*
*
دخل المقر الشبه خالي الذي أصبحت حركة الجنود تدب فيه شيئا
فشيئا بعد دنو الأوضاع للاستقرار في الحدود الجديدة , تنقل بين
مبانيه يبحث عن الغائبان عنه منذ قرابة الأسبوعين وكأن الجميع
متفق على الاختفاء من حياته , والدته عمير وحتى الطبيب عيادته
خالية بعدما نقلوا جميع الأطباء جهة الجبهات وأصبح يرى بعدا
جديدا في عالمه وهوا الفقد , فقد كل ما بين يديه في لحظة ولم
تبقى له سوى ماريه التي لا يعلم متى ستختفي هي أيضا ليموت
وحيدا في تلك الغرفة ولا يدري عنه أحد , عاد أدراجه جهة باب
المقر الواسع ليعود من حيث أتى بعدما يئس منهما ثم استدار فجأة
حين سمع صوتا يعرفه جيدا ناداه من بعيد , نقل نظره باحثا في كل
مكان وابتسم ابتسامة واسعة صادقة كانت الأولى منذ وفاة والدته
وركض جهة الذي كان يقف عند أحد أبواب مباني المقر حتى
وصل عنده وقال " عمير أين ذهبت ؟ انتظرتك كثيرا حتى
ضننت أنك لن ترجع "
لعبت أصابعه بالشعر الكث الناعم للواقف تحته وقال مبتسما
" كنت في مهمة عاجلة وما كنت سأتركك أبدا وها قد عدت "
قال بتفاؤل " حقا لن تتركني ؟ "
هز رأسه بلا وقال ضاحكا " إلا إن تركتني أنت طبعا "
قال تيم من فوره " لن أتركك ولن أترك تدريبنا لا أحد
لي غيرك "
نظر له باستغراب وقال " ما معنى كلامك هذا وأين كنت لم
تأتي للتدريب ليومين قبل أن أغادر "
نظر للساحة بعيدا ثم نظر له وقال " هل سنتدرب اليوم ؟ "
ضحك ذاك وقال " أدفع كل ما أملك وأدخل هذا الرأس
وأعلم ما تخبئ فيه "
ثم تابع وهما يسيران معا " ها أخبرني الآن ألم تغير رأيك في
طموحك بشأن المستقبل "
هز رأسه بلا وقال بحزم ناظرا للأرض تحته " بل بت أكثر
إصرارا عليه , لا أريد أن أكبر أحتاج لأي أحد أريد أن أكون
نفسي أن لا أمد يدي طلبا لمساعدة أي كان "
وقف والتفت جهته موقفا له وأمسك كتفيه بقوة وقال بجدية ناظرا
لعينيه السوداء الحادة " تيم عليك أن تعلم أمرا مهما , مهنتنا هذه
ليست خطيرة فقط هي ستأخذك كلك يا تيم قد تخسر الكثير من
أجلها حين تكبر وتمتهنها , قد تخسر أناسا تحبهم بشدة لأنك لن
تستطيع أن تكون واضحا وصادقا معهم بشأن عملك السري
المبهم الغريب هل تفهمني ؟ "
هز رأسه برفض وقال " فهمت أو لم أفهم لا يعنيني سأتدرب
وأتدرب وأكبر وأكون تيم شاهر كنعان لا يناديني أحد
بقريب فلان ولن أكون تابعا لأحد "
*
*
فتحت الباب وشهقت من رؤية الذي أمامها ثم أمسكت وجهه
بيديها قائلة بصدمة " رماح !! "
نظر حوله وقال " نعم رماح أين هو والدي ؟ "
نزلت دموعها رغما عنها وقالت بشهقة بكاء " أين اختفيت يا
رماح هل ينقص والدك نكبات ؟ ما بكم تفعلون به كل هذا ؟ "
تحرك من هناك داخلا ولم يعلق بشيء فتبعته قائلة " رعد ذهب
في إثرك من خمسة أيام تقريبا هل هو من وجدك "
التفت لها وقال مستغربا " ذهب في إثري أين ؟ "
أبعدت يديها عن فمها وقالت بصدمة " ألم يجدك ؟ ألم
يخرجك هو من هناك ! "
أمسك كتفيها وقال بحزم " أخرجني من أين عمتي وأين ذهب ؟ "
قالت بصوت مرتجف بالكاد خرج هامسا " للحالك للحدود ظننا .... "
قاطعها هازا لها وقد صرخ بحدة " ومن أخبره أني داخل الحدود
من قال ذلك ؟ "
ضربت صدرها بكفها وقالت " وأين كنت أين اختفيت إذا ؟ "
هز رأسه برفض قوي ومرر أصابع يديه في شعره وقال بصدمة
" منذ خمسة أيام داخل الحدود هل جننتم أبناء شراع ؟ ألم يكفيكم
واحد مات هناك تأكل الناس لحمه حتى اليوم "
صرخت فيه بعنف " قولوها لأنفسكم يا أبناء شراع , من الذي
أعطى لحومكم للناس غيركم ؟ آخر ما وصلنا عنك وجبران أنكما
أشهرتما السلاح في وجه بعضكما ثم اختفيتما داخل خط الحدود ولم
ترجعا ليعود جبران وتختفي أنت ماذا كنت ستتوقع من رعد أن
يفعل ؟ "
صرب صدغيه براحتيه بقوة صارخا " لماذا يفعلها حتى إن كنت
فعلا ضعت هناك , ما به رعد العاقل الرزين الذي لم يتشاجر
حتى مع أحد طوال حياته يتهور هكذا "
" رماح أين كنت ؟ "
التفت فورا لجسد والده الذي ظهر من خلف عمود البهو الواسع يمسك
عصا سوداء برأس مذهب في يده يستند عليها وملامحه لازال يشوبها
بعض الشحوب وإن كان تماثل للشفاء تقريبا , قال بضياع " كنت
أراقب جبران دون علمه لذلك مثلت الاختفاء كي لا يشك بأمري
وأغلقت هاتفي , كان يحوم حول الحدود وهدد بأن يقتل ابن شاهين
أو يدمر حياته وغسق وكنت سأمنعه إن أقدم على ذلك لكنه لم يجتز
خط الحدود ولم أرجع حتى اطمأننت أنه أبعد الفكرة عن رأسه حاليا "
صوت نقر العصا على الأرضية وحده كان جواب شراع وهوا يقترب
منهما حتى وقف أمامه ودوى صوت تلك الصفعة المرتفعة مختلطا
بشهقة الواقفة بينهما ونظرات الصدمة على وجه رماح مركزة على
عيني والده الناظرة له بغضب وقد قال ببرود يعاكس ملامحه
الغاضبة المشدودة " إن حدث لرعد شيء فسيكون بسببك أنت
والآخر ذاك أنا بريء منه لا هو ابني ولا أعترف به وقسما إن
خدشت رصاصته جسد زوج ابنتي أن أهدر دمه في صنوان "
رفع رماح يده لخده الذي ظهر عليه أثر الأصابع من بين شعيرات
لحيته الخفيفة وقال بصدمة " تضربني يا أبي لأني خفت عليها
وعلى صنوان إن تهور جبران وقتله ! "
صرخ فيه شراع كاسرا ذاك الجبل الجليدي الذي تمسك به لبرهة
" ألم يفكر عقلك الصغير هذا ما سيحدث حين سنضن أنك اختفيت ؟
ألم تفكر بأنك لن تحمي ابن شاهين ولن تنقد حياة غسق ولن ترد
جبران عن تهوره بل ستفقدنا في ابن آخر خلف الحدود "
أبعد رماح يده عن وجهه بعنف وقال بضيق " كنت منعته
كنت عاملته باستنقاص مثلي الآن "
صرخ فيه مجددا " أمنعه كيف وكل من رآك قال أنك دخلت الحدود ؟
أمنعه كيف ودموعه على شقيقه تتقاطر يترجاني أن أتركه يذهب كي
لا نخسر غيره ؟ أمنعه لماذا يا ابن شراع وهو طلب إذني وموافقتي
ليذهب أو لن يفعلها مهما حدث "
دار رماح من فوره مغادرا فأوقفه بحزم " إلي أين تنوي الذهاب ؟ "
وقف عند الباب وقال ناظر له بنصف وجهه " أبحث عنه طبعا "
ضرب بعصاه الأرض بقوة قائلا بأمر " ارجع حالا هل جننت تدخل
أنت ليخرج هوا ثم يرجع لك ؟ لا تغادر المنزل ولا للحدود حتى ينتهي
ابن شاهين من حربه جهة بطاح ثم نرى كيف يمكنه إخراجه لنا
كسرتم ظهري يا أبناء شراع وأنزلتموني أمامه يا من ظننتكم
رجالا شددت بكم ظهري "
ثم غادر وعينا ذاك تراقبانه بنظرة كلها ألم وانكسار ثم تحرك من
هناك جهة غرفته هو أيضا تاركان خلفهما التي ضربت كفيها
ببعض متمتمة " ويل قلبي عليك يا شراع , ويل قلبي
عليك وعليهم "
*
*
نزل من السيارة وأغلق بابها يثبت مسدسه جيدا في مكانه ثم فتح
الباب الخلفي أنزل سلاحه الرشاش وضعه على كتفه الأيسر ممسكا
لحزامه الجلدي بيده وضرب الباب وتحرك جهة المنزل مخرجا هاتفه
من حزام بذلته وقد أنهى ذاك الاتصال سريعا بكلمات مختصرة مارا
تحت أغصان الأشجار التي فارقتها أوراقها معلنة دنو الشتاء بتوديعها
لهم , دخل المنزل وأغلق الباب خلفه ناظرا حوله وكان السكون يعمه
تماما وكأنه آخر الليل وليس وقت مغيب الشمس , صعد السلالم فورا
حتى كان عند باب غرفته وفتحه بهدوء وما أن دخل حتى وقع نظره
على التي أغلقت باب الخزانة للتو ونظرت جهته وتشابكت نظراتهما
في حديث عينين قصير صامت حتى اتكأت برأسها على راحة يدها
التي لازالت مكانها على باب الخزانة حيث أغلقته لترتسم ابتسامة
بطيئة خفيفة على شفتيها ظهرت صادقة دافئة رغم الحزن العميق
في عينيها السوداء الواسعة وخطوط وجهها الدقيقة وتقاسيمه الفاتنة
ابتسامة قرأ فيها الكثير وفهمه , قرأ فيها صفاء داخلها , قرأ فيها
احتياجها له وقرأ فيها أكثر لومها لغيابه المفاجئ عنها وهي في
أوج احتياجها لمن تتقوى به , رفعت يدها الأخرى ومسحت بظهر
أناملها برفق على وجنتها المتوردة قبل أن تتوجه نحوه مسرعة
ما أن فرد لها ذراعه اليمنى الحرة ولم تتوقف إلا وقد استقرت في
ذاك الحضن بين تلك الأضلع وسط ذاك الصدر العريض وقد
طوقت خصره بيديها تدفن وجهها حيث تسمع أنفاسه الهادئة
وضربات قلبه الثابتة وقد طوقها بذراعه .
