كاتب الموضوع :
نغم الغروب
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: الرحيل ...إليه
الفصل الثالث عشر العصافير
ظل جاسر فاغرا فمه للحظات ثم ضرب جبينه بيده عدة مرات و هو يقول في غيظ : يا ابن العمة كنت أمزح معك ، أمزح ، ألا تعرف شيئا عن المزاح ، ألم تسمع به؟!
أجابه عاصم في حزم : كلا لا أعلم شيئا عن هذا النوع من المزاح ، و هل يمزح الرجال في أمور الخطبة و الزواج؟
قال جاسر بغيظ أشد : أنا أمزح يا عاصم ، أمزح في جميع أمري و الآن فلتذهب إلى عزة و تخبرها أنه لا توجد خطبة و لا زواج ، و أن الأمر كله مجرد مزاح بين رجلين أحدهما لا يعرف الفرق بين الجد و الهزل
قطب عاصم جبينه و قال له بحدة : ويحك يا جاسر أَوَ مثلي من يفعل هذا؟!
سار مبتعدا و لكنه ما لبث أن قفل عائدا ليقول لجاسر بتأنيب : ثم ما بالها عزة يا فتى؟ أو لم تقل بنفسك أنها جميلة و ذات حياء؟ و أنا بنفسي أؤكد لك أنه لا تشوب سمعتها شائبة ، فقد كنت أراقبها بنفسي لمدة طويلة و لم ألحظ عليها ما يريب
قال له جاسر متهكما : لماذا لم تخطبها لنفسك إذن؟
أجابه عاصم باستنكار : أخطب عزة لنفسي؟! ويحك إنها تكاد تكون ابنتي
مضى جاسر في تهكمه قائلا : وا عجبي على زماننا هذا الذي يكون فيه لابن الثانية و الثلاثين ابنة في الثامنة عشر
أجابه عاصم بهدوء : عرفت الفتاة منذ كانت طفلة ذات إحدى عشر ربيعا و لم أفتأ أنظر إليها كطفلة
قال جاسر بمرارة : تراها طفلة و مع ذلك تخطبها لي.
- لم أفعل إلا لأنك طلبت مني ، رد يحسم الموضوع ، و الآن لا مزيد من اللغو يا جاسر ، الفتاة أمامك ، اذهب و أخبرها ما شئت
و انصرف بخطى سريعة. أما جاسر فظل يجوب المكان و هو يزفر غاضبا كأنه أسد حبيس. و أخيرا استجمع شتات نفسه و سار باحثا عن عزة .
لمحها من بعيد جالسة على إحدى الصخور و هي تجدل شعر الطفلة. انتظر حتى أكملت ثم اقترب منهما. لم ينظر إليها مباشرة بل ربت على رأس الطفلة بلطف و هو يقول لها : ما أجمل لون شعرك يا زهراء
هزت الطفلة رأسها يمينا و شمالا تأرجح ضفيرتها ثم قالت له بسعادة : هل أعجبك حقا يا عماه
- و هل فيك ما لا يعجب يا زهرتي ، أجابها مبتسما بحنان
ازدادت ابتسامتها اتساعا ثم قالت له بحماس : عزة أيضا شعرها أشقر مثل شعري
التفت إلى الفتاة و قالت تحثها : هيا يا عزة ، انزعي غطاء رأسك حتى يرى أن شعرك يشبه شعري
نظر إلى عزة فوجدها تكاد تتمنى أن تبتلعها الأرض من شدة خجلها فالتفت إلى الطفلة و طلب منها أن تذهب لتلعب مع أسامه.
ما إن ابعدت حتى التفت إلى عزة و أخذ يتأملها بإمعان. كانت حمرة الخجل التي تصبغ خديها قد زادتها فتنة على فتنتها حتى أنه صارح نفسه أنه لو لم تكن ميسون موجودة لربما كان شغف بعزة على جمود طبعها فجمالها كان يخلب الألباب.
لما طال صمته رفعت نظرها إليه بتردد و سرعان ما خفضته مجددا حين قابلت عينيه.
شعر جاسر أنه أُخذ على حين غرة و دفع نفسه دفعا للكلام و بصوت مرتبك قال لها : عزة ، هل خاطبك عاصم في شأني؟
أومأت برأسها بالإيجاب دون كلام فواصل قائلا أول شيء يخطر بباله : و ما رأيك؟
ازداد ارتباك عزة بشكل واضح و أخذت تتشاغل بتسوية ثوبها مرات و مرات حتى خشي أن تمزقه. فقال لها بهدوء : اسمعيني يا عزة ، لو بدا لك أن ترفضي فلتقولي و لا حرج عليك.
تكلمت الشابة أخيرا فقالت بصوت ناعم و هي تنظر إليه في رقة : بل أقبل يا جاسر
عندما لم يتكلم وجهت له ابتسامة فاتنة ثم فرت من أمامه.
ظل يلاحقها بعينيه حتى غابت عن ناظريه ، حين أفاق مما هو فيه ضرب جبينه مرة أخرى بقبضته و قال مخاطبا نفسه بصوت عال : ما الذي فعلته يا رجل أتيت لتخرج نفسك من المأزق فازددت غرقا فيه
تأفف قائلا : سامحك الله يا عاصم إن لم أجد مخرجا قريبا فسيكون زواجي قائما على مزحة
ثم أضاف و هو يضحك من غرابة أمره : وا عجبي عليك يا جاسر ، عندما طلبت جادا رُفضت و عندما طلبت مازحا قُبلت
ظل يسير بلا هدى و هو مسترسل في ضحكه حتى قابل ميسون التي ما إن رأته حتى بادرته قائلة : أضحك الله سنك يا جاسر ، ما أسعدني بعودتك إلى ما كنت عليه
أجابها بدفء : و ما أسعدني بسعادتك لأجلي
لكنه سرعان ما تذكر عاصم فتنهد وودع ميسون و سارع بالابتعاد.
