جنون المطر ( الجزء الأول)
الفصل السابع والعشرون والأخير ( الجزء الثاني ))
المدخل ~
ب
قلم الغالية: نجـ"ـمـ"ـة المسـ☆ـاء
على لسان زعيم الحالك..
تقتلني سكين الغيرة..
افكاري تنهشني حيرة
تحرقني نيرانٌ شبّتْ..
في قلبي زادت وانتشرت
تلك الحسناءُ هوى عمري..
لن يسكن خافقها غيري
لن يلمس احدٌ فاتنتي..
غسق..وحدي..لي انتي
لم اُهزم يوماً لم اهربْ..
لكن معترفٌ اني..صبْ
دعوني فالقلب تمـزّقْ..
مجنونٌ حقاً من يعشق!
******
بقلم الغالية : bella snow
معي خربشات كتبتها مع اختي الصغيرة .. بتمنى تعجبكم ولو شوي
أحببتكِ طفلة منذ أن رأتكِ عيني أيا .... جمال قمرٍ في ظلام قدرٍ أعمى
أخذكِ ابن شاهين مني وصرتِ له ..... وزاد شوقي لكِ وأنيني علا
قلبي يهتف باسمك أيا ... حبا سكن عروقي و دمي ولم يزدني إلا شقاء
تأبى روحي تحتمل بعدكِ ففيه... شقائي و عذابي لذا
سامحيني اذا ارتكبتُ حماقة ... فما أنا إلا عاشق وما على العاشق حرج
أحترقُ بنار شوقي لكِ أيا .... حبا سكن ضلوعي و أبى الرحيل بعيدا لذا
اغفري لي خطيئة ستزيدكِ كرها لي وأنا
احترق بنار حبكِ أيا .. بدرا ساطعا في ليلة ظلماء
غسقٌ أنتِ وما أنا إلا جبران عشقكِ حتى الفَناء
سامحي قلبي وخذيني فداء ... أيا نورا ابتسم اي و انزوى
من جبران إلى غسق
،،،،،،،،،،،،،
اتكأت برأسها للأعلى على جذع الشجرة خلفها وأغمضت عينيها
ليلفح هواء الشتاء البارد قسمات وجهها وشعرت به كلسع النار
عليه من شدة برودته ليشتد وهج خديها وتطايرت خصلات شعرها
التي تحررت من حجابها حين انزلق للخلف ، عضت طرف شفتها
تحضن ساقيها أكثر وسالت دموعها تعبر فوق قسمات ذاك الوجه
الذي تحول لقطعة جليد لجلوسها تحت تلك السماء الملبدة بالغيوم
السوداء القاتمة ولا شيء تحتها سوى الأرض التي لازالت
مبللة من أمطار البارحة .
شهران مرا على تلك الليلة التي لازالت تشعر وكأنها البارحة في
كل يوم مر بعدها حتى اليوم واللحظة ، الليلة التي تعلمت أن تكره
فيها كل شيء حولها وأولهم نفسها ، شهران لم ترى فيهما ذاك الذي
خرج مخلفا دمارا في كل ناحية من دواخلها ووضعها أمام حقيقة
كانت غائبة عنها تمنت أن ماتت وما علمت بها , أن سمعت من
شفتيه أي شيء إلا ما سمعته لحظتها , أن قتلها بيديه قبل أن يغادر
ورحمها للأبد وهو يذبح روحها ويتركها جسد خاوي فارغ وقد
اختار منفاه الدائم والوحيد .... حدوده التي تجهل أن اتساعها فاق
خيال الجميع وفاجئ كل فرد في تلك البلاد ورجاله قد أصبحوا
يقفون عند الحدود الأخيرة للهازان لتصبح تحت حكمه من
أقصاها لأقصاها .
رفعت أطراف أناملها المرتجفة من شدة البرد وثقل كل تلك الذكرى
ومسحت بهم دمعتها التي زادت وجهها تجمدا ثم فتحت عينيها وقد
شعرت بخطوات تقترب من مكانها فدست وجهها في ذراعيها حين
وصلت عندها ونزل صاحبها أمامها وشعرت بتلك اليد على رأسها
تمسح على شعرها برفق ووصلها صوت جوزاء الهادئ " غسق
هل سأجدك هنا كلما غبتِ لوقت طويل ؟ هل تريدين قتل نفسك
بهذا البرد ! أنا لم أتحمله مسافة سيري حتى هنا فكيف
تجلسين فيه كل هذا الوقت ؟ "
شدت ذراعيها على ساقيها أكثر ولم تعلق فتنهدت تلك وقالت
" عمتي تسأل عنك ستمرضين إن بقيت هنا أكثر ثم جلوسك
بهذه الطريقة يضرك فلا تنسي أنك حامل "
خرج حينها همسها الخافت مبحوحا " سأدخل بعد قليل "
وقفت تلك وقالت بإصرار " إذا لن أدخل إلا معك "
وبقت مكانها ذاك تنظر بأسى وقلة حيلة للجالسة تحتها منكمشة على
نفسها تحار كيف تتحمل الجلوس هكذا في هذا الطقس ! تنهدت قائلة
" تعاقبين نفسك أم تعاقبيه بهذا يا غسق ؟ لن تضري إلا نفسك
وطفلك معك "
شدت ذراعيها أكثر وخرج همسها المختلط ببكائها " لم أعد أريد
البقاء معه , أخبروه يطلقني ويرجعني لوالدي , لم أعد أريده "
تنهدت بأسى ونزلت عندها مجددا وأمسكت يدها وأبعدتها قائلة
" ادخلي يا غسق وإن من أجل عمة زوجك التي تعجز عن
الوصول لك بحالتها هذه وبالها منشغل عليك , إن كان
خاطري أنا لا يعنيك فمن أجل خاطرها "
وقفت معها تمسح خديها بظهر كفها وهمست ببحة
" أنتي وهي عندي سواء "
سحبتها معها قائلة " إذا ادخلي هيا لقد تجمدت مفاصلي
من البرد "
وما أن وصلتا للداخل تركتها وتوجهت جهة غرفتها في الأسفل
الغرفة التي عادت للعيش فيها منذ شهرين ولم تعتب قدماها ذاك
السلالم أبدا فهزت جوزاء رأسها بيأس وتوجهت جهة غرفة عمتها
وما أن دخلتها حتى قالت تلك بقلق " ماذا حدث معك يا جوزاء ؟ "
اقتربت منها وجلست على الكرسي ونظرت لها قائلة " دخلت أخيرا
الجو في الخارج تفر منه الحيوانات وهي هناك منذ أكثر من ساعة
ولولا ذكرت اسمك في الأمر ما كانت دخلت "
قالت من فورها " هل تحدثت معها ؟ ما سبب عزلها لنفسها هكذا ؟ "
حركت رأسها بأسى ضاربة كفيها ببعض ولم تستطع إخبار عمتها
أنها ليست المرة الأولى التي تخرج فيها في ذاك الطقس وتعتصم
فيه , قالت بأسى " لازالت تكرر ذات الجملة أن يطلقها ويرجعها
لوالدها ولا يبدوا لي أنها تقول ذلك عبثا "
تنهدت عمتها بعجز متمتمة " هداك الله يا مطر , هل هو مقتنع
حقا بأن ما يفعله صحيح ؟ "
حرجت الكلمات مندفعة من الجالسة أمامها " لو كنت مكانها ما
فعلت أقل من ذلك , أقسم أني أنا التي كنت معهما في الغرفة تلك
الليلة ولا دخل لي بشيء كادت أحشائي تنزل للأرض فكيف بها
هي وهي حامل أيضا "
قالت تلك بحزن " وهل تري أن الذي حدث معها قليل ؟ كادت
تفقد جنينها وحياتها معا لولا لطف الله بها وبنا وكان عمك
موجودا تلك الليلة "
غابت جوزاء بنظرها للأرض وهمست بحيرة " سألتني غسق يوم
اتصلت بالفندق عن خيانة الزوج وضننت أنها أوهام يصورها لها
عقلها وما ضننت أن الأمر قد يكون حقيقيا حتى سمعت صراخه فيها
تلك الليلة وحديثه عن امرأة وعن خيانة له من أحدهم ورجل آخر ظهر
في الحكاية ولم أفهم شيئا من حديثه ذاك سوى أن حديث غسق يومها
كان مبنيا على واقع وليس وهما وبدليل أن حبيبة أكدت لي أن
هاتف الفندق فتح الخط يوم اتصالها "
