جنون المطر ( الجزء الأول)
الفصل الثامن عشر
المدخل ~
بقلم الغالية : حالمهه
مطر مطر مطر..
هآ قد أتى مطر..
غسق غسق غسق..
فتلهربي من الخطر..
مطر مطر مطر..
هآ قد أتى جنون المطر..
غسق غسق غسق..
ويلك من عذابه المنقهر..
مطر مطر مطر..
هآ قد جاء المنتصر..
غسق غسق غسق..
تمتمي بآيات الفلق..
مطر مطر مطر..
هآ قد جاء ورحل..
غسق غسق غسق..
جمالك الفتآن السبب..
*******
دفعت الباب ببطء ودخلت بكرسيها ليسقط نظرها فورا على الجالسة
على السرير منزلة رأسها وتنظر ليديها في حجرها في صمت ثم
سرعان ما حولته منها للكرسي الملقى عليه اللباس الخارجي الأبيض
لزواجها فتنهدت بعجز وتقدمت منها محركة عجلات كرسيها قائلة
" صباح الخير يا ابنتي "
فخرج لها همسها مجيبة عليها بحروف بالكاد سمعتها وصوت أبح
مخنوق ونظرها لازال على يديها , فاقتربت منها أكثر حتى وصلت
عند سريرها وقد عجز لسانها على أن تبارك لها زواجها بابن شقيقها
وهي نامت هنا وحيدة في غرفتها السابقة ولم يرى أحد ذاك الزوج
منذ أول ليلة أمس ولم يتصل بهم , قالت بهدوء مراقبة ملامحها
العابسة متمسكة بصامتة " ما كان عليك نزع الثوب بنفسك
يا غسق فذاك فأل سيء على العروس "
فأشاحت بنظرها بعيدا للجانب الأخر تمنع نفسها بقوة من الانفجار
فيها , فأي شؤم لم يصيبها غير الذي هي فيه وأي سوء هذا الذي لم
تراه بعد ! ظنت أن تلك الأفكار تختص بها عمتها فقط لكنها اكتشفت
الآن أنها متأصلة في جميع أقطار بلادها , شبكت تلك يديها ببعضهما
ونظرها لازال عليها وقالت بذات هدوئها " يحق لك أن تغضبي
وتستائي لكن مطر ما خرج إلا مرغما "
ثم تابعت مبتسمة " لا يوجد رجل يرى هذا الحسن ويخرج
ويتركه إلا مجبرا أو أنه فقد عقله "
أبعدت وجهها عنها أكثر وابتسمت بسخرية لا تريد أن تراها على
ملامحها وخرج صوتها باردا كالجليد " لست أهتم لكل هذا ولم
أختره راضية ليزعجني تركه لي فكلها سواء "
أرادت حقا أن تخفي جرح كرامتها أمامهم فمهما كانت تعلم أنه
لا يريدها ومهما كانت مجبرة عليه فتلك إهانة في حقها وقد
زادت شقيقته تلك الأمور سوءا بما رمتها به كالقذائف فنصف
تعكر مزاجها ليس بسبب ذاك بل بسبب شقيقته وسخريتها منها
ومما فعل بها , وقد اعترفت بعجز أنه إن كان غرضه إذلالها
فقد فعل وإن كان غرضه كسر صورة والدها شراع أمام قبائله
أكثر مما فعل فقد نجح وبجدارة , تنهدت العمة بعجز وقالت
" إذا اصعدي لغرفتك فبقائك هنا لا يجوز وغرفتك وزوجك
مجهزة وأنتي أصبحتِ إحدى سيدات هذا المنزل "
وجوابها طبعا كان الصمت وقد عضت شفتيها بقوة في عادتها الدائمة
لكتمان خروج الكلمات وهي على رأس لسانها فلا تريد أن تخطئ
في حق هذه العجوز الطيبة ولا أن تظهر انزعاجها الحانق مما حدث
بصراخها الغاضب المحتج , سمعت تنهيدتها القوية حين طال صمتها
وقالت " سأطلب من إحدى الخادمات إذا أن تنزل لك ثوبا بدل
هذا فهوا غير مريح ولا أعلم كيف نمتِ فيه "
وخرجت يتبعها الصوت الخفيف لصرير عجلات كرسيها تاركة
خلفها التي رفعت رأسها للأعلى تمنع دموع قهرها من النزول
الدموع التي أقسمت أن لا تنزل منها مهما حدث وسيحدث معها
تمتمت بأسى ساخر " وهل نمت أنا ليضايقني ! "
وقد ازداد حنقها فوق ما كان وشدت قبضتيها على الملاءة التي
تغطي بها نصف جسدها السفلي متمسكة بها منذ ليلة البارحة لتستر
فخذيها مع هذا القميص القصير الذي لم تجد له بديلا في هذه الغرفة
التي يبدوا أنهم أخلوها حتى من ثياب المنزل القليلة تلك التي جلبوها
لها لتلبسها فترة إقامتها هنا ، كما لم تجد لها مكانا سوا هذه الغرفة
الكئيبة التي كرهتها من كثرة ما كانت سجينة فيها .
