جنون المطر (( الجزء الأول ))
الفصل الحادي عشر
وما هي إلا لحظات واختفى جميع رجاله معطين الأوامر بإخلاء المنطقة
وعودة الجنود لمقرهم ونقاط مراقبتهم , وسيارته عند أقرب نقطة خلف
أشجار البلوط العالية وخطواته الثقيلة اختلطت بصمت الليل متجها نحوها
يحمل بين ذراعه ذاك الجسد الشبه مفارق للحياة بعدما علم أن الإصابة
في ساقها فقط وربطها لها بعمامته التي كانت ملفوفة حول عنقه , وجهها
مختفي في طيات صدره جهة قلبه وقد تشابكت خصلات شعرها الطويل
بأصابع يده والبعض منها تطاير حولهما مع حركة نسائم الليل القوية
مداعبا طرف وجهه يحملها كأنه يحمل فراشة لا وزن لها ولا وجود ولم
يدفعه فضوله قط لرؤيتها , ومنذ كانت ذراعها في قبضة يده موقفا لها
واكتشف أنها امرأة لم يفكر في رفع وجهها ورؤيتها بما أنها ليست رجلا
وصل لسيارته وأنزلها موقفا لها ومثبتا جسدها بذراعها على جسده بقوة
كي لا تنزلق من يده للأرض وفتح بابها الخلفي ومرر ذراعه مجددا خلف
ركبتيها ووضعها داخلها مجلسا لها على الكرسي فتدلى رأسها للأسفل
وغطى شعرها قسماته سريعا وما أن ترك ذراعها حتى انهارت على
الجانب الآخر من الكرسي الجلدي الواسع للسيارة المرتفعة فضرب
بابها بقوة هامسا من بين أسنانه " سحقا للنساء , أي مجنونة هذه ! "
ولف وركب سيارته وانطلق بها مسرعا جهة الطريق الرئيسي وأجرى
مكالمة واحدة بكلمات مختصرة " عائد لحوران وسأكون هنا في
الغد لا تتحركوا حتى آتي "
وتابع سيره الجنوني بالسيارة على الطريق الترابي يخطف نظره في
المرآة بين حين وآخر بعيد ليتأكد أن الجسد المرمي في الخلف لم
يصبح في مكان الأقدام في الأسفل , وما أن وصل للطريق المعبدة
أبعد تفقدها عن تفكيره حتى نسي وجودها هناك تماما وأفكاره تقوده
من بعد لآخر حول ما سيجري الأيام القادمة وأي قرارات قد يتخذها
وحتى خطتهم القادمة أعاد دراستها في ذلك الطريق الطويل ولم يعد
للموجودة معه مكان في ذاكرته تلك حتى قفزت السيارة بقوة بسبب
حفرة على طرف الطريق ليوقظه الأنين الرقيق الذي وصله من الخلف
فنظر في المرآة سريعا ليتأكد من أنها لازالت في مكانها ثم تأفف بصمت
وعاد بنظره للطرق ساخطا من كل شيء يحدث الليلة بعدما أعاده أنينها
لواقعه , أخرج نفسا ساخنا ساخطا كاد يحرق كل شيء أمامه وتمتم بسخط
" أعرف رجالا يتسللون من الحدود , أعرف زيجات تحدث بين الجنود
ونساء الحقول خلف تلك الحدود البائسة لكن نساء يتسللن وحدهن
من هناك ! تلك مصيبة جديدة ابتدعتها هذه الغبية "
وظلت مشكله التسللات من الأمور التي لا علاج لها ولم يستطع إصدار
قانون يمنع تلك الزيجات كي لا يتحول الأمر من الزواج الشرعي وإن
كان في السر وخارج حدوده للزواج العرفي وتختلط الأنساب وتضيع
أعاد أنينها المتقطع نظره لجسدها مجددا ووصله همسها المختلط
بأنتها بوضوح " جبــــرااان "
ليزفر نيرانه مجددا معيدا نظره للطريق التي ستدخلهم لحوران وأول
خيوط الفجر قد بزغ متسللا من خلف ستار ذاك الليل الأسود الصيفي
القصير ليعود همسها الرقيق مكرر الاسم مجددا وقد ملئ سكون السيارة
فتحركت شفتيه بابتسامة ساخرة جامدة لم تغير شيئا في عبوس وجمود
ملامحه ( ها قد عرفنا أسم الزوج المبجل الذي جعلها تجن وتدخل
للحدود بنفسها )
ووصلت السيارة لتتوقف أمام باب المنزل الذي غادره مغرب أمس في
رحلة كان مقررا أن تطول ليرجع ولازال سواد الليل مختطا ببياض
الفجر معلنا عن يوم جديد يتسلل في حنايا سابقه , نزل ضاربا الباب
خلفه ودخل بخطوات سريعة مناديا بصوت مرتفع
" جوزااااء "
وهوا موقن من أنها ستكون مستيقظة هذا الوقت فصلاة الفجر أقيمت
من وقت قصير , كرر النداء مجددا لتخرج له من جهة غرفة عمتها
وأكمامها لازالت مرتفعة وهي تساعدها على الوضوء من أجل الصلاة
وقد تركتها وخرجت راكضة وكأنها تريد التأكد من أنها لم تتوهم سماع
صوته وهوا من غادر ليلة أمس فقط , وصلت عنده وقالت وهي تنزل
أحد كميها " مطر ما الذي أرجعك اليوم ! هل من مكروه ؟ "
نظر حوله وقال " عمي صقر هل عاد من المسجد ؟ "
