى الحب انك لست سوى مخادع وكاذب !"
" وانت لست سوى حبي وحبيبتي , ذات الغباء الأعمى" وتجرأ على الابتسام و روث تتلوى برعب شديد منه . لكنه سد مافي نفسها بعناقه الشديد لها " كيف تصدقين ان هذا الكلام يصدر مني يا روث؟ انت العزيزة روث, بنجاحك الهائل في إدارة شركتك , بجمالك وبذكائك المتقد, كيف سمحت لعواطفك ان تصل بك الى ستنتاج كهذا وهو ان طفلة ماريا لويزا هي طفلتي أنا؟"
شعرت بروث بقوة غريبة تزيل تلك الغيوم السوداء من بين أضلعها . وراحت تسترد انفاسها التي ضاق بها صدرها.

وهي تكافح من اجل العودة الى الحياة في هذا الحياة في هذا العالم المتأجج بالنار الحمراء ثم اخذت تفسح مجالاً للتخلص من معاناة رهيبة سكنتها, من كل ما أرهق قواها و رماها ضعيفة تصارع من اجل البقاء.منتديات ليلاس
" فرناندو!" هتفت اخيراً وهي تحاول الجلوس منتصبة . طمأنها فرناندو وهو يمسح شعرها المتندي من تساقط دموعها ويميل به إلى مافوق خديها المتوردتين " نعم, انني هنا , وهنا سأبقى دائماً . لك فقط وانت وحدك , ايتها التعيسة , ايتها الحبيبة التعيسة , هل صدقت ذلك, صدقت فعلاً ان طفلة ماريا لويزا هي طفلتي أنا ؟"
وبحثت روث عن كلام تقوله , فقد كان عقلها مضطرباً لدرجة انها لم تستطيع ان تجد فكرة مناسبة تستهل بها كلامها.
ما الذي كان يقوله ؟ لم تستطع ادراك ما قاله, لا انها فقط لم تستطع.
رجته متوسلة " ارجوك يا فرناندو, ارجوك ان تطلعني على الحقيقة . اعد عليّ القول مراراً وتكراراً . قل لي ان ما من شيء يربطك بتلك الطفلة "
" لا شيء يربطني بها يا عزيزتي روث. من غير الممكن ابداً ان تكون ابنتي . كيف تمكنت من تصديق ذلك؟"
" لكنك .. لكنك تعيش معها . لقد قلت و .."
" قلت اننا نعيش معاً وهذا صحيح , لكن ليس كحبيبين . اخبرتك بأنها لم تكن بتاتاً من ذلك النوع من العلاقات . لكنني لم استطع قول المزيد . لم يكن من صلاحيتي ان بوح به لأحد, حتى لك. عليك تفهم ذلك يا روث. لم تكن لي نية على الاطلاق في ان اخدعك كما اتهمتني . قلت لك كل مايسمح لي بالبوح به واعتقدت بأنك تفهمت ذلك"
" لقد .. لقد تفهمت " قالت روث, وهي تلتقط انفاسها . ريحانة
" صدقتك فعلاً . ماكنت لأبقى لولا ذلك. ولا كنت سمحت لحبنا ان يتأجج اكثر لولا ذلك. لكن.."
" لكن ماذا؟ ما الذي جعلك فجأة تشكين بي؟"
" آه, كنت .." همست روث بألم موجع مما دعا فرناندو لأن يضغط بيده حولها اكثر " كنت خائفة تماماً , كنت طوال إقامتي هنا على خوف مرير منك , كانت الهواجس تعصف في رأسي . أنا ماريا لويزا . وكنت تؤكد لي دائماً انها لا تحتل جزءاً من حياتك و .. وصدقتك فعلاً. لكنك .. لكنك لم تكن صادقاً معي , وكلما سألتك .."
" ماكان في استطاعتي ان اقول الحقيقة لك يا روث. لم يكن سري لأتمكن أنا من ان أبوح به. طلبت مني ماريا لويزا ان اقسم لها بأنني لن اخبر احداً, وهكذا كان. لأنها كانت في حاجة لأحد تثق به . كانت تعيش حالة ضياع تام وفي وحدة وتعيش في خوف ذريع من والديها ان اكتشفا ان لديها طفلة"
دفنت روث وجهها في صدر فرناندو وهي تقاوم الدموع من اجل ماريا لويزا المسكينة" آه, يا فرناندو , لا ادري ما اقوله "وضمت وجهه براحيتي يديها, ولطفت بأصابعها صفحة بشرته" اليوم الذي ذهبت فيه لمقابلة محاميك .." ترددت , وتساءلت فيما لو تستطيع الكلام عما شعرت به من صدمة رهيبة عندما روزا ودولورس اظهرتا تلك الطفلة الصغيرة لها . وكتمت بقوة ما ارادت الافصاح عنه .