جنون المطر (( الجزء الأول ))
الفصل السابع عشر
المدخل ~
بقلم الغالية : همس الريح
وجعي انا وجع طفل تركته امه
و وقف في وسط الطريق
وجعي انا وجع الثكالي
حين يفقدن الرفيق
وجعي انا وجع الرجال
حين بجوفهم يشتعل الحريق
وجعي انا وجع وجع
لا مثله الم و لا حزن عميق
انا احبك يا غسق
و الان فرقنا الطريق
هل للدروب من التقاء
رفقا باحساسي الرقيق
ايا ابن شاهين هل
رايتها فهويت مبسمها الدقيق ؟؟
ام هل سمعت حديثها
الاحلي من عذب الرحيق
الاكيد انني ميت
بيد العدا و يد الصديق
جبران .....يا وجع الحب حين يفقد حبيبه
******
كانت الطريق بالنسبة لها أطول من رحلة مغادرتهم فجرا ليس
لأن الليل باغتهم وهم يسيرون بسرعة فوق تلك الطرق المعبدة
ولا لأن الجلوس هناك طوال النهار أرهقها بل لأنها غادرت وهي
تشعر بأنها نفسها بأنها حرة وابنة شراع وعادت وهي ملك لذلك
الرجل اسمها مرتبط بسمه وشعرت بالفعل أنها لم تعد تلك ولم تعد
ملك نفسها , كل ذاك الشعور وتلك الأحاسيس المتضاربة التي كانت
تعصف بها طوال تلك الرحلة جعلت مشاعرها تتحجر , شعرت بالفعل
أن كل شيء فيها مات حتى توترها ورهبتها من ذاك الرجل لم تشعر
بهم حين وقفت السيارة وعلمت أنهم وصلوا , وما أن انفتح باب السيارة
بجانبها ووصلتها رائحة العطر تلك ذاتها التي لازالت مختزنة في ذاكرتها
منذ ذاك اليوم حين أصيبت وغابت عن الوعي , ظنت للحظة أن قلبها سيقفز
من مكانه أنها ستتوتر وتخاف لكنها حقا لم تشعر بشيء حتى أنها هي نفسها
استغربت ذلك ! كان كل شيء يسير على تلك الوتيرة وكانت راضية
عن نفسها تماما حتى انتفض جسدها بقوة حين شعرت بملمس أصابعه
على أصابعها التي انكشفت من كمها دون أن تنتبه لها , تلك الأصابع
الدافئة أمام البرد الذي تشعر به , وسرعان ما تحولت تلك اللمسة الخفيفة
لالتفاف لتلك الأصابع الطويلة القوية حول أصابعها الرقيقة ممسكة بها بكل
تملك وقد أصبحت يدها ترتفع مع شده البطيء لها وعيناه تراقبان بتركيز
أي رد فعل ينجم عنها حتى أن تشدها منه بقوة وتغلق باب السيارة على
نفسها لتضعه في موقف سيء أمام الجميع هناك وإن كان أبعدهم عنهما
قليلا , لكن شيء من ذلك لم يحدث وهي تنحني فورا خارجة من السيارة
منصاعة لشده لها ليظهر شبح ابتسامة على طرف فمه الصلب القاسي
تشبه تماما ابتسامة انتصاره في إحدى معاركه وهو يراها تنقذ نفسها
من عقابه حال فكرت أن تتهور بأي فعل يتوقعه , وما استطاع أن يقرأه
فورا من تصرفها المذعن ذاك أنه ليس من أجل نفسها ولا خوفا منه
بل من أجل والدها فقط ليعترف لنفسه بأنها أذكى بكثير مما كان يتوقع
فيما حاولت هي أن تتمسك بباقي ما بقي لها من قوة وأن تمنع جسدها
من الارتجاف وهي تشعر بأصابعه تلتف متخللة أصابعها لتقبض على
كفها بكل تملك مخفيا ظهره المنقوش بالحناء عن الأنظار في جانب
جسده وسار بها جهة منزله وحيث تلك الخيام الكبيرة المنصوبة وتبعه
على الفور عمه حتى كان سائرا بجانبه وخلفه رجاله ومن نزلوا من
تلك السيارات التسع ليبدأ مهرجان إطلاق النار من رشاشات الواقفين
عند الخيام يملأ الأجواء وهم يراقبون اقتراب زعيمهم معلنين ابتهاجهم
بهذه الليلة وموافقتهم على ما قرر وفعل فشعر حينها بارتجاف يدها القوي
وقد قبضت على كفه بقوة دون شعور منها وهي التي تعمدت أن ترخي
من قبضتها , فهي لم تعتد هذا فسماع مثل هذه الأصوات يكون بعيدا
دائما خاصة بعدما منعوا في صنوان استخدامه في حفلات الزواج
بسبب الإصابات المتكررة في الناس من رصاصهم الطائش
قبض على كفها أكثر وهو يرفع يده ملتقطا السلاح الرشاش الذي رماه
له أحدهم ما أن وصلوا لجموع الرجال المصطفة ورفعه في مستوى كتفه
بيد واحدة بعدما توقفوا جميعهم وأنزلوا أسلحتهم فضغط على الزناد لتنطلق
تلك الرصاصات متتالية وسط صراخ الواقفين كمن انتصر في حرب
ضروس , وكان وقع ذلك على قلب السائرة بجانبه أكبر من أن تتحمله
والصوت أصبح في رأسها وأذنيها فارتفعت يدها الأخرى وقبضت بها
