*
*
غضن جبينه وهو ينظر للواقفة في الممر وما أن وصل عندها
حتى همس " عمتي ما تفعلين هنا ؟ ألم تنامي بعد ! "
أمسكت فمها بيدها وقالت بحزن تمسك عبرتها " والدك لم يخرج
من غرفته حتى الآن ولا أخرج الصغير ، سمعت بكائه لبعض
الوقت ثم توقف ، ما به يسجن نفسه معه يا رماح ؟
علينا أن نطمئن عليه "
نظر لباب الغرفة هناك وقال بحزن " اتركيه عمتي حين يريد الخروج
سيخرج من نفسه ، لقد كان صامدا منذ تلقى خبر موت الكاسر ورغم
أن وجهه كان لا يمكن وصفه حينها إلا أنه صامد ولم تنبس شفتاه بكلمة
سوى بـ ( اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها ) ووقف على
قدميه فورا وقاد القبائل وجمع كلمتها مجددا فلنترك له هذه اللحظات
يختلي فيها بحزنه يعبر عنه بما يريد ، ثم لا تنسي أنه كان أبا عطوفا
ساعد حتى والدتي رحمها الله في الاعتناء بنا خاصة ليلا وهي أنجبتنا
متعاقبين , كما أنه من اعتني بغسق بعد وفاة والدتها وقبلك مجيئك لنا
عناية لن تجدها في والدتها التي أنجبتها فلن يعجز الآن مع هذا الصغير
اتركيه يطفئ ناره التي لم تخرج ويصدق على الأقل أن ابنه مات
فأنا ما صدقت ذلك حتى رأيت ابنه اليوم "
مسحت دموعا غلبتها وقالت " وماذا علمتم أيضا عن ملابسات
حادث موته , أقسم أني لا أصدق ذلك حتى الآن ، ليتهم تركوني
رأيته على الأقل لأرتاح "
أطرق برأسه للأسفل وتنهد بحزن قائلا " حالي ليس أفضل منك
عمتي لكنه واقع علينا تقبله , لقد دفنه رعد وأعمامي ورأوه
بأعينهم بل وغسلوه بأنفسهم "
مسحت دموعها ترتشف عبرتها وقالت " وكيف هي غسق ؟
ما حالها ووضعها ؟ والدك لم يجبني عن شيء ولم
يسمع شيئا مما كنت أقول "
رفع رأسه ماسحا الدموع التي غلبته وقال بضيق " لم أراها عمتي
ولم أتحدث معها , زوجها ذاك منعني عنها ولم أنزل من تلك السيارة
البائسة معتمة النوافذ حتى غادرنا , حتى شعرها ما أن انكشف من
حجابها أسرع لتغطيته , لم يتركني أسلم عليها ولا من بعيد "
هزت رأسها بحيرة وقالت " كيف يتركك تسلم عليها من بعيد وهي
تعتقد أنه لا يعلم أنكم لستم أخوتها ؟ ثم لا تنسى بأنه يعلم بذلك هل
كنت تفعلها أنت لو كنت مكانه ؟ "
خرجت الحروف من بين أسنانه " لكنها شقيقتنا تربت معنا كشقيقة
لنا منذ صغرها , لن يفهم ذاك المغرور ذلك أبدا "
مسحت بيدها على ذراعه قائلة بهدوء " لا تنسى أنه سلمنا ابن شقيقك
كما تغاضى عن أضرار الحادث وبنفسه دفع الدية لأهل الرجل الذي
مات في الحادث وترك والدك يرى ابنة عمه والآن ينظم دورية
للبحث عن رعد داخل حدوده , هذه أمور ما كان يفعلها أبدا
قبل أن يتزوج بها "
قال بسخرية تنطق مرارة " ذاك الرجل لا يفعل دون مقابل عمتي
لا يعطي ما لم يأخذ , هو يرد جميلا سابقا أو لاحقا تأكدي من ذلك "
تنهدت بحيرة من عجزها فهم ما قال وقالت " وما قال والدك عنها ؟
هل سألته ؟ "
قال بضيق مغادرا " قال لن تكون بحال أفضل إن كانت هنا
معنا وأنها وصلت مكانها الصحيح "
واختفى وتركها في حيرتها وظنونها ، توجهت جهة غرفتها متمتمة
" ترى هل أخبر ابن شاهين شراع عن السبب الحقيقي لهروب
أميمه بها ؟ "
*
*
مررت أناملها في شعره الرطب وهمست " مطر "
" اممم "
تلك الهمهمة المرتخية فقط ما صدر عنه وعيناه مغمضتان
فقالت بعبوس " مطر هل ستنام ؟ "
تحركت شفتيه هامسا ببحة أعمق من بحة صوته ودون أن
يفتح عينيه " وما الذي سأفعله برأيك غسق ؟ "
هزت كتفه هزة خفيفة قائلة بضيق " افتح عينيك هيا
أنا لا أشعر بالنعاس "
همس بخدر وصوت مرتخي " وما ذنبي أنا إن نمت لخمس
ساعات متواصلة ، حاولي هيا وستنامين "
تأففت بضيق وقالت ناظرة لوجهه القريب منها " لا أشعر بذرة
نعاس فكيف سأنام ؟ بل كيف سأبقى وحدي في هذا الليل
مستيقظة ؟ هيا مطر افتح عينيك لنتحدث حتى أنعس "
فتح عين واحدة ناظرا لها بها وقال " اتركيني أنام يا مدللة ألا
تعلمي أني متعب وقدت السيارة لثلاثة عشرة ساعة متواصلة "
لكمت صدره العاري بقبضتها وقالت بضيق " أفلح والدي حقا فيما
أخبرك عني ، ثم أنت قلت بنفسك أنك معتاد على القيادة لوقت أطول "
أغمض عينه مجددا دون أن يعلق على كلامها فعضت شفتها حنقا
منه ثم ابتسمت بمكر وهي تمرر يدها على عنقه وقبلت شفتيه
هامسة من بين قبلاتها تلك " لن تنام وتتركني لا تحلم بها "
شد يده على خصرها أكثر مقربا لجسدها منه وفتح عينيه بتكاسل
وقال ناظرا لعينيها " أنتي من سيكون الخاسر بسبب هذا العبث
يا مشاغبة وستجدين نفسك في الحمام مجددا "
عضت طرف شفتها تمسك ابتسامة عابثة وقبلت شفتيه مجددا
وهمست " لا مانع لدي بما أن المقابل أن لا تنام "
سحب الغطاء بقوة مبعدا له عن جسدها فصرخت ضاحكة
" مطر انتظر قليلا "
قال بتوعد " كنت أريد الهرب بالنوم عن تحطيم عظامك
الليلة لكنك من جلب هذا لنفسك "
*
*
أغلق حاسوبه متأففا فكل ما حصل عليه من قريب والدته ذاك
لن يفيده في شيء ( عمرها أربعة أعوام أسم والدها إسحاق والدتها
زهراء ومن الحويصاء ومطر شاهين منعها من رؤيتها وأخذها ، لن
يستفيد شيئا من هذه المعلومات إن لم يعرف اسم الفتاة التي كان يتحدث
عنها جده ووالده أو اسم والدها ، غادر الغرفة يديه في جيوبه عابرا
الممر الطويل المطلي جدرانه بالأبيض الناصع تزينه تلك الإضاءة
المخفية وبساط أحمر فاخر ممتد على طوله وكأنه ممر في أحد أفخم
الفنادق ، تابع سيره قاصدا غرفة مكتب والده فهو في هذا الوقت يكون
هنا ووحده من سيملك أي معلومة قد تفيده متأملا أن لا يكون متشددا
ناحية موضوعها كجده ، قطع الممر الآخر فانفتح الباب وخرجت
منه يد سحبته لداخلها فسحب يده وقال بضيق يتدارك توازنه كي
لا يقع " رواح يا أحمق كدت توقعني , يا لك من همجي "
لكمه في كتفه قائلا " مرحا بالأرستقراطي وقاص سلطان ضرار
سلطان ... مهلك علينا يا رجل "
ثم ألصق جسده جانبا بالجدار وقال يمرر يده أعلى رأسه
" انظر لقد زاد طولي ، سأصل لك قريبا "
ضحك ذاك وقال وقد وقف بجانبه " وأنا ازداد طولي يا
ذكي , هل وحدك من ينمو ؟ "
دفعه بيده مبعدا له خطوة عن المقياس الذي يعلقه هناك وقال بضيق
" والدتي قالت بأن طولك سيتوقف في مرحلة عمرية ما بينما
أنا لا وسيستمر لأربع سنوات بعدك فلا تفرح كثيرا "
ضحك وقاص ولم يعلق فتوجه ذاك حيث الشاشة الكبيرة المسطحة
جلس أمامها وأمسك يد اللعبة الالكترونية وقال " تعال نلعب
شوطا سأغلبك هذه المرة "
اتكأ لظهره على الجدار وقال " لا وقت لدي للعب عليا العودة
لدراستي ، وأنت أبعد عنك هذه التفاهات الآن , إن رسبت
لن يرحمك جدي "
حرك يده دون أن يلتفت له وقال " نجيب فعلها قبلي لا بأس إن