أنزلت كمها الآخر ولازالت نظراتها المستغربة المستفسرة معلقة
به وقالت " لا لم يرجع تجده على وصول , ما بكم ؟ "
تنفس بقوة وقال " أخبري الخادمات يرافقنك للسيارة ثمة امرأة مصابة
فيها أنزلوها سأصلي وأغادر , إن عاد عمي صقر بعد مغادرتي فأخبروه
يجلب طبيبا لمعاينة جرح ساقها وما أن تتحسن صحتها يأخذها للحدود
مجددا لترجع لأهلها مفهوم "
ثم غادر جهة السلالم متجاهلا نظراتها المصدومة التي لحقته فلأول
مرة يجلب امرأة معه وإن كانت مصابة لأنه أساسا أول مرة تصاب
امرأة على حدوده وتكون وحيدة وفاقدة للوعي لذلك لم يتركها لرجاله
بقيت نظراتها معلقة بالدرج الذي أصبح خاليا منه ثم تنفست بقوة وضيق
وتوجهت جهة المطبخ متمتمة للخادمة " لننزل الذبيحة من السيارة "
نظرت لها مستغربة وقالت الأخرى " هل كان السيد في رحلة صيد ؟ "
لتخرج ضحكتها رغما عنها وقالت " وهل تريه العام عام صيد , إنها
امرأة مصابة ستحل ضيفة علينا حتى تتحسن صحتها فبسرعة لا
أريد أن ينزل ويجدها مكانها وتعرفان ما سنواجه حينها "
غسلت إحداهما يديها سريعا ورمت الأخرى المنشفة لها وخرجتا
تتبعانها حيث السيارة المتوقفة أمام باب المنزل الداخلي تماما
فتحت إحدى الخادمات الباب وانحنت بجسدها للداخل ملقية نظرة
على الجسد المرمي في الخلف دون حراك ثم أخرجت رأسها
لهما وقالت " لا يحتاج الأمر لثلاثتنا فهذه المرأة لا تزن شيئا
لا طولا ولا عرضا "
ثم استوت في وقفتها خارج السيارة وقالت " حبيبة أنتي تكفين لهذا "
لترسل لها الخادمة الأخرى نظرة قاسية فبالرغم من أنها تجاوزت
الأربعين عاما فهي ذات طول وجسد ممتلئ وتوكل الأعمال الصعبة
لها دائما , دفعتها جانبا قائلة " ابتعدي لأرى إن كان يمكنني
حملها وحدي كما تقولين "
أدخلت أغلب جسدها للداخل وأمسكت ذراعها مجلسة لها
وقالت " سأجرب أو ساعدتني في حملها "
تحركت حينها جوزاء قائلة " ضعوها في الغرفة الشرقية في
الطابق الأول , سأرى عمتي وألحق بكما "
ودخلت المنزل بخطوات سريعة وتوجهت لغرفة عمتها وما أن
دخلت حتى وجدتها خارجة من الحمام بكرسيها المتحرك تمتم
بالتشهد وقالت ما أن رأتها " ما به مطر ؟ ما أرجعه الآن ؟ "
رفعت المنشفة وتوجهت نحوها وقالت وهي تساعدها على تجفيف
ساقيها اللتان تبللتا لأنها أكملت وضوئها بنفسها " أحضر امرأة
مصابة وقال أنها من الحدود ومن كلامه تبدوا من خارج حدودنا
ويبدوا قرر إبقائها هنا ليرجعها عمي ما أن تشفى إصابتها "
أنزلت كمي فستانها قائلة بحيرة " وعاد كل تلك المسافة ليأتي بها
هنا !! كان أخذها لطبيب الحدود ورجعت لأهلها ما أن عاين
الطبيب إصابتها ؟ "
استوت في وقفتها وقالت وهي تطوي المنشفة " هي فاقدة للوعي تماما
وتعلمي أن مطر يستحيل أن يتركها بتلك الحالة في مقر مليء بالرجال
لن يضمن سلامتها فيه , فمن الطبيعي أن يتصرف هكذا , فحتى تركها
عند أحد العائلات هناك لن يجعله مطمئنا خاصة أن تكون من خارج
حدودنا , عمتي الوضع حساس جدا "
هزت تلك رأسها بنعم وهمست " معك حق كان قراره صائبا "
دفعتها جهة القبلة وفردت لها السجادة على فخذيها قائلة
" عليا العودة للخادمات لأرى ما فعلن وسأرجع لك "
ثم تمتمت مغادرة " آخر ما قد أريده أن نعتني بامرأة قد
تكون من صنوان "
وغادرت الغرفة متجاهلة ضحكة عمتها الخفيفة قائلة " تمني
فقط أن لا تتحول إقامتها لأبدية "
وصلت سريعا للغرفة الموجودة في الجانب الآخر وما أن دفعت الباب
ودخلت حتى وصلها همس إحدى الخادمتين عند السرير الذي توسط
الغرفة " سبحان الله فيما يبدع ويصور ! "
وهمست الأخرى بذهول " لم ترى عيني مثيلة لها , هذا ولم تفتح
عينيها بعد ! لا تستطيعي إخراج خلل واحد فيها , سبحان الله
ما أحسنها "
اقتربت منهما بحيرة وفضول وأبعدت التي وصلت عندها قائلة
" هذا بدل أن تنظرا لجرحها إن كان ينـ .... "
ووقفت متسمرة مكانها وهي تنظر لوجه النائمة على السرير لا تعي شيئا
وقد تناثر شعرها الطويل شديد السواد حولها واحمرت خديها من حرارة
جسدها فلم يخفى عنها من تكون فهي لم تنسى شكلها منذ رأتها من أربع