على كم سترته بقوة ولم يعد لديها أي تحكم بتصرفاتها وهي من كانت
تحاول جاهدة أن تتمسك بثباتها , وما أن شعر بيدها نظر فورا تحته
ليجدها تمسكت بذراعه بقوة وخوف فأبعد أصبعه وتوقف سيل تلك
الرصاصات الهادر قبل أن يفرغ المخزن كاملا كما يفعل أي رجل
لديهم في ليلة زواجه , ثم رماه من فوره ليلتقطه أول من وصل إليه
وارتخت قبضتها عن كم سترتها حتى أبعدت يدها سريعا وجسدها
الذي لاحظت أنه أصبح ملتصقا بجانب جسده وهي تعض شفتها بقوة
وإحراج ولا شيء تريده وقتها سوا البكاء , البكاء بشدة ونحيب
من كل ما يجري معها هناك
*
*
كان الليل الستار الأخير لهم لكنه لم يكن ستارا لأفعال غيرهم
فبعد مناوشات من بعيد بين قوات الحالك التي تمركزت في النقطة
الأقرب من حدود بلدة خماصة وبين رجال الهازان الذين تمركزوا
خلف حدودها بمسافة وبعدما لاحظ رجال ابن شاهين الثغره الكبيرة
بين صفوف خصومهم وضعف القيادة والتحكم بدأ التوجس يتسلل
بينهم فلم يكن قتالهم قتال جنود يغزوهم أحد مقتربا من حدودهم
ومحاولا اجتيازها , همس له وهما جاثيان على الأرض في أعلى
وأقرب نقطة وصلا إليها والمنظار في يده يراقبونهم من بعيد
" لا يبدوا لي الأمر طبيعيا انظر لحركتهم هناك !! "
قال الآخر بذات الهمس " لكنهم موجودين ولا خدعة تبدوا في الأمر
انزل فورا وأعلم السيد بشر بكل ما توصلنا له من مراقبتهم "
فزحف من فوره مبتعدا عنه حتى سمحت له الأرض الشبة منبسطة
بالوقوف دون أن يروه من تسللوا بالقرب منهم من دون أن يعلموا
ويكون مصيره القتل برصاصة لن تخطئه أبدا , وصل عند جنودهم
وبعد إشارتين من مصباحه اليدوي تأكدوا من أنه منهم فركض حتى
كان بينهم وقال لقائدهم الحالي وبنفس لاهث " لا فخاخ ظاهرة
وعددهم ليس بأكثر منا أبدا وصفوفهم غير منظمة أيضا "
نظر من فوره لباقي قادة المجموعات وكأنه يستشيرهم بصمت
عن الخطوة القادمة فقال أحدهم " لنبدأ بالإغارة عليهم لكن لن
نتسلل إلا بخطة محكمة كما كنا نفعل سابقا كي لا يكيدوا لنا "
هز الجميع رؤوسهم مؤيدين له فنظر بِشر للسماء فوقهم فورا وكأنه
يستجمع باقي أفكاره من رؤيا النجوم وهو يشعر اليوم فعلا بحجم
مسئولية أن تكون قائد القادة جميعهم وأن يكون الأمر بيدك وحدك
والنتائج أنت من ستتحمل تبعاتها حتى وإن بينك وبين نفسك فقط
ولن يلومك أحد , سار من بينهم متمتما بهمس " كم تحمل من
مسئولية على كتفك يا مطر يا ابن شاهين "
وتحرك الجميع حينها معطين فصائلهم الأوامر وترتيب سير الخطة
وخلال دقائق قليلة تقدمت دباباتهم وراجمات الصواريخ وبدأت
بضرب مواقع تجمعهم بعد نداء عال بمكبرات الصوت للتسليم سلما
أو إخلاء المدينة ولثلاث مرات متكررة ومتفرقة لم يصغوا لها
وفي وقت قصير أستغربه حتى رجالهم تراجعت تلك القوات بعد
محاولات بسيطة للدفاع وليس حتى الهجوم المضاد وتوقفت حينها
قواتهم على مداخل البلدة الشمالي حتى ينفذوا خطة التأكد من خلوها
منهم ومن أي فخاخ والتأكد من أنه لن تكون هناك أي التفافات منهم
*
*
وبعيدا عن تلك الأجواء المتوترة وأصوات المدافع كان الليل يمضي
ببطء شديد وسواد أقتم على أحدهم وهو يحترق بناره تحت أغطية
سريره في أحد مقرات الجنود لديهم هاربا من منزلهم وعائلته ومن كل
شيء حوله وهو يعيش كل ثانية من تلك الليلة يتخيل تلك الحبيبة مع
رجل آخر وهو الذي عاش يتمناها ويحلم بها ويحبها حبا يكبر معه كل
يوم منذ كانت طفلة تركض بينهم حتى كبرت وهو يعد الأيام والليالي
حتى انجلت لها حقيقة عائلتها ووافقت على أن ترتبط به لآخر العمر
ليأتي ذاك ويأخذها منه بكل بساطة وسهولة , لم يرى عدلا في كل ما
يجري ولم يرى ذاك الرجل يستحقها حتى إن كانت ابنة عمه وهو
الأولى بها وإن كان زعيما قويا وأخذها بالقوة رغما عن أنوفهم
لكم الوسادة بقبضته بقوة ولازال مختبئا تحت ذاك اللحاف يريد
أن يدمر كل شيء أن يحرق الأرض والسماء وأن يغير
واقعا يعلم أنه لن يغيره شيء ولا حتى الحرب .