يشدها لصدره بقوة مقبلا رأسها يستمع بوضوح لأنفاسها المتغيرة
ويعلم أنها تكابد وتجاهد نفسها على الصمود , كما عرفها دائما لن
تبكي إلا إن خسرت حربا ضروسا شديدة مع عينيها , تطمر حزنها
وبكائها وتدخره لساعات الليل الطويل , خرج له صوتها
الهامس ببحة " حمدا لله على سلامتك "
أبعد السلاح عن كتفه راميا له من حزامه وطوقها بذراعه الأخرى
أيضا يدفنها في حضنه أكثر وقال بهدوء " سلمك الله ... ضننت
أنك ستكونين في غرفتك في الأسفل , لم أتوقع أن أجدك هنا "
ابتعدت عنه ترتب ما تبعثر من خصلات شعرها وقد خلصها من
يديه ببطء وكأنها ترفض تركها وقالت ناظرة للأسفل تبعد
خصلات غرتها " لم أنزل لها منذ غادرت , هل كنت
تخطط للهرب مني ؟ "
خرجت منه ضحكة صغيرة وشدها لحضنه مجددا وقال مطوقا
لجسدها الصغير بذراعيه " بل كنت لأغضب منك وأكتمها في
نفسي إن وجدتك هناك لذلك لم أتوجه لها "
مسح بكفه على ظهرها بحنان وقبل رأسها وقال متكأ عليه
بذقنه " كيف أنتي الآن ؟ آسف يا غــ.... "
قاطعت كلماته بابتعادها عنه مجددا وانحنت لسلاحه ترفعه من
حزامه قائلة وهي تتوجه به للكرسي " هل أحضر لك شيئا
تأكله ما أن تستحم ؟ "
تتبع حركتها مبتسما ويعلم لما هربت من ذاك الحديث , نزع هاتفه
ومسدسه وقال يفك أزرار سترته العسكرية " لا رغبة لي في أكل
شيء بسبب كثرة القيادة لا تجعلني أجبر نفسي كما مع جوزاء "
ابتسمت بحزن وهي تعدل وقفتها وظهرها له تبعد شعرها خلف كتفيها
وكادت تضحك من حالهما ... يراعي شقيقته ولا يحب أن يرد طعامها
وإن أجبر نفسه عليه وتلك تتعب نفسها في كل مرة تضنه إن لم يطلب
الطعام وأخذته له سيرغب فيه , لكم تحار في فهم خبايا هذا الرجل وإن
لم تقترب منه كل هذا القرب ما علمت عنه شيئا , توجهت نحوه
وأخذت منه السترة وابتعدت بها قائلة وهي تفرغ ما في جيوبها
عند طاولة التزيين " لو كنت تجلس معها يا مطر ما كنت
مجبرا على تناوله ولا هي أتعبت نفسها "
خلع القميص الداخلي ناظرا لقفاها عند المرآة ولملاحها في صورتها
تنظر للأشياء التي تخرجها وترتبها هناك فتوجه نحوها وحضنها من
ظهرها ناظرا لوجهها وصورتها المقابلة له وقد رفعت نظرها لصورته
فيها وهمس ناظرا لانعكاس عينيها في المرآة " قولي كيف أنت ما حدث
معك ؟ قولي اشتقت لك وقلقت عليك ؟ تنتقديني مباشرة يا ظالمة "
ابتسمت بضحكة صغيرة خافتة وقد هربت من عينيه مسدلة رموشها
للأسفل وقالت وأناملها تلامس ذراعه العاري الملتف حول ذراعيها
" ها أنت أمامي بخير وأخبار انتصاركم هناك يعج به مجلس النساء
ألن أكون بلهاء إن سألت كل تلك الأسئلة ؟ "
ضحك وقد دفن وجهه في شعرها جهة عنقها ووزع قبلاته عليه
وعلى خدها وأذنها وهمس يشدها له أكثر " تغلبت عليا في هذه
وعليا أن أعترف بالهزيمة "
شدت أناملها على بشرة ذراعه دون شعور منها وقالت بهمس
خافت ولازال منشغلا بتوزيع قبلاته المتتالية " بما أنك
اعترفت فعليك أن تتلقى عقابا مشروطا "
ضحك وقد توقف عما كان يفعل وأدارها حتى قابلت وجهه
وأمسك وجهها بيديه قائلا بابتسامة " عقاب ومشروط أيضا !
ظالمة يا ابنة شراع "
أرخت نظرها ونظرت لكفها تمسح به برقة على عضلة صدره
العاري وهمست " كي لا تعترف مجددا ولا تعرض نفسك للهزيمة "
ضحك بخفوت وقد أمسك يدها من صدره ورفعها لشفتيه قبل باطنها
برفق ثم قال متوجها للحمام " رضيت شرط أن لا يخرجني
عقابك من المنزل ... أحتاج للراحة أسبوعا "
ودخل الحمام ساحبا بابه خلفه تراقبه بنظراتها الحزينة وقد ترقرقت
الدموع في عينيها فرفعت رأسها للأعلى تمنعها من النزول فلا
يمكنها تخيل أن تفقده أيضا , لقد جربت مرارة الفقد وتعلم أنها فيه
ستكون أعظم ولن يضاهيها إلا فقد والدها شراع , أنزلت رأسها
ومسحت عينيها بقوة مستغفرة الله بهمس ثم رفعت سترته وقميصه
الداخلي ونظرت خلفها لباب الحمام الذي لم يغلقه وصوت المياه في
الداخل فاقتربت منه ودفعته ببطء ودخلت وكما توقعت باقي ثيابه
مرمية على أرضيته , توجهت نحوها رفعتها ثم التفتت جهته وكان
موليا ظهره يسند ساعديه على الجدار لافا لهما حول بعض مرخيا
جبينه عليهما والماء ينهمر على جسده ورأسه , كانت وقفته تعبر
عن كم الإنهاك الذي يشعر به فعشرة أيام من القتال المستمر دون
توقف ولا نوم ثم أربعة أيام يسيّرون أمور مدنهم الجديدة تلك كانت
كافية بأن تفتت صخرا فكيف بجسد بشر , تحركت نحوه بخطوات
خافتة هادئة ومدت يدها تحت رذاذ الماء المندفع بقوة وغزارة
وغضنت جبينها باستهجان وهذا ما توقعته , مدت أناملها وحركت
صنبور دفع المياه وعدلت من حرارته لتعطي المياه دفئا بسيطا
يناسب الطقس الحالي ثم توجهت جهة الباب في صمتها ذاته
وحركتها الهادئة ذاتها حتى خرجت ففتح ذاك عينيه وأبعد جبينه
عن ساعديه والتفت خلفه يتأكد من أن التي كانت هنا هي فعلا !