ما إن حل الظلام حتى شد الرجال رحالهم . كانوا قد تعودوا على مزاح جاسر معهم و حكاياته المضحكة التي يسليهم بها لذلك بدت لهم الليلة طويلة ثقيلة حين التزم الشاب الصمت على غير عادته.
أما هذا الأخير فقد غرق تماما في أفكاره. تذكر بوضوح كلمات أمه عندما رفض آخر فتاة اقترحتها عليه ، حينها قالت له مستهزئة : أو تظن أنك ستختار فعلا عروسك كما تشاء ، ثق يا بني أن المرأة التي كتبت لك ستتزوجها رغما عنك ، شئت أم أبيت
ابتسم بتعجب و هو يرى مدى مطابقة وصفها لحاله الآن. لم تكن عزة بالخيار السيء و لكنه لم يكن أبدا ليفكر فيها كزوجة له. فعدا جمالها لم يبدو أن لديها الكثير ليعجبه فيها . و كان أكثر ما يستنكره منها هو اهتمامها الزائد بعاصم . لوى شفتيه بامتعاض و هو يتذكر كم الأسئلة التي كانت تسألها بشأن هذا الأخير :" هل آستيقظ عاصم ، هل أكل عاصم ، هل يحتاج أن أغسل له بعض ملابسه ، هل ، هل ، هل ..."
اهتمام شديد جعله يظن يقينا أن ما خفي من أمرها أكبر بكثير مما يبدو ، لذلك كم كانت مفاجأته عند قبولها السريع لطلبه المزعوم الزواج منها.
هز رأسه محتارا و هو يؤكد لنفسه أنه لم يخلق بعد من يقدر على سبر أغوار النساء و تذكر حين صحى يوم أن أخذهم في نزهة بعد غفوته القصيرة و كيف وجدها تنظر إليه نظرات غريبة. و على غيرعادتها لم تقم بخفض بصرها حالا بل ظلت تتأمله طويلا و بعمق حتى أنه نظر إليها نظرة مليئة بالتساؤل. و حينها فقط احمر خداها و أطرقت برأسها تنظر إلى الأرض.
تذكر أيضا كيف أخذ يستعلم منها عن سر قلة كلامها و ندرة ضحكاتها. أجابته بصوت تشوبه بعض المرارة :
لم تكن حياتي بالسهلة في السنة الماضية فبعد وفاة والداي عشت في بيت خالتي و لم أكن أتكلم إلا مع الطفلة، أما فيما عدا ذلك فكان الصمت يحيط بي من كل جانب حتى أصبح جزءًا مني، لذلك تراني لا أشارك في حديثكم
صمتت ثم أضافت : كما إني لا أعرف أي نوادر أو طرائف لأحكيها لكم
عندها نظر إليها باستغراب و هو يقول : لا أكاد أصدق ذلك يا عزة
عندما رأى تعبير الأسى على وجهها قال مشجعا : فلتقولي أي طرفة يا عزة و أعدك أن أضحك عليها من كل قلبي.
تذكر كيف رمقته بنظرة اعتذار و لجأت للصمت. وقتها أحس بشفقة شديدة عليها فسارع يشجعها مرة أخرى:
دعينا من النوادر فأنا أعرف معظمها في جميع الأحوال فلتخبريني عن أطرف شيء فعلته في حياتك
فكرت الفتاة للحظات ثم قالت و ابتسامتها تتسع شيئا فشيئا : كنت لا أطيق زوج خالتي فقد كان رجلا شديد البخل ، كثير الكلام ، تافه الحديث. الحق أنه جعل حياتي في بيته جحيما . لذلك ليلة هربي قررت أن أرد له الجميل.
صمتت و ابتسامتها تملأ وجهها فسألها بفضول : ماذا فعلت؟
أجابته باستمتاع : لقد أطلقت جميع طيوره من أقفاصها ، لم أترك له طيرا واحدا
التفتت إليه مفسرة : كان يربي الكثير من الطيور صغيرة الحجم ، أصغر من العصفور ، ألوانها زاهية بين أحمر ، بني ، أزرق ، أخضر ، أبيض و أصفر و ما كان أجمله مشهدا حين ملأت سقف الغرفة و كم كانت سعادتي حين فتحت لها النافذة و رأيتها تغادر ذلك المنزل البائس إلي الأبد ، إلى الأبد. حينها فكرت في نفسي أن حالها أشبه ما يكون بحالي
ظل صامتا للحظات و هو يتأمل التعبير الحالم المرتسم على وجهها ثم بدأ يضحك من غرابة أمرها و بساطة تفكيرها. قال لها مترفقا : يا لك من فتاة يا عزة! أو تظنين أن الرجل سيحزن لرحيل طيوره أكثر من حزنه على رحيل حفيدته؟!
أجابته بكل ثقة : بل أقسم لك على ذلك فأنت لا تعرفه مثلي. أما الأحفاد فلديه الكثير غير الزهراء، لكن هذه الطيور لم يكن لديه غيرها. لو رأيته كيف كان يقضي وقته يطعمها و يسقيها و ينظف أقفاصها. و لشد ما كان أسخفه حين كان يتظاهر بأنه يزقزق مثلها.
صمتت قليلا و أضافت بشماتة : لا زقزقة لك بعد اليوم يا أبا الوليد.
ابتسم جاسر رغما عنه وهو يسترجع كلماتها الأخيرة . كان يستعد للاستغراق في أفكاره من جديد حين أوقفهم رفيقهم "المتشمم" و هو يقول لهم بصوت يحمل بعض القلق : لدينا صحبة يا رفاق.
|