انفتح الباب مجددا فتنفست بضيق من قبل أن ترى الداخل من يكون
فإن كانت المدعوة جوزاء فلن تعد نفسها أبدا بأن تمسك لسانها عنها
ولن تضع تربيتها ومبادئها في الواجهة لأنها الآن بالذات لا تستطيع
تحمل أي شيء من أي أحد ، لكن ولحسن حظ كليهما كانت إحدى
الخادمات التي دخلت مبتسمة تحمل شيئا في يديها وضعته عند طرف
السرير ثم استوت واقفة وقالت وابتسامتها لم تفارقها " صباح الخير
سيدتي ، السيدة الكبيرة طلبت جلب فستان لك وأنا اخترت هذا ، كما
وجلبت لك معه أيضا ملابس داخلية إن كنت ترغبين في الاستحمام
وإن كنت تريدين الصعود لغرفتك والسيد مطر فهي في ا.... "
قاطعتها بفظاظة " شكرا يمكنك المغادرة "
لكنها بدلا عن ذلك قالت بذات ابتسامتها " أتمنى أن تكون الثياب
على مقاسك وإلا سترمى قطعا كثيرة قد تم شرائها جهازا لك "
قبضت أصابعها على قماش الملاءة بقوة وقالت متمسكة بآخر ذرة
صبر لديها " أريد أن أنزل من السرير وهذا القميص قصير جدا "
ففهمت تلك فورا وأومأت برأسها باحترام وخرجت مغادرة وقد أغلقت
الباب خلفها فرمت الغطاء من عليها وغادرت السرير ودخلت الحمام
من فورها لعل المياه الباردة تخفف شيئا مما تشعر به ، وما أن وقفت
تحت رذاذ الماء المنساب على جسدها الناعم ومررت يدها برفق على
عنقها حتى شعرت بذاك الارتجاف يسري لجسدها وهي تتذكر لمسته
لها البارحة وحضوره المهيب المسيطر رغم أنها لم تراه , فحتى ملمس
أصابعه وكفه على بشرة يدها وهو يمسكها بكل تملك لازالت تشعر به
حتى الآن ، رفعت وجهها للأعلى مواجها لرذاذ الماء مغمضة العينين
تحاول طرد كل ذكرى ربطتهما البارحة وأولهم تركه لها عرضة للإهانة
من الجميع وعلى رأسهم شقيقته تلك ، وبعد وقت وجهد قضته في غسلها
لشعرها لفت جسدها بالمنشفة وخرجت تحمل ذاك القميص في يدها ورمته
بإهمال مع قطعته الأخرى فوق الكرسي متمتمة " لنرى أي شؤم هذا
الذي سيحل عليك يا ابن شاهين "
وتوجهت للسرير من فورها ورفعت ذاك الفستان الطويل المصنوع
من قماش الشيفون بلونه الأزرق الحبري وثلاث أزهار حمراء كبيرة
طبعت عليه و له كمان واسعان ثم يضيقان تحت المرفق ، وسقط نظرها
بعدها على الحزام الأحمر المرفق له ، تأكدت من إغلاق باب الغرفة جيدا
ثم ارتدت ملابسها وذهلت من أنه كان قياسها تماما وأجمل بكثير مما كان
قبل أن تلبسه ، كان بياقة بسيطة دائرية مزينة بمشبك فضي بسيط مرصع
بالفصوص ، وقد وصل طول ذاك الفستان للأرض مغطيا قدميها ومخصرا
عند منتصفه مناسبا لجسدها من الأعلى منسابا باتساع في الأسفل ، رفعت
الحزام العريض الأحمر المصنوع من الحرير الصناعي بلمعته الجميلة ولفته
حول خصرها وربطته في الخلف بعقدة بسيطة ثم مررت يديها بنعومة على
جسدها , هذا النوع من الفساتين لن يكونوا اشتروه من هنا فمن أين أحضروه
تحديدا ! وذوق من هذا في مثل هذه الثياب ؟ رمت تلك الأفكار من رأسها
بسرعة وجلست على طرف السرير وبدأت تمشط شعرها الرطب بروية
وتنهدت بحزن ، لكم تحتاج لعمتها الآن فهي من كانت تقوم بهذه المهمة
عنها ، فما أن تنهي حمامها ولبس ثيابها تنزل السلالم ركضا والمشط في
يدها بحثا عنها لتستقبلها تلك موبخة لها بابتسامة ( انزلي على مهل ولا
تكثري لي العقد في شعرك الطويل )
مسحت طرف عينها تمنع دمعتها من النزول وهي تكرر قسمها لنفسها
أن لا تبكي وأن لا تريهم دموعها متذكرة جملة والدها الدائمة لها منذ
كانت صغيرة ( البكاء يضعف الإنسان بنيتي والضعفاء يصعد الناس
على ظهورهم , مثلما أنهم لا يحترمون ولا يهابون إلا قوي العزيمة )
ووقفت سريعا قبل أن تجد نفسها تجهش في البكاء وهي تسبح أكثر
في تذكرها لذاك الرجل الأعظم في حياتها ، لبست الحذاء الذي جلبته
الخادمة مع باقي الأغراض ثم توجهت للنافذة أبعدت الستائر عنها
وفتحتها على اتساعها ليستقبلها نسيم الصباح برقته ورائحة الأزهار
والأشجار العبقة فجمعت شعرها كله جانبا ومررت أصابعها فيه
سامحة للهواء بتخلله ليجففه ببطء تستمتع بمنظر الحديقة الجميل
لعله يحسن من مزاجها قليلا ، فبالرغم من أنه الجزء الخلفي من
حديقة ذاك المنزل إلا أنه من الروعة ما يليق بأن يكون واجهته
*
*
سار بخطوات ثقيلة وبصعوبة حاملا سلة القمامة التي تكاد توازي
طوله حتى وصل بها للبرميل الحديدي الكبير المخصص لجمعها
في ذاك المقر الواسع لجنود الحدود ، حاول رفعها بكل جهده مسندا
لها على ركبته لكي يرفعها بعد ذلك على كتفه ثم يفرغها كما يفعل
يوميا , ففوجئ بها تطير من يده وينسكب ما فيها داخل ذاك البرميل
فنظر فوقه بسرعة للجسد الذي حجب عنه نور الشمس الساطع ثم مدها
له وقال مبتسما " حسنا يا تيم ألم تفكر في عرضي لك وتغير رأيك ؟ "
أخذ السلة الطويلة منه وسار قائلا " لا "
فتبعه ذاك سائرا خلفه يديه في جيوب بنطلونه العسكري وقال " أنا
أعرض عليك عرضا مغريا لن يحلم به فتى في سنك ووضعك
أبدا فوافق وسأعلمك جميع أنواع الأسلحة الخفيفة وسيكون سرنا "
