كاتب الموضوع :
نغم الغروب
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: الرحيل ...إليه
الفصل الرابع عشر لقاء الأحبة
أوقف جميع الرجال خيلهم بسرعة و سأل عاصم بصوت يحمل بعض القلق : كم عددهم ؟
أجابه " المتشمم" و هو يصيخ السمع : ليس أقل من عشرة أنفار و ليس أكثر من خمسة عشر
فكر عاصم بسرعة ثم قال لأكبرهم سنا :
- سترافق أنت النساء و الأطفال يا أبا عبد الله و سنتكفل نحن بقطاع الطرق
اتجه مسرعا إلى العربة الأخرى و نادى على ميسون التي كانت مستيقظة أصلا ، ما إن أطلت عليه حتى خاطبها بكلمات سريعة : ميسون ستكملين الطريق راكبة ، سنربط جوادا آخر إلى هذه العربة و ستنظم إليكم عزة و الزهراء و ستتجهون جميعا إلى الديار برفقة "أبي عبد الله".
و أشار إلى الرجل الذي كان قد أتم ربط جواده بعربتها.
في الأثناء كان جاسر قد أيقظ عزة و حمل الطفلة بسرعة إلى العربة. حاولت الشابتان أن تستفسرا عن الأمر لكن لم يجبهما أحد و وجدت ميسون نفسها تدفع دفعا إلى امتطاء فرسها.
و غادرتهم وقلبها يكاد يتمزق خوفا و حيرة على عاصم و مصيره.
لم يمض سوى وقت يسير حتى حاول رفيقها تهدئة روعها ، قال لها مفسرا باقتضاب : إنهم قطاع الطرق ، لقد فاجؤونا بوجودهم في هذه الأنحاء فليس من عادتهم الاقتراب من ديارنا إلى هذا الحد.
ثم أكمل مطمئنا إياها : على العموم لا تقلقوا فالرجال سيتكفلون بهم تماما
بعد كلماته القصيرة لجأ الرجل للصمت فاحترمت ميسون رغبته و لم تجرأ على أن تستفسر أكثر و ظلت فريسة للقلق و للهواجس.
أما عاصم فقد أخذ يشرح خطته للرجلين الآخرين و هم يتوجهون للقاء اللصوص. أمرهم بصوت جهوري : حين أقترب منهم سأختبئ في العربة أما أنت يا جاسر فستتأخر عنا . حين يوقفون النعمان سنأخذهم على حين غرة. ففي الوقت الذي سأخرج فيه عليهم ستبدأ أنت يا جاسر بتصويب سهامك على أرجل خيولهم.
لما تأكد من استيعابهما لأوامره ، ترجل عن جواده و ضربه على عجزه ضربة قوية كي يبتعد عنهم.
…………………………………………………………………………………………………………………
كانت ميسون و رفيقها ينطلقان بأقصى سرعتهما حتى كادت فرسها تهلك من الإجهاد. فقط عندما بدأ الليل يسحب عباءته السوداء أخذت أسوار المدينة تلوح لهما من بعيد. حينها فحسب طفق الرجل يهدئ من سرعة جواده تدريجيا و فعلت هي نفس الشيء مع فرسها المتهالكة.
بعد قليل كان الرجل يطرق أحد البيوت و عرفت فورا أن هذا بيت عاصم ووجدت نفسها تتشوق لدخوله. و كيف لها أن تلوم نفسها و هو مكان يحمل الكثير من أثاره و ذكرياته و ربما ضحكاته حين كان يضحك.
فتح لهم الباب رجل في أواسط الستينات عرفت من عينيه أنه والد عاصم ، نظر إليها نظرة عابرة ثم سأل الرجل الآخر عن ابنه. ما إن عرف بما حصل حتى طلب منهم جميعا الدخول ، كانت أصواتهم قد نبهت زوجته فجاءتهم مسرعة تستقبلهم ، شرح لها زوجها الأمر بسرعة ثم أمرها بتولي أمر ضيوفهم و أسرح من حينه مغادرا ليقتفي خبر ابنه برفقة الرجل الآخر.
حملت ميسون أخاها بينما حملت عزة الطفلة الأخرى و سارتا و المربية تتبعهم وراء والدة عاصم ، تقدمتهم هذه الأخيرة في ممشى طويل يصل بين الباب الخارجي و بين مكان سكنهم.
و أخذت ميسون في تأمل المكان الذي رغم غرابته عليها إلا أنها شعرت براحة فور دخوله. لم يكن في فخامة مسكنهم بالطبع فبينما كان بيتهم أقرب إلى قصر صغير محاط بحديقة مترامية الأطراف، كان هذا البيت من طراز مختلف تماما . كان يتألف من عدة غرف تحيط بساحة رحبة بها فسقية جميلة ، و كان له بستان واسع متصل به من ناحية الشمال.
أخذتهم السيدة إلى غرفة فسيحة و عرضت عليهم أن يكملوا نومهم فيها ، عندما لم يلب طلبها سوى المربية و الطفلين أشارت إلى الفتاتين أن تتبعاها. رافقتهما إلى غرفة تطل مباشرة على الباب الخارجي و غادرتهما لتعود بعد قليل حاملة معها بعض الطعام. غصبت ميسون على نفسها لتأكل لقيمات حتى لا تحرج السيدة ثم أخذت تتأملها بإمعان. كانت المرأة متعلقة بإطار الباب و هي تراقب الخارج و التوتر يصبغ ملامحها . كانت لا تكاد تمت إلى عاصم بصلة فقد بدت ضئيلة الحجم مقارنة بكل من ابنها و زوجها ، لكنها بدت مميزة بقسماتها التي تجمع بين سمار البشرة و اخضرار العينين مع حاجبين مزجّجين بدا كل منهما و كأنه هلال أسود يظل بحيرة زمردية ، لا شك أنها خلبت لب والد عاصم في شبابها.
ظلت ميسون تتأملها خفية من حين لآخر عسى أن تجد فيها شبها و لو بسيطا من وجه الرجل الذي تحب.
كانت في الأثناء تظغط على يديها بشدة حتى ترغم نفسها على الجلوس و لا تفعل مثل عزة التي أخذت تجوب المكان مرارا و تكرارا. أخيرا استدارت إليها المرأة و قالت لها بصوت لطيف لا يخفي توترها :
- اجلسي يا ابنتي فقد زدت من قلقي و انشغالي بكثرة حركتك.
طأطأت عزة رأسها في حرج و أسرعت بالجلوس و أما المرأة ففضلت أن تشغل نفسها عن حيرتها بتبادل الحديث معهما . قالت مخاطبة عزة :
- أنت ابنة الخالة ، أليس كذلك؟ ففيك شبه منها
عندما أجابت الفتاة بالإيجاب ، التفتت إلى ميسون و سألتها مبتسمة : و أنت يا ابنتي من تكونين ، أرجو أن تعذري فضولي فابني لم يحدثني عنكم.
بادلتها ميسون ابتسامتها ثم ردت برفق : لا تعتذري يا خالة فمعك كل الحق ، نحن من يتوجب عليه الاعتذار لأننا أثقلنا عليكم دون وجه حق.
سارعت المرأة بنفي الأمر لكن ميسون واصلت مفسرة : الحق يا خالة أننا كنا نحتاج إلى من يقلنا معه و تكرم عاصم بمساعدتنا ، و كان نعم المضيف ، أكرمنا و سهر على راحتنا و كم نتمنى أن يعود سالما حتى نرد له الجميل.
تنهدت المرأة و قالت و هي تنظر إليها باهتمام : سمع الله منك يا ابنتي.
ثم بدأت تسألهن عن الطفلة و أحوالها و كيف تقبلت ابتعادها عن جديها و بينما هن كذلك إذ سمعن صوت الباب الخارجي. قفزت ثلاثتهن قفزا من مكانهن و جرين جميعا نحو باب الغرفة ، فأما الأم فخرجت راكضة و أما الفتاتان فقد وقفتا بالباب تنظران.
رأت ميسون والد عاصم يسند هذا الأخير إليه الذي كان يعرج برجله اليسرى ، ما إن اقتربت والدته منه حتى انحنى عليها و ضمها إليه و قبل جبينها بدفء و ظل يطمئنها عن حاله بصوت عطوف. ثم رفع عينيه فقابل نظرات ميسون الملهوفة و رغم حيائها إلا أنها لم تستطع أن تخفض بصرها بل حملت نظراتها كل لواعج نفسها. عندما دخلوا الغرفة ابتعدت الشابتان لتقفا في أحد الأركان و هما تحمدان الله عل سلامة الرجال. نظر الرجل إلى زوجته و أمرها بإحضار دلوا من الماء و بعض الأربطة و قال لها موضحا : جاسر مصاب في ذراعه يجب أن نغسل له الجرح بسرعة قبل أن أوصله إلى بيته .
هرعت المرأة لجلب ما أمرها به و تبعتها عزة بسرعة بينما خرج الأب عند سماعه صوت مناداة أحد الرجلين.
وجدت ميسون نفسها وحيدة مع عاصم و حارت كيف تتصرف. أخرجها من ارتباكها عندما أمرها بصوته العميق : تعالي إلي يا ميسون
ركضت إليه و روحها تسابق جسدها ، توقفت قريبا منه و رفعت وجهها تتطلع إليه في صمت أبلغ من أي كلام. سألها بصوت دافئ :
- ميسون هل القلق الذي رأيته في عينيك من أجلي؟
أجابته بصوت مختنق و شفتاها ترتجفان : كله من أجلك يا عاصم ، كله من أجلك
طافت عيناه على صفحة وجهها ثم ارتاحتا قليلا على شفتيها ثم عادتا لتحدقا في عينيها. انحنى عليها و قال لها بصوت يجيش بالعاطفة : ميسون اذهبي الآن إلى غرفتك فقد يدخل علينا أحدهم في أي وقت
أطاعته على الفور لحسن حظها ، فما إن بلغت الباب حتى خرجت والدته تتبعها عزة و هي تحمل دلوا من الماء.
وجهت له نظرة أخيرة حملتها جميع شوقها إليه ثم غادرت. بينما قبلته أمه على خده و أسرعت متوجهة إلى ابن أخيها. حين وصلت إلى العربة التفتت إلى عزة و طلبت منها أن تناولها الدلو و لكن هذه الأخيرة أجابتها و هي تتجنب نظرات عينيها : لا بأس يا خالة ، قد يكون ثقيلا عليك ، سأدخله معك إلى العربة ثم أغادر
فلم تكن الفتاة بأي حال تنوي أن تذهب دون رؤية خطيبها. ما إن رأت منظر جاسر حتى أصابها الهلع فقد كان مستلقيا على أرض العربة ، عاري الصدر و جرح في أعلى كتفه ينزف بغزارة بينما والد عاصم يظغط عليه بقوة. بدأت المرأة تغسل له جرحه بيدين خبيرتين ثم لفتة بالأربطة و شدت هي أحد الطرفين بينما شد زوجها الآخر ثم عقدتهما على الجرح حتى ينقطع النزيف. كان جاسر مغمضا عينيه طوال الوقت ، يبدو على ملامحه الألم الشديد و لم تستطع الشابة فعل أي شيء سوى النظر إليه بفزع. التفت إليها السيدة و قالت لها بلطف يغلفه الحزم : أشكرك يا عزة على مساعدتك و الآن اذهبي لتنالي قسطا من الراحة.
خرجت الفتاة رغما عنها و هي تشعر بالفراغ فكم تمنت أن ينظر إليها نظرة واحدة. فمنذ أن خاطبها عاصم بشأن جاسر و هي حائرة في أمر أحاسيسها ، لم تشعر بالصدمة أبدا عندما تأكدت بما لا يدعو للشك أن عاصم لم ينو و لي ينوي الزواج منها ، ما فاجأها هو سعادتها العظيمة برغبة جاسر فيها. كانت قد وصلت الغرفة التي خصصتها لهم والدة عاصم فاستلقت بجانب ميسون النائمة و استرسلت في تفكيرها.
اعترفت لنفسها أن أكثر شيء جعلها تولع بعاصم هو جاذبيته الجسدية ، فهي لم تكن قد قابلت رجالا مثله من قبل. فجُلّ من كانت تتعامل معهم هم من التجار و الباعة ذوي المظهر العادي و البطن المكتنز في كثير من الأحيان.
لذلك عندما رأت عاصم افتتنت به و عندما رأت جاسر كذلك أعجبت به فورا هو الآخر مع أنها لم تعترف لنفسها بذلك إلا بعد لأي. و وجدت نفسها تغرم بسرعة باندفاعه ، بمرحه ، بدفء طبعه و شيئا فشيئا وجدت اهتمامها بعاصم يقل ليحل محله الاهتمام بجاسر.
كانت المرة الأولى التي واجهت فيها حقيقة مشاعرها هو يوم نزهتهم معا.
كان غافيا تحت ظلال الشجرة و ظلت هي تتأمله كالمسحورة ، أرادت دون جدوى أن تشبع عينيها من وجهه غير أنها احتارت على ما تركز بصرها ، أ على شعره الناعم الطويل ، أم على رموشه الكثيفة ، أم على شفتيه الممتلئتين في غير غلظة ، أم على ذقنه العريضة التي تزيد ملامحه رجولة و قوة. كانت تنظر إليه و قلبها يخفق بعنف حتى فتح عينيه فجأة ، و لأول مرة منذ التقيا ترى لونهما بوضوح. كانتا خضراوين ، و لكن ليس ذلك الأخضر العشبي الذي رأته كثيرا من قبل. بل كان ذلك الأخضر الزمردي ، تماما كلون بحر عميق انعكست عليه أشعة الشمس الدافئة.
و اليوم بعد أن رأته في هذه الحالة تأكدت بما يدعو للشك أنه هو رجلها و أنه هو من اختاره قلبها و تذكرت كلمات مربية ميسون حين تمنت لها السعادة مع من اختاره قلبها. أخذت تدعو في صمت أن يقوم سالما من إصابته. و ما لبثت حتى غرقت في نوم عميق.
|