مساء النور و السرور

الفصل السابع عشر

رودني رودريغيز

لسنوات طويلة تجاهل ما سيفعله الآن ، ربما لأنه لم يشعر بالحاجة لفعله ، و ربما لأنه كان خائفاً من الألم .
لم يحاول تذكرها من قبل
لم يذهب لقبرها
لم يزر المنزل الذي احرقه فوق جثتها
كل هذه السنوات لم يسمح حتى بذكر اسمها امامه ، و الآن كل خلية في جسده تدفعه اليها .
ليلة واحدة ضبابية قضاها بين ذراعي روزاليندا ، و كأنها امتصت منه كل سواد السنوات الماضية تاركة روحه تبصر النور لأول مرة منذ اعوام ، اهدته قبساً من ضوء جعله ينظر لكل شئ بوعي و إدراك مختلفين ، شدد قبضته على مقود السيارة و هو يتساءل ..
ما الذي احضره الى هنا ؟؟
غادر السيارة ليقف امام الركام المحترق ، حتى بعد هذه الفترة الطويلة لا يزال يشتم رائحة الأثاث المحترق ، شجرة سرو في الحديقة الأمامية كانت صغيرة تلك الأيام كبرت الآن و صارت ضخمة ، دفع بقدمه الباب ليعبره محاولاً السيطرة على رعشة جسده ، القى باقة أزهار التوليب جانباً ، ابتسم بحزن فهي كانت تعشق التوليب ، استورد شحنة خاصة من هولندا لحفل زفافهما ، في منتصف الصالة تصنمت قدماه ، فهنا في هذا المكان بالذات قتلها ، بدون ان يطرف له جفن ، لم يأبه ببطنها المنتفخ و لا الطفل داخله ، لم يحاول حتى الإستماع لها ، قتلها ..
قتل زوجته .. كاتيا
مسح خده الايمن بذهول ، لا يصدق ان عينه دمعت ، تمتم بصوت متحشرج " لماذا فعلتها ؟؟ ما الذي كنت تريدينه و لم أحققه لك ؟؟ "
جثا على ركبتيه و هو يحل أزرار قميصه العلوية محاولاً التنفس قبل أن يجهش بالبكاء كطفل صغير ..
بكى زوجته الخائنة التي قتلها بيده
طفلها الصغير الذي لم تُقدر له الحياة
ارتدائه ثوب العبث لسنوات محاولاً الهروب من الإحساس بالذنب

و بكى روزاليندا ، روحها البريئة التي قتلها بالقائها في حفرة من العذاب ..
بعد فترة استعاد تماسكه و هو ينهض ماسحاً وجهه بكفيه ليقول " اتمنى أن تجدي السلام كاتيا ، لن أستطيع أن اغير شيئا لكِ و لكنني سأغير الكثير لروزاليندا "
اغمض عينيه للحظات قبل أن يقول بابتسامه " وداعاً كاتيا "
غادر المنزل و هو يتصل بأحد رجاله قائلاً " منزلي المحترق اريد ترميمه ثم التبرع به لإحدى الجمعيات التي تهتم بالنساء ضحايا العنف "

