السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شكرا أخواتي العزيزات على ألتماسكم العذر لي , كانت المدة من الأحد للجمعة ضيقة جدا ومع انقطاع الكهرباء وكثرة الواجبات اليومية وطول الفصل فشلت في إدراك الجمعة رغم كل جهدي في الكتابة .
خاصة وإنه لازم أرسله لفيتامين سي قبله على الأقل بيوم لأنها تجمعه من قرابة العشرين رسالة وتراجعه بعدي وتعدل بعض الأخطاء الإملائية الي أغفل عنها فكان الوقت جدا ضيق وزعلت عشان انتظاركم وأملكم بي وفرحت لما شفت تفهمكم وقرأت كلماتكم الرائعة .
إن شاء الله أحاول أتدارك هالخطأ وما نتعرض له مجددا ولو أنزل الفصل أقل من طوله المعتاد
وشكرا طبعا لكل ردودكم الحلوة وتعليقاتكم سعدت جدا إن الفصل حاز على رضاكم وما ضاع تعبي عليه , شكرا لأشعاركم الرائعة والجميلة شاعرات مبدعات استمتعت جدا بقراءة كل كلمة فيها وكان لي عظيم الشرف ذكر أسمي في بعض أشعاركم وصلت هداياكم الرائعة غالياتي
وكانت من أروع المفاجآت , الغالية طعون نبهتني لنقطة مهمة غفلت عنها وهي عمر غسق لما زارت العمران أنا ذكرت في البداية عمر العشرة سنين ثم كتبت ستة كنت شاكة في الرقم وبراجعه لكن نسيت وغفلت عنه والتعديل أصبح مستحيل فاعتبروه ست سنوات .
وحدة ثانية من البنات غاب عني اسمها رغم إني حرصت على تذكره نبهت
عن دبلة مطر في اليد اليمين وهذا كان خطأ آخر مني ما انتبهت له والمفروض كانت في اليد اليسار فشكرا للغوالي على دقة ملاحظتهم وتنبيهي .
صور الأبطال كانت جميلة من صورة مطر للأمير غزلان
الي أول مرة أعرف عنه هههه لصورة غسق كانت جدا رائعة وأتمنى تساعدوني والأخت الغالية لامارا في صور أبطال الجزء الثاني بعدما أصبح لديكم خلفية عن ملامح أغلبهم ( مارية , تيم , وقاص , زيزفون قاسم وبطلة حلوة ليه أعتذر عن ذكرها هههه(
وأحب أهنئ الأخوات من السعودية والشعب السعودي باليوم الوطني أدام الله عليكم أمنه وأمانه واستقرار بلادكم ولا حرمكم ذاك النعيم وأبعد عنكم أيدي المفسدين أعداء الدين .
فصل اليوم أطول فصل كتبته للآن وأتمنى ينال إعجابكم
جنون المطر ( الجزء الأول )
الفصل الرابع والعشرون
المدخل ~
بقلم الغالية : نداء الحق
غسق
ياايها الرجل القريب البعيد
قلي بالله عليك ماذا تريد؟
تحاكيني وتناورني بكل دهاء
وتدور حولي كأنني فريسة
تدفعها بكل هدوء نحو ماتريد
ألا تعلم انني ابنة شيوخ
ورضعت منذ الصغر
اصول ومفاهيم حروب الكلام
تعبت من الحلم بغدَجميل
وفرحة تملء جوانح روحي
بدل هذا الترقب المخيف
فالعمر يمضي ولانعلم
الى اين المصير
جئتكم ابحث عن اسرار
اصلي ونشأتي
لاكتشف انني مازلت
ادور في سلسلة من
متاهات الغازِ
فيا ظلام الكون متى الرحيل
متى تشرق شمس الاصيل
متى تزور البسمة اركان قلوب
المتألمين
سيبقى سؤال مبهم دون جواب
لان قومي قد قرروا ان يكونوا
اخوة يوسف الى أبد الابدين
دون توبة او ذرة ندم
*****
أنزلها وسط الخيمة الدائرية الواسعة المغطى داخلها بستائر شفافة ملونة قد وزعت فيها الزينة والأضواءالخفيفة والشموع وباقات الزهور لكن كل تلك الروعة ما كانت لتجد لها حيزا في اهتمامهما ولا انتباههما ولا حتى ذاك السرير الواسع الذي نثرت أوراق الأزهار الحمراء بنعومةعلى أغطيته البيضاء الحريرية , فما كانت صورتها في ذاك الثوب وتلك الحلة المميزة تسمح لأي جمال غيرها أن يغريه للتمعن فيه وتقييمه ولا رائحته وقربه من جسدها ونظرة الرضا والذهول في عينيه كانت لتكون أقل تأثيرا في قلبها من تلك الأشياء الجامدة .
لم تكن تشعر سوا بوجوده بقربه منها كل ذاك الحد وبجريان الدماء متدفقة في عروقها وقد حرص أن تكون في حصار ذراعيه الملتفتان حول خصرها وجسدها ملاصق لجسده
ويداها ترتاحان على صدره .
ولم تستطع رفع نظرها له حتى تلك اللحظة وأول ما وصلها كان همسه الدافئ " هل أحدد العقاب إذا ؟ "
عضت طرف شفتها بقوة ودفنت وجهها في صدره ماسحة بكفيها صعودا لكتفيه وهمست برقة " هل أستطيع تخمين ما سيكون ؟ "
خرجت ضحكته مرتخية مبحوحة كسولة وقال يشدها لجسده أكثر " لم نختلف في أفكارنا يوما "
عضت شفتها مجددا محرجة مما فهمه ويفهمه كل واحد منهما وطوقت عنقه بذراعيها وقد شعرت بشفتيه تقبل
رأسها .... ( هي له ) حكم كلاهما بذلك الآن ، هو أوضح ما يريد أن تفهمه وهي فهمت ما كان يريد إيصاله لها ولم يعد من جدوى للمماطلة والتأجيل ، رفعت رأسها ونظرت لعينيه
التي كانت تنظر لها بدفء ووهج خاص لم تراه فيهما سابقا ولا أي امرأة غيرها , قالت وأصابع يدها تتحرك بنعومة على عنقه " لن تأخذني لقبائلك مرة أخرى اتفقنا "
خرجت منه ضحكة صغيرة وقرب أنفه من أنفها ورفع ذراعيه من خصرها لظهرها يشدها له أكثر وهمس " هل بدأنا بشروط التنازل يا غسق ؟ "
أرخت نظرها عن عينيه قليلا وهمست بحياء " اعتبرها ما تريد "
قال مبتسما بنشوة من شعوره بقربها واستسلامها أخيرا وحرارة دمائها الغيورة المتملكة " ضننت أنك تريدين أن يكون للنساء رأي وأنك قد تفكري في زيارة مدن الهازان معي "
رفعت نظرها له سريعا وخرجت منها تلك الكلمة دون شعور
" لا قطعا "
وسرعان ما عضت طرف شفتها محرجة من نفسها ومن وقوعها فريسة لعبته الخبيثة تلك فعادت لتطويق عنقه متعلقة به بقوة وهمست " لا تختبر غيرة امرأة يا مطر لأنها قد تصبح مؤذية جدا صدقني "
ضمها له أكثر متنهدا وقبّل خدها عدة قبلات وكأنه يرسم حدوده عليه
بنعومة وهمس في أذنها وهي تستسلم بين ذراعيه " لا مجال للتراجع
الآن يا غسق , لن أعدك أن أسيطر على نفسي كالسابق وأكتفي بقبلة
عطشه وأبتعد ، اليوم تحديدا لن أستطيع فلا تجعلي الأمر يتحول
لقسوة تؤذيك حسنا "
دست وجهها في عنقه أكثر تلعن غبائه الذي لم يترك له مجالا ليفهم
أنها لن تتراجع ولن تقوى على ذلك وبأنه أضعفها حد الاستسلام
ولعنت غبائها أيضا حين لم تفهم سبب هروبه وابتعاده عنها وهما
عند جدول الماء حتى أوضحه لها الآن ، أبعدت وجهها عن عنقه
تتجنب النظر لعينيه المنتظرة بترقب جوابها الذي لم يكن يتصور
أنه لن يكون لفظيا حتى عبثت أصابعها الرقيقة بنهاية شعر عنقه
الناعم المقصوص تشعر بملمس بشرته من بينه وأصابع يدها
الأخرى تتحرك بنعومة على شعرات لحية فكه وأعلى نحره وقد
قربت وجهها ببطء وطبعت قبلة صغيرة رقيقة مترددة وخجولة
على طرف شفتيه لتنزل بالأخرى على ذقنه قبل أن تدس وجهها
في صدره بعدما أوصلت تلك الرسالة القصيرة المدمرة لدفاعاته
مطلقة العنان لتلك العاطفة المشبوبة وخرجت صرختها المنخفضة
مختلطة بضحكتها حين شعرت بوخز أسنانه الخفيف على عنقها
ضاحكا وقد همس بخشونة متوعدا " ويلك مني يا ابنة شراع "
رفعت وجهها لوجهه وقالت مبتسمة لابتسامته تلك " لا ترفع
راية التحدي الليلة يا ابن شاهين ... ها قد حذرتك "
إيماءة خفيفة منه كانت الجواب وهو يشدها له مجددا منحن لها مقربا
وجهه لوجهها , كانت قبلته طويلة بطيئة متمهلة وناعمة وعرف كيف
يسلب ذلك منها ، كيف يجعلها تشاركه فيه وتطلبه أيضا ، رفع رأسه
ونظر لها يسترجعان أنفاسهما القوية المختلطة قبل أن يعودا مجددا
لتلك القبلات المتعطشة وهي تشعر بسحاب الفستان يفتح من الخلف
تحت لمسات يديه فتعلقت به أكثر خشية ذاك الدوار الذي قد أرهق
حواسها ويده تتسلل بنعومة من ظهرها العاري لخصرها تحت القماش
الناعم لذاك الفستان حتى شعرت بضغط أصابعه عليه مرسلا ذبذبات
قوية في كامل جسدها تزيدها ضعفا وتعلقا به واليد الأخرى تنزل
إحدى حمالتيه ببطء , كان كل شيء فيها يطاوعه متغلبا على
حيائها وترددها وذراعاها ملتفتان حول عنقه بقوة حتى انتفضت
مبعدة شفتيها عن شفتيه مرخية ذراعيها ما أن رن الهاتف المثبت
في حزام بنطلونه بضجيج مرتفع مزعج وسمعت تلك الشتيمة
الهامسة التي خرجت من شفتيه وأصابعه تنسل ببطء ونعومة
عن بشرة خصرها لتخرج من فستانها وقد ابتعدت عنه تحاول
تثبيته من الأمام بيديها كي لا ينزل عن جسدها بسبب سحابه
الطويل المفتوح ناظرة للأسفل مدركة أن هذا الوقت المتأخر لن
يتجاهل فيه هاتفه ولا من أجلها أو بسببها .