قالت نصيرة بجيرة أشد " ومن تكون المرأة التي قد يتحدث
عنها أمامها وما علاقة غسق بالأمر ؟ "
هزت جوزاء رأسها بعدم فهم وهمست " لا أعلم عمتي كان غاضبا
بطريقة لم أرى فيها مطر هكذا ولم أتوقع أن يعترف يوما بعشقه
لامرأة ولست أفهم عمن كان يتحدث وقتها ولازالت عبارته تلك
مدفونة في عقلي حتى اليوم وهو يقول ( لي أنا ليست له حتى
دمائها التي تجري في عروقها ملكي ) لم أفهم عمتي من تكون
وعمن كان يتحدث "
قالت بضيق " والآن تقولي كل هذا ! بعد شهرين يا جوزاء "
حركت يديها قائلة بعجز " قلت لنفسي أن الأمر لا يخصني وزوجان
ويجدا لمشكلتهما حلا دون تدخل كي لا تكبر أكثر ولم أتخيل أن
يصل الأمر لأن يفر من هنا ولا يلتفت وراءه وكأنه لا أحد له
وأن تصر هي على الطلاق هكذا "
قالت عمتها بذات ضيقها " على عمه أن يذهب له بنفسه ويجلبه
هنا وعلى جنونه هذا أن يتوقف , إن كان يريد غيرها فعليه تركها
تذهب في حال سبيلها لما يكرهها على الزواج منه ثم البقاء معه "
ضربت جوزاء كفيها ببعض قائلة بأسى " قلبي يتمزق أشلاء عمتي
من جهة على ابناي اللذان عددت الأيام بالدقائق أنتظر لأراهما ولم
يحدث شيء من ذلك ومن جهة على حياة شقيقي التي أصبحت تنهار
وما صدقت أن رأيته يتغير ... لا وبينهما طفل لم يفكرا في مصيره
إن افترقا وهي ابنة صنوان وهو ابن الحالك "
قالت عمتها من فورها " نادي لي عمك بسرعة أنا من ستتصرف
هذه المرة وعلى شقيقك ذاك أن يأتي ويجد لمشكلتهما حلا أو أنا
بنفسي من سأخرجها من هنا وأرجعها لوالدها وليجد طريقة
وقتها لإعادتها منهم "
وقفت جوزاء وقالت باعتراض " ترسليها لوالدها كيف وصنوان
محاطة بجنودنا من كل جهاتها وأوضاعها في اضطراب ملحوظ ؟ "
قالت بجمود " أقسم أن أفعلها إن لم يضع زوجها ذاك عقله في
رأسه وستري ما يمكن أن تفعله هذه العاجزة العجوز "
تحركت جوزاء جهة الباب متمتمة " لا أعلم ما هذا النحس
الذي لا يفارق منزلنا أبدا "
*
*
فتحت الباب وأطلت برأسها مبتسمة بحزن لم تستطع إخفائه وهي
تنظر للجالس على السرير يمسك آخر كتاب أحضرته له وقد
رفع نظره لها فورا وقال مبتسما " أستريا تعالي يا مشاغبة
أين أنتي لم أعد أراك ؟ "
دخلت وأغلقت الباب خلفها واقتربت منه حتى جلست على طرف
منتصف السرير جهة قدميه وقالت " كيف أنت اليوم يا رعد ؟ "
وضع الكتاب جانبا وقال ناظرا لعينيها " أستريا هل ثمة ما
يغضبك مني ؟ ما بك تتهربين مني من أيام ! "
هزت رأسها بلا دون جواب ثم نظرت ليديها في حجرها
وقالت بهمس حزين " حصلت على هاتف والدي أخيرا
واتصلت بهاتف شقيقك "
عدل جلستها ناظرا لها بلهفة وقال " رماح !! هل حقا
أجاب عليك ؟ "
رفعت نظرها له وهزت رأسها بنعم فرفع رأسه للأعلى وأغمض
عينيه وتنهد براحة هامسا " حمدا لله , الحمد والشكر لك يا رب "
ثم نزل بنظره لعينيها المعلقة به تنظر له بشوق تشعر به من الآن
ومن قبل مغادرته وقال " ماذا حدث أستريا هل عرفت أين هو ؟ "
حركت كتفيها وقالت ببرود تهرب بنظرها بعيدا عنه " ما أن أجاب
وأخبرته أن شقيقه رعد بخير حتى انهال عليا بالأسئلة ولم يترك
لي مجالا لا لأسأل ولا لأقول شيئا وحين شعرت بالخطر أخبرته
أن لا يتصل على هذا الرقم أبدا كي لا يكتشف والدي الأمر
وفصلت الاتصال "
قال بحيرة ونظره يتنقل بين ملامحها " وما الذي يحزنك هكذا
أستريا ! ضننت أن شيئا سيئا حدث في اتصالك به "
رفعت نظرها به وتنهدت قائلة " حالتك تحسنت كثيرا والطبيب
قال أنك ستسترد كامل عافيتك خلال هذا الشهر "
ثم قبضت على طرف الغطاء الذي يغطي ساقيه بيدها بقوة وتابعت
وقد ترقرقت الدموع في عينيها العسلية الواسعة " سترحل من هنا
حينها , لقد اعتدت على وجودك بيننا , على رؤيتك كل يوم وعلى
التحدث معك , أنت مختلف كثيرا عن كل الرجال هنا , كنت تعاملني
كامرأة وليس طفلة كما يفعلون رغم أنهم يتزوجون ممن هم في سني
ويزيد قليلا , أنت مختلف عنهم في كل شيء في أمور كثيرة
وأكره أن ترحل وأن لا أراك مجددا "
وتدحرجت دموعها تباعا فتحرك ببطء بمساعدة يديه حتى وصل عندها
ومسح بكفه على خديها مكفكفا دموعها التي ترفض التوقف وقال
بحنان " أستريا يكفي بكاء , لم أرك تبكي قبلا ولا أريد هذا "
فاجأته بأن ارتمت في حضنه وتمسكت بقميصه الصوفي بقوة وتحول
بكائها لنشيج وعبرات قصيرة متلاحقة فتنهد بعجز وضمها بذراعيه
يعلم معنى ما تشعر به الآن ويحسدها على مقدرتها على التعبير عنه
دون أن تقيد نفسها , أبعدها عنه وقال ناظرا لوجهها الذي تنزله
للأسفل تمسح وجنتيها بظهر كفها " أستريا يكفي بكاء أرجوك "
مسحت عينيها بقوة ونظرت له وقالت هامسة ببحة " ليت الزعيم
مطر يحتجزك لدينا لآخر عمرك "
لم يستطع إمساك ضحكته وقال مبتسما " هل يرضيك أنتي
أن نأخذك من عائلتك ونحتجزك في صنوان ؟ "
قالت من فورها " نعم "
نظر لها بصدمة قبل أن ينفجر ضاحكا فوقفت وقالت بضيق
" أحمق ما الذي يضحكك ؟ أنا لا أعرف الكذب ولا أكرهك
مثلما أنت تكرهني وتريد الذهاب بسرعة "
نظر لها فوقه وقال " أنا لا أكرهك أستريا من أين جاء عقلك
بهذه الكذبة ؟ "
قالت بعبوس " بلى ولا يعنيك الذهاب وتركي وأنت لن
تراني مجددا "
هز رأسه بلا وهمس " مخطئة آستريا وكذب عليك عقلك أيضا
أنا لا يمكنني أن أكون صادقا مثلك "
قالت من فورها " ابق معنا إذاً "
قال بهدوء محدقا بعينيها الدامعة " لا يمكنني ذلك والدي يحتاجني
يكفيه ما فقد حتى الآن ... غسق جبران والكاسر ثم أنا "
قالت دون تراجع " أهرب معك إذاً "
هز رأسه بلا وقال بجدية " لا تظهري لي عكس ما ضننت بك
أستريا ولا تكوني طفلة وتفكري كالأطفال , تفكيرك هذا عواقبه
سيئة جدا عليك وعلى التنانيين في الحالك وحتى على صنوان "
غادرت تنفض يدها قائلة بغضب " كاذب تقول بأنك لا تكرهني
وأنت تكذب أكرهك رعد تسمع "
وخرجت من الغرفة والمنزل وصوتها لازال يصله حتى ضربت
الباب خلفها فمرر أصابعه في شعره متنهدا بعجز وتمتم ناظرا لمكان
خروجها " ليته بإمكاني فعلها آستريا لما توانيت عن ذلك لحظة