شاركته التوبيخ مرة ، من باب التعاون الأخوي أعني "
ضحك وابتعد عن الجدار وتوجه نحوه جلس بجانبه على الأرض
وأمسك اليد الأخرى للعبة وقال " هو شوط واحد فقط إن هزمتك
لن نعيد "
قال رواح مدخلا قرص اللعبة " سأختار فريقك الذي تأخذه دائما
وسأفوز عليك فلا تطلب أنت هذه المرة شوطا آخر "
اكتفى وقاص بضحكة صغيرة ولم يعلق فقال رواح والفرق
تعرض أمامهما " ما قصتك وجدي والطفلة ؟ "
نظر له بصدمة وقال " أي طفلة ؟ "
حرك ذاك كتفه قائلا ونظره على الشاشة أمامه " أنت من
يجيب عن هذا السؤال وليس أنا "
قال ناظرا لملامحه بحيرة " من أخبرك أنت ؟ "
نظر له رواح وقال " لم يخبرني أحد هو حديث دار بين والدي
وجدي وكنت قريبا منهما ولم يهتما لوجودي , يبدوا لعلمهما
أني لا أعلم عن الأمر "
وتابع وقد عاد بنظره للشاشة " سأل جدي والدي إن كنت تحدثت معه
في موضوع الطفلة ولم يذكر اسما أو من تكون وإن كنت سألته عن
أي شيء يخصها فنفى والدي أن ذلك قد حدث فأخبره أن لايخبرك إن
فعلت وأن يغلق الموضوع فورا إن فتحته معه "
غاب بنظره في الشاشة أيضا ولم يعلق فقال رواح " من تكون
هذه وما قصتك معها ؟ "
لم يجبه وقد صرخ ذاك قائلا بحماس " هدف هدف نظيف
هههههه سأتغلب عليك "
فرمى يد اللعبة من يده ووقف مغادرا بضيق فصاح به رواح
" هيه تعال يا جبان كنت سأهزمك "
فخرج ولم يلتفت له لأن ذهنه أساسا لم يكن مع ما يقول يفكر في السر
الذي يجعل جده يتهرب من الحديث عنها !! دخل غرفته مغلقا الباب
خلفه وتوجه للدرج في مكتبه الدراسي أخرج أحد كتبه وورقه وأخرج
منه قصاصة الصحيفة التي تحمل صورتها ورفعها ينظر لها بتمعن
وسؤال واحد يدور في ذهنه ( لما يريد جدي إبعادها وإقصائها عن
العائلة وما طبيعة مرضها ذاك ؟ )
*
*
سمع أصوات خشخشة من خلفه فالتفت بسرعة وريبة وقال مستغربا
" ماريه !! ماذا تفعلين هنا وفي هذا الوقت ؟ "
اقتربت منه وجلست بجانبه حيث السياج الصخري لتلك الجهة من
فناء المنزل الخلفي وقالت تراقب السلحفاة الصغيرة التي كانت
تأكل أوراق الخس الفاسدة التي وضعها لها " اليوم جمعة ولا
مدرسة لدينا وزوجة عمي غادرت المنزل لا أعلم أين
وعمي نائم لا يستيقظ قبل مقربة الظهيرة "
عاد بنظره للسلحفاة وتمتمت ببرود " فوق شره كسله "
خرجت ضحكة رقيقة من الجالسة بجانبه تمسك فمها بيدها الصغيرة
فنظر لها وقال " ألم يقل لك سابقا أن لا تلعبي معي هنا ؟ ماذا إن
زاره النشاط فجأة وجاء هنا ؟ "
حركت كتفيها وقالت بلامبالاة " يضربني وأبكي حتى يختفي ألم
ضربته وانتهى كل شيء المهم ألعب معك وأكون معك , ثم هو
سمح لي بالذهاب معك لأي مكان وقال لي ذلك بنفسه حتى
لغرفتك ووالدتك رحمها الله "
هز رأسه بيأس منها وعاد وشرد بنظره في ذاك المخلوق الصغير
الحذر الذي شعر بالأمان لوجودهما وأصواتهما التي اعتاد عليها
لا يفهم سبب هذا التغير في ذاك الرجل !! لكن عقله ومهما كان
ذكيا فسنه لن يساعده ليفهم كل ما قد يجول في عقل كذاك العقل
الذي فاقه بأعوام , خبأ نصف وجهه في ذراعيه الملتفة حول
ساقيه وقال " ماريه ما الذي سمعته أيضا من حديثهما غير
كلمة زواج قسري "
نظرت له باستغراب وقالت " ومن أخبرك أني سمعتها منهما ! "
قال بضيق " السلحفاة أخبرتني , تكلمي هيا "
نظرت لها وقالت موبخة " سلحفاة سيئة هل تتجسسين على النوافذ "
ثم ما لبثت أن ونظرت له بصدمة وقالت " لكنها لا تتكلم ! "
نظر لها وقال بضيق " ماريه تكلمي هيا لا أحد لديك غيرهما
تسمعينه وتتجسسين عليه سهلة لا تحتاج لذكاء "
ضربت قدمها بالأرض وقالت " لم أتجسس عليهما كنت في غرفتي
والباب مفتوح وهما في وسط المنزل ليس ذنبي إن ضنا أني نائمة
هل كنت تريد أن أصرخ بهما كي يسكتا لأني أسمعهما "
تنهد بقلة صبر وقال " موشح طويل ككل مرة والنتيجة صفر
هيا قولي ما الذي سمعته "
عبست ملامحها ونظرت للسلحفاة وقالت " لم أفهم كثيرا كانا يتحدثان
عني قالت زوجة عمي ( ألست تعلم أن الزواج القسري يلغى في محاكم
بعض الدول وبلادنا قد يتغير حالها قريبا وتكون فيها قوانين جديدة
تنظمها ) فقال لها ( وقتها يكون كل شيء بيدنا نحن نتحكم فيه )
فقط هذا ما سمعته "
نظر لملامحها بتفكير يتذكر كلام عمير حين سأله عن معنى تلك
الكلمة وأخبره أنها تعني في المحاكم زواج الفتاة مرغمة دون موافقتها
وبالفعل أخبره أنه في بلدان كثيرة ترفع قضايا ضده من قبل الزوجة
ويلغى , عاد بنظره حيت كانت تنظر هي وعاد عقله لذات تلك الدوامة
( هل يفكرون من الآن في تزويجها مجبرة ؟ لكن ذلك لا يمكن أن يحدث
من سيسمح لهم به ؟؟ أم يتحدثان عن المستقبل فهما إن كان المال في
المقابل بعد نظرهما لألف عام , هل سيزوجونها لأحد أبناء عمها
ليأخذوا مالها ؟ لكن من سيوافق لهم هي طفلة في الخامسة ولم
أرى من قبل واحدة تتزوج في سنها )
تنقل بنظراته في تقاسيم وجهها الدائري الصغير ويدها البيضاء
الصغيرة تبعد خصلات شعرها المتطايرة على عينيها وفكر في كل
كلام والدته في وصاياها له وفي الوعود التي قطعها لها وجميعها
تخصها ( ترى ما عنت والدتي حين قالت لا تجعل ما يرجعك هنا
لها ندم على أمر لا يمكن إصلاحه لا تشاركهم في تحويلها لبقايا
امرأة ويكون نصف اللوم عليك فالمرأة إن أحبت تحب بعنف
وإن جرحت تكره بعنف وإن كان على حساب مشاعرها )
أبعد نظره عنها ونظر عاليا للغيوم المتجمعة في السماء وهمس
" قد أفهم ذلك يوما يا أمي إن لم يتحقق قبل أن أفهمه "
*
*
لم تتركه هذه المرة يستيقظ قبلها ويغادر دون أن تعلم بل غادرت السرير
معه ما أن شعرت بحركته وسحبه لذراعه من تحتها , وتبعا لذلك أصبح
مجبرا على تناول إفطاره مع باقي العائلة وحتى عمته التي كانت تناولت
فطورها وقت الفجر لتأخذ علاجها عادت وأفطرت معهم مجددا ما أن
أصدرت ذاك القانون ( لن نتناول الوجبات إلا معا وإن كنا اثنين فقط )
أما الغائب دائما فرأى أنها رحمته وخففت قانون العقوبات عنه بأن
يتناول أي وجبة يكون فيها موجودا في المنزل معهم وأن يخصص
ساعة من وقته للجلوس وسماع ما يتردد في مجلس منزلهم , وأكثر
من أسعدته تلك القوانين الجديدة كان عمها صقر الذي قال بسعادة وهو
يتناول معهم وجبة الإفطار ( الله أكبر يا ابنة شراع أخيرا سأمارس
شيئا من حقي المهضوم ) جملة لم يفهم معناها إلا من ملئت ضحكته
الجهورية المبحوحة تلك الغرفة الواسعة على نظرات النسوة الثلاث
المستغربة له وإن كانت الأسباب عدة , نظرة من لم تفهم من ذاك
الحديث شيئا ونظرة من تستغرب ضحكته العالية التي لم يقيدها
بصلابة شخصيته كالسابق .