رفعت نظرها لوجهه وهو يجيب عليه وقد رفع يده وأمسك حمالة
الفستان يعيدها لمكانها ونظره عليهما قبل أن يبتعد عنها لطرف
الخيمة موليا ظهره لها وكل تلك اللهجة القلقة الحذرة تحولت لحدة
وهو يصرخ بمن في الطرف الآخر " ما الذي أدخلها حوران ؟
بل من الذي سمح بمغادرتها من هناك "
" أفهم يا عمر فافهمني أنت الآن ، تلك المرأة لا تتحرك من
مكانها هي تريدني وسأتفاهم معها "
شدت قبضتها على الفستان أكثر تنظر لقفاه بضياع وهو يصرخ
بقسوة " أرجعوها حالا , الطفلة ليست من حقها وسبق وقلت ذلك
ولن أغفر استهتاركم لإدخالها حوران وإعطائها تلك المعلومات
ضننت أني أعتمد على رجال "
صرخ فيه بغضب " أخبرها أن مطر يأمرها بالعودة حتى أراها
أولا يا عمر وما رضخت لضغطه لتركها عنده ليسلمها لها وكنت
سآخذها لمنزلي لولا فكرته تلك , فلا ترى الطفلة أو رأيتم
مطر آخر لن يعجبكم أبدا "
ثم أنهى الاتصال شاتما بحنق واستدار وتحرك جهتها دون أن ينظر
إليها ورفع سترته وسلاحه الذي تبثه على كتفه وهي تراقب ملامحه
الغاضبة المتوترة بحيرة ، مر من خلفها ووقف وأغلق سحاب الفستان
في حركة واحدة سريعة وعنيفة ووضع سترته على كتفيها وتحرك
جهة باب الخيمة قائلا " البسيها واتبعيني للسيارة "
كانت كلمات حازمة جافة وكأن الذي كان معها منذ قليل تبخر وكأنه
شخص آخر واختفى !! أدخلت يديها في كميها الطويلان بحركة عنيفة
ولم تترك شيء فيها وحولها لم تلعنه هامسة حتى هو ثم خرجت خلفه
تراه من بعيد وهو يتحرك بخطوات واسعة ثابتة وغاضبة ولم تفهم
من تكون هذه المرأة التي تدخل حوران آخر الليل تريد رؤيته والطفلة
التي يمنعها عنها وكان سيحضرها للمنزل ! ركبت السيارة بمساعدته
ككل مرة وفي صمت من كليهما رغم أن كل واحد منهما عبر عن
دواخله بطريقته ... من أنفاسه الغاضبة وتأففه حتى ركب كرسيه
وغادرا المكان لفركها ليديها بقوة من النار التي عادت لتشتعل داخلها
وهي تحاول أن تجد تفسيرا قد يريح قلبها وعقلها الذي يكاد يجن
مكالمة أخرى وصلته لم تزد الأمر إلا غموضا وهو يقول لمن
في الطرف الآخر " جيد لتنتظر حتى أصل ، كلها ثلاث
ساعات وأكون هناك "
وأنهى المكالمة دون أن يعطيها أي تفسير ، أن يفكر أنه ثمة إنسانة
تجلس بجانبه تنهشها الظنون نهشا وعقلها يؤلف ملايين القصص
عن سر تلك المرأة ولم يرحمها بأي شيء ، رفعت يدها ومررت
أصابعها المرتجفة على عنقها وكأنها تستجدي هواءً نقيا أكثر وقد
اختنقت لا تعلم من أنفاسه الغاضبة وتوتره الذي حبس الهواء كله
جهته أم بسبب هواجسها هي وظنونها ، أنزلت زجاج النافذة قليلا
فاندفع الهواء الخريفي البارد بقوة بسبب سرعة السيارة على
الطريق المعبدة مخرجا له من صمته مجددا وقد قال بذات
ذاك الحزم الرجولي " الجو بارد ليلا ولباسك خفيف أغلقيها "
كانت تكاد تجن من لهجته الآمرة دائما فلم يكن ينقصها الآن إلا هذا
خرجت الكلمات منها بصعوبة وقلبها يخفق بسرعة بين ضلوعها
وأنفاسها المتلاحقة تكاد تخنقها " أشعر بالحر .. أكاد أختنق "
فنقل نظره لقبضتيه المشدودتان على المقود وعاد لصمته المبهم الذي
لم يخفي شيئا من تأثير غضبه على ذاك المحيط حوله وكأنه ينبعث
من جسده كموجات قوية نسفت كل شيء ، أشاحت بوجهها جانبا متكئة
برأسها للخلف على مسند الكرسي تراقب الظلام الأسود الذي لم يزد
أفكارها إلا اسودادا وكآبة وقد مرت أمامها كل تلك اللحظات التي كانا
فيها معا منذ دقائق فقط وتلاشت من بين يديها وكأنها كانت تمسك بشعاع
نور وتسلل من بين أصابع واختفى ، أغمضت عينيها بقوة تطرد ذاك
الشعور بتلك المشاعر المحمومة التي عاشتها معه ، لا تريد أن تصف
نفسها بالغباء مجددا وبانسياقها خلف الاستسلام للمساته من جديد فما
حدث لا شيء سيغيره الآن ، أمسكت قبضتيها على قماش الفستان عند
فخذيها بقوة فلثاني مرة تعيش ذات الشعور بالقهر ، ثاني فستان زواج
يتحول فوق بشرتها الناعمة لأشواك وليلة أخرى لها مع هذا الرجل
يفترض أن تكون فيها عروسا تتحول لكابوس قاتل , بل كانت هذه
مختلفة كل الاختلاف عن تلك كانت مشاعرها اتجاهه أعمق وشعورها
بخذلانه أقوى وأشد بل حتى سببه مؤلم حد الوجع ( امرأة أخرى ) من
أبعدته عنها ، حقيقة قاسية ومجحفة في حق قلبها ولم تعد تتحمل المزيد
فهي لم تتخطى ضربة أنجوانا تلك لها بعد لتخرج لها أخرى ، فكرت
بمرارة أن تكون تلك المرأة سبب وجود ذاك الخاتم في أصبعه ، لكن
ماذا بشأن الطفلة ! عاد عقلها لنسج تلك الصور البشعة عنه (زير
نساء يتزوج من كل منطقة يستقر فيها لأجل حروبه وثمة قائمة طويلة
لمن عرفهن قبلها ) وطرد عقلها نهائيا حديث عمتها جويرية عن أنه لم
يعرف الفتيات ولا في صغره ولم يهتم للنساء ( كلها كذب ) مثلما ظهر
أن اتهامات الناس لوالده بقتل أقربائه كان كاذبا ، اشتدتا قبضتاها على
القماش أكثر وهي تتخيل أنها زوجته وتلك الطفلة ابنته منها , هذا إن
كانت وحدها من مرت في حياته ، رن هاتفه مجددا وتمنت لحظتها
أن يرميه من النافذة وهو يخرجه متأففا وأجاب عليه دون أن يتحدث
لبرهة قبل أن يزيد من رميها بتلك الرصاصات القاتلة وصوته
الجهوري الحانق يملأ صمت وسكون تلك السيارة
" نعم لتبقى هناك "
واشتدت نبرته مجددا بحدة " ومن يكون هذا وما يفعل معها ؟ "
" أجل أجل فهمت وداعا "
وأنهى المكالمة بعاصفة جديدة من تأففه الغاضب راميا بالهاتف
فأغمضت عينيها ببطء ولم تغير وضعيتها تلك أو تتحرك طوال
الساعتين التاليتين وليست تعلم يضنها نائمة أو لا يهتم أساسا إن
كانت موجودة أو حتى إن فتحت باب السيارة وقفزت منها , ولم
تتحرك إلا حين وقفت السيارة أمام باب المنزل ففتحت بابها فورا
وقفزت خارجها وأغلقته خلفها بقوة متجهة جهة المنزل لتوقفها
قبضة يده القوية على معصمها وقد سحبها معه للداخل تستغرب أن
تذكر وجودها أساسا ! صعد بها السلالم تتبعه محاولة سحب يدها
منه فهي كانت ستتوجه لغرفتها فورا , لا تريد أن تقدم له خدمات
الزوجة الخادمة ولا أن تسمع تبريرا عما حدث هناك وتشك أن يقدمه
لها أساسا أو أن يشرح أسبابه ، وصلا الغرفة وترك حينها يدها
وصوت أذان الفجر قد ملأ صمتها وبرود جدرانها المميت ، تبعته
بنظراتها وهوا يتوجه لمرآة التزيين وقد أخرج أوراقا من أحد
أدرجها ولازالت ملامحه مشدودة غاضبة ومتوترة وفمه القاسي
مزموم بحزم ، فتح زرين من أعلى قميصه الأبيض بيده الأخرى
وكأنه يحتاج لتنفس هواء أكثر ثم توجه نحوها حتى وقف أمامها
وهي تتجنب النظر له ظهرها مستقيم ومرخية جفنيها للأسفل
تتجنبه أمسك وجهها بيديه وانحنى له برأسه وقبل خدها برقة
هامسا بهدوء لم يخفي نبرة الحزم فيه " لن أتأخر كثيرا
غيري أنتي ثيابك ونامي "
أبعدت يديه مبتعدة عنه ونزعت السترة عنها ورمتها على
طرف السرير قائلة بشبه همس " سأنزل لغرفتي "
شعرت بأصابعه تقبض على ذراعها وقد أدارها جهته
قائلا بحزم " غسق ما بك ؟ "
أمسكت رسغه تبعد يده وشدت ذراعها منه حتى أفلتها وقالت بحنق
" لا شيء بي سأنزل لغرفتي ولن أنام هنا طبعا "
تحولت ملامحه للقسوة وكانت ترى جديا علامات انفجاره الوشيك
فسبقته وقد رفعت كفها أمام وجهه قائلة بحنق " وفر كلماتك أعلم ما
ستقول وسبق وشرحته لي ... أنا في المرتبة الثانية أمام أي شيء
آخر فغادر لأولوياتك الآن "
مرر يده في شعره مستغفر الله همسا من بين أسنانه مهدئا لنفسه
وقال بتروي حازم " قلت أني سأعود بعد قليل والوقت أمامنا
ولن يفرق الأمر إن كان في خيمة تنانية أو هنا "
شعرت بذل معنى كلامه أكثر من شرحه لمقصده فصرخت فيه
رامية يدها جانبا " توقف عن قول الحماقات يا مطر ما هذا