اوقف سيارته داخل الحصن متسائلاً عن سبب ترك الباب الخارجي مفتوحاً و بدون حراسه ، غادرها ليلفته منظر روزاليندا و صوفيا الجالستان على مفرش صغير تحت إحدى الأشجار في الحديقه ، نظر حوله مدققاً ، لا وجود لغاريث ، انريكو و لا حتى أحد افراد عائلته .
وقف مكانه يراقبها للحظات ، كانت تتحدث مع صوفيا ، تبتسم لها من القلب ، ابتسامة حقيقية ليست مفتعله و لا بها شائبة مراره ، المرح كان يشع من دفء عينيها ليبتسم هو بألم مُدركاً انه سبب غياب السعادة عن حياتها .
اقترب منهما ، نظر حوله ثانية و هو يتأكد من عدم وجود أي أحد قربهما ، على الإطلاق .
اقترب بما يكفي ليسمع ابنة شقيقته تقول " انا احبكِ "
" و انا احبكِ ايضاً يا حلوه " قالت روزاليندا بعذوبه
" عمي اليخاندرو يحبكِ ايضاً ، هل تحبينه ؟؟ "
" انا .. " تلعثمت
" انه وسيم "
" واو " ضحكت روزاليندا بمرح ليقرر رودني التدخل قائلاً " ايتها المدللة الصغيرة "
لاحظ بطرف عينه تقلص ابتسامة روزاليندا
" رودني " قالت صوفيا و هي تندفع لتعانقه ، احاطها بذراعيه للحظات قبل ان تتملص منه قائلة " اجلس معنا قليلاً "
جلس قرب روزاليندا هامساً " مرحبا " اغمض عينيهللحظة قبل أن يميل اكثر ليقبل خدها برقه
" عمي رودني ، لا يمكنك تقبيلها ، انها زوجة عمي اليخاندرو "
" اين البقيه ؟؟ " سأل متجاهلاً عبارة الشقية الصغيرة
هزت صوفيا كتفيها و هي تعيد ترتيب دماها حول اكواب الشاي الصغيرة .
" هل تعرفين اين الجميع ؟؟ " سأل روزاليندا
" في الداخل " اجابته و هي تتفادى النظر لعينيه
" اين غاريث و انريكو ؟؟ "
" انريكو في الداخل و غاريث غادر قبل فتره "
" عمي رودني ، اذهب بعيداً انا و ماري لدينا حفله " قالت صوفيا
" انت مدللة و مزعجه "
" و لكنك تحبني "
تركهما و هو يتجه الى الداخل ليبحث عن شقيقه او أي احد آخر ، شاتماً الجميع من تحت أنفاسه لتركهم روزاليندا وحيدة في الخارج ..
سمع عدة اصوات من المطبخ ، ليليانا كانت اعلاهم صوتاً " ارتورو كان يستطيع وضع يده على كل شئ "
" اين المال الآن ؟؟ "سأل ايميليو
" في مكانه ، لقد تم تجميده ، لا أحد يستطيع لمسه حتى يتم رفع الحظر عنه ، و هذا لا يمكن القيام به الا عن طريق المحكمه ، اذا تمكنا من اثبات التلاعب "
" اين ارتورو ؟؟ " كرر ايمليو
" لا احد سمع عنه او رآه منذ زفافي " اجابه اليخاندرو
" ما الذي يحدث بحق الجحيم ؟؟ " سأل رودني
" ما الذي تفعله هنا ؟؟ " زمجرت ليليانا
" ما الذي فعله ارتورو "
" الحقير متواطئ مع آرون "
" كيف ، تحديداً ؟؟ " قال رودني مفكراً بأنه لم يحب والده بالمعمودية منذ الصغر
" ليليانا تعتقد أن ارتورو تحالف مع آرون في القضية " تمتم اليخاندرو
" القذر اللعين ، كان علي قتله بدلاً من وضعه على مقعد متحرك منذ اشهر ، اخبرتك أنه يخطط لشئ ما "
" ليس لدينا دليل ملموس فقط شواهد " قالت ليليانا
" فلتذهب الأدلة الى الجحيم ، انه يريد الزعامة له و لابنه التعس "

" و لكن كيف ؟؟ " تسائلت ليليانا " حتى مع سجن والدنا لا يمكنه تنصيب نفسه او ابنه زعماء ، هناك انتما الاثنين ، اليخاندرو الزعيم المنطقي "
" يمكنه ان يرتب لقتلنا و عندها لن يبقى سواكِ و يمكنه ازاحتكِ عن الطريق بسهوله "
" كيف لم انتبه من قبل ؟؟ " ضغط اليخاندرو عينيه باصابعه مكملاً " لقد كانت هيلينا من اختيار ارتورو و اقنع بها والدي "
" هيلينا كانت ستقتلك و تقتلني معاً قبل الزفاف " اكمل عنه رودني الذي استوعب الخطة
" كانت ستفعل " وافقه اليخاندرو
" اين الخائن الآن ؟؟ " سأل ايميليو
" لا نعرف اين هو ، اختفى تماماً و ابنه اضاً اختفى مع احدى فتيات فيوريلا ، ارسل لاحضارها لشقته ثم اختفيا بعد ذلك " اجابه اليخاندرو " الرجال يبحثون عنهم الآن "
" ماالذي ستفعلينه الآن ؟؟ ، هل تستطيعين اثبات التواطؤ في المحكمه ؟؟" قال ايميليو باهتمام
" نعم و لكنني احتاج لبعض المعلومات الإضافيه ، قد تكون على حاسبه الشخصي او الملفات التي يحتفظ بها في مكتبه "
" ساحضر لكِ كل شئ " قال و هو يفرك يديه بحماس
" لا ، اتصل بخوان و دعه يرتب الأمر لتكون مداهمة قانونيه ، لن نخطو أي خطوة قبل ان نعرف مكانه او خطوته المقبله و من هم حلفاؤه " قال اليخاندرو بحسم
" سأعود الى المنزل ، هناك الكثير من العمل في انتظاري ، اين صوفيا ؟؟ " نهضت ليليانا مجمعة اوراقها
" صوفيا في الخارج مع روزاليندا " قال رودني و هو ينظر الى شقيقه " كيف تركتها خارجاً دون حراسه ؟؟ "
" ليس من شأنك " اجابه بهدوء
" و اذا هربت ايها الغبي ؟؟ الباب الخارجي كان مفتوحاً " نظر لعيني اليخاندرو مباشرة ، فشقيقه غير معروف عنه التهور او نسيان ادق التفاصيل
" قلت ان هذا ليس من شأنك رودني " زمجر اليخاندرو
" تقبل اعتذاري اخي ، لقد نسيت انها زوجتك ..الآن ، و بالمناسبه هل ذهبت لرؤية والدك ؟؟ "
" اخرج من هنا الآن "
" كما تشاء ، و ما دُمتُ خارجاً ربما سآخذ روزاليندا معي " قال بتهكم