نظرت من زجاج نافذة السيارة في الجانب الأيمن وهي تقف خارجها
للواقف في الجهة الأخرى يعصر قطعة الإسفنج الكبيرة بيديه وشعره
الذي قصه كما كان في السابق وكانت المرة الوحيدة التي خرج فيها
من المنزل صباحا ليقصه , كانت تراقبه مبتسمة تنفض قطعة القماش
في يدها ثم رمتها على النافذة سريعا حين نظر جهتها وأمسك بها
فقال بضحكة " ماذا حدث معك ؟ لا أسمع أي صوت من جهتك "
نزلت للأسفل مستندة على قدميها وأدخلت تلك القطعة في إناء
الماء قائلة بصوت مرتفع ليصله " الأمور لدي جيدة لا تأتي
حتى ننتهي , لا تتدخل في جهتي أبدا "
جوابه كان ضحكة صغيرة ولم يعلق وعاد لتنظيف تلك الجهة من
السيارة من الأتربة التي التصقت بهيكلها الخارجي بسبب الأمطار
وقد اختارت أن تساعده وعليه أن يرضى بقوانينها مادام في المنزل
ولن يتحرر إلا بمغادرته لذلك أخذ هو جانبا وهي الآخر لينظفاها
بعدما رفضت اقتراحه بتنظيفها معا , رفعت رأسها ووجدته بدأ
بتنظيف زجاج النوافذ فوقفت أيضا وبدأت بتنظيفها مثله وفي النافذة
التي تقابل نافذته خصيصا فنظر لها مبتسما وهي تقلد حركته السريعة
في تلميع الزجاج تمسك ضحكتها بِعضها لطرف شفتها , أكمام كنزتها
الشتوية مرفوعان لفوق مرفقيها وكذلك بنطلونها الجينز لأكثر من
نصف ساقيها , انتقل للنافذة الأخرى ففعلت ذات الشيء فقال ضاحكا
ونظره على وجهها " تلك النافذة لم تنظفيها جيدا فارجعي هناك فورا "
قفزت لتنظف مثله الجزء العلوي من إطار الباب حول تلك النافذة
وقالت " لا تتدخل في جهتي ألم أقل لك ذلك سابقا "
رمى المنشفة في الإناء وتحرك من هناك فصرخت هاربة ما أن علمت
عن نيته وقد ركض خلفها ودارت حول السيارة تصرخ ضاحكة وما أن
وصل عندها ممسكا ذراعها من قبل أن يصلها حتى وقفا مكانهما وسحبها
فورا خلف ظهره يخفيها هناك ما أن اقترب صوت ذاك العامل وصوت
امرأة صارخة وأخرى باكية فاختبأت خلفه مخبئة حتى ساقيها خلف
ساقيه كي لا يظهر منها شيء مستغربة قدوم ذاك العامل وهو من طلب
أن لا يدخل منهم أحد ! اقتربت الأصوات التي لا ترى من أصحابها
شيئا بينما انكشفوا للوقف أمامها يخفيها عنهم وكانت امرأة وفتاة وقال
العامل بخجل من موقفه " آسف سيدي لم أسطع منع هذه
المرأة التي قالت أنها تريد التحدث معك "
قالت تلك ناظرة له برجاء " حلفتك بالله يا زعيم أن تستمع لي فقط
وتنصفني وابنتي , لا أحد لنا بعد الله غيرك وأنت عادل ويحتمي
الضعيف بك دائما "
نقل نظره بين تلك السيدة التي تجاوزت الستين عاما والأخرى التي
تقف بجانبها تنكس رأسها في الأرض وتمسح دموعها بكفها ولم يتبين
لا ملامحها ولا سنها ومن جسدها وهيئتها تبدوا صغيرة , عاد بنظره
لتلك وقال " بما أخدمكما ؟ "
أمسكت كتف الواقفة بجانبها وقالت ودموعها شقت طريقها في خديها
" ابنتي سيدي اجتمع أعمامها وأبنائهم يريدون قتلها يتهمونها بالخروج
من منزلنا ليلا وتلطيخ سمعتهم بالعار وهي ابنتي وأعرفها لا تفارقني
لحظة , فقط لأنه لا رجل لنا يرد شرهم عنا خاصة لرفضها الزواج
من أحدهم لغرض ضم أرض والدها لأرضه الملاصقة لها لتتحول
لأرض كبيرة وهو سيء الخلق سيء المعشر لكنت زوجتها به
دون أن يجبرها "
ثم رفعت يديها للسماء ودعت عليهم باكية ثم نظرت له وقالت تدفعها
من ظهرها بقوة حتى تقدمت للأمام خطوتين وكادت تقع " ابنتي حلالٌ
لك يا زعيم لتكن زوجة خادمة أمة , احمها منهم لا رد الله لك طلبا
فلن يجدي معهم ولا التهديد فهم هددوا بقتلها وإن خلسة "
لم يستطع إمساك الابتسامة التي تغلبت على شفتيه بالقوة بسبب التي
التصقت بجسده في الخلف يشعر بقبضتيها تمسك قميصه بقوة وبوجهها
الذي دفنته بين كتفيه العريضان ثم لكمت ظهره بقبضتها هامسة
" إن وافقت قتلتك يا مطر فهمت "
لكن تلك الابتسامة قرأتها الواقفة أمامه أمرا آخر وأنه وافق على
عرضها ورحب به وستخلص ابنتها منهم وتكون زوجة الزعيم في
آن وهذا ما لم تتخيله , دبت السعادة فيها وتقدمت جهة ابنتها التي
لازالت تنكس وجهها في الأرض باكية وشدت غطاء رأسها عنها بقوة
حتى تناثر شعرها الأسود الناعم وشدت طرف عباءتها لتكشف عن
كتفها الأبيض وبشرته الصافية ورفعت وجهها له من ذقنها قائلة
" انظر لها ليس ينقصها حسن ولا بهاء وفوق كل ذلك مطيعة
وقليلة كلام ولن آخذ مهرا لها شيئا وأرضها لك أيضا "
أشار بيده للعامل الذي كانت عيناه ستخرجان من الموقف أمامه
أن يذهب وقد غادر ذاك فورا وقال هو بجمود " استري ابنتك "
فتحركت حينها التي كانت خلفه وظهرت لهما تنظر بصدمة للمشهد
المعروض أمامه للفتاة ذات الوجه الأبيض والعينان السوداء الواسعة
قد أرهقها البكاء ولشعرها الحريري شديد السواد قد وصل لآخر كتفيها
وتلك العجوز تبادلها ذات تلك النظرة وقد علمت فورا من ستكون , إنها
الزوجة التي سمعت عنها لكنها تجدها فاقت وصفهن لها ورغم إهمالها
لمظهرها وشعرها المرفوع والمجموع بعشوائية إلا أنها فاقت ابنتها
الحسناء بكثير , عادت بنظرها لمطر وقالت " هي خادمة لك
ولزوجتك حللها لك وعاملها كما تريد أنصفنا أنصفك الله "
نقل نظره منها للواقفة بجانبه وكانت تنظر له بعينان مصدومة وأنفاس
متوترة كمن تنتظر أجلها , أمال ابتسامته ونظر لها تلك النظرة التي
تقول ( ما رأيك أنتي في الأمر ) فرمت المنشفة وغادرت من هناك
راكضة قبل أن تفضحها دموعها أو تملأ المكان بصراخها الغاضب
المحتج فماذا حدث للنساء كل واحدة تريد أن تأخذه بطريقة , وصلت
لغرفتها السابقة في الأسفل لا تعلم كيف ولما اختارتها خصيصا حتى
وجدت نفسها داخلها وقد أغلقت بابها بالمفتاح تشعر بالنار تشتعل داخلها
كالسعير وتقاطرت الدموع من عينيها وقد أخرجت المشبك من شعرها
ورمته بطول يدها ليتناثر ذاك الشعر الحريري الطويل حول جسدها
وضربت الجدار براحة يدها بقوة متمتمة ببكاء " سحقا لك وله
بل سحقا لكل النساء , لما لا يتركونه لي ؟ ألا رجال غيره ؟ "
طرقات قوية على الباب جعلتها توقف ضربها لذاك الجدار الأصم
تلاها صوته المرتفع قائلا " غسق افتحي الباب "
لم تجبه وقد مسحت عينيها بقوة بكميها بعدما أنزلتهما , وما أن
تكرر طرقه له ومناداته لها حتى صرخت " لن أفتحه ولا أريد
رؤية أحد "
وما أن سمعت خطواته مغادرا جلست منكمشة على نفسها فوق
السرير تدس وجهها في ركبتيها تمسح عينيها فيهما بقوة لا تريد أن
تبكي أكثر .. لن تبكي , لعنت نفسها مرارا وتكرارا على شعور التملك
الذي فاق مخيلتها تشعر به ناحيته , كان يفترض بها أن كانت قوية أن