وأثبت له ذلك اختفاء باقي ثيابه , لم يتخيل أن تفعلها ! كل ما كان
بينهما ليلة واحدة قضاها يهدئ بكائها الخافت وخوفها يطمئنها كل
حين أنه لن يؤذيها وأنها لن تتألم وقد فرت منه صباحا تتوعده
بأنها ليلة لن تتكرر , ابتسم ينفض المياه من شعره محركا أصابعه
فيه فقد زاد طوله وهو لم يعتد تركه ليصل لهذا الطول حتى يحف
أذنيه وتنزل خصلات مؤخرته على قفا عنقه , أوقف المياه التي
أصبح يشعر بها دافئة على بشرته ثم جذب المنشفة لفها حول
خصره ورمى الأخرى على كتفيه وخرج للغرفة يجفف شعره
بعشوائية بطرف تلك التي تدلت على ذراعيه ونظره على التي
ترمي ثيابه على السرير وهي تخرجها دون أن تنظر ناحيته ولا
للمكان الموجود فيه , رمت القميص الأزرق المسحب بدرجات
الرمادي قائلة " خذ ثيابك وللحمام فورا "
عض طرف شفته يمسك ضحكته وسحب ملابسه الداخلية من
فوق السرير الواسع وقال عائدا أدراجه " من يسمعك لا
يصدق أنك من دخل الحمام منذ قليل "
وصله ردها سريعا قبل أن تخطو قدمه داخل الباب " ظننتك
ممن يفضلون الاسترخاء في المياه والصابون وهم متعبون
فلا تذكرني بها كل حين "
ضحك وأغلق الباب خلفه دون أن يعلق وحين خرج للغرفة لم تكن
فيها لبس باقي ثيابه ووقف أمام المرآة وسرح شعره بمشطها , عليه
أن يقصه ما أن يخرج من المنزل لا يحب أن يكون طويلا هكذا رغم
أنه طول بسط ولم يفسد منظره مع كثافته وسواده الحالك , توجه
لخزانة أسلحته فتحها وأعاد فيها المسدس والرشاش ثم نزل على
قدميه فتح الدرج السفلي بمفتاح خاص به أخرج مجموعة أوراق
فرزها ورتبها وهو مكانه ثم وقف وأغلق الخزانة وعاد جهة
طاولة التزيين ووضعهم في أسفل أدراجها حيث لم يترك لها
سوى واحدا من بين أربعة أدراج واسعة والبقية فيها أهم الأوراق
التي لا يتركها في المكتب , أغلق الدرج لحظة دخولها للغرفة
وأستوى واقفا والتفت لها وقد توجهت نحوه ووقفت أمامه تعدل له
ياقة قميصه المثنية للداخل وقالت ونظرها عليها " أراك تحتاج
لأن ترتاح وتنام هل نؤجل العقاب أم مستعد له الآن ؟ "
ضحك وحضن وجهها بكفيه وألصق جبينه بجبينها الحركة التي يعشق
وكم اشتاق لفعلها ناظرا لعينيها المحدقة بعينيه , العينان التي كم يتمنى
أن تزول منهما لمحة الحزن التي لم يكن يراها فيهما , الحزن الذي لم
يظهر بهذا الشكل المؤلم ولا حين وجدت نفسها هنا وزوجة له دون أخذ
رأيها ولا موافقتها , حزن لن يستطيع مناقشتها فيه الآن ولا تخفيفه كي
لا يكسر اعتزازها بنفسها وكبريائها وهي تقاوم دموعها وكل ذكرى قد
تتسبب في جريانها , همس مبتسما وإبهاماه يختبران ثبات لون خديها
الزهري الغريب وكأنه يشك في كل مرة أنها حمرة صناعية
" لن يكون قاسيا أليس كذلك ؟ "
ابتسامة صغيرة ارتسمت على شفتيها الحزينة وقد رفعت كفها
ولامست به كفه المحتضنة لوجهها قائلة " بالنسبة لي شيء لا
يذكر , لديك أنت ....! "
ثم حركت كتفها برقة متابعة " قد يكون قاسيا جدا "
ضحك وقبل شفتيها قبلة صغيرة ثم أبعد يديه عن وجهها قائلا
" لديك الوقت حتى صلاة العشاء بعد ذلك لا شيء ينفع لي
سوى النوم "
نظرت للساعة الضخمة التي تتوسط أحد الجدران وقالت بعبوس
" صلاة العشاء بعد أقل من ساعة "
قال وهو يأخذ مفاتيحه ويدسها في الجيب الخلفي لبنطلونه
" كم تريدين إذا ؟ "
توجهت للطاولة أخذت هاتفه ووضعته في الدرج وأغلقته عليه على
نظراته مبتسما لما تفعل ثم أمسكت يده وسحبته منها جهة باب
الغرفة قائلة " ساعتين بعده والليل طويل ستنام حتى تشبع "
تبعها منصاعا فهو تكيف على أن يتعايش مع مقاومة جسده للتعب
والنوم والتركيز على ما حوله حتى يجد نفسه في السرير وينسلخ
حينها عن الواقع في وقت قياسي , شقت به ذاك البهو الواسع للمنزل
بعدما نزلا السلالم وهي تتوجه جهة مكان غضن جبينه فورا لرؤيته
فهو لم يزره من ....!! مدة لا يعلم كم تكون ؟ قد يكون من قبل وفاة
والده ... من قبل توليه زعامة الحالك ... لا يذكر حقا ! وقفت
عند الباب النصف مغلق والتفتت له وهمست ناظرة لعينيه
" لن تخرج من هنا إلا معي اتفقنا ؟ "
تنهد مبتسما وهمس مثلها " أوامرك
سيدتي "
دفعت الباب بهدوء وقد تركت يدها يده ودخلت لتقابلها النظرات المترقبة
للجالستين هناك حول الطاولة البيضاوية المغطاة بمفرش أبيض حريري
قد حرصوا على الاهتمام به أكثر من استخدامهم للمكان , كان الطعام
موزعا فوق نصفها حيث تجلسان من استدعتهما الخادمات بطلب منها
لتكونا هناك وتنتظرانها , كانت نظرات جوزاء المصدومة في
استقبالهما بينما ضحكت عمتهما تخبئ فمها في يدها وقالت
" كيف وافق أن يأتي معك ؟ "
كان هو من تحرك هذه المرة وسحبها من يدها معه جهة الطاولة
قائلا " هل يمكنني الجلوس دون أن آكل أم عليا مشاركتكم ؟ "
سحبت الكرسي المجاور لكرسي عمتها التي كانت تجلس عند رأس
الطاولة وجوزاء على يمينها وجلست هي على يسارها بينما سحب
هو الكرسي بجانبها وجلس على كلماتها وهي تعدل صحنه أمامه
" يمكنك أن تجبر نفسك هذه المرة أو اشرب العصير على الأقل "
ثم وقفت ودارت خلف كرسيه ورفعت طبق الأرز الكبير
قائلة " عمتي هل اسكب لك منه ؟ "
قالت تلك مبتسمة " أجل "
انتقلت جهتها من فورها وسكبت لها في صحنها ثم نظرت
للجالسة بجانبها قائلة " جوزاء هل أسكب لك ؟ "
هزت تلك لها رأسها إيجابا دون أن تتحدث وعيناها لازالت تراقبها
باستغراب حتى سكبت لها في صحنها ثم عادت للدوران حول الطاولة
لتعيده مكانه وما أن مرت خلف ظهره نظر لها فوقه قائلا
" اسكبي لي قليلا "
سكبت له فورا ووضعت الطبق مكانه وعادت للجلوس مكانها وقد
قالت عمتها ضاحكة " وسكبت للجميع أين حصتك أنتي ؟ "
رفعت قطعة لحم خروف من أحد الأطباق ووضعتها في صحنها
قائلة " سأكتفي بهذه "
قال الجالس بجانبها وهو يملأ ملعقة بالأرز " ولنا تسكبين
الأرز فقط وأنتي تأكلين اللحم ؟ "
نظرت له بعبوس طفولي وقالت " اللحم أمامك "
وتبعت تقطع جزئا منها بيدها وتمدها لفمه " أم استحليت
حصتي ؟ خذ منها "
لم يرى غيره حينها عينا جوزاء التي كادت تخرج من مكانها وهي
تنظر ليدها الممدودة أمام فمه وعمته التي كانت تمسك ضحكتها بشق
الأنفس عن الخروج وعيناها على ذات المشهد فنظر ليدها ولقطعة
اللحم بين أصابعها وفتح فمه ملتقطا لها بأسنانه التي تعمد أن يقدمها
