جنون المطر (( الجزء الأول ))
الفصل الخامس
أشكر الأخوات الغاليات الهرة . بنت ليبيا . أم فهد الفهد . دفء المشاعر . همس الأمومة . ابتسامة بغداد . one million. خربشات بقلم واحد . دودي المزيونة . mee4 . شكرا على تشجيعكم لي وأعتذر عن تأخري ,,, والشكر كل الشكر لحبيبتي الغالية لمارا على مجهودها معايا ومعاكم الله لا يحرمنا منها
المدخل
بقلم الغالية : lulu moon
قال:أحبك يا نور القلب والعيون...
وحياتي دونك أبدا لن تكون...
فسال الدمع على الوجنات ومن العيون..
وله قالت أبدا ستكون..
ليس حبا ولا رغبتها به تكون...
لكن جميل لقلبه العاشق المجنون ..
لأناملها الرقيقة راقب وتمنى بد لها أن يكون..
في مسح الدمع وإعادة إشراقة تلك العيون ...
تهور!!!نعم يعرف ...
ولألم قلبه يدرك ...
وكونها مجبرة؟!أيضا يدرك..
لكن تخيل البعد أمر مقرف ...
سار بالخطى .. واحد وإثنان ...والعين تراقب ليل الغسق المنان ..
وبالقرب من ليلها .. الذي عشق منذ كان ...
وحرم من رؤياه بأمر المنان...
ها هو يقف هنا الآن ...
متجاوزا كل الأعراف والأديان..
ولوجنتاها يحتضن بأمان .. بقربها دوما لقلبه أمان..
وزاد من الجنون أميال...
وأنحنى ع الجبين مودعا كل الآمال ..
وأمله بقلبها الصغير الذي كان ولا يزال ... مغرم بهم كأل...
ورسالته على الجبين وصلت .. وأن لقلبه من الراحة أن ينال ..
نظرة الوداع تكفيه ألما .. إذا استدار دونها مودعا كل الآمال...
لحقت به الخطى...
ويا ليتها كالذي بالبعد بقى ...
نادته بقلبها المحب:كن لي عونا يا رفيق الدرب ...فأنت أخي وهذا ما أحب ...
استدار وعتاب عيناه يهفو:أحبك....وغير هذا في قلبي أبدا ما كان ...محترم لقلبك وما يحمل من إمتنان ..لكن قلبي عنيد يأبى الإبتعاد بأمان...إذا بأمل في الغد أنا طمعان..
انحنى قلبها قبل الحس :انتظرني.. فربما ما في القلب سينام د.. وأخي ستتحول إلى زوجي حبيبي كما تتمنى الآن ..
إبتسم بأمل وحنان ...
إبتسمت بألم وإمتنان...
وشتان بين موقع الحرف في الكلام ..
فما نصيبك غسق الليل من حرف منان؟!!!!
*******
نظر بضيق وعتب وخيبة أمل للواقفة بجانه وهو يقبض بأصابعه
على الورقة المطوية في يده ويطرق باليد الأخرى باب الغرفة
قائلا " غسق افتحي أو غضبت منك وذهبت للحدود "
ولا مجيب ككل مرة فمنذ أكثر من ربع ساعة وهو على هذا
الحال واقفا يحاول إقناع التي تسجن نفسها في الداخل أن تفتح
الباب وبلا فائدة , هز رأسه وهو يزيد من قبضته على تلك
الرسالة التي أصبحت في يد الجميع وقال بصوت منخفض أغلبه
توبيخ " عمتي هل أعجبك هذا الآن ؟ بأي حق تتدخلي في أمر
يخصها وحدها "
قالت هامسة باستياء " وما أدراني أنها من جبران ظننت أنـ ... "
وسكتت فجأة ليقول الواقف أمامها باستغراب " ظننتها ماذا ؟ "
تأففت وقالت " أين ذهب والدك ؟ وحده من يمكنه إخراجها "
عاد للطرق مجددا قائلا " في الرجلاء فقد وصله خبر
عثورهم على خمس جثت هناك "
وضعت يدها على فمها قائلة بصدمة " ضننت أننا نسينا
هذه الأحداث من أكثر من عامين "
أبعد يده بيأس عن الباب وقال مغادرا " البَركة في البلبلة
التي أحدثها ابن شاهين والقادم مؤكد سيكون أكثر سوءا "
وغادر نازلا السلالم وتركها واقفة هناك وحدها تنظر للباب بتأنيب
ضمير فلم تقسوا عليها إلا لمصلحتها , لا تريد أن يتزوجها رجل
يعيرها بأصلها المجهول , وتعلم أن أبناء شقيقها وحدهم من ستكون
مع أحدهم محمية من كل ذلك وخشيَت عليها من ابن خالتها الذي
اكتشفت رسائله لها فهو يُعرف بسوء لسانه وإن كان العيب الوحيد
فيه إلا أنه سيتحول لأكبر سيل من العيوب إن كان الذي سيواجهه
هي غسق , تنهدت بقلة حيلة وتوجهت لغرفتها تتمتم لنفسها بضيق
( لو تقلعين عن عادة سجن نفسك يا غسق وعن كتمك الأمور وتحمل
أضرارها فلِما لم تخبرني من قبل أنها وافقت على جبران ؟؟ هي لن
تتغير أبدا فكم تكتمت عن سوء معاملة زوجة شراع لها لسنوات حتى
كشف جبران الأمر ثم عن إحدى خالاتها وما تقول لها عن حقيقة
أصلها المجهول بعدما انكشفت الحقيقة للجميع , وغيرها الكثير والكثير
والآن وضعتني أنا محل اتهام من الجميع ولازال لي حصة كبيرة من
شراع ما أن يرجع لأنه خرج ونظرته لي تنذرني بسوء ما كتمه في
نفسه لأنه استعجل الخروج )
دخلت غرفتها وأخرجت الأوراق التي أخذتها من درج مكتب غسق
وعادت لباب الغرفة ودستهم لها من تحته وغادرت نازلة السلالم
وهي تعلم ما سيحل مشكلة غسق ومطمئنة ( مؤكد ما إن يرجع
شراع سيخرجها هذا إن عاد اليوم ولم تبات سجينة الغرفة بلا
طعام للغد أيضا وسيتضاعف لومه لي )
*
*
رفعت عيناها من على مسبحتها لتتدلى خرزاتها تتبع بعضها وهي
تضعها في حجرها ببطء جالسة على السرير الذي يحتضن جسدها
أغلب ساعات النهار واستقبلت بابتسامة صاحب اليد التي دفعت باب
غرفتها ببطء ودخل يرتدي معطفا خريفيا يناسب الطقس الحالي وصل
طوله لما يقارب ركبتيه بعمامته الداكنة تحتضن وجهه لتزيد من دكون
لون عينيه وحدتها بل لتبرز لمعان شعر لحيته ومنابت شعره لتصف
زعيم تلك القبائل في الصورة التي لا يعرفه فيها سوى المحاربين في
حدود مناطقه , حاجبين مستقيمان يحفان تلك العينين بسبب النظرة
المقتضبة القوية المسيطرة , وصل عندها ومرر يده وأصابعه
الطويلة على رأسها قبل أن ينحني ويقبّله فرفعت نظرها له ما
أن وصلها صوته الجاد المبحوح قائلا " قالت جوزاء أنك
تريدين رؤيتي "
قالت ناظرة له " نعم ويبدوا أنك مستعجل فأين بعمامتك
هل ستوسع الحدود مجددا ؟ "
دس يده في جيب معطفه وسافر بنظره للنافذة الواسعة المفتوحة
فأكثر ما يكره سؤاله عما سيفعل وما يريد وفيما يفكر ويكره أكثر
الإجابة عليه لكنه تنهد ونظره لازال يعانق السحب البيضاء التي
أخفت الشمس وقال ببرود " لمناطق التدريب "
فهزت رأسها بحسنا وقالت " أريد أن ترسل من يتقصى لي عن
أمر العجوز عُزيزَة التي كانت تُوَلد النساء في الماضي في قرية
حَجور, لقد سألت عنها وعلمت أنها لازالت هناك لكن يبدوا
أن منزلها تغير فأريد أن ترسل من يأتي بها دون أن تعلم أين
أو زرها بنفسك واسألها ما أنجبت أميمه غزير لديها فتاة أم
مولودا ذكرا ؟ فوحدك من ستنطق أمامه "
نظر لها دون كلام لتفهم استغرابه للأمر فقالت " لأمر
مهم قد أطلعك عليه يوما لكن ليس الآن "
بمجرد أن أنهت حديثها استدار مغادرا بخطوات ثابتة بطيئة
حتى وصل الباب وتخللت أصابعه الطويلة مقبضه وقال وهوا
يخرج ساحبا له خلفه " أعطني بعض الوقت حتى نحسم
أمر ديجور أولا "
*
*
ما أن تناصف الليل وتيقنت من دخول شقيقها كاسر غرفته
وتيقنت أن والدها لن يرجع اليوم أما عمتها فمن عادتها النوم
مبكرا فما أن تصلي العشاء تنام وتستيقظ قبيل الفجر بوقت
فتحت باب غرفتها وخرجت منه ونزلت للأسفل حيث الهاتف
الوحيد في هذا المنزل وكل ما تخشاه انقطاع الكهرباء في هذا
الوقت ليس لأجل الرؤية لأن المنزل كان شبه مظلم فقد تعلّم
أهالي هذه البلاد أن يوفروا قدر الإمكان وقت عدم احتياجهم
لها لكن ما كانت تخشاه أن تنقطع الإتصالات بإ
نقطاع الكهرباء
ولن تستطيع التحدث به , نزلت السلالم ببطء ويصل لمسامعها
صوت المذياع المرتفع الذي يخرج من جهة غرفة شقيقها كاسر
والحوار فيه في أوجه عن طلب زعيم الحالك مقابلا للعمران وتأخر
رد الهازان والاحتمالات المطروحة أمامهم وموقفهم وتداعيات أي
خيار قد يختاروه من طلب ابن شاهين , وكادت أن تجلس على عتبات
السلالم تستمع لهم وتنسى ما جاءت من أجله لولا أنها هزت رأسها
وأبعدت سمعها وتفكيرها عما يقال هناك وتمتمت وهي تخطوا
جهة الهاتف مسرعة " منذ متى كانت هذه الأمور من
اهتماماتك يا غسق !! تبا لك توقفي عن هذا "
وما أن وصلت حيت الهاتف حتى جلست بجانبه ووضعته في
حضنها ورفعت السماعة واتصلت فورا بمنزل خالتها وطال
انتظارها وكلما انقطع الاتصال ولم يجب أحد أعادت المحاولة
مجددا حتى أجاب عليها الصوت الرجولي قائلا
" مرحبا من معي "
فبلعت ريقها وعيناها تجولان بين ممرات الطابق بتوتر ( سحقا هذا
وثّاب ما الذي جعله يجيب الآن ؟ بل ظننته ليس هناك في مدينتهم )
أعاد السؤال مجددا فحمحمت وقالت " أنا غسق أعطني جليلة "
وصلها حينها صوته مسرورا " غسق !! ليلة سعيدة
هذه التي عادت بي للمنزل وللمدينة "
تنهدت بضيق تمط شفتيها ثم قالت ونظرها على ممر غرفة
كاسر " توقف عن هذا واعتبرني جليلة هل ترضى
أن يخاطبها أحد أخوتي هكذا "
قال من فوره " لكنك تعلمين أني أحـ ... "
قاطعته بضيق " وثّاب اقسم أن أمرك سيصل لأبي وأخوتي
إن لم تسكت الآن "
تأفف حينها وقال ببرود " انتظري لأناديها لك "
وسمعت بعدها خطواته المبتعدة فتنهدت براحة ويدها على صدرها
فلم تتخيل أن تجد القوة لتصده هكذا فكم تهربت من لقائه وجها
لوجه عند أي مناسبة تذهب فيها لمدينة عائلة والدتها ولم تتخيل
أن يكون هوا من سيجيب عليها الآن , بعد قليل وصلها صوت
ابنة خالتها قائلة " مرحبا غسق "
فقالت من فورها وبضيق " لما لم تخبريني حين اتصلت المرة
السابقة أن شقيقك سيكون معكم هذا الأسبوع "
قالت تلك ضاحكة " ولا نحن نعلم بمجيئه , مفاجئة
سارة أليس كذلك "
تأففت وهمست ونظرها على ذاك الممر " أخبريني ماذا حدث
بشأن ذهابك لقريبة تَوْز لكي أتحدث مع والدي "
قالت جليلة بشيء من القلق " غسق أخاف أن نتسبب بمشاكل وإن
حدث لك شيء وأنتي تعبرين تلك الحدود فلن يرحمني أحد "
تنهدت بضيق فهي مهما حاولت إقناعها والشرح لها لا تزال خائفة
قالت بذات الهمس " كم مرة سأشرح لك يا جليلة سأذهب لزيارة
تلك العجوز وأرجع لن يلحظ أحد شيئا "
قالت في محاولة جديدة لردعها عما تفكر فيه " لا أعلم كيف
تبسطين الأمر هكذا يا غسق ؟ تذكّري أنك ستتسللين لمناطقهم التي
يحرسها رجال قبائل الحالك من جانب ورجالنا من الجانب الآخر
لتعبري منها ذهابا وإيابا أي أن فرصة نجاتك منهم صفر "
قبضت على سماعة الهاتف بيدها بقوة وقالت بتصميم " بل سأذهب
وسأدخل هناك وأصل لتلك العجوز , فأخبريني كيف يتسلل البعض
دائما ؟ ثم لا أحد يمكنه تأمين كل شبر في حدوده ولا خوف من أن
يمسك رجال والدي بي فإخوتي هناك أما رجال الحالك سأعرف
كيف أعبر منهم المهم الآن أن أصل للحدود ولا حل غير الذهاب
معك في زيارتك لجدتك فهي وحيدة وتنسى ولن تلحظ شيئا "
تنهدت جليلة باستسلام وقالت " أمري لله رغم أني أعلم العواقب إن لم
ترجعي , ولستِ توافقين على أخذي معك كي نواجه نفس المصير , المهم
أن الزيارة تأجلت ويبدوا لوقت بعيد قليلا , حاولت جهدي ولم أنجح فعليك
بالصبر أو أخبري والدك الآن وحين نكون مستعدين للذهاب
سأخبرك "
قالت من فورها " لن ينفع ذلك فعليا أن أتحدث معه قبل ذهابنا بيوم
أو اثنين كي لا يُقلِّب الأمر كثيرا ويشك بي ويمنعني فأنا أعرف
جيدا كيف يفكر , ثم عمتي ستكشفني بسرعة "
نظرت بعدها للأعلى بريبة وتجمدت ملامحها وهي ترى الخطوات
التي تنزل السلالم فأغلقت السماعة من فورها ووقفت ناسية أن الهاتف
في حجرها فوقع أرضا مصدرا ضجيجا واضحا لحظة وصول عمتها
للأسفل فحملته بسرعة وتوتر ووضعته على الطاولة لتكتشف أن سماعته
التي تحاول من وقت وضعها في مكانها وتقع منها في كل مرة كانت
مقلوبة فوضعتها جيدا على صوت عمتها المستغرب قائلة
" غسق مع من تتحدثين هذا الوقت ؟ "
سوت وقفتها وأنزلت رأسها وقالت ونظرها على أصابعها التي
تعبث بطرف بيجامتها " كنت أتحدث مع جليلة ويمكنك التأكد
من الرقم المخزن "
قالت الواقفة أمامها من فورها " ما هذا يا غسق هل تضني
أني سأكذبك ؟ "
لم تعلق ولازال نظرها على أصابعها الثلجية الرقيقة التي تبرم طرف بيجاتها
وتفتحه في حركة متكررة فتنهدت الواقفة تراقبها بتأني وتفحص من شعرها
المجموع في ضفيرة تتدلى على صدرها وقد وصلت لخاصرتها وبيجامة
من الكتان بيضاء اللون متناسبة مع جسدها الضئيل النحيل وكأنها خيطت له
خصيصا , ركزت نظراتها على عينيها التي تخفيها غرتها المقصوصة وقالت
" أنا استغربت فقط يا غسق وخفت أن مكروها أصاب أحد أبناء شقيقي "
هزت رأسها بلا بقوة وتحركت مسرعة غير مصدقة أنها لم تسمع ما دار
بينهما فذاك وحده يكفي ليجعلها تفر بفرحتها هربا لكن يد عمتها كانت
أسرع لها وأمسكت برسغها وأوقفتها مكانها وقالت بهدوء " تعالي
اجلسي يا غسق لنتحدث قليلا "
أنزلت رأسها للأسفل أكثر وقالت بصوتها الناعم المنخفض
" إن كان حديثا طويلا فلنتركه للغد لأني أشعر بالنعاس "
تركت يدها من فورها وقالت ببعض اللوم " غاضبة مني لهذا الحد يا
غسق ولم تعد أحاديثي التي تعشقي منذ طفولتك تهمك ؟ "
رفعت رأسها من فورها لتبتعد خصلات غرتها معانقة لطرفي وجهها
كاشفة عن بحر عينيها الأسود الهادئ الذي تلألأت مياهه في ظلام المكان
وقالت من فورها " لا عمتي ليس هذا ماأقصد فأنا لم ولن أنسى كل ما
فعلتيه من أجلي لكني حقا أشعر بالنعاس "
أمسكت يدها مجددا ساحبة لها معها للأريكة الطويلة بقماشها البني الغامق
الذي تحول لما يقارب الأسود بسبب النور الخفيف وطغي الظلام على
المكان , وقالت وهي تجلس وتُجلسها أمامها " لن يطول بنيتي "
ثم تابعت وقد حضنت كفها الصغير الرقيق بين كفيها الأكبر حجما منه رغم
صغرهما " غسق أعلم أن تصرفي كان خاطئا لكنه من خوفي عليك بنيتي فلا
أريد لابن خالتك ولا غيره أن يهينك بسبب جهله لعائلة والدك ونسبك , وأبناء
أخي شراع وحدهم من لن يفعلونها فكيف إن كان جبران أكبرهم وأعقلهم
وأكثرهم حكمة واتزانا , بل وهياما بك "
أنزلت رأسها بسرعة تحجب ملامحها عنها ليس لتحاول إخفاء حيائها من
كلماتها ولا هربا من نظراتها المتفحصة لردة فعلها بل لعض شفتها بقوة في
حركتها المعتادة منذ طفولتها حين يكون لديها كلاما لا تريد قوله , امتدت
أصابعها لذقنها وأمسكته ورفعت لها وجهها ببطء لتحرر تلك شفتيها سريعا
كي لا تراها لكن الجالسة أمامها قالت مبتسمة وهي تبعد يدها " قولي ما لديك
يا غسق فقد فجرتِ الدم في لون شفتك وقد فاتك أنها تشبه حبة الكرز عطبُها
يخرج لونها أكثر , أو أنك نسيتِ أني أعرفك منذ كنتِ ابنة العشر سنين "
عادت للهرب من نظراتها وخرج صوتها وقد طغى على رقته وهدوئه نبرة
الأسى والخذلان قائلة بحزن " كل شيء نسيته عمتي ولم أحمل في قلبي منه
لكن مناداتك لي بابنة أميمه بدلا من ابنة شقيقي لازالت تنحرني حتى الآن "
ضمتها لحضنها فورا وقالت بحنان " سامحيني بنيتي الخطأ كان خطئي
من البداية يا غسق "
قالت وقد دفنت وجهها في صدرها " وليس لأني وافقت على جبران ؟ "
أبعدتها عنها وقالت بجدية " مهما حدث يا غسق فقلبي كان سيأنبني عليك
فحتى الأم تغضب من ابنتها وقلبها لا يحمل ناحيتها شيئا "
امتلأ بحر عينيها القاتم بالدموع وقالت تمسك عبرتها " لكنك كنت غاضبة
مني طوال الأشهر الماضية ومنذ غاب جبران عن المنزل ولم ترضي
إلا اليوم بعدما قرأتِ رسالته "
مررت كفها على طرف وجه الجالسة أمامها تمسك دمعتها بصعوبة وقالت
بحزن " كلما فكرت فيه وفي قلبه المكسور حز ذلك في خاطري يا غسق وأنا
أكثر من يعلم بعشقه المزروع في نخاع عظامه لك , وكم كان يقول لي سابقا
( نفذ الصبر مني يا عمتي وقلبي ينفطر ولا أحد يعلم بحالي ولا يرحمه )
ولم يرتاح له بال حتى أخبرك والدك شراع بحقيقة أنهم ليسوا أشقائك "
قالت بعبرة وقد تدحرجت دمعتها الأولى تتلألأ في النور الخفيف " هل سأسعده
عمتي ؟ هل حقا هوا يستحقني ؟ أنا خائفة عمتي خائفة عليه وليس على نفسي "
مسحت بكفها على الخد الذي أشتعل احمرارا وقالت مكفكفة الدمعة الجديدة
التي لحقت سابقتها " الزواج يبدأ بالعشرة الطيبة يا غسق والتي ستتحول
لمحبة وود وتراحم , وبدون هذه القاعدة لن ينجح أبدا صدقيني "
قالت بشفاه مرتجفة وكلمات ناعمة مبحوحة " كم أتمنى ذلك وأن
لا يكون الندم حليفنا "
وقفت وأوقفتها معها قائلة " نامي الآن وارتاحي ولا تشغلي نفسك بأمر
ستجديه فيما بعد لا يستحق كل هذا القلق والخوف "
وسارت بها جهة السلالم لازالت تمسك يدها حتى وصلتا لغرفتها ودخلت معها
وأجلستها أمام المرآة وقالت وهي تفك لها ضفيرتها " ألم يعدك كاسر برحلة
لجيروان في الربيع ؟ فاقتنصيه غدا ليأخذنا لها فهي أجمل مناطقنا في
هذا الموسم من العام "
رفعت رأسها ونظرت لها فوقها وقالت ما انتظرت الفرصة طويلا لقوله
" ولما ليس توز فمن كثرة ما حكت لي عنها جليلة أصبحت أتمنى رؤيتها "
أنزلت الواقفة فوقها رأسها ونظرت لها وقالت وهي تمشط بأناملها الحرير الطويل
الأسود الذي فكته " وأنا سمعت عنها الكثير لكنها بعيدة وعند حدودنا الجنوبية
وقد تتحول لمنطقة خطر في أي وقت ولن يرضى والدك ولا جبران قبله "
وقفت على طولها وأمسكت يدي الواقفة أمامها وقالت برجاء عميق
" عمتي أريد الذهاب , وجليلة ذاهبة نهاية الشهر قبل خروج الربيع
حيث منزل جدتها هناك , وأريد حقا زيارتها معها لتريني كل
ما حكت لي عنه فأقنعي والدي معي "
قالت بابتسامة وهي تسحبها معها جهة السرير " إن لم تقنعه مدللته
الصغيرة غسق فلن أنجح أنا لكني سأحاول بما أن أبنائه هناك دائما
وإن قريبا منها , وهيا للنوم أم طار النعاس "
دخلت سريرها ونامت على وسادتها الناعمة ولم تكلف نفسها عناء شد اللحاف
على جسدها فقد أصبح منسدلا عليه ويدي الواقفة فوقها توصله لكتفيها كعادتهما
لأعوام ثم قبّلت جبينها وقالت " تصبحين على خير بنيتي ونامي ولا تفكري
في شيء فالسهر سيء للصحة "
ثم أطفأت نور الغرفة الخفيف وخرجت بهدوء مغلقة الباب خلفها على نظرات
النائمة على السرير وقد ارتسمت ابتسامة طفيفة على شفتيها , فهي تحبها حقا
ومهما غضبت منها كانت ستسامحها وكم أسعدها أن تجاوزتا كل ذاك الصمت
والبرود الذي كان بينهما من أشهر , وأنها قامت بنصف المهمة وأقنعت عمتها
بذهابها للحدود دون أن تشك بها وبقي والدها فقط الذي إن قال كلمته فلن
يناقشه أحد , مررت يدها من تحت رأسها ورمت شعرها الطويل الحريري
للخلف ليتناثر مغطيا المكان خلفها فهكذا اعتادت أن تنام وكلما تقلبت ليلا
رمته بعيدا عن كتفيها وجسدها
*
*
تحت الظل الممتد بسبب أشجار البلوط الطويلة المصفوفة على طول الطريق
الترابي الذي يشق تلك القرية الحدودية البسيطة , قرية ( حجور ) التي اشتهرت
بحقول الرمان الشاسعة مكونة أحد القلوب النابضة لتلك الجهة من البلاد , يجلس
ذاك الجسد الصغير النحيل منحني الرأس تراقب عينيه الحادة يده المرتجفة التي
يحاول تثبيتها وهوا يقص حواف أظافره بسكين حلاقة قديم مكسور كي لا يلقى
توبيخا جديدا من معلمهم وهوا يفتش أظافر الطلاب , نفض يده بقوة وخرجت
منه أنة متألمة متأففة وقد جرح أصبعه الثالث بنفس الطريقة فوقف بعدما مسحه
في طرف سترته السوداء التي تغير لونها من كثرة ما غسلها ولبسها فلم يعرف
من سنتين ثيابا غيرهم بعدما ضاقت على ابن العائلة التي يعيش ووالدته معهم
ولم يعد بإمكانهم الانتفاع بها لما كانوا تصدقوا بها عليه , رفع حقيبته ووضعها
على كتفه وتحرك بمحاذاة الظل الطويل للأشجار فلا ينقصه أن يتأخر أيضا عن
المدرسة , سار لخطوات قليلة يضرب جذع كل شجرة يمر بها بالغصن الذي
يحمله في يده ويردد آيات السورة التي سيقوم الطلاب بتسميعها اليوم , ليوقف
ترتيله الصوت الرقيق الطفولي الذي نادى على مسافة من خلفه
" تيييييم "
ليخرج منه تأففا طويلا وهوا يتابع سيره دون أن يقف أو يلتفت لصاحبة
الصوت التي وصلت عنده بخطواتها الصغيرة الراكضة تمسك يداها بقوة
بالحقيبة التي تحملها على ظهرها بفستانها الربيعي البسيط المكون من بلوزة
صفراء صغيرة كحجمها وسنها البالغ خمس سنوات ونيف فوقها فستان بحمالات
عريضة وصل طوله لركبتيها وشريطة زهرية تمسك بها شعرها بفوضوية من
يراها سيعلم فورا أنها هي من ربطتها بنفسها وطبعا لتتجنب توبيخ مدرساتها
لمنعهم الطالبات من ترك شعرهم مفتوحا كي لا يضايقهن , شعر بني وصل طوله
لكتفيها وغرة بسيطة تحف حاجبيها الرقيقان وعينان بنية واسعة وابتسامة مرحة
لم تقتلها أحزان الحياة بعد لأنها لم تعرف شيئا منها سوا عائلة عمها التي احتضنتها
صغيرة بعد وفاة والديها وإن كانت تعاني الإهمال منهم , ولم يعي عقلها الصغير
بعد أنهم ما قبلوا بها إلا من أجل ما ترث من مال ولم يمسكهم عنه سوا قوانين ابن
شاهين الصارمة في ميراث الأطفال حتى يبلغ الشاب وحتى تتزوج الفتاة , نظرت
له ليبدأ ما يعرفه جيدا ويهرب منه منذ الصباح وهوا السيل الهادر من الأسئلة
والحديث الذي لا يتوقف إلا بابتعاده عنها لأي سبب كان , قالت بابتسامتها
الجميلة ونظراتها معلقة بملامحه الجامدة وعينيه الحادتين " لما لم تنتظرني ؟
كنت أبحث عنك في المنزل وفي غرفة والدتك "
قال ببرود ونظره على الغصن في يده ضاربا به جذع الشجرة
" ولما عليك الذهاب معي ؟ طريق المدرسة تعرفيها لوحدك "
قالت من فورها مبتسمة وكأن هذا الكلام الذي اعتادت سماعه منه في
كل وقت وفي أي شيء كلام ترحاب ووعود أصدقاء وليس بكل هذا
البرود " أنا أريد الذهاب معك "
وتابعت بعبوس ونظراتها على قديها الصغيرتان اللتان تغوصان في
التراب اللين تحتها " وبلال والشريرين اللذان معه سيمسكون بي
وسيضربني ويأخذان طعامي مني إن كنت وحيدة "
تجاهل كل ما قالت وما سمع وتابع ترتيله للسورة التي يحفظها منذ صباح
أمس ونظراتها لازالت تراقبه وهوا يقطع وريقات الغصن ونظره عليه
ويردد الآيات ويعيد فكل ما يعنيها أن تذهب معه فوجوده يشعرها بالأمان
فالمدعو بلال لن يستطيع أن يقترب منها وهي معه فجميع الأطفال يعلمون
أنه لا يخشى إلا تيم وأن تيم لا يتدخل في أي شيء يفعله بلال إلا إن
كان يخصه أو شخصا معه ولا أحد يرافقه في هذه القرية سوا
الطفلة ( ماريه )
بعد السير لمسافة لا بأس بها وصلا للطرف الآخر من القرية حيث تشبه طرفها
الأول بمنازل أغلبها طينية بسيطة ولم يدخل التطوير إلا على القليل منها , وعلى
هذا اعتادوا العيش واعتادوا أن لا يتذمروا من حالهم , وسائل النقل فيها تعتمد على
العربات التي تجرها البغال أكثر من اعتمادهم على السيارات فلا تراهم يتنقلون
داخلها إلا بها , وعبور السيارات فوق ذاك الطريق الترابي المصفوف بالأشجار
لا يكون إلا لعابري السبيل أو سيارات الجيش وحاملات الجنود عابرة من هناك
للمدن المجاورة المعدة لتجميعهم , وصلا لباب المدرسة حديثة البناء رغم بساطة
تجهيزاتها ليتوقف حديث الطفلة الذي لا ينتهي بالنسبة للصامت طوال الطريق
والذي لا يُتعب ولم ينتهي بالنسبة لتلك الشفاه الزهرية الصغيرة , وما أن دخلا
حتى افترقت عنه سائرة جهة مجموعة من الفتيات ممن في سنها ويقاربه
ولوحت له مبتعدة " أراك لاحقا يا تيم "
حيث تابع هوا سيره موليا ظهره لها ولم يجبها بشيء كعادته فهكذا عرفته
وهكذا اعتادوا عليه جميعهم , ابن شاهر هازان الذي يعيش مع والدته وسط
أحد مدن الحالك ليصفه كلا الجانبين بابن الخائن المنشق عن قبيلته
*
*
نزل من سيارته ضاربا بابها بقوة وتبعته أصوات أبواب لسيارات وقفت
بعده تباعا وسار بخطوات واسعة ثقيلة وهم خلفه تدوس أقدامهم وأحذيتهم
الجلدية الضخمة أزهار الأرض التي اختلطت بين البنفسجية والصفراء تخللها
بعض أزهار البابونج برائحتها الزكية لتحكي فصل الربيع في تلك الأراضي
التي غادرها ذاك الشتاء الماطر من فترة ليست قريبة , اقتربوا من أصوات
الرصاص المتفرق وبدأ يتضح لهم مدى كثافته شيئا فشيئا وقال أحد
السائرين خلفه " يبدوا عددهم قليل سيدي "
قال السائر أمامهم يضغط قبضته بقوة " عشر رجال وخمس رشاشات
في كل جهة , وأي قتيل آخر سيزيد من تأزم الأمر أكثر فعلى هاتين
العائلتين أن تتوقفا فورا "
وصلوا لمنزل كبير عائلتهم حيث يخرج منه صوت نواح النسوة باكيات وما
أن لمحهم أول الخارجين من الباب حتى عاد للداخل راكضا ووقف وسط
الجالسين وقال من فوره " الزعيم ابن شاهين هنا "
فهب الجميع واقفين لحظة ما دخل وستة من رجاله خلفه وما أن وقف
عند مدخل باب مجلسهم حتى رفع يده لهم وقال " لا يرحب بي أحد
ولن تقبلني داركم حتى تقبلوا بوساطتي لحل ما أنتم فيه "
قال من اختلطت لحيته القصيرة بالبياض وظهر عليه القوة وقيادة كلمتهم
" شأنك أكبر من أن تكون وسيطا يا زعيمنا لكن الدم دم وساخن
وما من أحد يسكت عنه "
جال بنظره بينهم حتى وقع على شيخ كبير وقال مثبتا نظره على عينيه
المجعدة " أفهم من هذا أني مرفوض من عند الباب "
انتفض العجوز من فوره وقال بحدة " خسئ وهوا ابني أن يفعلها
وصدر المكان لك وعتابه لنا "
قال من فوره " إذا أرسلوا من يوقف وابل الرصاص هذا حتى
نجد حلا للأمر ثم لكم ما تختارون "
نظر لابنه الذي برزا فكيه من كتمه لغيظه واشتعال قلبه على ابنه الشاب
الذي فقده من ساعات بسبب مشاكل تافهة في نظر من هم في سنه , أخفض
ذاك رأسه وقال بكلمات جامدة " غادر يا لبيب وأخبر أخوك وأبناء
عمك أن يرجعوا "
فخرج المعني بالأمر من فوره ودخل مطر بخطواته الثابتة ومن معه وسلم
على الجميع وعزاهم في ابنهم وقد قبلوا عزائه في أول إشارة لرضاهم
بحكمه فقد رفضوا منذ ساعات الجمع الذي يقوم بحل مثل هذه المشاكل
في مدنهم ولم يقبلوا تعازي أحد حتى يبرد ثأرهم ويراق دما مقابل دم ابنهم
جلس ورجاله حوله وقال من فوره " سنجتمع بأهل قاتل ابنكم ونفض
الخلاف كي لا نصير في عشرة بدل الواحد وعداء داخلي نحن
في غنى عنه في هذا الوقت "
لم يعلق أحد رغم أنه لا بوادر رضا على ملامحهم حتى نطق أحد الجالسين
وكان رجلا فيما تجاوز الأربعين بقليل " القاتل مختفي وأول ما سيقولونه
أنه فر خارج البلاد ويضيع دم ابننا كما حدث مع الكثيرين "
خرجت كلمات ذاك الشيخ ذاته حازمة حادة مسكته له قائلا " ليس
ابني وليس حفيدي ولا أعرفه من يناقشه وهوا في مجلسي وقد جاء
بنفسه فابلع لسانك في حلقك "
سكت ذاك كاتما غيظه وقال مطر " هل يرضيك أن تدفن غدا بدل
الواحد ثلاثة حتى إن قتلتم منهم ستة أو عشرة "
لم يستطع أحد الرد ولو أن أعينهم تحكي الكثير فقال وهويجول بنظراته بينهم
" أعلم أن الجواب هوا أن يبكوا مثلكم وأن يتذوقوا مرارة الفقد لكنه ليس
حلا وسيجلب لقبيلتكم مصائب أنتم في غنى عنها وتتحول الطرق لمذابح
بينكم ولن ننتهي عند اليوم ولا الغد , وبعد أشهر قليلة لن يكون في
استطاعتك حتى أن تخرج من منزلك كي لا تصيبك رصاصة غدر "
لم يعلق أحد فتابع قائلا " ما علمته أن الخلاف كان على أرض في جنوب
ينبع وهي ملك لهم ومستأجرة منكم وأنكروا محصولها هذا العام "
قال والد المقتول " بالفعل وقد أخذوا أجارها من موسم الصيف الماضي ونحن
من قام بحرثها وزراعتها مع أراضينا وطالبوا الآن بنصف محصولها مدعين
أن الأجرة لم تكن كافية , وليلة أول أمس أحرقنا المحصول ولا أحد له فيه شيء
فالمحصول محصولنا وأحرقناه , لنفاجئ فجر اليوم بحرقهم لثلاث أراضي
لنا وحين اعترضنا طريقهم عن تدمير الأرض الرابعة قتلوا ابني أمام أعيننا "
قال من فوره " هل من صك أو شهود على اتفاقكم "
قال والده " رجلان من قبيلة صيغار "
قال حينها مطر بصوت جهوري ميّزته تلك البحة الواضحة ملأ سكون
المكان وكأنه يُسمعه للذي في الداخل والخارج " دم ابنهم مهدور ومباح
لكم ولغيركم وسأبعث من يبحث عنه , وقطعة الأرض ستكون لكم ملكا
وسيعوضونكم في محاصيلكم التي أحرقت فهل هذا الحكم يرضيكم "
نظروا لبعضهم يتبادلون أحاديث صامتة وقال أحد الشباب الجالسين
" وهل سيوافقون على كل هذا وهم بخلوا بترك المحصول لنا ؟ "
وقف مطر ليتبعه رجاله فورا ثم جميع الجالسين وقال بحزم " سيرضون
إن بالطيب أو أكرهتهم على ذلك فالخسائر كانت من نصيبكم أرواحا
وأرزاق وعليهم أن يرضوا "
قال كبيرهم " وإن قُتل منهم شخص بسبب ما حدث قبل قليل ؟ "
قال من فوره " إذا دم بدم وتحررت رقبة القاتل والأرض
والتعويض من حقكم "
نظر لمن حوله ثم له وقال " رضينا بحكمك ويكفينا شرفا أن
خطت قدماك مجلسنا "
خرج بعدها من عندهم ورجاله خلفه وقال ما أن وصلوا سياراتهم " لينطلق
اثنان منكم ومعكم عشر رجال من أكابر قبيلتي للقبيلة الأخرى وأبلغهم بما
صدر مني وأن مجلسي سيستقبل الطرفين بعد ثلاث أيام وأن لا يضطروني
على إكراههم على ما حكمت به فلا أريد أن تنشب حربا بين اثنان من
أكبر القبائل هنا , وإن رفض أي طرف منهم إيقاف وابل الرصاص
قبل ثلاث أيام فواجهوهم بالنار "
أشاروا له بالطاعة ففتح باب سيارته وركب وغادر وسيارتان تتبعانه
وواحدة غادرت شمالا من حيث جاءوا
*
*
مد له منديلا آخر واستمر المقابل له في السعال حتى أصبح يخرج متقطعا