الذي أخبرك عقلك به ؟ أنا لا أهتم لما ترمي إليه "
صرخ فيها بغضب أكبر " توقفي عن رفع صوتك في وجهي
لن أحذرك في كل مرة يا غسق "
سحبت نفسا قويا ارتفع معه صدرها الذي كشف ذاك الفستان جزءا
كبيرا منه وأخرجته ساخنا محترقا يعكس توهج وجنتيها الشديد ولمعان
القهر في عينيها وهمست بحروف بطيئة ناظرة لعينيه الغاضبة " غادر
ولا تتركها تنتظرك طويلا ولا تستعجل فلن تجدني أنتظرك هنا "
مد يده للأخرى وفي حركة سريعة غاضبة أخرج ذاك الخاتم الفضي
منها وخرجت الحروف من بين أسنانه قائلا بقسوة " معك حق
فأنا أضيع وقتي ليس إلا "
ثم رماه بطول يده جانبا ليضرب في زجاج مرآة التزيين مصدرا
رنينا قويا ارتجف له قلبها قبل أن يرتد متدحرجا على الأرض مع
صوت كلماته الهامسة بحنق وهوا يستدير " هذا هوا ثمن الزواج
بالنساء وإنزال النفس لهن "
وغادر من هناك ضاربا الباب بقوة وهو يفتحه مخلفا بقايا زلزاله
خلفه ... امرأة تحولت لآلاف القطع المتناثرة في الأرجاء وإن كانت
تقف كاملة مكانها فهي مجرد خيال حي ، تحركت بعد برهة ترفض
الحقيقة التي صارت عليها تمسح تحت جفنيها بظهر كفها بقوة تمنع
دموعها من مجرد التفكير في النزول , نزلت السلالم على صوت
ضربه القوي لباب المنزل تشعر به صفعة أخرى على وجهها كتلك
حين ضرب باب الغرفة ، وصلت للأسفل وليست تعلم كيف كانت
قدماها تقودانها فلم تكن تشعر بجسدها إلا قطعة واحدة متحجرة
يحتاج لشاحنة لتسحبه , وقفت مكانها لبرهة وهي تنظر للجالسة
على كرسيها المتحرك تنظر لها بصدمة يبدوا لم تجتازها بعد من
رؤية النازل قبلها وحالته متنقلة بنظرها من فستانها لشعرها
لوجهها المحتقن من الغضب والقهر وقد قالت باستغراب
" غسق ما بكما ؟ "
لكن تلك لم تجب عليها بل ركضت مسرعة جهة ممر غرفتها حتى
دخلتها ضاربة الباب خلفها فلم يكن ينقصها إلا أن يشهد أحدهم على
مأساتها الأخرى , وحمدت الله أنها لم تكن جوزاء وأسمعتها موشحها
الطويل ذاك لكانت أفرغت فيها الآن غضبها من كل شيء وأولهم
شقيقها , توجهت جهة السرير وبدأت بفك تلك الأزهار البيضاء عن
شعرها والمشابك السوداء الرقيقة التي ثبتوها بها
, تنزعهم بغضب
وترميهم بعشوائية حتى سمعت صوت الباب فتح من خلفها وعجلات
كرسي عمتها وهذا ما لم تكن تتمناه , لم تكن تريد رؤية أحد ولا
الحديث مع أحد أيضا
مع أحد أيضا , بينما أوقفت تلك كرسيها خلفها تنظر لشعرها الذي نزل
مموجا على ظهرها بسبب تلك اللفات المثبتة له سابقا وللأزهار المرمية
تحتها وقد رفعت شعرها من الأمام بيديها وأصابعها تمسك رأسها بقوة
وكأنه يوشك على الانفجار وحركة كتفيها تدل على تنفسها القوي الهائج
فقالت بهدوء ناظرة لها " غسق تكلمي ما بكما ؟ ما هذا الذي جلبكما
الآن وما حدث بينكما كل واحد وجهه أسوء من الآخر ؟ "
التفتت لها ناظرة لوجهها بتلك العينين المجهدة المحمرة من حبس
الدموع وقالت بحدة " ما بنا عمتي برأيك ؟ لقد فعلها مجددا
وتركني خلفه "
قالت تلك تتمسك بهدوئها علها تخفف من غضب الواقفة أمامها
" غسق عليك أن تراعي ظروفه ومكانته ومشاكله , لا أحد
يترك خلفه هذا الحسن الذي يزداد في كل مرة إلا إن ابتلي
بمصيبة أبعدته ولعنها ألف لعنة "
حاولت التحدث قول أي شيء لكن العبرات تجمعت في حلقها وكأن
ما ستقوله يخرج من عروق قلبها وأوردته مستلا لها معه , تساقطت
من عينيها تلك الدموع التي صارعتها طويلا وهي تشهق الهواء وكأنها
ستموت ثم ركضت جهة الجالسة على ذاك الكرسي وارتمت أمامها
ودفنت وجهها في حجرها تصرخ باكية " خرج من أجل امرأة
أخرى عمتي , لقد تركني ليذهب لها بل وقطع كل تلك المسافة
في هذا الوقت لأنها تنتظره هنا "
وانطلق كل ما كانت تسجنه في صدرها تبكي وتنحب وتصرخ وتخرج
كل ما في قلبها وتلك تمسح بيدها على شعرها بحزن تاركة لها المجال
لتفرغ كل ما تكبته أمام الجميع تتحدث عما كسرها منذ دخلت أراضيهم
حتى اللحظة وحتى تنازلها عن مهرها من أجله , وكل عبارة تقطعها
شهقاتها لقِطع إلى أن قاطعتها ماسحة على شعرها بحنان
" هوني عليك بنيتي وسيأتي وأتحدث معه بنفسي "
وقفت من فورها مبتعدة عنها تمسح دموعها بكفيها وقالت
" لا عمتي حلفتك بالله لا يعلم عن شيء من كل هذا أرجوك "
هزت تلك رأسها بحسنا وقالت " أعلم ما الذي لا تريديني أن
أخبره عنه لكن لي حديث معه ما أن يرجع فاستحمي أنتي
الآن وصلي الفجر ونامي قليلا "
وخرجت وتركتها جالسة على طرف السرير تمسح بقايا
الدموع التي ترفض التوقف
*
*
ما أن خرج من المسجد توجه للمكتب الذي كان مخصصا لتسجيل
الأنفس والمولودين الجدد ولولا خوفه من أن تختفي تلك المرأة أو
تذهب لمنزل عكرمة مجددا وتحاول رؤية الصغيرة لما جاء وهو
بهذا المزاج الذي قد يحرقهم جميعا , دخل المكان الضيق المختصر
وأول من نفث به نيرانه كان الواقفان في الخارج وقد صرخ بهما
ما أن وصل " هل أقول كلاما لنش الذباب فقط أم تسخرون مني
وأنتم تضربونه عرض الحائط ؟ قلت لا أحد يخرج من
مدن الهازان هنا أم لم أقل ذلك ؟ "
قال أحدهما باحترام وتوجس " قلت سيدي ونحن نعمل على ذلك بكل
جهدنا لكن ما أن أخبرتنا المرأة بأنها والدة الطفلة وأن عليها رؤيتك
سريعا ورؤيتها ضننا أنك قد تغضب إن رفضنا طلبها وإلحاحها
خاصة مع حرصك الشديد على أمر تلك الطفلة "
كانت تلك كل ما يملك من التبريرات التي لاحظ أنها لم تخفف من
غضب الواقف أمامهما شيئا وقد صرخ مجددا " حمقى وتأخذونها
لرؤية الطفلة في منزل عكرمة لماذا ؟ ألم يخبركم عقلكم المريض
أن الطفلة مريضة وتلقت صدمة كبيرة قد تخلف لها عقدا مدى الحياة
وأنها تضن زوجة عكرمة والدتها وأن حضور هذه المرأة قد يسبب
لها أمورا الله وحده يعلم ما تكون ونحن لم نعلم بعد طبيعة مرضها
ذاك ؟ كيف سمحتم لأنفسكم أن تفعلوا ذلك من دون أخذ موافقتي
ولولا اتصال عمر بي أضنكم ما كنتم لتخبروني أبدا أليس كذلك ؟ "
تحدث الآخر قائلا " آسف سيدي لم نفكر في الأمر من هذه الناحية
والسيد عكرمة ما أن تحدثنا معه قال لا أحد يمنع الوالدة من
طفلتها وضن أنك لن تعترض "
هز رأسه بسخرية قائلا " عجبا حقا ! إن كانت تعنيها ابنتها ما
تركتها ولكانت عاشت الأمر معها كجدتها تلك فهل أخبرها
قلبها الآن أن لها طفلة عليها رؤيتها ؟ "
نظرا لبعضهما ولم يعلقا بشيء فاجتازهما قائلا " ستعودان بهما
ما أن أنتهي من لقائهما ولا يخرجان من مدنهم هناك ولا أحد
غيرهم أو نزل عقابي بكما "
توجه لباب معين من الثلاث أبواب الموجودة في ذاك الممر الضيق
وفتحه ودخل فوقف له الموجودين فيها من فورهم وكانوا عمر وهو
المسئول عن ذاك المكتب والجالس خلف طاولة وقد خرج من خلفها
فورا ما أن دخل عليهم وامرأة في الثلاثين من عمرها تضع وشاحا
أسودا شفافا على شعرها ومقدمته تظهر من تحته يقف بجانبها رجل
فيما يقارب الخامسة والأربعين من العمر بقامة طويلة وبنية نحيلة
ألقى السلام بكلمات جامدة وهوا يتوجه للكرسي خلف تلك الطاولة
وقد أجابوا عليه ثلاثتهم وجلس مشيرا لهما بيده ليجلسا قائلا
" عمر يمكنك تركنا لوحدنا قليلا ولا تبتعد عن هنا أريدك في أمر "
هز ذاك رأسه بالطاعة وخرج من فوره مغلقا الباب خلفه وكتف
مطر ساعديه فوق الطاولة ناظرا لهما بثبات وقال " وصلني أنكما
جئتما من أجل رؤيتي فما الذي أخذكما لرؤية الطفلة ؟ "
كان زوجها سيتحدث فسبقته هي قائلة " هي ابنتي يا زعيم ولا
أعتقد مما سمعناه عنك أنك تحرم والدة من ابنتها "
قال من فوره " هل أنتما من بلدة خماصة ذاتها ؟ "
تكلم زوجها هذه المرة قائلا " لا نحن من الحويصاء وحين وقعت
في قبضتك انتقلنا لتيمور عند الساحل وهي تبعد كثيرا عن