قالت أي جملة تعبر عن لا مبالاتها ، أن تحدثت ببرود وغادرت بثقة
لكنها فقد عقلها وجن جنونها ما أن سمعت كلام تلك المرأة وزاده أن
رأت عرضها لابنتها أمامه ، كانت ستلوم نفسها لو أنها تحدثت بعدم
لباقة مع تلك التي في عمر والدتها بل ويزيد بكثير ولكان لامها هو
أيضا وهي زوجة زعيمهم وتُظهر قلة تهذيب أمامه وأمام من
استجارت به مهما كانت نواياها ، لكن صمتها لم يفدها سوى أن زاد
اشتعالها وكادت تجن ، رفعت رأسها سريعا ما أن سمعت صوت قفل
الباب يدور فقفزت واقفة فوق السرير ونزلت خلفه من الجهة الأخرى
ما أن انفتح الباب ودخل منه من تعلم أنه وحده يملك مفتاحا آخر للغرفة
توجه نحوها فورا فالتصقت بالجدار خلفها وهي تنظر لملامحه التي لم
تكن تحمل أي تعبير تفهمه ونظرته التي لم تستطع تفسيرها ولم تهتم
سوى بأنها لم تكن نظرة غاضبة ولا حانقة ، وصل عندها ووقف أمامها
وأمسك وجهها بيديه عينيه تنظر لعينيها التي شاب جفنيها احمرار طفيف
من فركها لهما بقوة وهي تمسح دموعها ورموشها لازالت مبللة بدموعها
تزم شفتيها كي لا يفضحها ارتجافهما ، شعرت بأن كل تلك الأشياء
التي وبخت بها نفسها طارت أدراج الرياح ما أن رأته أمامها بكل
وسامته تلك ورجولته المدمرة وتخيلت فقط أن تشاركها فيه امرأة
أخرى ، أن تنام في حضنه وأن يعطيها مما يخصها بها هي وحدها ،
أغمضت عينيها ببطء
وهمست بألم " إن كنت ستتزوجها فطلقني وأرجعني لوالدي لن
تشاركني فيك امرأة أبدا "
وما أن أخذت نفسها الذي شعرت به خرج مع كلماتها حتى جفت
رئتيها انفتحت عينها بصدمة حين قبلها بعنف قبلة لم تفهم ما توقيتها
وسببها بل وحرارتها التي لم تعرفها بهذا الشكل ! شدت بيدها على
قميصه بقوة جهة صدره فأبعد حينها شفتيه وما كانت تلقفت أنفاسها
حتى عاد وقبلها مجددا بحرارة أشد ملصقا جسده بجسدها الذي
شعرت به سيسقط الجدار خلفها فتمسكت بعنقه وتحول كل ذلك
لقبلات شغوفة شاركته فيها ولم تعد تشعر ولا بتألم جسدها
من ضغطه عليه
" سيـــ ..... "
ابتعد عنها سريعا في خطوة واحدة ونظر للواقفة عند الباب وقد يبست
مكانها أناملها على فمها وملامحها لا يمكن وصفها سوى بجسد دخلته
الموت للتو قد اختفى الدم من وجهها ولم تستطع ولا إبعاد نظرها عن
تلك الجهة بسبب تيبس جميع ما فيها وحتى حواسها ، بل ولم تستطع
ولا الحراك ولو قليلا لتبتعد حين مر بجانبها خارجا من هناك ونظرت
للتي ما تزال هناك وقد أخفت عينيها في راحة يدها ورأسها للأسفل
منذ أن ابتعد عنها ووعت للسبب ، استطاعت تحريك شفتيها أخير
وهمهمت بصعوبة " ما هذا الذي فعلته ؟ "
وكان كل ما تريده وقتها الهرب من هناك بل ومن المنزل بأكمله
وما أن التفتت مغادرة حتى شدتها يد غسق وأدخلتها الغرفة
وضربت بابها قائلة " انتظري يا حبيبة أريدك في أمر "
ضربت تلك خديها بيديها بقوة صارخة وعينيها ستخرج من
مكانها " قتل الله حبيبة ليثني مت قبل هذا اليوم "
شدتها غسق من كمها تحاول الحديث معها وتهدئتها لكنها لم تكن
تسمعها وسط صراخها مكررة ولازالت تلطم خديها بقوة
" قتلك الله يا حبيبة قتلك الله "
تأففت منها وصرخت " حبيبة يكفي ما حدث قد حدث
هل ستفقدين عقلك ؟ "
نظرت لها بوجه شاحب قد اختفى أي لون فيه وقالت ضاربة بيديها
فوق رأسها " فقدت عقلي من حين جئت هنا ، لم أتوقع أنه معك في
الغرفة , لقد رأيته منذ قليل متوجها لمكتبه ، ويحي ماذا سأفعل
الآن ؟ ويحي ... ويحي ... ويحي "
توجهت تلك لقارورة الماء سكبت منها في كوب ومدته لها قائلة
" اشربي هيا قبل أن تموتي لا ينقصني فقد وأموات ، ما حدث
حدث لا يمكن تغييره ولا حل سوى أن ننساه جميعنا "
أخذت منها كوب الماء وشربته دفعة واحدة لا تتخيل أنها قد تنسى
ذلك أو أن ذاك الرجل قد ينساه وليست تستغرب أن يصرفها من
العمل هنا ما أن يراها ، وضعت يدها على قلبها وقالت ناظرة
بشحوب للواقفة أمامها " أخبريه أني لم أرى شيئا
أرجوك
سيدتي "
هزت رأسها متأففة وقالت " ما هذا لم تري شيئا ! طفل هو
نضحك عليه ؟ ثم وجهك كان يكفي ليعلم ، هذا وأنتي هكذا
كيف تتصرفين لو كنت مكاني أنا ؟ "
شهقت بقوة ضاربة على صدرها فأمسكت غسق رأسها وقالت
" آخ منك يا حبيبة زوجين وأخطأنا في تقدير المكان والزمان
وقدرك ساقك لنا فهلا نسينا ذلك فثمة ما هو أهم منه "
نظرت لها باستفهام ويدها لازالت على قلبها تستشعر دقاته المجنونة
فقالت غسق " ثمة امرأة وابنتها خارج المنزل تريدان مطر اذهبي
وانظري أين ذهبتا ، عليا أن أعلم قبل أن أفقد أنا عقلي
وليس أنتي "
شهقت فيها حبيبة بقوة وقالت مغادرة جهة الباب " تريدين أن
أذهب حيث يكون ؟ لا لن أفعلها ولا على قطع عنقي
ولن أقابل وجهه قبل شهر "
وخرجت تاركة الباب خلفها مفتوحا تردد " ما هذا الذنب الذي
ارتكبته هذا الصباح أعاقب عليه هكذا ؟ استغفر الله العظيم
من كل ذنب عظيم "
ولم يختفي صوتها إلا باختفائها من كل ذاك الممر فتأففت الواقفة
هناك وغادرت الغرفة متمتمة " والحل الآن في كل هذا ؟ "
توجهت للمطبخ فورا وقفت عند الباب وكانتا حفصة وعزيزة
هناك فقالت " أين حبيبة ؟ "
قالت عزيزة من فورها " أخذت حبوب وخافض حرارة وقالت
أنها ذاهبة لغرفتها ، تبدوا متعبة قد تكون نزلة برد "
أمسكت ضحكتها بصعوبة وقالت مغادرة من هناك
" حفصة تعالي أريدك قليلا "
فتبعتها تلك من فورها حتى ابتعدتا قليلا ودخلتا في حديث هامس
ثم غادرت حفصة جهة باب المنزل وبقيت هي واقفة مكانها عينيها
على السلالم فإن كان في الأعلى ورأت قدميه تفر هاربة من هناك
مرت اللحظات أعواما عليها حتى عادت حفصة ودخلت مغلقة الباب
خلفها فتوجهت نحوها من قبل أن تأتيها وهمست تلك " قال أحد
العمال أنه غادر المنزل ولم أجد أحدا ولم يذكر أن أحدا كان معه "
وضعت يدها على فمها وتمتمت " أين ستكونان إذا ؟ لابد غادر
معهما لكن أين ؟ وقد يكون أخذهما معه في سيارته "
عضت شفتها بقوة من جنون أفكرها التي سيطرت عليها ونظرت
للخادمة التي كانت تنظر لها بحيرة لم تفهم شيئا من همهمتها تلك
فهمست محركة يدها أمام وجهها " شكرا لك يا حفصة يمكنك
المغادرة "
فغادرت تلك من فورها وصعدت هي لغرفتها استحمت مطولا تحاول
طرد كل تلك الأفكار ثم خرجت للغرفة لبست ثيابها وجلست على
طرف السرير تجفف شعرها بالمنشفة وقدمها كانت تضرب الأرض
لا إراديا من توترها وما ضنت أنها ستنساه في الحمام أو تتناساها
لم يتركها دقيقة وهي تكاد تجن ، رمت المنشفة مع ثيابها ووقفت
وبدأت بالدوران في الغرفة كالتائهة تتمتم وهي تقضم ظفر سبابتها