" جبران انهض بسرعة "
خبأ رأسه في الوسادة أكثر رافضا النداء المستعجل الذي سمعه
من أحدهم في الغرفة فاقترب منه الآخر وسحب لحافه بقوة قائلا
بجزع " قم يا رجل الحالك هجمت على خماصة ودخلتها "
قفز حينها واقفا على طوله وصرخ به " تكذب !! كيف
يغيرون عليها وزعيمهم ليس معهم ؟ "
أشار له بإصبعه على الباب وقال " جاءنا اتصال الآن من حدودنا
مع الهازان وقد رأوا بأم أعينهم تقاذف القذائف بينهم وقد سقطت
كالمطر على خماصة ثم هدأ كل شيء فما معناه غير أنهم دخلوها "
دار جبران حول نفسه بتوتر وقال " المذياع , الأخبار ستكون تعج به "
خرج ذاك مسرعا وهو يقول " لم تبث الخبر أي قناة , الهازان
لم تنشر الخبر "
لبس حذائه بسرعة ولحق به راكضا متمتما " كيف لا تصدع
الهازان رؤوس الناس بخبر كهذا !! "
ثم ضرب الباب فاتحا له أكثر وخرج حيث الحديث الصاخب
هامسا من بين أسنانه " سحقا لذاك مريق الدماء "
*
*
وفي أجواء ذاك الليل الصاخب بالفرح في حوران حيث الاحتفال
في أوجه وبعد أن استقبلوا زعيمهم بالتهاني وهو يسير وسطهم
وما أن عبرا ذاك المكان مجتازين ذاك الحشد الكبير من الرجال
والأطفال ودخل بها الحديقة الواسعة تقلص عدد الموجدين برفقته
لعمه ورجاله الثلاثة فقط الذين ما أن أوصلوهما لباب المنزل حتى
التفت لهم محتضنا كتفيها بذراعه القوية فأشاروا له في حركة واحدة
بتحية عسكرية بأيديهم فقط مبتسمين فبادلهم تلك الابتسامة المداعبة
وغادروا من فورهم ولم يبقى سوا عمه الذي شد على كتفه بقوة
ثم ربت عليه قائلا بجدية ومركزا نظره على عينيه
" لا أوصيك عليها يا مطر "
وغادر بعد إيماءة الموافقة من رأس الذي تركه خلفه وقد استدار
بها فورا وأدخلها ولازالت يده تحضن كتفها بتملك تشعر به دون
أن تراه وقد غصت العبرة في حلقها ترفض أن تطلق لها العنان
وقد أثرت بها كلمات عمه التي أخذ بها مكان والدها الليلة فكل
ما فكرت فيه حينها أن هذا الرجل حرمها من أن تتزوج كغيرها
تزوجها مرغمة وكما يريد هو ويخطط ليتزوج الزواج الذي يليق
به وبمكانته كزعيم لقبائله وعوملت هي كنعجة تساق سوقا لمصيرها
وما أن أصبحا داخل المنزل حتى دخلت ضربات قلبها أولى مراحل
جنونها ورغم صراعها القوي مع نفسها لتتمسك بثباتها أكثر فقد بدأ
كل شيء يخونها ابتداء بكفيها اللذان تعرقا من شدة ما تقبضهما تحت
أكمام العباءة الطويلة متمسكة بصمتها لقدميها اللتان لم تعودا تحملانها
وكل ما تردد في عقلها حينها ( فلتهنأ بها يا ابن شاهين فقد
انهزم والدي وانتصرت أنت )
لكن الذي لازال يسير بها جهة السلالم الملاصق للباب لم يكن يعنيه
شيء من أفكارها تلك وهي تعلم ذلك جيدا , وقف فجأة وتوقفت
خطواتهما حين تذكر أمرا غفل عنه تماما , شيء وقّع عليه بنفسه
ولم يحققه ولن يحق له الصعود بها ما لم يتم وهو ... ( مهرها )
فقد وقع في العقد على أن يكون ما ستطلبه هي كما أخبر والدها
ولم يصله جوابها لا مع عمته ولا شقيقته والمهر شرط أساسي
لإكمال العقد , ولم يكلف نفسه عناء الاستدارة جهتها بل لفها
جهته بحركة رشيقة من ذراعه التي لازالت تحضن كتفيها
وتحركت هي مع حركته تلك بسرعة متماسكة بتوازنها ونجح
الأمر ولم تقع حتى أصبحت تقف أمامه مباشرة لا يفصلها عن
الالتصاق بجسده سوا نصف خطوة ورأسها لازال للأسفل وذاك
الجزء من العباءة يغطيه حتى نصف ذراعيها , لازالت تتمسك
بصمتها التام وانصياعها رغم أنهما ابتعدا عن أي أعين متطفلة
مد يده لذاك الغطاء ورفعه عن رأسها ببطء حتى كان أعلاه ثم
رماه للخلف لينكشف له حينها ذاك الشعر الأسود الحريري اللامع
وقد اختفى طوله تحت العباءة منسدلا على ما ظهر من كتفيها عبر
فتحة عنقها المستديرة الواسعة لتتناسب مع ذاك الغطاء , وقد تحركت
غرتها رغم انخفاض رأسها الشريد مع حركة الهواء المتسلل من الباب
خلفهما , مقصوصة بتدرج حرفي منابتها لا تظهر من كثرة كثافة
شعرها , ورغم أنه كان يحتاج لصوتها فقط ليسألها وتجيب ويعطيها
موافقته على ما أشارت من مال إلا أن أصابعه امتدت لما تحت تلك
الغرة التي تراقصت بعض خصلاتها كالريش مع دوران الهواء بين
جسديهما , وسرعان ما وصلت أطراف أصابعه لذقنها مرسلا بذلك
ارتعاشه في جسدها بأكمله شعر بها على الفور فأحكم إمساكه لذاك
الذقن الناعم الصغير وكأنه سينزلق من بينهم ورفع رأسها له للأعلى
في حركة واحدة حتى كان مرتفعا لأقصاه ليصبح مقابلا له تماما
فوقها يتفحصه ببطء وهي مغمضة العينين وقد علت خديها حمرة
سرعان ما التهبت كالدم الفاتر فوق الجليد , شفتيها الزهرية الرقيقة
بقيت محافظة على صلابتها ونعومتها رغم أن قلبها كان يحكي
قصصا أخرى من الجنون بضرباته المتسارعة لكنها تماسكت بعد
اقتتال عنيف بينها وبين حواسها وهي تقف أمام الرجل الذي لطالما
كانت ترهبه وتهابه وهو ليس أمامها فكيف بالآن ! وقد استحقت
حينها بالفعل أن تصفق لنفسها بحرارة على ذاك الدور المتقن الذي
أرسلت له به رسالة واضحة فهمها على الفور وهي تغمض عينيها
عنه بطريقة لم تعبر عن الخوف ولا عن الهروب والتوتر بل عن
الرفض التام للنظر له وهي تغمضهما عنه بهدوء تام دون حتى أن
تشد عليهما تاركة لذاك الكحل الأسود اللامع كل المجال ليصف
مدى اتساعهما مسدلة جفنيها على تلك الأحداق المهلكة بسوادها
واتساعها وقد لامست رموشها الكثيفة الطويلة أعلى وجنتيها
المرتفعتان تحكي حكاية خرافية عن الحسن , تاركة له المجال
ليتفرس ملامحها ببطء , المرأة التي احتل صيتها البلاد وتكرر
ذكرها حتى في وسط مجلسه حيث كبار رؤوس قبائله .