لكن الواقع سيء جدا وما أتعسني حين رماني هنا لديكم
لأتعرف عليك "
*
*
نزل من السيارة ضاربا بابها خلفه بقوة وتوجه لذاك الباب الزجاجي
المفتوح وما أن دخل حتى استقبله صوت الموسيقى الصاخبة فنظر
حوله ثم توجه يمينا ودخل ذاك المكان الواسع بأنواره المتغيرة قد
وزعت حوله الطاولات وتعالى فيه الصراخ والصخب والرقص
حتى شعر به يضرب في رأسه , جال بنظره طويلا حتى وقع على
الواقفة مع فتاة وشاب منسجمون في الحديث والضحك فتوجه نحوهم
فورا وأمسك بمعصم التي لم تنتبه لوجوده هناك وسحبها معه بالقوة
رغم رفضها ومقاومتها حتى كانا خارج ذاك المكان وما أن شعرت
بالهواء البارد يلفح وجنتيها وذراعيها العاريان ووجدت نفسها في
ظلام ذاك الشارع الذي زينته الأنوار المنتشرة فيه بترتيب سحبت
يدها من يده بقوة وصرخت فيه بعنف " ماذا تريد مني أنت ؟ "
ركز نظره على عينيها وقال ببرود " ماذا تفعلين هنا غيسانة ؟
أعتقد أن مطر شاهين حذرك جيدا من قبل ولا يعلم عن
كل هذا لكان قطع ساقيك "
رمت طرف شعرها الأسود الطويل المموج للخلف وقالت بغضب
" مطر ... مطر , لا علاقة لك بي ولا به ولا أحد له سلطة علي
ثم وإن فرضنا ذلك فما دخلك أنت ؟ لما تخرج لي في كل
مكان كالأشباح ؟ "
" غــ.... "
قاطعته صارخة من قبل أن ينهي كلامه الحاد " جيسي أسمي
جيسي افهم وغادر من هنا حالا أو أحضرت لك الأمن "
أمسك وسطه بيديه وقال بسخرية " جميل أجبرت الجميع حولك
على مناداتك غيسي ثم الآن خطر لك خاطر جديد وتريدينه
جيسي ! يالك من مدعاة للسخرية "
التفتت عائدة أدراجها متجاهلة له فأمسك يدها موقفا لها وقال وقد
أدارها ناحيته مجددا " أعتقد أن شقيقك إن علم عن كل هذا سيعود
لسجنك في منزل الجزيرة مجددا ووقتها لن ينفعك أحد ولا
والدتك تلك "
استلت يدها منه مجددا وهمست من بين أسنانها " لا تهددني
أيها الهمجي البربري أو أقسم أن أختفي مجددا ولن يجدني
لا مطر ولا غيره هذه المرة "
وصرخت وقد أبعدت يدها التي حاول إمساكها بها مجددا
" لا أريد أن أرى عربيا مسلما مجددا أخرجوا من حياتي
أنا ووالدتي كنا في نعيم حتى عرفناكم "
أمسك ذراعها بقوة ساحبا لها جهته حتى كان وجهه في وجهها
وقال من بين أسنانه " لو كنت مكان شقيقك ما تساهلت معك
هكذا بحجة سنك , زوجته في مثل عمرك وعقلها يزن
جسدك بأكمله "
حاولت سحب ذراعها منه تثبت قدميها على الأرض قائلة بحقد
" وأنت في عمره وليس لك ولا ربع عقله بل لا عقل لك أبدا
ثم إن كانت زوجته امرأة كهف تنتظره كل ليلة فأنا لست مثلها
ولا أحد له سلطة علي والقانون هنا يحميني وأقسم أن أبلغ عنك "
ترك ذراعها بعنف وقال بغضب مكتوم " قسما يا غيسانة إن لم
ترجعي لمنزلك الآن أن أحملك على كتفي وأضربك أيضا إن
لزم الأمر "
دفعته من أمامها وفتحت باب سيارته الخلفي وركبتها وضربته خلفها
فركب هو أيضا ضاربا الباب بقوة وتحرك من هناك يسمع تأففها
وتمتمتها الغير مفهومة طوال الطريق حتى وصل بها أمام باب
منزلها ففتحت باب السيارة وقالت من قبل أن تنزل " توقف
عن ملاحقتي أو بلغت عنك ولا تقل أني لم أحذرك "
قال ببروده الذي لا يزيدها إلا قهرا وغيظا " تفاهمي ليس
معك بل مع من أكبر منك "
فنزلت ضاربة الباب بقوة بعدما رمت عليه شتيمة تعلم أنه إن أدركها
بعدها لقطع عنقها قبل لسانها وتوجهت لباب منزلها قائلة بحنق
" أخرق وتافه لا تُقارن بمطر ولا في العمر , ليت لك نصف
ربع عقله فقط "
ورغم ابتعادها كان يعلم ما تكيله له من شتائم حتى دخلت المنزل
وضربت الباب خلفها فتحرك من هناك متأففا وأخرج هاتفه وطلب
رقما معينا لم يجب صاحبه حتى زاده غضبا فوق غضبه وما أن
فتح الخط حتى اندفع قائلا بضيق ونظره على الطريق " هذه آخر
مرة ترسلني خلف تلك الساقطة , تصرف أنت مع ابنة شقيقك
أو أخبر شقيقها يأتي ويجد لها حلا فهو من رفع شعار التعامل
معها باللين كي لا تزداد تمردا وعنادا ولست أرها إلا
أسوء من ذلك "
ضحك ذاك من فوره وقال " الله أكبر هل أشعلت غضب
ابن كنعان حقا !! هي كما قيل عنها إذا "
حرك المقود يمينا وهمس من بين أسنانه " هذه آخر مرة أدخل ملهاً
ليلياً لأخرجها منه , ضع من يراقبها أو افعل ما يحلو لك
وأخرجوني أنا من كل هذا .... وداعا "
*
*
دخل المنزل وما أن تخطى عتبة بابه حتى سمع ذاك البكاء الذي
كان يقترب من هناك وما أن تقدم نحو الداخل حتى ظهرت عمته
من أول الممر تمسك ابن الكاسر الذي كان في بكاء متواصل
فتوجه نحوها ونظر له قائلا " ما به عمتي ؟ "
نظرت له بين ذراعيها وقالت وهي تهزه دون توقف " لا أعلم يا
رماح فهذا حاله منذ ليلة أمس , جلب والدك الطبيب صباح اليوم
لمعاينته لكن حالته كما هي عليه حتى الآن ولست أفهم مما
يشتكي ولم يسكت ولا دقيقة ليأخذ استراحة على الأقل "
ابتسم من جملتها الأخيرة ومد يديه لها قائلا
" هاتي أعطني إياه "
وضعته له في ذراعيه وما أن رفعه حتى قالت تمسك يده
الصغيرة " لا تمسكه هكذا يا رماح ستؤلمه "
قال بضيق وهو يحاول تعديل وضعه " عمتي ما بك معي كلما
أمسكته انتقدت طريقتي ؟ اتركيني أتعلم على مهل "
ابتسمت مبعدة يديها لتتحول ابتسامتها لحزن ما أن ضمه لصدره
بقوة رغم بكائه ودفن وجهه في عنقه فمسحت دمعتها سريعا فالجميع
في ذاك المنزل باتوا يرون فيه ابنهم الذي فقدوه ... ضحكته التي كانت
تملأ المنزل مرحه حيويته وشبابه وكل ما افتقدوه مع فقدهم له , فقرابة
الثلاث أشهر مرت منذ قدوم هذا الصغير وما خشيته من أن يكون سببا
لألمهم جميعا وهو يذكرهم بوالده الراحل تبدد تماما وهي ترى تعلقهم به
ولا يمر يوم على أحدهما إلا ويراه فيه وإن للحظات ويغادر , أعاده لها
بعد سيل من القبلات التي وزعها على وجهه الناعم الصغير متجاهلا
بكائه وفمه المفتوح على اتساعه فأخذته منه وأرخته على كتفها تطبطب
على ظهره وقالت ناظرة للواقف أمامها يغطي ظهر الصغير الذي
انكشف من تحت قميصه " ما أخبار رعد يا رماح ؟ هل من جديد
أو اتصلت بذاك الرقم ؟ "