" من أين سأعلم إن صرفهما أم لا وإن خرج من أجلهما أم لا ؟ "
بعد وقت قضت أغلبه جهة النافذة تنظر إن عاد نزلت من غرفتها
وتوجهت فورا لغرفة عمتها طرقت الباب ودخلت ما أن أذنت لها
فقابلتها بابتسامة قائلة " جيد أنك أتيت لنقضي الوقت معا حتى
صلاة الظهر "
فاقتربت منها تبادلها لابتسامة وفكرت أنها فكرة جيدة تشغل بها
عقلها قبل أن تفقده , وليست تعلم كيف مر عليها ذاك اليوم الذي
لم يرجع فيه ولم تعلم عنه شيئا وقد فعلتها ولأول مرة وطلبت من
عمه ما أن غابت شمس ذاك النهار أن يتصل به ويعلم منه إن كان
سيرجع الليلة ومن دون أن يخبره أنها من طلب ذلك ، ونام أهل ذاك
المنزل ما أن تناصف المساء وهي وحدها من جافاها النوم بل ولم
تسعها أرض تلك الغرفة وقد جلست على عتبات السلالم تنتظره حتى
غلبها النعاس دون شعور منها يحتضن جسدها برودة المكان وصمته
المميت ولم تشعر بباب المنزل وهو يفتح ولا بدخول الذي انتظرته
طوال النهار وقد اقترب من السلالم ينظر لها باستغراب حتى وصل
عندها ونزل مستندا بقدميه ولمس خدها البارد فأجفلت جالسة
وهمست تمسح عينيها بباطن كفها " مطر ؟ "
قال مبعد خصلات غرتها عن وجهها " ماذا تفعلين هنا ؟ "
تعلق نظرها بوجهه وملامحه في الضوء الخفيف للمنزل وقالت
" أين كنت حتى هذا الوقت ؟ شغلتني عليك "
أمسك يدها وقال موقفا لها معه " زرت بعض المناطق القريبة
فثمة أمور عليا انجازها مادمت هنا "
وتابع وقد لف ذراعه حول كتفيها وصعد بها عتبات السلالم
" ثم هذه ليست أول مرة أتأخر فيها , ما كان عليك النوم هنا
ألم أخبرك أن التدفئة في المنزل قد تتوقف في أي وقت دون
أن يعلم عنها أحد "
وقفت فأوقف خطواته لوقوفها والتفتت ناحيتها وقد اتكأت بظهرها
على جدار السلالم وهمست ونظراتها معلقة في عينيه
" هل تزوجتها ؟ "
نظر لها باستغراب وقال " تزوجت من ! "
ضربت قبضتها بالجدار خلفها ضربة خفيفة وقالت بضيق
" تلك الفتاة من برأيك ؟ أم من كثرة العروض لم تعد
تفرق بينها ؟ "
رفع يديه جانبا وقال بضيق مماثل " بربك غسق هل سأحل
مشكلة كل امرأة في الحالك بزواجي بها ! حتى الشرع حلل
لي أربعة فقط "
نظرت لعينيها بأسى وهمست " أنت إذا لم تتزوجها ؟ "
ابتسم بسبب نظرتها تلك وكلماتها وقال " لا طبعا ولا أريد الزواج
لا بها ولا بغيرها ، حللت لها مشكلتها وذهبت في حال سبيلها "
مدت يديها لكتفيه مسحت عليهما وطوقت عنقه بذراعيها وحضنته
بقوة تشعر بذراعيه تلتف على خصرها وتشدها له ، لن يعنيها ما
فهم وما سيفهمه فلن يشعر أحد بما شعرت به أو يجربه إلا عذرها
وصلها همسه ويده تمسح على ظهرها " ظننتك فهمت ردي
عليهما ما أن دخلت عليك الغرفة صباحا "
عضت طرف شفتها مبتسمة وقد زادت من تعلقها به هامسة
" أنت لي وحدي مطر ... لي أنا وحدي فهمت؟
خرجت ضحكته مكتومة وابتعد عنها وأمسك وجهها وهمس تداعب
قبلاته الخفيفة شفتيها " حقا ! "
فدفعته من صدره بيدها قائلة بضيق " مطر لا تنسى أين نحن
وإن كان الوقت متأخرا , أم تريد لموقف الصباح أن يتكرر ؟
المسكينة كادت تفقد عقلها ومرضت بسببك "
ضحك ورفعها عن الأرض بين ذراعيه وقال صاعدا بها باقي
العتبات " بل أنتي السبب في كل ذلك "
ضربت صدره بقبضتها بينما الأخرى ملتفة حول عنقه وقالت
" أجل فأنا من فتحت لك باب الغرفة وطلبت منك أن تفعل
ما فعلت "
دخل بها الغرفة دافعا الباب بقدمه ووضعها على السرير منحن
بها برفق قائلا " بلى أنتي سبب كل ذلك "
تعلقت بعنقه وقالت بابتسامة فاتنة " ما سبب هذا التغيير ! لم
ترمني هذه المرة على السرير وكأني وسادة "
قال مميلا ابتسامته " خشيت إن فعلتها قلبت ليلتنا لدموع بسببي "
أرخت يديها عن عنقه وماتت ابتسامتها وتحولت لحزن ما أن أدركت
سببه ذاك وتلك الذكرى في ذاك الموقف ، أمسك وجهها ووزع
قبلاته عليه وهمس " غسق ما بك ؟ "
هزت رأسها بلا هامسة ببحة " لا شيء "
وتابعت ناظرة لعينيه بحنان " شكرا لك مطر "
عاد لنثر قبلاته على شفتيها بنعومة ثم نظر لعينيها قائلا " أنت
من طلب ذاك الأمر من شراع ؟ "
هزت رأسها بنعم وهمست برجاء " لا ترفض ذلك مطر أرجوك "
ابتعد عنها وقال متوجها جهة باب الحمام " لم أرفض بل
وسيدخلون صباح الغد يا غسق "
ودخل معلقا الباب خلفه بهدوء ونظراتها تتبعه وهمست تمسح
دمعتها من طرف عينها " لا حرمني الله منك يا قلب غسق "
*
*
دفعت الباب بهدوء وخرجت متسترة بالظلام ثم أغلقته وما أن
تحركت حتى قفزت تكتم صرختها المذعورة بيدها تنظر لوجه
الشخص الذي ظهر أمامها وقالت بعدما استرجعت أنفاسها
" أنجوانا !! "
قالت تلك بسخرية " بل جوانا , ماذا تفعلين هنا آستي ؟ "
قالت بضيق " وأنا أدعى أستريا وليس لك علاقة بي وبما
أفعل "
نزلت بنظرها ليدها التي تحاول إخفائها وقالت ساخرة
" هل تسرقين من أجل مريضك ذاك ؟ "
وتابعت وقد عادت بنظرها لوجهها " هو صحيح إذا أن والدك
كلفك بالعناية به أم هي أكذوبة تغطي بها على الحقيقة ؟ "
تجاهلتها وكانت ستغادر فأوقفتها كلماتها قائلة " ترى ما سيكون
رأي الجميع هنا إن علموا أن ابنة زعيمهم تسرق الأدوية
وتخترق القوانين "
التفتت لها وقالت بضيق " سيكون أخف من رأيهم بك إن قلت
ما أعلم فحاذري من اللعب معي أنجوانا "
ابتسمت بسخرية وغادرت قائلة " أنتظر إذا اليوم الذي ستشهرين
فيه رغبتك بدخول الإسلام من أجل عربي يا خليفة أنجوانا "
وغادرت ضاحكة على اشتعال من تركتها خلفها وهي أكثر من كان
يسخر من أفعالها مع الرجال وخاصة الزعيم مطر درجة أن أعلنت
اعتناقها الإسلام من أجله إن طلب أن يتزوجها ، غادرت من هناك
ودخلت المنزل المخصص لمريضهم مجهول الهوية حتى الآن ودخلت
غرفته على صوت أنينه المتألم الذي كان يصلها منذ دخلت من باب
المنزل ، حقنته بالمسكن الذي أحضرته معها وقد خف أنينه حتى
اختفى وهمس حينها بصوت متعب مغمضا عينيه
" أستريا "
اقتربت منه ومسحت على شعره قائلة " نعم يا رعد "
همس بصعوبة أكبر " أنا ابــ ن شراع صـ ـنوان عليك
مـ ــساعدتي لأغادر من الحالك "
فانفتحت عيناها من الصدمة وتراجعت للخلف
*
*
قفز من فوق سريره ما أن سمع بكائها الذي لم يسمعه هكذا من
قبل وصوت عمها ذاك مزمجرا فخرج راكضا من الغرفة وأصواتهما
تقترب منه وصعق لرؤيته يسحبها من شعرها والدماء تزف من أنفها
قد شوهت فستانها فشعر بذاك الغضب يتصاعد في رأسه كالبركان وكان
سيتحدث لولا أوقفه صوتها الباكي صارخة " اهرب يا تيم غادر
من هنا أرجوك "
لتسكتها تلك اليد التي ضربت فمها بقوة أنزلت الدم من شفتها