ولم يكن يعلم وقتها عن أظافرها التي كانت تخترق لحم كفيها من
قوة شدها لقبضتيها مفرغة فيهما كل انفعالاتها وتوترها وهي تشعر
بأنفاسه الدافئة الثابتة تلفح وجهها وقد التوى طرف فمه بابتسامة
متهكمة ولم يعد غرضه حينها سؤالها عن ذاك المهر بل كسر هذا
العناد والكبرياء اللذان عرفت ببراعة كيف ترميه بهما وما كانا
سيليقان بغيرها في مثل هذا الموقف , أجل ما كان له إلا أن
يعترف بذلك ولولا عنادها ذاك الذي أشغل عناده كالنار في
الفتيل لما ضمن دفاعاته التي تحولت لهشة في لمحة بصر .
حرك إبهامه ببطء معلنا بداية حربه مع تلك العينين ممررا له على
ذقنها تباعا نحو نهاية فكها وهو يختبر ملمس ذاك الشيء الذي لم
يختبره يوما ولم يعرفه , ولا يعلم عن حال التي تكاد تنصهر بسبب
لمسته تلك والأرض تتحول تحتها لهلام تكاد تنزلق فيه وهي تختبر
أيضا ذاك الشعور الذي لم تعرفه من لمسة أي رجل غيره حتى
جبران وجسدها يرسل ذبذبات غريبة عنها جعلت جفنيها يشتدا
بقوة وهي تغمضهما بشدة ومن دون شعور لتتسع ابتسامته الملتوية
وهو يترقب هزم عنادها الذي أدخلته به في حرب بأسلحة أنثوية
فتاكة ، وصل أصبعه لنهاية فكها حتى لامس شحمة أذنها ويده
تستشعر ملمس ذاك الشعر الحريري المحتضن لكتفيها , وما أن
نزل به لعنقها في خطوة يرى أنها الأخيرة التي سيهزمها بها
التفت التفاتة سريعة كالبرق للباب خلفه وقد التقطت أذنه صوتا
تأكد وقتها أنه حقيقة لارتداد خطوات أحدهم بعدما همّ بالدخول
فأبعد يده عنها ونظره ما يزال للخلف وتوجه هناك من فوره
واهبا لها أعظم فرصة لم تحلم بها وقتها وهي تسترجع أنفاسها
بقوة ويدها على صدرها وقد فتحت عينيها سريعا ونظرها على
ذاك الجسد الطويل بأكتافه العريضة مبتعدا عنها جهة الباب في
حركة سريعة ورشيقة ولا تفهم لما غادر وأين حتى ابتعد خارجا
وظهر له ظل الواقف في الخارج وبحركة سريعة وخاطفة كنمر
انقض على فريسته كانت ثيابه في قبضته وسحبه بسرعة بعيدا
جهة الإنارة الخارجية وغضن جبينه ما أن تبين ملامحه وترك
ثيابه هامسا باستغراب " ما بكم يا حيدر ؟ "
وهوا موقن تماما أن هذا الرجل لن يدخله هنا إلا أمر جلل ، عدل
ذاك ثيابه وتنفسه لازال يلهث بسبب ركضه وهمس أيضا " آسف
سيدي ظننت المنزل فارغا وكنت سأدخل وسطه وأناديك من الأسفل
لأن هاتفك عندي والسيد صقر اختفى ولم أجده وما كنت لأنزلك
في هذه الليلة لولا أن الأمر ... "
قاطعه بهمس حازم " انطق يا حيدر ما الذي حدث مع
الرجال في خماصة ؟ "
بلع ذاك ريقه وقال بصعوبة وشحوب " مصيبة سيدي "
ليتعكر سواد تلك العينين في غضب قاتم وشده من ياقته قائلا
" هل كادوا لهم ؟ هل كان فخا ؟ تكلم قبل أن أجهز عليك يا حيدر "
هز رأسه بلا ووجهه يزداد شحوبا وهمس " بل دخلوها وهم
متمركزين فيها الآن "
ترك ياقته بقوة وهمس بحدة " إذا ما هي المصيبة التي
تتحدث عنه ؟ "
مسح ذاك على عنقه وقال بصوت مهتز وقد اختفى الدم من وجهه
" وجدوا سبع عائلات مقتولة في منازلها ودمائهم لازالت تنزف "
ولم يشعر بنفسه إلا وهو قد طار في الجو واصطدم ظهره بالجدار
بقوة وعنقه في يد المقابل له وقال وهو يخنقه بشدة " من فعلها
يا حيدر تكلم ؟ هل ضربوا أوامري عرض الحائط ؟ "
سعل ذاك بقوة وروحه تكاد تخرج ولم يستطع الكلام فتركه وقد
انحنى مستندا بيديه على ركبتيه يحاول استرجاع أنفاسه ورأسه
للأسفل وقال بأنفاس متقطعة " الأمر مدبر سيدي وكانت
هذه هي مكيدتهم "
فركض حينها مطر من عنده بخطوات سريعة جهة باب المنزل
الخارجي مزمجرا من بين أسنانه " سحقا "
وركب سيارته أمام أنظار من بقي من الناس وغادر بسرعة
جنونية مثيرا الغبار حوله كالسحابة السوداء
*
*
تململت في جلستها وكأن ثمة كومة أشواك تحتها وهي تحاول
توزيع ابتسامات مغصوبة من حين لآخر في وجه الحاضرات
ممن قد ملئن تلك الخيمة الواسعة ، همست للجالسة بجانبها من
بين أسنانه مصطنعة ابتسامة صغيرة " لا يبدوا أن هؤلاء
النسوة يفكرن في المغادرة "
خرجت ضحكة صغيرة من عمتها وقالت ويدها على فمها
" ما بك ؟ ألست تريدين أن يتزوج شقيقك ! وما رأيك أن
تقفي وتطردي الناس ليدق لك عنقك "
تأففت هامسة بضيق " عمتي بالله عليك لا تزيديني على ما بي "
انحنت حينها إحدى خادماتهم وهمست لها شيئا في أذنها فنظرت
لها فوقها وقالت بصدمة " متى حدث ذلك !؟ "
قالت تلك من فورها " منذ قليل
سيدتي وتبعته سيارات رجاله فورا "
