السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أسعد الله أوقات أحبتي بكل خير من بذكرهم ورؤية
أسمائهم وحروفهم يطرب قلبي ، أسأل الله أن يجزاكم كل خير
على كل دعوة أكرمتم بها بلادي وأحطوني بها وأن يجعل
لكم في كل حرف حسنة ومن كل حسنة عشرة ولكل ذنب
مغفرة وأن يزيل الغمامة عن بلادي وكل بلاد المسلمين
الصراحة ماني عارفة كيف كتبت هالفصل وكيف طلع معاي
رغم إن الفترة أسبوعين فأتمنى ينال رضاكم ، وكان المقرر
أكتبه في فصل واحد لكن الوقت ما أسعفني وتعبت وتعبت
فيتامين معاي الله يجزاها الجنة على قد تعبها معانا وعلى دعمها
وتشجيعها لي في المتابعة وإن شاء الله تكملة الفصل بتكون الأسبوع
القادم مع مقتطفات من أفكاري عن أحداث الجزء الثاني
جنون المطر ( الجزء الأول )
الفصل السابع والعشرون والأخير ( الجزء الأول)
المدخل ~
بقلم الغالية: سما 23
بالله قولوا لي
كيف ضاعت حبيبتي كانت بين يدي؟
كادت تصير زوجتي كانت هنا معي
حبيبتي أميرة بعيشها الرغيد
كيف تصير زوجة لرجل من حديد؟
كيف تواجه وحدها من قلبه جليد؟
بالله قولوا لي .. هيا ردو علي
(جبران)
جبران يا حبيبي انت مثل أخي
لن أنسى يوماً أنك ضحيت من أجلي
سأذكر دوما حبّك وعطفك السخي
لكن قلبي ذائب في حب من معي
أحببته أدمنته وحبُّنا أكيد
هو ابن عمي مهجتي سواه لا أريد
أرجو لك السعادة مع حبٍ جديد
(غسق)
،،،،،،،
ابنك من بعدك يا أمي
صار وحيداً يشكو القدرَ
كالتائه وحدَه في الدنيا
وهمومه تتسعُ البحرَ
والبيتُ بدونك يا أمي
كالصحراء تشكو القفرَ
وسريرك فارغ يا أمي
يوجع قلبي يوقد جمرا
من يطفؤها نار الفقد
فقدك أمي أكبر حسره
وحياتي بعدك بائسة
فوق اليتم ازدادت عسراً
قد كان وجودك يؤنسني
ودعاؤك كان يثبّتني
من يرحمني من يُنصفني
من ظلم الظالم ينصرني
من قيسٍ أفعاله قذره
قد كذب عليا وعليها
قد زوّجنا وأخذ المهرَ
أرضك هي حقي يسلبها
من عينيهِ يلقي الشررَ
يا أمي ضربها وضربني
فضربتُه ورميته حجراً
قد مات الظالم يا أمي
قيسُ القاسي قسوةَ صخرَه
وحبيبةُ قلبك خائفةٌ
يا ماريا صبراً صبرا
يرعاكِ الله ويحفظْكِ
ويُيسّرها ربي يسراً
فسأكبر وأحقق حلمي
وأقاتل وأحقق نصراً
وسأرجع وسآخذ حقي
سأردّه وأردُّ الثأرَ
******
ركض لمسافة طويلة مسافة لم يكن يراها سابقا بهذا الطول ووعرة
هكذا وهو ينزل من ذاك المرتفع ويدخل مقر الجنود راكضا يصرخ
بسم عمير يريد أن يكون أول من يراه أن يصل له قبل أن يصلهم أي
أمر بإمساكه والقبض عليه ما أن يعلموا بما حدث لذاك ، كان يركض
بين الجنود المتحركين هناك تلتهمه نظراتهم المستغربة وكم شعر وقتها
بغربته تزداد بينهم وبأنه وحيد وغريب لن ينصفه أحد ولن يصدقوه أبدا
سقط على ركبتيه يلهث بقوة وابتسم رغم بؤسه وكل ما مر به وهو يرى
الذي خرج له راكضا من أحد الأبواب المطلة على تلك الساحة ، كان
بقميصه الداخلي مع البنطلون فقط ليثبت له أنه خرج ما أن سمع صوته
يناديه دون حتى أن يهتم لمظهره ، وصل عنده ونزل مثله بركبتيه على
الأرض وأمسك كتفه وقال ناظرا باستغراب لملامحه الشاحبة المذعورة
وأزرار قميصه المختفية وقد تمزق كتفه " ما بك يا تيم ! ما الذي
أصابك ؟ "
لم يستطع قول شيء كان الجميع يحدق بهما وكان يخشاهم جميعا
يخشى أن لا يجد الأمان عند أحد ولا هذا الشاب الذي سبق ووعده
فسالت دموعه من جديد ترسم مجراها عبر الغبار الذي علق بوجهه
فأمسك ذاك بكتفيه كليهما وهزه قائلا " تيم ما بك تحدث ؟ أقسم
أن أساعدك "
قال حينها بصوت مرتجف " خدني من هنا يا عمير "
وقف موقفا له وتوجه به جهة أحد أبواب ذاك المبنى على تلك النظرات
الفضولية قبل أن يتفرق الجميع ما أن اختفيا داخل أحد أقسام ذاك المقر
وأدخله لغرفته المخصصة له وحده وأغلق الباب وأجلسه على السرير
وسحب الكرسي وجلس أمامه بعدما ناوله كوب ماء ليهدئ من روعه
قليلا وساعده في شربه بسبب يده المرتجفة وقال ما أن أبعده عن شفتيه
" أخبرني ما هذا الذي يحدث معك يا تيم ؟ لن أتركك حتى
أعلم كل شيء "
هز رأسه بحسنا ولم يعرف من أين يبدأ وماذا يحكي ؟ عليه أن يقص
كل شيء من أوله منذ توفي والدا ماريه ومنذ مات والده وسرقوا أرض
والدته ورموهما في تلك الغرفة فكم سيحتاج من الوقت ليقول كل ذلك ؟
سيأتون للقبض عليه بالتأكيد وسيطلبون من الجنود احتجازه ، مسح عينيه
وهمس بصعوبة " أخرجني من هنا يا عمير وسأحكي لك كل شيء
خذني لمكان لا يعرفه أحد "
وقف ذاك من فوره وشده من يده قائلا " حسنا لا تخف لن يمسك أحد
بسوء وأنت معي يا تيم لن يسمح لهم ذاك بذلك وسيعاقب الفاعل
هيا سنخرج من هنا فورا "
*
*
لم تصدق متى يكونا وحدهما , متى سيغادر الطبيب الذي كان يعاين
جروحه وكسوره وتغادر بعده شقيقتها التي نظفت معها المنزل والغرفة
وغسلتا الثياب وملاءات السرير , دخلت الغرفة وأغلقت الباب خلفها ما
أن كان المنزل خاليا ونظرت فورا للذي كان نظره معلق بالسقف وكم
كرهت عجزه عن الحركة رجل بكل حيويته وشبابه يتحول لطريح
فراش يخدمه غيره في كل شيء , اقتربت منه حتى شعر بوجودها
فنظر لها وقال بصوته المتعب " حاول الطبيب التحدث معي لكني لم
أتكلم مدعيا أن ألم أضلعي وحنجرتي لم يساعدني فماذا حدث معك ؟ "
جلست على الكرسي بجواره وقالت متنهدة بيأس " علم والدي من
تكون فرجال الزعيم مطر كانوا هنا صباحا يبحثون عنك تحديدا "
نظر لها بصدمة وهمس بصعوبة " ابن شاهين !! "
هزت رأسها بنعم وقالت " لا تقلق يا رعد لقد سمعت حديثهم كله هم
يبحثون عنك لإرجاعك لصنوان , سمعت أحدهم بأذني يقول ( إن كان
سليما معافى سنوصله للحدود حسب أوامر الزعيم مطر ) وقال إن كنت
متعبا عليهم نقلك للعناية بك وكأنهم يتوقعون أنك مصاب ووالدي لم
يخبرهم عنك وأراد التحدث خصيصا مع الزعيم مطر ما أن
يرجع من سفره "
أغمض عينيه لبرهة ثم فتحهما فلم يستوعب بعد أن يتركوه يغادر وأن
يبحثوا عنه لإخراجه ! صحيح أنه سبق وكانت له بادرة في حادث وفاة
الكاسر لكن أن يفعلها مرة أخرى وأكبر من سابقتها ويسلمه ومن عادتهم
أسر أي متسلل يقبضون عليه سواء في الحالك أو الهازان أو حتى صنوان
فأمر لم يكن يتوقعه ؟ نظر لها وقال بتشكيك " أستريا صحيح ذلك أم
تطمئنيني فقط أو أنك لم تسمعيهم جيدا ؟ "
أمسكت وسطها بيديها وقالت بضيق " ما قصدك كاذبة أم صماء أم
أتخيل أمور لم تحدث ؟ "
نظر للسقف وخرجت ضحكته التي يحاول كتمها بكل قوته بسبب الألم
الذي تسببه في أضلعه وقال بصوت متعب خافت " ما أروعك من
امرأة لو فقط تتحكمي في غضبك "
ابتسمت وكأنها ليست تلك الغاضبة منذ قليل وقالت بسعادة
" حقا أنا رائعة ؟ "
نظر لها وقال " لن تحمميني أنتي هذه المرة أخبري أحد الرجال
يأتي لفعلها "
لوت شفتيها وهمست " جبان هل سأكلك مثلا ؟ "
قال مبتسما " لا طبعا لكني رجل وأنتي امرأة ذلك لا يجوز لدينا
يا أستريا مهما كان عاديا لديكم "
وقفت وقالت بعبوس " ونحن لدينا تفعل ذلك زوجة الرجل أو قريبته
أنت جسدك في حالة لن تستطيع تصورها فخشيت عليك من خشونة
تعامل الرجال فاخترت فعلها بنفسي أم تضن أني أستطيع رفع جسد
رجل أضخم مني بكثير بسهولة , لكني أستحق دائما ما يقال لي "
همس ناظرا لعينيها " أعلم يا آستي لكني رجل و... "
غادرت من قبل أن ينهي كلامه قائلة بضيق تنفض طرف فستانها
بيدها " أخرق وأحمق وأنا أستحق ما يأتيني منك "
وخرجت ضاربة الباب خلفها فنظر للسقف وهمس مبتسما
" ما أغرب النساء حين يتحكم الغضب بهن "
*
*
خرج به من هناك في سيارته الخاصة حتى كانا في مكان بعيد بعض
الشيء وخال من كل معالم الحياة ونزل من السيارة وفتح له الباب
قائلا " هيا انزل يا تيم علينا التحدث قبل متابعة سيرنا "
نزل فورا وتبعه وقد توجه جهة صخرة بارزة وكبيرة وقال مشيرا
عليها " أجلس هنا وأخبرني بكل ما حدث معك ولا تنسى شيئا "
جلس منصاعا له وهمس ونظره معلق به " وستصدقني أم
ستسلمني لهم ؟ "
قال باستغراب " أسلمك لمن ! "
غاب بنظره للأرض تحته محتفظا بجمود ملامحه وبدأ بسرد قصته
منذ توفي والده ووجد نفسه ووالدته في منزل جده ذاك أو في الغرفة
تلك حتى صباح هذا اليوم والواقف فوقه يستمع له بانتباه دون أن
يقاطعه ولا بسؤال حتى رفع نظره به وقال بحزن
" تصدقني يا عمير أليس كذلك ؟ "
أمسك بكتفيه وقال بجدية " لم أعرفك إلا رجلا يا تيم والرجال
لا يكذبون وأصدقك طبعا "
قال من فوره " ولن تسلمني لهم حتى إن طلبوا منك ذلك وهم
رأوك تخرجني من هناك ؟ "