سنوات وليست من النوع الذي تنساه بسهولة , تركتهما وخرجت راكضة
بأسرع ما لديها متمنية أن تدركه ولا يكون غادر بعد , وقد تحقق مناها
ما أن وقع نظرها عليه نازلا آخر عتبات السلالم باستعجال فأسرعت
نحوه قائلة بنفس لاهث " مطر انتظر لترى هذه المصيبة "
وقف ينظر لها مستغربا وقد وصلت عنده وأمسكت ذراعه القوية
وقالت ناظرة لعينيه والصدمة لم تفارقها بعد " هل رأيت تلك الفتاة ؟ "
غضن جبينه مقربا حاجبيه وخرج صوته باردا جافا " ومنذ متى
تعرفيني أتفرس في وجوه النساء ؟ ثم حتى إن رأيتها لن أعرفها "
ضربت خدها بيدها الأخرى ضربات خفيفة متتالية بشفاه مرتجفة
فقال بضيق " جوزاء تحدثي ما بها ؟ أو اتركيني أمضي في سبيلي "
وضعت كفها على صدرها وقالت بتلعثم " الفتاة ... إنـ إنها ابنة
شــ شـ ـشراع صنوان "
لتفترس عيناه السوداء ملامحها بدقة وكأنه يبحث عن كلام مغايرا
لما سمعه منها وقال بنبرة صلبة " بماذا تهذين أنتي ؟!! "
*
*
نظرت للسائر بجانبها ليتطاير شعرها جهة عينيها وأبعدته بيدها
الصغيرة خلف أذنها وقالت مبتسمة " لم أجد الورقة لقد أخذتها
من مدة طويلة واختفت حقا وليس عليا سوا أن أنتظر تحققها "
ابتسم بسخرية ونظره على غصن شجرة البلوط الذي يضرب به
فخذه فعبست ملامحها وضغطت قبضتيها على حقيبتها وقالت
ولازالت تنظر لملامحه أكثر من الطريق وقد رسمت ابتسامة
نسيت معها كل شيء " وأنت ألا أمنية لديك تكتبها ؟ "
لم يجبها يضرب الهواء بالغصن مصدرا صفيرا عاليا فمدت
شفتيها بعبوس قائلة " تيم أنا أسألك "
وجه الغصن لوجهها وقال مدغدغا له به " لست أؤمن بجنيتك
تلك افهمي ماريه "
أبعد الأوراق عن وجهها بانزعاج وقالت بضيق " لكنها حققت
أمية زهرة وأخذت ورقتي معها "
قال بسخرية " حسنا لننتظر ونرى "
قالت بعبوس " سترى ستتحقق أمنيتي يوما مهما بعد "
نظر لها وقال مركزا نظره على حدقتيها العسلية الواسعة " وما
تكون هذه الأمنية التي تتركين لها الزمن مفتوحا ؟ "
أخرجت له لسانها وقالت " لن أقولها حتى تتحقق أو تخبرني
عن أمنيتك أنت "
نظر بعيدا وقال ببرود " لا أمنيات لدي "
قالت من فورها " كاذب ألا تتمنى أن تشفى والدتك "
نظر لها وقال بسخرية " علمت ما تكون أمنيتك تلك , أن يرجع والديك "
طغى الحزن على ملامحها وقالت ولم تزح نظراتها عن وجهه
" لا ليست كذلك لأني أعلم أنهما لن يعودا أبدا "
قطف الزهرة البيضاء الصغيرة جدا من الغصن ووضعها على شعرها
بجانب أذنها فقالت بذات حزنها ولازالت ناظرة له " والدك مات
قبلهما ولم يرجع !! إذا هما لن يرجعا أليس كذلك ؟ "
أبعد نظره عنها وهز رأسه بنعم وقال " أجل الموتى لا يرجعون يا
ماريه بل نحن من نذهب لهم , هكذا تقول والدتي "
تنقلت بنظرها في جانب وجهه الذي غطى على ملامحه التجهم
ثم قالت " سمعت عمتي أسماء وعمي يتحدثان عني وعن ابنهما
وعنك ومال ولم أفهم شيئا مما قالاه "
نظر لها بسرعة وقال بملامح قاسية " ماريه هل تتنصتين على
أحاديث الكبار ؟ أنتي سيئة "
ضربت الأرض بقدمها وقالت بعبرة مكتومة " لا لم أفعل
ذلك ولست سيئة "
واشتبكت قدمها بحجر كبير تحتها لم تنتبه لوجوده وفي لحظة أصبح
وجهها في الأرض الرخوة لتنطلق صرختها الباكية تتردد في صمت
الشارع الترابي الطويل فأمسك بيدها وأوقفها سريعا قائلا
" كان عليك النظر لما تحت قدميك يا غبية "
وبدأ ينفض لها ثيابها وشعرها جالسا على ركبتيه وهي في صرخة
واحدة فنظر لوجهها وصرخ عاليا فوق صوتها " مارياااا التراب
دخل لفمك فأغلقيه حالا "
ولا حياة لمن تنادي فتأفف وفتح أزرار قميصه وخلعه وبدأ يمسح به
وجهها وهي في بكائها المستمر لتفاجئه بأن ارتمت في حضنه وبكائها
يشتد فكأي طفلة عندما تصاب وتبكي تبحث عن حضن يخفف عنها
ألمها ذاك ولم تجد لها أقرب منه بل لن تجد غيره , رفع يديه جانبا
وتنهد بعجز ثم طوقها بذراعيه النحيلتان وقال ببرود ماسحا على
شعرها " توقفي عن البكاء يا مزعجة سيطردوننا من المدرسة
واحرم من امتحاني الأخير "
*
*
نزلت السلالم الفخم العريض الذي توسطه بساط أحمر فاخر ويدها
