كاتب الموضوع :
نغم الغروب
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: الرحيل ...إليه
الفصل السادس لهيبها
ابتعدت ميسون عن طريق عاصم تماما. أصبحت تنام فترة أطول بالنهار و تقضي بقية الوقت تلاعب الطفلين و تعلمهما الرسم. لكنها رغم سخطها على عاصم لم تستطع أن تمنع نفسها من الشعور بالشفقة عليه و هي ترى محاولاته المستمرة و الفاشلة في كسب ود ابنته.
لذلك بدأت تسعى بكل طاقتها لتجعل الطفلة تتعلق بأبيها، خاصة و أنه لم يبدو أن أحدا غيرها سيفعل. حتى عزة كانت تبدو مستريحة لتعلق الطفلة الشديد بها و نفورها من أبيها. ربما كانت تريد استعمال الطفلة كورقة ظغط على الأب الذي لا تكاد تخفي شغفها بحبه. لذلك وجب عليها هي التدخل فالطفلة لا ينبغي أن تكون لعبة للعشاق. و الشابة الأخرى عليها أن تكتفي بسلاح جمالها حتى تجعله مدلّها في حبها.
و عندما أثمرت مجهوداتها أخيرا و رأوا الطفلة تجلس لأول مرة في حجر والدها و هي تريه رسوماتها ، التفتت إليها مربيتها قائلة : على عاصم أن يشكرك فأنت لم تدخري جهدا لتجعلي ابنته تألفه من جديد.
ردت ميسون و هي منكبة على الخريطة تدرسها : لا أريد منه شكرا فلم أفعل هذا لأجله بل لأجل الزهراء.
أما عن عزة فقد شعرت بارتياح عظيم عندما علمت أن رفقاء سفرهم لي يكملوا معهم كل الطريق. كانت بغريزة الأنثى قد عرفت أن ما بين عاصم و ميسون ليس سوى رماد يغطي لهيبا ساخنا. و أن الامر لن يحتاج أكثر من ريح خفيفة حتى تبدو حقيقة ما يشعران به لجميع من حولهما و لهما هما بالطبع.
كانت قد ازدادت ارتياحا عندما لاحظت مجافاة ميسون لعاصم، لم تهتم كثيرا بمعرفة السبب ما دامت النتيجة كانت في صالحها تماما و الأمور تجري كما تمنت منذ ذلك اليوم الذي رأته فيه. أغمضت عينيها و استرجعت تفاصيل ذلك اللقاء في ذهنها.
كان الوقت أصيلا و كانت عائدة من عند بائع الأقمشة بعد أن أخذت منه بعض العينات لتريها لخالتها. كانت قد اختارت السير في طريق شبه خال بعد أن ضايقتها نظرات المارة بسبب ثيابها البالية التي لا تتناسب مع جمالها الملفت.
كانت تتفكر في حياتها و حالها حين سمعت صوتا عميقا واثقا يناديها باسمها. عندما التفتت إليه أسرها سحر رجولته على الفور و احتارت كيف تتصرف و أخيرا أسدلت جفنيها و قالت بصوت خجول : هل تعرفني أيها السيد اعذرني فأنا لم أعرفك مع أنك تبدو مألوفا
أجابها ووهو يبتسم بلطف : أنت لا تتذكرينني حتما و أما عني فإن آخر مرة رأيتك فيها كنت ما تزالين طفلة
حين أخبرها أنه والد الزهراء تذكرته بغموض ذاكرة الأطفال : رجلا طويلا ، أسمر، شعره الفاحم يبدو ناشزا وسط الشقرة السائدة. أما هذه المرة فهي تتأمله بعيني صبية كاملة الأنوثة و لشد ما أعجبها. تذكرت كيف شعرت أنه الحل لجميع مشاكلها و أنه أتى استجابة لدعائها . لذلك عندما عرض عليها أن تساعده على استرجاع ابنته و عرض عليها أن يأخذها معه لتقيم مع عمته الأرملة و بنتيها، وافقت فورا. و منّت نفسها أنه سيكتشف أثناء سفرهما معا أنه لن يجد أفضل منها زوجة له و أما لابنته.
و سار كل شيء تماما كما خططت له حتى اللحظة التي أطلت فيها ميسون عليها في العربة. كانت ملامحها من أرق الملامح التي وقعت عليها عيناها و شعرت فورا أن هذه الفتاة هي غريمتها في هذا الرجل.