وكأن روحه ستخرج فسنده وأجلسه على السرير الخشبي وقال " جبران
ضع عقلك في رأسك وعد معي للمنزل لتحضا بعناية أفضل فعلى
هذا الحال ستموت "
رمى المنديل في سلة المهملات وقال بصوت مبحوح " أخبرتك أني
سأكون بخير وسيأخذ العلاج وقته كما يأخذ المرض وقته أيضا
ولن أرجع هناك الآن "
تأفف الواقف فوقه ويداه وسط جسده فرفع رأسه له وقال " هل جلبت
شيئا مهما أم قادم فقط لتصرعني بإرشاداتك "
قال كاسر ببرود " لا تتوقع الكثير فأنا لم أراها بعد وصولي أبدا وقد
بقيت سجينة غرفتها حتى خرجت فجرا "
نظر له باستغراب وكل مخاوفه أن رسالته السبب لكن كاسر بادر قائلا ما
أن لاحظ الوجوم على وجه شقيقه المتعب " عمتك سببت لها مشكلة وأخذت
الورقة منها ولست أعلم ما كانت تظن بها وأخبرها عقلها , وحين اكتشفت
أنها منك كانت غسق سجينة غرفتها ورفضت الخروج والتحدث مع
أحد ووالدي غادر صباحا بعد محاولة واحدة فاشلة "
عاد للسعال مجددا وبعدما هدأ قال بتنفس متقطع " سترضى بسرعة
أعرفها لا أنقى من قلبها , وأنت ما أعادك كل هذه المسافة وأنت
غادرت فجر أمس "
نظر جهة النافذة المفتوحة حيث التدريبات الصباحية لجنود حدودهم وقال
" هل نسيت أن مهلة ابن شاهين للهازان ستنتهي نهاية هذا الأسبوع والعمران
داخل حدودنا ولا أحد يتكهن بما يفكر فيه ذاك الرجل , لذلك طلب مني والدي
أن أكون مع الدعم والجنود وأن أرى رعد بما أن رمّاح انفصل عنه عند
قيروا وأنت هنا , أما تخوم العمران ففيها رعد فقط لذلك طلب أن نزيد من
عدد الجنود هناك ففكرت أن أراك في طريقي وسأرجع للمنزل غدا فجرا "
اتكأ على السرير وقال " إذا لا تُقلقهم عليا وأخبرهم أني بخير , ولا
أريد أن أرى والدي هنا بعد يومين يا كاسر مفهوم "
تنهد ذاك بيأس وقال مغادرا " ما أنا متأكد منه أني سأكون الملام الوحيد
ومن الجميع إن حدث لك شيء وتطورت حالتك "
وغادر من هناك تاركا خلفه عينان راقبته حتى خرج وتمتم صاحبهما
" لا أقسى من مرض الشوق إلا مرض الحرمان يا شقيقي وكلاهما أشد من
مرضي هذا فبقائي سيكون أفضل لي حتى يحين الوقت الذي حدّدته بنفسها "
*
*
نزلت السلالم تحاول ترتيب ياقة فستانها العريضة بحيث لا يشدها شعرها
للأعلى وكان هذا أكثر ما يضايقها فيه وتعلم أنه لن يرضى لها أحد بقصه
لكانت على الأقل تخلصت من جزء منه , وصلت للصالون الواسع الذي
حوا مالا يقل عن عشرة نسوة عمتها أحداهن في اجتماعات اعتادها هذا
المنزل , فهوا يمر بفترات لا يتوقف فيها عن استقبال نساء بعض كبار
رجال قبائلهم , وكما هوا متعارف لدى الجميع أن منزل زعيم القبيلة كما
يستقبل رجالها تأتيه وفود نسائها وكما تؤخذ الكلمة فيه من مجالسه فبعض
الأمور قد تتكفل بها الأم والزوجة والشقيقة وحتى الابنة , وقد كانت عمتها
تصر على حضورها لأغلب هذه التجمعات ولتتعلم كيف تقابل جميع مطالبهم
وما عليها أخذه منها فيما بعد ومناقشته مع والدها شراع وما عليهم تركه , فقد
حرصت عمتها كثيرا على حضورها معها لسنوات مضت وألزمتها حضور
جلساتها مع شقيقها شراع ومناقشتهما , وخلال السنتين الأخيرتين بعد اكتشافها
حقيقة أنها ليست ابنة هذه العائلة وليس شراع صنوان سوا زوج والدتها أصبح
حضورها لاجتماعاتهم يقل وينحصر تدريجيا وتضيق مدة بقائها فيه لأنها
كرهت أن ترى ذلك في نظراتهم حتى إن كانت مجرد وهم يصوره لها عقلها
عند البعض منهن , وعمتها احترمت ذلك ولم تتطرق للحديث مع شقيقها عن
الأمر بطلب من غسق كي لا ترى نظرة اللوم في عينيه والتوبيخ في كلماته
وهوا يذكرها بأنه شهد لوالدتها أمام الجميع وبأنها ابنة شرعية وما كان لزعيم
قبيلة أن يتزوج بامرأة عبثت بشرفها وسمعة قبيلتها , وقفن جميع الموجودات
عدى عمتها طبعا وسلمت عليهن بالواحدة وعلى ثغرها الجميل ابتسامة رقيقة
وبكلمات ترحاب شبه هامسة لا تسمعها غير المعنية بها كعادتها , ثم اتخذت
مكانا منفردا وجلست فيه , فلسن الموجودات من سنها ولا يليق أن تناقشهن
حتى إن كان لها رأي خاص فهكذا كانت العادات والأصول فالحديث في هذه
الاجتماعات لزوجة زعيم قبيلة ووالدته وشقيقته إلا في حال كان لا أحد له
سوا تلك الابنة , كانت أحاديثهن تمتعها أكثر من أحاديث أشقائها ووالدهم بعد
اجتماعهم برجال القبيلة لأنها لا تخلوا من ذكر الحروب والنزاعات وتناقل
أخبار الدماء في البلاد , كانت تدقق على كل ما يقال وتحب ملاحظة الفوارق
في الأفكار وأساليب طرح الرأي ولازال على ثغرها الصغير الجميل تلك
الابتسامة الحريرية الجميلة التي تزيد من لفت نظر أغلبهن لها وأعينهن لا
تفارقها كلما سمحت لهن الفرصة , وهؤلاء النسوة وبسبب مراكز رجالهم في