تمسح على سياجه تسمع جيدا ما يقال في الأسفل من إحدى ضرتيها
وهي تضرب كفيها ببعض " ثلاث مناطق سلبها من أرياح في شهر
واحد والرابعة بدأ بضرب حدودها وهوا يقود رجاله بنفسه , أي
سفاح ابن شاهين ذاك "
تحدثت الأخرى بغيظ " لا وخرج صباح اليوم في الإذاعة اللندنية
يتحدث بكل ثقة ذاك المغرور ويذكر أسماء المجرمين الآخرين معه
كم أتمنى أن يكون مقتله على يد أولئك الإرهابيين هناك لتكون
قتلة شنعاء "
وصلت عندهما لتسكتا فورا وجلست ناظرة لهما بابتسامة قد خالطت
النصر بالشماتة فلوت المقابلة لها فمها وقالت ببرود " عشنا ورأينا
أناسا تشمت في أهلها وقبائلها "
رفعت ذقنها وقالت بابتسامة ساخرة " لم يعودوا قبيلتي من يوم تبرؤوا
من أشقائي وقتلوهم أمام أعيننا ووالدي قبلهم , ويوم طاردوا شقيقي
شاهر وقتلوه وهوا وسط الحالك تاركين زوجته وابنه الذي الله
وحده يعلم ما يلقى هناك "
قالت الثالثة منهية ما سيتحول لمشكلة بعد قليل " ليس وقته يا أم رواح "
نظرت لها وقالت بحزم " معك حق فوقته ليس الآن بل حين يصل ابن
شاهين لبحر تيمور أقصى شمال الهازان "
ثم رفعت يدها لترن أساورها الذهبية محتضنة ساعدها الأبيض
وقالت بحزم وعينان تلمع بقهر " ووقتها قسما وأنا ابنة شهاب كنعان
أن أوزع الحلوى على البريطانيين بيداي هاتين "
ثم وقفت قائلة قبل أن تتحدث أي منهما " يوم خرج شقيقي للحالك فارا
من بطشكم استقبله ابن شاهين وزوجه من نساء قبيلته فما الذي رأيناه
من الهازان ونحن أبنائها غير التهم بالخيانة ونحن أشرف الناس "
ثم غادرت من عندهما دون أن تنبس شفة أياً منهما بحرف وكانت
مستعدة لإسكاتها فورا إن فكرت إحداهما بالحديث فهي لا ترى إلا أن
دعوات الأرامل واليتامى من عائلتها بدأت تتحقق بزحف الحالك عليهم
*
*
لكم الجدار بقبضته مجددا ولم يترك شيئا لم يلعنه ويشتمه ثم التفت
لهم وصرخ وعيناه احمرت من حبسه لدموع القهر " والحل الآن ؟
ليرشدني أحدكم قبل أن أجن "
نقل نظره وصدره يعلوا ويهبط من شدة تنفسه بين عمته التي انتفخ جفنيها
من البكاء الطويل ووالده الجالس محتضنا رأسه بيديه ينظر للأرض في
صمت ليستقر أخيرا على شقيقه رعد الذي اكتفى بالجلوس مكفهر الوجه
كاتما أمواج غضبه المصدوم حتى الآن وقد غادرهم كاسر ورماح قبل
قليل ووجهتهم حدود توز , كاسر الذي كاد يدمر المنزل عليهم والسماء
وحدها التي لم يصلها وقد جن جنونه ما أن علم بخبر اختفائها المفاجئ
وخرج هو ورماح دون إذن ولا أوامر من والدهم , ولم يبقى الاثنان
الآخران إلا لأن شراع أوقفهم , ضرب صدره بقبضته ناظرا لرعد
وقال بحرقة " أخبرني ما أفعل يا رعد ؟ هل الجنون يريحني
من كل هذا أم أقتل نفسي "
ثم مد يديه له وقال بأسى " بيداي هاتين أخذتها هناك , أنا من
أصر على ذلك وأخذتها للجحيم بنفسي "
خرجت عمته من صمتها وقالت ودمعتها تدحرجت على خدها
مجددا " توقف عن إيذاء نفسك يا جبران فما تفعله لن يرجعها "
أمسك شعره بقبضتيه بقوة ناظرا للأعلى وصرخ بغضب " ليجد لي
أحدكم حلا إذا , كيف نعيدها من أراضي الحالك يا بشر كيف ؟ "
" يكفي يا جبران وكن رجلا "
نظر لوالده الذي علت صرخته الغاضبة تلك في أرجاء الغرفة
وقال بحرقة " إن كانت الرجولة في أن أطمر نار جوفي
وأصمت فلست رجلا وأعيدوها لي حالا "
وقف على طوله وصرخ فيه بغضب راميا يده جانبا " وهل بيدنا
شيء وتوانينا عن فعله ؟ لا شيء لدي أكبر من أن يدخل ابناي
للحالك بحثا عنها وأنت موقن جيدا ما سيحدث لهما إن أمسكهم
أحد هناك وأن خسارتنا ستتضاعف "
ضرب كفيه ببعضهما وقال " يومين كاملين هناك ولم
تخرج فأين ستكون ؟ "
ضمت عمته يديها لصدرها وقالت بعبرة " جل ما أخشاه أن تكون
وقعت في قبضة الجنود هناك والله وحده يعلم ما سيحدث لها "
نظر لها رعد وقال " ماذا قالت ابنة خالتها بالتحديد ؟ "
مسحت دموعها وقالت ببحة " الفتاة مرعوبة وكل ما قالته أنها
دخلت للحالك ولم تأبه لإصرارها المتكرر "
عاد جبران لزمجرته الغاضبة قائلا " ما الذي يرعبها ؟ عليها
أن تتحدث بكل شيء "