الصغيرة ليزداد بكائها وقد وصل عنده وشده من قميصه بقوة
قائلا " تحدث أو افعل شيئا وسأضربك معها "
حاول الفكاك منه قائلا بغضب " توقف يا مجرم يا عديم
الرحمة ما الذي فعلته تضربها هكذا "
سحبه بقوة أكبر واضعا كل طاقته فيها بما أن تلك تتبعه منصاعة
لأن شعرها في يده وقال خارجا بهما من باب المنزل " بات عودك
يشتد سريعا يا فضلة الهازان , لن أستغرب أن تقتل رجلا بعد عام "
حاول أن يتخلص من قبضته ومن سحبه القوي له ولم ينجح ولم ينقدهما
من بطشه ولا من مروا بهم ورأوا بأعينهم ما يفعل ، وانصاع له نهاية
الأمر لأنه كلما قاوم أكثر كلما تأذت التي شعرها في يده أكثر ، وصل
بهما لمنزل شيخ قبيلتهم تلك وقد لحق بهم من لم يتركه فضوله يحدق
فقط وما أن دخل بهما مجلسه وقف على طوله مصعوقا هو ومن
كان معه هناك , رماهما أرضا وقال " جدوا حلا لفضيحته في
ابنتنا ولعبث وفضول من نضنه طفلا "
لتنفتح الأعين المحدقة به بصدمة ولم يغب عنهم معنى ما قال
وانتقل نظرهم للتي لوثت الدماء ثيابها تبكي بنحيب موجع والذي
كان جاثيا على ركبتيه ويديه ينظر للأرض في حالة ذهول لم يفق
منها بعد وقد علا همس المتجمعين عند الباب خلفهم ، قال شيخ
القبيلة " هدئ من روع الصغيرة يا قيس وأفهمني ما حدث "
صرخ راميا يده " ما الذي سأشرحه أكثر مما قلت فجد لنا
حلا في هذه المصيبة "
اقترب ذاك منها وأوقفها يمسح الدم من وجهها بطرف فستانها
وقال " اهدئي يا ماريه واحكي لي ما حدث ، هل صحيح
ما قاله عمك "
كانت عبراتها تخرج دون توقف وصرخ الواقف فوقها " هل
تقصد بأني أكذب وتريد شهادة طفلة ؟ تكلمي الآن يا ماريه
وقولي الحقيقة "
مسح ذاك الرجل على وجهها بعدما صرخ في عمها أن يصمت
حتى يفهم ما تريد قوله وما أن خفت عبراتها وشهقاتها قليلا حتى
قالت بنحيب متجاهلة قدم عمها التي كانت تكز قدميها بقوة متوعدا
" لا تيم لـ.... "
" بلى حدث "
كان ذاك الصوت الذي أسكت الجميع وحتى صوت بكائها الذي اختفى
من ذاك المكان وقد انتقلت الأنظار جميعها للجالس على ركبتيه يديه
على فخذيه ينظر لهما وقد قبضهما بقوة ، من كان يرى وحده إشارة
عمها التي يتوعدها بها وبالويلات إن هي أنكرت كلامه , ولم يفته
أنها ما طلبت منه هناك أن يهرب إلا وهذا الرجل قد هددها من
قبل خروجه بها من منزله , ومن سيصدقه هو ويكذب عمها
بل من سينقذها هي إن أنقذته فلم يكن ثمة خيار غيره أمامه
*
*
ما أن أبعد الهاتف عن أذنه حتى قالت بلهفة
" هل وصلوا ؟ "
ضحك وقال يدس هاتفه في جيب سترته " خمس دقائق
ويكونا عند باب المنزل "
فركضت مغادرة من الغرفة ونزلت السلالم وهو يتبعها مبتسما على
حماسها وكأن الزائر يخصها هي ، توجه للباب وفتحه بينما تابعت
هي ركضها حتى وصلت غرفة جوزاء وفتحتها دون طرق ما أن
سمعت صوتها وعمتها في الداخل وقد سكتتا ونظرتا لها باستغراب
من طريقة دخولها التي لم يعرفوها عنها سابقا ومن دخولها غرفة
جوزاء تحديدا ! أمسكت يدها وسحبتها معها قائلة " عمتي
الحقي بنا عند بهو المنزل "
وخرجت وتلك تتبعها بخطوات مسرعة لتدرك خطواتها الراكضة
حتى وقفت بها حيث يقف شقيقها عند باب المنزل المفتوح وقد علت
نبضاتها بشكل جنوني حين قال محدثا أحدهم في الخارج
" ادخلا هيا والدتكما هنا في الداخل "
لم يستطع عقلها استيعاب ما قال ! فمن هنا تكون والدة غيرها وعمتها
وعمتها لها ابن وليس اثنان ! شعرت بهوان ساقيها ولم تعودا تحملانها
ونظراتها معلقة بالباب وقد غشت الدموع رؤيتها تخشى أن تكون مخطئة
أنها فهمت أمرا لا وجود له فمن هذا الذي قد يأتي بهما لها ؟ وما أن ظهر
لها أول الداخلان الفتى ذو الإحدى عشر عاما من حمل من سماتها الكثير
عيناها لون شعرها وابتسامتها التي ظهرت على شفتيه فورا ما أن رآها
وسرعان ما وقف خلفه الفتى الآخر الذي لم يكن يكبره سوى بعام ونيف
من كانت ملامحه أخذت من والده الكثير , انهارت على ركبتيها ما أن
ركضا جهتها ومدت يديها المرتجفة لهما ودموعها تستقبلهما من قبل أن
يصلا , دموع القهر والحرمان دموع كم سكبتها على فراقهما وشوقها
الذي لم يرتوي لأعوام برؤيتهما , دموع لو حكت ما سكتت أبدا .
وما أن ارتميا في حضنها حتى ملأ المكان صوت نحيبها الموجع وهي
تضمهما لحضنها بقوة , لم تصدق يوما أن حلمها هذا سيتحول لحقيقة
أنه ستشرق عليها شمس صباح ترى فيها ابنيها ولا حتى بعد توحيد
البلاد , كم كبرا وكم تغيرا بحجم ما حرمت من رؤية ذلك أمامها وبقدر
ما دعت الله أن يجمعها بهما ولو ليوم واحد , كانت تمسك وجه أحدهما
وتقبله في كل مكان فيه لتتركه وتمسك الآخر ثم تعود وتدسهما في
حضنها وكأنه حلم تخشى الاستيقاظ منه أو أن يسرق منها , كان
مشهدا لن ينساه أهل ذاك المنزل ما عاشوا , الواقفة فوقها تبكي معها
وكأنها هي وعمتها التي وقفت خلفها لم تتوقف عن مسح دموعها
بينما الواقف عند الباب حتى الآن قد رفع رأسه للأعلى وهمس
مغمضا عينيه " حمدا لك يا رب "
فلطالما كان وجع شقيقته سكين في قلبه عجز عن نزعه أو مداواته
جلست تلك معهم على الأرض وحضنتها وابنيها بذراعيها تبكي كبكائهم
ثلاثتهم فهي من عاشت في عائلة ليست عائلتها عاشت محرومة من أهلها
ومن معرفتهم وتعلم جيدا معنى الفقد بعدما فقدت أحد أعز الناس على قلبها
ولن تراه , بعدما ودعت بالأمس والدها الذي رباها كما استقبلته وليست تعلم
متى ستراه مجددا وإن كانت ستجمعها الحياة به من جديد أم لا , تقدر شعور
الأم وإن لم تجربه ولا يمكنها أن تتصور أن تكون في مكانها ولا تفقد عقلها
من أعوام , اقترب الواقف هناك منهم ونزل عندهم مستندا على قدميه
ومسح على ظهر شقيقته قائلا " أقر الله عينك برؤيتهما يا جوزاء
سامحيني يا شقيقتي عجزت أنا وفعلها لك شراع صنوان اليوم "
ابتعدت مبعدة لهما عن حضنها وارتمت في حضنه فضمها بقوة وقبل
رأسها على كلماتها المختلطة ببكائها قائلة " لا حرمني الله منك يا
تاج رأسي وعزوتي , أعلم أنك سعيت جهدك وأعلم كم هو
معقدة هذا الأمر ومستحيل "
ثم نظرت للجالسة بجانبها في الطرف الآخر تمسح دموعها التي
ترفض التوقف وحضنتها بقوة في أول بادرة تقارب بينهما وفي أول
مرة تعاملها فيها برقة تساوي رقتها , قالت بنحيب ندمت فيه على كل
يوم كرهتها وآذتها فيه " لن أنسى لك هذا ما حييت يا ابنة شراع يا
زوجة شقيقي , لقد علمتني درسا لن أنساه في نبل الأخلاق "
مسحت على ظهرها قائلة بحزن " لا حرمك الله رؤيتهما يا جوزاء
لو كان الأمر بيدي لجمعتك بهم أبد الدهر وكل ما استطاع والدي