قليلا وهو يمسكها بهم فسحبت يدها وخرج صوتها لا إراديا بسبب
تألم أصبعها " أي ... مطر !! "
فوقفت حينها جوزاء وغادرت وكأنها تبحث عن مكان تخبئ فيه
وجهها وتحركت عمتها بالكرسي قائلة بابتسامة ونظرها على
التي اتجهت للباب " انتظري خذيني معك "
وقد عادت لها تلك وأمسكت بمقبضي كرسيها وأخرجتها معها تتحدثان
عن علاجها الذي يفترض بها أن تأخذه قبل أن تتناول طعامها ونسيتاه
كليهما واختفتا خلف الباب على نظرات الجالسة على كرسيها ملتفتة
للخلف وقد نادت تمسك عبرتها " عمتي لماذا ذهبتما ؟ "
كانت ستقف في إثرهما لكن يده أوقفتها وأعادتها للجلوس قائلا
" يريدان ترك المكان لنا ليس إلا ولن ترجعا "
نظرت لعينيه وقالت والدموع تلمع في عينيها الواسعة
" لم أقصد ما فهمتاه أنا فقط ..... "
وتاهت الحرف تخشى أن تخرج عبرتها معهم إن تحدثت فما لم تستطع
شرحه والبوح به أنها اعتادت هذا في منزل والدها حيث الفتاة المدللة بين
خمسة رجال أكبرهم عاملها كطفلة مهما تقدمت سنوات عمرها وعاملته
كوالد لم تكسبه فتاة غيرها حتى طعامه يأكل نصفه من يدها , وكم كانت
تدور حول الطاولة كلها لتصل لرماح وتضع حبة الزيتون في فمه لأنهما
يتشاركان في حبه وهي تأخذ الصحن جهتها كي تأكل منه متى تريد
وما غفلت عنه أن الذي يجلس بجوارها الآن هو أكثر من كان يفهمها
ويعلم أن تصرفها لم يكن سوى حنينا لتلك الأجواء والعائلة ... غسق
مدللة منزل شراع صنوان التي تغلبت عليها الآن , والسبب كان ذاك
الحزن العميق لفقدها لشقيقها , مسح بيده على طرف وجهها مبعدا
شعرها عنه وهي تنزل رأسها للأسفل فرفعت نظرها الكئيب به
وأبعدت شفتيها لتتحدث فسبقها قائلا بابتسامة " محضوض هو
شراع بابنة تطعمه بنفسها "
قفزت دمعتها من عينيها فجأة فخبأت وجهها سريعا في كتفه وقد
حوط كتفيها بذراعه مساحا بكفه الآخر على شعرها وقال " لست
بحاجة للشرح يا غسق أنا أفهمك وهما اعتقدتا فقط أنه من
حقنا أن نكون وحدنا هنا "
ابتعدت عنه ووقفت وقد مسحت عينيها سريعا تخفي بقايا آثار
دمعتها تلك فوقف أيضا حامدا لله بهمس ونظر للتي سبقته جهة
الباب قائلة " لم ينتهي العقاب بعد وحين ترجع من المسجد الحق
بنا في غرفة عمتي "
لم يعلق وقد راقب مبتسما خروجها وآخر خصلة من شعرها الحريري
الطويل تغادر خلفها ثم نظر للساعة في معصمه وكان بالفعل لم يتبقى
على وقت الصلاة الكثير فغادر من هناك وصعد السلالم على صوت
الأذان واختار أن يصلي في غرفته فإن خرج للمسجد سيوقفه مئة
شخص وسيجد نفسه منغمسا في مشاكل ومسائل كثيرة وسيحتاج
لأكثر من ساعة ليرجع للمنزل وستغضب لتأخره , ثم عظامه لم
تعد تتحمل الوقوف ولا لخمس دقائق أخرى , أنهى فرضه والنافلة
وأوتر أيضا وجلس حتى أتمتم تسبيح ما بعد الصلاة ثم وقف طوى
السجادة التي كان يستنشق عطرها فيها كلما سجد وأعادها مكانها
حيث لباس الصلاة الخاص بها وغادر جهة الباب ليوقفه مكانه
صوت رنين هاتفه في الدرج , كان سيتوجه له وتذكر أنها أبعدته
فتجاهله وخرج من الغرفة ساحبا بابها خلفه ليختفي صوت رنينه
المرتفع خلفه ما أن أغلقه ونزل السلالم وتوجه من فوره لغرفة
عمته فأمامه ساعتين أخريين كما اشترطت عليه ولن يمانع أو يماطل
فهو يعطي غيرهم أكثر من ذلك الوقت بكثير يعلم ذلك ويعيه جيدا
لكن وقته ليس ملكه ولم يعتد على أحاديث النساء ولا يعلم حتى فيما
يتحدثن إن اجتمعن , فتح باب الغرفة بهدوء وظهرن له من خلفه
حيث كانت جوزاء وعمته يتناقشان حول إحدى علب أدويتها وأنها
أنهت منه اثنتين وهذه الثالثة خلال الشهر المنصرم وعمته تصر
أنها ثاني علبة بينما تلك منشغلة بعلبة أخرى تقرأ ما كتب عليها
رفعن نظرهن به ما أن أغلق الباب خلفه وقال بابتسامة مائلة
" توقفا عن النظر لي هكذا وكأني مخلوق فضائي "
وتابع ونظره على الجالسة مقابلا لهما وهما المعنيتان بحديثه
" هل يمكنني مشاركتكم هذه الجلسة أم أنصرف من غير طرد "
وضعت غسق العلبة من يدها وتحدثت بما أن الطرفان المعنيان لم
تتخطيا الصدمة بعد وتعلم أنه قد يستغل الوضع ليهرب " بالطبع
يمكنك مشاركتنا دون سؤال "
اقترب وجلس بجوارها على الأريكة لا يفصله عنها شيء وقالت
عمته مبتسمة تنقل نظرها بينهما " ما هذا المساء العائلي السعيد ؟ "
بينما اكتفت جوزاء بالصمت فهي وإن أصبحت لا تعاملها بنفور
كالسابق لازال ذاك الحاجز لم يتلاشى بعد , قالت غسق مبتسمة
وقد نقلت نظرها منه لهما " أجل ما أجمل هذه الكلمة لا ينقصنا
سوى عمي صقر ليته كان هنا الليلة "
اتكأ مطر لظهر الأريكة خلفه فاردا ذراعها عليها من خلف شعرها
وقال " لو كان هنا ما وجد أحد منكم مجالا ليقول شيئا "
ضحكت نصيرة بينما وكزته غسق بمرفقها قائلة بحزن
" لا أغابه الله عنا وحفظه لكم "
تحدثت جوزاء هذه المرة ناظرة لشقيقها " مطر بما أنك وجدت
وقتا لتجلس معنا عليا أن أوصل لك رسالة إحدى النساء فهي
كلما أتت هنا سألتني إن أخبرتك "
أومأ لها برأسه لتتابع دون تعليق وحدث ما أرادته غسق حقا فلم يكن
ذاك الطلب الأول ولا المشكلة الأولى التي يناقشانها معه مما قد تم
مناقشته في مجلسهم وحتى مسألة دور تحفيظ القرآن للأميين وكبار
السن التي شرح سبب تقصيرهم فيها وما اقترحوا عليه وتناقشوا فيه
من سنوات والأسباب التي منعتهم من توفيرها ... المباني عدد حافظي
القرآن وتوزيعهم على المدارس وحتى أنه تناقش والمتخصصين في
توفير فصول لهم في المدارس الابتدائية وثمة مشاكل كثيرة عرقلت
ذلك , واكتشفت أنها لم تكن أول من عرض عليه الأمر وأنه ليس
كما توقعت تجاهله ولم يفكر فيه , وكل مسألة تطرحانها يكون لديه
ذات الإجابات كم هائل من التعقيدات التي يحاول شرح بعضها فقط
لهما مختصرا ليتأكد لهما أن مساهمة النساء فيها مستحيلة وأنه فكر
في كل ذلك ولم يهمله سابقا وليس كما تضن وظنوا , وكانت تكتفي
هي بالاستماع فقط لأنهما أدرى بمشاكلهم ومدنهم وإن كانت على
إلمام بأغلب تلك الأمور المتداولة في مجلسهم الشبه يومي مع
اختلاف الحاضرات فيه , غابت بنظرها للأرض في شرود حين
رأت أنهم لم يستفيدوا من تلك الجلسة شيئا سوى إرهاقه في الشرح
والحديث دون نتائج عدا أنهما فهمتا أسبابه لتجدا ما تقولانه حين تثار
هذه المواضيع في مجلسهم مجددا ولا يكون جوابهما الصمت التام .