ابعد يديه وقال " لنتأكد أولا إن كانت ضربتك قاتلة ومات ذاك المسخ
أم لا , وإن كنت قتلته لن أسلمك وإن هربت بك خارج البلاد فهو
يستحق الموت ذاك الخنزير النكرة "
ثم أمسك وسطه بيديه وغاب بنظره للأرض مفكرا لوقت قبل أن
يرفع نظره به وقال " وما مصير تلك الطفلة ؟ "
هز الجالس تحته رأسه وهمس " لا أعلم "
تنفس بقوة وقال بهدوء " سأآخذك لمكان تبقى فيه وأرجع لأرى ما
حدث هناك وما حدث معها ثم نرى ما يمكن فعله اتفقنا ؟ "
هز رأسه له بحسنا ولا خيار آخر أمامه ووقف وتبعه عائدان جهة السيارة
وركباها منطلقين من هناك بذات تلك السرعة الجنونية ليعود الصمت سائدا
أجوائها وكل واحد منهما سافر بتفكيره لذات تلك الوجهة ( ماذا إن مات ذاك
الرجل ؟ ) وكان جل تفكير الجالس يراقب النافذة بشرود عن ماذا سيفعله له
هذا الشاب وكيف سيخلصه من عقابهم ؟ بينما كان تفكير عمير عن ردة فعل
مطر عن الأمر وما الذي سيقدمه ذاك لنجدة هذا الفتى ؟ سينصفه أم سيسلمه
للسجن من باب ميزانه العادل الذي عرفه الجميع عنه ؟ أم سيأخذ بأسبابه وما
حدث معه بعين الاعتبار فهو يعرفه جيدا ويعرف بمكانة هذا الفتى لديه ويعرف
غضبه إن علم بذاك الخرق الذي فعلوه بتزويج طفلين لا يعرفان حتى ما تعني
كلمة زواج وبطريقة بشعة قاسية , توقفت السيارة أخيرا عند أحد أحياء
المدينة التي وصلاها منذ قليل ونزل عمير قائلا " انزل هيا واتبعني "
فانصاع لأوامره ونزل سائرا خلفه في ذاك الحي الضيق الذي لم يكن
يسع لدخول السيارة حتى وصلا لباب حديدي لمنزل معين وطرقه
بمفتاحه بقوة وما هي إلا لحظات وانفتح الباب كاشفا عن فتاة في بداية
العشرين من عمرها بملامح جميلة مرحة تمسك حجابا أسود بيدها
تحت ذقنها وقد قالت مبتسمة " عمير ما هذه المفاجأة ؟ "
ورده كان ضربة لأنفها بمفتاحه وقال بضيق " كم مرة قلت لا تفتحي
الباب قبل أن تسالي عن هوية الطارق وإن كان رجلا حدثيه من
خلفه أم تريدين أن أكسر لك أنفك الحشري هذا "
أمسكت بأنفها قائلة بضيق مماثل " ومن هذا الرجل الذي سيزورنا
برأيك ؟ ولعلمك فقط لن تخدعني مجددا لتراضيني بكذبك قبل
مغادرتك "
ودخلت وخطواتها الغاضبة تسمع لهما في الخارج فنظر لتيم الواقف
خلفه بخطوتين وقال " أرأيتها ؟ هذه هي حبيبتي التي أخبرتك عنها "
نظر له ببرود وقال " لا أراها تحبك أبدا ؟ "
ضحك ذاك وقال " سترى باقي اللقاء بنفسك وتحكم حينها , هي فقط
مدللة وتريد أن أكون كوالدتها أعاملها كأميرة بلا مملكة ولا قصر "
ثم دفع الباب ليفتح أكثر مناديا " بثينه "
وما هي إلا لحظات وعادت تلك مجددا وقالت ببرود " عمتك في
الداخل ما الداعي لإسماع الجيران أنك وصلت ؟ "
ضحك وقال " تعالي هذا تيم الذي أخبرتك عنه "
نظرت له من خلفه وقالت مبتسمة " حقا أحضرته معك ؟
مرحبا يا تيم "
نظر للواقف أمامه ثم نظر لها وقال " مرحبا "
ضحكت وقالت " كما أخبرني عنك تماما فما يخبرك هو عني
هيا اعترف ؟ "
قال عمير ببرود " هل هكذا تستقبلين الضيوف يا تربية والدتك ؟ "
تجاهلته رافعة أنفها ونظرت لتيم تخبره بنظرتها المتحمسة أنها
تنتظره جوابه فحرك كتفيه وقال " لا شيء "
مدت شفتيها بعبوس ونظرت للذي بدأ بالضحك ثم دخلت قائلة
" أدخلا هيا لا أسوء منك سوا تلميذك "
فالتفت له قائلا " هيا يا تيم تفضل فهذا منزل عمتي وستتعرف
عليها حالا , ولا تقلق فهي أفضل من ابنتها بكثير "
قال بحيرة " هل ستتركني هنا ؟ "
اقترب منه وقال بجدية " مؤقتا فقط يا تيم وستحبهما كثيرا صدقني
وسترحبان بك وإن لم يعجبك البقاء هنا سأآخذك لمكان آخر "
وتابع بابتسامة حمقاء " لزوجة والدي طبعا "
قال من فوره " لا رضيت بحبيبتك ووالدتها لا ينقصني
نماذج سيئة أكثر "
دخل يتبعه وقد قال ما أن أغلق الباب " عليك أن تتجنب تلك
المدللة كي لا تفسد أطباعك وتحتكرك لخدمتها "
نظر له فوقه وقال ببرود " ولما تحبها إن كان رأيك فيها
سيئا هكذا ؟ "
ضحك وحرك كتفيه قائلا " لا أعلم يا تيم وصدق ذلك فالحب شيء
أخرق لا يسأل ولا يسمع نصحا ولا يتوقف متى نريد , ثم هي
طيبة كثيرا وحساسة بقدر ما تغضب سريعا ترضى بسهولة "
وغمز متابعا " وجميلة كما ترى "
لوا شفتيه وتمتم بعبوس " كان عليا أن أحار ما الذي يعجبها
هي فيك وليس العكس "
ضربه على رأسه ضاحكا وقال " هيا تعال أقسم أن تلك الصغيرة
ماريه لم يسعفها الحظ بزوج كما تتمناه , ما أتعسها من امرأة
مستقبلا "
تجاهل تعليقه ككل مرة ينظر لتفاصيل ذاك المنزل الطيني المتواضع
ولنظافته الظاهرة للعيان رغم بساطته ووصلا لغرفة معينة ودخل خلفه
حيث تجلس تلك المرأة التي لم تتجاوز الستين عاما تمسك خيطا تجمع
فيه خرزات لصنع مسبحة فوضعت ما في يدها فورا وقالت مبتسمة
بسعادة " مرحبا يا عمير تعال ادخل "
تنحى جانبا وقال " أحضرت ضيفا معي إنه تيم شاهر كنعان
تعرفيه جيدا "
قالت ناظرة له بابتسامة " مؤكد أعرفه تفضل بني سعدت برؤيتك "
نظر لها باستغراب ثم للواقف بجانبه فقال مبتسما " عمتي تعرف
والدتك يا تيم وكم حكت لي عن طفولتهما قبل أن تنتقل كل
عائلة لبلدة وتنقطع أخبارهم "
نظر لها مبتسما بحزن يرى فيها والدته التي فقدها وبفقدها فقد كل
معنى للحياة , قال بابتسامة صادقة " سررت بمعرفتك يا عمة "
قالت بضحكة " ما أرقاه من فتى هيا أجلسا "
جلسا أمامها في ذاك المجلس الأرضي البسيط ودخلت ابنتها الوحيدة
بصينية تحوي كوبي ماء وشاي وخبز محشو بجبن المعز , وضعت
الصينية أمامهما وجلست بجانب والدتها وقالت مبتسمة " توقعتك أكبر
من هذا السن يا تيم ! أنت صغير على أن تكون تحت رحمة
مدربك هذا "
نظر من فوره للجالس بجانبه وقد نظر ذاك لعمته وقال ببرود
" أخبري ابنتك أني أحذرها لآخر مرة من فتح الباب دون أن
تسأل عن هوية الطارق أو عقابي لن يعجبها أبدا "
قالت تلك ببرود من قبل أن تتحدث والدتها " لم أعلم أنه
أنت لما كنت فتحت "
ضحكت والدتها وقالت " من يسمعك لا يصدق أنك تركضين
للباب ما أن تسمعي طرقا عليه بمفتاح سيارة "
نظرت لها بصدمة وقالت " أمييييي "
على ضحكة عمير المرتفعة وابتسامة الجالس بجانبه فها هو انتصر
عليها كما يتوقع منه فهي لم تخرج من تلميذه بشيء عما يقول عنها
بينما فضحتها والدتها بكل سهولة وبخطة بسيطة منه , قالت عمته
ناظرة له مبتسمة " والحل طبعا لديك في كل هذا "
نظر للجالسة بجانبها بطرف عينه وقال " لتتنازل هي عن ذاك
المبلغ الخيالي وسنتزوج نهاية الأسبوع "
قالت من فورها " لا لن أتنازل عنه مهري من حقي لست نعجة
تربطني بحبل وتأخذني بدينارين "
هزت والدتها رأسها بيأس وقالت " ألا يكفيك أنه بنا لك منزلا مستقلا
وأرضا حوله ؟ من تجد كل هذا في هذا الوقت "
ضربت بقبضتها على فخذها وقالت بضيق " بناه لنفسه وليس لي
ويوم يجمع مهري نحدد موعد زواجنا وقبله لا "
هز ذاك رأسه يأسا منها ناظرا لعمته وقال " أقلهن مهرا أكثرهن بركة
وأنا أعلم أنه لا بركة في ابنتك أبدا لذلك عليا جمعه لا حل آخر أمامي "
وجاءه الرد سريعا وليس من عمته بل من ابنتها قائلة بضيق
" أجل هذا فقط ما تحفظه من كلام نبيك "
قال مبتسما " لا أحفظ أيضا ( تزوجوا الودود الولود ) "
فنظرت لوالدتها وقالت بتذمر " انظري لابن شقيقك ما يخطط
مستقبلا أمي ! يريد أن أنجب دون توقف كالأرانب "
ضحكت تلك وقالت " معه حق لتدفعي ثمن ذاك المهر "
فوقفت وغادرت متمتمة بتذمر حتى خرجت فقالت والدتها مبتسمة
" أعانك الله عليها "
قال مبادلا لها لابتسامة " اتركيها تطلب ما تريد فذاك من حقها
وأنا لن أتزوج بها حتى أعطيها مهرها الذي طلبته حتى إن
تنازلت عنه بمحض إرادتها "
ثم تابع ناظرا للجالس بجانبه متمسكا بصمته " وتيم سيبقى معكما
لمدة لن تكون طويلة "
وعاد بنظره لعمته متابعا " لأيام فقط عمتي حتى آخذه من هنا "
قالت من فورها وبابتسامة " مرحبا به كيف شاء "
وتابعت ناظرة له " كيف هي والدتك يا تيم ؟ "
خيم الحزن على ملامحه وهمس ناظرا للأرض " توفيت منذ
مدة قريبة "
قالت تلك بحزن عميق " رحمها الله كم كانت امرأة تقاس بالذهب "
*
*
كان صوت ضحكهما وركضهما مالئا تلك الحديقة مثلما ذاك المنزل
الذي افتقد لصوت الأطفال ومنذ أيام وذاك الصمت المميت فيه تحول
لركض وضحك وحتى ضحكة جوزاء ملأته وكأنها امرأة أخرى غير
تلك التي كانت تعيش فيه , أيام مرت وكأنها ساعات على قلب تلك
الأم وطفليها الذين حرموا من بعضهم لأعوام , بينما مرت سنوات
طويلة على قلب آخر أتعبه الانتظار والخوف والشوق وكأنهم
ليسوا في منزل واحد .