الحصول عليه هو تركهم لديك أسبوعا كل شهرين ولولا وقفة
والدهما في الأمر لكان أصعب بكثير "
ابتعدت عنها وعادت لضمهما لحضنها وللبكاء بوجع لا تعلم من
فرحتها بأن يكونا معها أسبوعا كاملا وإن كان مرة في العام وليس
لستة أسابيع فيه أم من حسرتها على الرجل الذي عاشت معه أربعة
أعوام لم ترى منه يوما شيئا سيئا تذكره له , من راعاها وعاملها
كواحدة من قبيلته كزوجة كأنثى كملكة على قلبه ومنزله , من يوم
طلقها سالت دمعته يطلب منها الصفح عنه وأنه كان مجبرا حاله
حال غيره , تحدثت التي نسيها الجميع في الخلف مادة يديها نحوهم
قائلة " وأنا ما نصيبي من كل هذا ؟ تعاليا يا قلب جدتكما تعاليا
أشبع منكما أيضا "
*
*
سار ورأسه في الأسفل لازال صوت بكاء السائرة بجانبه يصله رغم
كتمها له بعدما حقق السائر في الطرف الآخر منها ما سعي له وخطط
واجتمعوا على عقد ذاك الزواج الذي لم يكن ليقبله عقل ولا منطق
تحت حجة مدارة مصيبة ستدفع الطفلة ثمنها مستقبلا , وطبعا على
المذنب أن يتحمل العواقب وبذلك ستكون حجة عمها أن المال إن كبرا
سيأخذه ابن كنعان هازان ذاك لذلك هو عند عمها أفضل وأحوط
وأضمن , بل وسلبه حتى قطعة أرض والدته مهرا لها , مهر !! كلمة
لم يكن يعلم أنه سيرتبط بها في هكذا سن وبطريقة بشعة جشعة بل
وزوجة طفلة لازالت تركض في الشارع !! لو كانت بلادهم موحدة
يحكمها قانون ما كانوا استطاعوا فعل ما فعلوه , جملة تكررت في عقله
طوال تلك الطريق فلا يوجد قانون يزوج طفلة لم تتجاوز الرابعة من
عمرها بعد من فتى لم تظهر عليه ولا علامات البلوغ , ضربة على
كتفها من السائر بجانبها هناك
كادت توقعها وهو يصرخ بها " توقفي عن النحيب غبية منذ صغرك "
أمسك الآخر بيدها وسحبها في جانبه ليكون هو بينهما ونظر له فوقه
نظرة كالنار فهي أصبحت زوجته كما حكموا هم وجاروا وأخذ منها
ما يريد فلن يسمح له بضربها أكثر , ضحكة ساخرة خرجت منه ردا
على نظرته تلك وقال وقد تقدمهما " هنيئا لك بها يا فضلة الهازان
واحمد ربك ألف مرة أن زوجناك من الحالك , محظوظ كوالدك "
وسار أمامهما فقال ذاك ويده تقبض على يدها بقوة ونظره على
قفا السائر أمامهما " جدتها من الهازان "
التفت له بنصف وجهه وعلق بذات سخريته اللاذعة " ولم تأخذ منها
سوى لون شعرها البني المقزز وغبائها وجبنها ككل الهازان طبعا "
وسار متابعا طريقه ضاحكا بسخرية وانتصار للمنزل الذي لم يكن
يبعد كثيرا عن المكان الذي كانوا فيه وما أن دخلا المنزل خلفه
حتى التفت لهما وقال " واحمدا الله أن تجدا هنا المأوى والطعام
ويوم تكبر قليلا تخرج بها من هنا يا أم زوج "
وانطلقت ضحكته عاليه مقهقها فشد على أسنانه غيظا ينظر له بكره
إن وزع على العالم أجمع لفاض , صرخت حينها الصامتة طوال
الطريق وشعرها لازال مشعتا بسبب شده له ووجهها قد جفت
الدماء عليه " كاذب أنت كذبت عليهم "
لطمه من يده الضخمة على وجهها أسكتت كلماتها وأوقعتها أرضا
ولم تكن الأخيرة فقد انهال عليها ضربا متجاهلا سنها وبكائها العالي
المستنجد ولم تفلح جميع محاولات الذي كان يحاول أن يبعدها عنه
وهو يصرخ ويسب فيها فتوجه فورا لحجر كبير في ذاك الفناء ورفعه
بخفة بيدين اشتد عودهما بسبب كل ذاك التدريب وهوى به على رأسه
بقوة وغضب ليترنح ذاك الجسد قبل أن يتهاوى أرضا والدماء تنزف
من رأسه وهو ينظر له بصدمة وتلك تمسك فمها تنظر لوجهه الشاحب
بسبب صدمته قبل أن يرمي ذاك الحجر على صراخها الباكي
" قتلته يا تيم , أهرب بسرعة أهرب من هنا الآن "
ولم يشعر بنفسه إلا وساقاه تأخذانه للبعيد , للبعيد عن ذاك الجحيم
والمشهد ومنظر ذاك الرجل لا يفارق عينيه الباكية فما أشد ما يمر
ومر به فتى في عمره ووضعه وهو ينتهي للهاوية في كل مرة
*
*
اقتربت خلسة من ذاك المجلس في الهواء الطلق حيث يفضل والدها
أن يجلس وقت الظهيرة وما بعدها حيث دفئ الشمس في مثل هذا
الوقت من العام وكان في استقبال رجلين علمت فورا من يكونا من
لباسهما العسكري ( رجال ابن شاهين ) بل ومن أهم رجاله وأقربهم
اقتربت أكثر حتى وصل لمسمعها صوت أحدهما قائلا " الزعيم مطر
أرسلنا للبحث عنه وتركنا قراكم كآخر خياراتنا كي لا تضنوا أنكم
المتهم بكل شيء , إن كان لديكم نريده حيا وإن لم تروه فأبلغونا
إن علمتم أي معلومات عنه "
وضعت يدها على فمها من الصدمة وهمست " جاءوا يبحثون
عنه ! مصيبة "
قال والدها " اتركوني أتصل بالزعيم مطر وأرى الأمر معه "
قال أحدهما " ونحن مرسلان منه ألا تثق بما نقول ؟ "
قال من فوره " حاشا أن تكذبا وأنتم رجاله لكن كما قلتما قبل قليل
وضعنا حساس وحديثي معه يكون أفضل "
وقفا حينها وقال أحدهما " لا أعتقد أنك تستطيع الاتصال به اليوم
فلديه اجتماع طارئ خارج البلاد لا يعرف أحدا كم سيطول لكننا
سنبلغه بما قلت وقد يتصل هو بك فيبدوا ثمة معلومات لديك لا
تود قولها إلا له "
*
*
أبعد نظره عن المرآة وربطة عنقه التي كان يعدلها عليها للواقفة
بجانبه عابسة الملامح تنظر له بعتب فضحك وعاد بنظره هناك
يرتب ياقة قميصه الناصع البياض وقال " هل ثمة من تودع
زوجها المسافر بعبوسها هكذا ؟ "
رمت له السترة السوداء الفاخرة التي كانت تمسكه قائلة بضيق
" لأنك مخادع وضحكت عليا ككل مرة "
لبس السترة وأغلق أزرارها ثم توجه جهة معطفه الكشميري حمله
وتوجه ناحيتها , وقف أمامها وأبعد شعرها عن طرف خدها وقبله
هامسا " كان الأمر مستعجلا وأنتي تعلمين ذلك جيدا "
وعاد لتقبيله ثانية وثالثة وأصابعه تتخلل نعومة شعرها الكثيف
فابتدعت عنه مبعدة يده وتمتمت بعبوس ناظرة لعينيه بأسى
" محتال وجميعكم الرجال هكذا "
ثم عدت بأصابعها ونظرها عليها قائلة بضيق " وعدتني برحلة
لبينبان وللبحر هناك , بأن تأخذني في الغد لأتعرف على الصغيرة
من خماصة وبزيارة خالة والدتك وبأن تقضي هذا الأسبوع معنا هنا
ولن تذهب أبدا ولا للحدود , كلها أمور كان يفترض أن تفعلها وطارت
جميعها أدراج الرياح ولم تبقى حتى أنت , حتى ابنا شقيقتك لم
يريانك سوى تلك اللمحة حين وصلا "
توجه نحوها مجددا أمسك وجهها وقبلها بقوة وهمس من بين أسنانه
" لو فقط تتعلم هذه الشفتين أن تبقى رقيقة دائما قبل أن آكلها "
مدت شفتيها بعبوس طفولي فضحك وقال مغادرا جهة الباب بعدما
سحب حقيبته معه " لم يكن الأمر مخططا له يا غسق وأنتي
رأيت بنفسك أنه كان طارئا "
وخرج من الغرفة يسمع خطواتها الغاضبة تتبعه فقال نازلا السلالم
وهي خلفه " قولي ترجع لي سالما على الأقل يا منكدة "