وقفت حينها جوزاء من فورها ممسكة بفستانها الطويل ترفعه
بيديها وغادرت الخيمة جهة أقرب أبواب سور المنزل وكان
قريبا من مدخلها , دخلت مجتازة الحديقة حتى وصلت المنزل
متمنية أن يتحقق ما ترجوه وقد حدث فعلا ما أن دخلت ووجدت
التي وقفت من جلوسها على عتبات السلالم ما أن سمعت خطوات
تقترب من الباب وقد بقيت مكانها بعدما غادر وتركها دون حتى
أن يخبرها أو أن يدلها أين تذهب ولم يخرج لها أحد من المنزل
نظرت لها نظرة تخالط الانتصار مع الشماتة وابتسمت بسخرية
وهي تدقق على ملامحها الفاتنة التي زادها ذاك الكحل الأسود فتنة
لتلك العينين المبهرة وتلك الزينة المرتبطة بالعروس لديهم متمثلة
في النقاط البيضاء التي رسمتها لها تلك المرأة بحرفية أظهرتها
بصورة لم ترى لها مثيلا من قبل في غيرها وعلى امتداد سنوات
عمرها والعدد الكبير الذي رأته من النساء في مثل هذه الزينة وهذا
الثوب , ولم تتمنى لحظة أن يراها مطر إلا الآن قبل خروجه تاركا
لها هنا , اتسعت ابتسامتها الساخرة قائلة " مرحبا بالعروس ! لما
لا تخرجي لتراك النساء بدلا من البقاء واقفة مكانك هنا بعدما
غادر عريسك وتركك وحدك "
جاهدت غسق دموع قهرها وهي تضغط قبضتيها بقوة ورفعت
ذقنها ونظرت لها باستعلاء دون أن تجيب فتابعت تلك بانتصار
" مسكينة لو كنت مكانك ورأى الناس زوجي خارجا من عندي
ما أن أدخلني لقتلت نفسي فورا "
كم كرهت غسق نفسها تلك اللحظة وذاك الرجل ضعف ما كانت
تكرهه وهو يضع والدها قبلها في هذا الموقف أمام قبيلته جميعهم
سخر منه مجددا وصغره أمام الجميع , نظرت جوزاء حولها ثم
نظرت لها مجددا وقالت بضحكة " أم ندخلهم هنا ليروك وهم
ينتظرون رؤيتك فابقي واقفة مكانك "
خرجت حينها من صمتها وقالت بصوت جاف " لماذا تكرهينني ؟ "
ضحكت تلك بجهورية رافعة رأسها للأعلى ثم نظرت لها وقالت
بسخرية لاذعة " لما تهربين من موقفك المخزي بتحليلي "
تحركت حينها بخطوات غاضبة وتوجهت للممر الذي يحوي
غرفتها السابقة وضحكات تلك الساخرة تتبعها حتى اختفت
دخلت الغرفة وضربت بابها بقوة وقد عضت شفتها بقوة حتى
شعرت بطعم الدماء في فمها تكتم قهرها وغضبها وكلماتها
من الخروج , رفعت أصابعها المرتجفة من الغضب لمشابك
العباءة وفكتها بقوة وقهر حتى فتحتها وأزالتها عن جسدها
ورمتها على الكرسي بكل قوتها هامسة من بين أسنانها
" سحقا لك وله ولهم جميعا "
ثم ارتمت على السرير تدفن وجهها في وسائده وتقبض على
غطائه بيديها بقوة تجاهد دموعها كي لا تنزل فلم تتعرض حياتها
لإذلال كهذا ولم يهنها شخص من قبل كما أهانها ذاك وشقيقته
*
*
غطى الوجوم والكآبة على ذاك المكان حتى تحول لقطعة من الحزن
الشديد والرجال يتنقلون بين تلك المنازل كالتائهين في كل مرة يتولد
لديهم أمل في ناج منهم وبلا فائدة , غطوا أجسادهم بملاءات بيضاء
وابتعد الجميع للحدود عدا قادتهم حسب أوامر زعيمهم التي وصلتهم
بصوته الصارخ عبر الهاتف وهو يقود سيارته بسرعة لم يقدها بها
من قبل متوجها نحوهم يكاد يبلع الطريق من شدة غضبه وقهره ليصل
لهم في أسرع وقت , وعلى ذلك مضى الليل الأسود الحالك حتى كانت
ساعات الفجر الأولى وبزغ أول خيط من خيوطه الذهبية على تلك البلدة
الغارقة في الظلام والبؤس ليعكس ضوء النهار الأول بريقه على أشجارها
المتحركة بصمت قاتل وكأن أحدا لا يوجد فيها فلم يعد يسمع سوا أصوات
خطواتهم فوق تلك الأرض وأنفاسهم المتوترة الثائرة وبعض الهمس
الخافت بـ ( لا حول ولا قوة إلا بالله )
منظر يدمي حتى القلوب المتحجرة فكيف بقلوب تجمعها معهم هوية
الدم والوطن , مشهد أبكى عيون بعضهم وهم رجال لم تعرف عيونهم
الدموع ورغم قتالهم وقتلهم لمن اعترض طريقهم من الرجال لكن
الأرواح البريئة والنساء أمر لم يعتادوا فعله ولا رؤيته بهذا المنظر
وبتلك البشاعة , وصلتهم سحابة الغبار التي تراءت لهم من بعد
كعاصفة رملية حتى توقفت قربهم كاشفة عن السيارات الثلاث
التي توقفت بقوة مصدرة صوتا قويا لاحتكاك عجلاتها بالتراب
انفتحت أبوابها ونزلوا منها يترأسهم الذي ضرب باب سيارته
بقوة وتوجه نحوهم بخطوات سريعة ترسل في كل حركة
شرارات من قوة غضبه الذي تقدح به عينيه , لازال ببذلة
زواجه العاجية لم يعطي لنفسه وقتا ولا لتغييرها , توجه
من فوره لشخص معين منهم وأمسك بتلابيبه وصرخ هازا
له بقوة لم يقاومها أبدا " قسما يا بِشر إن كان هذا من فعلكم
أن تموت على يدي وهنا أمامهم لتكون عبرة لغيرك "