قال شراع بضيق " الفتاة ضربها شقيقها حتى كسر عظامها ما
تريد منها أن تقول وتخبرك ؟ وغسق ليست صغيرة ودخلت
هناك بمحض إرادتها "
ثم نظر لشقيقته وبدأت عيناه ترسل الاتهامات لها فهوا يعلم جيدا أنه
لا شيء سيضطرها لدخول تلك الحدود إلا العجوز التي خرجت من
هناك ليلة دخولها , ولن تعلم من أحد سواها عن القصة فقالت بعبرة
" كانت غلطة يا شراع ولم أتخيل أن تتهور هكذا وتجن لدرجة
أن تدخل تلك البلاد "
نظر لهما جبران ورعد باستغراب وما كانا سيتحدثان حتى انفتح الباب
وقالت الخادمة من فورها " سيدي على هاتف المنزل رجل يطلب
التحدث مع أحدكم "
وما أن أنهت كلامها كانا رعد وجبران قد سبقا والدهما لوسط المنزل
وهوا وعمتهم يلحقان بهما ورفع رعد سماعة الهاتف سريعا وأجاب
قائلا " رعد شراع معك "
نقل نظره بينهم ثم تحولت ملامحه للاستغراب وقال
" رسالة ماذا التي أوصلها له ؟ "
زادت الحيرة في الوجوه المقابلة له ويد جبران تحاول أن تستل
الهاتف منه وهوا يمسكه بقوة وقال وقد تحولت ملامحه للغضب
" ماذا يعني بهذا تكلم ؟ "
ثم أبعد السماعة ونظر لها وقال مصدوما " أغلق الخط في وجهي "
ثم رفع نظره بوالده وقال بتوجس " رسول ابن شاهين لك "
لتعلوا الصدمة ملامحه حتى كاد تنفسه أن يتوقف وحال البقية لم يكن
أفضل منه وتابع رعد قائلا " قال أن أخبرك أن أمانتك أصبحت لديه "
فانهار حينها جالسا على الأريكة خلفه وأمسكت عمتهم رأسها بيديها
متمتمة " ما أعظمها من مصيبة "
ونقل جبران نظره بينهم وقال بضياع " ومعنى هذا ؟ ماذا يقصد ؟ "
مسح شراع وجهه بكفيه مستغفرا بهمس وقال بصوت متعب
" اتصل بشقيقيك يا رعد ليرجعا فورا "
نظر له جبران نظرة كادت تخترقه من حدتها وقال بصدمة
" ماذا !! يرجعا ؟ لماذا ؟ "
قال شراع بغضب " لأنه لا جدوى من دخولهم ولأنه عليكم
نسيانها تفهمون "
صرخ حينها رعد قائلا " كيف علينا نسيانها ؟ هي منا من صنوان
وعليه أن يرجعها رغما عن أنفه أو ليتحمل فضيحة اختطاف
امرأة من صنوان "
زمجر فيه والده بشدة " قلت اتصل بأخويك يرجعا يا رعد "
شد رعد قبضته بقوة وغضب وقال جبران بضياع " لماذا يا أبي ؟
هي ابنتك مدللتك أم نسيت ! "
صرخ فيه بحرقة " لم أنسى وقلبي عليها يشتعل أكثر منك لكنها
وقعت في قبضته والمطالبة بها ستزيد الأمور سوءا أتفهم معنى هذا "
صرب على صدره وقال بحرقة " لم أفهمها فاشرحها لي وارحمني
يا أبي أرجوك "
صرخ فيه بنفاذ صبر وقلة حيلة " لأنه ابن عمها تفهم , ابن عمها "
*
*
رفعت نظرها للتي فتحت باب غرفتها ودخلت وقالت ما أن رأتها
" كيف أصبحت الفتاة ؟ "
تنهدت بقوة واقتربت من النافذة وقالت وهي تفتح ستائرها بقوة " انخفضت
حرارتها قليلا لكن هذيانها لازال مستمرا ولا تتوقف عن مناداة والدها
وأشقائها وعمتها تلك , الطبيب قال أنها حمى طبيعية بسبب الجرح
وستزول تدريجيا مع العلاج "
هزت رأسها بحسنا وقالت " وما قرر مطر بشأنها قبل مغادرته "
جلست معها على طرف سريرها وقالت وهي تخرج لها حبوب السكر من
العلبة " كان كلامه أنه ما أن تتحسن صحتها يأخذها عمي صقر للحدود
أما بعدما علم من تكون هدد بصريح العبارة أنه إن خرجت من هنا
لن يسلم أحد من عقابه , ووضع حراسة على المنزل أيضا "
أخذت منها الحبة وقالت بحيرة " فيما يفكر يا ترى ؟ "
رفعت كتفيها بلامبالاة ومدت لها كوب حليب المعز قائلة
" يبدوا سيجعلها صفقته مع شراع صنوان أو ورقة ضغط ضدهم "
أخذت منها الكوب وقالت باستغراب " وتخالين شقيقك يفعلها يا
جوزاء ! ذلك ضد مبادئه "
شردت بنظرها في الفراغ وقالت ببرود " جل ما أخشاه أن
يراها , وعلى ذلك أن لا يحدث "
لتنطلق ضحكة عمتها حتى شرقت بالحليب فناولتها كوب ماء
وقالت بضيق " عمتي الأمر لا يضحك وليس وقت ضحك
وأنتي تشربين "
أخذت منها الكوب وشربته دفعة واحدة وقالت ما أن هدأ سعالها
" وكيف تقولين ذلك ولا تريدي أن أضحك ؟ "
وقفت ورفعت الكوب الفارغ وقالت بضيق " الآن قد يكون الأمر
صفقة أو أي شيء غيره لكن ما أن يراها قد يتغير لشيء آخر "
نظرت لها فوقها وقالت بابتسامة جانبية " ومن كانت تقول أنه