نظرت الجالسة يمين الطاولة للتي غابت بنظرها وذهنها عن كل ما
حولها تنظر للأرض بشرود وملامح حزينة فأشارت لعمتها عليها في
صمت فضحكت تلك وقالت " عمه أقسم لي بلسانه أنه بخير وسيأتي
في أي وقت فلما الوجوم والحزن "
رفعت نظرها بعمتها وتنهدت بأسى ولم تعلق فقالت جوزاء ضاحكة
" تلك أطباعه يا غسق أنتي فقط من لست معتادة عليه ورأيت مطر
لم نعرفه حتى نحن سنوات حياتنا "
قالت بعبوس " لكنه أكد لي قبل ذهابه أنه لن يتأخر وما أن ينتهي
الاجتماع سيرجع فكيف يرجع رجاله من أيام وهو لا ولا يتصل
بنا أيضا ! "
تنهدت عمتها قائلة " أخبار السوء لا تتأخر يا غسق , تجديه انشغل
في أمور عليه فعلها قبل عودته وكما أخبرتك جوزاء تلك أطباعه
وإن تغيرت معك "
أنزلت رأسها وعضت طرف شفتها بقوة تمنع دموعها من النزول فلم
يقتنع قلبها بكل ما قالتاه فلن تصدق بأنه كذب عليها قبل ذهابه وهو من
وعدها ولا أن تكون ثمة اجتماعات منعته ليرجع جميع رجاله من دونه !
رفعت نظرها بابني جوزاء الراكضان حول أشجار الحديقة يضحكان
فرغم هدوء ابنها الأكبر إلا أنه بدأ يعتاد أفراد تلك العائلة بعكس أبان
الأصغر الذي وجد لنفسه مكانا بينهم جميعا حتى زوجة خاله التي بات
ملتصقا بها أكثر من أي شخص , اتكأت بذقنها على ساعدها المرتخي
على ظهر الكرسي وهمست بحزن " ما أقسى قلبك يا مطر "
*
*
مرر أصابعه على عنقه ملامسا الشريط الطبي اللاصق الممتد من
وسطه حتى حنجرته ثم رفع نظره للسماء الملبدة بالغيوم , سماء تلك
العاصمة الضبابية والغيوم التي كانت تسود أفكاره الكئيبة فوق اسودادها
صر على أسنانه بقوة وهو يتذكر ما حدث منذ أربعة أيام في تلك البلاد
وذاك المبنى تحديدا , كان لقائه بذاك الرجل عاصفا وكان سيقتله ولن
يخرج من بين يديه حيا لولا أوقفوه , قبض على أصابعه بقوة يشعر
بغضب في داخله يشتعل كالبركان وهو يتذكر تلك الكلمات التي كان
يقولها ذاك بكل حقد وكره ( ابنة عمك لكنها ليست من حقك , كان الأمر
باختيارها وموافقتها وكنا اتفقنا على موعد الزواج وهي من اختارته
كانت لي منذ كانت طفلة وأنت هو الدخيل أنت من حطمت قلبينا معا )
لكم حافة الشرفة بقبضته بقوة هامسا من بين أسنانه " بل لي من يوم
ولدتها أمها وزوجتي من قبل أن تبلغ أنت يا طفل وما كانت ثمة قوة
على الأرض تستطيع تزويجها لك ولا قانون وهي متزوجة "
مرر أصابعه في شعره الحالك السواد متجاهلا الخدوش التي أصابتها
بسبب ضربه لهم وتنفسه يخرج قويا وكم كره نفسه لاستغفال ذاك الرجل
له من كان يعلم أن ما بين يديه أمانة سيسلمها لأهلها وليس يزوجها ابنه
وينكر أصلها وهو يجهل سبب إخفائه عنها وليس كما كان يظن بأن تلك
المرأة أميمه أخبرته عن السبب الحقيقي , كان لقائه بذاك قد فجر أسرارا
كان يجهلها وبغباء لم يُعرف عنه , كان ليتروى ليتحلى بالحكمة لو أنه لم
يكن سمع سابقا اسمه من شفتيها هو تحديدا من بين جميع أبناء شراع حتى
شقيقها الكاسر وهي تناديه حين ذهب بها لمنزله مصابة وغائبة عن الوعي
عاد ورفع رأسه للسماء الرمادية الكئيبة وأغمض عينيه بقوة ... كلما تذكر
قبلاتها لمساتها همسها له وارتجافها بين ذراعية كأنثى عصفت بها المشاعر
مع رجل لن يكون كغيره بالنسبة لها عاد وفكر عقله بمنطق وطالبه بأن
يتريث وبأن لا يصدق ما قال ذاك لكنه ما أن يتذكر همسها باسمه في ذاك
اليوم ومن ظنه مناجاة فتاة بشقيقها الذي تربت معه وإن لم يكن شقيقا حقيقيا
عادت النيران للاشتعال في صدره كالحريق وتذكر كل صدها له في البداية
وتعجيزه بذاك المهر ليبتعد عنها وشعر أنها ما استسلمت له إلا رضا بالواقع
أو لحماية تلك العائلة وذاك الحبيب الذي لم ينقذه من بين يديه ذاك اليوم
سوى رجاله الذين لحقوا به لتفقده واستلوه من بين يديه بصعوبة وهو يمسكه
ويضرب رأسه بالجدار وكأنه دمية لا تزن شيئا فلم يكن يرى أمامه سوى وجهه
الحاقد الساخر وهو يخبره بأنها حبيبته منذ كانت طفلة وأنها اختارته ووافقت
عليه وبأنها اتخذت منه جسرا لمصالحها فقط ولن تحبه يوما لأنه سلبها منه
ورغم تلك الأداة الحادة الموجودة في يده والتي كان ينوي قتله بها والجرح
الذي في عنقه إلا أنه كان من الغضب بحيث لم يكن يشعر بشيء حوله ولم
يعد يرى ولا ذاك السلاح القاتل الذي ضربه به وهو في غمرة غضبه ذاك
وإن رآه أمامه مجددا لن يتوانى عن قتله ولتحترق صنوان والحالك , بل وإن
لم يبقى هنا هذه الأيام ورجع هناك ما كان سيمسكه عن ضرب صنوان شيء
وتحويل حدودها لنار تشتعل على ما علمه من لعب شراع به , أخرجه من
أفكاره تلك وجعله ينزل رأسه ويفتح عينيه اليد التي لامست ظهره برفق
والهمس الأنثوي من خلف أذنه " مطر لما لا تخبرني ما الذي يشعلك
هكذا وكأنك تحترق ؟ "
نظر جانبا حيث التي تتكئ بذقنها على كتفه تنظر لعينيه ويدها تمسح
على ذراعيه بحنان وقد وصلت له من الشرفة المشتركة بين غرفتيهما
في ذاك الفندق الذي استقر فيه لأيام رافضا العودة هناك عل النار التي
لم تخمد ولا ذرة أن تنطفئ ولو قليلا قبل عودته , نظر لعينيها وملامحه
محتفظة بصلابتها وجمودها ويدها لازلت تمسح على ذراعه صعودا
لكتفه العاري وقد كشف كم قميص نومها الخارجي عن ساعدها الأبيض
وهمست مبتسمة " تقف عاري الصدر هكذا في هذا البرد حبيبي !