تحدث حينها بِشر بثبات لم يغيره الموقف المهين له أمام
الجميع وقال بصوت متزن لا يخلوا من الاحترام " مقتولين
بالرصاص سيدي وجميعها في الرأس حتى قذائفنا لم
تصل لهم حسب أوامرك "
تركه حينها مستغفرا الله بهمس حارق خرج من بين أسنانه ومرر
أصابعه في شعره الأسود المصفف بعناية وقد تجهم وجهه بشكل
لم يروه من قبل وتابع همسه المقهور " أي وحوش هؤلاء الذين
يفعلونها بدم بارد ؟ أي وحوش !! "
تكلم أحدهم بضيق " واضحة جدا سيدي يريدون لصق التهمة
بنا ليخبروا العالم أننا من فعلها وأننا نقتل الأبرياء "
تحدث الواقف خلفه من بين أسنانه " سحقا تلك هي سياسة الغرب
يطلبون منهم أدلة مشوهة عنا ليقفوا معهم وهم لن يقفوا مع أحد
ونخسر كلينا "
وقال آخر " سيشون بنا في العالم أجمع بفقد عائلات هنا "
وعلق آخر " لن يجدوا دليلا علينا فهم خرجوا قبل دخولنا "
عقب بِشر بسخرية " لن يلعبوها ناقصة أبدا "
صرخ حينها مطر فيهم مسكتا لتعليقاتهم " ترهات , ما يعنيني
ليس ما يفكر فيه كل واحد منكم "
ساد الصمت بينهم جميعا مطرقين برؤوسهم بصمت كئيب وتابع
هوا بحدة راميا بيده بغضب " كنت أريد أن نؤمن ممرات للعائلات
لترجع للمناطق التي سنأخذها ولا تبقى في العراء والخيام والجوع
كنت أريد أن يشعروا بالأمان معنا , أن لا يدفع الأبرياء العزل ثمن
هذه الحرب ويتشردوا في وطنهم , أما الآن فأصبحنا قاتلي الأبرياء
مريقي الدماء ولن يرجع أحد لمنزله ومدينته وأرضه خوفا على نفسه
وسيهربون منا وكأننا وباء مسموم ويعانون الويلات فوق معاناتهم "
نظروا لبعضهم بصمت واجم لا يستطيعون إنكار حقيقة ما يقول
وما لم يفكروا فيه لأن أنانيتهم جعلتهم يصبون جل تفكيرهم في
حربهم ورأي العالم ومساندته , شد مطر قبضته بقوة أمام صدره
وخرج صوته صلدا كسحب الحديد في النار مع بحته الواضحة
صاراً على أسنانه " حتى التسليم بالسلم من بعض القبائل فيهم
أصبح حلما الآن بعد بشاعة صورتنا القادمة "
هز بعضهم رؤوسهم بأسى للحقائق التي لم يفكروا فيها أبدا وقال
أحدهم بحذر " ولا حل لهذه المصيبة سيدي سوا أن ننكر بما أنه
لا دليل ملموس لديهم وسيعدّون أن العائلات مفقودة بعدما ينكر
كل جانب وجودها لديه فلا دليل لديهم أننا قتلناهم وأنهم
هنا أساسا "
مرر أصابعه في شعره مجددا حتى وصل لقفا عنقه وأمسكه
بقوة وقال بضيق " سيستجوبون من غادر من هنا ويشهدوا
على عدم خروجهم , ثم كما قال بِشر هم لن يحبكوا خطة
ناقصة أبدا ولابد وأن لها فصولا أخرى "
جال بعدها بنظره في المنازل ودماغه يعمل بسرعة خاطفة
وهمس محدثا نفسه " الدليل ! كيف سيجلبونه وهم ليسوا هنا ؟؟ "
وقبل أن يكمل باقي ربط أفكاره نظر بسرعة للمنطلق جهتهم
صارخا من بين المنازل وركض بعض الرجال نحوه وتبعوه
مختفيين خلف سور أحد المنازل المقابلة فأمسك مطر بالذي
تحرك من جانبه وقال " ما بكم ! ما قال ذاك الرجل ؟ "
قال المقابل له بسرعة " وضعنا حارسا على كل منزل
ويبدوا أنه وجد أحد الناجين بينهم "
أبعده حينها من كتفه بسرعة وركض في الجهة التي اختفى فيها
البقية واقترب من المنزل الذي يخرج منه صراخ هستيري لطفلة
فدفع باب سور المنزل بقدمه بقوة ووثب للداخل وركض جهة
أقربهم قائلا " ما بكم ؟ من هنا "
التفت له الذي عند الباب الداخلي للمنزل وقال " طفلة في الخزانة
ومذعورة وما أن لمسها السيد ضيغم حتى ازدادت ذعرا , امرأة
واحدة معها في المنزل ووجدناها مقتولة "
دفعه من أمامه ودخل وتوجه فورا لباب المطبخ المفتوح حيث ثلاثة
من قادة رجاله هناك وواحد داخل المطبخ فدخل مبعدا لهم ووقع نظره
على الجسد الملقى أرضا لامرأة متوسطة الوزن تغطيه ملاءة بيضاء
بأكمله ولا يظهر منه شيء فصر على أسنانه بقوة وحقد ثم رفع
نظره للخزانة المفتوحة في ذاك المطبخ الصغير وللجسد المنكمش
في عتمتها من الداخل فصرخ بعنف " أخرجوا هي خائفة من
ثيابكم وأسلحتكم ألم تفهوا ذلك "
تراجعوا جميعهم حتى كانوا خارج ذاك المطبخ فصرخ بأمر
" غادروا المنزل "
فانصاعوا من فورهم وتقدم هو ببطء حتى منتصف ذاك المطبخ
الصغير ونزل مستندا بقدميه ينظر للمنكمشة على نفسها داخل
الخزانة تخبئ وجهها في ركبتيها فبقا مكانه لوقت دون حراك
حتى هدأ بكائها وقد تحول ذاك البكاء المخيف والصراخ لأنين
متقطع وبكاء منخفض كقطة صغيرة جريحة تئن مما تشعر به
أخرج مفاتيحه من جيبه وحركها بعشوائية مصدرة صوتا رنانا
جراء اصطدامها ببعض فرفعت رأسها حينها ونظرت له لبرهة