الحدود هناك وعن خماصة "
نقل نظره منه للجالسة بجانبه وقال " وهل كنت تزورين ابنتك ؟
ولما لم تأخذيها معك ولماذا لم تذكر جدتها شيئا عنك في أوراقها
التي وجدناها معها وأغلبها كتبت بخط يدها "
تلكأت تلك قليلا قبل أن تعدل من وشاحها قائلة " كانت المدينة
بعيدة كما أخبرك صفوان سيدي وجدتها أرادتها معها "
هز رأسها بحسنا ونظر للدفتر الكبير تحته لبرهة ثم رفع رأسه
لهما وقال " وهل لديكما أبناء ؟ "
هزت رأسها بلا فورا وقالت " الله لم يرزقنا حتى الآن وزوجي
يعاني من بعض المشاكل وأنت تعرف الطب هنا وتأخره "
رفع يده مسندا مرفقها على الطاولة ومرر أصابعه في شعرات لحيته
القصير جهة فكه وقال " والمطلوب الآن يا سيدة ... "
قالت من فوها " زهراء سيدي أسمي زهراء "
قال ببرود " حسنا "
حركت عينيها قليلا كرد فعل لا إرادي من تملقه وبروده فقد وجدته كما
سمعت عنه تماما ولم تتخيل أن يترك الحدود قادما هنا من أجل الطفلة
وفشل مخططهما , قالت ببعض الهدوء الحذر " أريد ابنتي سيدي بما
أني رجعت لقريتي ومكاني وجدتها توفيت "
قال وقد اتكأ لظهر الكرسي للخلف مكتفا يديه لصدره " وابنتك حسب
علمك مريضة وتحتاج لعناية خاصة ودقيقة وشهدت وفاة جدتها أمامها
والمرأة التي ترعاها حاليا تضن أنها والدتها أي تضنها أنتي فهل
يرضيك أن تضري ابنتك بقلب الحقائق في دماغها الصغير
المريض الذي قد تفقده بسببك "
فتحت فمها لتتحدث فسبقها زوجها قائلا " لا طبعا وستكون
لدى تلك المرأة أفضل "
نظرت له من فورها قائلة " صفوان !! "
لكنه تجاهلها تمام وتابع حديثه مع الجالس أمامهما قائلا " حسنا
يمكننا تركها لهم لكن منزل جدتها والأرض حوله هو ورث لها
من أبيها ونحن نقيم حاليا في إحدى غرف المدرسة لأنه لا منزل
ملك لنا هناك فهل يمكننا الانتقال له ولو مؤقتا ؟ "
ابتسم بسخرية ناظرا لزوجته تحديدا فها قد ظهرت نواياهما وكما
توقع ما جلبهما هو ما تملكه تلك الطفلة وقد جاءا ليستفيدا منها
أو ما كانا ليفكرا بها أبدا "
نظر لهم رافعا رأسه وقال بسخرية " وهل لديكما علم بقوانين
الميراث للأطفال في الحالك والتي أصبحت سارية على
مدن الهازان أيضا ؟ "
نظرا لبعضهما باستغراب ولم يعلقا فتابع " الفتى حتى يبلغ والفتاة حتى
تتزوج والملكية لها حينها ولها حرية تركها لزوجها أما قبله فكل شيء
يكون تحت وصايتي وباسمي لا يحق لأحد الانتفاع به أبدا ولا لمسه
أي حتى تتزوج ابنتك وإن تزوجت بعد أربعين عام ووقتها لن
يكون لأحد سواها أو لزوجها برضا تام منها "
وقفت تلك على طولها قائلة " سمعنا عنك العدل يا ابن شاهين ولا
أراك الآن إلا ظالما , فإن كبرت ابنتي ولم تتزوج هل يبقى أرثها
معلقا هكذا وهي قد تكون في الشارع "
قال ببرود جليدي ناظرا لها " وقتها لكل حادث حديث وذلك
طبعا ليس قبل أن تكبر وتيئس من الزواج طبعا "
وقف زوجها هذه المرة وسحبها معه من يدها جهة الباب قائلا
" أخرجي أمامي هيا قبل أن يطلب أن نأخذها معنا لتلك الغرفة
الضيقة يكفيني أنتي "
*
*
فتحت عينها ليقع نظرها على عمتها الجالسة على كرسيها بقرب
رأسها وقد مسحت على شعرها قائلة بحنان " كيف تشعرين
الآن يا غسق "
هزت رأسها هزة خفيفة وهمست " أفضل "
ثم أضافت ببحة " كم الوقت الآن ؟ "
قالت تلك مبتسمة " الساعة الآن العاشرة ، كلها ساعتين فقط
التي نمتها ، هل أعطيك من دواء حبيبة مرة أخرى ؟ "
هزت رأسها بلا قائلة من فورها " كله إلا دواء حبيبة عمتي فهو
مر ولاذع وأسوء دواء شربته من قبل "
ضحكت نصيرة قائلة " لكن مفعوله رائع وقد أراحك ونمت أيضا "
انفتح باب الغرفة بعد طرقتين خفيفتين ودخلت منه حبيبة قائلة بابتسامة
ونظرها على النائمة على السرير " أراك أفضل الآن ولم يعودا
خداك بلون التفاح الأحمر وعادتا زهريتان جميلتان "
تساندت بمرفقها حتى جلست تجمع شعرها للخلف قائلة بابتسامة
صغيرة " جيد أن لهما أي لون بعد شرابك السيئ ذاك فلازال
طعم حلقي كالعلقم حتى الآن بسببه "
ضحكتا نصيرة وحبيبة وقالت عمتها " لن نعطيك غيره كلما
جاءتك نوبة تقيؤ "
شهقت غسق بصدمة بينما ضحكت حبيبة قائلة
" أعانك الله عليه حين تحملين "
فماتت ابتسامتها وشحب لون وجهها فجأة ونظرت لعمتها التي
كانت تنظر لها بلوم تفهمه جيدا فهمست تنظر لأصابعها
" أرجوك عمتي "
قالت تلك بحزم قاطع " لنترك كل شيء لوقته "
قالت حبيبة " كدت أنسى ، السيد صقر يطلبك في الحديقة
سيدتي
فهل أخبره أنك متعبة ولا تستطيعين الخروج "
نظرت لها غسق باستغراب ثم لعمتها قبل أن تعود بنظرها لها
وقالت " يريدني أنا ! "
هزت رأسها بنعم وقالت " كنت سأخبره أنك نائمة ومتعبة
ثم قررت أن أخبرك أولا "
قالت غسق مبعدة اللحاف عن جسدها وقد أنزلت قدميها للأرض
" سأخرج له لقد أصبحت أفضل الآن ، شكرا لك يا حبيبة "
ثم دخلت الحمام غسلت وجهها عدة مرات ثم نظرت له في المرآة
واكتشفت أنه ما يزال شاحبا حزينا أكثر منه متعبا ومرهقا ، نشفته
جيدا بالمنشفة ثم خرجت للغرفة التي وجدتها فارغة لا أحد فيها فغيرت
ثيابها ومشطت شعرها وجمعته بمشبك ثم لفت حجابا أبيضا وخرجت
من الغرفة ومن المنزل وتوجهت حيث تسمع صوت حبيبة وضحك
صقر وما أن اقتربت منهما نظرت باستغراب لتلك الحفرة العميقة في
الأرض وعمها يقف فوقها يمسك معولا في يده وحبيبة بقربه تمسك
شتلة بساق طويلة وأوراق خضراء ، تباطأت خطواتها وعلت نبضات
قلبها وهي ترى السيارة التي توقفت هناك والذي نزل منها ضاربا بابها
يرتدي بنطلون كحلي وقميص قطني مغلق بأكمام طويلة وبلون أزرق
غامق ، أشاح كل واحد منهما بوجهه مبعدا نظره عن الآخر حين تلاقت
نظراتهما وانتقل للحديث مع عمه لنزوله هناك عنده ولم تكن تسمع ما
يقولان ونظر لها صقر ما أن رآها وقال " تعالي يا غسق "
اقتربت منهم وحيته تجبر شفتيها على استجلاب ابتسامة ولو صغيرة
فقال مبادلا لها لابتسامة " مرحبا بالغزالة جميلة صنوان وجميع ما
حولها ، ما به وجهك شاحب هكذا لا يكون ابن شقيقي أغضبك ؟ "
أبعدت نظرها ووجهها هربا من ملاحظته وهمست بصعوبة
" مرهقة فقط بسبب قلة النوم عمي لا شيء مهم "
وقصدت التشديد على آخر كلمتين متعمدة فتحرك حينها الواقف
بجانب عمه قائلا ببرود حازم " سأترك الأمر لك وسأتصل
بهم لاحقا وأتفق معهم "
وغادر من هناك مارا بجانبها تسمع صوت مفاتيحه التي أخرجها
من جيب بنطاله وتشعر بنبضات قلبها الغبي تلحق خطواته القوية
الواثقة وحواسها تتبع رائحة عطره الرجولي الخفيف ، لعنت نفسها
بحنق هامس وهي تراه يتجاهل وجودها وكأنها شجرة من أشجار
الحديقة بينما هي فقدت كل شيء مرتبط بها حتى أنفاسها ما أن
رأته وسمعت صوته ومر بجانبها ، رفعت نظرها لعمها الذي
قال " تعالي لتزرعي شجرتك في الحديقة لقد اخترت لك شجرة
الخوخ تحديدا لأن ثمرتها تشبهك في كل شيء ناعمة وجميلة "
ابتسمت تكابد دمعتها وضحكت حبيبة قائلة " لو سمعك ابن
شقيقك تتغزل في زوجته لغرس هذه الشتلة في رأسك أو أذناي "
فانطلقت ضحكة صقر وخرجت ضحكتها الرقيقة المنخفضة رغما
عنها وقال صقر وهوا يبلل التراب بالماء من الخرطوم " ذاك لا
يستحق ولا نصفها لكن حضه صارخ دائما ما سنفعل له "
ثم نظر لها وقال " تعالي هيا أنتي من ستغرسينها بنفسك لتكون لك
شجرة هنا حتى إن أخرجوك من المنزل تأتي كل يوم لرؤيتها
رغما عنهم ولتكن كمسمار جحا في حلوقهم "
ضحكت مقتربة منه وقالت بحماس باسم
" حقا ستكون هذه الشجرة لي ؟ "
أخذ الشتلة من حبيبة ومدها لها قائلا " أجل ولن ينكر ذلك أحد
فالجميع له أشجار هنا حتى شقيقي دجى رحمه الله وقاسم
ابن نصيرة "