لا تسخر من خريف لندن إنه يساوي شتائها , لن تنطفئ نارك بهذه
الطريقة ولن يخمدها إلا إن تحدثت وأفرغت ما في قلبك "
تحرك من هناك لتبتعد يدها عنه مراقبة له وهو يدخل من ذاك الباب
الزجاجي وقد همست بعبوس " أقسم أنها امرأة ورائك يا مطر "
ولحقته بخطوات بطيئة حتى وقفت عند الباب تنظر له وهو يفتح
الخزانة ويخرج حقيبته فقالت " نويت المغادرة إذا ؟ "
فتح الحقيبة بقوة وقال " أجل ولا تبقي بعدي هنا في هذا الفندق "
ثم وقف حاملا مفاتيحه وغادر تاركا الخزانة وحقيبته مفتوحتان وبعض
ثيابه فقط قد وضعها فيها ولم تسمع سوى صوت ضربه لباب حمام
الجناح بقوة خلفه فهزت رأسها بيأس وتوجهت لثيابه وبدأت بترتيبها
في الحقيبة
*
*
أخذت السماعة منها بعدما جلست قائلة بلهفة تنظر لها فوقها
" متأكدة أن به اتصال يا حبيبة ؟ لا تلعبي بأعصابي "
قالت تلك من فورها " أقسم
سيدتي وضعيه على أذنك بنفسك لتتأكدي
وبسرعة قبل أن ينقطع مجددا فنحن لم نسمع طنينه هذا من مدة "
راقبتها وهي تغادر وقد وضعت السماعة على أذنها ولا تصدق أن الهواتف
الأرضية عادت للعمل بعد كل تلك المدة التي انقطعت فيها ولا ترجع إلا
لساعة أو ساعتين بعد أيام وقد لا يلاحظها أحد , عليها أن تطمئن على ذاك
الذي رجع رجاله جميعهم وهو لم يرجع , من لم يستطع عمه الاتصال به
لأن هاتفه مغلق وكل ما حصل عليه هاتف الفندق الذي ينزل فيه وكان لا
يجيب كلما اتصل به , كان قلبها يحترق عليه وقررت أنها لن تتركه كعمه
وتيأس من محاولتين حتى يجيب عليها وتطمئن عليه على الأقل فرغم أن
رجاله قالوا بأنه بخير وسيرجع في أي وقت إلا أنها ليست مطمئنة فهو لم
يخبرها أنه سيبقى بل سيرجع ما أن ينهي اجتماعه وكل ما يتعلق به ولن
يتأخر أكثر من يومين أو ثلاثة وها هو هناك من خمسة أيام ولا أخبار
عنه , كانت نبضات قلبها تتسارع وهي تسمع رنين الهاتف وسيلتها
الوحيدة من كل تلك الأميال والقارات ليصلها به فلعل قلبها يرتاح
ويرحمها وإن بسماع صوته فهي تستغرب أن لا يتصل بهم ولا يجيب
على اتصالات عمه ولن تصدق أبدا أنه بخير , توقف الرنين ولم يجب
أحد فعاودت الاتصال بدون يئس رغم ألم قلبها وخوفها من أن يكون ثمة
مكروه أصابه ولا يريدون قول ذلك لهم , اتسعت ابتسامتها ولم تصدق
نفسها حين رفع أحدهم سماعة الهاتف وكانت ستتحدث لولا تحجر لسانها
بل وجميع ملامحها وحواسها لتتحول لتمثال حجري وهي تسمع الصوت
الأنثوي الذي رحب بها ليسري ذاك الارتعاش في سائر جسدها وكأن
ثمة من رماها من فوق مرتفع ترى الصخور تحتها وهي تقترب منها
فلم تستطع ولا إغلاق السماعة لا التحدث ولا السؤال , عاد ذاك الصوت
الرقيق للتحدث وكل ما خرج منها تنفسها القوي المضطرب ودمعتها
التي تدلت من رموشها وهي تسمع تلك وصوتها قد ابتعد عن السماعة
قليلا دليل إبعادها لها عن أذنها " مطر هل خرجت من الحمام ؟
اتصال لك وصاحبه لا يجيب "
شعرت بقلبها يتمزق وهي باتت تسمع حتى خطواته المقتربة ثم
صوته الغاضب قائلا " لما رفعت هذه السماعة الخرقاء "
ثم صوت ضربه لها حتى رن في أذنها بقوة جعلتها تبعد السماعة
ولازالت ترتجف في يدها التي قد فقدت التحكم بها لتسقط منها على
الأرض ثم وضعت يدها على فمها تمسك عبرتها متمتمة " لا يا
غسق ليس مطر من يفعلها ليس من يحمل كتاب الله ولا يفوت
صلاة أبدا , لا تخطئي من جديد "
لكن ذلك لم يطفئ شيئا من اشتعالها من الحريق الذي شعرت به يأكل
كل شيء فيها حتى نخاع عظامها وقد أعادت السماعة بيد مرتجفة تنظر
للهاتف ودموعها ترفض الانصياع لها , كانت نظرة ملئها ضياع ورجاء
أن يرن في أي لحظة أن تسمع صوته أن يخبرها أنه بخير وقادم اليوم
وأنها كانت أخطأت في الرقم ذاك رغم سماعها لأسمه من تلك
المرأة بل وصوته هو نفسه , الصوت الذي لا تخطئه أبدا
*
*
رمى يدها عنه لتنظر له تلك باستغراب وهو يقف رغم ترنحه وقد
قالت بضيق " يا سيد عليك أن تبقى هنا اليوم أيضا فالارتجاج في
دماغك لا يزال في حالة سيئة , الطبيب قـ.... "
دفعها من أمامه بقوة وغادر من تلك الغرفة وذاك المستشفى الذي كان
يشعر برائحته تخنقه فوق اختناقه وتصدع رأسه فوق صداعه المدمر
ذاك الذي يشعر به , أمسكه بقوة ما أن لفح الهواء شعره وعنقه يتحسس
الشاش الملتف حوله فلم يذكر شيئا بعد ذاك الهجوم الكاسح الذي رماه فيه
ذاك الرجل على الجدار وكأنه قطعة ثياب بالية سوى استيقاظه بعد ساعات
في المستشفى ومنذ أكثر من أربعة أيام وهو تحت العناية والمراقبة بسبب
الأذى الذي لحقه منه , أمسك أوراق الشجرة التي كانت أمامه حيث وقف
وقبض عليها بقوة واستلها بعنف وهمس من بين أسنانه ناظرا لقبضته
" ستتحطم حياتك يا ابن شاهين وقل جبران قالها وأنت من
سيدمرها بيده "
ثم رمى تلك الأوراق من يده وغادر بخطوات واهنة بطيئة يشعر
بصداعه يزداد لا يعلم بسبب سيره الذي يشعر بأنه يضرب في كل
خطوة في رأسه أم بسبب ذكرى كلماته تلك التي لم تفارقه لحظة
وهو يرفعه بقبضته من ثيابه قائلا من بين أسنانه ( لن تلمس شعرة
منها حيا كنت أو ميتا ولن تجد في قلبها متسعا ولا لذكرى صغيرة
من طفولتها معك لأنها ملكي أنا بكل شيء فيها تفهم , حتى الدماء
في عروقها تربطني أنا بها )
وصل حجرة الهاتف العمومي رفع سماعة الهاتف متكئ على جدارها
الزجاجي وأنفاسه القوية المتعاقبة تكاد تخونه وضرب الرقم الذي بات
يحفظه كاسمه من كثرة ما حاول أن يتصل به ولم يحصل عليه , لم
يصدق أذنيه وهو يسمع صوت رنينه ثم سرعان ما رفعه أحدهم ليصله
ذاك الصوت العذب الذي عذبه في يقظته وحلمه , الصوت الذي حرم من
سماعه لأشهر شعر أنها أعوام مرت عليه , همس بلهفة ظهرت في
صوته المتعب " غسق "
كان الصمت المميت جوابها حتى ضن أنها اختفت وأنها مجرد حلم
من أحلامه الراحلة لولا أتاه صوتها أخيرا هامسة باستغراب
" جبران !! "
اتكئ برأسه للخلف على ذاك الزجاج السميك وهمس مغمضا عينيه
" أجل يا قلب جبران وعينيه التي ينظر بها "
كان يشعر أنه في حلم كان يطير فوق السحاب والغيوم كان يود قول الكثير
والمزيد المزيد عن كل ما عذبه طيلة تلك الأيام والأسابيع لكن تلك اللكمة
أوجعته وأعادته لواقعه المرير وهو يسمع صوتها قائلة " جبران ما هذا
الذي تقوله ! لا تنسى أني متزوجة , وما به صوتك متعب هكذا !
ما الذي يحدث معك ولما اتصلت ؟ "
لما اتصلت !!! سؤال ما كان ليتوقعه ولا في منامه , سؤال كان على قلبه
أشد من ضرب ذاك له حد الموت درجة أن الطبيب ضن أن ملاكما
محترفا مارس عليه كل ما تعلمه في أعوام حياته , همس بصعوبة
" غسق لكننا نـ..... "
قاطعته بضيق " لكني زوجته يا جبران حياتي معه وهو واقعي
ورضيت به "
صرخ رغم ضعفه مستنكرا لما يسمع منها " بل لي أنتي لي يا غسق
ومرجعك عندي أنا , أنا وحدي من يحبك وستري ذلك بأم عينك وسيتخلى
عنك ذاك المغرور وبدون سبب لأنه لا يفكر إلا في نفسه لا يحب إلا
نفسه ولا يعطي شيئا ولا حتى مشاعره , هو كالموت يأخذ فقط "
صرخت من دون وعي منها " أصمت يا جبران "
كانت دموعها ترسم معابر فوق وجنتيها فقد تعبت حقا تعبت من كثرة
ما سمعت هذه العبارة ( يأخذ ولا يعطي ) هي لم تفق من صدمتها بعد
ولازالت تحاول إخماد نيرانها وطمأنة قلبها بأنه لن يخونها مع امرأة
أخرى وبأنه قال بلسانه أنه لا يفكر في الزواج من أخرى , وأنه أعطاها
الكثير ولو أنكر ذلك , وصلها همسه المصدوم " أنا أصمت يا غسق !
هل أحببته واخترته هو ؟ "
قالت بعبرة بكاء " أجل أحبه ولا أتخيل أن أعيش من دونه يا جبران
المشاعر لا أحد له حرية التحكم فيها لكنت أنت كرهتني يوم دخلت
الحدود واستغللت مشاعرك نحوي , أحبه بقدر ما تشعر به أنت نحوي
لا يمكنني الكذب عليك أكثر , لطالما كنت شقيقي الذي أحبه كالكاسر
رحمه الله لا أكثر وكذبت إن قلت يوما خلاف ذلك وكل ما كان وعودا
اجبر قلبي على التقيد والالتزام بها , لو أني عشت مع مطر على
أنه شقيقي ما كنت لأحبـ ... "
قاطعها صارخا " جبانة أنتي تخافين منه فقط تحميني وتحمي والدي
فقط أنا متأكد من ذلك فلا تخشي شيئا وقولي فقط أنك تريدين ترك
ذاك المكان وأنا مستعد لإخراجك من هناك مهما كلفني الأمر
وسندبر ذلك سويا , قوليها هيا ولا تخشي شيئا يا غسق "
تمنى أن أيدت كلامه أن طمئنت قلبه الرافض للحقيقة ولو كاذبة لكن
كل ما وصله صوت بكائها وهي تهمس بوجع " أحبه يا جبران وإن
قتلني لا يمكنني إلا أن أحبه يا شقيقي "
رمى السماعة بقوة حتى لم يعد يصدر عنها سوى صوت طنين مرتفع
ومزعج وقد صرخ وكأنه يحدثه " كذب هي لم تقل ذلك وسيطلقها
وسترجع لي , لي أنا وحدي وإن قتلته أو أموت من أجل ذلك "
*
*
مسحت بكفها على طرف وجهه مبتسمة تستمع لحديثه الذي لا ينتهي
وكأنه ليس ابن الحادية عشرة يحكي لها عن كل شيء ... يريد أن يفرغ
كل ما كبته ويحكي كل ما حدث معهما طيلة تلك الأعوام في هذه الأيام
القليلة التي قضياها معها وموقن من أن التي تستمع له لن تكل أو تمل من
سماعه فرغم هدوء ابنها الأكبر ( غيهم ) وعدم اعتياده على هذا الجو إلا
أن أبان كان شخصا مختلفا عنه لم يشبع من حضن والدته ولم يتوقف عن
التحدث والضحك واحتك بجميع من في المنزل حتى الخادمات وبعض
العمال في الخارج أما تعاملها مع ابنها الأكبر فكان أكثر حذرا فقد لاحظت
أنه فتى حساس جدا فهما لم يعرفا نساء أكثر من جدتهما وعمتهما المتزوجة
والتي كوالدتها لم تتقبل أبناء لهم والدتهم من الحالك فكان والدهما كل عالمهما
ذاك فكان أغلب حديثهما عنه وكم أسعدها كمّ الذكريات التي غرسها في قلبي
طفليها عنها فحتى شكلها وصفه لهما بدقة , ما تحب من الأطعمة وما تكره
متى تنام متى تستيقظ أفكارها حكمها التي تقولها دائما وحلمها بمستقبلهما بل
وحتى أسمائهما أخبرهما أنها هي من اختارتها , والأهم من كل ذلك أنه
أقنع طفليه على مر الأعوام أنها تركتهما مرغمة وأنهما أخذوهما منها رغما
عنها وأنه كاره لذلك فلم تجدي جميع محاولات جدتهما وعمتهما بملء قلبيهما
الصغيران بالحقد عليها وذاك كان أكبر أسباب النبذ الذي عانياه رغم أن
والدهما عوضهما عن كل ذلك .