هز رأسه بلا وقال " لا جديد ما لم يتصل والدي بابن شاهين
ويستعلم منه "
ثم قال وقد نقل نظره له مجددا " اطلبي من إحدى الخادمات
تحمله عنك قليلا يكفيك ليلة البارحة لم تنامي "
مسحت على رأسه وشعره الناعم الخفيف وقالت " الخادمات على
قدم واحدة من الصباح حتى آخر الليل ومجلس والدك يفرغ ويمتلئ
على مدار اليوم فلا ينقصهن تعب وسهر وهن يحتجن لكل واحدة
منهن طوال النهار ليدركن ضيوف والدك "
وتابعت متنهدة بحزن " ماذا بعد نهاية ابن راكان يا رماح ؟
الجميع في صنوان في ترقب وخوف "
أبعد نظره عنها وهمس بشرود " ما لم تقف دباباته وحاملات
الصواريخ على الحدود محاصرا لنا فلا شيء حتى الآن "
هزت رأسها بحسنا وقالت ناظرة لملامحه " الأخبار كثرت عن
رؤية جبران هنا , يبدوا أنه أخرج من دماغه أخيرا فكرة الهرب
للحدود وهجر المنزل والمدينة , هل رأيته وما قال ؟ "
قال مغادرا " رأيته لكني لم أتحدث معه "
وغادر جهة ذات الباب الذي دخل منه فتنهدت بأسى تراقب خروجه
تمسح على ظهر الصغير الذي لازال في بكائه المستمر وتحركت
به من هناك متمتمة وهي تطبطب على ظهره الصغير " يكفي بني
يكفي بكاء ستموت على هذا الحال يا قلب عمتك , ماذا أفعل
لك أخبرني ؟ ما بك حبيبي ما بك ؟؟ "
*
*
" أمسكنا بالخامس سيدي "
سرقت تلك الجملة انتباهه ممن كان يتحدث معهم موليا لهم كل اهتمامه
وانتباهه , يديه في جيوب معطفه الشتوي الطويل وقد رفع ياقته لتحمي
عنقه وأسفل فكيه من ذاك الهواء البارد القوي لوقوفهم قرب بحر تيمور
وأمواجه الهائجة المرتفعة تضرب الصخور بقوة معلنة عن وجودها
وسطوتها ، تيمور حيث أقصى نقطة شمال الهازان وآخر مدينة فيها
ليشهد لهم منظر تلك المياه السوداء الثائرة تحت وهج خيوط الغروب
الضيقة المتسللة من بين الغيوم المتفرقة على أنهم تخطوا كل تلك
المسافة من ثلاثة أسابيع حين وضعوا أقدامهم فيها وحين وقّعوا آخر
ورقة مهادنة واستلموا آخر قطعة سلاح وبدءوا بمحاربة مجموعات
جديدة متمردة تبعت يوما لابن راكان وبقايا تلك الجماعات الإرهابية
المتحصنة في تلك المدن التي عانت مؤخرا من تزعزع كبير في
استقرارها وغاصت فيها بعض القبائل في مشاكل ومخلفات لبعض
الأعمال الفردية ليجد العقد الكثيرة المتشعبة في انتظاره تطالبه بالكثير
من الصبر والحكمة والحنكة التي طالما اشتهر وعرف بها هناك لحل
تشابكها فقضايا الثأر المتأصل كانت دائما نواة لأعظم المشاكل التي
واجهتهم ، وجد الكثير والكثير في انتظاره وهو يستلم باقي ثلثي ذاك
القطر من البلاد ... أموال نهبت قضايا علقت حتى تحولت لكوارث
راح ضحيتها الكثيرين , أيتام سلبت حقوقهم جورا وعائلات عاشت
تحت خط الفقر لأنه لم يتم توزيع الأموال التي كانت تصلهم بعدل
أرامل ومطلقات وأسر تحتهم لم يوفروا لهم ما يقتاتون به يومهم
ومرضى أهملوا درجة الموت وأراض سلبت من أصحابها جورا
وظلما ليجد نفسه ورجاله يربطون ليلهم بالنهار ليس لإمساك كل
أولئك المتمردين ولا الإرهابيين ولا لإعادة هيكلة تلك المدن المدفونة
تحت الإهمال بل لمحاولة نصب ميزان العدل وسط أولئك الناس ليأخذ
كل ذي حق حقه , وتفاجئوا بكم الأشخاص الذين توافدوا على كل مكتب
أنشأوه في كل مدينة وهم يتلقون الشكاوى ويسجلون أسمائهم ضمن من
لم يستلموا من زعيمهم وخزينته قرشا في يوم , فكرسوا جهدهم ووقتهم
لانقاد باقي تلك العائلات من الفقر والجوع ونزلت الطائرات المحملة
بمختلف المؤن لتوزع على الناس في أول مرة بعد اتفاقية أولى موقعة
بخط يده بعد إمساكه تلك البلاد للغذاء مقابل النفط من قبل بعض الدول
المجاورة لأنه أغلق جميع تلك الحقول ما أن استلمها كما فعل في الحالك
ولم تعد تضخ البلاد إلا بقدر معين مقابل أشياء ينتفع بها الجميع حتى يتم
إنشاء منشئات نفطية داخلها وهو حلمه الأخير الذي يتمنى الوصول له
يوما لتسكب تلك الأرض خيراتها فيها فتنموا وتكبر وتزدهر كغيرها
ومثيلاتها من البلدان بل ولتسبقهم بكثير .
نظر له مركزا نظره على عينيه وقال " جيد وما يزال أمامنا الكثير
أهم ما في الأمر أن لا نروع الناس ونفتح أبواب أخرى للشائعات "
وبعد عدة أوامر منه غادر ذاك ونظره يتبعه وذهنه مع ما وكله
لتلك الزمرة ومدى نجاحهم فيما سيفعلونه
" أنت تسير في الطريق الصحيح , الأمور لا أراها إلا في
تحسن ملحوظ "
عاد بنظره للواقف أمامه وقال بجدية " لا أريد أن نطمئن ونغفل
عن أمور صغيرة قد تسبب لنا مشكلات أكبر من حجمها مستقبلا
فلن نستهن بالوضع أبدا "
قال الآخر مبتسما " خطتك كانت ناجحة بشكل مبهر فاق توقعاتنا
جميعا مشايخ الهازان ونراها تسير في الطريق السليم , وأيضا فكرة
دمج من انضموا تحت لوائك مؤخرا مع الناس هنا كانت صائبة جدا
وأفادت في طمأنة الكثيرين وهم يحدثونهم عما لقوه منذ دخلوا تحت
حكمك وسلموا مدنهم لك , لقد ساعد ذلك بشكل لم نتصوره "
قال ونظره ينتقل بين ثلاثتهم " لازال أمامنا دمجهم مع الحالك فكم
أتوق لرؤية ذلك اليوم الذي تنسى فيه الناس عبارة هازان وحالك
وحتى صنوان وأن نكون بلادا واحدة تعريفنا بالقبيلة فقط وليس
ثلاث أقطار ومسميات فوقها "
قال أحد أولئك الواقفين أمامه وبإعجاب واضح " أكثر ما يعجبني
فيك أنك لم تفعل كما حاول الكثيرون فعلها حين ترأسوا بلادا كبلادنا
أول ما حاولوا فعله محو القبيلة ومحاولة دمج الناس في أحزاب سياسية
ونسوا أن ذلك لن يسبب إلا دمارا لكل شيء وتتناحر القبائل في النهاية "
ثبت ياقة معطفه بيده وقال بجدية " القبيلة نسيج قوي ورائع أيضا ومن
السخف محاولة تفكيكه حتى يتلاشى ثم أنا لست رئيسا عليكم تذكر ذلك
جيدا وكل ما سنفعله الآن محاولة تسيير الهازان , أريد كما لي أذرع
وأيدي قوية في الحالك تسيّر الأمور وقت وجودي هنا وأثق فيهم كنفسي
أن يكون كذلك هنا ومن رجال الهازان ذاتهم وبالتدريج حتى يخرج رجالي
من مدنكم لتقوموا أنتم بكل هذا الدور , سنبدأ بقبول المجندين الجدد منكم
سننظم المقرات ونؤسس جهاز شرطة صغير مؤقت وهو مخططي القادم