عندما أحيطت علما بسبب مرافقة ميسون لهم في سفرهم ، تأكدت أن هذه الأخيرة لم تكن لتفعل شيئا لتستميل عاصم إليها. لكنها كانت تعلم في قرارة نفسها أنها لم تكن لتحتاج لتقوم بأي شيء فعاصم كان يميل إليها بالفعل. لم تكن متأكدة من درجة عمق مشاعره ، لكن لم يخف عليها نظرة الاهتمام في عينيه كلما رأى ميسون أو حتى سمع اسمها. لم يخف عليها بحثه عنها في الأنحاء حين تغيب طويلا عن ناظريه.
أما أكثر شيء كشف لها عن ولعه بميسون كان نظراته إليها حين كانت جالسة بجانبه ترسم ما يدعونه بالخريطة. تذكرت عزة كيف جلست وحدها في العربة تراقبهما بانتباه. كانت ميسون مستغرقة كلية في ما تفعله، لذلك لم تلاحظ نظرات عاصم إليها. كان هذا الأخير يتأملها كما لو كان يراها لأول مرة أو كما لو كان سيراها لآخر مرة. لم ينزل نظره من على وجهها و لو للحظة. أحست حينها أن كل آمالها ذهبت أدراج الرياح لذلك كم كان شديدا ارتياحها عند سماعها أنهم سينفصلون عنهم في الطريق.
" كم بودّي لو تنتهي اليلتان الباقيتان في غمضة عين، حينها لن يجد عاصم أمامه غيري"، أرسلت ناظريها تبحث عنه حتى إذا وقعت عيناها عليه أخذت تتأمله بشغف.
أما عاصم فقد كان يحس إحساس عميقا بالضيق و التبرّم و لولا وجود ابنته حواليه لأضحت الحياة لا تطاق. كان متضايقا منذ بداية الرحلة و لكن ضيقه بلغ منتهاه بعد أن قررت ميسون النزول في تلك المدينة. اعترف لنفسه أن القرار لم يكن قرارها بل كان بإيعاز منه و لام نفسه عشرات المرات على حديثه معها في ذلك اليوم. لم يدر أي شيء اعتراه حتى اقترح عليها ذلك الأمر. و الآن وجد نفسه في غاية الندم و الغم. كثرت هواجسه و هو يفكر فيها ، كيف سيتحمل أن يتركها وحدها في تلك المدينة الغريبة التي لا تعرف فيها أحدا. كيف يتركها بلا حماية و بلا سند سوى طفل صغير و امرأة كبيرة في السن. كان يحاول إقناع نفسه بأن هذا ما كانت تنتويه هي منذ البداية ، ألم تكن تنوي السفر مع رجل غيره و الاستقرار في مدينة مجهولة؟
- و لكن أين المروءة يا رجل ؟ زفر مكلما نفسه بغيظ.
كان قد بحث عن ألف طريقة يقنعها بها بالعدول عن قرارها، لكنه كان سيبدو أحمقا في جميع الحالات خاصة مع مقاطعتها التامة له. فمنذ ذلك اليوم لاحظ أنها عزفت عن الكلام معه. حتى عندما كانت تحتاج شيئا منه كانت تطلبه عن طريق مربيتها. حتى في الليل و بعد أن كانت تبادله بعض الكلمات فقد أضحت تغرق في صمت تام. و في المرات القليلة التي خاطبها فيها تظاهرت بعدم سماعه.
كان تصرفها معه بعيدا عن الأدب لكنه لم يستطع لومها. اعترف لنفسه بأنه كان شديد القسوة معها بدون سبب واضح ، إلا ما كان يعتمل في نفسه من مشاعر أوقدتها ذكريات الماضي الأليمة. قيّم الفتاة و بنى أحكامه عليها مستندا على أهوائه لا على عقله. ربما كانت الشابة متعالية قليلا ، تترفع عن الحديث مع الغرباء ذوي الهيئة الرثة. لكن كل هذا لا يجعلها متكبّرة و خاوية العقل كما تخيلها. كانت فقط فتاة حذرة، حريصة على الاهتمام بكل التفاصيل. حتى أنها منعت أخاها منعا باتا من الخروج من غرفته في كل خان ينزلون فيه. كما كانت قليلة الكلام حتى مع مربيتها و أخيها. ولم يفته محاولاتها الحثيثة المستمرة لتقريب ابنته منه مما دله أنها تخفي الكثير تحت قناع التعالي و البرود الذي ترتديه.
غير أن أشد ما أثار استغرابه هو عدم شكواها. فعلى عكس عزة التي كثر تبرمها في الأيام الأخيرة و هذا من حقها فإن ميسون منعها إباؤها من لفظ كلمة شكوى واحدة رغم وضوح علامات التعب على وجهها الرقيق.