امسكه اليخاندرو من عنقه قائلاً من بين اسنانه " ضع اصبعاً واحداً عليها و سأقتلك "
" انظري ماري ، الفتية اغبياء " قالت صوفيا من عند باب المطبخ
" نعم ، انهم اغبياء و لهذا السبب لن يكون لكِ حبيب ابداً " حملها ايميليو
" انا .. اممم .. سأصعد " تمتمت روزاليندا قبل ان تستدير راكضة نحو السلم
" هيا بنا " قالت ليليانا ببرود " سأهتم بقضية والدنا ريثما تنتهيان من قتل بعضكما "


اليخاندرو رودريغيز

عملياً لم يكن بإمكانه البقاء في الحصن الى الأبد ، مع انه المكان الأفضل لروزاليندا ، و لكن الأمور مشتعلة في المدينه ، و عليه أن يكون هناك و لا يمكنه في نفس الوقت ابقاء زوجته وحيدة ، مهما كانت الحراسة قوية .
روزاليندا .. زفر و هو يفكر انها تحسنت نسبياً ، بعد ذلك اليوم الكارثي الذي اخرجها فيه للمرة الأولى اعتاد على أن يأخذها يومياً الى أحد أماكنه المفضله ، بعد بضعة أيام استرخت قليلاً ، بل طلبت ان يذهبا الى السينما في أحد الأيام .
بعدها عندما أخذها الى أحد الحدائق العامة ابتسمت من القلب ما جعل قلبه هو ينبض فرحاً .
اليخاندرو ايضا استرخى اكثر و هو يتأكد ألا احد تعرف عليها ، لا أحد شك في هويتها و هما يتجولان في المحلات التجارية ، الأندية الليلية او حتى على الشاطئ .
كان يتوقع هذا ، فبعد انتحار آرون اختفت قضية روزاليندا تماماً من اجهزة الإعلام ، و لكنه كان يأخذ احتياطاته ، يذهبان الى الأماكن الغير مزدحمه او في الأوقات التي يقل فيها عدد رواد المكان ، كما أن تغيير قصة شعرها و نظارة الشمس ساعدتا في تمويه ملامحها ، و بعد بضعة أشهر ستختفي من عقول الناس نهائيا و ستتمكن من عيش حياة طبيعية نسبياً .
والده كان مصراً على مقابلته الا أنه لم يذهب ، فمضوع الزيارة لن يعجبه بالتأكيد .
الآن لديه مشاكل اكبر من روزاليندا و والده، ارتورو و ابنه و جانيت اختفوا تماماً ، كما أن هناك تمرد محدود بين الزعماء ما جعل جهده مركز عليهم في محاولة لإحتواء الموقف قبل أن تندلع حرب دموية في المدينه .
خوان احد رجالهم في ال FBI داهم مكتب ارتورو بعد ان سرب معلومة عن احتمال تورطه في قضية غسيل اموال قيد التحقيق ، ارسل نسخاً من كل شئ تحصلوا عليه الى ليليانا .
رودني الهادئ بشكل غريب جند كل طاقته ووقته للبحث عن ارتورو ، حتى انه لم يحضر لرؤية روزاليندا غير مرة يتيمة منذ انتقالها الى شقة اليخاندرو في المدينه .
اليخاندرو لم يكن اعمى و لا غافلاً عن الانجذاب الغريب لرودني و لكنه كان يعتقد انه مجرد شعور بالذنب سيختفي بعد فتره .
دخل الى البار الخالي في تلك الساعة من الظهيرة ليجد رودني و ايميليو في انتظاره .
دخلت خلفه مباشرة ليليانا و هي ترسم ابتسامة عريضة على وجهها بينما تحمل ملفا في يدها
" ما سبب الإبتسامة ؟؟ " قال رودني بمزاج عكر
" كنت اراجع الملفات التي ارسلها خوان من مكتب ارتورو فوجدت شيئاً مثيراً للإهتمام "
" طننت انكِ قلتِ انها غير مفيده "
" دققت في ملفات قضية ابي "
" انطقي ليليانا ، ليس لدي وقت اضيعه "
ضيقت عينيها " ذهبت لمقابلة المدعي العام الجديد اليوم "
" لماذا ؟؟ " سألها ايميليو
" ارتورو منح آرون المعلومات ، ما يعني أن هناك صفقة من نوع ما بينهما ، و لكن ما غفل عنه الجميع أنه لم تصدر مذكرة توقيف بحق والدي .. ابداً "
" اللعنه ، هذا يعني ان والدي سيخرج " قال رودني بابتسامه
" نعم و لكن علي تقديم هذا للمحكمة اولا و بعدها اجراءات "
" هل اخبرته ؟؟ "
" لا ، اريدك ان تذهب معي اليخاندرو "
" ماذا ؟؟ " قطب حاجبيه
" انت تعرف لماذا ، و عليك حل هذه المشكلة معه قبل خروجه "
ليليانا كانت محقه ، فتجنب والده كان مستحيلاً ، كما انه يعرف جيداً ان تصرف والده لن يعجبه ، لذافعليه حل القضية قبل خروجه .
والده كان واضحاً ، يريد التخلص من روزاليندا و هذا ما فعله اليخاندرو ، و لكن ليس بالطريقة التي سترضي والده .