ليس كأي رجل ؟ أليس أنتي ؟ "
تأففت وقالت " عنيت جميع النساء إلا هذه , هذه إن رآها حتى وهي
في حماها وشحوبها الآن سيقع على وجهه , ولا أريد لامرأة من
صنوان كانت من تكون أن تذهب بعقل شقيقي "
هزت رأسها بيأس منها وقالت " لو كان يريد رؤيتها أو عناه الأمر
لفعل ذلك قبل أن يغادر فلا تقنعيني أنه لم يسمع عنها وخبرها
وصل لجميع من في البلاد بعد قصيدة الرجل الهارب ذاك "
قالت مغادرة وبتذمر " على هذه الفتاة أن تغادر فقط وعلى
مطر أن لا يراها أبدا "
*
*
ضرب باب غرفته خلفه بقوة وأمسك بالجدار وضرب رأسه به بغضب
مرارا وقد تقاطرت دموع القهر التي يمسكها من يومين وقت علم بأنها
ليست في المنزل الذي وضعها فيه ولم يصدق أذنيه وهوا يسمع صوت
ابنة خالتها الباكي من خلف الباب وهي تخبره أنها لم تجدها صباح أمس
في فراشها وأنها اختفت وكاد يقفز لها خلف الباب ويخنقها وكان أول ما
فعله أن اتصل بشقيقها وثاب وطلب منه أن يخرجها له من تحت الأرض
مثلما اختفت من منزل جدتهم , ليجن جنون الآخر أيضا ولم يهدأ إلا
وشقيقته كالجثة بين يديه بعدما سلب منها اعترافها بعلمها بما فعلت
وإصرارها على الدخول للحالك لمعرفة من يكون والدها وعائلتها .
توجه للطاولة وضرب كل ما عليها بقوة صارخا بغضب وقهر وحقد
فأي صدمات هذه التي تلقاها متتالية , تختفي وقد تحدد موعد زفافهما
ولأي مكان ! لقبضة ابن شاهين للذي لا يتفاهم معه ولا يرحم ولا أحد
يستطيع تفسير فيما يفكر , لا وابن عمها أي أن خروجها من قبضته
أصبح أشبه بالمستحيل تحسبا من أن يكتشف الأمر ويدفعوا الثمن غاليا
أخذ مفاتيح سيارته وخرج مخلفا فوضى غضبه وعجزه خلفه ولا يعلم
أين سيذهب وما سيفعل وكل ما همس به من بين أسنانه وهوا ينزل
السلالم مسرعا " سحقا لذاك النذل , أقسم لن يرضى أن يرجعها
فلا توجد عين رجل تشبع من النظر لها "
وحاله ذاك لم يكن أفضل من غيره في تلك العائلة فبعد عناد طويل
ومشادة كلامية وشبه شجار بين الكاسر ورماح رضخ له ورضي
أن يرجعا حسب أوامر والدهم , أما عمتهم فاكتفت بضرب كفيها
ببعض تتحسب الله تجلس بجوار شقيقها الذي ما يزال سجين صمته
المبهم المخيف بعدما غادر رعد عائدا لمهمته الموكلة له أساسا فلم
يعد من جدوى لاجتماعهم هنا ولا لبحثهم عنها كما كان مخطط
نظرت له ولازال مطرقا برأسه للأسفل وفي صمته المميت
وقالت بحزن " والحل الآن يا شراع ؟ "
هز رأسه متنهدا بقوة وحسرة وقال بصوت أجوف فارغ كئيب
" ما يزال في جعبة ابن شاهين الكثير ولم يشهر عنه بعد , وقد رحمنا
الله أن العجوز عزيرة خرجت من هناك قبل أن يجدوها وتكشف له
السر ونصبح في مصيبة اكبر فخبر أن غسق ليست ابنتي ما يزال
ضيقا ضمن عائلتنا وعائلة والدتها فقط خاصة مع انقسام البلاد "
قالت بحيرة وقد شردت بنظرها للفراغ " هل تعني أنه سيتخذها
وسيلة لغرض ما ؟ "
رفع رأسه للأعلى مغمضا عينيه وقال " لابد وأن يساوم بها لكن
بماذا ؟ هذا ما عجزت حتى الآن عن فهمه وتحديده "
ثم نظر لها وقال قبل أن تتحدث " لن يفكر في المهادنة فهوا الكاسب
في تلك النقطة بالتأكيد ولن يكون ابن شاهين إن ساوم بشرف امرأة
لكن فيما يفكر ؟ هذا ما عجزت عن فهمه ! "
هزت رأسها بأسى وقالت " وهاتفه الشخصي مقفل وهوا هناك يشن
هجماته على إرهابي جبال أرياح وهاتف منزلهم لا تجيب عليه سوا
الخادمة وبذات العبارة دائما ( السيد مطر ليس هنا ولا أحد غيره
يجيب ) ولسنا نعلم حتى إن كانت في منزله أو في مكان آخر "
وقف وقال " عليا المغادرة ثمة ملايين من الأمور العالقة تنتظرني
فاحرصي وعائلة خالتها على أن لا يعلم أحد باختفائها ودخولها
لأراضي الحالك حتى نرى ما سيفعل ابن شاهين ويقرر , وأجد
فرصة للتفاوض معه فها هي الأمور التي سنفاوضه عليها
تكتر وحبله يلتف حول أعناقنا أكثر وأكثر "
وغادر على نظراتها الشفقة الحزينة وهي ترى انكساره بما حدث
واضحا لها فضربت كفيها ببعض هامسة بأسى " سامحك الله يا
غسق , أي تهور هذا الذي فعلته "
*
*
ضما بعضهما بقوة صارخين بحماس ليتركه رواح وبدأ بالقفز