للحالك أيضا , سنجلب مدربين من الحالك لتدريب الجنود في الهازان
والعكس وبذلك سنبدأ أول عملية دمج ثم ننتقل للمدارس ونتبادل الأساتذة
فالأطباء والممرضين , أريد أن يرى الناس أن من يخدمهم من القطر
الآخر ... من يعلم أبنائهم ويدربهم وحتى يداوي مرضاهم ثم ننتقل
للندوات المشتركة والحوارات الوطنية وسنبدأ بأهم نقطة وهي قانون
عقوبات لخرق الهدن وعمليات القتل الفردية سواء كان القاتل
من الحالك أو الهازان "
قال أحدهم " أرى أن كل هذا تفكير منطقي بل ورائع لكني
أخشى أن يأخذ وقتا طويلا "
نظر له الواقف بجانبه وقال " بل أراه سيكون أسرع مما نتخيل بكثير
فأهم ما في الأمر ثقة الناس بمطر شاهين وهذا ما أراه حدث وبقوة
خاصة مع ما قدمه لهم والباقي سيأتي بالتدريج وأتوقعه في
غضون أشهر قليلة "
قال مطر " هذا أمر لا يمكن فعله بسهولة فثمة من سيصعب عليه
نسيان الدماء والأحقاد لكنه سيحدث وإن بعد حين "
قال المقابل له مبتسما " فكرة التعويض وصندوق دفع الدية قلصت
من مشاكل الثأر بيننا وبينكم بشكل كبير , لقد حسبت حساب كل
شيء وبدقة , أرفع لك القبعة يا زعيم , أمثالك لا أعرف كيف
يسيرون حياتهم الخاصة ! اجزم أنها خالية من الثغر
وهنيئا لأهلك بك "
ابتسامة ساخرة تغلبت على طرف شفته القاسية وأبعد نظره عنهم
قائلا " إذا غدا نلتقي في المقر الذي جهزتموه , أريد جميع من ذكرتم
هناك لن نوقف اجتماعنا حتى ندرس جميع النقاط ونبدأ بعدها
المرحلة الفعلية لتسيير الأمور هنا "
هزوا رؤوسهم بالموافقة وتفرقوا بعدما تصافحوا بودية ولم يبقى غيره
هناك ورجاله المحيطين به على بعد خطوات قليلة يكثفون الحراسة حوله
بتشديد كبير وهو يتنقل داخل الهازان التي لم يضمنوا الأمان فيها بعد وما
كانوا ليتركوه دون حراسة حتى إن كان ليلها كنهارها وكانت أأمن عليه
من الحالك فبإصرار منهم تغلبوا عليه فيه وضعت تلك الحراسة المشددة
حوله وهم مجموعة رجال مدربين أفضل تدريب يرافقونه كظله أينما انتقل
داخل مدن الهازان التي أصبحت تحت حكمه من أدناها لأقصاها ويعمل
بجد على تسليمها لأبنائها ما أن يتم تسيير أمورها ويكون هو المتصرف
في كل شئونها وإن كان خارجها ، تحرك جهة تلك الصخور رافعا يده
في إشارة لمن تحركوا مع حركته فورا ليبقوا بعيدين عنه لكن ذلك لم
يمنعهم من مراقبة المكان بأعين لا تغفل شيئا ، اقترب أكثر حتى أصبح
رذاذ مياه ذاك الموج الغاضب يصل لحدائه الجلدي وأطراف بنطلونه
ومعطفه وغاب بنظره في الأفق البعيد يداه في جيوبه والهواء يحرك
خصلات شعره القصير ومرت تلك العبارة أمام عينه فور ( أمثالك
لا أعرف كيف يسيرون حياتهم الخاصة ! اجزم أنها خالية من
الثغر وهنيئا لأهلك بك )
أخرج يده من جيبه ورفعها أمام وجهه ونظر للمنديل الذي يقبض
عليه فيها بقوة ووقع نظره تحديدا على تلك العبارة من كل ما
كتبت عليه ( أحب الكاسر أكثر من أي شيء )
أبعده منزلا يده ونظر للأفق من جديد ولا يعلم كيف لم يفكر بمنطق
في كل تلك العبارات التي لم يكن اسم ذاك من ضمنها ولا حتى حرف
من حروفه ونعتتهم في كل مرة بأخوتي أو أشقائي ، شد قبضته على
ذاك المنديل أكثر ورحلت به الذكرى لأحداث تلك الليلة العاصفة الليلة
التي عرف فيها ذاك كيف يستغله ويستغل غضبه وحين دخل عليها
الغرفة ووجدها ملتصقة بالجدار تنظر له بجزع لم يرى منه شيئا
من شدة غضبه وهي تحاول التحرك جانبا قائلة بصوت مرتجف
" مطر ما بك ماذا فعلت لك ؟ "
فانفجر فيها كالبركان وهي تحتمي بذراعها على وجهها وتمسك بيدها
الأخرى أسفل بطنها خوفا على نفسها وجنينها منه ولا تعلم أنه قد
يرضى بقطع يده ولا أن يمدها عليها , لن يسامح نفسه ما عاش إن
فعلها سابقا فكيف الآن وهي تحمل طفله ، كان غضبه أسودا لم
يرى معه شيء وتفوه بأمور ما كان عليه قولها وهو يحترق
ولا يستطيع ذكر سبب غضبه الحقيقي ولا سؤالها .
نظر فوقه للسماء التي ازداد لونها القاتم بسبب تجمع الغيوم فيها والهواء
يحرك شعره القصير للخلف متلاعبا بخصلاته كتلاعبه بياقة معطفه
حول وجهه ، كل ما يحاول فهمه واستيعابه سبب ما قاله جبران ذاك
وحقيقته ! لماذا قال ما قال وعلى ماذا استند وما سبب هلوستها باسمه
خصيصا وما سر المكالمة التي كانت بينهما وما ذكره عن إخراجها
من هناك واتفاقهما على ذلك ؟؟ أغمض عينيه برفق لتمر صورتها
أمام عينيه وأول ما تذكره قربها الشديد منه في تلك اللحظات القليلة
التي جمعتهما فوق سرير واحد ، تذكر فورا استيقاظه من نومه ليلا
بسبب قبلاتها لشفتيه وضحكتها الرقيقة ما أن يفتح عينيه ليعود
ويغلقهما هامسا بابتسامة " توقفي عن هذا يا مشاغبة "
ولا تستسلم حتى يفتحهما مجددا ويرعي سمعه وكل انتباهه لها وهي
تتحدث وأصابعها تداعب شعر مؤخرة عنقه لأن النوم جافاها وقد
استفاقت منتصف الليل ولن تتركه يعود للنوم حتى تغفى هي أولا
ليستلم مهمة تغطيتها جيدا ودسها في حضنه كطفلة اعتادت أن
يهتم غيرها بجميع أمورها .
قبض أصابعه بقوة وفتح عينيه ولازال نظره على تلك الغيوم السوداء
وما يكاد يرسل عقله للجنون كيف أن تلك يكون في قلبها رجل آخر !
تنفس بقوة وهمس من بين أسنانه " جبران شراع صنوان ليرميك
القدر أمامي مجددا فقط "
وغادر من هناك عازم على أمر واحد بخصوص ذاك الموضوع
*
*
دخل المنزل الساكن الصامت رغم أن الوقت كان منتصف المساء
أغلق الباب خلفه وتوجه جهة ممر غرفته التي لم يدخلها من أشهر
كما هذا المنزل الذي غادره كسير القلب والروح وأقسم على أن لا
يدخله إلا بعودتها وهذا ما بات متأكدا منه الآن , ما أن سلك الممر
حتى توقف فجأة لظهور عمته أمامه تمسك في يدها زجاجة حليب
أطفال وقد فغرت فاها مصدومة تنظر لوجهه ثم سرعان ما
أمسكت بكم سترته وقالت بابتسامة واسعة " جبران !! "
وضمته لصدرها سريعا قائلة بحزن " ما أسعدها من ليلة هذه
أين أنت بني لقد اشتقت لك يا جبران "
مسح بكفه على ظهرها وقال بهدوء " أنا بخير عمتي وها
أنا أمامك ولن أغادر مجددا "
ابتعدت عنه ونظرت له بمفاجأة وسعادة وقالت " حقا لن تغادر !