وهوا يراقبها بتوجس يخشى أن تعود لها تلك النوبة من الهلع
لرؤيته رغم اختلاف ثيابه عنهم , لم يعتد التعامل مع الأطفال
ولا خبرة له في ذلك مطلقا لكن ما يعلمه من أحاديث متفرقة
من البعض أن أبنائهم مولعين بالسيارات فكيف في بلاد كبلادهم
يفتقر فيها أغلب الناس لوسائل التنقل تلك , أوقف حركة المفاتيح
وقال ونظره عليها " تعالي هل تريدين ركوب السيارة ؟ "
وكان جوابها الصمت محدقة به فأعاد مجددا " هيا لتركبي
سيارتي لديا سيارة هنا "
خرج حينها صوتها الرقيق من داخل الخزانة تخنقه العبرة
" سيارة !! "
حرك مفاتيحه مجددا ومد لها يده الأخرى وقال
" نعم سيارة تعالي هيا "
غص صوتها في بكاء مكتوم وقالت " جدتي "
شتم هامسا بكره ثم قال ويده ممدودة لها
" تعالي لآخذك لها "
رفعت إصبعها الصغير وأشارت برجفة للجسد المعانق
للأرض قد لطخت دمائه الأرضية تحته وهمست بعبرة
" جدتي "
فنظر للأسفل وأغمض عينيه بقوة ومرارة ثم نظر لها وقال
بصوت أجوف كئيب " هيا لنخرج من هنا يا صغيرة "
وجوابها كان الصمت ولم تتحرك من مكانها فوقف واقترب منها
حتى أصبح عند باب الخزانة ونزل مستندا بقدميه مجددا ومد يديه
لها فارتمت في حضنه من فورها فوقف وحملها وخرج بها من
هناك على الفور وذراعاها الصغيران تطوقان عنقه بقوة تنظر
جهة الباب الذي خرجا منه حتى كانا خارج سور المنزل وما
أن رأت الرجال خارجا بلباسهم وأسلحتهم حتى دست وجهها
في عنقه بقوة وارتجف جسدها ذعرا وعاد أنينها الباكي للخروج
فمسح على ظهرها وهمس لها سائرا بها جهة سيارته
" لن يقربك أحد اطمئني سنغادر من هنا "
وكان مشهدا التفتت له رؤوسهم جميعا حتى وصل سيارته فهذا
المشهد لم يروه لزعيمهم من قبل مهما زار مجالس كبار قبائله أو
زاروا مجلسه بأطفالهم فلم يحمل منهم طفلا قط ولم يلاعبه
فتح باب سيارته وأجلسها على الكرسي ليغيب نظرها فورا في
الأشياء التي لم تراها من قبل وهي تتلمس كل شيء أمامها ودمعتها
ما تزال معلقة في رموشها وشهقاتها تخرج بين الفينة والأخرى
وهوا ينظر لها بحيرة فيما سيفعله في أمرها وهي من الهازان ولا
يعرف أقارب لها ومع نزوح الناس وبقائها مع جدتها لن يكون
لها أحد بالتأكيد وقد رأت جدتها تموت أمامها .
*
*
وبالفعل وكما توقعوا فما أن تناصف النهار حتى كانت الصحف
وقنوات الأخبار تعج بما تكتمت عنه الهازان طوال الليل وهو إغارة
الحالك على مدينة جديدة من مدنهم , وجاءت الضربة القاسمة لظهره
حين عرضوا صورا لرجاله وهم يقلبون جثث الموتى وأسلحتهم في
أيديهم والدماء تنزف منهم وعجت بذلك حتى الإذاعات الصوتية
تتحدث عن تلك الحادثة وعن تلك الصور ودخلت البلاد في بلبلة
كبيرة كان للهازان الجزء الأكبر منها والناس هناك ركبها الذعر
والصدمة لما حدث وحتى من كان مؤيدا للسلم والتسليم وحفظ
الأرض والعرض والأرواح أخرسته تلك الأحداث تماما , وبدأ
الناس في البلدات المجاورة بالهرب مذعورين , ووجد أعدائه
الفرصة لإمساك تلك القضية عليه حتى أنهم طالبوا بمحاكمة
ابن شاهين وسجنه .
نظر لرفيقيه وقد خيم الصمت على الجميع ثم نظر للجالس خلف
الطاولة يفرك جبينه بيده ونظره للأسفل وغارق تماما في أفكاره
ثم حول نظره منه للواقفة بجانبه متمسكة بكم سترته بقوة ولا تفارقه
لحظة رغم أنهم نزعوا أسلحتهم وسترهم العسكرية كي تأمنهم لكن
مطر لازال أمانها الوحيد وترفض أن يتركها دقيقة , هز رأسه
بأسى ورفع نظره به وقال " سيدي علينا أن نتحرك "
رفع نظره به ونظر له تلك النظرة التي يفهمها جيدا فأخفض بصره
وقال بصوت أجوف بارد " علينا أن نفعل شيئا حيال ذلك ولو
الخروج والإنكار بدلا من أن تثبت التهمة علينا أكثر "
ضرب مطر بقبضته على الطاولة بقوة مزمجرا " وما نفع ذلك ؟
لو أعلم فقط ما الذي جعله يغدر بنا هكذا وهو أحد قادة رجالي
والمقربين مني !! لماذا ضيغم تحديدا لما ؟ "
وهذا ما لم يتوقعه ولم يجد له تفسيرا ولا مجالا ليفكر فيه حين أخبره
دماغه أن خطتهم لم تنتهي عند تلك النقطة وأنهم سيسعون للحصول
على دليل بعد دخولهم هم للبلدة لكن أن يختفي أحد رجاله ويغدر به
تلك التي لم يستوعبها عقله أبدا , نظر للتي دست وجهها في خصره
بقوة وذعر وقد نسي تماما وجودها بجانبه وأفزعها فمسح على شعرها
وتنهد بقهر فقال أحد الجالسين أمامه " سيدي أتركني آخذها لزوجتي
نحن لم يرزقنا الله بأبناء وستكون كابنتنا وأكثر "
نظر لها تحته لوقت لا يظهر منها سوا جسدها وشعرها البني