أمسكت منه تلك الشتلة وقالت حبيبة مبتسمة " وأنا لدي شجرة
نخيل هنا أراقبها كل يوم كيف أصبحت "
قال صقر ضاحكا " وطبعا هي تشبهها في كل شيء "
نظرت له حبيبة بضيق ولن تستطيع أن تعلق فقالت غسق مبتسمة
" بالطبع فهي مثلها صبورة وقوية وكل شيء يخرج منها حلو المذاق "
ضحكت حبيبة هذه المرة ولم تعلق فلوح صقر بيده قائلا ببرود
" أسكبي الماء هيا بلا كثرة حديث "
فسكبت الماء من الدلو ووضعت غسق الشتلة في الحفرة العميقة
بعض الشيء ومد لها المعول قائلا " هيا أنتي من سيفعل كل ما
يخص زراعتها كي تكون شجرتك فعلا "
أمسكته منه وقالت مبتسمة " وماذا عن ثمنها لتكون لي فعلا حينها "
قال مبتعدا عن التراب الذي ستغرفه " لا ذاك هدية مني لك "
شكرته مبتسمة وبدأت بغرف التراب وسكبه في الحفرة تباعا
وبجهد وجد وقالت " وماذا إن ماتت شجرتي ؟ "
ضحك صقر وقال " تفقديها كل يوم كما تفعل حبيبة "
ضحكت غسق بينما قالت حبيبة بضيق تمسك وسطها بيديها
" نخلتي في آخر الحديقة في الخلف من سيعلم عنها إن لم أتفقدها ؟
أما هذه فهي في الطريق للمنازل سيلاحظها كل من سيدخل ويخرج "
ثم نظرت خلفها حيث وقفت حفصة من بعيد منادية لها فقالت مغادرة
" أردت أن أحضر جميع مراسم غرسها ، أمري لله "
وغادرت ونظراتهما تتبعها وقالت غسق مبتسمة " كم هي
رائعة هذه المرأة ومقربة لقلبي "
قال صقر وقد عاد لترطيب التربة بالماء " أجل إنها امرأة طيبة
المعشر طيبة المنبت "
نظرت له مستغربة وقالت " أتعرف عائلتها وأصلها ؟ "
هز رأسه بنعم وقال بلمحة حزن " زوجها رحمه الله كان صديقا لي
منذ كنا فتية ولم يفرقنا شيء إلا موته ، هم عائلة كريمة طيبة وأقسم
لولا إصرارها ما تركتها تعمل في البيوت وكنت سأتولى رعايتهم
بنفسي لكنها كوالدها وشقيقها رحمهما الله أعزاء نفس لا يرضون
بأخذ شيء من أحد لذلك جلبتها لتعمل هنا في منزلنا وتحت ناظري
ولا يذل أحد زوجة اعز إنسان على قلبي بعد موته ويسألني
عنها يوم نلقى وجه بارئنا "
ابتسمت ناظرة له بحب فقد ضنت أنه لا نسخ عن والدها شراع ولم
يخب ظنها حين شعرت نحوه ما أن رأته بما يشبه مشاعرها ناحية
والدها الذي رباها ، أنهت إنزال التراب في الحفرة مستمتعة برفقة
ذاك الرجل الذي عرف كيف يبدد بعضا من حزنها وغبنها لا بل
الكثير منه وهو يزرع الضحكة والابتسامة على شفتيها ، أنهت
الحوض حولها بمساعدته ثم وقفت وقالت ناظرة لثيابها ويديها
الملطخة بالطين " عليا الاستحمام مجددا الآن قبل أن
أصلي الظهر "
ضحك صقر وقال وهو يرفع المعول والدلو " أنتي كسبت
شجرة أما أنا فسأستحم مجددا بلا فائدة ترجى "
ضحكت وقالت " بلى ثمة فائدة "
اقتربت منه وقبلت جبينه رافعة جسدها على رؤوس أصابعها فهي
تحسبه والدها شراع فهو في عمره تماما ولم تكن تحمل له إلا التقدير
والاحترام وتشعر بأنه يبادلها ذات تلك المشاعر وكأنها من دمه .
فاجأها بأن قبل رأسها أيضا شاكرا لها ثم ساعدها في غسل يديها
وقدميها ممسكا لها خرطوم الماء وغادرت عائدة للمنزل بعدما شكرته
مجددا وودعت شجرتها الصغيرة على ضحكه عليها ودخلت المنزل
فأوقفتها حفصة تحمل صينية في يديها وقالت " جيد أنك دخلت
سيدتي هل يمكنك حملها للسيد مطر فالسيدة جوزاء طلبت
تجهيزها لكنها تأخرت "
شعرت بأنها في مأزق حقيقي ولا مفر لها منه رفعت يديها بصعوبة
وكأنها ترفع ثقلا كبير وأمسكت الصينية منها وتحركت بها جهة
السلالم تلعن حظها الذي جعلها تدخل هذا الوقت تحديدا ، تنفست
بقوة متمتمة وهي تجتاز الممر " أنتي زوجته تحت كل
الظروف حتى متى سيخدمه الغير ؟ "
فهي لا تنكر رغم كل شيء أنها ليست مقتنعة بقيام جوزاء بأغلب الأمور
التي يحتاجها ومن دون أن يطلب ذلك , يكفيها رؤية الخادمات لها تنام
في غرفة لوحدها ولولا أنه ولا واحدة منهن تتجرأ على إخراج أسرار
منزل زعيمهم لكانت سيرتها وسيرته على كل لسان في الحالك .
وصلت باب الغرفة النصف مفتوح ودخلت دافعة له برفق وتنفست
بارتياح وهي تراه جالسا في الطرف الآخر للسرير موليا ظهره لها
منشغل بشيء ما في يده لا تراه فقررت وضع الصينية والمغادرة
في صمت كي يضنها شقيقته , وما أن انحنت على الطاولة لتضعها
حتى جمدتها كلماته الباردة حد الصقيع حين قال دون أن يلتفت لها
" أخبري جوزاء توقظني وقت العصر وأغلقي الباب خلفك "
فعضت شفتها بقهر تشعر بكلماته وكأنها خناجر غرست في قلبها
وضعت الصينية وأولته ظهرها مغادرة هامسة " ومن قال أني
أريد إيقاظك لتطلب أن أخبرها هي أو أريد البقاء لتطردني "
وخرجت ساحبة الباب خلفها وتحركت سائرة لم تشعر بأن قدماها
من كانتا تحملانها ولم تكن تتخيل أن القهر والمهانة يفعلان في
الشخص هكذا حتى عرفت هذا الرجل ، ما أن وصلت غرفتها
حتى ضربت بابها قائلة بقهر " لقد نزع المزاج الذي عدله
عمه , وكأني أنا التي أخطأت في حقه وليس هو "
وسجنت نفسها في غرفتها لباقي اليوم متجنبة لقائه وإن بالمصادفة
فلن تتحمل إهاناته اللاذعة أكثر ولا مشاعرها المتناقضة نحوه
حتى أسدل الليل ستاره الأخير
*
*
صعد السلالم لا ينتظر شيئا سوى أن يجد نفسه في السرير ليرتاح
وينام أخيرا لساعات فحتى الليلة كان ينوي النوم فيها في وقت
أبكر من هذا لكنه لم يستطع العودة قبل هذا الوقت المتأخر .
اقترب من غرفته عاقدا حاجبيه مستغربا بابها المفتوح وهو من
أغلقه بنفسه بالمفتاح ولا أحد يملك واحدا غيرها ولن يتخيل أن
تكون هنا الآن !! وصل باب الغرفة ووقف عنده وتذكر وقت رأى
باب الخزانة المفتوح يخفيها خلفه أنه طلب نقل ثيابها إلى هنا من
قبل مغادرتهما للعمران بالأمس لأنه كان متأكدا من أنها لن تحتاج
لغرفتها تلك بعدها ، ابتسم بسخرية أقرب للمرارة على أفكاره تلك
وعلى حالهما فها هي حساباته تخونه لأول مرة ويخطط ويفشل .
آخر ما كان يريده الآن هو رؤيتها أمامه وغضبه منها لازال كلما
خمد قليلا عاد واشتعل ما أن يتذكر ما حدث , كان ينوي تأجيل أي
مواجهة معها لوقت بعيد لا يعلم متى سيكون لكن ليس الآن وهذه
المرة وفي هذا المكان والوقت فهو لم يستوعب بعد سبب تقلباتها
تلك ولم يعد يفهم أتتلاعب به أم ماذا تريد ؟ وأكثر ما يخشاه فقدان
أعصابه وهوا بهذه الحالة لذلك قرر دخول الغرفة والتوجه للحمام
مباشرة وتجاهل وجودها لكن ذلك تبخر ما أن أغلقت باب الخزانة
وظهرت من خلفه بفستانها المنزلي شعرها مرفوع ومجموع بمشبك
بشكل عشوائي وقد تناثرت عدة خصلات منه , وما أن نظرت جهته
حتى يبست مكانها تمسك الملابس في يديها فهي مثله ما كانت تتصور
ولا تريد رؤيته وقد ضنت أنه غادر أو سيبات خارج المنزل بعدما
انتظرته كل هذا الوقت ولم يأتي فلم يكن موجودا في خزانة غرفتها
في الأسفل سوا الفستان الذي تلبسه الآن ولبسته منذ عودتهما فجرا
والثياب التي خرجت بها للحديقة وقد اتسخت تماما , حتى ملابس
داخلية لم يكن لديها سوى التي جاءت بها من رحلتهما تلك .
أرخت نظرها هربا من نظرته المركزة عليها وقد لاحظتها رغم
الضوء الخفيف للغرفة والآخر المنبعث من الباب خلفه وقد غمراها
بإضاءة متوسطة بعض الشيء ولم تكن تحتاج معهما لتشغيل أي
من أضوائها الرئيسية ، كان وجودهما وحدهما في مكان شبه مظلم
وساكن بل وهذا المكان تحديدا له التأثير الأعظم على أعصاب كل
واحد منهما وعلى تأثير كل تلك الذكرى بينهما لكن ذاك الألم في
قلب كل واحد منهما كان أعظم من كل تلك الأمور .... ذكرى
مكالمته تلك وخروجه وكلماته التي قالها وذكرى رفضها الصريح
له دون سبب كما يرى وتجرئها على مواجهته بجرأة كلها كانت
كفيلة بنحر أي مشاعر قد تتقد داخل أي منهما ناحية الآخر .