لوحت بيدها تنظر لقفاه وقالت بضيق وكلماتها تتبع بعضها " أجل معك
حق أنا التي أعرف كيف أنكد عليك بينما أنت السبب في كل هذا
وتعلم ذلك جيدا لكن لا حل أمامك سوى أن ترمي باللوم علي "
لم يعلق وتابع نزوله مسرعا وقد لحقته منادية بضيق " مطر "
ولا مجيب فوقفت منادية له مجددا ما أن وصلت للأسفل
" مـــــــطر "
لكنه خرج من الباب ولم يلتفت لها فنظرت للجالسة هناك على
كرسيها تنظر لهما مبتسمة وقالت من بعيد " يا سعادتي بأن
رأيت زوجة لمطر تتبعه في سلالمه حتى يخرج "
تأففت ضاربة قدمها بالأرض واتجهت نحوها قائلة بحنق " ما
الذي يسعد في الأمر عمتي ؟ لقد خدعني ابن شقيقك وسيرى "
ضحكت ليس من كلامها بل من اقتراب ذاك من خلفها وهي تتابع
قائلة بذات حنقها " مخاذع وكاذب , مستعجل كثيرا للذهاب حيث
نــ... "
وكتمت كلماتها اليد الكبيرة التي أغلقت فمها وقد لف ذراعه حول رأسها
ليصل له وسار بها جهة عمته تحاول إبعاد يده دون جدوى وتتحدث
بصوت مكتوم غير مفهومة من تحت أصابعه حتى وصل عند التي
قالت ضاحكة " يرضيك أن تسافر وهي غاضبة منك ؟ "
نظر لوجهها ونظرتها الحانقة وكفه لازال على فمها وقال مبتسما
" أجل لأنها أجمل حين تغضب "
فأبعدت يده بقوة وغادرت عائدة جهة السلالم قائلة بغيظ
" وأنت أجمل وأنت غاضب وقررت أن أراك أجمل دائما "
وصعدت السلالم تتمتم بغضب فنظرت له عمته ونظره لازال معلقا
بها وقالت مبتسمة " لو كنت راضيتها بكلمتين قبل ذهابك "
نظر لها وقال " سترضى ما أن أرجع أنتي تعرفي رقة قلبها أكثر
مني , ما هي أخبار جوزاء لا أراك معها ولا أراها معك "
قالت بحنان " ناما ابنيها من تعبهما بسبب الرحلة ورفضت
أن تبتعد عنهما ولا دقيقة حتى وهما نائمان "
هز رأسه بحسنا مبتسما فقالت ونظرها معلق به " اصعد لها
وطيب خاطرها بكلمتين قبل ذهابك يا مطر لا تضع كل
اعتمادك على طبعها المسامح وكن عادلا "
قبل رأسها وقال " سأراضيها وأفعل ما تريد ما أن ارجع فكلامي
معها الآن لن يزيد الأمر إلا سوءا , استودعتكم الله "
وغادر جهة الباب متابعا " لن أوصيكم عمتي لتكن في أعينكم "
فتمتمت هامسة ونظرها معلق بخروجه وخطواته الثابتة الواثقة
" ليحفظك الله يا قلب عمتك ويحفظها لك "
وخرج وركب سيارته وغادر على نظرات أخرى محبة ودعوات
أحاطته من الواقفة قرب نافذة الغرفة في الأعلى تراقب سيارته حتى
اختفت وجل ما كان يحتاجه وقتها دعواتهما تلك في سفره الذي ما كان
مخططا له ولم يتوقعه أبدا , وما كان ثمة شيء قد يخرجه من حوران
بل ومن المنزل ذاك اليوم لو لم يكن بأهميته تلك , اجتماع طارئ
تحت مسمى ( التفاهم مع ابن شاهين في وضع الهازان )
عنوان زائف لاجتماع سري مستعجل لدول معينة مسماه الحقيقي
( التفاهم على طريقة لتسليم باقي الهازان سلما لمطر شاهين
وإخراج ابن راكان ومن حوله من البلاد وإن مرغما )
وكانت الرحلة للحدود أقصر مما تصور رغم طولها فقد قضاها بين
اتصالاته وأحاديثه مع مرافقيه متفائلا بما سيجري في ذاك الاجتماع
السري وكل اتصالاته تلك كانت تبشر بأن الأمور تسير في اتجاهها
السليم , خرجوا من البلاد ليستقبلهم الوفد الذي أوصلهم فورا حيث
الطائرة الخاصة التي كانت في انتظاره ليصل لبلاد ذاك الاجتماع
وكانت تلك الرحلة تكاد تكون بطول سابقتها رغم أنها كانت في طائرة
في الجو ليجدوا أنفسهم في تلك البلاد وتلك العاصمة ( لندن ) وفي
مبنى الاجتماعات بعد ساعتين من وصولهم قضى أغلبها في
اجتماعات قصيرة مع بعض المسئولين هناك .
دنى منه وهمس " ثمةرجال من صنوان في المبنى لم
يذكروا لنا ذلك !! "
عدل وقفته ونظر حوله وهمس " سندخل ثم نرى ما يكون هذا "
مر النادل بكؤوس الشراب في الصينية التي يحملها على راحة يده
وتعثرت قدماه أمامه لينسكب ذاك الشراب وسقطت الكؤوس وقد لوثت
قطرات كثيرة منه بنطلون بذلته فاستقام ذاك النادل يعتذر بخجل فأشار
له بيده أن يغادر وتحرك من هناك ليتحرك مرافقيه خلفه فورا فأشار
بيده موقفا لهم وتابع طريقه وتوجه حيث دورات المياه في ذاك المبنى
المحاط والمحصن أمنيا بحراسة مشددة , سلك الممر ووقف مكانه
ما أن عبره لتلك الردهة وما أن ظهر ذاك الشاب أمامه ووقف في
طريقه قاصدا فنظر له نظرة شاملة فهو يعرف هذا الوجه جيدا
( ابن شراع صنوان الأكبر ويده اليمنى في الداخل , من تواترت
الأخبار عن هجره لمنزل والده من أشهر والسبب مجهول )
عاد بنظره لوجهه ثم جال به في السقف وغضن جبينه مفكرا في
السبب الذي جعله يخرج له ويوقفه هنا تحديدا ؟ وفكر سريعا أنه لا
توجد مراقبة هنا وعاد وفكر في ذاك النادل واصطدامه به !! وخمن
أمكانية أن يكون صداما متعمدا ليكون في هذا المكان تحديدا ؟! عاد
بنظره لوجه الواقف أمامه , الوجه الذي حملت ملامحه كل أنواع
الحقد والكره وقد قال بجمود " هل سأحتاج لقطع كل هذه المسافة
لأقابلك وجها لوجه يا ابن شاهين ؟ "
عاد نظره لتقييمه من وجهه لقدميه صعودا لوجهه مجددا وقال
ببرود " أعتقد أني لم أهرب منك وأنه لا شيء لك عندي يجعلك
تتعب نفسك وتلاحقني "
علت ابتسامة ساخرة شفتا الواقف أمامه وقال وقد أدخل يده في
جيب بنطلونه " بلى لدي عندك شيء بل وشيء مهم جدا "
وتابع وابتسامته تلك تتحول للقهر والمرارة " خطيبتي وحبيبتي
التي كان زواجي منها وقت سرقتها أنت لتفسده علينا "
المخرج ~
بقلم الغالية : ام الانس
كل شيء يحول بيني وبينك
بيتنا بلاد واوطان ظننا انها تغرقنا
والخوف من الحب يشتتنا يبعثرنا
أخشى آلام الحب الذي درسنا
فلاحظي قيس بليلى ولاسعدا
ولا انا منذ دق قلبي لرؤياك هدءا
أحبك وكل شيء يحول بيني وبينك
أخاف الحب واوجاعه
أخاف الشوق ونيرانه
أخاف الحنين ولوعاته
كل شيء يحول بيني وبينك
انا لست أكمل البشر
قد يشعرني الفراق بالقهر
وأحيانا أخشى أن أقول أحكي عن الحب باللجهر
لكن أتمنى أن يعم السلام وتسقط راء الحرب
ويبقى الحب بلا اوجاع ولا أحزان مدى العمر
#خربشاتي بقلمي # كل الشكر والتقدير لك ميشو يامبدعة
~~~~~~~~
بقلم الغالية : عبق حروفي
أتتجرأ ؟! ..
إذا ضع عينگ بعيني ..
وانتظر ما سيأتي ..
أتتجرأ ؟! ..
إذا ابعد الإبتسامة ..
وتحدى بضرامة ..
أتتجرأ ؟! ..
إذا اشعل النار ..
وتحمل الأضرار ..
أتتجرأ ؟! ..
إذا تلحف بكفني ..
واسبقني لضريحي ..
أتتجرأ ؟! ..
إذا كُل العلقم ..
و تجرع السقم ..
أتتجرأ ؟! ..
إذا دع العناد ..
فجسورك ستهد كالرماد ..
أتتجرأ ؟! ..
إذا اعلن الحرب ..
وتسلح بالحب ..
نهاية الفصل ... موعدنا القادم مساء الجمعة إن شاء الله