وقف والتفت له ورفع رأسه ناظرا له تلك النظرة الحادة الباردة
وقال " ولماذا ؟ "
وضع ذاك يده على رأس الواقف أمامه ولعب بشعره الأسود
الكثيف وقال مبتسما " لأني أريد ذلك فقط "
تحرك حينها تيم من جديد قائلا بذات بروده " وأنا لا أريد "
تبعه ذاك الشاب بدون يأس وقال " حسنا سأخبرك أمرا "
فتابع تيم سيره جهة باب العيادة الصغيرة متجاهلا له وتابع ذاك
" والدتي من صنوان كما جدتي والدة والدي أيضا "
وقف تيم حينها والتفت له مجددا ونظر لبذلته العسكرية ثم لوجهه
فقال ذاك بعبوس " وأعلم معنى أن تكون نصف منتمي لمن
تعيش وسطهم "
قال تيم ناظرا له فوقه " لكنك من الحالك ، والدك من هنا "
بسط كفيه جانبا وقال ببرود " لكن الكثيرين لا يرون إلا ما يريدون
رؤيته ، حتى المدرسة أذكر كم كرهتها وأنا صغير وكنت أهرب
منها وأتلقى عقابا من والدي كلما وجدني مختبئ كي لا أذهب لها
حتى إخوتي من والدي لم يحبوني قط وكانوا ينادونني بابن
صنوان "
قال تيم من فوره " ألهذا أصبحت جنديا مقاتلا ؟ "
دس يديه في جيوبه مجددا وحرك كتفيه بلا مبالاة قائلا
" في البداية كان الأمر كذلك وكنت أريد أن اثبت لهم أني منهم
لكن الأمر تغير فيما بعد ولم أعد أهتم وأحببت فعلا ما صرت
عليه وزادت ثقتي بنفسي بعدما تدربت هنا "
سكت تيم لبرهة ثم قال " ماذا إن غارت الحالك على صنوان ؟
ألم تفكر في هذا ؟ "
هز ذاك رأسه بلا وقال " لا خوف من ذلك فأمثالك وأمثالي لا يقاتلون
من اشترك في الدم معهم هذا هو قانون الزعيم ابن شاهين أم نسيت "
حرك طرف شفته بتهكم وقال " تبقى أنت ابن الحالك ولست مثلي "
حرك ذاك رأسه برفض وقال " أعلم طريقة تفكيرك وأتفهم موقفك
لذلك عرضت عليك أن أدربك عليها سرا "
قال من مجددا " ولماذا ؟ "
ابتسم ذاك وقال " حتى إن استمر زحف الزعيم مطر على الهازان
وأخذ مدن أكثر وعدت لمدينتك بعد عودة أهلها لها فستستهجنك
الناس يا تيم وأنت أذكى من سنك ومن أن لا تفكر في ذلك ., لهذا
عليك أن تكون أقوى حين تكبر كي يهابك الناس وإن لم يحترموك "
قال له ببرود " لن أبقى هنا حين أكبر لتهينني الحالك أو الهازان "
هز ذاك الشاب رأسه بيأس منه وقال " وإن يكن فأنت تحتاج لهذا
ومتشوق له , كنت في مثل سنك وأعلم جيدا ما يعني لك إمساك
السلاح وتعلمه , وستحتاج لكل هذا حين تكبر يا تيم صدقني "
ثم ابتسم بانتصار وهو يرى علامات التردد على ملامحه وقال
" لن يعلم أحد أعدك وستشكرني مستقبلا يا تيم "
حرك عينيه قليلا بتفكير ثم نظر له وقال " سأفكر في الأمر "
لتنطلق ضحكة الواقف فوقه وقال " لا تقل بأنك ستسأل والدتك
أولاً لأنها لن تترك تأتي هنا مجددا "
تحولت ملامحه للضيق وقال " أنا لا آخذ رأي والدتي في
شيء أريده وأقتنع به ، لست طفلا "
لعبت أصابعه بشعر الواقف تحته وقال " وأنا متأكد من ذلك جيدا "
ثم مد يده له مصافحا وقال " أنا أسمي عمير وأريد أن نكون
أصدقاء أيضا "
نظر تيم ليده لبرهة ثم مد يده الصغيرة بالنسبة لتلك اليد وصافحه
ذاك بقوة ألمته ثم أرخى يده عنه وقال ضاحكا " وأول ما سنفعله
أن نجعل هذه اليد قوية جدا "
*
*
وضعها لها في حجرها برفق وهمس " داعبي شعرها
ووجهها الآن لتستيقظ "
نظرت لها بحزن وحنان وحب وقالت " ما أجملها وأصغرها
لا يبدوا عليها أبدا أنها في الرابعة من عمرها وكأنها لم
تجتز الثالثة بعد "
تحركت في حجرها متململة فهمس لها مجددا " هيا يا فاطمة الزعيم
مطر ينتظر في الخارج وهو ليس من طويلي الصبر "
هزت رأسها له بحسنا وبدلا من أن تداعب بشرتها برفق كما طلب
منها ضمتها لصدرها بقوة وحب ثم أبعدتها وقبلت خدها ففتحت
تلك عينيها سريعا فابتسمت تلك قائلة بذهول " أنظر يا عكرمة
للون عينيها ! وكأنه قطعة من السماء "
لكنه لم يكن منتبها لها ولا لما تقول بل للطفلة التي جلست تنظر
لهما باستغراب وحذر تتنقل بنظرها بينهما وكل ما يخشاه أن ترفض
وضعها الجديد هذا وتبكي طلبا لذاك الذي تعلقت به منذ يوم أمس لأنه
سيأخذها معه حينها وسيحرمان من تربيتها وهما اللذان لطالما شغفا
لطفل يركض ضاحكا في منزلهما , وقفت مبتعدة عن حجرها وتراجعت
خطوتين للخلف ونظرها لازال عليها , كانت فكرته أن يبعدوها عن مطر
وهي نائمة وحين تستيقظ قد تتقبل واقعا جديدا مختلفا , وهذا ما ظنه الآن
حين لم تبكي وهي تنظر للمرأة الجالسة تنظر لها بحزن لكن ما لم يعرفه
أن والدة هذه الطفلة لم تكن من خماصة لأنه وبحكم نكران جدها لوالدها
ونسبه لجده والد أمه لم يزوجه أحد من هناك وتزوج بامرأة من البلدة
المجاورة لهم وهي ( الحويصاء ) المتاخمة لحدود الحالك وقد كانت
بشعر أسود وعينان سوداء ووجه نحيل كالجالسة أمامها تماما , وقد
رعتها وربتها مع جدتها حتى كانت في عمر الثالثة تقريبا حين قررت
الزواج وتركها لتلك الجدة , تحركت شفتيها الزهرية الصغيرة
وقالت بهمس ونظرها لازال معلق بتك
" ماما !! "