إشارة من عمته نحوها جعلته ينظر جهتها ولسرحانها وشرودها
الحزين وكأنها لم تعد معهم ثم عاد بنظره لها وفي حركة من
حدقتيها ونظرتها عاقدة حاجبيها فهم أمرها له وتوبيخها فابتسم
لها ثم مال برأسه على رأس الجالسة ملاصقة له وهمس ناظرا
لجانب وجهها القريب منه " لما لا تشاركين بقول شيء ؟
هل الجلسة مملة لهذا الحد ؟ "
ابتسمت تنزل رأسها للأسفل وقد أخفت غرتها التي بدأت بالتساقط
ملامحها عنهما وهمست مثله " المهم أن لا تمل أنت , أعتقد
أنها تشبه جلساتك مع رجالك "
خرجت ضحكته رغما عنه عميقة مبحوحة رغم قصرها ورفع يده
عن ظهر الأريكة مبعدا بأصابعها خصلات غرتها مع بعض شعرها
في الجانب الآخر فوكزته هامسة بخفوت " مطر أبعد يدك هل
تريد أن تهربا مجددا "
خرجت منه ضحكة صغيرة وقد عدل جلسته وأبعد يده فوقفت
جوزاء وقالت " سأبلغها بما قلت على الأقل ترى لنفسها
حلا آخر وتيأس من طلبها واقتراحها "
قال ناظرا لها " أخبريها ترسل لي أحد رجال عائلتها وسأرى
ما يمكن فعله في أمرها لكن لا تعديها بالكثير يا جوزاء اتفقنا "
هزت رأسها بحسنا مبتسمة فهي وإن كرهت أن هذه المرأة وخلال
أشهر قليلة لها هنا استطاعت أن تظهر مطر آخر لا يعرفونه ولم
يستطيعوا إخراجه كل تلك الأعوام أو لم يحاولوا وذاك هو الواقع
إلا أنها أحبت أن أشركته الليلة أمسيتهم وبدلا من أن تستغل الوقت
لها في غرفتهما تنازلت عنه لهما ولا أحد يعلم هل تشرق عليه
شمس الصباح وهو هنا أم في الحدود وكم قد يغيب ولن تراه
غير الليلة , انحنت بعدها للطاولة وجمعت علب أدوية عمتها
في الكيس ووضعتهم في الدرج وقالت مغادرة " أنا تغلب
عليا النعاس تصبحون على خير "
وخرجت مغلقة الباب خلفها فنظر لها مطر وقال بابتسامة مائلة
" هل علينا انتظار عمتي أيضا حتى تنعس ؟ "
نظرت له بضيق وقالت " كلها ساعة وأصابك الملل ؟ كنت
تركت ما في قلبك ولم تقله أمامها "
ضحكت نصيرة وقالت " هذا إنجاز عظيم له قد يحتاج لليلتين
ليخرج أصواتنا من دماغه "
نظر لها هو بضيق هذه المرة وقال " يعجبك أن أصبحت
سخرية لها ؟ "
وقفت وقالت " لو كانت معتادة على جلوسك معها ما قالت ذلك "
وتابعت متجهة للباب " احمد الله أنها كانت ساعة فقط "
وخرجت تاركة الباب خلفها مفتوحا فوقف مبتسما ورفع عمته من
كرسيها واضعا لها على سريرها برفق وقال ساحبا الغطاء
السميك على جسدها " تريدين شيئا قبل مغادرتي ؟ "
قالت تعدل الغطاء على صدرها " شكرا بني "
وتابعت ونظرها معلق به فوقها " اذهب لزوجتك ولا تغضبها
الليلة مطر , عوضها عن بعدك عنها الأسبوعين الماضيين بني "
هز رأسه بحسنا دون كلام وقبل جبينها وغادر هامسا
" تصبحين على خير "
وأطفأ نور الغرفة وغادر مغلقا الباب خلفه برفق
*
*
دفعت الباب بهدوء واقتربت من الجالسة عند ذاك السرير وما
أن وصلت عندها حتى همست لها " يمكنك الذهاب سأبقى أنا
بجانبه باقي الليلة حتى الفجر "
وقفت تلك وباذلتها الهمس قائلة " بعد ربع ساعة حاولي أن تشربيه
بعض الماء وإن لم ينجح معك الأمر أخبريني "
هزت لها رأسها بحسنا فغادرت تلك مغلقة الباب خلفها وجلست هي
على الكرسي تراقب على ضوء الشموع الخفيف ملامح النائم على
ذاك السرير منذ يومين لا يعلم عما يحدث حوله وبالكاد يخرج منه
أنين متقطع بعض الأحيان ويهمس بأسماء لم يفهمها أحد , هم تعلموا
أن لا يشهروا كهذه الحالات بسهولة كي لا يُتهموا فيها ولن يستطيعوا
رد أذى البعض عنهم بسهولة لذلك كان عليهم معرفة هويته أولا
ولن يعرفوها ما لم يتحدث هو نفسه .
لا تعلم كم من الوقت مر وهي تتأمله في صمت فما أن تجلس هنا حتى
تنقطع عن كل شيء حولها وتتوه عيناها في ملامحه , رفعت يدها بتردد
ومدتها حتى لامست أطراف أناملها خده وشعرت لحيته التي بدأت بالنمو
أبعدت يدها توبخ نفسها فكأنها لم ترى رجلا من قبل ! لا هي لم ترى
رجلا غريبا لا يحمل ملامح رجالهم ذو شعر بني غامق هكذا يشبه لون
القهوة وبشرة سمراء بشكل ساحر أطفا عليه جاذبية مختلفة عن رجالهم
وقفت وجلست على طرف السرير عند رأسه ومررت يدها تحت عنقه
واستجلبت كل قواها لرفع رأسه قليلا وحملت كأس الماء وقربته من
شفتيه لتلامسها برودتها وهمست " هيا أشرب أيها الأسمر الوسيم
كي لا تموت لنا هنا ويأتي أهلك طلبا للثأر منا "
وبعد محاولات عدة حتى شعرت بالخدر في يدها وذراعها من رفعها
لرأسه تحرك فكه وشرب , أنزلت رأسه ومسحت له ما تسرب من
الماء على وجهه وعنقه هامسة بابتسامة " جيد شطفه صغيرة
لكنها أفضل من لا شيء "
ثم عادت للجلوس مكانها وعادت لتأمله تنتظر اللحظة التي سيفتح فيها
عينيه لترى إن كانت كلون شعره أم لا
*
*
فتح باب الغرفة ودخل وكانت تجلس على سجادتها مولية ظهرها
للباب فأغلقه وتوجه لمرآة التزيين فورا أخرج تلك الأوراق من
الدرج وجلس على طرف السرير يقلبها ثم فتح الدرج الأول
وأخرج منه صندوقا مسطحا وحديديا وما أن شعر بحركتها
خلفه في الغرفة قال " غسق تعالي "
وضعت لباس الصلاة واقتربت منه وجلست بجانبه تنظر باستغراب
للعلبة المفتوحة في يده والمساحة الزرقاء التي تغطيها , مد يده ليدها
وأمسك إبهامها وضغطه على تلك القطعة المشبعة بالحبر الأزرق
ورغم معرفتها بما يفعلون بها كانت تنظر لها وكأنها تراها لأول
مرة في حياتها , كرر ضغط إبهامها عليها أكثر من مرة حتى
أشبعه به ثم أغلقها ووضعها على فخذه وبدأ بأخذ الأوراق من
جانبه بالواحدة يضعها فوقها ويبصم لها بإبهامها عليها ولم تفهم
شيئا مما يجري تنظر لجانب وجهه منشغلا بالنظر لما يفعل ولم
تنظر لتلك الأوراق ولا ما تحوي وهو يبصم لها بإبهامها عليها
سريعا ويقلبها في الجانب الآخر حتى انتهت وترك يدها ورفع
تلك الأوراق يعدلها على فخذه مع بعضها فنظرت لإبهامها
الملطخ بذاك اللون ثم لوجهه وقد قال " هذه سأتركها لدي
حتى وقت معين لتصبح لك "
همست مستغربة " وما تكون هذه ؟ "
نظر لها ورفع يده ومرر أصابعه في غرتها رافعا لها للأعلى كاشفا
عن جبينها الصغير وقبله قبل طويلة ويده تنزل خلف رأسها وغرتها التي
تحررت من أصابعه تداعب وجهه مصطدمة به وقت عودتها , أنزل
رأسه ونظر لعينيها وقال " مهرك يا غسق أم نسيتِ ؟ "
فتحت فمها مصدومة ثم قالت " لكني تنازلت عنه وأنت تعلم
ذلك جيدا !! "
هز رأسه بنعم وقال ممرا إبهامه على جانب وجهها نزولا لخدها
ناظرا لعينيها الضائعة في عينيه بحيرة " أجل أعلم وأنا ما كنت
لأنام معك على سرير واحد دون مهر , كنت سأفعلها ذاك
اليوم لكنك تعلمين ما انتهت له تلك الليلة "
أرخت نظرها للأسفل وقد غطى الوجوم والحزن ملامحها تشعر
بمرارة تلك الليلة وكأنها الآن فمال برأسه جانب وجهها وقبَل
خدها ثم طرف فكها فعنقها ثم نظر لعينيها وهمس
" أعلم أنها ستكون لديك في يد أمينة "
هزت رأسها بعدم استيعاب وقالت " لكنك كنت رافضا !