مبتهجا ليختلط صراخه الحماسي بضحكات شقيقه الأكبر وقاص
وصوت المذيع خلف الشاشة الضخمة التي توسطتها صورة الرجل
الذي احتل أغلب قنوات الأخبار وألسن الناس ببذلته العسكرية والقبعة
المماثلة لها في اللون , النظرة القوية الصلبة من عينيه السوداء الواسعة
وملامحه الحازمة الواثقة وخلفية صورته مشهد مبهر لجبال أرياح يخرج
من طرف أحدها دخان قذيفة والطائرة تعبر فوقه والمذيع الجالس أمامها
يتحدث بصوت مرتفع وقد توسط الخبر العاجل بالشريط الأحمر أسفل
الشاشة , انفح باب الغرفة ودخلت التي توجهت للتلفاز من فورها
وأنقصت صوته الذي كاد يصدع الجدران وقالت بضيق " ما كل هذا
الضجيج ؟ كم مرة قلت شاهدا المباريات بصوت منخفض وأطفأ
التلفاز بعدما تنتهي , هل علينا سماع صوت المحلل الرياضي أيضا "
أمسك رواح بيديها وقال بسعادة " ليس معلقا رياضيا يا أمي , أنظري
لصورة ابن شاهين خلفه , لقد دخل المنطقة الخامسة من أرياح يا
أمي , لقد أخذ أثنى عشر منطقة من الهازان حتى الآن "
نظرت لهما بصدمة وشع وجهها بابتسامة انتصار سرعان ما بهت
لونها واختفت وقد صمتا كليهما ينظران لها باستغراب وقال
رواح " أمي ما بك ؟! "
تنهدت بقوة وأمسكت يديه وقالت ناظرة له بجدية " رواح على كل
هذا أن لا يظهر للناس مجددا بني حسنا "
نظر لها باستغراب ثم لوقاص ثم عاد بنظره لها وقال
" لكن لماذا ؟ "
شدت على يديه بقوة وقالت " لأنك ستكبر ولا أريد أن تصبح
ضحية لهم أيضا "
نظر لها باستغراب فأخذت يد وقاص من جانبه ووضعتها على يديه
وشدتهم بقوة وقالت " عداني كليكما أن يبقى ما في القلب سرا بيننا
وأن تكبرا وتساندا الوطن وابن شاهين يا ابناي عداني الآن "
تبادلا النظرات المستغربة بينهما قبل أن ينظر لها وقاص
وقال بعزم " أعدك يا خالة "
ابتسمت له بحب فهي ترى ما يراه فيه جده ثم نظرت لابنها وقالت
" وأنت يا رواح كن مع شقيقك يداً واحدة ما أن يشتد عودكما
ويحتاجكما وطنكما أما الآن فنحن نكره ما يفعل ابن شاهين بأهلنا
وابدءا أنتما أما أنا فليس بعد فلا أريد لخبرنا أن يشاع فالأوضاع
بدأت تغلي داخل البلاد والحديث كثر عن معاودة ابن شاهين
الزحف على الشرق بعدما ينتهي من الجبال وها قد دنى من
ذلك فأريد أن تدّخرا حماسكما لبعد انتهاء كل الحرب ولداي
حسنا , فلا أريد لعائلة شهاب أن تخسر أكثر "
*
*
" هيا صغيرتي أعيدي الآن ما هو أسمك ... اســمك "
نظرت لها لوقت متنقلة بحدقتيها الزرقاء الواسعة بين ملامحها قبل
أن تخرج منها الكلمات ضئيلة متقطعة " زيزفون إسـ ...إسحاق "
أشارت لها برأسها مشجعة للمتابعة تحرك شفتيها معها وهي تقول
بصعوبة " ضـــ ضـــرار سلتان "
أمسكت كتفيها وقالت " نعم لا تنسيه أبدا بنيتي هذا هو اسمك
الحقيقي وإن حدث لي أي شيء تبحثين مستقبلا عنهم وتجديهم لقد
تركت في القطعة الجلدية كل ما يخص زواجي بجدك وتقارير
مرضك وقصتك كاملة "
ثم ضمتها لحظنها وهي تعي أنها لم تفهم أغلب ما قالت لكنها تأمل أن
تتعافى يوما وتعلم كل شيء عنها , كل الظلم الذي لقيته جدتها فوالدها
ثم هي وكيف فر جدها دون أن يفكر فيها ولا مجرد تفكير , طرقات
قوية على باب المنزل جعلتها تبعدها عنها وتقف سريعا وتوجهت له
من فورها وما أن فتحته حتى كان أمامها رجل قد تجاوز الخامسة
والأربعين يلهث من كثرة الركض فرفعت طرف ردائها تخفي به
نصف وجهها وقالت " خيرا يا سيد عرباض ما منع زهراء من
المجيء اليوم لأخذ البيضتين ؟ "
قال متجاهلا سؤالها " قوات الهازان أغلقت منافذ البلدة يا أم إسحاق "
نظرت له بصدمة وتابع ذاك من قبل أن تتحدث " لم يسمحوا لأحد ولا
للسيارات بالخروج ومن بقي هنا حوصر فيها وابن شاهين استولى
على جبال أرياح من أقصاها لأقصاها وتمركزت جنوده فيها "
قالت والصدمة لم تفارق ملامحها بعد " لما يمنعوننا من المغادرة
وإن على أقدامنا !! فلابد وأن يبدأ ابن شاهين بالزحف علينا
ونحن أول من ستدكه دباباته "
هز رأسه بعجز وقال " لا أحد يفهم , لقد توترت الأمور أكثر والكهرباء