تحركت من مكانها أخيرا تتمسك بالثياب في حضنها وكأنها
تستمد القوة منها وتوجهت ببطء جهة الباب الذي لازال يسده
بجسده الطويل ولم ترفع رأسها ولا نظرها به أبدا , لم تكن تريد
أن يرى نظرة الألم والخذلان التي لم تستطع محوها رغم كل
محاولاتها لتكون جامدة باردة ولا مبالية أمامه وإن كان تمثيلا
وصلت عنده ولاحظت أنه لا يفكر في الابتعاد عن الباب وكل
ما كانت تريده أن تبتعد من هناك أن لا تسمع كلماته الجارحة وهو
يهينها بل لا تريد أن تسمع صوته أبدا ولا حتى أن تمر بقربه
وتشعر بجسده ووجوده ، وقفت أمامه حين لم يتبقى سوا خطوة
واحدة تفصل بينهما وهو لم يتحرك من مكانه أبدا وهمست
بصعوبة ونظرها على الثياب في يديها " أريد الخروج "
كان صوتها مرتجفا رغم بروده وكان الصمت التام رده على طلبها
ذاك ولم يبتعد أو يتحرك من مكانه فشدت ذراعيها أكثر على الثياب
في حضنها وقالت بصوت خفيض حمل بعض الحزم هذه المرة
" هلا ابتعدت قليلا عن الباب "
والجواب كان ذاته لا رد فرفعت رأسها ونظرت لعينيه التي كانت
تنظر لها بنظرة رأت فيها الضيق والحنق بوضوح وإن لم يعبر
عنه وتحدث هذه المرة قائلا بجمود " قلت سابقا أني لن آكلك "
حاولت جهدها وضع قناع بارد أيضا ونظرة جامدة في استقبال
كلماته وقالت " وأنا لم أقل أني خائفة منك "
قذف كلماته في وجهها بحزم ونبرة قاسية " هل أفهم إذا سبب
ذاك الموقف العدائي مني أم تقلب مزاج ليس إلا ؟ "
زمت شفتيها حتى كانتا خطا واحدا فآخر ما كانت تتوقعه أن يبرئ
نفسه بهذه السهولة ويسألها وكأنه لم يفعل شيئا ! وآخر ما قد تفكر
في فعله هو أن تخبره أن تجاهله لجرحه لها بأخرى أمر أقسى مئة
مرة من فعلته تلك ( هل ينتظر أن أنحب وأصرخ وأطلب تبريرا لما
انكشف أمامي ويحاول تجاهله بكل ثقة وبرود ليجنب نفسه التهمة ؟
لا لن يحدث ذلك ويكفيه سخريته مني حين واجهته بغضبي مما
فعلت أنجوانا تلك ) قالت بحنق " لا شيء طبعا أو قد تكون
تقلبات مزاج كما تقول "
شد قبضتيه بقوة يضغط فكيه حتى شعر بالألم في أضراسه وشعر
بانفلات أعصابه منه وهذا ما كان يتجنب حدوثه , رفع يديه ممسكا
بهما وجهها بقوة وجدبها نحوه مقلصا تلك المسافة الصغيرة شادا
أصابعه وشعرها الملتف حولهم لترفع وجهها لوجهه أكثر وقد
انفرجت شفتاها لخروج آهة متألمة منها بسبب شده لشعرها
وتحدث من بين أسنانه " غسق عليك أن تتعلمي احترامي
كزوج أو أن مطر الآخر لن يعجبك أبدا "
رفعت يدها وأمسكت بها رسغه تحاول إجباره على تركها لتتحرر
خصلات شعرها وإن من يد واحدة من يديه وقالت تجاهد الدمعة
التي ستقفز من عينها بسبب تألمها ذاك " أنا لم أقلل من احترامي لك "
شد يديه في شعرها أكثر متجاهلا آهتها الأخرى التي كانت أشد من
سابقتها وقال بكلمات قاسية حادة شعرت معها بأنفاسه الساخنة
الغاضبة تلفح وجهها كالنيران " كل ما قلته فجرا ولم تقللي من
احترامي ؟ أم ما قلته الآن ؟ رجال وأكبر سنا مني لا يرفعون
صوتهم في وجهي لتفعلها امرأة .... ومن ؟ زوجتي !! "
شدت بيدها على رسغه أكثر وكأنها تستجديه أن يرخي أصابعه ولو
قليلا وملامحها تعتصر ألما ترفض إخراجه وسالت تلك الدمعة من
طرف عينها وخرج صوتها متكسرا مختلطا بأنين ألم خافت قائلة
" مطر لا تستقوي على امرأة بيديك أرجوك ؟ "
فارتخت قبضتاه عنها حين لمح تلك الدمعة وسمع كلماتها فمن شدة
غضبه لم يلحظ أنه من يؤلمها وأن البعض من شعراتها تتقطع بين
أصابعه , أغمضت عينيها ببطء وعضت شفتها المرتجفة لتخفي
انفعالها ولازال وجهها في حصار يديه رافعا له لمستوى وجهه
وخرجت منها شهقة صغيرة لسحبها الهواء مع كتم عبرتها وأول
صورة تكونت أمام عينيها المغمضة كانت لوالدها شراع
فهمست بحزن " ليتك ما تزوجتني يا مطر ليتك رميتني
خارج حدودك ليلة وجدتني هناك "
هز رأسه بقوة وبرفض وشد وجهها ناحيته هامسا بحدة
" أصمتي "
وقبلها بخشونة قبلة لم يفهم نفسه أيعبر فيها عن غضبه منها أم من
نفسه أم من كلماتها الأخيرة ؟ كان يسمع أنينها المكتوم لتألمها من
قسوته تلك لكن أصابعه كانت تتغلغل في شعرها أكثر ويشدها له
أكثر ويقسو في قبلته أكثر ولا يشعر بشيء سوا بملمس شفتيها الذي
أرقه لليالي وهو هناك بعيدا عند الحدود , وما أن صار عندها هنا
حتى عادت للتلاعب به كالدمية بين يديها ترضى عنه حينا وتصده
حينا آخر , كانت تلك الأفكار تأكله وتتحكم به حتى حررها أخير
وإن كانت لازالت في حصار كفيه وأصابعه القوية فسحبت الهواء
دفعة كبيرة لرئتيها ومسحت بظهر كفها المرتجف على شفتيها
وجانب عينها تمسح بقايا دمعتها المتسللة منها وكانت من الوهن
والضعف حتى تكاد أن تنهار مغمى عليها , كانت تدرك أمرا
واحدا فقط أنه إن قبلها مجددا فستسقط جميع دفاعاتها وستستسلم
متجاهلة كل الألم الذي سببه لها ويبرئ نفسه منه الآن , وما
خشيته حدث فعلا وهوا يشدها له منحن لشفتيها مجددا وقبّلهما
يضغطهما على شفتيه بقوة مدمرا ما تبقى من حصونها فقربت
جسدها منه ورفعت أحد كفيها لصدره وما أن مررته عليه حتى
شعرت بانقباض عضلته تحت ملمس يدها وشهقة خفيفة مكتومة
صدرت عنه جعلت قبلته تلك تزداد عمقا وإحدى يديه تنزل
لظهرها يشدها بها لجسده أكثر وقد استسلمت له تماما ولم يعد
لديها أي ذرة صمود تتمسك بها أكثر ويدها تنتقل من صدره
لعنقه ممررة أصابعها عليه فأبعدها عنه بقوة وقسوة وقال
من بين أنفاسه المتلاحقة " لن تتلاعبي بي مجددا يا
غسق لن أسمح لك "
نظرت له بصدمة تحاول تثبيت نفسها كي لا تقع من دفعته القوية
لجسدها وخور قواها وهمست بألم تبعد شعرها المتناثر على
وجهها بسبب ارتدادها القوي " توقف عن إلقاء اللوم
عليا في كل شيء يا مطر فلست السبب "
تقدم بخطواته داخل الغرفة مجتازا لها وقال راميا يده جانبا
" غادري يا غسق غادري الآن من هنا "
فخرجت راكضة من فورها ولم يعد يسمع سوا خطواتها تبتعد ومرر
أصابعه في شعره ناظرا للأعلى وهمس بغيظ " سحقا للرجل بكل
عنفوانه وسيطرته يتحول للا شيء أمام امرأة ... سحقا "
نظر خلفه للباب ثم نزل به للثياب المرمية أرضا وقد خرجت وتركتها
مكانها فشتم هامسا ورفعهم من الأرض بعنف لا يعلم ما أخذ منهم
وما ترك وخرج خلفها وما أن نزل نصف السلالم حتى وقف مكانه
للخيال الذي ظهر أمامه فجأة وقال بصدمة " عمي !! "
قال صقر متنقلا بنظره من وجهه للملابس في يديه " أجل عمك "
ثم عاد بنظره لعينيه وتابع بمكر " أم تتوقع أنه شخص آخر عاد لك "
تحرك حينها عائدا أدراجه وذاك يتبعه ولم يعلق حتى كان داخل الغرفة
وعمه خلفه فخرجت شتيمة أخرى من بين شفتيه وقد انحنى للأرض
يجمع باقي الثياب ورماها في الخزانة وقد وصله صوت الواقف خلفه
يكتم ضحكته " ما بكما بحق الله زوجتك كادت تصطدم بي عند أول
السلالم وكدت أسقطها وأحطم لها عظامها ولن ترحمني حينها
بالتأكيد ؟ حمدا لله أن مفتاح باب الجناح أخرني قليلا
عن الصعود لكما هنا "
جلس ذاك على طرف السرير متكأ بمرفقيه على ركبتيه مشيحا
بنظره جانبا وهمس " أنا من يحمد الله أنك لم تفعلها "
رمى صقر بجسده على الكرسي وقال " ماذا تقول فلست
أسمعك ؟ "
نظر له وقال ببرود " ضننت أني أصبحت رجلا متزوجا وكان
يفترض بك أن تتصل بي قبل أن تصعد , وأضنك اخترت نبذ
نفسك في جناحك فما أدخلك فجأة ؟ "
سوا صقر جلسته قائلا بضيق " احترمني يا ولد أنا عمك ثم ما يدريني
أن حرب البسوس انتهت بينكما واجتمعتما في غرفة واحدة , أو لا
يكون صدقت كذبة الناس وتريد حرماني من رؤية ابنة شقيقي "
مرر أصابعه في شعره ناظرا للأعلى وزفر بقوة وقال " عمي
لست في مزاج مناسب أبدا فإما أن تعذر ما سمعته مني
أو اترك أي شيء تريد الحديث عنه للغد "
قال صقر باستغراب " ما الذي حدث بينكما ؟ لا تكن قسوت
عليها يا مطر فلن أسامحك "
وقف على طوله وقال ببرود " عمي رجاءا تنهي الحديث في
الأمر لا أريد أن أخطى في حقك أكثر فأعفني من الخوض
في الحديث عن الأمر واعتبره شخصيا "
هز ذاك رأسه يأسا منه وقال " سامح الله القدر الذي وضع
فراشة رقيقة مثلها بين مخالب وحش "
نظر له بحنق وكان سيتحدث فقال عمه قبله " أعلم .. الأمر شخصي
ولن أتحدث فيه لكن لا تنسى أنها ابنة شقيقي يا مطر وقد أتحمل الألم
في نفسي ولا أتحمله فيها فيكفي أني محروم من رؤيتها وضمها
لحضني وكأنها امرأة غريبة عني "
عاد مطر للجلوس على طرف السرير قائلا ببرود " للضرورة
أحكام ألست من قال هذا من قبل ؟ "
نصب صقر ساق على الأخرى وقال ملوحا بيده " أجل فأنت لم
تخسر شيئا تدخل لها وتحضنها وتقترب منها كيف تشاء أما أنا
فمن أخذ مكانك الأساسي ابن عمها الذي عليه أن لا يرى ولا