هل غيرت رأيك أخيرا ؟ "
أبعد نظره عنها وقال " نعم سأبقى هنا "
ثم نظر ليدها وللزجاجة فيها وقال " هذه تخص ابن الكاسر عمتي ؟ "
هزت رأسها بنعم وقالت بحزن " أجل لابنه "
نظر لعينيها وقال بلهفة " أين هو عمتي أريد أن أراه "
قالت من فورها " غدا تراه بني فما صدقت أن نام أخيرا فهوا منذ
ليلة أمس في بكاء مستمر لم يجدي معه ولا علاج الطبيب حتى
أحضر والدك إحدى العجائز وعالجته بالأعشاب ولم أصدق
أنه سكت ونام أخيرا "
هز رأسه بحسنا وقال ناظرا لعينيها " وما أخبار رعد ؟ "
تنهدت بحزن قائلة " لا أخبار تامة عنه حتى الآن سوى أنه
موجود في الحالك وابن شاهين وعد بتسيلمه لنا "
ابتسم بسخرية وهمس " كاذب هل تصدقونه حقا عمتي ؟ "
نظرت له بحيرة وقالت " وما يضطره للكذب ؟ إن لم يرد تسليمه
لقالها ولن يجبره أحد , وهو إن قال فعل وهذا ما عُرف عنه "
تمتم ببرود " لن يفعلها الآن عمتي وستري بعينك "
سحبته من يده قائلة " أتركنا من كل هذا وتعالى لترتاح في غرفتك
حتى أحضر لك شيئا تأكله , حمدا لله أن غيرت أفكارك المجنونة
تلك أخيرا "
وغادرت الغرفة متمتمه حامدة لله ونظره يتبعها حتى اختفت وقد همس
بابتسامة ساخرة " سأكون هنا وأنتظر عودتها فلن تتأخر كثيرا "
توجه للنافذة وفتحها ليتدفق الهواء البارد منها منتشرا في أرجاء تلك
الغرفة المهجورة من أشهر ووقف أمامها ونظر للسماء المتلألئة بالنجوم
( مؤكد هو من أجاب على الهاتف تلك الليلة فغسق تنام باكرا طوال حياتها
وهو عاد في ذاك اليوم من سفره , وإن كان شخصا آخر من عائلته من
أجاب لكان تحدث , كما وأن الأخبار حوله تقول أنه في الهازان منذ
شهرين لم يغادرها وأنا أكثر من يعرف معنى أن يدخل الشك عقل
رجل فكيف إن كان ذاك الرجل ابن شاهين تحديدا وفي مواجهته
امرأة كغسق يخشى النسيم من جرح نعومة خدها )
مرر أصابعه في شعره يرفع رأسه أكثر وابتسم بانتصار هامسا
" توج انتصاراتك الحربية يا ابن شاهين لتختمها بفشلك المريع
وأنت تطلق زوجتك وهذا ما سيحدث قريبا وقل جبران قالها
وليرجع الحق لأصحابه "
*
*
حركت المكعب بأناملها البيضاء الرقيقة أمام عينيها مرتمية فوق
سريرها تراقب الصور المتقاطعة فيه بشرود حزين , اللعبة التي لم
تفارقها حياتها سوى فترة وجودها هنا وحتى حين دخلت الحالك دستها
في سرج ذاك الجواد وضنت أنها اختفت معه كمنديل الكاسر وكشقيقها
الحبيب ذاك وكجميع أحلامها الجميلة التي تلاشت مع مرور الأيام .
مسحت دمعة تدلت من رموشها وأغمضت عينيها برفق لتهرب من
ذكرى لأخرى أقسى منها وما حدث تلك الليلة يمر أمامها كالشريط
صوت صراخه باسمها وهو يصعد السلالم ودخوله الغاضب للغرفة
وانفجاره فيها لحظة دخول جوزاء راكضة وهي كانت الشخص الوحيد
الذي هجره النوم تلك الليلة بعد سبع ليال نامت فيها وابنيها في حضنها
لتنام بعدها وحيدة في ذاك السرير الواسع الخالي وكانت هي من سمع
صراخه وهرعت مسرعة ولحقت به ودخلت الغرفة خلفه بلا تفكير
ووقفت بينهما ترفع يديها مانعة له عن الوصول لها تحاول التحدث
معه ودون جدوى لأنه لم يكن يسمع سوى صوت نفسه ولا
يرى أحدا أمامه يرميها بتلك الحقائق كالرصاص .
سالت دمعتها مجددا فأمسكت بطرف ملاءة السرير ودفنت وجهها
فيها وهي تتذكر كل تلك العبارات الغاضبة التي رماها بها ( تريدين
معرفة السبب يا غسق ؟ معرفة ما بي وما ذنبك أنتي ؟ تريدين فتح
الجراح وكشف الحقيقة المرة ؟)
رمى يده بعنف وصرخ أكثر لا يفصله عنها سوى جسد جوزاء التي
تمسك به بقوة ليبتعد ( ما رأيك برجل طعن في كبريائه وكرامته ؟
ماذا تتوقعين من رجل انتظر امرأة لأعوام وعاش لها فقط لا ينظر
ولا بطرف عينه لامرأة أخرى ليأخذها منه غيره ليكتشف أنها
فضلت غيره عليه , امرأة داس على كرامته من أجلها تنازل
من أجلها ... عشقها سمعتي عشقها هي وحدها ليكتشف أنها
لغيره أنها باعته بأرخص منه أنها تلاعبت به أنها تخطط
للزواج من غيره وأنها لم تستحق عمره الذي أضاعه
ينتظرها )
دفنت وجهها في اللحاف أكثر وزاد بكائها وعبراتها وهي تتذكر
صوت تلك المرأة التي أجابت عليها في الفندق ولم تجد غيرها لحل
كل تلك الألغاز فيما قال فمن ستكون المرأة التي عشقها وانتظرها
لأعوام وهي تخطط للزواج من غيره وقد أضاع عمره من
أجلها ؟ صرخت تلكم السرير بقبضتها بقوة " وأنا ما مكاني
من كل ذلك ؟ لماذا تزوجني إن كان ثمة امرأة أخرى من
أعوام أضاع عمره من أجلها ؟ "
اشتدت عبراتها وهي تتذكر سؤال جوزاء له يوم كانوا قرب
ذاك الجواد عن أثر ذاك الجرح في عنقه وقد أجابها ببرود
" أمر لا أهمية له وتصفية حساب قديم "
ليربط عقلها الأمور مجددا بسفره وتلك المرأة وغدر امرأة به كما
ذكر فلم تجد سوى تحليلا واحدا وهو شجار بينه وبين من قال أنها
اختارته زوجا وتركته من أجله , مر عليها الوقت وهي في بكائها
ذاك حتى سمعت صوت أذان الفجر فغادرت السرير بخطوات
واهنة حتى وصلت الحمام دخلته وتوجهت للمغسلة فورا وأفرغت
كل ما في جوفها رغم قلته ويدها تقبض على معدتها بقوة حتى شعرت
بروحها ستخرج من جسدها ولازالت تستغرب في ذاك الطفل الذي
لازال متمسكا بالحياة في أحشائها الميتة , توضأت وخرجت
للغرفة صلت الفجر والصبح واتكأت على السرير مجددا تراقب
النافذة المغلقة وانبلاج الفجر من خلف زجاجها الواسع , فكرت
في حياتها منذ كانت طفلة وفي تغيرها القاسي يوم علمت أنها
ليست ابنة من ضنت لأعوام طويلة أنه والدها , أخوتها ليسوا
بأخوتها وعمتها امرأة غريبة لا قرابة تربطها بها سوى أنها
شقيقة زوج والدتها , تذكرت كم كانت حياتها رائعة ومختلفة
كانت تشعر بأنها شخص موجود في هذه الحياة قبل أن تفجعها
الحقيقة وتتحول جميع مشاعرها تلك لفراغ وهي ترى نفسها بلا
هوية , إنسانة عبارة عن علامة استفهام رميت في أرض الواقع
لتبقى لغزا فيها للأبد , وانتهى بها الأمر أن وجدت نفسها في هذا
المكان في عالم ليس عالمها وأناس آخرون ليسوا أهلها ورجل
هابته طوال حياتها وجدت نفسها فجأة أسيرة حضنه تشاركه حتى
مضجعه , رجل ضنت أنه بوجوده قربها قد حضت بكل ما خسرته
سابقا وأغناها عن معرفة حتى هويتها المجهولة لتكتشف أنه مجرد
جلاد ظهر في حياتها ليعلمها درسا آخر قاسيا من الدروس التي
لم تتعلمها بعد ( لا تثقي في رجل ولا تسلميه قلبك ومشاعرك )
قبضت على قماش الملاءة أكثر وهمست بوجع " ليتني ما