و.... والناس هنا وصنوان أنـ.... "
أومأ برأسه متفهما ما تريد قوله ثم وقف حاملا الأوراق معه وقال
متوجها بها جهة خزانة الأسلحة " لن يعارض أحد أو يناقش يا غسق "
ثم تابع وقد نزل يفتح الدرج السفلي فيها " وثمة شرط بتحققه فقط
تصبح ملكا لك "
وقفت غير مصدقة ما تسمع وما فعل ونظرت له خلفها حيث وقف
يغلق باب الخزانة ثم التفت لها قائلا " لن تنتهي شروط ملكيتها
لك إلا بتوحيد البلاد وحينها لك حرية التصرف فيها وإن ببيعها
أو تركها كما هي لا يدخلها أحد "
تبعته بنظراتها المصدومة وهو يقترب منها حتى وقف أمامها ممسكا
لوجهها ناظرا لعينيها وقال " وستسقط هذه الأوراق قبل ذلك بمجرد موتي "
شعرت بقلبها ارتجف بقوة بين ضلوعها حتى شعرت بقوة ارتطامه
بهم وتلألأت الدموع في عينيها فاتكأت بجبينها على ذقنه وقد حرر
وجهها من يديه وطوقت هي عنقه بذراعيها هامسة برجاء تجاهد
عبرتها " لا تذكر الموت يا مطر , لا أريد العمران ولا أي شيء
كل ما أريده أن لا أفقد أحدا مجددا "
ضمها لحضنه بقوة مطوقا لها بذراعيه وقبّل رأسها قائلا " لا أحد
يمسك الموت , علينا أن نكون مستعدين له دائما فهو واقع لا
يغيره مال ولا سلطة ولا قوة "
ابتعدت عنه ووضعت أصابعها على شفتيه قائلة برجاء
" لا تذكره يا مطر توقف أرجوك "
أمسك كفها وقبله برقة فهمست بصعوبة ناظرة لعينيه
" وماذا إن طلقتني "
شعرت بالكلمات خرجت من قلبها كالأشواك حتى مرت بحلقها وبأن
تأثيرها على ملامحه لم يكن أقل من صفعة قوية وجهت لوجهه وقد
قال بحزم " لن أطلقك يا غسق كم مرة سأقولها "
أومأت برأسها بتفهم وهمست مجددا " إن فرضنا مثلا "
هز رأسه بلا عاقدا حاجبيه الطويلان المستقيمان وهمس بخشونة
" هو كالحديث عن الموت لديك يا غسق الخوض فيه ممنوع "
أنزلت رأسها للأسفل ولا تنكر أن ذاك الكلام أراحها , هي تخشى
حقا من حدوث ذلك ما أن تتكاثر الفجوات بين الحالك وصنوان
وبعدما ينتهوا من الهازان ويتفرغوا لها , وتعلم أي اضطرابات
قد تمر بها علاقتهما وقتها ومطر هذا سيختفي كما غسق أيضا
والله وحده يعلم من الخاسر والرابح حينها حرب السلاح
والقوة أم حرب المشاعر ؟؟
طرق احدهم باب الغرفة حينها طرقات خفيفة متتالية فنظرت له
باستغراب وقد تحرك جهته من فوره فتحه فكانت حفصة وقالت
بارتباك وتوتر ظاهرين " آسفة سيدي حقا أنـ .... "
قاطعها عاقدا حاجبيه مستغربا " ما بك يا حفصة ؟ "
تنفست بقوة وقالت " جاء أحد العمال وقال أنه ثمة رجل كان
يطرق باب المنزل الخارجي بقوة وقال أنه يريد رؤيتك لأمر
ضروري وأنه اتصل كثيرا ولم تجب , كان مصرا ورفض
المغادرة "
نظر خلفه للتي دارت حول السرير وأبعدت طرف اللحاف وجلست
تبدوا تنوي النوم أو توقعت أنه سيخرج ولن يرجع ثم خرج من
الغرفة مغلقا الباب خلفه ونزل للأسفل وخرج وتوجه للواقف يوليه
ظهره في عتمة ذاك المكان والتفت له ما أن شعر بخطواته فقال
باستغراب " تميم !! ما الذي جاء بك هنا ؟ "
قال ذاك من فوره " اتصلت بك كثيرا وقبلي شراع صنوان
فاتصل بمقرنا هناك "
قال مستغربا " شراع !! "
هز رأسه بنعم وقال " حين لم تجب على اتصاله اتصل بالمقر
وطلبني شخصيا وأمنني أن أوصل لك كلاما لا يصل لغيرك "
أومأ له برأسه ليتابع فقال بهدوء حذر " قال أن ابنه رعد داخل
حدودنا من خمسة أيام وقال أن دخوله كان سببه بحثه عن أحد
أشقائه ويطلب أي معلومات عنه وإن كان أسيرا لدينا "
مرر أصابعه في شعره ينظر له بضياع وعدم تصديق وقال
" هل هو متأكد من أنه هنا ؟ هل من معلومات عنه ؟ "
هز ذاك رأسه بلا وقال " لا شيء وصلنا عنه , أحد الجنود قال
أن دوريته وجدوا متسللا من أيام أطلقوا عليه الرصاص وأنت
تعلم الحدود كان الجنود فيها شبه معدومين , قال أنه كان يركب
سيارة وأنهم أصابوه وفقدوه بعدها ولا أحد يعرف هويته وإن
كان هو أو غيره "
التفت لا إراديا ونظر لنافذة غرفته العالية المغلقة فهي أول من
فكر فيه , عاد بنظره له وقال " حركوا دوريات للبحث عنه لا أحد
يتعرض له ولا تطلقوا عليه الرصاص وإن بادر هو بذلك
وأوصلوه للحدود فور أن تجدوه مفهوم يا تميم "
هز ذاك رأسه بالطاعة وغادر من فوره بعدما اعتذر عن إزعاجه له
هذا الوقت وعاد هو أدراجه يحمد الله أنه لم يصلهم خبر وجود جثته
كشقيقه , صعد السلالم متمتما بضيق " ما أصاب عقولكم يا أبناء
شراع ! هل سيفقد كل واحد منكم حياته للوصول للآخر ؟ "
دخل الغرفة ووقع نظره على النائمة مولية ظهرها للباب وقد
قالت ما أن أغلقه " هل ثمة مكروه ما ؟ "
همس يخلع قميصه متبعا له القميص الداخلي فلا يعرف ولم
يعتد إلا النوم هكذا " لا شيء خطير "
قالت بشبه همس " آسفة لأني جعلتك تسهر وأنت متعب
لكنهم يحتاجون وجودك ولو نادرا يا مطر "
ثم سحبت الغطاء لفوق رأسها مندسة تحته فأغلق النور ولم يبقي
سوى الإضاءة الخفيفة ودخل السرير أيضا ونام على ظهره ناظرا
للسقف ثم سرق نظره جهتها وهي على حالتها تلك ثم عاد به للسقف
وأراح ذراعه على عينيه , احتياجه الجارف كرجل أمام امرأة مثلها
يقوده لها بقوة ويعلم أنه إن طلب ذلك لن ترفضه لكنه احترم ابتعادها
وعزلتها وضغط مشاعرها بعد كل ما واجهته مؤخرا , لم يحتج لوقت
طويل ليسافر في النوم الذي سلب إرادته تماما , ورغم كل ذلك كان
نومه نوم محارب حذر وجس يشبه نوم جواد بري لا يستأمن حوله
شيئا فقد جلس بسرعة ما أن شعر بخطوات ما تحركت في الغرفة
وقد اصطدم صاحبها بشيء ثقيل لم يحركه , وقد احتاج لبعض
الوقت لأن يستجمع تركيزه ويتذكر أين هو الآن ليستوعب أنه
ليس في الحدود وأن الجسد الذي يتحرك جهة الباب جسد امرأة
فقفز مغادرا السرير راميا الغطاء عنه وأمسك ذراعها وأدارها
جهته قبل أن تفتحه هامسا " غسق أين تذهبين هذا الوقت ؟ "
مسحت عينيها بظهر كفها وكانت أيضا تحتج لبرهة لتتذكر أنه كان
نائما معها على ذات السرير , مسحتهما مجددا بقوة تخفي الدموع
التي نزلت منها فشدها لحضنه وطوقها بذراعيه بقوة قائلا
" أنا هنا غسق لما تنزلين لعمتي ؟ "
وزاد من احتضانه لها ما أن أطلقت عنان كل تلك الدموع التي كانت