فمدت يديها لها وقد ترقرقت الدموع في عينيها قائلة
" تعالي نعم أنا ماما "
لكنها بقيت مكانها ونظرها لم يفارق وجه المقابلة لها فهمس لها
زوجها " أسمها زيزفون وإدراكها بطيء يا فاطمة "
مسحت عينيها بقوة تمسح دموعها وقالت مبتسمة لها
" تعالي لماما يا زيزفون "
فركضت جهتها وارتمت في حضنها وضمتها تلك بقوة تقبل
رأسها قائلة بعبرة " لا بارك الله فيمن أذوك يا صغيرتي
لا وفقهم الله "
وخرج زوجها للخارج حيث الذي يقف أمام باب سيارته ينتظر أن
يخرج له صوت بكائها أو مَن أدخلها للداخل ليزيل عنه هم التفكير
في مصيرها , انفتح الباب وخرج له مبتسما وقال " نجحنا سيدي
ولقد ظنتها والدتها أيضا , فإما أنها كانت تشبهها أو أنها تحتاج
لأي امرأة لتكون أما لها "
هز رأسه بحسنا ونظر لساعته , أمامه وقت قليل ويصل لحوران
وفي رأسه ألف شيء عليه فعله , فتح باب سيارته ثم نظر له
وقال " لن أوصيك على الطفلة يا عكرمة وسأزورها حين أمر
من هنا وإن شعرت فقط أنها ليست مرتاحة معكما سآخذها "
قالت من فوره " كن مطمئنا سيدي "
وراقبه وهو يركب سيارته ويغادر وهمس ونظره يتبعها تبتعد
بسرعة " كم ظننا أن يوم أمس لن يكون له صباح "
ثم تمتم داخلا لمنزله " حمدا لله "
وما أن دخل حتى ابتسم لرؤيته للتي تحضن الصغيرة وتحدثها بحب
وروية كما تحتاج حالتها وتنهد بحزن ( هذه الطفلة تحتاج لنا أكثر مما
نحتاجها خاصة بعدما رأته وجدتها تقتل أمام عينيها ولولا أنهم لم يكتشفوا
وجودها داخل تلك الخزانة لقتلت أيضا ولولا أن أحد رجالهم وجدها
صدفة هناك لماتت في تلك الخزانة ولا يعلم عنها أحد )
اقترب منهما وجلس بجوارهما على الأرض يستمع لهما مبتسما
وزوجته تحاول أن تجد الطريقة للتواصل معها ولتتأقلم تلك مع
وضعها الجديد
*
*
أغلقت المصحف الذي قرأت فيه طوال فترة ما بعد الظهر ثم نظرت
للساعة على الجدار وفكرت هل ستبقى سجينة الغرفة هذه حتى تأكلها
الوحدة والكآبة ؟ هي لم تعد تلك الرهينة الهاربة التي تم القبض عليها
وسجنها هنا , ولم تصلها الأوامر أن سيدهم ذاك يمنع خروجها من
غرفتها , وضعت المصحف جانبا ووقفت وعدلت من ربطة حزام
الفستان التي ارتخت بسبب حركتها ثم توجهت جهة الباب تعدل من
شعرها خلف كتفيها وتدس من خصلات غرتها ما وصل طوله لخلف
أذنيها خلفهما ثم أدارت مقبض الباب وخرجت تسير في الممر بهدوء
وبدون صوت , لعلها تجد ولو خادمة تتسلى معها قليلا أو تخرج لتلك
الحديقة الواسعة فقد سمعت أصوات طيور فيها , وما أن وصلت وسط
المنزل حتى وقفت مكانها تنظر باستغراب لحركة الخادمات جهة باب
معين واسع فأوقفت التي مرت بجوارها مبتعدة عنهم وقالت
" ماذا يحدث هناك ؟ "
وقفت ونظرت لها وقالت باحترام " زوار
سيدتي , نساء
بعض كبار القبيلة "
قالت مستغربة " هل هن مدعوات على الغداء هنا أم ماذا ! "
هزت تلك رأسها بلا وقالت " بل توافدن تباعا على المجلس منذ
الصباح فاليوم كما تعلمين يكون صباح زواج السيد مطر بك
وجئن من أجل المباركة "
نظرت لها بصدمة وقالت " المباركة !! لكن لم يخبرني أحد "
حمحمت تلك قليلا وقالت وعيناها أرضا " السيدة جوزاء قالت
أنك متعبة من يوم أمس ولا داعي ليزعجك أحد وهن جئن من
أجل أن يباركن لأي من العائلة "
نظرت جهة باب المجلس الواسع بحنق ( منذ متى تهتم تلك الجوزاء
بتعبي وراحتي ؟ هل تتعمد هذا لتنزل من قيمتي أمامهم أكثر ؟ )
" جيد أنك خرجتِ , الفستان عليك أروع مما كنت أتخيل
بكثير سيدتي "
عادت غسق بنظرها أماما لتكتشف أن تلك الخادمة اختفت وحلت
مكانها الأخرى التي جلبت لها الثياب صباحا وتابعت بحماس مبتسمة
" جيد أن تخرجي وتكوني مع الضيوف , هم يسألون عنك منذ
وصلوا والجميع يريد رؤية عروس زعيمهم "
صرّت على أسنانها بقوة تكتم غضبها فحتى تلك الخادمة لم تخبرها
أنهم يسألون عنها وأن قدومهم من أجلها , نظرت للواقفة أمامها
وقالت " سأنظم لهم إذاً وأخبريني دائما فأنا زوجة زعيمهم الآن
ووجودي مهم في جميع التجمعات النسائية "
هزت تلك رأسها بحسنا بسعادة وأمسكت بذراعها قائلة
" انتظري هنا قليلا سيدتي هناك شيء سأحضره لك "
وغابت في لمح البصر مسرعة ولم تترك لها المجال لمنعها أو سؤالها
وما هي إلا لحظات وكانت قادمة نحوها بذات السرعة التي غابت
بها حتى وصلت لها ومدت لها يدها قائلة " هذا سيناسب الفستان "
نظرت ليدها مستغربة ولأحمر الشفاه فيها فقالت تلك " لونه يتماشى
مع لون الحزام والأزهار فيه , أنتي رائعة من دونه لكنه سيكون
أجمل به , كما أنه جديد سيدتي لم يستخدمه أحد "
كانت تود الرفض لكنها ما أن رفعت نظرها بوجه تلك الخادمة
المبتسمة كرهت أن تحرجها وتشعرها بأنها أقل منها فرفعت يدها
وأمسكته بأصابعها فأمسكت تلك برسغها وقالت ساحبة لها معها
" توجد هنا مرآة بقرب الباب سيدتي لتساعدك "
تبعتها منصاعة حتى أوقفتها أمامها ونظرت لأحمر الشفاه في يدها