مقطوعة ولا أخبار لدينا عن شيء سوا القليل مما قاله بعض من فر
من هناك وسمعنا أنه ثمة قتال احتدم بين قبيلتي جرذام والأحامرة
يوم أمس راح ضحيته فوق العشر رجال "
قالت مستغربة " ولما تختصم قبيلتان من الهازان في هذا الوقت تحديدا ؟ "
أبعد يده ومسح بها العرق من عنقه وقال بتوتر " إحداهما تريد التسليم
لابن شاهين والأخرى تعارض ووقفت ضدها , وكل ما أخشاه أن هذا
سيكون حال باقي القبائل يا أم إسحاق فعلينا إيجاد حل للفرار من هنا
سريعا فلا أحد مطمئن للسبب الذي دعا الهازان لمنعنا من الخروج
وبلدتنا هي التي ستكون في خط النار قريبا , وحتى الجنود اللذين
سيقاتلون رجال الحالك لم يتمركزوا هنا , فما معنى كل هذا ؟ "
ضربت كفها بالآخر ونظرت للخلف من فورها حيت الطفلة الواقفة
تنظر لهما بحيرة ولم تفهم من حديثهما السريع شيئا , فها هو ما
تخشاه عليهما باتت تراه قريبا وأصبحت اللعبة تضحية بالأرواح
في سبيل الكسب في النهاية
*
*
كان شعورها بأنها تقذف من على ظهر الحصان لازال يلازمها وكأنها
في كابوس ودوامة ما تشدها للأسفل وهي تحاول فتح عينيها والخروج
من تلك الهوة المظلمة , شعرت بأصابعها وهي تحركها بصعوبة , وألم
ما يسري على طول ساقها لم تستطع أن تحدد من أين فقد وصل الألم
لأعلى خصرها , آخر ما تذكره أصوات لرجال يصرخون ثم طلقات
نارية في الجو جعلت الحصان يجفل وبقوة وبدأ يركض بها بعيدا عن
وجهتها وفقدت السيطرة عليه تتشبث بشعره بقوة وكان طوقها الوحيد
للنجاة من السقوط , وجاءت الطلقة النارية الثالثة التي شعرت بعدها
بأنها تتحرر من كل شيء وكل شيء يتحرر منها كشعرات الحصان
التي بدأت تشعر بها تنفك من أصابعها وقبضتيها ترتخيان شيئا فشيئا
ثم شيء ما قذفها بعيدا ولم تشعر بعدها سوا بألم حاد في ساقها تلاه ألم
أشد منه في كتفها لتغيب بعدها في دوامة ذاك الحدث التي لم تستطع
الخروج منها ولا تفهم لما ولا تذكر سوا رائحة رجل وأنفاسه القوية
وضربات قلب ثابتة وكل تفكيرها كان في أن تخبر ذاك أن يأخذها
لجبران وكأن عقلها أخبرها بأنها عادت واجتازت الحدود وأصبحت
في صنوان وليست ذاك الوقت عند حدود بلدة حجور في عمق
الحالك وأن ذاك الرجل الذي كان يحملها بين ذراعيه أبعد ما
يكون عن مكان جبران .
وبعد محاولات عديدة وجهد كبير فتحت عينيها ببطء وهي تستشعر
ملمس أصابع ما على جبينها وأطراف أناملها المخدرة وكانت الصورة
أشبه بضوء قوي منبعث من مصباح كبير أصبحت تخف شيئا فشيئا
حتى ظهر لها خيال ما تبين لها أنه لامرأة تُقرب وجهها منها وتبعده
وتقول كلمات لم تفهمها وبعد قليل وضحت لها الصورة أكثر , الصورة
التي تمنت في قرارة نفسها وتأملت أن تكون لعمتها رغم أنها أصبحت
تذكر جيدا أنها وقعت من على ظهر ذاك الحصان في أراضي الحالك
لكن ظنها خاب وهي ترى المرأة الأربعينية ذات الشعر الشديد السواد
مرفوعا للأعلى تنظر لها وترمش بعينيها باستمرار وكأنها ترى بشرا
لأول مرة في حياتها , فتحركت شفتيها الزهرية الجافة بصعوبة
وقالت بهمس مبحوح متعب " أين أنا ؟ "
لتظهر الابتسامة الواسعة على وجه تلك المرأة وهي تقول " هل
أفقتِ أخيرا ؟ إنها أربعة أيام يا جميلة حتى ظننا أنك ستسافرين
في غيبوبة "
حاولت أن تجلس وتفكيرها كله في الفترة التي غابتها , وجليلة وجبران
الذي سيعود ليرجعها معه , صرخت بتألم حين حركت ساقها محاولة
أن تنزلها للأسفل فأمسكت يدين الخادمة بكتفيها وأعادتها مستلقية على
الوسادة وقالت وهي تغطي كتفيها باللحاف " لا تتحركي فساقك لم
تشفى بعد والطبيب قال أن لا تمشي عليها حتى يأذن بذلك "
أبعدت اللحاف عنها بقوة جعلت يدين الواقفة فوقها ترتدان بسرعة
ناظرة لها باستغراب واستنكار وهي ترفع جسدها مستندة بمرفقها
وقالت بصوت متعب مرتجف وأنفاس قوية تخرج متلاحقة
وبصعوبة " أين أنا ومن أحضرني إلى هنا ؟ "
وما أن فتحت تلك فمها لتجيب حتى انفتح باب الغرفة وأسكتها
صوت المرأة الذي جاء من خلفها قائلا بحزم " أخرجي يا
عزيزة واتركينا وحدنا "
نهاية الفصل
موعدنا القادم مساء الأربعاء إن شاء الله