نظرت لغيهم الذي كان يكتفي بالجلوس والاستماع مبتسما وذاك حاله
أغلب الأحيان , حضنت وجهه بيديها وقبلت جبينه قبلة طويلة رقيقة
حنونة فهي لا تخصه بذلك كثيرا لما لاحظته عن شخصيته وعدم
اعتياده على وجود امرأة في حياتهم تعاملهم بكل ذاك التودد , نظرت
لعينيه الناظرة لها وقالت مبتسمة تمسح بإبهاميها على خديه " مؤكد
ثمة مواقف كنت فيها وحدك وأبان نائم على الأقل فلما لا تحكيها
لي ؟ "
قال مبتسما " يكفيك وجع رأس فهو يحكي المفيد والغير مفيد "
ضحكت ونظرت لأبان الذي قال بضيق " لا أريد حين أعود
لمنزلنا أن أقول ليتني أخبرت أمي عن ذلك وتلك , أنا لست
مثلك لا تندم على شيء "
كان الضيق هذه المرة من نصيب غيهم الذي قال بضيق مماثل تراه
لأول مرة منذ اليوم الذي جاء فيه " ماذا قال والدي يا أبان ؟ هل
نسيت أم تتناسى ؟ ولعلمك لن أتستر عليك أبدا إن سألني "
كان أبان سيتحدث فقاطعته جوزاء " يكفي لا تتشاجرا وأنت يا أبان
ما أوصاك به والدك تفعله ولا تخبرني ما يكون أما أنا فلست متضايقة
لا من حديثك ولا من صمت غيهم ولا أفكر إلا في الأيام التي سأقضيها
بعدكما أنتظر لقائنا القادم "
قال أبان بحزن " لما لا نعيش معا أمي ؟ أنا وغيهم وأنتي ووالدي
أنا لا أريد تركك والعودة لصنوان ولا أن يبقى والدي بعيدا عنا
أنا أشتاق له هنا وأشتاق لك هناك "
ضمته لحضنها وقالت تكابد دموعها " ليت الأمر بيدي بني هذا
قدرنا ولا يعترض على قدر الله أحد ولنحمد الله أننا أحياء جميعا
وأن أراكما ولو مرة في العام "
تحدث غيهم هذه المرة قائلا برجاء " لما لا يتركك خالي مطر
تغادرين معنا ؟ ألم تقولي بأنه يريدنا معك وفعل الكثير لأجل
ذلك ؟ "
تنهدت بحزن تنظر لأبان الذي ابتعد عنها وقالت بتنهيدة " الأمر
معقد أكثر من ذلك بني لا يمكن لامرأة من الحالك أن تعيش في
صنوان ولا العكس "
قال أبان من فوره " ها هي زوجة خالي مطر تعيش هنا !
لما أنتي لا ؟ "
ابتسمت بحزن قائلة " غسق ابنة زعيم صنوان تزوجها زعيم الحالك
ولولا تلك الظروف وقت مجيئها ما سلمها شراع له فوضعها مختلف
تماما لا مجتمع يقف ضد وجودها ولا أحد يستطيع مناقشة خالك
ولا إجباره ولا حتى شراع نفسه "
هز أبان رأسه بعدم فهم وقال " نحن من صنوان ونريدك معنا وسنأخذ
زوجة خالي معنا أيضا , هو لا وجود له أبدا لما تبقى هنا وحدها
أريدها معنا أيضا "
لم تستطع جوزاء إمساك ضحكتها وقالت تمسح على شعره " هو
ليس هنا لكن لن أضمن لك حياتك وحياتي إن عاد ولم يجدها , وما
أن يرجع من سفره لن تكون ملتصقا بها طوال الوقت ولن
تراها إلا وقت الطعام "
مد شفتيه بعبوس قائلا " ليثه إذاً لا يرجع حتى نغادر "
عادت للضحك مجددا فوقف قافزا وقال " سأذهب لأراها هي
في الأعلى منذ وقت "
أمسكت يده وقالت " سأذهب أنا لها أعرفك لن تنزل أبدا قد تكون
متعبة "
وتحركت من هناك فقد نسيت أن حبيبة أخبرتها أنها اتصلت بالفندق
*
*
عدل الشال الأبيض حول فكه وفمه يخفي ليس ابتسامته فقط وهو
يراقب المقترب نحوه بل ليخفي ذاك الجزء من وجهه مستعينا بنظرات
شمسية تخفي عينيه , معطف طويل وقبعة سوداء وصوت طقطقته لذاك
القلم في جيبه يسمعه كل من مر بقربه , ما أن وصل ذاك عنده حتى
أخرج يده من جيبه وصافحه هامسا " مطر شاهين كم سررت بلقائك "
أرخى ذاك يده وأبعدها قائلا ببرود " أتمنى أن يكون ما تريده ذا أهمية
فرحلتي بعد أقل من ساعتين وثمة ما عليا فعله قبل مغادرتي "
نزع نظارته لتكشف عن تلك العينين السوداء بنظرتها الحادة الذكية
وقال مبتسما بسخرية " لن يضر تلك المرأة أن تنتظرك قليلا أعتقد
أن أجواء الفندق تروق لها كثيرا "
لم تخلو نظرة مطر من الضيق رغم جمودها وهو يقول " لما لا تتكلم
عن المهم وتتركوا عنكم حركاتكم الغبية ومراقبتي "
قهقه ضاحكا وقال " نحن لا نراقبك بقدر ما نحميك وإلا ما سكت
لك عنها الزعيم وأنت تعلم جيدا ما ستكون النتيجة "
ابتسامة ساخرة ظهرت على طرف شفتيه القاسية المتصلبة وهمس
ببرود " هو آخر من سيحاسبني ولن أقدم تبريرات لأحد لاحقا
فأفهمه ذلك جيدا "
هز ذاك رأسه مبتسما وقال " عليكما أن تجدا حلا لخلافكما حول تلك
النقطة فقد بدأت أسمعه يصرح بندمه على تزويــ .... "
قاطعه بحزم " ألأجل هذا جلبتني هنا ؟ "
بسط يديه وتنهد قائلا " على حالتك هذه لن نستطيع التحدث "
وتابع هازا رأسه " لا أصدق أن أراك فاقدا لأعصابك والاجتماع كان
لصالحك ! فهل أفهم سبب كل هذا الضيق إن لم يكن هو السبب ؟ "
ثم أشار على نفسه حيث عنقه الملفوف بذاك الشال الأبيض وقال بسخرية
ناظرا لعنق الواقف أمامه " أم ذاك الشريط الطبي السبب ؟ من هذا
الذي استطاع لمس شعرة من ابن شاهين مخترقا رجاله الذين
يحمونه بأرواحهم !! "
دس يديه في جيوبه وقال بصوت جامد كالصخر " أخبر سيدك يتوقف
عن إرسال رجاله لمراقبتي , أعلم أنه وراء ما حدث في ذاك المبنى "
رفع ذاك يده وأنزل الشال بطرف إصبعه حتى أسفل ذقنه كاشفا عن
الابتسامة التي كانت تزين شفتيه وهمس " ما القصة بينك وبين ابن
شراع الأكبر ؟ كدت تقتله يا رجل وهو يتوعد بقتلك وصراخه
ملأ المستشفى ما أن استفاق "
همس مطر من بين أسنانه " حديثي في ذلك ليس معك بل مع
رئيسك فليتمنى أن لا نتقابل وجها لوجه "
رفع رأسه مقهقها بضحكته الجهورية ثم نظر له وقال " أنا من بات
يتمنى ذاك اللقاء فهو يتوعدك أيضا ولا تنسى أنه يشبهك في كل شيء
غضبه أسود مدمر وهو يراقبها عن كثب وبات يجمع السيئات ضدك "
لمعت السخرة في عيني الواقف أمامه وهو يدقق على ملامحه التي
كشفها هذه المرة ولم يفعلها منذ عرفه فها هو قد استأمن قليلا بعد دنو
نهاية الهازان وابن راكان , قال ساخرا " من المؤسف أن ابنك أيضا
أصبح يشبهك كلما كبر وكم أتمنى أن أرى لقائكما أيضا وأبشرك من
الآن هو أبرد وأجلد منك وسأصنع منه ما طلبت مني ويزيد يا شاهر
كنعان "
*
*
نظرت له مبتسمة وهو يحرك حجر الرحى بيديه ولم تتخيل أن
يستطيع تحريكه وهو في هذا السن ! وحين طلب فعل ذلك رفضت
لولا إصراره على فعل شيء لمساعدتهم ولا يكون بقائه معهم مجانا
يورد الماء من بئر وسط المنزل يطحن الحبوب ويساعد في أي شيء
خمسة أيام مرت على وجوده في ذاك المنزل لم يسمعوا صوته إلا
بكلمات بسيطة أغلبها ردا على أسئلتهم , يعتمد على نفسه في كل شيء
لا يطلب شيئا ولا يرد طلبا وينزوي على نفسه أغلب الوقت حتى
تنسيان وجوده أحيانا , ينام بعدهما ويستيقظ قبلهما , هكذا عرفتاه
دائما , قالت مبتسمة ونظرها على ملامحه " تيم ألا أقارب لك
من والدك ؟ قال عمير أنه لا أحد لك "
توقف عن تحريك عصى الرحى ورفع نظره بها , كانت نظرة رغم
جمودها عبرت عن خيبة أمله فقالت فورا " أنا لا أقصد ما فهمت
يا تيم أنت مرحب بك في أي وقت هو تساؤل بسيط فقط "
عاد لتحريك ذاك الحجر بكل قوته وقال بجمود " لا أهل لي ولا أحد
لي بعد والدتي , لقد رحلوا من قبل رحيلها جميعهم "
نظرت له باستغراب وهي من تعلم أنه له عمة وعم في الخارج كما
يعلم الجميع ولوالدته أقارب أيضا وهو ينكرهم جميعا فعلمت فورا
أنه عانى بما يكفي لجعله يودعهم برحيل والدته , تنهدت وقالت بحزن
" حين توفي جدك والد والدتك في تلك الحرب كانت والدتك صغيرة
وكم كانت مدللة من جدها كان يحبها حبا كبيرا ميزها به عن جميع
أحفاده وحتى أبنائه وكان يقول بأنه لن يزوجها إلا من أشراف الحالك "
رفع نظره الحاد بها ومسح العرق من جبينه هامسا بحزم " لكنهم
جميعهم متشابهون تخلوا عنها لن أسامحهم أبدا "
*
*
حضنت الوسادة بقوة أكبر تخفي فيها دموعها وعبراتها ووجعها وأنينها
الخافت فلا ينقصها فوق ألمها ذاك الذي تحاول أن تطمره داخلها
بتبريرات كثيرة له إلا أن تسمع صوت جبران تحديدا وكل كلامه
ذاك الذي لطالما شعرت به كحبل يلتف حول عنقها وهي من وافقت