تخفيها خلف حزنها وابتساماتها الصغيرة الكئيبة وخلف تلك القوة
الضعيفة الزائفة , خرج صوتها من بين أنينها الباكي برجاء كسير
" قل أنه لم يمت , قل أنها ليست حقيقة .. قلها وإن كذبا يا مطر "
ضمها أكثر يخفيها في حضنه وقبل رأسها قائلا " ادعي له
بالرحمة يا غسق كل هذا لن يفيده في شيء "
قالت ولم يخف بكائها شيئا " كم تأملت في عودتك وفي أن تنفي
كل ذلك ويظهر أنه لا حقيقة له لكنك لم تقل شيئا , تعاقبت
الساعات ولم ترحمني أبدا "
أبعدها عن حضنه وقال ماسحا لدموعها برفق " غسق أنتي
تؤذين نفسك وغيرك بهذا , لا تفقدي إيمانك لا تتركي نفسك
عرضة لوساوس الشيطان "
هزت رأسها بقوة ورفض وضربت بقبضتها على صدره العاري
وقالت بنحيب " كان الأقرب لي ... أنت لن تفهم ذلك أبدا يا مطر لم
نفترق منذ تعلمت المشي , كنا كالشخص وظله , حتى أني كنت أنام
غاضبة كل ليلة لأنه يرفض أن أنام معه في سريره , أنت لن تفهم
ذلك يا مطر لن تعلم ما يعنيه لي , كم جلسنا كم تسامرنا
كم كنا مقربين كالروح والجسد "
أمسك وجهها بيديه قبل شفتيها عينيها وجبينها ثم دسها في حضنه
مجددا وقال " شراع أصيب بجلطة دماغية وضنوا أنه سيموت
ونجاه الله واستعاد عافيته فاحمديه على ما يعطي لا تنظري
فقط لما أخذ "
ابتعدت عنه بقوة وصرخت بصدمة " والدي !! "
أمسك ذراعيها بقوة وقال " هو بخير يا غسق لـ.... "
دست وجهها في كفيها ولم تزدد إلا بكاءً ونحيبا فهزها قائلا
" غسق قلت ما قتلت لترحمي نفسك لا لتزيديها عذابا "
أبعدت يديها وأغلقت بهما أذنيها من فوق شعرها وقالت بعبرة
" إن مات أيضا فلا تقلها لي يا مطر أرجوك لا تذكرها أمامي
أقسم أن أموت بعده "
أبعد يديها وقال بحزم " قلت أنه بخير يا غسق ولا أحد يموت
بعد أحد , توقفي أنتي أيضا عن ذكر الموت "
هزت رأسها بقوة وقالت ببكاء " لا أحد يموت بعد أحد لكني
سأعيش بعده ميتة جسد بلا روح "
ثم وضعت كفها على صدره ناظرة لعينيه وقالت برجاء باكي
" اتركني أراه مطر , أسمع صوته على الأقل افعلها من أجلي
أرجوك , أعلم أن ذلك مستحيلا فاتركني أسمع ولو صوته "
ضمها لحضنه وقال بحنان ماسحا على ظهرها " حاضر
أعطني يومين أو ثلاثة , فقط توقفي عن البكاء "
*
*
خرج من غرفته ونظر حيث ذاك المنزل وصوت بكاء الطفلة
الخارج منه يعرف جيدا لمن يكون فضغط قبضته بقوة وهمس
من بين أسنانه " ألا يعلم هؤلاء البشر أن الأطفال يخطئون
أحيانا دون قصد منهم "
بقي واقفا مكانه حتى سمع باب المنزل يغلق بقوة وما هي إلا لحظات
وخرجت من بين الأشجار تحمل حقيبتها على كتفها واقتربت منه
تمسح دموعها وشهقاتها لازالت تتالى , المدارس تأخرت هذا العام
عن المعتاد بسبب ما يحدث عند الحدود وفتح المدارس في مدن
الهازان ونقص التكاليف فلم يدرسوا إلا نهاية الخريف , نظر لها
وهي تقترب وقال " لماذا ضربتك هذه المرة ؟ "
اجتازته قائلة بعبوس " لن أقول "
تبعها هازا رأسه بيأس منها وسار بجانبها فلازالت تتمسك بطبعها
القديم تأخذ الطعام له دون علمهم لأنهم لا يعطوه ما يأكل في المدرسة
وحين تمسك بها تلك تضربها وترفض أن تخبره عن السبب كي لا
يوبخها ويرفض الطعام لاحقا , سارا تحت أشجار البلوط الممتدة
تتمسك بصمتها تنظر للأرض بحزن وغاب نظره هو في أشجار
الحقول التي فقدت أوراقها وروعتها حتى وصله صوتها منخفضا
ولازال نظرها على حركة قدميها على التربة المبللة بسبب
أمطار البارحة " تيم ما يعني زواج قسري ؟ "
نظر لها باستغراب وقال " وما يدرني أنا , من أين سمعت
هذا ؟ "
رفعت نظرها للسماء التي لازالت تتجمع الغيوم الرمادية فيها
قائلة " أنت لا تعلم لما سأخبرك "
ثم نظرت له قائلة " لماذا يتزوج الناس ؟ "
نظر لها وقال بضيق " ماريه ما بك مع هذه الأسئلة ؟ ما يدرني
لماذا يتزوجون , قد تتزوج النساء ليثرثرن على رؤوس
الرجال طوال الوقت "
عبست ملامحها وقالت " ولما يتزوجوهن إذا كن سيثرثرن
على رؤوسهم "
قال ببرود ناظرا لباب المدرسة الذي ظهر لهما من بعيد
" حين أكبر أخبرك لما يتزوجهن أما الآن فلست أعلم "
حركت كتفيها بعدم اهتمام وما أن أوصلها لفصلها بنفسه غادر من
المدرسة , لا يريدها لا يحتاجها ولن ينتفع بها كما يرى , سار نزولا
من ذاك المرتفع بعدما ترك خلفه سور المدرسة الواسع ينظر للورقة
في يده وللأرقام والأسماء التي تركتها له والدته , ابتسم بسخرية ثم
رماها بعدما جعدها بين أنامله , لن يتصل بهم لن يبحث عنهم ولن
يترجاهم لأخذه معهم , لو أنهم فكروا فيه وفي والدته ما كانا هنا من
أساسه فلا عمه أو عمته ولا عم والدته حاولوا أن يصلوا لهم يوما
رغم أن ابن شاهين لم يكن ضد عائلة كنعان , وعم والدته لا أحد
كان سيمنعه من المجيء للحالك , تكفيه تلك الغرفة حتى يستغني
عنها بإرادته ... هي من حقه أرثه من والدته لا أحد يمن عليه
بالعيش فيها رغم أنه يستغرب صمتهما عنه حتى أنهما أصبحا
يرسلان له وجبتي طعام صغيرتين مع ماريه يوميا ! لم يعتد الود
والكرم منهما لكن لا حل آخر أمامه الآن وحتى حين يأمل أن لا
يكون بعيدا , وصل المقر ودخل من بوابته الواسعة تراقب عيناه
حركة وتدريبات الجنود حتى وقع نظره على باب عيادة الطبيب
المفتوحة فحتى ذاك الرجل رحل مع رحيل والدته فمنذ ذهب
للحدود لم يرجع وتم استبداله بطبيب شاب لأنهم يحتاجون
لدوي الخبرة هناك عند مدن الهازان الجديدة حيث الحالات
التي خلفتها الحرب الأخيرة , توجه لمكانه المعتاد خلف ذاك
المقر الواسع المقسم ووجده ينتظره هناك ككل يوم منشغلا بسلاح
في يده وحمد الله أنه لم ينقلوه أيضا ويحطموا كل أمل له في المستقبل
الذي بات يتمناه ويريده , ركض جهته حتى وصل عنده وانتبه ذاك
له ووقف وقال مبتسما يهرول في مكانه " ها قد وصلت , صباح
الخير يا بطل , هيا للتحميه الصباحية سأعلمك اليوم تسلق
الأماكن المرتفعة الملساء "
وبدأ بأول تمرين يومي لهما وهوا الدوران حول تلك الساحة
راكضين لخمسين دورة كاملة دون توقف
*
*
ما أن علم من عمته أن ضيفا والده غادرا مكتبه حتى توجه نحوه