شعرها , يالا السخرية يا بشر !! "
قال مطر بضيق " وما نفع أن تخبرها وتقترب منها وتحضنها كما
تقول ؟ إن علمت وعلم غيرها وانتشر خبرها وصرنا في
سؤال واستفسار وزارنا ذاك الهمجي الأخرق ما سنقول له ؟
أم سنسلمها له خذها وغادر بها وافعل لها ما يحلوا لك هي
حقك الآن "
حرك صقر يده باستنكار قائلا بجزع " لا بالله عليك فأنا لا أتخيل
هذه الملاك الفاتنة في قبضة ذاك الرجل البربري المتوحش
أنت وكثيرة عليك فكيف بذاك ؟ "
تأفف مطر في وجهه قائلا " عمي لما لا تتوقف عن إهانتي
ومقارنتي بها وبذاك "
قال بضيق مماثل " أغار منك يا رجل ما أفعل لك ؟ فحتى الشاي
الذي تعده ما أن تأتي أنت أنساه أنا لأنه سيكون لك طبعا "
كان سيتحدث فوقف صقر وقال " بالله عليك ارحمني من لسانك
تبدوا لي بحالة سيئة جدا سأراك لاحقا ونتحدث "
وخرج وتركه دون أن يستمع حتى لرأيه
*
*
سند يديه على الطاولة خلفه متنهدا بضيق لا يعرف لما عليه هو أيضا
مراقبة هؤلاء الأطفال ! بل لماذا يقيمون عيد ميلاد له أساسا ؟ ضرار
الحفيد الرابع والأخير في العائلة ذو الأربعة أعوام سبب كل ذاك
الضجيج والموسيقى وصراخ الأطفال , الأطفال الذين عجزن
الخادمات وزوجات والده الثلاثة عن السيطرة عليهم ومراقبتهم
جميعا خاصة وأن كل أم تضع طفلها تغادر وكأنها تركته في
رعايتها هي نفسها ، حرك جسده ينظر من بين تلك الرؤوس
الكثيرة حتى ظهر له من بين الراقصين على أنغام تلك الموسيقى
الصاخبة فالأطفال يحبون تقليد الكبار في كل شيء حتى أنهم
أصروا على أن يغيروا أغاني الأطفال ليرقصوا بفوضوية
وجد مبتغاه أخيرا وسط الراقصين فصفر له بصوت مرتفع فوق
الموسيقى بطريقة يعرفانها كلاهما فنظر جهته من فوره فأشار له
وقاص بإبهامه يمينا فنظر هناك فورا للجالسة على أحد كراسي
الطاولة منشغلة بفتح علبة شوكلاته صغيرة بفستانها العاجي القصير
الواسع من الأسفل بحملات رقيقة وشعرها الأشقر تناثر على كتفيها
وظهرها وقد وصل لما يقارب خاصرتها ، غمز له رواح من فوره
فضحك وقاص وأشار بإبهامه مجددا لكن هذه المرة جهة والدته فأنزل
رواح إبهامه للأسفل وتحرك من هناك مجتازا الأطفال حوله فحتى من
هم في سنه يدرسون معه كانوا مدعوون ، وصل عندها ونظر لها من
فوق رأسها وهي تحرك إصبعها الصغير فوق قطع الشيكولاته الثلاث
التي توسطت العلبة الفاخرة قائلة " هذه لماما وهذه لبابا وأنا
آكل هذه ... أم هذه ؟ "
ضحك بصمت ومد يديه للكرسي ورفعه بها متجاهلا صرختها
المذعورة وهي تتمسك بطرفيه بيديها فبحكم سنين عمرها الخمس
وخفة وزنها استطاع رفعها بسهولة وبسبب قصر قامتها ما كانت
تستطيع النزول ، سار بها متجاهلا رجاءاتها الطفولية الباكية وخوفها
من أن تقع حتى أنزلها قرب مكبرات الصوت واضعة يديها الصغيرتان
على أذنيها ونظرت خلفها لتكتشف أنه هو صاحب هذه الفعلة فزمت
شفتيها الصغيرتان بغضب وهي تراه يضحك عليها ثم صرخ فوق
صوت الموسيقى العالي " لما لا ترقصين يا عربية أم تخشي
أن تسخر منك البريطانيات "
وتركها ضاحكا وابتعد يديه في جيوبه حتى وقف بجانب وقاص
الذي قال ضاحكا " لو رأتك والدتك لقطعت أذنيك ، ألا
تعلم ما تعنيه تلك الطفلة لها "
حرك كتفيه قائلا ببرود " أردت أن أعلمها الشجاعة قليلا , ثم
هم أقارب زوجة خالي شاهر لا صلة تربطهم بوالدتي "
ونظرا سريعا حيث تغيرت الموسيقى وتوقف جميع الأطفال هناك
عن الرقص والمرح فلا أحد منهم يعرف الرقص عليها ( التانغوا
البرازيلية ) نقل نظره فورا جهة الشاب منظم الموسيقى ورأى
تلك ذات الشعر الأشقر والفستان العاجي القصير تقف عنده
وتتحدث معه ثم نزلت واختفت بين الرؤوس الصغيرة حيث
تحلقوا في حلقة واسعة فهذه الرقصة لن يتقنها أحد منهم لصغر
سنهم وصعوبتها إلا إن كانت جذوره من هناك وعاش في بلادها
اقترب ونظر معهم حيث الفتى ذو العشر سنوات مادا يده يشير بها
طالبا رفيقة للرقص وكان من ملامحه يبدوا برازيليا لاتينيا , كان
يبتسم للفتيات وكل واحدة تحرك رأسها نفيا لجهلها بتلك الرقصة
حتى دخل ذاك الجسد الصغير من بين الواقفين ومدت يدها ممسكة
يد ذاك الفتى وعلا صراخ الأطفال حين بدأ بالرقص بإتقان يلفها
حول نفسها ثم رفعها ودار بها بين دهشة الجميع هناك .
اقتربت منه زوجة والده قائلة " وقاص يمكنك الذهاب
لترتاح في غرفتك أتعبناك معنا "
ابتسم لها قائلا وهو يبتعد عن الطاولة " لا بأس خالتي كان الأمر
نصف ممتع ولم أمل كثيرا شكرا على تسريحي "
وضحكا معا على علو صراخ طفلة فوق صوت الضجيج والموسيقى
ونظرا فورا لتلك الجهة ليظهر لهما من خرج بين ذاك الجمع ومن
يجرها بيده من شعرها الأشقر حتى وصل عندهما على شهقة
والدته ما أن عرفتها وصرخت به " رواح هل جننت ؟ "
وتقدمت نحوهما فترك شعرها وتوجهت هي من فورها لها واختبأت
خلف ساقيها تبكي بشدة وتحضنهما بقوة فصرخت تلك به " أحمق
وطفل هل ترى كم عمرك تضربها هكذا يا همجي "
ازداد غضبه وحنقه وصاح بها " الوقحة كيف ترقص مع ذاك
الأخرق هكذا ؟ شبيهة والدتها "
وغادر على نظراتها المصدومة وقد نقلت نظرها لوقاص فانفجر
ضاحكا من فوره وغادر خلفه وهي تنظر لهما باستغراب
*
*
" مطر "
التفت جهتها وهوا ينزل آخر عتبات السلالم فقالت
" تعال لن أعطلك "
سار جهتها وقالت ما أن وصل عندها " خذني لغرفتي "
دس يده في جيبه وقال ببرود " ورائي أمور كثيرة أخرج لها
عمتي وقد أبات خارج حوران فأجلي ما لديك للغد "
نظرت له فوقها وقالت " لا لن أؤجله فقد انتظرتك بالأمس لكنك
صعدت لغرفتك ولم تنزل منها إلا وقت العصر وغادرت ولم ترجع
إلا وأنا نائمة وأعلم أنك إن خرجت الآن لن أراك لا اليوم ولا
في الغد وقد تغادر من هنا فجرا للحدود "
أمسك مقبضي الكرسي وتوجه بها جهة ممر غرفتها قائلا " أعلم
أنك ستؤخرينني رغم علمك أنه ليس لدي ما أقوله "
قالت ما أن اجتازاه وظهر لهما باب غرفتها " بل لديك ما
تقول وما تسمع "
وتابعت بلهجة توبيخ وهي تفتح باب غرفتها ويدخلانها " أراه تصرف
أطفال يا مطر أنت تهرب من المنزل وهي تسجن نفسها في غرفتها
لم أعرفك هكذا في مواجهة مشاكلك يا ابن شاهين "
ترك مقبضي كرسيها ما أن كانا داخل الغرفة وقال بضيق " عمتي
قلت لك من البداية ليس لدي ما أقوله , إن كان لديك أسئلة فاطرحيها
عليها قبلي لأنها من قلب تلك الليلة لجحيم وقللت أدبها عليا أيضا
فلتحمد الله أني لم أمد يدي عليها "
دارت بكرسيها حتى قابلته وقالت بصدمة " تمد يدك عليها !! أقسم
لن يخاطب لساني لسانك ما حييت إن فعلتها يا مطر ولا
أضنك تفعلها "
مرر أصابعه في شعره متأففا بحنق وقال " عمتي أخبرتك منذ البداية
أن تتركي الموضوع لاحقا , أقسم أن أعصابي تشوى على قطعة حديد
متقدة ولا أريد أن أخطأ في حق أي أحد فاتركيني أذهب في حال سبيلي "
قالت مباشرة ودون مقدمات " من المرأة التي تركت زوجتك من
أحجلها وخرجت يا مطر ؟ "
نظر لها باستغراب قبل أن يقول باستنكار " عمتي ما هذا الهراء ؟ "
ضمت يديها لبعضهما وقالت بحزم " أليس هذا ما حدث يا ابن شقيقي ؟
أنا لم أفهم كثيرا من كلامها فقد كانت كالضائعة تخرج كلمة وتبلع
عشرة وقد مرضت صباحا وتقيأت حتى ضننا أن روحها ستخرج
من جسدها لولا أن أسعفتنا حبيبة بدواء أعشاب أراحها ونامت
ما الذي حدث في رحلتكما تلك يا مطر ؟ أجزم أنها كانت
متلفة لأعصابها حتى فجرت أعصاب معدتها من كبتها "
مسح قفا عنقه بيده رافعا رأسه للأعلى وهمس بكلمات غير
مفهومة قبل أن ينظر لها قائلا " هي قالت ذلك ؟ "
قالت من فورها " لا تتسرع الحكم لقد كانت منهارة تماما وترفض
رؤية أحد أو الحديث وقت نزولها بعدك فجرا وأنا من ضغط عليها
وقالت أن ثمة امرأة جعلتك تقطع رحلتكما وترجعا وتتركها وتغادر
لها لأنها تنتظرك , لا أصدق أنك أنت مطر شاهين تفعلها وأمام
زوجتك أيضا !! "
ضغط أسنانه بقوة وكأنه سيحطمها وقال " هذه الفتاة ألم تسمع
عن قصة الطفلة من خماصة ؟ "
نظرت له عمته باستغراب وقالت " هي لا تستمع للمذياع ولا
تحبه وترفض سماع أي أخبار عن الجبهات , لكن ما علاقة
ذلك بالأمر ؟! "
تحرك حينها هامسا بغضب مكتوم ووجهته باب الغرفة
" سحقا لأفكار النساء "
فتحركت تلك خلفه منادية تحرك عجلات كرسيها بكل قوتها
" مطر ارجع ولا تتحدث معها الآن , مطر انتظر قلت لك "
لكنه لم يكن يسمع شيئا سوا صدى كلماتها السابقة ولا يرى إلا نهاية
الممر أمامه ولم يتوقف حتى كان عند باب غرفتها وفتحه بقوة على
اتساعه ودخل متوجها نحو التي قفزت جالسة على السرير تنظر له
بخوف وقد وصل عندها وأمسك ذراعيها بقوة متجاهلا تألمها
وصرختها المترجية لأن يبتعد عنها وأنها لا تريد رؤيته .