الفاتح جدا حد الاصفرار ثم رفع نظره به وقال " لكنك تعلم
جيدا عن الأوراق التي وجدناها في القطعة الجلدية في عنقها "
قال من فوره " عائلتها لن نتمكن من إيصالها لها سريعا وإن
عرفنا اسم جدها وعمها , فاتركها عندي حتى وقتها , وبالنسبة
لحالتها الصحية فهي ليست بالأمر الجلل وسترعاها زوجتي
تأكد من ذلك فهي الآن تحتاج فعلا لمن يقدّر وضعها
الصحي وحالتها النفسية بعدما رأته "
نظر لها مجددا ورفع يده عنها وقال " زيزفون "
فأبعدت وجهها عن خصره ورفعت رأسها ناظرة له بعينان
دامعة فقال بكلمات بطيئة متأنية " هل تريدين أما "
نظرت له باستغراب وعدم فهم فقال محركا شفتيه ببطء بعدما
فهم حالتها جيدا " ماما تنتظرك في المنزل "
نظرت له بطريقة من لم يفهم شيئا فتحرك الجالس هناك واقترب
منها قائلا ويده ممدودة لها " تعالي معي يا زيزفون لنذهب للمنزل "
تمسكت بمطر بكلى يديها فشدها ذاك من ذراعها الصغير وقال
ساحبا لها برفق " تعالي سأشتري لك أشياء جميلة وستعجبك "
لكنها لم تزدد سوا تعلقا بذراعه وقد انطلق صراخها الباكي مالئا
تلك الغرفة فترك ذراعها بسرعة واعتدل في وقفته ناظرا لمطر
وهز رأسه بيأس فوقف وحملها معه قائلا " أتركها لتهدأ قليلا
لا تنسى ما حدث معها "
وقف رجاله الآخرين وقال أحدهم " لكنها ستقيدك هكذا ! كيف
ستتحرك بها في كل مكان ؟ "
خرج بها من خلف الطاولة وتوجه للباب قائلا " سأغادر لحوران
وأنتم تؤمنون المنطقة هنا , لا فائدة من بقائي هنا فثمة مصائب
كثيرة عليا حلها بعد هذه المصيبة التي حلت علينا "
" سيدي "
أوقفه عند الباب صوت بِشر الذي تابع ناظرا لظهر الواقف هناك
والطفلة متمسكة بعنقه " ثق بنا ولا يدخلك الشك بعدما حدث من
ضيغم فقد يكونوا اشتروه بالمال لكننا لن نفعل "
فتح الباب وقال مغادرا دون أن يلتفت لهم " أثق بكم مثلما لا
أصدق أن يفعلها أحد اقرب رجالي "
وغادر تاركا لهم خلفه يحملون قهرا لم يخفيه وجه أي منهم وقال
أحدهم بحقد ضاربا قبضته على الطاولة بجانبه " كل هذا ولا
يصدق أن يفعلها ضيغم ؟ لا شيء ينقذه من تهمة الخيانة "
نظر له بِشر وقال بضيق " أرأيت أنت نفسك الآن ؟ لن تثق بنا
أبدا على هذا الحال , أما الزعيم مطر لن يستطيع أن يخوّن
ضغيم كي لا يشك بكل واحد منا , فقد يكونوا هددوا حياته
أو حياة عائلته "
*
*
نظر لوجه ابنه العابس وقال مبتسما بسخرية " ما بك يا وقاص ؟
أراك اليوم تشعل النيران من غير فتيل وعود ثقاب "
أبعد نظره عن والده ولم يجبه مكتفا يديه لصدره فضحك ذاك
بصوت مرتفع وقال " ألازال رواح يؤثر فيك بالأفكار التي
زرعتها والدته في دماغه "
قال وقاص ببرود ولم ينظر ناحية والده " ليس ذاك يعنيني "
وقف على طوله وقال بذات سخريته " أقسم لي الآن أنه ليس
السبب ما أضن "
نظر له نظرة قوية وقال بغضب قابضا أصابعه بقوة
" لن يفعلها ابن شاهين ورجاله لا أصدق "
هز رأسه بيأس منه ضاحكا بفتور ثم خرج من خلف مكتبه وغادره
وتوجه للباب الآخر بعدما حيا سكرتيرته بيده والهاتف فيها ثم وضعه
على أذنه مجتازا الممر وهو يتحدث من خلاله قائلا لمن في
الطرف الآخر " ضيغم كيف الأوضاع عندك ؟ "
قال الآخر بصوت منخفض حذر " وصلت طائرتي من نصف
ساعة أضن أنني مراقب سيدي وقد دخلني الخوف حقا "
دخل المصعد وضغط زر الطابق الأرضي وقال قبل أن يتحرك
به وينقطع الإرسال " لا تخف سيخرجك الحرس من هناك
ونفذ نصف الخطة الآخر الليلة بلا انتظار أكثر اتفقنا "
ثم وضع الهاتف في جيبه وهمس بابتسامة انتصار " حان
وقت اللعب الحقيقي يا ابن شاهين فتجهز "
المخرج ~
بقلم الغالية :آيفا رمضان
على لسان غسق :...
دعني اشفي لي جراحك مقتطف من زمن ......
وأعيد اليك فرحة اخذت كمن لوعة البشر .......
حلمت بي ليالي من دهر والله اختار لك قلبآ غيري حلم بك جمع دهر.
فلا تقفي لي وكأننك عاائق بين الشمس والقمر ....
وأنت تعلم بأنك في قلبي أخي أجمل ماعرفة ليالي دهري وشهد لهو القمر ......
فلا تتعجل من صبر قلبك الحريقة المشتعل ......
أم تريد ان اشفيك بقلب مثلي جارح غير ممبتسم ....
ولا تقل لي أنني لك ليس كمن عوضك بالبشر. ..
فلازلت تجهل يا أخي أن الله حرمك مني لي يغنيك ببملاك اجمل من كل البشر ويشفيك قلبك بي قلب يعطيك حب دهر زمن .....
فهداء يا أخي فالله عوضنا نحن بملائكة على هيئة بشر ......
******
نهاية الفصل
موعدنا القادم مساء السبت إن شاء الله