عرفتك يوما يا مطر "
طرقات خفيفة على باب الغرفة عادت لربطها بذاك العالم مجددا
ووصلها صوت حبيبة قائلة "
سيدتي الفطور جاهز والسيدة
نصيرة تسأل عنك "
قالت بعد برهة ونظرها لازال معلقا بتلك النافذة " لا أريد يا حبيبة
لا رغبة لي في أكل شيء "
سمعت خطواتها تبتعد وما هي إلا لحظات ووصلها صوت عجلات
كرسي عمتها فجلست ترفع شعرها عن وجهها لحظة ما طرقت تلك
الباب ثم فتحته ودخلت ونظرت لها قائلة بلوم " غسق لن أسمح لك
بإهمال طعامك وصحتك أبدا , بالأمس لم تأكلي جيدا واليوم
ترفضين الطعام , أنظري لوجهك في المرأة كيف أصبح
أصفرا وباهتا وكئيب "
قالت تكابد دموعها كي لا تنزل " أريد والدي عمتي ليرحمني
ابن شقيقك , لم أعد أريده أرجعوني من حيث أتيت "
اقتربت من سريرها وقالت ما أن وصلت عندها " غسق ما هذا الذي
تقولينه ؟ هل بعد أن ربطكما طفل واستقرت حياتكما لفترة ترجعا
للصفر ؟ ثم الخيار في رجوعك لوالدك لم يكن بيدك منذ البداية "
لوحت بقبضتها في الهواء قائلة بحرقة " أجل فأنا سجينته منذ البداية
وكوني لم أعترض ليس معناه أني رضيت وقتها , وحين استسلمت
لواقعي وظننته رجلا يستحق أن أضحي بكل شيء من أجله
خذلني فيه "
ضربت بقبضتها على قلبها وقالت ودموعها تتدحرج على وجنتيها
" سلمت له هذا عمتي , وثقت به منحته غسق بأكملها ثم ماذا ؟ جاء
ليعترف لي بعشقه لامرأة أخرى ويحملني ذنب خيانتها له مع غيره
ماذا فعلت له يفعل بي كل هذا ؟ ما ذنبي أنا غير أني أخطأت خطأ
عمري ودخلت حدوده في تلك الليلة ولم يكن في نيتي إيذاء أحد
أقسم لم أنوي أن أؤدي ولا نملة في أرض الحالك لينتهي بي الأمر
هنا وهكذا , من طلب منه أن يتزوجني ؟ من أجبره على ذلك
إن كان يريد امرأة أخرى لم يستطع الوصول لها "
مدت يديها لها فارتمت من فورها في حضنها تكمل بكائها الموجع
فيه وهي تمسح على شعرها بحنان وحزن تقرأ عليها ما تحفظ من
آيات حتى هدأت وخف بكائها واستسلمت للنوم بين ذراعيها وهي من
لم تنم طيلة تلك الليلة ولم يقرب النوم جفونها , عدلتها على السرير قدر
استطاعتها وسحبت الغطاء فوقها وجلست عند رأسها تمسح على شعرها
تراقب ملامحها الجميلة الشاحبة بحزن وعجز عن إيجاد حل يريحها ولو
قليلا , وما أن انتظم تنفسها وغرقت في نوم عمق قبلت جبينها وعدلت
لها الغطاء أكثر وتحركت بكرسيها وخرجت من الغرفة وأغلقت الباب
خلفها وعادت أدراجها جهة غرفة الطعام ودخلتها فقالت جوزاء
ما أن رأتها " ألن تأتي ؟ "
اقتربت تحرك عجلات كرسيها حتى وصلت للطاولة وقالت
" نامت وذاك أفضل لها الآن وسنجبرها على الأكل فيما بعد "
ثم نظرت لشقيقها الذي قال ناظرا لها " وكيف هي صحتها ؟ "
هزت رأسها بأسى وهمست " ستضر بنفسها على هذا الحال فلن
يتحمل جسدها ولا الجنين بداخلها الضغط النفسي الذي تمر به "
وتابعت متسائلة " يبدوا أنك لم تتصل به كما طلبت منك "
عاد بنظره لطعامه وقال " بلى ومنذ البارحة أحاول معه وإما هاتفه
مقفل أو لا يجيب عليه , أنتي تعلمي الوضع هناك وانشغاله "
قالت بضيق " انشغاله بماذا ؟ هل الهازان تحتاجه أكثر من زوجته ؟
هل اهتمامه بمشاكل الناس هناك أهم من حل مشاكله المعلقة هنا "
بسط كفيه قائلا بنفاذ صبر " وما في يدي أنا وما ذنبي أتلقى
توبيخك كلما رأيتني ؟ "
قالت بذات ضيقها " ذنبك أنك عمه والوحيد الذي يمكنه الوصول
له فاتصل بأحد رجاله يعطيك إياه أو اذهب له بنفسك هناك أو
قسما تصرفت بنفسي "
أخرج هاتفه متأففا وأجرى اتصالا أجاب صاحبه بعد برهة فقال
ما أن فتح الخط " أين زعيمك لا يجيب على هاتفه ؟ "
سكت لبرهة ونظراتهما معلقة به وهو يعقد حاجبيه قائلا
" ومتى ينتهي اجتماعهم هذا ؟ "
هز رأسه بحسنا وقال " حين تخرجوا من هناك أخبره يتصــ ...
لا لا تخبره شيئا بل اتصل بي لأكلمه مفهوم "
ثم أبعد هاتفه وقال وهو يدسه في جيبه " قال أنه في اجتماع مع
كبار رؤوس قبائل الهازان وما أن يخرج سأتحدث معه "
ثم وقف وقال مغادرا " وأنا من سيقتلع عينيه حين يرجع
لأني من تلقى عقاب أفعاله "
*
*
تابع حركة التي كانت ترتب الغرفة في صمت حتى انتهت
وحملت سلة الغسيل لتأخذ ثيابه المتسخة وملاءات السرير
فقال قبل أن تخرج " أين أستريا لم تأتي ؟ "
التفتت له وسندت السلة على وركها وقالت " تساعد والدتي في
المنزل وأخبرتني أن أقوم بكل شيء بدلا عنها , هل من شيء
تريد أن أسالها عن مكانه "
قال من فوره " أريدها هي , هي من تعرفه جيدا فأخبريها تأتي "
حركت كتفيها وغادرت من هناك ونظره يتبعها حتى اختفت ثم نظر
للنافذة ولتلك السماء البعيدة المغيمة بشرود وأخذته أفكاره وسبحت
به في كل ما مر عليه منذ دخل هذه الحدود فأكثر من شهرين مرا
على وجوده هنا سجين هذه الغرفة والسرير لا يعلم عن عائلته شيئا
وليس يعلم فهم رماح رسالة أستريا ومكالمتها أم ضن أنها مجرد
كذبة ؟ ما يريحه أنه علم أن شقيقه بخير وهذا أكثر ما كان يؤرقه
ويتعبه فوق تعبه , حالته أصبحت في تحسن مستمر وبقي أمامه
أسابيع قليلة ويسمح له الطبيب بمغادرة السرير كما أخبره , لا
يصدق أنه نجا من ذاك الحادث المريع وأنهم تمكنوا من إنقاذه
وهم يضعونه في هذا المنزل واكتشف أنهم يتقنون طب الأعشاب
بشكل مبهر قد أذهله وقد وجدوا لأنفسهم حلولا كثيرة لنقص المعدات
الطبية , نزل بنظره للكتاب بجانبه ثم رفعه وفتحه حيث توقف آخر
مرة وقد اكتشف هنا سر انجذاب غسق ورماح سابقا للكتب ولمكتبة
منزلهم فقد وجد في كتب التاريخ متعة لم يتوقعها أبدا , انسجم سريعا
في القراءة وانفصل عن العالم حوله ولم يشعر بمرور الوقت حتى
سمع صوت خطوات تقترب من غرفته ثم انفتح باب الغرفة فنظر
بترقب ينتظر التي ستدخل منه وتحولت نظرته للاستغراب وهو
ينظر للتي دخلت وكانت أول مرة يراها فيها وقد نزعت القميص
الصوفي عن جسدها فورا لتبقى بفستانها عاري الأكتاف والصدر
كاشفا عن بشرتها الناصعة الصافية , كانت بجمال ملفت للنظر
وشعر بني فاتح مموج لكن في نظرتها شيء ما لمحه وكأنها
تحكي عن سواد قاتم في قلبها وبشاعة غريبة داخلها عكس ما
يظهر على خارجها , استغرب دخولها هنا ومن تكون ولا أحد
يدخل ذاك المنزل غير ابنتي الزعيم كما أخبرته أستريا سابقا
وأنه ثمة حراسة عند الباب كي لا يتعرض له أحد أو يدخل
له ومن أجل حمايته فمن تكون هذه ومن أدخلها !!