سحبها موقفا لها خارج السرير وأصابعه تغرس في بشرة ذراعيها
البيضاء الناعمة المكشوفة من كمي فستانها القصيران لحظة دخول
عمته تسحب نفسها بالكرسي مقطوعة الأناس من تعب يديها وذراعيها
وقد أغلقت الباب لتمنع صوت هذا الغاضب الذي فقد أعصابه من
الخروج خارج الغرفة وقالت بأمر " مطر أتركها ليس
التفاهم بهذا الشكل "
شد ذارعيها أكثر وهي تنزل رأسها للأسفل متجنبة النظر له وقد
خرجت منها أنات خفيفة متألمة عجزت عن إمساكها وقد صرخ
بالواقفة خلفه " عمتي لا تتحدثي رجاءا واتركيني أتفاهم مع
هذه الغبية "
رفعت يدها بضعف وأمسكت بقبضتها الواهنة صدر قميصه جهة
الأزرار وقد هزها بقوة ناظرا لملامحها التي أخفت غرتها أغلبها
" من المتهم في كل هذا يا غسق تكلمي ؟ من المذنب في غبائك الغير
معقول ؟ هل سألت عقلك من تكون تلك المرأة ولما عدت وخرجت
لها ؟ ما ذنبي أنا إن كنت تكرهين الحديث عني وسماع أخباري
وما يحدث معي هناك جهة الهازان ؟ "
لم تعلق بشيء وعضت شفتها بقوة تكابد على ألم جسدها وقلبها وقد تابع
صارخا وخصلات غرتها تتحرك بسبب أنفاسه الغاضبة التي خرجت
مع كلماته " ذنب من أنك تجهلين أن تلك المرأة والدة الطفلة الناجية
من مذبحة خماصة وقد جاءت مستغلة غيابي وبكل بدم بارد وقلب
ميت تريد أخذ ابنتها من أجل إرثها من عائلة والدها متجاهلة أنها
مرت بظروف قاسية ورأت جدتها تموت أمامها في ذاك المنزل
وضنت أن امرأة أخرى هي والدتها ومرضها لا يسمح
بتعريضها لكل تلك الضغوط "
هزها مجددا متجاهلا أنينها المتوجع الذي ارتفع أكثر وتمسكها بقميصه
بقبضتها بقوة وكأنها تخشى أن يقذفها بعيدا على الجدار وتابع بذات
صراخه الغاضب " ذنب من منا تكلمي ؟ أهكذا تعامل الزوجة زوجها
يا ابنة شراع يا تربية الزعماء يا ابنة الأشراف ؟ أهكذا رباك شراع
صنوان الرجل الشريف أن ترفعي صوتك في وجه زوجك الند
بالند والكلمة بمثلها ؟ "
لم تعلق بشيء ولم تستطع قول شيء ولا فعل شيء أيضا سوا مكابدة
دموعها وكتم أنينها المتألم فتركت يديه ذراعها وأمسك بها ذقنها ورفع
وجهها له للأعلى حتى تقابلت عيناها المجهدة بجفنيها المحمران بعينيه
الغاضبة المعاتبة بحنق وشد على ذقنها بقوة صارخا " هل هذا ما
أنتظره منك يا زوجة زعيم الحالك ؟ الظنون الباطلة والتخوين "
أمسكت يد عمته بكم قميصه وشدته منها قائلة " حلفتك بالله أن
تغادر يا مطر , إن كان لي احترام لديك أتركها ويكفي هذا "
ترك حينها ذقنها بعنف وخرج من الغرفة من فوره ضاربا بابها خلفه
وانهارت هي على السرير تدفن وجهها في ملاءته ويداها تقبضان عليها
بقوة ولازال ذاك الأنين المتوجع يخرج منها فهزت الجالسة على كرسيها
رأسها تلعن نفسها على ما فعلت وقد أدركت حينها أنه كان عليها أن تنتظر
حتى يرجع غدا فهو يبدو كان يؤجل ذلك حتى يهدأ وتهدأ الأمور أولا وتلك
كانت عادته دائما لكنها ضنت حقا أنه قد يفعلها ويتزوج بأخرى على الأقل
قربت كرسيها للسرير أكثر ومدت يدها تمسح على الشعر المتناثر للنائمة
عليه لازالت تخفي وجهها فيه وقالت " يكفي يا غسق ستنهكين أحشائك
مجددا وتكوني الخاسرة حينها "
ثم تنهدت بأسى حين لم يؤثر كلامها بها شيئا وقالت " كان عليك
سؤاله يا غسق , لو كنتما تحدثتما ووضحتما الأمور لبعضكما
ما وصل الحال بينكما لهذه المواصيل "
خرج صوتها مختلطا ببكائها ولازال وجهها يحضن برودة تلك
الملاءة " كانت غلطته عمتي هو لم يوضح لي لم يتحدث معي
في الأمر وكأنه لا وجود لي ولا مشاعر "
مسحت على شعرها مجددا قائلة برفق " لا يوجد شخص في البلاد
لا يعلم عن قصة تلك الطفلة يا غسق ولا عن أن مطر كان يريد
جلبها هنا لولا أخذها أحد رجاله لزوجته ومنزله , الجميع يعلم
عداك أنتي لأنك ترفضين أن تعلمي بذلك وتقصين نفسك عن
كل شيء يحدث حولك , حتى مجلس النساء تخرجين منه
كلما انخرطت الأحاديث فيه للحروب وظروف البلاد "
لم تعلق بشيء ولازالت تدفن وجهها وعبراتها في ذاك القماش المشبع
بدموعها فهزت الجالسة على كرسيها رأسها بأسى من حالهما وحركت
عجلاته خارجة من الغرفة واجتازت الممر حتى كانت خارجه متحركة
في بهو المنزل الواسع تنظر للذي ظهر نازلا من السلالم بخطوات
مسرعة يحمل حقيبته في يده فقالت " مطر "
وقف ونظر جهتها ما أن نزل آخر عتبة فيه وقال بضيق " عمتي
لا يمكنني خوض أي حديث في أي شيء فابتعدي عني كي لا أخطئ
في حقك , سأغادر للحدود ولا أعلم كم سيطول غيابي هناك "
هزت رأسها بحسنا وقالت بهدوء " وذاك أفضل , ابتعد عنها
وأبعدها عنك لترتاح نفسيتكما أولا "
خطى جهة الباب دون أن يعلق بشيء فأوقفته منادية له مجددا فوقف
ويده تمسك مقبضه ودون أن يلتفت لها فقالت بجدية ناظرة لقفاه
" لا تتهور في أي قرار يا مطر وكن كما أعرفك ويعرفك
الجميع بني ولا تنسى أنها في عهدتك لا أحد لها هنا غيرك "
تنفس بقوة وكأنه يسجن الكثير من الكلام ولا يريد أن يخرجه وفتح
الباب قائلا وهوا يخرج منه " لا تخافي عمتي فطلاق لن أطلقها
ولن أتزوج عليها "
وخرج مغلقا الباب خلفه وركب سيارته وغادر من فوره مجيبا
على هاتفه الذي تركه في السيارة ويبدوا أنه لم يتوقف عن الرنين
من وقت , فتح الخط وقال من فوره وبضيق " قادم لكم يا بِشر
ألا تستطيعون تدبر أموركم ليومين دون رؤية وجهي "
قال من في الطرف الآخر وبتوجس " آسف سيدي ما عرفتك
تتضايق أبدا من استشارتنا لك في أي أمر !! "
تأفف بقوة وقال " اترك كل تلك الأمور إذا حتى أصل "
قال ذاك من فوره " وهوا كذلك , سلم لي عليها بالله عليك
وأخبرها أن بِشر يرفع لك القبعة "
عقد مطر حاجبيه مستغربا وقال وسيارته تزيد من سرعتها
على الطريق الترابي " من هي ؟ "
ضحك ذاك من فوره قائل " ابنة شراع طبعا "
وأغلق الخط من فوره كي لا يترك له أي مجال للرد عليه فهز
رأسه مبتسما رغم تجهم ملامحه وغضبه ثم رمى الهاتف على
الكرسي الآخر بجانبه وانشغل بترديد دعاء السفر وسيارته
تغادر شوارع حوران
*
*