القبائل يتمتعن باللباقة في الحديث وحسن الإنصات وترك المجال لمن تتحدث
ويستمع لها الباقيات , حيث لا يتسم مجلسهم بالفوضى التي تُعرف عادةً في
مجالس النساء وهذا أول ما حرصت عمتها أن تعلمه لها .. الاستماع إن تحدث
أحدهم والصمت إن قاطعها حتى ينهي كلامه وعدم مقاطعته , حين خفت موجة
الأحاديث وبدأ يغلب عليها الصمت بعض الفترات نظرت لعمتها فورا ففهمت
تلك نظرتها وقالت مبتسمة " غسق لا تنسي ما طلب منك والدك من أجل مكتبه "
لتبادلها الابتسامة وقد أومأت لها برأسها إيجابا ووقفت معتذرة بكلمات منخفضة
لكنها كانت مسموعة بوضوح من الأعين المحدقة بها بصمت وهي تغادر وقالت
أول من شعرت بابتعادها " ألا يفكر شقيقك في تزويج هذه الحسناء الجميلة "
وجاء جواب شقيقته سريعا وقالت بابتسامة واسعة " بالتأكيد سيفكر في
تزويجها وأبنائه ثلاث شباب عدا شقيقها , ثم هي لم تدخل
العشرين بعد ولا تزال صغيرة "
قالت مبادلة لها الابتسامة " بالتأكيد , أنا فقط أردت التأكد مما سمعت
وأنه الزعيم شراع قرر تزويجها لأحد أبنائه لأجد جوابا لأسئلة كثيرة
تردني عن فكرة إن كان والدها يسمح بخطبتها "
قالت المجاورة لها بذات ابتسامتها الواثقة " إذا الجواب جاهز
وابنته لابنه ولن يستحقها أفضل منه "
أما المعنية بكل ذاك الحديث فما كان يشغلها أكبر بكثير وبعيد عن أفكارهم
وتساؤلاتهم وهي تدخل مكتب والدها الذي اعتادت أن تقضي فيه ساعات طويلة
تقرأ الكتب الكثيرة المصفوفة في الأرفف التي تطوق مكتبه قد جُمعت على امتداد
أعوام وأجيال , وكانت تلتهم تلك الكتب التهاما وتحفظ أماكن أغلبها إذا ما استثنينا
كتب التاريخ التي لم تكن تقربها , فقط لأنها في نظرها تتحدث عن الحروب وعن
الموت لذلك تبغضها أما البقية فلم تترك شيئا لم تتطلع عليه السياسة الأدب الشعر
وحتى الاقتصاد وكان والدها وشقيقها رمّاح يجيبان على جميع تساؤلاتها حول أي
شيء لم تفهمه فأكثر من كان يشاركها هذا المكان هوا رمّاح وعلى الرغم من أنها
تطّلع على كل هذه الأمور لم يعتادوا أن تناقشهم فيها , لكن دخولها اليوم كان لأمر
مختلف تماما فلم تشدها تلك الكتب كالمغناطيس كعادتها ولم تفكر وخطواتها تقترب
من هذا المكان ماذا ستقرأ اليوم وعن ماذا بل كانت وجهتها مكان آخر تماما وهي
تغلق باب المكتب وتتوجه للّوحة البيضاء المثبتة على أحد الجدران بما أن عمتها
مشغولة حاليا ووالدها وجميع أخوتها خارج المدينة , سحبت الكرسي ووقف فوقه
وشدت الحلقة المتدلية من الخيط الأبيض المبروم لتنزل الخارطة الكبيرة مغطية
تلك اللوحة الضوئية ثم ثبتت الحلقة في مكانها ونزلت من الكرسي وأخرجت ورقة
وقلما اعتادت أن تجده هنا مكانه ولا أحد يلمسه مثلما اعتادوا وجود الخطوط التي
تتركها في بعض أسطر الكتب لتسألهم عنها , ورغم أهمية مكتبتهم وما تحوي لا
أحد يزعج مدللتهم الجميلة حين يتعلق الأمر بشيء تعشقه وتجد فيه التسلية وقت
وحدتها وفراغها , وقفت أمام اللوحة وشغلت الإضاءة لتظهر معالم الخريطة
بوضوح تام , خريطة بلادها التي تنهدت بأسى ما أن رأت الخطوط العريضة
المتعرجة التي تقسمها لثلاث أجزاء ( شرق وغرب وجنوب ) بحثت بنظرها
فورا في خط حدودهم الجنوبية مع شمال الجزء الجنوبي حيث قبائل الحالك حتى
وقع نظرها على ما تبحث عنه وهي قرية توز من جهتهم ومقابلا لها قرية حجور
في الجانب الآخر تماما لا يفصلهما إلا حدود وهمية صنعتها الحروب والدماء .
بدأت تدون في ورقتها كل ما كان إشارة بين القريتين من حيث المساحة بينهما
وتكتل جنود والدها وجنود الحالك من جانبهم والثغر المفتوحة التي تأخذ علامة
اكس حمراء , ولم تترك شيئا لم تكتبه في خارطتها المصغرة تلك على الورقة
حتى مبنى مقر الجنود , ثم دستها في جيبها وأعادت قلمها مكانه والخارطة مكانها
وأخرجت لها كتابا وجلست تقرأ فيه وتلك الورقة داخله تريد حفظها عن ظهر
قلب قبل أن تكون هناك فهذه وسيلتها الوحيدة لتدخل حدودهم وتخرج منها
عائدة لتوز دون أن يمسك بها أحد
المخرج ~
بقلم الغالية : نجـ"ـمـ"ـة المسـ☆ـاء
ما معنى الغسـقْ؟
معناه سحـرٌ حالكٌ ..ولهُ الـقْ..
معناه لونٌ اسودٌ سـدَ الافـقْ..
مامعنى الغسـقْ؟
معناه في قاموسنا ان يتسـقْ..!
كل الجمال معانقاً وهج الشـفقْ..
ما معنى الغسـقْ؟
معناه بوحُ العاشقين بما يجدُ ويُختـلقْ..
وقد يشوبُ عيـونهم بعض الارقْ..
ما معنى الغسـقْ؟
معناهُ شـوقٌ وحنينٌ وقلـقْ..
يغزو فؤاد متيـّم وله اخترقْ..
ما معنى الغسـقْ؟
معناه ان الليل ارخى سترهُ..سادَ الافـقْ..
وان سيرحلُ لا مفـرّ حين ينبلجُ الفلـقْ..
ذاكَ في قاموسـنا معنى الغسـقْ..
نهاية الفصل الخامس
موعدنا مساء الثلاثاء إن شاء الله
ودمتم في حفظه ورعايته جميعا