يا لهذه الفتاة ميسون و يا لغرابة تصاريف القدر الذي وضعها في طريقه هو بالذات! و تمنى أن يحصل أي شيء في الليلتين الباقيتين يجعلها تعدل عن قرارها.
"لماذا؟ ، انبعث الصوت بداخله ، لماذا لا تريد لها المغادرة ؟ أهي فقط مروءة منك أم أنك أصبحت لا تطيق فراقها؟ "
أخرس الصوت بداخله قائلا بصوت خافت : إنها مجرد امرأة غريبة، غريبة عني و أكمل قائلا بإصرار : و سوف تظل كذلك. كل ما في الأمر أني مسؤول عن سلامتها لأنها تسافر معي
قام من مجلسه و توجه إليهم ليخبرهم بأنه قد حان وقت الرحيل. قبل أن يغادروا ليبدؤوا الاستعداد استوقفهم بصوت فيه نبرة اعتذار : هناك أمر نسيت أن أعلمكم به
رفع الجميع أعينهم إليه متسائلين ،ما عدا ميسون التي تشاغلت بالعبث بشعر الطفلين بينما واصل هو قائلا : في المدينة المقبلة التي سنصل إليها ينتظرني ثلاثة من أصحابي ليرافقونا بقية الطريق.
عندما غادرهم رفعت ميسون عينيها و تأملت ظهره العريض بحزن عميق. في تلك اللحظة قالت عزة شيئا ما جعلته يلتفت ليجيبها. قابلت عيناه عيناها و لم تقو على الإشاحة بنظرها بعيدا. كان يقول شيئا ما لم تسمعه و لم تعيه بل بدا أن حواسها كلها تعطلت إلا بصرها المتعلق به. شعرت و كأنها تود أن تملأ عينيها و ذاكرتها و وجدانها من ملامحه قبل أن يطويها النسيان. أما هو فقد بادل نظراتها بنظرات عميقة حارت في فهم معناها. و لم تستطع تحويل عينيها عنه إلا حين بدأ أخوها يشد ثوبها بعنف حتى توليه اهتمامها.
ما إن التفتت إليه لتنهره حتى أولاهم عاصم ظهره و أسرع مغادرا. تأملته بوله و هو يكاد يهز الأرض بخطواته القوية. تنهدت بعمق و اعترفت لنفسها أنه لو طُلب منها تفصيل رجل على مقاس أحلامها لما اختارت أفضل من عاصم. كان كل ما فيه يخلب لبها. من نظرات عينيه القويتين العميقتين ، إلى قسماته النابضة بالرجولة ، إلى كتفيه العريضتين ، إلى جسده المفتول العضلات ، إلى طوله الفارع في غير شطط ، إلى شعره الفاحم الكثيف الذي طالما تمنت أن تمرر أصابعها من خلاله. تنهدت مرة أخرى و هي تعترف لنفسها أنها وقعت تماما في غرام هذا الرجل. لم يكن هيامها سببه الوحيد هو جاذبيته الجسدية الجارفة فقد قابلت من قبل من يضاهيه وسامة. لكن أكثر ما جعلها تعشقه هو رجولته، مروءته و كرمه الذي لم تر مثله إلا في قلة من الرجال. تذكرت و هي تشاهده يربت على ظهر جواده كيف أرسلت مربيتها بمبلغ من المال ليشتري لها سرجا جديدا، و كيف أنه أحضر لها ما تبغي دون أن يلمس شيئا من المبلغ. تذكرت أيضا كيف كان دائما يكتفي بالبسيط من الطعام و يشتري لهم كل ما قد تشتهيه أنفسهم. لكن أكثر ما أثر فيها هو عدم تفرقته في المعاملة بين ابنته و أخيها رغم أنه غريب عنه. كان يشتري له نفس ما يشتري لها سواءًا كانت ألعابا أو حلوى. بل كان أحيانا يفضله عليها. و كان الفتى قد تعلق به كثيرا حتى فكرت في نفسها قائلة : " لو تزوجت رجلا مثله لما أحس أخي مرارة اليتم". لكنها سرعان ما أزاحت هذه الفكرة بعيدا فأولا لا يوجد رجل مثله و ثانيا هي و هو لايكادان يتكلمان فكيف يتزوجان و ثالثا لن يلبثا حتى يفترقا إلى الأبد.
خفق قلبها بعنف عند هذا الخاطر، تنفست بعمق و لكن الخفقان ازداد سرعة . أظلمت الدنيا في عينيها فأغمضتهما و وضعت يدها على موضع قلبها كأنما لتمنعه من أن يثب من مكانه. و ما لبثت حتى وقعت مغشيا عليها بين ذراعي مربيتها.
|