نظرت لكل شيء حولها قبل أن تنظر جهته وقالت بسخرية
" إذا أنت هو مريض آستي ؟ "
نظر لها من أسفل صعودا حتى وجهها وقال
" من أنتي ؟ "
حركت كتفها مميلة رأسها وأصابعها تتخلل شعرها قائلة بنعومة
" اسمي جوانا ... حسنا ما اسمك أنت ؟ "
عاد لتقييمها بنظراته ولم يجبها فقالت بضحكة رقيقة وتغنج
" ألن تتوقف عن تعريتي بنظراتك ؟ تكفيك واحدة "
نظر لها بصدمة من كلامها فاقتربت منه وجلست على طرف السرير
وقالت تنظر للغرفة " لم تجبني أنت مريض آستي أليس كذلك ؟ "
ابتعد لطرف السرير الآخر رغم ضيق مساحته وقال ببرود
" أجل أنا من تعتني به آستريا وشقيقتها فماذا تريدين "
ضحكت برقة ومدت يدها جهة كتفه قائلة " ما بك مذعور مني
هكذا ؟ اعتبرني آستي ألا ينفع ذلك ؟ "
أمسك معصمها ليبعد يدها لحظة ما انفتح باب الغرفة كاشفا عن
الواقفة خلفه وقد نظرت جهتهما بصدمة فاستلت تلك معصمها
من يده ووقفت تنظر لها بابتسامة ساخرة فدخلت وتوجهت نحوها
بخطوات غاضبة ودفعتها مبعدة لها من هناك قائلة بغضب " ما
الذي أدخلك هنا أنتي ؟ ابتعدي عنه فورا فهو ليس من شاكلتك "
مسدت تلك ذراعها حيث أمسكتها وسحبتها منها وقالت بذات
سخريتها اللاذعة " جميل .. هو من شاكلتك إذا يا سارقة "
وقفت بينها وبين سريره وقالت رامية يدها جانبا " سارقة أفضل
من فــ ... أنا أنزه من أن أقول كلمة مثلها فابتعدي عنه لأنه
أصغر منك وأعتقد أنه ليس من النوع الذي يعجبك "
كتفت تلك يديها لصدرها وقالت ناظرة له من فوق كتف الواقفة
أمامها " آه أجل فهو النوع الذي يعجبك أنتي "
رفعت كلى يديها جانبا وكأنها حاجز بينهما وقالت " لا دخل لك
بهذا المهم أنه ليس النوع الذي يمكنك التلاعب بعقله مثل الواقفان
عند الباب وغيرهم , هو عربي مسلم وأعتقد أنك سبق وجربت هذا
النوع وأتاك منه ما تستحقين فلا تقتربي منه كي لا تهاني مجددا
أمامي "
رمت سترتها الصوفية على كتفيها وقالت بسخرية " المهم أن لا
يكون أهانك أنتي وتركك تقتربين منه آستي الصغيرة الحمقاء "
وتابعت مغادرة " كانت فرصة سعيدة يا عربي ولا أوصيك
على قلب ابنة زعيمنا لا تجرحه وأنت تغادر وتتركها "
وابتعدت ضاحكة حتى خرجت فالتفتت تلك للجالس على
السرير خلفها وقد قال من فوره " من هذه ؟ "
أمسكت وسطها بيديها وقالت بضيق " هذه التي تصطاد الرجال
لتتركهم ضحايا معذبين خلفها ولم يكسر أنفها سوى الزعيم مطر
فلا تكن أنت جروا مثلهم تلهث خلفها لسانك في الخارج ولعابك
يسيل من فمك "
لم يستطع إمساك ضحكته ولم يتوقف عن ضحكه الهستيري رغم
ضربها له بالوسادة فأمسكها منها وسحبها بقوة أوقعتها في حجره
فابتعدت عنه لحظة خروج أنينه المتألم من وقوع جسدها على جسده
المتعب تعدل شعرها وقالت بضيق " أهذا ما كنت تحاول فعله
معها ؟ تسحبها من معصمها وتوقعها عليك "
نظر لعينيها وقال بضيق مماثل " آستريا لا تكوني غبية فأنا لم
أقصد فعل ذلك معك لأفعله معها ، هي من مدت يدها نحوي
وأردت إبعادها "
قالت ببرود " آه أجل صدقتك "
قلدها في نبرتها الباردة الجافة قائلا " أجل صدقي فأنا كنت
مكاني هنا في السرير وهي من كانت مقتربة مني فما
المنطق فيما حدث ؟ "
نظرت له ولجلوسه في الطرف البعيد للسرير على غير عادته
وما أن فكرت قليلا وجدت أن ما قاله صحيح فقالت بريبة
" ماذا قلتما ؟ "
تنهد بضجر وقال بعدم اهتمام " لم نقل شيئا كانت فقط تسألني
عن اسمي "
وتابع بمكر زاحفا ليعود مكانه " ولم تتركي أنتي لنا طبعا
أي مجال لنقول "
أمسكت وسطها وقالت بغضب " أجل اظهر على حقيقتك , أعلم
أنها تعجبك وأنك أحمق كباقي الرجال الذين يتغاضون عن حقيقتها
الظاهرة للعيان لكنكم الرجال جميعكم متشابهون وأنا من ظننت
أن العرب المسلمين كلهم كالزعيم مطر لكني أخطأت "
اتكأ برأسه على الجدار خلفه وقال ناظرا لها بابتسامة على انفعالها
" هي لم تعجبني آستريا , نظرتها تقول أنها امرأة سيئة جدا وأنا
لا أحب هذا النوع ولست أعلم كيف دخلت هنا "
قالت ببرود " أنا أعرف وسأخبر والدي ليعاقب الأحمقان اللذان
في الخارج على لعبها بعقليهما ليدخلاها "
وتابعت ويداها لازالتا تمسكان خصرها " وما النوع الذي
يعجبك إذا ؟ "
عض طرف شفته يمسك ضحكته ثم قال ناظرا لعينيها
" النوع الذي تراه هي غبيا وصغيرا "
احمرتا وجنتيها بشدة وأبعدت نظرها عنه قائلة بابتسامة تغلبت
على خجلها " سأخبر والدي عنك أيضا "
خرجت منه ضحكة صغيرة وأبعد رأسه عن الجدار وقال
بهدوء " آسف تجاوزت حدودي حقا "
جمعت كفيها وقالت مبتسمة بحماس " لا ماذا آسف هذه ؟ ما
صدقت أن نطقت أخيرا , أقسم لو كنت تنانيا لقفزت لحظنك
الآن وقبلتك "
نظر لها بصدمة فعضت شفاها بإحراج وأمسكت خديها وقالت
" آسفة لا أعرف كيف قلت ذلك "
عقد حاجبيه قائلا بحزم " أستريا هل هذا ما تفعلونه أنتم "
شهقت بقوة وقالت بصدمة " ما قصدك بهذا ! أنا لم أفعلها يوما مع
رجل , يفعلها الخاطبان والحبيبان وهناك من لا يلتزم بشيء فتوقف
عن اتهامي بأمور لا نفعلها "
قال بهدوء محاولا تهدئة غضبها " لم أقصد يوما اتهامكم آستريا
أنا فقط لا أريد أن تكوني من ذاك النوع فالاستهتار موجود حتى
لدينا فلا تفهمي كل ما أقوله خاطئا "
كانت ستتحدث فقاطعها " آستريا لا تغضبي مني ككل مرة أقسم
لم أقصد ما فهمته أنا فقط .... كيف أشرحها لك الآن "
تحول غضبها لابتسامة وقالت وقد جلست على الكرسي قرب سريره
" عرفتها وحدي لا تقلها إنها الغيرة "
نظر لها بصدمة فلوحت بيديها أمام وجهها قائلة بضحكة
" لم أقل شيئا .. لا .. لا .. لا .. لننسى كل ذلك "
وتابعت وقد ضمت يديها لحجرها " هيا حدثني أكثر عن الإسلام
لقد أحببت حديثك تلك المرة عنه وبقيت طوال الليل أفكر فيما
قلته لي "
*
*
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع