جنون المطر (( الجزء الأول ))
الفصل السادس
مدخل~
بقلم الغالية : lulu moon
جاءت برد الينا جاءت <br>
وبحلة جديدة كالبدرx إنارة <br>
فبعد العاصفة والحصون <br>
ومن قبلها أشباه ضلال و منازل القمر التي سبق أن هلت ..<br>
تأتينا اليوم بالمطر المجنون ...<br>
وكم يوجد من تشابه بين جابر العاصفة و مطر المجنون ..<br>
وأحببت غسقها كما أحببت من قبلها قمر المصون ..<br>
ومتشوقه لها كما سبق أن عشقتx كتاباتها بجنون ..<br>
فيا اهلا بالحامل والمحمول ... <br>
ولكن برد المشاعر سؤال عن الاسم يبقى سر مكنون.<br>
على الرغم مما تعطي من دفء في الحرف الحنون ...<br>
<br>
هدية بسيطة لكي برد المشاعر .. اتمنى ان تنال اعجابك
" تيم "
كان ذاك الصوت الغليظ الأجش الحازم الذي جعله يرفع رأسه من كتابه حيث
كانت تراقب عيناه الأسماء التي زينت حوافه القديمة فقد اعتاد أهالي المدن على
نقل الكتب بين أجيال أبنائهم كما اعتاد أولئك الأطفال كتابة أسمائهم على الهوامش
وكأنه يقول لمن سيستلمه بعده ( هذا الكتاب كان لي قبلك ) ونظراً لظروف تلك
البلاد وحال أهلها فقد كانت قوانين ابن شاهين صارمة على تعليم الأبناء فالذهاب
للمدرسة كان فرض واجب يحاسب عليه ذويهم حال التقصير فيه والكتاتيب ودور
تخفيض القرآن ألغيت بأمر منه كي لا يتخذها الناس بدائل ويقدموا أولويات أخرى
على تعليم أطفالهم وقد خُصص وقتا واسعا في المدارس لتحفيظهم القرآن مع تعلم
الكتابة والرياضيات والتاريخ والعلوم بنوعيها تسلسلا حسب سن الطلاب .
عاد ذاك الصوت الجامد والنظرة الباردة للحديث مجددا وقال بفظاظة
" اسرح في منزلكم أو في الشارع وليس هنا "
ثبث نظره ونظرته الحادة على عيني من كان رحبا مع جميع الطلاب
ومبتسما إلا معه ولم يعلق , لم يقل اليوم درس تسميع فلما الانتباه وما
الضير إن سافر بتفكيره والطلاب يُسمّعون حفظهم وهوا منشغل معهم
فلمن سينتبه , قال ذاك وقد تحولت ملامحه للحدة " كم مرة قلت لا
تنظر لي بهذه الطريقة وكأنك من سني "
وبدلا من أن يخفض نظره للأسفل أشاح به جانبا , فليس من العدل
أن يعامله بما لم يعهده عليه بقية الطلاب وهوا لم يفعل شيئا ولم
يقصر في واجباته كطالب
" اقرأ هيا "
تخللت تلك الكلمات الآمرة الغليظة مسمع الفتى ابن العشر سنين وكأنها
قطار مر بين أذنيه أخلفت طنينا لم يعد يسمع معه شيء وخرجت كلماته
مقتصرة جافة " لم أحفظها "
وكان ذلك الزر الذي ضغطه لينفجر الواقف فوق مقعده الصغير وكأنه
أعطاه مناه فنزلت يده الضخمة على الطاولة الصغيرة للمقعد وخرج
صوت صراخه الغاضب قائلا " ولما تأتي وأنت لم تحفظ يا
حبيب والدتك "
اكتفى الجالس تحته بالصمت والجمود عن أي ردة فعل بينما صرخ
الذي امتدت كرشه أمامه " لست أعلم يرسلون أمثالك للمدرسة لماذا
ونكلف أنفسنا دفع وإهدار المال على أشكالك "
لم يعلق الصغير الجالس ولم يزح عيناه ونظراته الحادة عن طرف طاولة
المقعد أمامه وكأن لسان حاله يقول ( ليس المال يدفع من جيبك أنت ) لكن
الجواب واحد ويعرفه ( لما يدفعون مالا على ابن الهازان ليدرس عندهم )
صرخ ذاك مجددا " اقسم لولا أن ضرب الطلاب ممنوع لسلخت لك
قدميك حتى تعجز عن المشي عليها , قف غادر من أمام وجهي الآن "
ليقف ذاك الجسد النحيل من فوره وخرج من مقعده متبعا ليس طريق الباب
بل مسار الأصبع الكبير الذي يشير له عليه وغادر من هناك مجتازا الممر
الضيق على صوت صفق ذاك للباب بقوة خلفه وسار متابعا طريقه يديه في
جيوبه لازال يحتفظ بتلك النظرة الباردة والملامح الجامدة حتى كان في ساحة
المدرسة الصغيرة الخالية , وأخذته قدماه فورا لخلف تلك الفصول الصغيرة
المتراصة وصعد فوق ذاك المبنى وجلس مكانه المعتاد حين يكون عليه مغادرة
المدرسة قبل الوقت المحدد لجميع الطلاب فيها فلا يريد أن يرجع مبكرا وتسأله
والدته المريضة عن سبب عودته , جلس في زاويته المعتادة حيث يلوح لنظره
من بعيد تلك الساحة الواسعة والمبنى مبهم المعالم ورجال بلباس الجيش يتدربون
لوقت طويل ويتحركون دون توقف , فهناك تكون نقطة تجمع جنود قبائل الحالك
على الحدود الشمالية حيث يفصلهم ما يقارب الخمس كيلوا مترات عن حدود صنوان
جلس محتضننا لساقيه ومثبتا ذقنه على ذراعه يراقب تدريبات الجنود على الرماية
ببعض الأسلحة الخفيفة والمتوسطة حيث دوي أصواتها أمر معتاد جدا في هذه القرية
وأشباهها من قرى الحدود كما رؤية الجنود وسياراتهم , وكحال أي طفل ما كان ليكل
أو يمل من مراقبتهم ففي أي أرض وأي مكان أحلام الفتية لا تتجاوز قيادة سيارة
والضرب بالأسلحة كما حلم كل طفلة أن تصبح كبيرة كوالدتها وتلبس كعبا عاليا
*
*
نظر للأجساد الشابة ببذلهم العسكرية وأذرعهم الصلبة تحضن أسلحتهم
لصدورهم يركضون بخطى ثابتة في مجموعات منتظمة تسير أمامه تباعا
يديه وسط جسده وعينيه تراقبان كل حركة لهم عاقدا بين حاجبيه مضيقا
لهما وقد لمع شعره الأسود تحت أشعة الشمس الربيعية الخفيفة لتنسج تناغما
بينه وبين لحيته السوداء المشذبة بعناية تحضن وجهه , يمسك بأكتاف بعضهم
من حين لآخر جاعلا ذلك قفزاتهم تشتد قوة وأعينهم تلتهب حماسا وعلى وقع
خطواتهم القوية على الأرض تخرج زفراتهم بوضوح في جيل نشئ ليدخل
حربا لا يعلم أين ستأخذه وإن كان سيفوز فيها أم لا
تحدث أحد الواقفين بجانبه من وقت محتفظين بصمتهم وقال بثبات
" هذه الدفعة تحتاج لثلاثة أشهر أخرى فقط وستكون جاهزة "
قال مباشرة ونظره لازال عليهم " بل ستدخل قتالا حقيقيا قريبا
وستستقبلون الدفعات الأخرى الجديدة "
نظر له بصدمة وقبل أن يعلق أو يسال أسكته قائلا
" هذا أمر "
تنفس بقوة ونظر للمتدربين على يديه وقال " كثر عدد المتطوعين
للقتال بعد نصرنا في الردم والحويصاء والجميع متفائل بأن
الزحف عليهم سيستمر "
تحرك حينها مطر وقال بصوت عال أبح وهوا يجتاز صفوفهم
المتحركة " ستنتقلون للحويصاء وخسافة يا رجال "
وتابع طريقه على صيحاتهم الحماسية الموحدة سائرا جهة المبنى المقابل لهم
داخل ذاك السور الواسع وعيناه تراقب الضلال التي ترك أصحابها خلفه لازالت
تتحرك تباعا ( سنوحد البلاد وسنأخذ المدن واحدة بعد الأخرى إن بالسلم أو الحرب
ولن أكون ابن شاهين ولن أرتاح حتى تصبح بلادا واحدة تتجه للمستقبل كغيرها
وليس يعنيني أن أكون رئيسا ولا حاكما فيها كما يدعي الهازان فحريتك ووحدتك
يا بلاد أجدادي هي الغرض ولن تضيع دمائهم التي سكبوها فوق ترابك يحاربون
الأعداء هذرا ولن أكون مطر ابن شاهين ابن الحالك إن لم أفعلها )
ما أن وصل المبنى ودخله حتى ركض أحدهم في الممر خلفه قائلا
" سيدي "
وقف مكانه والتفت له فقال المتوجه نحوه بابتسامة واسعة ونفس لاهث
من الركض " وافق الهازان على تسليم ديجور وبدئوا بإخلائها "
لترتسم ابتسامة النصر على شفتيه ودار من فوره حتى وصل الغرفة
التي ما أن دخلها وقف له جميع من كانوا فيها وقد وجه نظره لأحدهم
وقال بحزم " جهزوا عشر سيارات وحاملات جنود وسننتقل
للحدود الجديدة فورا "
خرج ذاك من فوره منفذا الأوامر فوجه مطر نظره للبقية وقال ملقيا
باقي أوامره " سنطوق العمران وريهوة الليلة وما أن نستلم ديجور
سندكهما دكا وننتزعهما سلما أو حربا بعدما يخلوهم ساكنيهما "
ثم قال مغادرا الغرفة " أريدكم أمامي في الحدود لنتم الخطة بإحكام "
وغادر مخلفا خلفه أفواه فاغرة على وسعها مما سمعت , فهل أخذ الديجور
مقابلا للعمران ليسلبهم العمران أيضا وزيادة عليها ريهوة !! وديجور لن
تكون له إلا وقد سلموه ثبيران معها , وما كانت إلا دقائق وقد خرجوا
جميعهم منفذين للأوامر ليروا ما توقعوه وهي سيارات تحمل جنودهم
حديثي التدريب لينتقلوا لأرض المعركة التي ستحتدم مجددا خلال
أيام إن لم تكن ساعات
*
*
وبعد أربعة أيام تكتم فيها كل من كان في ذاك الاجتماع عن تحركاتهم وعن
مكان زعيمهم وقائدهم الدائم , وحشدوا الجنود والعتاد على حدود الحويصاء
وخسافة تحديدا في أمر ضل مبهما على الجميع حتى أعلنت الهازان عن فتحها
الممر لهم لديجور لأخذها وثبيران معها تحت مراقبة دولية عربية مقابل تخلي
ابن شاهين عن العمران النقطة المحورية التي خسارتها بالنسبة للهازان تعني
خسارات متتالية متفاقمة لذلك سلبتها من صنوان سابقا وبالقوة وغطت بعض
الدول عليها بحجة أن تلك المدينة تشكل ممرا حساسا للجزء الشرقي من البلاد
وأن تكون تحت سيطرة الهازان فذلك سيدرأ العديد من المشاكل المحتمة مستقبلا
وفي تلك الليلة السوداء المظلمة التي هجرها القمر ولا ضوء فيها سوا لسيارات
الجنود والكشافات اليدوية الكبيرة ولا أصوات إلا لحشرات الليل وحشرجة
الأغصان بسبب الأجساد التي تمر ملامسة لها وهمس رجال من أماكن متفاوتة
كان تجمع رجال الحالك في الحويصاء وخسافة بدلا من دخولهم لمدنهم الجديدة
التي تم تسليمها لهم وكله كان ضمن خطة محبوكة عملوا عليها لأربعة أيام
متتالية بلا نوم ولا انقطاع , وعند ساعات الفجر الأولى تم إدخال سيارات بأجساد
وهمية لديجور عن طريق ثبيران في حركة عشوائية لسيارات جنود وكما توقع
من وضع كل تلك الخطة شنت جيوش الهازان هجوما كاسحا على ديجور فورا
وكان الفخ الذي نصبوه لجنود الحالك الذين اعتقدوا أنهم دخلوا تلك المدينة وكان
مخطط الهازان شن هجوم كبير عليهم من داخل تلك المدينة وخارجها ومن ثم
وفي نفس الوقت الهجوم على الحويصاء والردم وإعادتهما منهم , وكانوا موقنين
من أن المراقبة العربية سلاح ضعيف جدا فلطالما فشلوا في حل أي شيء يخص
بلادهم وغيرها ولطالما كانوا فزاعة لا قدرة لها على شيء ولا اعتبار لها بدون
دعم غربي لذلك نقضوا الاتفاق , أما رجال الحالك في ذاك الوقت فكانوا يتسللون
كأرانب الليل للعمران وريهوة اللتان احتوتا على العدد الأقل من الجنود والكثير
من العتاد من أجل إكمال الخطة ليفاجَئوا بهجوم بدلا من أن يكونوا هم المهاجمين
وقد وقع جنودهم في ديجور بين فكي كماشة وقد سُلبت منهم العمران وريهوة في
طرفة عين وتعالى صراخ الجنود ودوي الرصاص والمدافع في مواجهة العدد القليل
الذي واجههم من الهازان بعد هروب الأغلبية بسبب المفاجأة ماعدا من دخلوا ديجور
وحوصروا فيها , ومن قاوم قُتل ومن استسلم كان أسيرا لتنقلب تلك الليلة لصخب
في الجزء الشرقي من البلاد والناس تفر من منازلها في المدن القريبة لهجوم الحالك
مخافة زحف جيوشهم , واختلط الخوف والهلع والمفاجأة بالشائعات , بينما كانت ليلة
هادئة في الجزأين الغربي والجنوبي من تلك البلاد وأغلب الناس لا علم لها بما يجري
هناك بينما البعض أفسدت نومهم تلك الأخبار التي وصلتهم في جنح ذاك الليل الربيعي
الهادئ عن استيلاء ابن شاهين على خمس مناطق دفعة واحدة وفي ليلة واحدة من
حدود الهازان لتصبح حصيلة ما أخذ منهم من منتصف الشتاء لآخر الربيع سبع
مناطق , منها ما أخذ بالقوة ومنها بالحيلة ومنها برد الغدر بالغدر
وعند مطلع الفجر كان الهازان يحشد لشن هجوم معاكس واسترداد ولو جزء
من كرامته قبل أراضيه وكانت جيوش الحالك قد تمركزت في مواقعها الجديدة
يتلقون الأوامر من الأرفع مكانه فالأرفع حتى تصل للذي يمسك بهاتف سلكي
يدوي في إحدى غرف المراقبة والتخطيط في الحويصاء يتلقى الأخبار عن
تحركات الهازان ويلقي الأوامر على قادة جنوده , ومع أول خيط للشمس رمى
ذاك الشيء من يده وحمل رشاشه ليوقفه أحد مرافقيه ممسكا ذراعه بقوة
وقال " ابق هنا سيدي أفضل لنا ولك "
ربت مطر بيده على كتف أحد أذرعه ورجاله المخلصين وقال بجدية
" لن يرتاح لي بال إلا وأنا معهم ولم يتغير شيء عن السابق يا ضيغم"
ثم تابع متوجها للباب بخطوات سريعة " تولوا باقي المهمة أنا أعتمد
عليكم وسنكون على اتصال "
وخرج للسيارة التي في انتظاره بعدما اختار أن يكون قائدا ميدانيا ومحاربا
بدلا من أن يقودهم عن بعد فما يعلمه الجميع أن الساعات القادمة ستحمل
الكثير من القتال الكثير من الدماء والكثير الكثير من الدمار وكان الأمر
كذلك بالفعل
*
*
" تيم ألم تذهب للمدرسة بني ؟ "
رفع نظره عن الكتاب في يديه جالسا على الأرض متكئ بظهره على
السرير الخشبي خلفه ونظر للأعلى حيث الوجه المتعب الشاحب وقال
" لا مدرسة اليوم يا أمي , نامي الوقت ما يزال مبكرا "
عادت للاستلقاء جيدا وقالت بصوت متعب " اليوم ليس جمعة
أليس كذلك ؟ "
عاد بنظره لكتابه وقال " نعم لكن المدارس مغلقة "
كانت ستتحدث لولا قاطعها السعال الذي هاجمها فجأة وتحول سريعا
لتنفس متقطع يخرج بصعوبة جعل الجالس على الأرض يرمي الكتاب
من يده للأرض ووقف من فوره وقال ماسحا على شعرها الأسود الناعم
" أمي ما بك ؟ تنفسي بسرعة ولا تتركيني أنتي أيضا "
حاولت أن تتحدث ويدها المرتجفة ترتفع لوجهه لكن تنفسها كان يزداد
ضيقا كلما حاولت ذلك فتركها وخرج راكضا من تلك الغرفة الضيقة التي
تعتبر منزلهما هي والحمام الصغير المشترك معها , ركض بقدمين حافيتان
على التراب متوجها للمنزل الذي يشتركون معه في سور واحد ووصل الباب
الحديدي له وطرق بقوة طرقات متتالية حتى فتح له صاحب الصوت الخشن
الذي نادى من الداخل " مهلك مهلك كسرت الباب "
رفع نظراته الحادة التي تحولت لزجاجية من حبسه لدمعته وقال ناظرا
لصاحب الجسد الضخم فوقه " أمي مريضة ولا يمكنها التنفس
خذوها للطبيب في حوران بسرعة "
ورغم أنه يعلم الجواب الذي كان الرفض في كل مرة بحجة أنه لا مال
لديهم إلا أنه خمن أنّ تردي حالتها هذه المرة سيجعل هذا الجدار خالي
المشاعر يشعر بابنة عمه المرمية هناك في تلك الغرفة لا يزورها أحد
من أبناء عمها ولا يطمئنون عليها منذ توفي زوجها مقتولا ولم يترك لهما
شيئا لأنه خرج من قبيلته فارا بحياته ودخل الحالك مع مجموعة أخرى
عن رضا تام من ابن شاهين , تحركت تلك الشفاه العريضة المغطاة
بشارب كثيف قائلة بحنق " كم مرة سنعيد ذات الكلام ؟ ثم إن كنت
لا تعلم فالبلاد في .... "
وقطع كلامه الجسد الصغير النحيل الذي حاول أن يعبر من بين ساقه
والباب وخرجت صاحبته بصعوبة بالغة مستغلة الفرصة التي انفتح فيها
باب المنزل وخرجت الكلمات الرقيقة الصغيرة منها بصعوبة بسبب
كل ذاك الجهد للعبور " تيم أنت هنا ؟ "
لكن نظراته كانت ما تزال عالقة على ملامح ذاك الضخم معقود الحاجبين
الواقف مكانه , نظرات حادة ترسلها تلك العينان السوداء كما عُرف عن
قبيلة والده المنطوية تحت أشهر قبائل الهازان , حيث كانوا يملكون نظرة حادة
ثاقبة وذكية فهم يتصدرون العقول المدبرة في ذاك الطرف الشرقي من البلاد
ويعرفون بحنكتهم ودهائهم , خرجت الكلمات مجددا من تلك الشفاه الزهرية
الصغيرة التي علقت خصلة من شعرها البني في طرفها بسبب خروجها
المجهد " تيم إنها الحرب هناك ولا مدرسة اليوم "
قالتها مندفعة وكأنه لا يعلم وليس يدرس في ذات مدرستها , وتحدث
الواقف فوقه بذات نبرته الخشنة القاسية " لا حل لدينا لها "
وتابع بسخرية " والأطباء جميعهم عند جبهات القتال حيث ندك
مدنكم هناك ونسلبكم إياها "
بقيت نظراته الحادة متركزة على عينا الواقف فوقه من لا يعلم أن آخر ما
يعني هذا الفتى الصغير إن أخذوا مدنهم أم تركوها بعدما كان يسمع حكايات
والده في صغره عما لقي من قبيلته حين رفض أمرا يتعلق بمبادئه وأخلاقه
قال بنبرته الباردة " أمي مريضة وستموت "
لتشهق الواقفة بالقرب منه ويدها الصغيرة على فمها ونظرت من فورها
للأعلى حيث وجه عمها الواقف عند الباب بكل صلابة من جسده
لملامحه لقلبه وقال بلامبالاة " يكون أفضل للجميع "
ثم أمسك باليد الصغيرة للواقفة بجانبه ورغم اعتراضها وبكائها جرها معه
للداخل بخشونة وقسوة يشتمها بكل ما يملك من ألفاظ وضرب الباب خلفه
بقوة تاركا الواقف ورائه ينظر لمكانه بكره وحقد لا يمكنه إخراجهما كما لا
يمكن وصفهما , وعاد بخطوات ثقيلة غاضبة عكس الخطوات الراكضة التي
غادر بها ودخل الغرفة حيث يسمع سعال النائمة هناك من قبل وصوله , وما
أن هدئت نوبتها تلك حتى نظرت له مبعدة قطعة القماش عن فمها وقالت
" أنا بخير بني لا تتعب نفسك معهم فلن نشتري قلبا لمن لا قلب له "
قبض يديه بقوة وقال بحقد " يقولون دائما أنه لا مال لديهم وهم يكذبون
حتى المال القليل الذي يخصصه ابن شاهين للأرامل لا يعطونه لك يا أمي "
نظرت للسقف ووضعت قطعة القماش البيضاء تلك على فمها وأنفها وكأنها
ترتجي أن تنقي لها هواء الغرفة الذي لم يعد بإمكانها تنفسه فتحرك الواقف
عند الباب حتى وصل حقيبته المدرسية وأخرج منها الرمانتين اللتان أحضرهما
من الحقول ككل يوم وأخرج السكين من تحت السرير وفتحهما وجلس على حافته
وبدأ ينتزع البذور بيده الصغيرة ويطعم التي لا ترى منهم هي وابنها سوا وجبة
واحدة وليست كل يوم والحجة ذاتها نفاذ المال وكأنهم لم يسرقوا أرضها ويضموها
لأراضيهم وكأنها ليست ابنة عمهم ولها ما لهم , أطعمها كل تلك البذور الحمراء
الصغيرة دون أن يبقي لنفسه ولا واحدة وكان يرفع نصف الثمرة فقط من الأرض
كي لا ترى كم أكلت , وحين انتهى سألته ككل يوم " أنت لم تأكل يا تيم ؟ "
فأجاب كالعادة " حصتي في الأسفل سآكلها الآن "
وجلس على الأرض تحتها بحيث لا تراه وككل يوم بدأ بأكل لب الرمان
متحملا كل مرارته تلك كي تسمعه وهوا يأكل ولا تحرم نفسها من الأكل
من أجله , ووصله صوتها المتعب معقبة على كلامه السابق " هم على الأقل
يعطوننا وجبات مهما قلت ورمانتين كل يوم ويتركوننا نعيش في هذه الغرفة "
ابتسم بسخرية وألم ولم يعلق يرمي القشرة القاسية التي ينزع اللب منها وكل
تفكيره بعد أن تُقطف الحقول من أين سيجد طعاما وكيف سيأخذ والدته للطبيب
في أسرع وقت كي لا تسوء صحتها أكثر من كل هذا , ضم ساقيه وخبئ وجهه
فيهما يستمع لأزيز رئتي النائمة خلفه على السرير وهي تحاول جاهدة البقاء ولو
من أجله كي لا يطردوه من هذه الغرفة ويصبح في الشارع لأنه لا أحد سيقبل به
بعد ذلك , رفع رأسه حين سمع همسا بعيدا متقطعا فأبعد يده وخبئ القشور تحت
السرير فورا قبل أن يقف وينظر جهة باب الغرفة المفتوح وظهر له الجسد الصغير
النحيل الذي لا يظهر منه إلا القليل وذاك الوجه الدائري بالعينين العسليتان يحيطه
الشعر البني الناعم , واليد البيضاء الصغيرة التي تناديه بها في صمت فتوجه
نحوها بخطوات بطيئة وملامح جامدة حتى وصل عندها وقال بصوت بارد
منخفض " ماذا تريدين ماريه ؟ إن علموا أنك خرجتِ سيعاقبونك "
أمسكت يده دون أن تتحدث ووضعت فيها شيئا وركضت عائدة جهة باب
المنزل الشبه مغلق ودخلت وأغلقته خلفها ليخرج صوت المرأة الصارخ
باسمها يصل لمسامعه بوضوح وما هي إلا لحظات وخرج صوت بكاء
الطفلة ذات الخمس سنوات ونصف فهز رأسه وقال بهمس
" غبية "
ثم رفع يده وفتح كفه ناظرا لما وضعته له فيه فكان عملتين نقديتين ولم
يخبرها عقلها الصغير أنها لا تجلب طبيبا ولن توصل والدته للمستشفى
قبض عليهما مجددا ثم دسهما في جيب بنطلونه والتفت عائدا لوالدته
التي نادته تريد الماء لتشرب
*
*
نزلت السلالم بخطوات راكضة لتلحق الذي لم ترى منه سوا نصف جسده
خارجا من الباب وعمتها تقف خلفه تضم يديها أمام ذقنها بحزن متمتمة وكأنها
تستودعه خالقه وتخشى أن لا يعود , وما كان اختفى باقي جسده إلا وذراعه
في قبضت ذراعيها النحيلتان وشعرها الأسود الطويل قد تناثر على طرف
سترته العسكرية فنظر سريعا للجسد النحيل الصغير في تلك البيجامة الربيعية
البسيطة وهي تتشبث به وقد رفعت وجهها محتقن الوجنتين اللتان تتوهجان
احمرارا وعينين تنذران بانفجار وشيك لدموعها وقالت بغصة وصعوبة
" ماذا يحدث يا كاسر ماذا ؟ "
مسح على طرف وجهها بيده الكبيرة طويلة الأصابع وقال بلمحة
حزن لم يجاهد أبدا لإخفائها " ابن شاهين غار على شرق البلاد البارحة
وأخذ العمران وريهوة أيضا والحرب هناك في أوجها , هوا ورجاله يدافعون
عما أخذوا والهازان يحاولون استرجاع مدنهم والأخبار لا تسر يا شقيقتي "
سقطت الدمعة الأولى من طرف عينها الواسعة وزمت شفتيها المرتجفتان
قبل أن تخرج منها الكلمات متقطعة " وأيـ ن سيقف "
شد بيده القوية على رسغها المتشبث بذراعه بقوة وقال " لا أعلم ولا
أحد غيره يملك الجواب , وعليا المغادرة للحدود يا غسق فيكفي
بكاء لأن هذا لن ينتهي "
هزت رأسها بقوة تناثرت معها دموعها وقالت صارخة بعبرة
" لن ينتهي وذاك المجنون يفعل كل هذا , فأوقفوه جميعكم "
قال كاسر بشيء من الشدة " كادوا له يا غسق , ولثاني مرة يفعلها الهازان
به ولم يحترموا الهدن يوما أبدا وكانوا يقتلون رجاله فرادا عند الحدود
باستمرار وغفلوا عن أنه كالبحر إن هاج أخذ كل شيء في طريقه "
هزت ذراعه بقوة وكأنه المعني بكل هذا وقالت بغضب باكي
" لماذا تدافع عنه يا كاسر ؟ أليس دورنا بعدهم ؟
ألن تلقفنا أمواجه المجنونة أيضا "
سحب ذراعه منها بقوة وقال بحدة " غسق أنتي لم تعودي صغيرة وما
نحن فيه الآن كان سيحدث مهما طال الوقت , وإن قاتلنا سنقاتله لكننا
لن نزحف عليه وكلام والدي وقراراه وكبار رجال قبائلنا كان واضحا "
تمالكت رجفتها بشق الأنفس وقالت بشبه همس " العمران أخذها ؟
هل يفكر في غرب البلاد أيضا "
أمسك وجهها بيديه وقبّل جبينها وقال بهدوء " لا يبدوا ذلك يا
غسق فتوقفي عن تعذيب قلبك الصغير بأمور لن تحدث "
ثم غادر تودعه دموعها التي لم تتوقف لحظة حتى خرجت سيارته
ثم نظرت للتي مسحت بيدها على ظهرها بحنان فقالت بعبرة
" وأين والدي ؟ "
تنهدت الواقفة بجانبها بحزن وقالت " أين سيكون برأيك ؟ لن تتوقف
اجتماعاتهم الطارئة أبدا حتى تهدأ الحرب , وقد غادر المنزل من
قبل الفجر ما أن جاءته أخبار شرق البلاد "
تركتها وتوجهت راكضة جهة الهاتف وجلست على الأريكة المجاورة له
ووضعت سماعته على أذنها وضربت الأرقام فورا وكأنها مسجلة في
عقلها , وبعد محاولات عديدة كان الرقم فيها مشغولا كل مرة أجابها
صوت رجولي قائلا " نعم من معي "
قالت محاولة قدر الإمكان إخفاء الرجفة والعبرة في صوتها
" أعطني رمّاح شراع "
سكت من في الطرف الآخر لوقت قبل أن ينادي والسماعة بعيدة عن
أذنه لكن صوته كان واضحا لها " هيه أخبر ابن الزعيم شراع
أن المكالمة له "
ثم سمعت جلبة وأحدهم قال مناديا " تعال يا جواد أخبار مهمة "
فشعرت بقلبها توقف وهي تسمع صوت رميه للسماعة على شيء صلب
ومؤكد الطاولة التي يوجد عليها ولم تعد تسمع شيئا بعدها , وكان قلبها
يغلي كالبركان وهي تنتظر والدقيقة تتبعها الأخرى ولا أحد رفع السماعة
مجددا ولا حل أمامها سوا الانتظار لأنها إن أغلقت الخط فلن تحصل عليه
مجددا وسماعتهم مفتوحة هكذا , بعد وقت بقيت فيه منتظرة على أعصابها
تحركت السماعة من صوت انسحابها على الطاولة في الطرف الآخر
وانسكبت دموعها مجددا وبغزارة وهي تسمع صوت رماح قائلا
" نعم أنا رماح شراع "
قالت بعبرة " رماح هل أنت بخير يا شقيقي "
ابتسم من كان في الطرف الآخر وقال من فوره
" بخير يا طفلة لا تخافي "
مسحت دموعها بقوة وقالت بذات عبرتها "هل يفكر ابن شاهين
في الإغارة عليكم ؟ كونوا حذرين يا رماح أرجوك "
قال بذات صوته المبتسم " ونهرب إن جاء أليس هذا ما توصيننا به ؟ "
قالت بتذمر رقيق " رماح ليس هذا وقت مزاحك السخيف , أين
رعد هل اتصلت به ؟ وجبران أيضا ؟ "
قال بهدوء " رعد في طريقه إلى هنا وجبران عند حدودنا مع الحالك
وجميعنا بخير لا تقلقي يا غسق وتُقلقي عمتي ووالدي معك "
قالت من فورها " ما أن يأتي رعد أخبره يتصل بي "
خرجت ضحكته وقال " ألا يكفيك أني لم أوبخك لاتصالك بي
ونحن من حذر عن فعل ذلك وأننا نحن من نتصل بكم فقط "
قالت بعناد وقد عادت للبكاء " بل سأتصل بكم طوال الوقت "
قال بنبرة مازحة " من أجاب عليك كان أحد المقربين لي هنا واستلمني
هوا ومن كان معنا وقال ( حبيبتك تريدك على الهاتف وتبكي ) "
شعرت بكم مهول من الإحراج بسبب ما قال وخرجت منها
الكلمات هامسة ببحة " وإن يكن ... سأتصل بكما "
ضحك من عناد صغيرتهم المحببة قبل أن تتحول نبرته للجدية قائلا
" غسق هذا المكان يعج بالرجال ولا أريد أن يجيب عليك أحد
أصحاب النفوس الملوثة شقيقتي , هل تفهمين قصدي ؟ "
أنزلت نظرها وكأنه يقف أمامها الآن وقالت بصوتها الناعم
المنخفض " اتصلوا بنا إذا "
قال من فوره " بالتأكيد سأتصل بك "
قالت بعد لحظة " إن لم تفعلها طلبت من عمتي أن تتحدث
مع من سيجيب "
قال بصوت مبتسم " سنتصل بك أعدك بذلك شقيقتي "
وأغلقت السماعة بعدما ودعته هامسة بكلمات جلها دعوات بأن يحفظهما
الله , ولم تستطع بعدها الوقوف من مكانها إلا ويدها قد رفعت السماعة مجددا
وأجرت اتصالا آخر ولم تصدق نفسها حين أجاب عليها صوت الشخص
المعني ذاته وليس شخصاً آخر سيوصلها له كما خشيت فقالت تمسك عبرتها
ما أن سمعت صوته المبحوح من تأثير المرض " جبران هل أنت بخير ؟ "
لم تسمع منه ردا لوقت حتى ظنته لم يسمعها ولم تكن تعلم ما فعل وقع
كلماتها وصوتها العذب الرقيق الذي لم يسمعه من أشهر على قلبه العاشق
وكانت ستعيد كلامها لولا أن خرج لها صوته قائلا " غسق !! "
زمت شفتيها بقوة ولم تتحدث فقد خشيت أن يوبخها على اتصالها بمقر الجنود
خشيت أن يسخر منها كرماح لأنها تخاف عليهم من الموت لكنه قال بلهفة
ظهرت على صوته المتعب " أنا بخير يا غسق توقفي عن البكاء أرجوك "
قالت من فورها وقد عادت دموعها للتدحرج " أنت عند حدود الحالك كن
حذرا جبران , كونوا جميعكم حذرين فقد يخدعكم بانتظاره من جهة
الشرق ويأتيكم من هناك "
قال مطمئنا " كوني مطمئنة نحن نراقب كل شيء ومستعدين لأي شيء "
قالت بشفاه مرتجفة " كاسر سيصل عندك كونا بقرب بعض جبران أرجوك "
قال من فوره " لا تقلقي حبيبتي وتوقفي عن البكاء وارحميني "
قبضت على السماعة بقوة وقد شعرت بكل حرارة جسدها انتقلت ليدها تلك
التي تعرقت بشكل كبير كادت تنزلق السماعة منها بسببه وقالت بكلمات
خرجت بصعوبة " اتصلا بنا دائما لنطمئن عليكما يـ "
وأمسكت لسانها بصعوبة حين كادت تناديه بشقيقي كما اعتادت وساد
الصمت للحظة قبل أن يقول " سيتصل بكم كاسر ويطمئنكم
وسنكون بخير لا تخافي "
بلعت غصتها وكأنها تبلع معها ضربات قلبها الذي توتر من مقصده
و كلامه وأنه لن يتصل أبدا ولازال يصر على قراره وقالت بهمس
" ألن تتصل أنت ؟ "
كانت تعلم أنها إن لم تعلق على جملته فستجرحه أكثر وسيضن أنها لا تهتم
إن اتصل بهم أم لا وإن سمعت حتى صوته وهوا يمنعها من رؤيته , جاءها
صوته بنبرة حملت معاني كثيرة قائلا بهدوء " حتى تقرري أن تفكي
أسري يا غسق من هذا المكان الكئيب "
أغلقت فمها بيدها وانهمرت دموعها أكثر وأكثر وكأنه ينقصها الآن أن
يذكرها بأن كل شيء بيدها هي وبأنه تحول لسجين لتلك الحدود والمعاناة
في كل شيء حتى النوم على الأسرّة القاسية بسببها وسينهيه كلمة واحدة
منها , تنفست بعبرة وخرج صوتها ضعيفا قائلة " لن يتأخر الأمر
طويلا جبران أعدك "
كانت تلك الكلمات كفيلة بأن تجعل قلب من في الطرف الآخر يقفز من
مكانه فرحا وجعل الجالسة على ذاك الكرسي تمسح الدموع التي وصلت
لشفتيها تعتصر ألما وهي تخشى أن لا تسعده أن لا تهبه ما يستحق كل ما
يحمله لها من حب لكنها باتت مقتنعة بكلام عمتها بأن الأمر بعد زواجهما
سيتغير وأن مشاعرها نحوه لن تكون مشاعر شقيقة لشقيقها ولربما
أحبته فيما بعد حبا مختلفا عن حبها له منذ كانت طفلة
*
*
خلال الساعات الأولى من ذلك النهار العاصف بالأحداث كانت جبهات
القتال تحترق من قصف الدبابات وجميع أنواع الأسلحة الثقيلة ورغم أن
المناطق التي احتلها الحالك تحدها من جهة الشرق جبال أرياح التي تعرف
بؤرا للجماعات الإرهابية وهي خارجة حتى عن سيطرت الهازان فقد تقلص
هجوم جيوش الهازان على الجهة الشمالية فقط حيث ديجور وريهوة والالتفاف
عليهم سيكون سهلا من قبل الحالك لكن الهازان حاولت الهجوم وإعادة ما سُلبَ
من أراضيها وإن كان هجوما غبيا وبخسائر فادحة لهم ضعف خسائر الحالك
وفي نقطة الدفاع الثانية وهي الحويصاء حيث تعد ممرا للإمداد بكل ما يلزم
للمدن في الخطوط الأمامية , كانت المدينة الخالية من ساكنيها تعج بسيارات
الجنود والعتاد وسيارات الإسعاف لأن تلك المدينة تعد حلقة الوصل الأقرب
لكل ما يجري هناك على بعد كيلوا مترات قليلة فقط
دخل ذاك المبنى الواسع حيث تختلط الأصوات ما بين صراخ طالبي يد
العون وأنين الرجال المصابين وركض البعض خروجا ودخولا , عبَر
الممرات وقد ثبت سلاحه الرشاش على ظهره بحيث احتضن حزامه الجلدي
عضلات صدره العريض يسير بخطوات سريعة ونظرة ثابتة لهدفه وقد
ابتعد عن طريقه كل من لمحه فاسحين له المجال للمرور , وصل لغرفة
معينة فتح بابها ودخل ليقف له الموجودان فيها من فورهما وقال ما أن
وقف عندهما " ما هذا الذي سمعته ؟ "
لم يخفي الجالس خلف الطاولة توتره فلم يتوقع مجيئه بنفسه بل أن
يرسل أحدا غيره من آلاف الرجال حوله هناك فقال باحترام بالغ
" مطهرات الجروح بدأت تنفذ سيدي وبعض المضادات الحيوية "
قست تقاسيم وجهه وقال بنبرة تشوبها بعض الحدة " هل هذا وقت
قولها ؟ لما حين قدّمتم لي طلباتكم لم تكتبوا ما تريدون بالتحديد "
قال ذاك من فوره " حدث يا سيدي وقدّرنا كل شيء ووصل ما
أردناه لكن بعض الممرضات هنا جدد وحدث استهلاك للكميات
بشكل مفرط مع البعض خاصة مع أصحاب الإصابات البليغة "
تنفس بقوة وقد برزت عظام فكيه دليل كتمه لعبارات قد تؤذيهم
إن خرجت منه وقال بجدية " المطهرات هناك بدائل لها
أليس كذلك ؟ "
قال الآخر خارجا من صمته " أجل سيدي وهذا ما بدأنا
الاعتماد عليه "
قال مغادرا " المضادات سأجد من يزودكم بها خلال ساعات
لنرجو أن تكون قليلة "
ثم خرج من عندهم وسلك ممرا آخر حتى دخل تلك الصالة الواسعة التي
عجت بأسرّة المصابين وحركة الممرضات بمعاطفهن البيضاء وبدأ يتجول
في ذاك المكان قبل خروجه مقيّما الحالات والعدد ومحاولا رفع معنويات
الجرحى بعبارات شكر وطمئنه هامسة لكل من وقف عنده وكان في وعيه
التام والتقى بعض الأطباء ليلقي أوامره واتصالاته بشأن نقل بعض المصابين
للمدن الداخلية وجلب ما نقص هنا , وغادر بعدها سريعا حيث المكان الذي
لم يترك فيه جنوده فقط بل وعقله هناك معهم مخلفا ورائه همس الممرضات
عن الرجل الذي مر بهم قبل قليل كثورة قوية من الجاذبية وكتلة من الرجولة
المتجسدة في كل تفصيل من تفاصيله حتى صوته المميز بتلك البحة وهو ينتشر
في صمت ذاك المكان حين يلقي أوامره , في تحركاته وخطواته الواثقة وحتى
أمواج الأنفاس القوية التي تتحكم في حركة أضلع ذاك الصدر العريض
كانت تذيب قلب أي أنثى يقف أو يمر قريبا منها وإن لم يراها
*
*
جلست بجانبها على الأرض حيث البساط القديم في تلك الحجرة الطينية
الضيقة تحيط به أفرشة بسيطة , تُخرج ثيابها القليلة وتضعها في الحقيبة
اليدوية القديمة متوسطة الحجم المصنوعة من الجلد , أمسكت بيدها النحيلة
المجعدة وقالت برجاء " أمي بالله عليك فكري مجددا , أين ستذهبين في
حدود صنوان وكيف تتركيني وحدي لا وسيلة لدي حتى لأعلم كيف
أنتي وما يحدث معك "
مسحت بيدها المجعدة على يد ابنتها التي بدأت الدموع تغلبها وقالت
" حوراء بقائي لا خير فيه لك ولا لي , وأنتي هنا مع زوجك وسترزقان
بمولود بعد ثمان أشهر وحياتك لن تتوقف على عجوز مثلي "
قالت ودموعها قد وجدت سبيلا للنزول " لا غنى لي عنك يا أمي
وإن كان لي عشرة أبناء , ثم من قال أن عمار قد يرجع حيا من
هذه الحرب التي الله وحده يعلم متى سينتهي "
أغلقت سحاب حقيبتها الحديدي العريض بيدين قد وهنت قواهما مع
شدته قائلة " هل ذهبت لابنة عم زوجك ورأيتها كما طلبت منك ؟ "
تنهدت حوراء بحزن وأخذت الحقيبة من والدتها تغلق باقي السحاب الذي كان
أقوى من عزيمة العجوز الواهنة وقالت " تعلمين يا أمي أن شقيقه وزوجته لا
يتركون أحدا يزورها وقالوا أن الطبيب يمنع عنها كثرة الأنفاس حولها وتلوث
الهواء ولا يتركون معها إلا ابنها , وتيم كما تعرفيه إن أمسكتِ به عنوة لا
تخرجين منه بشيء , كلماته وكأنه يشتريها بالمال ولا يجيب على
أسألتك مهما سألته "
وقفت تستند بعصاها قائلة " سيحملون ذنبها وعليهم أن لا يغفلوا أن الزمن
ممتد والطفل يكبر وأبناء قبيلة كنعان هازان لا يسكتون عن الضيم
وانتقامهم أحر من لسع الجمر المتوهج ولن يلومه يومها أحد "
نظرت حوراء باستغراب للتي خطت بخطوات وهنة جهة باب الغرفة تتحدث
عن أمر يحتاج لسنوات طويلة ليحدث والله وحده يعلم إن كانوا سيعيشون لها
قالت قبل أن تخرج " لن أغادر قبل أن تخف الحرب القائمة فحاذري
من أن يسمع بهذا أحد يا حوراء "
*
*
غطت برفق جسد النائمة على طرف السرير متنهدة بحزن , فها قد غلبها
النعاس أخيرا والهاتف ما يزال بجانبها تنتظر اتصال والدها شراع الوحيد
الذي لم تطمئن عليه اليوم ولم ترضى أن تنام حتى يتصل بهم لكن النوم كان
أقوى من عنادها خاصة في مواجهة عينان لم تناما منذ الفجر وقد أجهدهما
البكاء المستمر , مسحت على شعرها وقبلت جبينها الصغير تراقب الوجنتين
المتوهجتان احمرارا والجفنان المرهقان بقلة حيلة فكلاهما لا تملكان سوى الدعاء
والانتظار , أطفئت نور الغرفة الخفيف حيث أن الكهرباء لم تنقطع اليوم عنهم
وهذا هوا المعتاد في الأوقات التي تشتد فيها الأحوال داخليا لا يقطعون عنهم
الإمداد الكهربائي حتى تخرج البلاد من أزمتها الشديدة ولو جزئيا , أغلقت باب
الغرفة بهدوء وقد حملت الهاتف في حضنها لترجعه مكانه في الأسفل , وما أن
خطت بضع خطوات نحو السلالم حتى ابتسمت للذي ظهر أمامها صاعدا منه
وقالت بصوت منخفض " حمدا لله أنك أتيت يا شراع , غسق كادت تجن
من انشغالها عليك وقلبي كان يحترق معها في صمت "
وصل عندها بملامح متعبة عابسة وقال بهدوء " لم أستطع المجيء إلا
الآن ولم أجد وقتا لأتصل بكم , فلما القلق ونحن لا شيء لدينا هنا ؟ "
تنهدت بحزن وقالت " وإن يكن فلن نطمئن عليك ونحن نعلم أن البلاد
تتحول لفوضى كلما مرت بظروف مشابهة ولسنا حديثي سنة بحرب
لتخفى عنا هذه الأمور "
تنفس بقوة وهز رأسه وكأنه يوافقها ما تقول ثم قال " هل نامت ؟ "
هزت رأسها بنعم وقالت " ماذا حدث معكم ؟ وما أخبار الشرق ؟ "
هز رأسه بأسى وقال " كما هوا عليه , مرت ساعات هدأ فيها دوي
المدافع ثم عاد الهازان لمحاولة الهجوم وعادت الأمور كما كانت "
جالت بنظرها في ملامحه لوقت ثم قالت " والحل يا شراع ؟ هل
سيستمر هذا حتى يكملوا بعضهم ؟ "
نظر للأرض وقال بهدوء " نحن نسعى جهدنا وهناك تحرك دولي بهذا
الشأن لنتوصل لتهدئة جزئية على الأقل حتى يتم حل النزاع سياسيا
وهذا المتوقع في وقت قريب إن شاء الله "
هزت رأسها بأسى وقالت " ويجلسون على طاولة مفاوضات طبعا
والنتيجة لن يرضى أحد بما سيقول الطرف الآخر , لقد سئمنا
من هذا يا شراع ولم يكن حلا يوما "
تحركت خطواته مجتازا لها وقال بصوت ظهر عليه التعب بوضوح
" على الأقل يصلون لحل مع ابن شاهين وإن بالضغط عليه "
التفتت مع حركته قائلة " إن قلت شخص آخر لقلت يجوز ذلك لكن
ابن شاهين ذاك فاق جبال أرياح صلابة وعنادا "
وقف مكانه وقال " لنأمل من الله خيرا "
قالت من فورها " ونحن يا شراع ؟ وغرب البلاد ما نظرة
ذاك البحر الهائج لنا "
التفت لها نصف التفات وقال " لن يفتح على نفسه جبهتين حاليا
ومهادنة تبادل الأسرى بيننا لن تنتهي إلا بنهاية الصيف القادم
أي بعد أربعة أشهر ولا أراه يفكر في الزحف علينا حاليا "
قالت المحتضنة الهاتف خلفه بقلق " وهل سيأخذ شرق البلاد
ويقف هناك ؟ هل فكرتم في هذا ؟ "
تحرك مجددا قائلا " ليس الشرق مدينة واحدة ولا يؤخذ بسهولة
ولكل حادث حديث حتى وقتها "
ثم تابع وهوا يبتعد جهة غرفته " سأستحم فاجلبي لي أي شيء
يؤكل سريعا لأنام فسأخرج مجددا بعد الفجر "
واختفى عنها خلف باب غرفته فتنهدت بأسى وتوجهت للسلالم نازلة منها
متمتمة بالدعاء الذي لم يتوقف لسانها عن ترديده طوال ساعات هذا اليوم
توجهت للمطبخ ولم تفكر في إيقاظ إحدى الخادمات في هذا الوقت المتأخر بل
نظرت ما يمكنها أخذه له سريعا بينما يكون أنهى استحمامه ثم صعدت للأعلى
وفي يدها صينية تحوي بعض الأطباق مما وجدته سريع التحضير ودخلت
الغرفة بعد طرقات خفيفة على الباب وكان شقيقها جالسا يحرك كتفيه ورقبته
بتعب فوضعت الصينية أمامه ووقف ضامه يديها لبعضهما وقالت ناظرة له وقد
مد يده سريعا لما جلبته " أرى أن تطلب من أحد أبنائك أن يكون هنا ولا
تضعهم الأربعة حيث قد يتحول المكان لجبهة قتال في أي وقت "
وضع اللقمة في فمه وقال وهوا يمضغها " أبنائي ليسوا صغارا ولن يمسك
أحد عنهم الموت , ومن جاء أجله يموت حتى في فراشه وليسوا أفضل
ممن هناك ولست أفضل ممن يقدمون أبنائهم للقتال "
قالت مصرة على رأيها " وإن يكن فوجودهم هناك في هذه الفوضى
أمر خاطئ , أترك واحدا لنا يا شراع فمن يعلم الزمن ما يحمل لنا
ونحن امرأتان وحيدتان "
لم يعلق على ما قالت مستمرا في أكله فتابعت قائلة " اطلب من جبران
المجيء فهوا اتصل بنا اليوم مرتين على غير عادته مؤخرا وهوا
من بين أبنائك من يفكر في غسق كزوجة "
نفض يديه حامدا الله بهمس ووقف وقال متوجها لسريره " أجلي الحديث
وحتى التفكير في هذا الأمر حاليا فالعجوز عزيرة أرسلت لي سرا من
أخبرني أنها تريد دخول أراضينا والعيش فيها "
نظرت له بصدمة لم تستطع تجاوزها بسهولة ثم قالت " عزيرة التي
ولّدت والدة غسق لا غيرها ؟ "
دخل سريره وسحب الغطاء على جسده المرهق وقال " نعم وقالت
أنه ثمة من يبحث عنها ومن داخل عائلة ابن شاهين "
المخرج ~
بقلم الغالية : نجـ"ـمـ"ـة المسـ☆ـاء
احكــي لنــــا عن آسـرٍ .. وعن بطــولـةِ جابــرٍ
عن بؤسهم عن عشقهم .. واسهبي في وصفهمْ
ف رائدٌ عشق القمــــرْ .. وجميــلةٌ انتـي دررْ
لا تخبريــنا عن اديـــمْ .. ف ليانه عشقت وسيمْ
و سما نزار حبيــبتـي .. والترجـمــانُ أميــرتي
عجزت حروفي يا اياسْ .. احببتكَ حقـاً..أواس!!
حب الطفولةِ يا انيـــنْ .. وقصينا سرق السديـنْ
يكفي غموضا يا مطر .. من انت؟من اي البشر؟
تحياتي الحارة 😘 ..نجـ"ـمـ"ـة المسـ☆ـاء
نهاية الفصل السادس
موعدنا القادم مساء الجمعة إن شاء الله
ودمتم في حفظه ورعايته جميعا