طرق الباب ودخل فرفع المنكب على الأوراق هناك رأسه ونظر
له نظرة تحولت فورا لاستهجان رافضا لوجوده فتوجه نحوه
مسرعا متجاهلا نظرته تلك وأمسك يده قبلها وقبل رأسه قائلا
" أبي سامحني أرجوك يكفيك غضبا مني أقسم أنه على
قلبي أشد من الموت "
شد شراع على يده دون أن يعلق وعاد لأوراقه فارتاح ذاك من
حركته وإن لم يقل شيئا وقد انشغل عنه حتى شعر بإهماله لوجوده
وكان سيغادر لولا أوقفه صوته قائلا " وصلني رد رجل ابن
شاهين فجر اليوم "
التفت له من فوره وكان لا يزال منكبا على تلك الأوراق وكان
سيتحدث فسبقه شراع قائلا " قال أنه لا أخبار عنه وأنهم إن
علموا شيئا سيبلغوننا فورا ويسلموه لنا والكلام منقول
من زعيمه نفسه "
فتح رماح فمه من الصدمة ليس لانقطاع أخبار شقيقه داخل الحالك
بل لأمر آخر تماما جعله يقول بحيرة " قال يسلموه لنا !! كل متسلل
يمسكون به يؤخذ أسيرا مهما كانت مكانته وآخرهم ابن عمي ولم
يسلموه إلا بعشرة أسرى مقابل له وباجتماع دولي أيضا , كيف
تغير قانونه هذه المرة !! "
رفع شراع رأسه ووضع القلم من يده وقال ناظرا للفراغ بشرود
" ما يشغل بالي الآن أين يكون وما حدث معه بما أن ابن شاهين
ورجاله لم يروه ثم نفكر لما تغاضى عن تسلله وقبضهم عليه
إن أمسكوه "
هز رماح رأسه بحيرة وقال " إن لم يكن ميتا ولم يمسكوه ولم
يخرج من هناك فأين سيكون ! هـ "
رن هاتف شراع حينها فرفعه فورا وأجاب عليه مشيرا لابنه بيده
ليتريث وأجاب على صاحب الاتصال يستمع دون أن يعلق بشيء
وكأن من في الطرف الآخر لم يترك له المجال لذلك ثم أبعد الهاتف
عن أذنه وتحولت نظرته للضياع وهو يقف مغادرا من خلف مكتبه
وقد علت نبضات الواقف أمامه وهو يرى ملامح والده وقال
بصعوبة " هل الخبر عن رماح ؟ هل وجدوه ؟ "
هز ذاك رأسه بلا وخرج دون أن يريحه بأي شيء وهو متأكد
من أن الاتصال من الحالك أو من ابن شاهين نفسه
*
*
فتحت الباب ودخلت وضحكت بصمت على النائمة على طرف
السرير فوق ذراعيها بالقرب من رأس ذاك المجهول الذي لم
يفق حتى الآن , اقتربت منها حتى وصلت عندها وهزت كتفها
قائلة بضحكة " أستريا يا حمقاء هل تركتك هنا لتنامي ؟ هيا
يا كسولة لن أسمح لك بالتناوب عليا ليلا مرة أخرى "
رفعت تلك رأسها وأبعدت شعرها عن وجهها وتثاءبت تمسك
فمها بكفها قائلة " غلبي النعاس قليلا فقط "
ثم نظرت للنائم على السرير دون حراك وقالت " سيموت جوعا
على هذه الحالة , هل قرر أبي شيئا بخصوصه ؟ "
هزت تلك رأسها بلا قائلة " قال سننتظر حتى صباح الغد وإن
لم يفق سيبلغ الزعيم مطر عنه فوحده من يحمينا من أهله
إن ابتلونا بما أصابه "
قالت الجالسة قربه ونظرها لازال سارحا في وجهه " لا يحمل
ملامح الحالك بلون شعره وسمار بشرته ! هل يكون من
الهازان يا ترى ؟ "
اقتربت تلك من وجهه أيضا منحنية بجانب رأسها وقالت هامسة
" الهازان يتميزون كثيرا بالشعر الفاتح مثلنا ولقبائل كثيرة أعين
زرقاء ورمادية وحتى خضراء لكن لهم بشرة فاتحة بشكل
واضح وهذا اختلف عنهم في ذلك "
قالت أستريا بحيرة " قد يكون من الهازان أو من أعراق متداخلة
منهم فقليلون هم من تداخلت أنسابهم وإن قلوا كما يحكى عنهم "
ثم تابع وهي تقرب أصبعها ببطء من جفنه " لو أنه يفتح عينيه
لنتأكد من لونهما فإن لم يكونا سوداوان لن يكون من
الحالك أبـ ... "
وصرختا كليهما بصدمة مبتعدتان حين حدقت بهما تلك العينين
البنية النصف مفتوحة
*
*
رتبت السرير بعدما غيرت ملاءاته وأغلفة وسائده فلم تستيقظ إلا من
وقت قصير لتجد نفسها وحدها في ذاك السرير الواسع والذي غادر
فجرا بسبب اتصال آخر وصله يبدوا لم يرجع حتى الآن , لا هم
تركوه يرتاح ولا هي أيضا لأنها لم تنم إلا فجرا لم تترك حضنه ولم
تتوقف عن البكاء وبكت ما لم تبكيه ولا كل ليلة في حضن عمته , لا
تعلم لما تتلاشى كل تلك القوة التي تتسلح بها طوال النهار ما أن تنام
وترى شقيقها الراحل ذاك في نومها ليتحول صبرها وصمودها لضعف
مدمر حين تستفيق من ذاك الحلم لتكتشف الواقع المرير الذي يخبرها
أنها فقدته وللأبد , سوت وقفتها ومسحت عينيها بطرف باطن كفها
لحظة ما طرق أحدهم باب غرفتها ولم يفتحه حتى أذنت له فكانت
حبيبة التي لم تتقدم أكثر من خطوة للداخل وقالت تجمع كفيها
" سيدتي السيد مطر يطلبك في الأسفل "
نظرت لها باستغراب قائلة " هل هوا هنا من وقت ؟ "
هزت تلك رأسها بلا فقالت غسق بتوجس متمعنة في ملامحها
التي أصبحت تعلم تغيراتها جيدا " حبيبة ماذا هناك ! هل يوجد
أحد مع مطر ؟ "
قالت تلك بتلعثم " نعم ... آه لا .... أعــ.. أعني السيدة نصيرة و.... "
ثم اختفت من عند الباب قائلة " قال أن تنزلي له بسرعة "
ركضت في إثرها ولم تجد أحدا في الممر فرفعت غرتها بأصابعها
وتنفست بعمق وتابعت خطواتها مترددة فقد باتت أكثر من يخشى
من المجهول وما يحمل لها وحارت من يكون هذا الذي معه في
وجود عمته وفي المنزل !!!
المخرج ~
بقلم الغالية : سما23
من شراع
اشتقت لك بنيتي ... قلبي انفطر
ما كنت أعلم أنني ... أملك صبر
على مرور ساعتي ... فالصبر مر
فلم يمر بمسمعي ... عنك خبر
كيف أصبّر مقلتي ... دمعي هدر
وعمتك (أخيتي) ... تبكي العمر
وأخوتك حبيبتي ... ملئى الصدر
يحرقهم يحرقني ... حر الجمر
بنيتي حبيبتي ...ضوءَ النظر
كوني له بنيتي خير ذخر
مرارتي ولوعتي ... منك مطر
نزعت مني فرحتي ... ظهري انكسر
غسق كانت أمانتي ... طول العمر
ماذا أجيب سائلي: ... أين القمر؟
فكن كما وعدتني ... عدلاً أبر
دعني ارى بنيتي ... يمضي العمر
******
من غسق لشراع
فلتصمد يا أبي
رغم بعدي عنك ... رغم الخذلان
رغم خيبات الأمل في الكاسر وجبران
كن قوياً كما عرفتك يا زعيم الصنوان
أبي .. لا ترحل .. لا تموت
أريد أن أراك ..
أن أرتمي في حضنك أن أشعر بالحنان
أن أقبل رأسك الشامخ بعنفوان
أبي .. لا ترحل .. لا تغيب
فستغيب معك فرحتي التي بدأت الآن
أريدك أن تشهد معنا تحقق الأحلام
( بلادٌ واحدة.. وتعيشُ بسلام )
أرجوك ... لا ترحل فما آن الأوان
نهاية الفصل .... موعدنا القادم مساء الجمعة إن شاء الله