ثم للواقفة بجانبها فهزت رأسها لها مبتسمة ففتحت غطائه وما أن
لامس شفتيها حتى انزلق منه لون أحمر دمي عكس لون الفستان
وكان كما قالت متناسب معه تماما وقد أضفى عليها سحرا خاصا
فوق جمالها به , أغلقت غطائه ومدته لها شاكرة فدفعت لها يدها
قائلة " هو لك سيدتي ستحتاجينه , أنا لا حاجة لي به فزوجي ميت
وأنا في حداد حاليا على زوج ابنتي الذي توفي في آخر معركة "
نظرت للأرض بحزن وقالت " يرحمه الله , لقد تعبنا من الموت حقا "
تنهدت تلك بأسى وقالت " لا شيء يكون بدون مقابل سيدتي , المهم
أن لا ندفع أثمان بلا نتيجة , ونحن نثق في سيدي مطر كثيرا "
رفعت نظرها لها وكانت ستقول شيئا لكنها تراجعت فهذه تبقى امرأة
غريبة عنها ولا تعرفها ومن الطبيعي أن تشجع ما يفعل ذاك الرجل
وهو زعيم قبائلهم , لكن ما لم تتوقعه أنه حتى بعد خسارتهم للأرواح
لازالوا في صفه !! غادرت تلك الخادمة لعملها ونظرت غسق لنفسها
مجددا في المرآة ذات الأدراج الخشبية والأعمدة الخشبية العريضة من
جانبيها والمصنوعة من خشب الزان الثقيل , كانت راضية عن نفسها
تماما ولا ترى أنها يمكن أن تكون أجمل من هكذا , سارت بخطوات
ثابتة واثقة نحو ذاك الباب المفتوح حتى دخلت منه لتجد المكان الواسع
يعج بالنسوة من مختلف الأعمار , هي معتادة على التواجد في مثل
هذه الأجواء وحضور المجالس المشابهة منذ صغرها لذلك لم يوترها
أبدا وقوفها في مكان يعج بنساء لكبار رجال قبيلتهم ولا نظراتهم لها
ما أن ظهرت لهم , نظرات بعضها كانت مصدومة وبعضها مبهورة
ولا تنكر أن بعضا منها كانت نظرات كارهة مستهجنة فبالتأكيد لن
يرضى الأغلبية بزواج زعيم قبيلتهم من ابنة زعيم صنوان , كانت
مسالة واحدة قد تسبب توجسا وتوترا لها وهي خروجه البارحة لكنها
لن تختبئ كالفأر كما يتوقع الجميع وكما خططت شقيقته ولن تعطيهم
الفرصة ليسخروا منها في غيابها أو يشفقوا عليها ظنا منهم أنها هاربة
من مواجهة الجميع , دخلت بخطوات ثابتة ورأس مرفوع لكن بطريقة
متواضعة وحيتهم بنبرة رقيقة وعبارات راقية كما عاشت وتعلمت وهي
تبتسم لهم برقي متجاهلة كل تلك الأشياء التي سببت لها الألم ولازالت
تؤلمها ثم أضافت والجميع منتبه لها بصمت أسكن المجلس وكأنه لا
أحد فيه " لم يخبرني أحد أنكم هنا من أجلي لقمت بواجبكم
كما يليق بكم "
ونظرت من فورها لجوزاء التي بادلتها نظرات حاقدة غاضبة من
الموقف الذي وضعتها فيه أمامهم ككاذبة , تحدثت عمتها قائلة قبلها
" أرسلت جوزاء لك الخادمة وقالت بأنها وجدتك نائمة فلم نرد
إزعاجك ونعلم أنك متعبة "
ابتسمت لها غسق بتقبل لكلامها فهي تعلم الآن أنه ضُحك عليها مثلها
من قِبل ابنة شقيقها وخادمتها , اقتربت فورا من الجالسات على طول
المجلس فوقفن من فورهن وبدأت بمصافحتهن وهن يهنئنها والجميع
مبهور من حسنها ورقي ثيابها ومنطقها وفخامة تعاملها معهم وكأنها
تعرفهم من أعوام واعتادت تبادل الكلام معهم , أمور اعترفوا بها بين
أنفسهم ومتهامسين بين بعض من أحب وجودها بينهم ومن كرهه
جلست بعدها في صدر المجلس وقد أفسحوا لها مكانا حيث عمة
زعيمهم وشقيقته وعادوا لحواراتهم ونقاشاتهم ، لم تكن الأجواء
تختلف كثيرا عن تلك التي في مجلس منزل والدها شراع , ذات
المشاكل والنقاط التي تدور حولها أحاديث نسوة كبار رجالهم
الاختلاف الوحيد الذي لاحظته هنا هو صمت جوزاء وعمتها التام
سوا من مشاركات قليلة في الرأي ليس كما اعتادت في منزل والدها
حيث كانت عمتها تتحاور معهم وتناقشهم ويحاولون معا إيجاد طرق
للمساهمة النسائية في أي شيء يخدم مصلحة قبائلهم , وكانت تعدهم
بطرح أفكارهم على زعيمهم ومناقشتها معه وذلك ما كان يحدث فعلا
أما هنا فتراه مجرد مجلس للفضفضة والترويح عن النفس رغم أهمية
المحاور التي يتحدثون حولها لكن لا يبدوا أن ثمة من يهتم لكل ما يقال
ويناقشهم فيه ويعدهم بشيء ولو أن يحاول !! أما هي فقد اكتفت بالصمت
والاستماع فكل ما يتحدثون عنه أمور تخص مدن ومناطق هي لا تعرف
عنها شيئا ولا عن مشاكلها رغم أن وضعها هنا يختلف عن صنوان كثيرا
فهناك كانت ابنة الزعيم التي لم تبلغ العشرين عاما بعد وتوجد شقيقته التي
تتولى مسئولية مجلس منزله أما هنا فهي زوجة زعيم قبائلهم وتهميشها أمر
لن ترضاه طبعا , لكن وضعها الآن لا يقتضي منها إلا صمت وخاصة أنها
لاحظت أن بعضهن يتوقفن عن الحديث فجأة وكأنها تذكرت وجود واحدة من
صنوان بينهم , وليست أي امرأة فهي ابنة زعيمهم هناك وستعمل على نقل
المعلومات إليه كما يضنون , وما لا يعلمنه أنها منذ أصبحت هنا لم تراه ولم
تسمع صوته فحتى الهاتف في المنزل يخضع للتحكم التام من جوزاء التي
تغلقه بمفتاح خاص به ما أن صارت سجينة لدى شقيقها , وما استغربته
أيضا أن أي واحدة منهن لم تلمح وتسخر من موقف البارحة وقد ترك
زعيمهم المنزل ليلة زواجه ولم يرجع , لكن سرعان ما أتاها الجواب
حين عاد الحديث لدفته الأساسية التي كانت تعج به وقالت إحداهن
" لو كان رجل آهر غير الزعيم مطر ما ترك عروسه ليلة
زواجه ليعالج مشاكل الحرب في خماصة "
نظرت لها مجاهدة نفسها كي تخفي صدمتها فما تعلمه أن خماصة
لم تكن لهم إلا إن أخذها وقت وجودها هنا فهي كانت منعزلة عن
العالم تماما ولا تعلم ما حدث طوال تلك الفترة !! فتحت فمها لتسأل
لكنها سرعان ما أغلقته حين تذكرت أن الجميع يضن أنها دخلت
الحالك يوم أمس فقط , لكن شعور التمزق داخلها لم تخفيه بسهولة
وهي تفكر كم أن هذا الرجل دموي ولا يبدوا أنه سيتوقف أبدا
تحدثت أخرى وقالت مبتسمة ونظرها على غسق " ما كان عليهم
دخولها ليلة زواجه وحرمان عروسه منه , رجاله كانوا أنانيين
جدا وجلبوا مشكلة تسببت في تركه لكل شيء والذهاب لهم "
وهناك كانت الضربة الأقوى من سابقتها ورغم أن تلك الفتاة الشابة
قالت ما قالته بلهجة مرحة بشوشة لا تنم عن سخرية ولا بغض إلا
أن غسق كرهت موضعها هذا وهي لا تعلم عن شيء حولها فحتى
عمته لم تخبرها بشيء سوا أنه كان مرغما على المغادرة , إن هي
تحدثت الآن وسألت سيعلمون فورا أنه خرج ولم يخبرها بشيء لا
هوا ولا غيره , وإن لاذت بالصمت ستظهر بمظهر الحمقاء لذلك
داست على مشاعرها وقلبها وكأنها تعصره بحدائها وقالت بثقة
" ما كنت لأرضى أن تطلع عليه شمس الصباح نائما بجانبي
وهناك من يحتاجه بشدة هناك "
لتطفوا على السطح تلك النظرات المستغربة لردة فعلها وقالت أخرى
" كان الأمر مأساويا ولن يكون الزعيم مطر إن لم يترك كل شيء
ويذهب فخبر العائلات المقتولة هناك بأطفالها كان فاجعة للجميع "
نظرت لها بصدمة لم تستطع لا إخفائها ولا محاربتها وقد بدءا جفنيها
بالاحتراق من بشاعة ما سمعت وكادت تنفجر فيهم بغضب باكي وتشتم
زعيمهم ورجاله أمامهم دون اكتراث لأحد لتخفف من اشتعالها للكارثة
التي لم تشهد مثلها منذ كبرت وعرفت سوا قصصا عن فعلة الهازان منذ
أكثر من عشرين عام لولا قالت عمته بحزن " كان غرضهم تشويه صورة
مطر ولو كان الثمن قتلهم لكن عدالة الله كانت أقوى وخرجت تلك الصور
الأخرى التي دمرت كل ما فعلوه وهو يحمل تلك الطفلة المتعلقة به
والناجية الوحيدة وصورة اثنين من رجاله يبكون من بشاعة ما رأوه "
وعند هنا كانت طاقة احتمالها للأمر وصلت للصفر وإن بقيت دقيقة
أخرى ستنفجر لهم باكية وهي تتخيل فقط تلك الوحشية والقتل فوقفت
وغادرت من هناك بخطوات جاهدت حدها كي لا يلاحظ أحد أنها
خطوات امرأة ميتة تسير على الأرض وصوت واحدة أخرى
من خلفها قائلة " تكذيب ما كان أمس وفي نفس
الليلة كان لصالحنا حقا "
تمنت أن تصرخ بها أن تصل للباب الذي وجدته بعيدا جدا عما
كان , وما أن كانت خارجه حتى أسرعت الخطى تمسح طرف
جفنها تريد أن تصل لغرفتها سريعا وتفرغ كل هذا هناك وحدها
لكن تلك الخطوات السريعة والغشاوة التي سببتها دموعها الحبيسة
منعتها من رؤية الشيء الذي اصطدمت به بقوة وهي تسير مسرعة
ورأسها شبه للأسفل فارتدت بقوة للخلف ولولا أنها لم تكن تركض
لكانت وقعت فورا لكن اليد التي أمسكت رسغها بقوة منعتها حتى
من الابتعاد لخطوات أخرى وشعرها الذي تناثر أمامها منعها
من رؤية أي شيء وشهقتها الرقيقة خرجت من صدمتها بالموقف
رفعت شعرها عن وجهها سريعا ممره أصابع يدها الأخرى فيه
للأعلى لتعود غرتها للتساقط تباعا متدرجة على جانبي شعرها
وجبينها وانفتحت عيناها بصدمة حين وجدت أماها من لم تعرفه
سوا ببذلته العاجية وكانت سترتها مفتوحة يلبس تحتها قميص أزرق
كلون النقوش في السترة تماما وكانت مرفقة لها , ووجدت نفسها
محدقة بملامحه دون أن ترمش فلم ترى سابقا رجلا تجتمع فيه كل
ما ترى أمامها الآن , شعره الأسود الحريري المقصوص ولحيته
المشذبة بعناية لتزيده من تلك الفخامة الرجولية , عينان سوداء شديدة
السواد واسعة بنظرة حادة مسيطرة تؤكد للناظر لها أنها نظرة قائد لا
يضيع من يده أي حق , يحفانهما حاجبان طويلان مستقيمان , أنف
حاد وفم قاسي زاد ملامحه جمودا فوق جمودها , وزادها هي ذعرا
فوق هيبته وصلابة شخصيته وبروز عضلات جسده من تحت ذاك
القميص والسترة تلك النظرة التي ينظر بها لها بل لعينيها بتركيز
لتبدءا بالزحف تباعا لشفتيها فعنقها فجسدها , تلك النظرة الجامدة
الصلبة التي كانت تشعر بها تحرقها كالنيران فأغمضت عينيها
لتعطي نفسها مجالا لتأخذ نفسا ولو لجزء من الثانية وتبعد عن
عقلها فكرة تنقل نظراته على جسدها بكل ثقة وأريحية كحق من
حقوقه وحده , ثم سرعان ما فتحتهما واستلت رسغها من قبضته
في حركة لم تكن عنيفة كارهة ورافضة لكنها كانت تحمل كل
معنى الاستقلالية للذات وأنها شيء لا يحق له إمساكه كما يريد
ولم تصدق نفسها وهي تبتعد بخطواتها عنه ولم تفقد وعيها بعد
وقد راقبتها نظراته ينظر جانبا حيث سارت مبتعدة تجمع شعرها
للأمام بإحدى يديها التي كشف كم فستانها ساعدها الأبيض
حتى اختفت خلف الممر الذي توجهت إليه
" مطر !! حمدا لله على سلامتك "
عاد بنظره من هناك للواقفة بجانبه الآخر وقال بجمود
" سلمك الله , هل عاد عمي من فزقين ؟ "
هزت رأسها بلا وقالت " هل أجلب لك شيئا تأكله فقد
رفعنا الغداء للتو "
قال متوجها جهة السلالم " حسنا ولا تتأخري "
ثم صعد ووصل لغرفته فتح الباب ودخل ليفاجئ بالتغيير الجذري
فيها من أثاثها لملاءات السرير ووسائده لسجاد الأرضية وحتى
الستائر فهز رأسه بيأس من عمه وتقدم من طاولة التزيين رمى
مفاتيحه هناك وأفرغ ما في جيوبه ثم توجه للنافذة وفتح ستائرها
بقوة ليدخل النور الطبيعي ووقف مكانه يشاهد الأفق وقد غاب تفكيره
مع ما حدث صباح اليوم والأخبار الجديدة التي كان لها مفعول
الصاعقة عليه أكثر من سابقتها , فبعد ساعات طويلة من ضج
القنوات بالصور التي عرضت فجر اليوم والأخبار والتكهنات
التي تناقلتها والتهم التي تلقاها ورجاله رغم أن أغلبها انصبت
عليهم لأنه لم يكن معهم ظهرت صورا أخرى اليوم لتثبت للعالم
الجانب الآخر من الحقيقة والمذنب الأساسي فيها , وأصبحت
أغلب أصابع الاتهام موجهة للهازان ولابن راكان بدلا عنهم
لكن خبر مقتل ضيغم أحد رجاله المقربين ومن سرب كل تلك
الصور لم يترك لانتصارهم أي لذة , مرر أصابعه في شعره
ونظرته تتحول للعبوس وهو يتذكر مكالمته له اليوم وفور نشر
الصور الأخرى وهو يقول له بصوت وجس خائف لم تخفى عنه
رنة الحزن فيه ( ما كنت لأغدر بك سيدي وأنا أحد أذرعك لكنهم
كانوا يريدون فعلها بأي طريقة كانت وإن لم أرضخ لهم أنا كانوا
سيبحثون عن غيري لذلك قبلت وهيئت لهم الأمر على أنه يسير في
المنحى الذي يريدون وأني رحبت بعرضهم المغري بسعادة لكي أقلب
خطتهم عليهم , أفضل من أن يغروا غيري بالمال ويفعلها ولا أحد
يعلم عنه ويقتلوني أنا ليموت السر معي , سامحني سيدي فقد لا
تطلع عليا شمس صباح غد , وحقق كل ما كنا نحلم به ونصبوا
له , عدني بوطن واحد موحد يعيش فيه أبنائي بسلام أرجوك )
شد مؤخرة عنقه بقوة يصر على أسنانه بغيظ وهمس بقهر
" لن يضيع دمك هذرا يا ضيغم ولن تذهب تضحيتك أدراج
الرياح يا بطل , أعدك وأنا ابن شاهين "
أغمض بعدها عينيه بقهر وغضب من نفسه لأنه لم يدرك أنهم قد
يفكرون على هذا النحو ويخسروه ثقة الناس في الهازان بأن يرجع
لهم أراضيهم ومدنهم حتى دفع أحد رجاله المقربين الثمن وفكر بذكاء
لطالما رآه في رجاله , بدأ يشعر بذهنه يبتعد عن تلك الموجة من
الأفكار وهو يستنشق العبير الغريب الذي ينبعث من ماذا لا
يعلم !! ثم سرعان ما تذكر أين ومتى استنشقه من قبل إنه ...
فتح عينيه وأبعد يده عن عنقه وفردها أمام وجهه فهي كانت مصدر
تلك الرائحة بسبب إمساكه لرسغها منذ قليل , ظهرت صورتها أمامه
فجأة وطريقة ابتعادها عنه بكل عنفوان أنثوي رقيق ورفض لاذع
مدجج باللباقة في ذات الوقت وعناد بطرق جديدة , وعادت صورتها
أمامه من جديد وعيناها المحتقنتان بالدموع ولم تخفيهما عنه هذه
المرة .... ليقطع حبل أفكاره فتح باب الغرفة ودخول جوزاء بصينية
الطعام الكبيرة ووضعتها على الطاولة فاستدار وتقدم منها وجلس
قائلا " أخبري عمتي تنتظرني في غرفتها سأستحم ثم أنزل لها
أريد أن أتحدث معها "
نظرت له باستغراب وكان يأكل ولا يعلم عنها في أي
أرض تكون فتنهد بعجز وخرجت من عنده
*
*
عادت للوقوف أمام النافذة ثم سرعان ما أغلقتها وعادت مجددا
جهة سريرها وجلست فوقه تحضن ركبتيها ولازالت تشعر بقلبها
ينبض بقوة وساقاها ترتجفان وصورة وجهه لا تفارق مخيلتها أبدا
تخيلته بأي صورة إلا تلك والرجولة تنضح منه وكأنها بركان ثائر
لم تشعر من قبل أن ثمة رجل يملك تلك الهالة القوية حوله وذاك
الطول والجسد الصلب , حتى تلك النظرة لم تعرف مثيلة لها من
قبل وكأنها لقائد حربي عاد من القرون الوسطى , دست وجهها
في ركبتيها تحضن نفسها أكثر وتلملم ارتجافها فبالرغم من كل
ذلك هي لازالت تراه مخيفا ولازالت تتهمه بالغطرسة والأنانية
وبأنه تسبب لها بالأذى الكثير منذ دخلت أراضيه وأمسك بها
ورجاله , هزت رأسها بقوة متأففة ثم رفعته للأعلى مسندة له
للجدار خلفها وقد مرت بها ذكرى كل ما سمعته عن خماصة
في ذاك المجلس لتنساب دموعها رغما عنها هذه المرة فأمسكت
فمها بيدها تمسك شهقتها الباكية فهي لن تفكر في منع نفسها
من البكاء على أبناء بلادها , على أطفال أبرياء ونساء اتخذوا
لعبة حرب ودفعوا ثمنا غاليا فقط من أجل مآرب سياسية
وحربية لا يد لهم فيها
*
*
أوصلتها جوزاء لغرفتها وما أن دخلتا من الباب حتى نظرت
لها فوقها وقالت " هل أخبرك ما الذي يريده ؟ "
هزت رأسها بلا وقالت وهي تساعدها لتجلس على سريرها
" قال أنه يريد التحدث معك فقط , ويبدوا أنه سيستحم ويغادر "
قالت ناظرة لها وهي تغطي ساقيها باللحاف " إذاً لما لم تتركيني
على الكرسي لأرجع للضيوف ؟ "
وقفت على طولها وقالت " ستتعبك قدماك ليلا عمتي فأنتي جالسة
منذ الصباح تستقبلين النسوة , سأقوم أنا بذلك فأغلبهن غادرن "
هزت رأسها بحسنا دون تعليق وخرجت تلك من فورها لحظة دخول
مطر واقترب من عمته التي قالت مبتسمة تراقب اقترابه منها
" حمدا لله على سلامتك بني وعلى تخطيكم لتلك المصيبة "
وصل عندها وقبل رأسها هامسا " شكرا عمتي "
ثم جلس في الكرسي الذي كان بجانب السرير وتفصله عنه عدة
خطوات , شعره الرطب لازال يبرق بسبب تأثير الماء على
لمعته السوداء مرتديا بنطلون كحلي وقميص قطني مريح بياقة
مفتوحة , قالت المقابلة له بذات ابتسامتها " مبارك لك بني رغم
أني أردتها مباركة كاملة وأنت تنام البارحة مع زوجتك "
هز رأسه هزة خفيفة وتمتم مبعدا نظره عنها " بارك
الله لنا في عمرك عمتي "
ثم عاد بنظره لها وقال بجدية " أخبريني عن أمر تلك العجوز
عزيرة فأمر إرجاعها هنا قد يكون مستحيلا حاليا وورائها
سر عليا أن أعرفه "
تمسكت بثباتها لأنها تعرف أنه سيلحظ أي ارتباك في ملامحها
وقالت " كما أخبرتك سابقا يا مطر هي كانت تولد نساء كثيرات
في تلك الحدود ولابد وأن أحدهم يبحث عنها لسبب ما يتعلق
بأحد الأطفال فهربت "
نظر لها بشك وقال " ألا يكون أنتي ذاك الشخص لذلك
هربت من هنا ؟ "
شهقت بقوة ليس لصدمتها من كلامه بل من تفكيره بهذا الشكل وقالت
" ومن أين ستعلم ؟ وما كانت معرفتها لذلك ستجعلها تهرب فكل ما
كنت أريد معرفته منها عن مولود المرأة التي سألتني عنه إحداهن
وتصر وتلح علي , ثم هي لن تخفي شيء عنك وتعلم أنك لن تضرها
فهي مجرد قابلة ليست كاتب عقود ولا ممن يأخذون أجورا
على تهريب الناس من حدودنا لتخاف "
قالت كلامها ذاك ثم سرعان ما غاص ذهنها فيما قال وفكرت هل
صدق تخمينه وتكون علمت عن بحثها عنها وصحيح أن أميمه
تلك ولدت مولودا لشقيقها دجى !! حسنا ذلك لن يجعلها تفر بجلدها
كانت لتقول ما لديها فقط ولن يمسها أحد بسوء , فما السر وراء
ذلك إن كان كلام مطر صحيحا ! أما أفكار الجالس أمامها فغابت
لأبعد من ذلك , قال بنبرة متزنة " إن ماتت تلك العجوز مات
معها الكثير وهذا ما لا أريده "
فتحت تلك فمها ثم سرعان ما عادت وأغلقته , أمور كثيرة تمنعها
من قول شكوكها تلك له , ثم هي لم تتأكد بعد من الأمر , لكن كما
قال خروجها وهروبها أمر يثير الكثير من الشكوك حولها , وهي
لن تضمن أن لا يسير ابن شقيقها على الاتفاق القديم ذاك مع تلك
القبيلة , ولا تريد لأي زعزعة للأوضاع مع صنوان في هذا
الوقت الحساس وابنته بينهم وزوجة له أيضا , تنهدت بعجز
وقالت " لا يوجد سر يموت للأبد بني تأكد من ذلك "
فتنفس بقوة واستسلم لصمتها رغم أن الشك بدأ يساوره من أن عمته
تخفي أمرا , وفكر أنه قد يكون فعلا يخص امرأة هنا لا تريد قول
اسمها لذلك تجاهل الأمر تماما , بينما نظرت هي له بتوجس وخيفة
من تحقيقه وذكائه وهي من تعرفه جيدا , وظنت أنه سيقف مغادرا
بعدما أنهى حديثه كعادته دائما لكنه نظر جانبا لبرهة وبصمت ثم
نظر للأرض تحته وكان مسندا مرفقيه لركبتيه ومرر أصابعه في
شعره الرطب القصير المصفف ثم شبك أصابعه ببعض ونظره
عليهم وقال " اسألي الفتاة عن مهرها فهي لم تحدد شيئا
والعقد لا يكتمل إلا به "
فابتسمت تمسك ضحكتها وهي تراقبه فرفع رأسه ونظر لها
وعبس متجهما من طريقة ابتسامتها تلك وما تخفي ثم وقف
وقال بجمود " سأغادر وقد أرجع متأخرا لذلك سأترك
الأمر لعمي وسأتحدث معه "
ثم غادر من فوره دون أن ينتظر تعليقا منها وعيناها تراقبه
وعلى شفتيها تتراقص تلك الابتسامة ذاتها وتمتمت بضحكة
صغيرة ما أن خرج " قل أنك تريدها الليلة في غرفتك
واختصر الطريق على نفسك يا ابن والدك "
المخرج ~
بقلم الغالية : همس الريح
مطر .......
انامطر ..امطرت نار
لاجل بلادي نفثت الشرار
لو ان لي وحدي القرار
لوحدت كل هاذي الديار
و انهيت هذا الدمار
وطني انا وطن الفخار
سهل تلال حتي القفار
********
نهاية الفصل .....
موعدنا القادم مساء الأربعاء إن شاء الله
أحداث الفصل كانت قصيرة وأكيد ما أروتكم وكان ودي أنزل فصلين
لكن الفصول المكتوبة عندي ثلاث فصول ونصف وصعب أنزل غير
فصل فلازم تساعدوني وأساعدكم عشان ما توقف الرواية ولأني
أنزل فصلين أسبوعيا يعتبر فصل واحد طويل في الأسبوع أي إننا
للآن نعد في الفصل التاسع واخترت فصلين عشان ما تبعد الأحداث
عنكم ولولا وعدي لتنزيلها لكم في العيد ما كنت نزلتها إلا الآن لأن
ظروفي أبدا ما ساعدتني على الكتابة فلازم توسعوا صدوركم وأنا
أعمل جهدي حتى ما توقف , أعتذر طبعا كل الاعتذار لفترة غيابي
كان عندي شوي ظروف وما دخلت إلا لما راسلت فيتامين سي
وأهملت تواصلي معكم والكتابة يمكن تبعدني عنكم هالفترة لكن
بناقش معاكم أهم النقاط الي بتطرحوها وكل سؤال إن شاء الله فلا
تحرموني من ردودكم الحلوة وتوقعاتكم بسبب تغيبي لأنها أكبر
دافع وداعم لي للكتابة وبكون معاكم قدر الإمكان والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته .... أختكم المحبة لكم برد المشاعر