على الزواج به وقدمت له الكثير من الوعود وفي النهاية أصبحت لغيره
خدعته واستغلت مشاعره نحوها لتصل للحدود ... حقيقة لم تستطع أن
تجد لها أي مسوغ , لا تعلم لما قالت له كل ما قالته فلم يكن ينقصه ضياع
وحزن وهموم لتزيده بكلامها عن مشاعرها ناحية ذاك , لا تعلم لما خرج
منها كل ما قالت ! كانت في حالة ضياع في تشتت مريع ومشاعرها تتمزق
بين تصديق ما سمعته وصوت تلك المرأة وما حدث سابقا حين أساءت الظن
به وكيف كانت النتيجة , ضنت أن الاتصال من مطر أنه سيبرر لها ما حدث
أن تسمع صوته المبتسم ببحته الهادئة التي تعشق ولم تتخيل أن تسمع صوت
جبران تحديدا , من خشيت حتى أن تسأل والدها عنه يوم لقائهما كي لا يفهم
سؤالها تعلقا به , لكمت الوسادة وهي لازالت تحضنها وصاحت بعبرة
" لماذا يحدث معي كل هذا لماذا ؟ ليتني لم أعرف رجلا حياتي
ليتني ما عرفتهما كليهما "
طرقات على باب الغرفة جعلتها تجلس مبعدة شعرها عن وجهها وما
علق منه فيه بسبب دموعها ومسحت خديها بقوة على صوت الطرق
مجددا وصوت جوزاء " غسق هل أنتي نائمة ؟ "
غادرت السرير تمسح خديها وتوجهت للباب فتحته وتنحت جانبا تنظر
للأرض كي لا تفضحها عيناها المتورمة من البكاء وهمست ببحة لم
تستطع إخفائها في صوتها " لا لست نائمة تفضلي "
نظرت لها تلك باستغراب لفستانها الغير مرتب وأصابع يدها الممسكة
بالباب وقد احمرت مفاصلها البيضاء تخفي وجهها بغرتها فقالت بقلق
" غسق هل من خطب ! حبيبة قالت أنك اتصلت بالفندق هل من
مكروه أصاب مطر ؟ "
راقبت تحرك غرتها مع تحريكها لرأسها وهي تنفي ذلك وهمسها
المبحوح قائلة " لا ... لا قدر الله ذلك "
مدت يدها لذقنها ورفعت وجهها لها وهالها منظر عينيها المجهدة
والدموع التي لا زالت معلقة في رموشها وخداها المحمران من كثرة
البكاء فوضعت يدها على قلبها وقالت بخوف " غسق أقسم أنه ثمة
شيء حدث فهل تحدثت مع مطر ؟ هل هو بخير ؟ "
رفعت غرتها عن وجهها ومسحت خدها بظهر كفها قائلة بعبرة مكتومة
" لم أتحدث معه ولست أعلم أقسم لك "
قالت باستغراب " ما يبكيك هكذا إذا ؟ ألم يجب على اتصالك ؟ "
هزت رأسها بلا وقد أرخت نظرها للأرض فتنهدت تلك قائلة
" كل هذا لأنه لم يجب عليك ؟ لقد أفزعتني ! ذاك طبعه يا غسق
لا تقلقي فإن كان به مكروه ما تركوه رجاله وعادوا ولأخبروا
عمي ولما كان حال الحالك هكذا "
هزت رأسها بحسنا ولازالت تهرب بنظرها منها فأمسكت يدها وسحبتها
منها جهة الحمام قائلة " تعالي أغسلي وجهك واهدئي , لو يراك ويعلم
بحالك لن يكررها مجددا ذاك الأحمق "
انصاعت لها وغسلت وجهها عدة مرات وجففته جيدا وقد خرجت تلك
قبلها وما أن غادرت هي الحمام وجدتها جالسة عند السرير وقالت
ناظرة لها " تعالي يا غسق أعلم أني مزعجة فتحمليني قليلا "
اقتربت منها وجلست أمامها وقالت تصارع شفتيها لرسم ابتسامة وإن
باهتة " أبدا يا جوزاء كيف تقولين هذا ! كم تمنين هذا اليوم الذي
تدخلي فيه غرفتي ونتحدث كشقيقتين "
قالت بحياء وخجل من كل ما فعلت " ما أرق قلبك وأوسعه يا غسق أنا
لا أستحق منك كل ما فعلته لأجلي لقد علمتني الكثير وأنتي أصغر
مني بأعوام "
وتابعت من قبل أن تعلق قائلة بابتسامة " دعينا من كل هذا ولنتحدث فيما
يؤرقك هكذا ويكدرك , غسق نحن نعرف مطر منذ ولد وأنتي لم تعرفيه
إلا هذه الأشهر ورأيت مطر لم يعرفه أحد , لا أنكر أن ذلك ضايقني في
البداية صحيح أنه فعل الكثير من أجلي وكان على استعادا لفعل أي شيء
ليجمعني وطفلاي لكني لم أجد فيه الشقيق الذي تريده كل امرأة , لم نراه
إلا بعدك يبتسم ويضحك كثيرا , لم يكن يشاركنا من أمور حياتنا شيء
نعلم جميعا أن مشاغله ومشاكله كثيرة لكنه حتى وقت وجوده هنا كان
وكأنه ليس موجودا , لا يتصل إن غاب ولا نعلم عنه شيئا حتى يرجع
لنا هو أو خبره وعلى هذا اعتدنا , ولم يتصل بنا وهو في الحدود أو
الجبهات إلا بعد تزوجك وإن قلّت تلك المرات , فتجديه مشغولا الآن
رغم أني معك في أنه كان يفترض به أن يتصل لكن عذره معه
ما لم تسمعي منه "
ابتسمت لها بحزن تكابد الدموع التي ملأت عينيها وهي تحاول أن تهون
عليها عدم اتصاله ومجيئه وليست تعلم أن جرحها أعمق من ذلك ولا
تستطيع البوح به , نظرت ليديها في حجرها وخرجت الكلمات منها
بصعوبة قائلة " جوزاء أيهما تفضلين أن يتزوج زوجك عليك أم
أن يخونك مع امرأة أخرى ؟ "
نظرت لها بصدمة لوقت لسؤالها المناقض تماما لحديثها ولسببه
أساسا ثم قالت باستغراب " غسق هل تشكين بمطر ؟ "
رفعت نظرها لها ودمعتها تدحرجت من رموشها وقالت فورا
" لا كان سؤالا فقط "
هزت رأسها بحيرة من تفكيرها ذاك وقالت " لا أفهم مقصدك من هذا
لكني لكنت فضلت أن يتزوج زوجي على أن يرتكب محرما فالزواج
يكون من امرأة واحدة وبالحلال لكن الخيانة تكون مع نساء كثر
ويكون لا يستحق أن أعيش معه وهو يعصي الله بقلب ميت "
وتابعت وقد مدت يديها وحضنت بهما يدا الجالسة أمامها وقد شدت
عليهما بقوة " غسق لا تستمعي لهواجس نفسك لن يكون السبب وراء
غيابه امرأة أخرى لا بالحلال ولا خلافه , أنا أعرف مطر جيدا لم تعنيه
النساء يوما ليتزوج من اثنتين وليس بالرجل الدنيء الذي يفعلها بالحرام
تأكدي من ذلك , ثم هو لا يسافر إلا للضرورة وليومين أو ثلاثة كحد
أدنى يكون فيها السبب قويا فكيف يكون متزوجا أو له امرأة هناك
لا يذهب لها ! "
أنهت كلامها وراقبت مبتسمة اللين على ملامحها الكئيبة الباكية , من لا
تعلم كم هي ممتنة لها الآن وكم كانت تحتاجها هكذا كشقيقة زوج
تساندها كلما تعثرت فهمست ببحة وقد ارتسمت على شفتيها
ابتسامة صغيرة " شكرا لك يا جوزاء "
تركت تلك يديها وقالت بابتسامة واسعة " حمقاء أنتي يا غسق من
مثلك عليها أن لا تتخيل ولا مجرد تخيل أن يفعل زوجها أي مما
ذكرته , أنا المرأة لا أشبع من النظر لك ومن سماع صوتك وحديثك
وطريقة كلامك فكيف برجل يملك كل هذا في زوجته ! أقسم لن
تغريه امرأة كانت من تكون وهو يعلم أنك تنتظريه في غرفته "
ثم قالت مغادرة السرير " سأنزل والحقي بي فأبان يسأل عنك
وكان يريد الصعود لك لولا منعته "
وضحكت متابعة " لا أستبعد أن يتسبب لنا بمشكلة مع خاله فقد
قال منذ قليل لعمتي أنه يريد حين يكبر زوجة تشبهك في كل
شيء "
ابتسمت لها من بين حزنها قائلة " ليرى خاله أولا ثم لكل
حادث حديث "
فضحكت تلك من فورها وقالت " صدقي كلامي يا غسق فهو لن
يفعل أيا من الاثنتين "
ثم خرجت ونظراتها تتبعها وقد مسحت باقي الدموع من عينيها بكفها
هامسة " خياري الوحيد أن أصدق كلامك يا جوزاء ولا أكرر
حماقتي السابقة "
*
*
ما أن نزلت به الطائرة الخاصة فتح هاتفه وما أن فتحه حتى بدأ
بالرنين فورا , ركب سيارته متجاهلا أول اتصالين وأجاب على
الثالث وقد تحرك من هناك تتبعه سيارات الوفد الذي استقبله
متجهين للحدود وقال ما أن فتح الخط " ماذا حدث معك يا تميم ؟ "
قال ذاك من فوره " فتشنا الحالك شبرا شبرا , الثنانيون وحدهم من لم
نحصل منهم على رد قاطع فزعيمهم طلب التحدث معك أولا , اجزم
أنه لديهم وقد بلغناه أنك ستكون خارج البلاد وأنك أمرت بإعادته
للحدود و.... "
قاطعه بحزم " راقبوا الحدود ولا يخرج أبدا مفهوم "
قال ذاك باستغراب لم يستطع الإفصاح عنه " كما تريد سيدي "
وأنهى الاتصال معه واتصل فورا بالذي أجاب عليه قائلا
" مرحبا بالزعيم "
قال مباشرة " رعد شراع هل هو لديك الآن ؟ "
قال ذاك فورا " لدينا شاب أضنه هو , اصطدمت سيارته بأحد الجدران
المدعمة بالطوب لدينا وكاد يفقد حياته لولا لطف الرب وكان مصابا
برصاصة في خصره من قبل الاصطدام وقد تضرر جسده كثيرا وهو
تحت العناية هنا , الطبيب لم يستطع التحدث معه ولا الخروج منه
بشيء أضلعه متضررة ويبدو رئته أيضا فهو لم يستطع الرد عليه
بكلمة , لم نضعه في المستشفى هو في غرفة في منزل مخصص "
قال ناظرا للطريق أمامه يحرك المقود بيد واحدة " أريد حراسة مشددة
عليه وسأرسل ما يلزم لعلاجه والعناية به فاتركه حيث هو ولا أريد أن
يعلم بهويته أي أحد من قبائلكم ولا يغادر من عندكم ووافني بأخباره "
وما أن أنهى الاتصال معه حتى رن هاتفه ومن قبل أن يبعده عن نظره
فأجاب عليه فورا وقال من في الطرف الآخر " أتصل بك من أيام
ولا أحصل عليك وما أن أخبرني تميم أن هاتفك مفتوح حتى اتصلت "
*
*
راقبها حتى أنهت لف الشاش برفق تمرر يدها من تحت جسده
كي لا يرفعه ولا تؤلمه وعلى غير عادتها كانت متمسكة بصمتها
ولم تنظر لوجهه أبدا وما أن عدلت له جسده برفق بمساعدته ليستوي
رأسه على الوسادة همس بأنفاس متلاحقة متعبة " شكرا لك "
ولا جواب أو أي تعليق منها , انحنت للأرض تجمع أوراق الشاش
وقطع القطن ثم وقفت على طولها ونظرت له ببرود حين قال
" كل هذا غاضبة مني أستريا ؟ "
بقيت محدقة بعينيه دون أن تعلق فنظر للسقف وتنفس بتعب وكأنه
يجبر رئتيه وأضلعه على إخراج الكلمات وقال بصوت ضعيف متعب
" هل يرضيك أن تتزوجي رجلا تعلمي أن امرأة أخرى غيرك وقبلك
تكشف أمامها ولم يكن لك وحدك ؟ ولست أنتي أول امرأة تختص
بأمور ليست لغيرها ؟ "
نظرت له باستغراب قبل أن تهمس في أول حديث منها " اعتبرني
ممرضتك وأنا كذلك لما تفهمون الأمور بشكل خاطئ هكذا أنتم
المسلمين ؟ "
نظر جهتها وقال بابتسامة متعبة " نحن لا نفهم ذلك بشكل خاطئ
ذلك هو ديننا الرجل ملك لزوجته فقط كما الزوجة أيضا "
شعرت بغصة في حلقها لم تعرف سببها ولا مصدرها وهمست
بصعوبة " لك زوجة ؟ "
عاد بنظره للسقف وتحرك صدره بصعوبة ساحبا الهواء لرئتيه
وخرج مع كلماته الخافتة " لا لكن سيكون لي يوما ما بالتأكيد "
تنقلت بنظراتها في ملامحه وقالت بمكر " يالا تعاسة حظك يا رعد
لن تستطيع أن تخبرها أنها المرأة الأولى التي رأتك عاريا "
لم يستطع كتم تلك الضحكة ولا إمساكها مما أخرج أنينه مرتفعا مع
انتفاض صدره فقفزت ناحيته ووضعت كفها عليه وثبتته للخلف ببطء
كي لا يتحرك أكثر قائلة بخوف " رعد ما مناسبة الضحك الآن
هل تريد حقا أن يصيبك مكروه وألوم نفسي حتى أموت ؟ "
ثم عدلت الغطاء لكتفيه قائلة بضيق " لا بأس اكذب عليها وأخبرها أنها
الأولى لأني أيضا سأكذب على زوجي مستقبلا كي لا يدق عنقي , هذا
إن كان ثمة من سأتزوجه فالجميع بات يعلم أني من يعتني بجميع
أمورك وبأنك عاجز عن الحركة "
أغمض عينيه بقوة وعض شفته بتألم يعدل من وضع رأسه على
الوسادة وهمس بصعوبة " لن أتزوج إذا حتى تتزوجي أنتي
لأكون عادلا معك بما أنني السبب هل اتفقنا ؟ "
لوت شفتيها وتمتمت بعبوس " تكذب عليا يا ابن صنوان ما سيدريك
أني تزوجت بعد عودتك لأهلك وما يدريني أنا إن كنت عند كلمتك ؟ "
قال بابتسامة صغيرة متعبة " وإن وعدتك بذلك ؟ فهل تثقين بوعود
المسلمين يا أستريا أم جميع ما فيهم لا يعجبك "
هزت رأسها بلا فورا وقالت " والدي يقول أن الرجل المسلم الأصدق
وعدا فهو إن وعد أوفى مهما كانت النتائج والدليل الزعيم مطر "
وتابعت بشك " وكيف ستعلم متى سأتزوج ؟ "
عاد بنظره للسقف وقال " لا تقلقي لن أتزوج حتى أعلم هل
يرضيك هذا ؟ "
ضحكت ولوحت بيدها أمام وجهها قائلة " أجل يرضيني على
الأقل سأكون متأكدة من أني لست وحدي الخاسرة "
نظر لملامحها لعينيها العسلية الواسعة لشعرها الذي تخلله تلك
الخصلات الذهبية مموجا حتى خاصرتها ثم عاد بنظره للسقف
وتمتم دون أن تسمعه " جيد أنكم لا تسكنون الحدود معنا يا
التينانيين لذهب باقي نصف عقول جنودنا "
نظرت له باستغراب وقالت " بماذا تهذي ! هل أصابتك الحمى
وحرارتك منخفضة ؟ "
نظر لها وقال مبتسما " أريد هاتفا يا أستريا هل يمكنك إحضار واحد
لي ؟ عليا أن أطمئن على شقيقي فقد دخلت الحدود بحثا عنه "
نظرت له بصدمة وأمسكت فمها بيدها قائلة " ألست تعلم أنه مات ؟ "
شحب لون وجهه حتى اختفى الدم فيه وهمس بصدمة أشد من صدمتها
" رماح مات ؟ "
لوحت بيدها بسرعة قائلة " لا ليس هذا قالوا أن اسمه الكاسر ابن
شراع صنوان توفي في حادث داخل الحدود "
نظر للسقف بحزن وبرقت عينيه وقال متنهد " لا ليس الكاسر أعني
ذاك دفنته بيداي , كدت تقتلينني آستريا رفقا بي يا فتاة أرجوك "
لوحت بيدها قائلة بضيق " وما يدريني أنك تتحدث عن شقيق آخر
وأنكم جميعا تتسللون لحدودنا ؟ من بقي منكم لم يدخل هنا بعد ؟ "
ثم ضحكت فجأة وقالت " سحقا كيف نسيت "
نظر لها باستغراب فلفت حول السرير تبعد شعرها قائلة " شقيقتك
تلك زوجة الزعيم مطر لقد زارتنا هنا وحضرت زواج شقيقي "
قال ونظره يتبعها " غسق جاءت هنا !؟ "
هزت رأسها بنعم وقد استقرت في الطرف الآخر من السرير
وقالت بحماس " دعاه والدي لحضور زفاف شقيقي الأصغر ولقد
أحضرها معه وألبسناها ثوب العروس الخاص بنا وكانت ملاكا
لا يمكن وصفه "
ثم ضمت يديها لصدرها وأغمضت عينيها قائلة بحالمية " كاد قلبي
يتوقف حين رأيتها به وحين رآها الزعيم مطر ... كم كان مشهدا
لا ينسى , آه ابتسامته نظرته لها كيف حملها وذهب بها "
ثم فتحت عينيها قائلة بضحكة " وحين أفقنا صباحا لم نجدهما
لقد سرقها من نفسه وفر بها , لم أرى حياتي زوجين مثلهما "
سرح مبتسما فيما قالت , ياااه إنها صغيرتهم تلك مدللتهم روح الأنثى
في ذاك المنزل الذي غلب عليه الطابع الذكوري الخشن , كم اشتاق لها
لابتسامتها لرقتها لصوتها وطريقة حديثها الأنثوي الرقيق وضحكتها
العذبة , ضحكتها التي كم وبخها عليها كلما سمعها وأحدهم يقف معه
في الخارج ولاحظ نظرات الواقف أمامه وهو يبحث عن مكان تلك
الضاحكة , وما أن يوبخها ويتركها حتى يرجع ويبحث عنها ليجدها
تبكي في غرفتها ويجد نفسه يغرقها باعتذاره وأسفه , نظر للواقفة أمام
سريره ولنظرتها المستغربة لشروده وابتسامته وقال بضحكة مكتومة
" إن أصاب حياة شقيقتي مكروه يكون بسببك "
عبست ملامحها فجأة وقالت بضيق " أحمق "
أمسك ضحكته بصعوبة يعض شفته كاتما أنفاسه ثم همس
بصعوبة " ماذا بشأن الهاتف آستريا ؟ "
تنفست متنهدة بقلة حيلة منزلة كتفيها وقالت " لا أعدك بشيء
رعد والدي من يملك واحدا وأن أحضره وأعيده دون علمه
مخاطرة كبيرة لي ولك "
نظرت لعينيه المعلقة بعينيها بنظرة حانية فضربت قدمها
بالأرض قائلة " لا تنظر لي هكذا سأحاول حسنا "
هز رأسه بلا وهمس " لم أعد أريده لا تعرضي نفسك للمشاكل من
أجلي "
طرقات على الباب الخارجي للمنزل جعلتها تتحرك من هناك قائلة
ووجهتها باب الغرفة " لابد وأن العشاء أصبح جاهزا سأحضر لك
الطعام فورا "
*
*
أطلت برأسها من باب الغرفة حيث قابلتها أولا والدتها الجالسة
منشغلة بغزل الصوف ثم نظرت مبتسمة للجالس بقربها يتناول
طعام العشاء في صمته المعتاد وقالت بذات ابتسامتها
" تيمو تعال قليلا "
رفع رأسه لها وضحكت والدتها قائلة " لو سمعك ابن خالك لقطع
لسانك , ألا يكفيك توبيخه لك عن الباب "
جاءهم حينها الصوت الرجولي من خلفها قائلا بضحكة وهو يدخل
دافعا لها للداخل " لا خوف منه فهو سبقني وتزوج قبلي وليس
لها فيه شيء , هيا تعالى يا تيم "
نظرت له عمته بصدمة بينما التي تمسكت بكم قميصه كي لا تقع
وقفت على طولها وقالت بصدمة لا تقل عن والدتها " متزوج !! "
وقف حينها المعني بالأمر ونفض يديه من بقايا الطحين الذي كان
عالقا بالخبز الذي يأكله وخرج على نظراتهما المصدومة التي
لازالت تتبعه وهمس ما أن مر بذاك " أنت ألا تتوقف عن نشر
الأخبار , لمن أوصلت القصة أيضا ؟ "
ضحك ودفعه من ظهره قائلا " ستعلم الآن قصتك إلى أين
وصلت "
ثم نظر للخلف حيث الواقفة عند الباب وقال " وأنتي لا تتحركي في
تلك الجهة , إن سمعت صوت حدائك قطعت ساقيك تفهمي "
أخرجت له لسانها واختفت داخل الغرفة فضحك وسار يدفعه براحة يده
أمامه حتى وصلا الباب الذي كان بالقرب من باب المنزل فوقف
تيم ونظر له فوقه وقال بتوجس " من هنا ؟ "
همس ذاك منحن له " عليك أن تدلي بأقوالك يا تيم الأمر ليس
سهلا كما تضن "
نظر له بريبة وعلامات الخوف بدأت تظهر على ملامحه فربت
على كتفه وقال يحدثه على الدخول " هيا يا تيم لن ترى أسوء
مما مر عليك "
دفع عمير باب الغرفة ودخل وقد دخل هو خلفه وما أن تنحى ذاك جانبا
وظهر له الجالس على الكرسي هناك حتى تيبست عظامه وجف حلقه ولم
يستطع ولا إزاحة حدقتيه عن تلك العينين السوداء الحازمة لينظر لعمير
رآه مرة واحدة سابقا وعن بعد لكنه لم ينسى ملامحه أبدا ولم يتخيل أن
يراه هنا الآن وأن يصل الأمر له تحديدا , شعر بالرهبة من هيبته أكثر
من خوفه من محاسبته له على فعلته فلم يشعر يوما بمثل هذا الشعور أمام
أي رجل آخر , تحدث الجالس هناك كاسرا كل ذاك الصمت والجو المشحون
في تلك الغرفة الضيقة وقال بحزم ميزته تلك البحة الواضحة " تيم شاهر
كنعان هل تريد أن أنصفك أنا أم أن تختار ذلك بنفسك ؟ "
لم يستطع استيعاب ما قال ولا وجوده هنا فهمس من بين صدمته
" هل مات ؟ "
هز ذاك رأسه بلا دون كلام فتنهد بارتياح تنهيدة وصلت لسمعهما ليس
لأنه خائف من مواجهة الأمر بل لأنه لا يريد أن يحمل ذنب إنسان وإن
كان ذاك الرجل , قال مطر " وإن كان مات ما كنت سأسجنك والدية
سأدفعها من جيبي وغيره لا يستحقه ذاك الرجل وإن كان ميتا
فأخبرني الآن ماذا اخترت "
قال من فوره " بنفسي "
ظهرت ابتسامة ساخرة على طرف شفتي الجالس هناك وإن بقيت
ملامحه محتفظة بجمودها وهذا ما توقعه منه فليكشف الغطاء الآن
عن تيم كنعان الرجل ويراه يستحق ما يفعل لأجله أم لا وإن صدق
حدسه أم كذب , قال بجدية " أرض والدتك ترجع لك أم لا ؟ "
لم يستطع تيم إخفاء الصدمة في ملامحه فهو لم يخبر عمير عن
المهر والأرض وكل تلك التفاصيل فمن أين علم ؟
لكن الجالس أمامه فهم فورا ما دار في خلده ويعلم جيدا ما الذي حكاه
لعمير فقال " شيخ القبيلة في حجور أخبرني ومن قبل أن ألتقي بعمير "
قال بصدمة " لكنه وافق ما فعلوه ! "
قال مطر من فوره " لأنك لم تنكر يا تيم واعترفت على نفسك بأمر فيه
شرف وسمعة فتاة ستتحول مع الأيام لامرأة سيلحقها ما حدث طوال
حياتها فما كان أمامه من خيار , إن أنكرت لكان دافع عنك ونجت
هي من ألسن الناس , لقد برر لي أنه كان في موقف صعب "
قال مبتسما بمرارة " إن أنكرت وأنكرت هي ما رحمها عمها من
هنا حتى تموت فأيهما أرحم لها ؟ "
هز مطر رأسه بالإيجاب فلم يفهم هل يوافقه كلامه أم يشير لأنه فهم
ما يريد شرحه , قال بذات جديته مشبكا يديه مسندا لمرفقيه على ركبتيه
" تطلقها أم تبقى زوجتك ؟ "
كان سؤال آخر صدمه ولم يتوقع أن يكون له فيه الخيار , نظر لعمير
الذي كان محتفظا بصمته مكتفا يديه لصدره وينظر له ثم عاد بنظره لتلك
العينان السوداء الواسعة القوية الواثقة الحاذقة , يعلم أن هذا الرجل إن قال
فعل وإن فعل لن يعارضه أحد , لا يستغرب فقط وقوفه بجانبه بل ومشاورته
في كل شيء ! صفة لم يعرفها عنه أحد أبدا فكل ما يُعرف عنه أنه يأمر وإن
أمر أطاع الجميع دون نقاش ولا تلكؤ , همس بخفوت لم يتخيل أن يسمعاه
" لن أطلقها "
علت الابتسامة شفتي مطر وملئت ضحكة عمير الغرفة الضيقة وقال
ضاربا يديه ببعضهما " فعلها يا رجل , حمدا لله أننا لم نتراهن لكنت
خسرت الرهان "
نظرة حادة غاضبة كانت ما تلقاها من الواقف قريبا منه وقال مطر
معيدا نظره جهته " ومالها ؟ "
قال تيم من فوره " اتركه لهم "
سوى جلسته حينها متكئا بظهره على ظهر الكرسي الخشبي وكتف
يديه لصدره قائلا " قل ما لديك يا تيم "
لم يستغرب هذه منه بعد الحديث القصير الذي دار بينهما ولم يفهم فيه
مطر فقط الرجل داخل ذاك الفتى بل وفهم فيه تيم من يكون الرجل
الجالس أمامه بكل هيبته تلك وسطوته وحضوره القوي , قال أولا
" أنت تصدق براءتي أليس كذلك ؟ "
هز رأسه له بالإيجاب ونظرته كلها تأكيد بأن الشك لم يدخله أبدا فقال
" إن أخذت منهم المال آذوها وكل غرض عمها الوصول له وهذه
ستكون النتيجة حتى إن نقلتها لعم آخر من أعمامها فهم نبذوا والدتي
المريضة وحرموها الطعام والدواء لأجل سرقة حصتها فلن يتوانوا
عن فعل أي شيء لسلب مال ماريه مهما طال بهم الزمن "
هز رأسه له بالإيجاب هامسا " ومستقبلكما يا تيم "
أخفض نظره عن عينيه وقال " هل سأكون مجبرا على تطليقها لو
حكم البلاد قانون واحد ؟ "
لم تخلو نظرة ذاك من الإعجاب به فهذا فوق ما تخيل في أول لقاء
بينهما , قال بجدية " في القوانين الوضعية دائما ثمة حلول
وثغر يقتنصها المحامون "
رفع نظره به مجددا وقال " إذا تبقى زوجتي حتى تكبر كي لا
يزوجوها أحد أبناء عميها مرغمة لأن هذا ما سيحدث لسلب
المال من عمها ذاك وسيتقاسمونها كقطعة اللحم "
قال مطر مركزا نظره على عينيه " وحين تكبر ماريه يا تيم ؟ "
هز رأسه ونظره لازال في عينيه المركزة نظرها عليه وقال ما
يتوقعه منه تماما " لها أن تختار "
وقف حينها مطر وقال " رجل ابن رجل أنت يا فتى , وما أفهمه
من كلامك أنك لن ترجع لهم الآن ؟ "
هز رأسه بنعم فقال مطر " ستكون وعمير في مركز حدود الشرق
سيتكفل بإكمال تدريبك وتنهي دراستك وبالنسبة لتلك الطفلة لا تقلق
لن يمسوها بسوء حتى ترجع لها وتقررا ما تريدان وسأترك لهم
المال كما اخترت أنت رغم أني كنت أنوي تجريدهم حتى من
منزل جدهم ووضع كل شيء في خزينة الوصاية لولا اخترت
أنت العكس "
ثم تحرك مجتازا له دون أن يضيف أي كلمة بعدما سأله عما يخص
ماريه ومالها وماله أما الباقي كان هو من قرر فيه دون حتى أن يسأله .
" سيدي "
وقف مطر مكانه والتفت له بنصف وجه وقد قال تيم " ثمة دين لك
عندي أريد تسديده بأي طريقة تراها مناسبة "
التفت له بكامل جسده وقال " الرمان تعني ؟ "
نظر له بصدمة لم يجتزها بسهولة ثم أرخى نظره خجلا من فعلته التي لم
يفعلها من قبل وهمس بمرارة " أقسم لك لم يدخل من حبوبها لجوفي ولا
نصف حبة , كانت والدتي تحتاج لقوت تعيش به باقي يومها وأعلم أن
ذلك ليس من حقي لكنه كان حلي الوحيد فحتى شيء أعمله من
أجل المال لم أجد "
تقدم منه خطوتين ونظره على شعره الكثيف مطأطأ رأسه للأسفل
وضع يده على كتفه وشد عليه بقوة قائلا " هل أفهم من كلامك
أنك كنت تعمل لدى ذاك الطبيب وليس تساعده "
شد قبضتيه بقوة يشعر بكل تلك الذكرى تنتزع من قلبه وقال يكابد
دموعه " كان ثمنا لعلاج والدتي , كنت سأفعل أي شيء لتبقى
لي لكنها رحلت في النهاية "
شد على كتفه أكثر وقال بجدية " ارفع رأسك يا تيم "
رفع رأسه ومسح عينيه بظهر كفه بقوة ونظر له فوقه وقد قال مركزا
نظره على عينيه " أنت في رعايتي يا تيم لن يمسكني عن ذلك شيء
وحتى إن مت غيري سيتكفل بك أولهم عمير وثلاثة غيره ورابعهم
سألني عنك صباح اليوم يريد أخذك لخارج البلاد لديه لكنك لست
من حق أحد سوى نفسك يا تيم , تيم شاهر كنعان رجل نفسه فقط "
ثم هز له كتفه بقبضته الممسكة له وتابع بحزم " تيم شاهر كنعان
وزيزفون إسحاق ضرار لا يحتاجان لأحد لم يجداه سابقا "
رغم أنه لم يفهم معنى ما قال ولا أسم تلك الذي ذكره لكنه هز رأسه موافقا
كلامه فلطالما رأى نفسه هكذا وقرر أن يكون أيضا ( رجل نفسه ) لا
يتبع أحدا لا يحمل اسم أحد ولا يحتاج لكل من لم يجدهم قربه يوم احتاجهم
راقبه يغادر محدثا عمير السائر خلفه لخارج المنزل يشعر بامتنان ناحيته
لن يكفيه عمره كله ليرد له هذا الدين , وحمد الله أنه لم يسلمه لمن قال
أنه خارج البلاد ويريد أخذه وقد خمن أن من تحدث عنه سيكون عمه
أو عمته أو عم والده ولم يتخيل أن الحقيقة أكبر وأقسى من ذلك
*
*
*
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــع