*
*
نزل السلم العريض المغطى بالبساط الأحمر الفاخر وهو ينظر
لوالدته وضيفتها زوجة قريب زوجة شقيقها شاهر ذات الشعر الأشقر
الذي يكاد يكون أبيضا من قوة صفرته ، من لاحظ فرحة والدته الغامرة
بانتقالهم للعيش في لندن من وقت قريب تاركة هذه الأمريكية بلادها
هناك ، وسرعان ما ظهرت له الجالسة بجوارها ما أن وصل نهاية
السلالم , الشقراء الصغيرة ببنطلونها الجينز الصغير مثلها وقميص
أبيض مزين ببعض القطع الملونة ، أرسل لها نظرة متوعدة مبتسما
بمكر فاختبأت من فورها خلف والدتها لا يظهر من وجهها سوا
العين التي تراقبه بها وتوجه هو ناحيتهم من فوره حتى وقف خلف
الأريكة الجلسة عليها والدته التي نظرت له للخلف وقالت مبتسمة
" وهذا الفتى ابني رواح الذي أخبرتك عنه "
قالت تلك مبتسمة وبعربية متقنة " قولي رجل ، مشاء الله أخذ
لون شعرك وعينيك "
لكز والدته من ظهرها وهمس " تعلمي منها ليست مثلك
لازلت تعاملينني كطفل "
ضحكت رقية وقالت " بل رجل وها قد وجدنا لك عروسا "
ثم تابعت ناظرة للجالسة بجانب والدتها " عليكم تزويجنا
ابنتكم بما أننا عائلة "
وضحكت للكز رواح لها مجددا وضحكت تلك لانكماش ابنتها
خلفها تشد قميص والدتها بقوة فقال رواح بضيق " أمي لو
تتوقفي عن توزيعي على بنات صديقاتك ؟ "
فضحكت رقية وقالت " لا هذه المرة اتفقنا "
وضحكت هي وإيمليا التي انحنت لابنتها حين شدت لها كم قميصها
الحريري بقوة وحدثتها تلك في أذنها فقالت ضاحكة " لا تخافي
لن يتركك أحد هنا وأولهم والدك يا مدللته "
نظر لها رواح ببرود وقال مستفزا " ولا أنا أريد عربية ومن
الحالك أيضا يع ، سأتزوج من بريطانية نحيلة طويلة وشقراء "
وغادر على ضحكهما عليه وما أن كان خلف الأريكة التي تجلسان
عليها همس مارا من خلفها وقد انحنى جهتها " عربية شقراء جبانة "
وتابع طريقه حتى وصل أحد الأبواب والتفت جهتهم وكانت تنظر له
من خلف ظهر الأريكة لا يظهر منها سوا عينيها وشعرها الأشقر ويديها
الممسكة بالأريكة فنظر لوالدته وتأكد من انشغالها مع ضيفتها ثم عاد سريعا
بنظره لها وأرسل لها قبلة بشفتيه ليحرجها وينتقم منها لكنها رفعت وجهها
قليلا فوق ظهر الأريكة وأخرجت له لسانها ساخرة فصر على أسنانه
بغيظ يتوعدها بأصابعه وغادر متمتما " من يراها لا يتخيل أنها
بكل هذا الخبث "
*
*
توجه جهة الضحكات الصغيرة المختلطة الخارجة من خلف أشجار
وشجيرات حديقة المنزل الذي يعيش فيه حتى وصل لذاك المصدر
ووقف فوقهما يحجب ضوء الشمس عنهما وقال مزمجرا ويداه
وسط جسده " ماريه ما الذي تفعلينه هنا ؟ "
وقفت من فورها ترتعد خوفا من ملامحه وغضبه بينما بقى تيم جالسا
على الأرض مستندا بيديه عليها في وضع السجود حيث كانا يراقبان
ما تحت الألواح الخشبية المصفوفة نهاية تلك الحديقة , قالت بخوف
وكلمات رقيقة تضم يديها الصغيرتان ببعض عند صدرها
" كنا نراقب السلحفاة من تحت الأخشاب "
خرجت منه ضحكة هازئة خالية من أي مشاعر ونظر جهة تيم
نظرة فهم ذاك معناها فورا ( لماذا يموت ابني الوحيد وتبقى أنت )
أمسكها من يدها بقوة وقسوة مزمجرا فيها وقد نفضها كقطعة
ثياب " لا أراك معه في أماكن كهذه بعيدة عن الأنظار أو
حرمتك من الخروج من المنزل أتفهمين ؟ "
ولم يكن ردها سوا كلمات متقطعة من بين بكائها لا يفهم منها سوا
كلمة ( حاضر ) ونقل نظره بعدها للجالس على الأرض وقال بحقد
" وأنت ما أن يبدأ الزعيم مطر بزحفه على مدن وقرى صنوان
ستنظم لجيوشه بما أنك ممنوع من القتال الآن , فلعلك تفعل
شيئا ينفع غيرك "
وتحرك من هناك يجر معه تلك الطفلة وكأنها دمية لم يرف جفنه
ولا لبكائها الموجع تاركا خلفه تلك العينين التي تنظران له بحقد وكره
لو وزع على أهل الأرض لكفاهم , وقف ينفض التراب عن يديه
هامسا بحنق " هل هذا ما تريده أن يأخذ فتى في الحادية عشرة
للقتال ؟ ألم تجد غيرها ليكون مصيري كابنك ؟ "
وتحرك من هناك عائدا جهة غرفة والدته فبما أن اليوم جمعة لم
يكن لديه أي التزامات في مقر الجنود وهوا يوم إجازة بالنسبة له
دخل الغرفة بملامح عابسة واجمة ونظر للجالسة على سريرها
وقال بضيق " لما لا نغادر الآن لعمك أو عمي أو عمتي رقية ؟
لماذا نبقى هنا تحت رحمة هؤلاء الناس "
تنهدت بعجز وقالت " وكيف يا تيم ؟ فحتى إن أرسلوا لنا المال
فلن أستطيع مغادرة الغرفة , اذهب أنت يا تيم مادمت تريد
ذلك وتحدثت عنه أخيرا "
هز رأسه بلا من فوره وقال " وأتركك هنا ؟ أموت ولا أفعلها
يا أمي , ما نفع حياتي من دونك , ثم لا أستطيع المغادرة وحدي"
ابتسمت بحب وقالت " أنا لا مستقبل لي يضيعه أحد لكن أنت لا و... "
قاطعها منهيا النقاش في الأمر " لا أريد الذهاب فانسي الأمر
برمته أمي أرجوك "
*
*
وخز أشعة الشمس القوي على عينيها وبشرة خدها الناعمة كانت
كفيلة بإرجاعها لعالم الواقع الذي فارقته من ساعات ففتحتهما ترمش
بهما بقوة ثم وضعت كفها عليهما تسترجع ما حدث شيئا فشيئا وأين
هي الآن وما تفعل ثم سرعان ما قفزت جالسه تسحب فستانها الذي
وصل لأعلى فخذيها من حركتها وهي نائمة ونظرت فورا للشيء
الذي وقع من يدها لتنتبه وقتها لطرف السرير الآخر الفارغ تماما
ولا وجود لمن كان عليه ليلة البارحة ولا شيء سوا الوسائد المبعثرة
والملاءة المجعدة , مدت طرف أناملها للورقة التي سقطت من كفها
وقت جلوسها السريع ذاك وفتحتها حيث كانت قصاصة مطوية على
اثنتين وكان مكتوبا فيها ( لنا حديث حين أعود ) ولم تحتج لأن تنظر
للاسم المرسوم تحتها بحرفية مشابها لذاك النقش على سلاحه لمعرفة
صاحب الورقة فقد علمت قبلها من وجودها في يدها وفي غرفته ومن
سياق الحديث فيها , وقفت وجعدتها في قبضتها وكأنها تحاول إخفاء
توترها من الموضوع الذي كانت تتهرب من التفكير فيه طوال المدة
الماضية وها هوا يتطرق له ما أن عاد ورغم إصابته , فتحتها مجددا
ونظرت للحروف فيها وكأنها لم تقرأها ثم سرعان ما عبست ملامحها
مكشرة فبالرغم من أن إصابته كانت في كتفه الأيسر خطه منسق وكأنه
لم يكتبها بيده اليسرى , تحركت من مكانها جهة الباب مسرعة متمتمة
" أحمق ما يعني بحين أعود ! "
نزلت السلالم راكضة شعرها يتطاير مع خطواتها حتى كانت أسفله
ووجدت جوزاء تقف قرب الكرسي الذي تجلس عليه عمتها وهما
تنظران لها باستغراب وهي تتقدم نحوهما وقالت ناظرة للجالسة
" أين مطر ؟ هل غادر ؟ "
ابتسمت لها قائلة " اسألي نفسك قبلنا فنحن لم نراه ولم ننم
معه في غرفته "
شعرت بأنها تقلصت حتى تحولت لقزم تحتهما وخطفت نظرها
سريعا لجوزاء التي كانت تنظر لها بنظرة لم تفهم أهي نظرة عدم
فهم أم استغراب أم استهجان تام لما فكرن فيه , خرجت الحروف منها
متوترة وكأن ثمة موجات مغناطيسية اعترضت طريقها أمام
شفتيها " لقد كان مصابا كيف يغادر هكذا ؟ "
شهقت جوزاء بينما قالت نصيرة بجزع " مصاب ؟ "
قالت من فورها وهي ترى الخوف على ملامحهما " كانت الإصابة
في كتفه لكن الجرح كان ينزف بشدة وتمكنت من إيقافه لكن الحمى
لم تتركه طوال الليل ولم أتخيل أن يغادر ما أن يستيقظ فجرا فقد
غلبني النعاس ولم أشعر به "
تحركت حينها جوزاء قائلة بضيق " لا يتوقف عن التهور والجنون
أبدا , ظننا أنه ما أن يتزوج سيتغير لكن نساء هذا الوقت لا
نفع منهن "
وتوجهت جهة باب جناح عمها بينما نظرات غسق المصدومة تتبعها
ثم نظرت للجالسة أمامها وقالت بعبوس " لماذا تكرهني ابنة
شقيقك فلست أفهم ؟ "
هزت تلك رأسها بحزن وقالت " هي لا تكرهك يا غسق ثقي من ذلك "
كانت ستتحدث لولا رجوع جوزاء التي قالت بضيق مقتربة من عمتها
" لقد خرج من حوران وذهب لبزاخة وعمي يقول بكل برود ( هوا أعلم
بحالته وصحته فابتعدن عنه أنتن النساء ) لا أسوء منه سوا عمه "
تحركت غسق حينها وتركت المكان قاصدة غرفتها فلا تريد سماع إهانة
أخرى من المدعوة جوزاء فيكفيها ما سمعته منها فهي لا تضمن صبرها
عليها ولا تريد رد كلامها فهي لم تتربى على ذلك وتبقى جوزاء شقيقة
زوجها وأكبر منها بكثير , دخلت الغرفة وفتحت درج طاولة التزيين
ورمت الورقة فيه متمتمة " معه حق هوا أدرى بنفسه فليسافر حتى
للمريخ ما علاقتي أنا بهم ؟ والأحمق لم يوقظني ولا لصلاة الفجر
جيد أني لا أصلي وإلا ضاعت عليا طبعا "
وكانت تعلم أنها مجرد خدعة تخدع بها عقلها فقد وجدت نفسها مرارا
تنساق للتفكير فيه وفي لو أنه قاد السيارة بنفسه كالبارحة وانفتح جرحه
ونزف مجددا ولم تستطع نسيان ذلك وتجاهله رغم مرور الساعات
الواحدة تلحق الأخرى ولم ينجح إشغالها لنفسها بالاستحمام وتجفيف
شعرها وتمشيطه وقراءة الكتاب الذي أحضرته من مكتبته كما غيره
بعدما استأذنت عمه فهي أصبحت تمضي وقت فراغها الطويل في
هوايتها المحببة تقرأ كل ما تجده باستمتاع مادام بعيدا عن السياسة
والحروب , خرجت من الغرفة بعد العصر بقليل ووجدت الجميع
يستعدون لاستقبال ضيوف بعد المغرب لكنها لم تحب المشاركة
في شيء ولا تفكر حتى في التواجد معهم , بحثت عن عمتها
فوحدها ستجد لديها جوابا لسؤالها , وجدتها سريعا لأنها قصدت
غرفتها أولا وكانت كما توقعت تقرأ في المصحف ولازالت
بلباس الصلاة وقد أغلقته ما أن دخلت عليها وقالت غسق من
فورها " هل اتصل مطر أو اتصلتم به ؟ "
وأردفت من قبل أن تعلق تلك " قد يكون قاد السيارة بنفسه
وسينزف جرحه مجددا بالتأكيد "
هزت نصيرة رأسها بلا وقالت " لم يتصل وليست عادته أبدا إلا
إن أراد شيئا من عمال المنزل أو عمه حال تعطل هاتفه فهذه
طباعه التي عرفناه عليها "
قالت غسق باستغراب وهي تدخل وتغلق الباب خلفها
" ولا حتى حين يكون مصابا !! "
قالت وهي تنزع رداء الصلاة من رأسها " لم يصب سابقا رغم
تواجده الدائم في الخطوط الأمامية للقتال ويبدوا أن طباعه
لن تتغير فها هوا يتمسك بطبعه القديم "
لوت شفتيها بعبوس وتمتمت وهي تجلس على الكرسي قرب
السرير " هل يضن نفسه يعيش لوحده أم ماذا ؟ "
ضحكت نصيرة وقالت " ستعتادين على طباعه فيبدوا
أن حياتك في عائلة والدك لم تكن هكذا "
تنهدت غسق بحزن فقد نكأت تلك جرحها المفتوح وقالت " كنا
مقربين لبعضنا كثيرا , كنت أتصل بأخوتي يوميا وهم في الحدود
ولا يمكنني أن أنام دون أن أرى والدي أو أحدثه إن كان سيبات
خارج المنزل , نتناول الطعام معا أغلب الأحيان وإن أنا وعمتي
نجلس ونتسامر ونتحدث وحتى حديثهم عن الحروب وخطط
القبائل هناك لا أكون غائبة عنها إلا إن أردت أنا ذلك , كنت
جزءا من تلك العائلة ولست منبوذة كما هنا "
ابتسمت نصيرة وقالت ببعض الضيق ممازحة " في وجهي تقوليها
يا غسق ؟ أقسم أن يومي أصبح كئيبا إن لم أراك فيه "
قفزت من فورها وقبلت رأسها قائلة " لم أقصدك عمتي أقسم لك "
قالت تلك مبتسمة " أعلم وأنا ما كنت إلا أمازحك "
عادت للجلوس على الكرسي وقالت ناظرة لها بهدوء " أخبريني
عن ابنك عمتي , كيف اختفى ولما لم تجدوه حتى الآن ؟ إن
كان الحديث لا يزعجك طبعا "
هزت تلك رأسها بلا وقالت " لن يزعجني يا غسق فإن كان حيا
سيرجع وإن كان ميتا فلست أول أم ثكلى فقدت وحيدها "
ثم تنهدت بحزن وقالت " أرأيت ضيوف الجنوب الذين
زارونا من قرابة الشهر "
هزت غسق رأسها بنعم فورا وقالت " أذكرهم جيدا فهم كانوا
من مجموعة أكابر من استقبلتموهم "
هزت نصيرة رأسها وقالت " أولئك يكونون عائلة زوجي رحمه
الله وبعض نساء رجال في عائلته "
قالت غسق بصدمة " تزوجت من هناك ؟ تلك البلدة بعيدة
جدا كما فهمت منهم "
قالت نصيرة وقد شردت بنظرها بعيدا وكأنها تبحث في صندوق
ذكرياتها المنسي " بل كان يعيش هنا وقتما خطبني وتزوجنا ولم
نرزق بأبناء لسنوات حتى أنجبت أبني ( قاسم ) وتوفي زوجي في
كمين للهازان عند الحدود وابني عمره عشر سنين وحين كان
في الخامسة عشرة اختفى بشكل مفاجئ ومريب لم يستطع
أحد تفسيره وإيجاد سبب له ولم نجده رغم محاولات
مطر الحثيثة "
قالت غسق بصدمة " اختفى صغيرا في السن ! كيف ذلك ؟ "
هزت تلك رأسها بنعم وقالت ونظرها لازال شاردا مع عقلها " كثر
اختفوا يا غسق , كم من رجال وأطفال لم يجدهم ذويهم حتى الآن
واغلبهم جاءتهم جثثهم أو خبر عن أسرهم عند الحدود بسبب أو
بدونه , لكن قاسم لم يكن هناك حين اختفى , لم يكن عند الحدود
ولم يكن له ولا أعداء , حتى والده كان رجلا عظيما
يحبه كل من كان يعرفه "
تهدرج صوتها وهي تتابع بحزن " إن كان حيا سيكون في الثانية
والعشرين الآن , ليثهم فقط يأتوني ولو بخبر موته ليرتاح قلبي
من التفكير في مكانه وما يحدث معه "
وقفت غسق من فورها والدموع وجدت من عينيها مسلكا وجلست
بجانبها على السرير وضمت كتفيها بقوة قائلة بعبرة " لابد أن يرجع
يوما بما أن خبر موته لم يصلكم فالأموات وحدهم من لا يرجعون "
مسحت تلك دموعا خانتها على أعتاب عينيها وقالت مبتسمة تمسح
على خدي الجالسة بجوارها وقد احتقنتا بحمرة شديدة " أرأيت ؟
الحديث أتعبك أكثر مني لذلك علينا تغييره "
هزت رأسها بنعم ونامت به على كتف عمتها قائلة بحزن
" أتمنى من الله أن أراه هنا عندك قريبا "
مسحت تلك على شعرها الحريري الذي تمسكه في الخلف بشريطه
طويلة قليلا وقالت بحنان " الله لا ينسى أحدا يا غسق ولا يختار
لنا إلا ما فيه خيرنا وصالحنا "
*
*
رفع هاتفه مجددا وهوا يرفع يده وذراعه الأيسر للطبيب الذي كان
يفتح الشاش عنها وقال مخاطبا من في الطرف الآخر " أعطوني
بضع ساعات فقط , لا تفعلوا شيئا حتى آتي وسأراهم بنفسي
كما يطلبون "
" أجل أعلم , أمنوا انتم حدودهم جيدا ولا أريد أن يتدخل أحد منهم
في شيء ولا أن يحمل سلاحا ولا يحرس شيئا أكثر من منزله "
اشتدت نبرته حدة وهوا يقول " أعلم أن الوضع يحتاج وجودي يا
تميم ولا يؤخرني عنكم سوا أمر يكاد يكون أهم منه فثمة تغر كثيرة
يجب تغطيتها قبل فعل أي شيء هناك , أمنوا الحدود ودافعوا عنها
بأرواحك كما طلبت ولنا حديث ما أن أصل لكم ولن يكون فجر
يوم غد إلا وأنا عندكم إن شاء الله "
ثم أنهى الاتصال ونظر للذي بدأ بتنظيف الجرح من بقايا ذاك
المزيج الذي لم يزله من عليه منذ ليلة البارحة وقال ذاك مبتسما
" هلا أبعدت هاتفك قليلا يا زعيم لنتحدث عن جرحك , فهم لا
يتركونك أبدا وإن نسوك لحظة اتصلت أنت بغيرهم "
وضع الهاتف جانبا وقال " ها قد أبعدته وأعطيك عشر
دقائق فقط لا غير "
ضحك وقال وهوا يعيد تنظيف الجرح بالمطهر الطبي للمرة
الرابعة " حسنا تكفيني ويزيد "
وتابع بجدية " الجرح حالته جيدة نسبيا رغم أنه في موضع خطير ولو
انحرف قليلا لأصاب أحد الأربطة أو القلب , كان تهورا منك أن تقود
به وأنت حديث إصابة , من وضع لك هذا المزيج يستحق منك وساما
فرماد أعواد الحصير أقوى شيء ممكن أن يوقف نزيف جرح مخاط
بدون وجود طبيب أما الخل فقد عمل معه على تطهير الجرح لذلك لم
يصبه أي التهاب وأنت تأتيني بعد نصف يوم من وضعه لك , أي أنه
لولاه بعد الله لالتهب جرحك ولاحتجنا لفك الخياطة والعناية المكثفة به "
حرك رأسها للأعلى ثم جانبا وكأنه يمرن عظامه المتعبة وقال " كنت
على يقين من مفعول ذاك المزيج لذلك لم أزر أي طبيب حتى الآن فكل
ما أريده منك أي شيء لا يجعله يعيقني فأمامي أمور كثيرة , سأتحمل
ألمه ووخزه القوي ذاك المهم لا يعرقل تحركاتي "
خرجت ضحكة صغيرة من ذاك الطبيب وقال وقد بدأ بلف الشاش
حول كتفه وصدره " أنت تطلب ذلك من مارد مصباح وليس طبيبا
الجرح يحتاج للراحة ليومين على الأقل أو حافظ على إبقاء يدك في
وضع مسترخي ولا تحركها قدر الإمكان ولا تقد السيارة حتى يندمل
لحم الجرح على الأقل ثم يمكنك تحريكها للضرورة فقط وبذلك
يمكنك التحرك أو لن تضر إلا نفسك سيدي وقد تخسر
ذراعك للأبد "
هز رأسه بحسنا وهوا يراقب حركته السريعة المتقنة في لف
الشاش وهمس " سأحاول جهدي "
ثم وقف بعدما أنهى له تثبيته جيدا وبدأ بارتداء قميصه المزرر من
الأمام وقال الطبيب " عليك أخذ المضادات الحيوية أيضا وبانتظام
كبسولة واحدة كل ست أو ثمان ساعات كحد أقصى ولا تنسى
أهم شيء أن لا تحركها كثيرا "
هز رأسه بحسنا دون تعليق ثم خرج من عنده وهاتفه على أدنه
اليمنى كما دخل له فجسده هنا وقلبه هناك مع المدن الخمس التي
انضمت لحدوده مؤخرا فعليهم أن لا يخسروها ويضروا أهالي
قبائل جيروان اللذين سلموا أنفسهم ومدنهم لهم طوعا
*
*
أنهت ظفر شعرها كجديلة منتهية عند خاصرتها ثم رفعت خصلات
غرتها خلف أذنها وقد لبست بيجامة نوم خريفية جمعت الدفء مع
خفة القماش والبساطة مع أناقة المظهر حيث كانت بأكمام طويلة
وبنطلون طويل مزررة من الأمام بأرضية بيضاء وحواف عنبرية
وقد ملأتها رسومات صغيرة جدا بالكاد ترى تفاصيلها بذات ذاك
اللون العنبري الزاهي , طرقات خفيفة على الباب جعلتها تخرج من
بحر الأفكار التي كانت تسافر بها مترنحة في الأيام التي قضتها في
هذا المنزل حتى أنها شعرت للحظة بأنها لازالت في صنوان وأنها
ليست هنا ولا زوجة لذاك , تنهدت تنهيدة طوية وقالت بصوت
واضح " تفضلي "
فانفتح الباب ودخلت منه حبيبة مبتسمة تلك الابتسامة الودود التي
تنسيها جزئا من همومها وأغلقته خلفها فسألتها من فورها
" هل غادر الضيوف ؟ "
هزت تلك رأسها إيجابا وقالت " منذ أكثر من ساعة , والسيد
مطر عاد من لحظات "
شعرت بذاك الناقوس يدق أجراسه في قلبها حتى رن في أذنيها
فشدت أناملها على تلك الضفيرة الطويلة بلا شعور منها وهمست
" عاد ؟ "
هزت حبيبة رأسها بنعم وقالت " والسيدة جوزاء صعدت خلفه
لغرفته وسمعتها تقول للسيدة نصيرة بأنه سيغادر ما أن يغير
ثيابه عائدا للحدود وكانت متضايقة من ذلك جدا "
أرخت قبضة أصابعها عن جديلتها وقالت وهي تمسح بكفها
عليها نزلا وبنعومة " أمازال متعبا لتتضايق هكذا ؟ "
رفعت حبيبة كتفيها وقالت " لا علم لي
سيدتي , رأيته من مسافة
بعيدة ولم يبدوا لي يشتكي شيئا , مشيته وحركته طبيعيه حتى
أنه صعد السلالم مسرعا كعادته "
هزت غسق رأسها بحسنا وأراحت يديها في حجرها دون تعليق
فقالت تلك مبتسمة " لما لا تذهبي للاطمئنان عليه بنفسك سيدتي ؟
هوا زوجك ويحق لك ذلك أكثر من أي شخص "
أرخت نظرها للأسفل ولاذت بالصمت لوقت حتى كانت الواقفة هناك
قد قررت أن تغادر ورأت أنها أحرجتها بكلامها وهي كعادتها تفضل
الصمت كاتمة لجرحها على أن تجرح غيرها لكن الرد جاء منها بشبه
همس خافت ولازالت عيناها السوداء الواسعة تعانق الأرض مسدلة
جفنيها ورموشها للأسفل " لو أراد أن نطمئن عليه لاتصل , قد يكون
ممن يزعجهم الاهتمام الزائد فهكذا هم الرجال من نوعه لذلك أفضل
أن لا أراه , شكرا لك يا حبيبة "
هزت تلك رأسها بتفهم وغادرت مغلقة الباب خلفها دون تعقيب
على كلامها بينما راقبت الجالسة في الداخل الباب بملامح عابسة
وهمست " هذا الرجل ليس بغبي وسيفسر صعودي له
بألف تفسير وأغلبها صحيحة "
رتبت وسادتها تضع عليها الأخرى متأففة بحنق وليست تعلم ما
سبب انزعاجها الحقيقي ! هل هوا عدم تفكيره بهم وبأن يطمئنهم
عليه خاصة هي التي سهرت الليل بجواره ؟ أم من تجاهله الدائم
لها وكأنها شيء غير موجود إلا إن وجده أمامه ؟ أم الحقيقة الأفظع
وهي أن تكون منزعجة لغيابه مجددا لوقت لن يعلمه أحد وفي مصير
لا يعلمه أحد أيضا ؟ وطبعا لا يحق لهم ولا الاتصال والسؤال عنه
ولن يفكر هوا في فعلها , اضطجعت على السرير تخفي وجهها في
الوسادة تنام على بطنها ويداها تحتها ولا تعلم سببا واضحا لكل ما
يخالجها ! ما يضايقها وما يزعجها هكذا !! تحاول الهرب من تفسير
أي شيء وعقلها لا يفعل شيئا سوا تحليل تلك الأشياء وكأنه يتمرد
على سيطرتها , قفزت جالسة حين انفتح باب الغرفة بعد طرقتين
متتاليتين وكاد الهواء ينعدم حولها وانتفض قلبها وتوقف عن الخفقان
للحظة طويلة قبل أن ينبض من جديد بسرعة مضاعفة وهي ترى
صاحب الطول والأكتاف العريضة الذي ملئه يقف ببذلته العسكرية
وسلاحه على كتفه الأيمن , ذاك الوسيم حد دنوه من الكمال وكأنه
خرج من أحلام جميع الفتيات متجسدا في واقع هذا الرجل وتلك
الطاقة المنبعثة من داخله متمثلة في تلك الهالة المسيطرة حوله .
أدارت إصبعها السبابة خلف الوسطى وشدته به بقوة وكأنها تريد
كسره وهي تعاقب نفسها على انجرارها في تلك الأفكار فما أن
يظهر هذا الرجل أمامها حتى يبدأ عقلها بمقارنة جميع رجال
الأرض به لينتصر عليهم وبكل سهولة .
أما رد فعل الواقف هناك على تلك النظرة الباردة في عينيها
والتي عكست له أمورا لا تحكي أبدا عما يحدث في داخلها وهي
تستعل كالنار في الهشيم , كان ذاك الرد ابتسامة بطيئة مثيرة كانت
كفيلة بتدمر أي امرأة وإن كانت تمثالا من الجليد فكيف بمن لم تكن
تحتاج إلا لأن يخطو خطوة للداخل ليطفوا ذاك الاشتعال على
ملامحها ووجنتيها , تنهيدة طويلة خرجت منها وقد أرخت كتفيها
كقطة أمسكوا بها تسرق شيئا ودفنت وجهها في يدها مفرودة
الأصابع منزلة لرأسها للأسفل وقالت بعبوس " لا مطر لن
نتحدث الآن أرجوك "
كانت تعلم أنها هشة تلك اللحظة أنها سهلة العطب بشكل لم تتخيله
من قبل وكل ذرة في جسدها تصرخ مستنكرة ( لا يا إلهي لا تدع
هذا يحدث لي ) لن تحبه أبدا ليس هذا الرجل الخالي من المشاعر
ليس كثلة الصخر ذاك , ليس الدموي الذي قد يقتل عائلتها دون أن
يرف له جفن , صوت اقتراب خطواته الثقيلة في تلك اللحظة بحدائه
العسكري الأسود الطويل كان كفيلا بجعلها ترتد مجفلة حتى تلتصق
بأقرب جدار لها لكن قبضته القوية على ذراعا ما كانت لتسمح لها بأن
تفكر في ذلك ولا مجرد التفكير , رفعت رأسها ونظرها له ورسمت
على ملاحها وتلك العينين الفاتنة نظرة مستجدية حزينة كانت كفيلة
بتدمير جيش بأكمله فكيف برجل وقالت بذاك الصوت الرقيق
الناعم " أنت ذاهب الآن ولن نتشاجر مطر أرجوك "
ابتسامة أخرى كسولة ساحرة على طرف شفتيه كانت الجواب هذه
المرة ويده تنتقل من ذراعها ليدها وأمسك بأصابعها وهمس ساحبا
لها لتخرج من السرير " تعالي هنا أيتها الساحرة الصغيرة "
زمت شفتيها بضيق وهي تطاوعه منزلة قدميها على الأرض حتى
وقفت على طولها وكادت تفقد وعيها حين وجدت نفسها محاصرة
بين ذراعيه فجأة مدفونة في صدره وهمسه الساخن يلفح أذنها في
نعومة مغرية لصوت له تلك البحة والرنين الأجش " من أخبرك
أني جئت لنتشاجر أو نتحدث عن ذاك المهر الغبي "
لم تكن استعادت سيطرتها على نفسها بعد , لم ترجع نبضات قلبها
التي تبعثرت عند قدميه لمكانها لتستطيع التنفس واستجماع أفكارها
من جديد , كان ذلك أقوى من تحمل جسدها الرقيق الطري , وبعد
جهاد مستميت مع نفسها استطاعت أن تستجمع قواها رغم أن صوتها
خرج ضعيفا كحفيف أوراق شجرة صغيرة حركها الريح الخفيف
" لماذا جئت إذا ؟ "
والجواب كان شده لجسدها بقوة بيده وذراع اليمنى على ذاك الجسد
الصلب ثم ابتعد عنها مبعدا لها لكن يده كانت ترتاح على كتفها بينما
كان يبقي الأخرى بجانب جسده وهمس وقد صعدت أصابعه لعنقها
وجانب وجهها " قد أكون جئت لأشكرك على ما فعلته البارحة "
الابتسامة الماكرة على شفتيه والنظرة اللعوب في تلك العينين الساحرة
المسيطرة أكدت لها أنه كان يريد الهرب من جواب كانت تنتظره منه
عن سبب أكثر حميميه معززا لغرورها كأنثى لذلك ناور وهرب بحرفية
جعلت دفاعاتها الخامدة منذ دخل عليها تتنبه وتستيقظ من سباتها مخرجا
تلك اللبوة الشرسة مجددا وقد قالت ببرود محركة عينيها وحدقتيها
السوداء عاليا " آه أجل يبدوا أنك نسيت بأنك شكرتني
البارحة "
خرجت منه ضحكة صغيرة وكأنها لم تستأذنه وقال وأصابعه
تتغلغل أكثر في شعرها المجموع في تلك الجديلة جانبا
" لم أقصد الشكر بالكلمات يا ابنة شراع "
حقيقة ما جعلتها تجفل جديا هذه المرة فأبعدت يده مرتدة خطوة
للوراء وقالت بنبرة تحذير وكأنها تهدده بفعل ما يفكر فيه وأوضحه
بكلامه " شكرتني بالطريقتين أم أن ذاكرتك أصابها شيء "
ثم سرعان ما نقلت نظرها لكتفه وقالت قبل أن يعلق على كلامها
" كيف هوا جرحك ؟ هل زرت طبيبا ؟ "
لمس كتفه بأصابعه ونظره لازال يتفرس ملامحها قائلا
" نعم قبل عودتي لحوران "
نقلت نظرها لعينيه وقالت بتشكيك " ماذا قال عنه ؟ "
تحولت لهجته للسخرية وقال مبعدا يده عن كتفه
" هل يعنيك حقا ما قال ؟ "
عبست ملامحها الجميلة بطريقة رقيقة لم تزدها إلا فتنة وهمست
برقة " من أخبرك أنه لا مشاعر إنسانية لدي ؟ "
أخفى شفتيه ما بين شاربه ولحيته وكأنه يخفي انفعالا ما فيهما
وهوا يزممهما للداخل ثم سرعان ما أخلى سبيلهما وقال ببرود
" لا شيء مهم , أعطاني لائحة طويلة من التوصيات وقال
إن لم ألتزم بها سأخسر ذراعي "
كادت تخرج منها شهقة مستنكرة لولا أنها كبحت جماح نفسها
لكنها لم تستطع إخفاء الصدمة من ملامحها وعينيها السوداء
الواسعة وقالت وقد تحولت لهجتها للجدية " وقدت السيارة
إلى هنا بنفسك ؟ "
هزة خفيفة بلا من رأسه كانت جوابه فقالت مضيقة عينيها
" لا أصدقك , لما لا تريني كتفك إن كان جرحك نزف أم لا ؟ "
حرك رأسه للأعلى في حركة خاطفة واثقة وقال " اسمعي يا ابنة شراع
فأنا لا أحب كثرة الاستجواب والإجابة عن أي شيء ولقد أشعرتني
بأني في محكمة منذ دخلت , ولأني لا أحب أن يكذبني أحد ... "
وتابع وهوا يفتح الأزرار العلوية لسترته بأصابع يده اليمنى فقط
" أنظري بنفسك وتأكدي "
أبعد ياقته بعدما فتح نصف الأزرار تقريبا ونظرت هي من مكانها
للشاش النظيف تماما ثم نقلت نظرها لعينيه دون تعليق متجنبة النظر
لأي تفاصيل أخرى غير ذاك الشاش الأبيض , وتركت أصابعه ياقته
قائلا بجدية " أخبرتني جوزاء أنها تريد استئناف خروجها في بعض
الزيارات فهي وعمتي لم تخرجا منذ تزوجنا فإن أردت الخروج أيضا
لك ذلك وإن أردت البقاء في المنزل فلا تبقي وحدك فيه إلا إن كان
معك عمي أو حتى عمتي فهي لا تخرج اغلب الأحيان , وحين تخرجين
للحديقة أخبري إحدى الخادمات تخبر العمال كي لا يدخل أحد ولا
للضرورة , لا أريدهم أن يتجمعوا كالدبابير حول مكانك وهم
يسمعون ضحكاتك وأنتي تطاردين الدجاج "
عضت شفتها السفلى في حركة حانقة ولا إرادية فها قد ظهر
سبب الزيارة المفاجئة , حررت شفتها وقالت ببرود " حاضر
هل من أوامر أخرى ؟ "
قال بتهكم واضح " نعم "
وتابع بجدية مركزا نظره على عينيها " في حال موتي سيأخذك
عمي من هنا ويدخلك صنوان وترجعي لأبيك من قبل دفني
ومن دون نقاش ولا سؤال "
نظرت له باستغراب ونبضاتها ترجع للرفع من مستوياتها ولم
تستطع سؤاله لأنها تعلم جيدا بأنه لن يجيب , تحرك حين لم
يصدر عنها أي تعليق ووجهته باب الغرفة فقفزت راكضة
جهته " مطر توقف "
وقف والتفت لها فوقفت مكانها على بعد خطوتين فقط منه وقالت
" أغلق أزرار سترتك فورا , هل تريد الخروج بها هكذا ؟ "
النظرة اللعوب التي أرسلتها عينيه جعلتها تتراجع خطوة للوراء
وقد اشتد وهج خديها وقالت وقد فرت بنظرها بعيدا عن وجهه
وجسده " لا ينقصني إحراج آخر رجاءا , ولن تفكر هذه المرة
في الضغط عليا بها بالتأكيد فأنت لا تستخدم ذات السلاح
مرتين كما أضن "
نظرة إعجاب واضحة كانت تلك التي مسح بها تفاصيل وجهها الناعم
حتى كاد يشعر بأنه يلمسه دون أن يرفع يده له , يعجبه في هذه المرأة
أنها تفاجئه دائما .. تعرف متى تتحداه ومتى تناوره وأيضا متى تتلاعب
به , نظر لسترته ولأزرارها المفتوحة ثم رفع نظره وكانت تنظر لعينيه
هذه المرة فرفع يده اليمنى جانبا وقال " ما لا تعلميه أني أعسر ويدي
اليمنى لا تفلح في شيء وحدها سوا الأكل أما باقي الأعمال فتقوم بها
بضعفي مجهود تلك , ولن أجلس هنا نصف ساعة أحاول إدخال كل
زر لمكانه فكما تعلمين إغلاق الأزرار ليس كفتحها خاصة هذا النوع
من الثياب المتقنة الصنع سميكة الخيوط , ولن أضيع مزيدا من الوقت
وبعض رجالي ينتظرونني في الخارج , فقد كنت سأقوم بذاك
العمل في الطريق لأني لن أقود طبعا "
قالت بعبوس العاجز عن إيجاد حل وعن الرضا بالواقع المرير
" والحل الآن ؟ "
أمال ابتسامة صغيرة على طرف شفتيه وقال " سأخرج طبعا فأنا لا
يعنيني رأي أحد فأنتي زوجتي , أو أغلقيها أنتي بما أن الأمر يقلقك "
أنزلت رأسها وغرست أصابع يدها اليمنى في غرتها وكأنها تخفي
وجهها عنه وعضت طرف شفتها بقوة متنهدة بعجز فلن تتركه
يخرج هكذا من جهة ممر غرفتها , هذه فضيحة أسوء من سابقتها
( الحق عليك يا حمقاء هل كان عليك أن تطلبي منه أن يريك إياه ؟
صحته وهوا أعلم بها يقود السيارة أو طيارة ينزف جرحه أو
حتى يتفجر تلك مشكلته )
رفعت رأسها سريعا حين سمعت خطواته تتحرك مبتعدة وتوجت
نحوه دون شعور منادية " هيه أين ستذهب ؟ انتظر سأغلقها
وأمري لله "
وقف واستدار جهتها وقال بابتسامة ساخرة " لا أفهمك حقا ! هل
إغلاق أزرار سترة زوجك عمل يحتاج كل هذا التردد والخوف ؟
سبق وأخبرتك أني لن آكلك "
اقتربت منه حتى وقفت أمامه تكاد تكون ملتصقة به وقالت بحنق
ناظرة للسترة التي رفعت لها يديها ببطء " لما لا تتوقف عن
السخرية مني طوال الوقت ؟ "
اكتفى بالنظر لملاحها في صمت وهي تغلق تلك الأزرار وكأنها تدخل
حبلا في خرم إبرة من تصلب أصابعها وارتباك أنفاسها التي كان يشعر
بها ساخنة على بشرته , أمسك ابتسامته وهوا يراقبها ومدركا بأنها لا
تره مدققا على ملامحها ويديها المرتجفة فهوا يعلم أن خجل الأنثى كان
سيلعب دوره مهما كانت تتسلح بالقوة , لم يستطع مقاومة تلك الفكرة في
إزعاجها وهوا يمرر أصابع يده فوق خصرها في لمسة خفيفة جعلتها
تبتعد عنه مجفلة كضبيه شعرت بالخطر فجأة , فهو إن لم يفعل ذلك
لتبتعد ما كان ليضمن نفسه , نظرت له بعبوس قابله بضحكة صغيرة
وتوجه للباب من فوره , فتحه وخرج قائلا وهوا يسحبه خلفه
" اعتني بنفسك جيدا "
وسار مجتازا الممر بخطوات ثابتة واسعة وما أن كان خارجه حتى
مد يده وأخذ الحقيبة الموضوعة على أحد الأرائك وتوجهت جوزاء
جهته وهو متابعا طريقه للباب على صوتها من خلفه وهي تتبعه
" اعتني بنفسك يا مطر واتصل بنا "
همس دون أن يتوقف " حسنا ، استودعتكم الله "
وخرج من فوره واجتاز تلك الحديقة الواسعة حتى كان خارج
سورها وركب السيارة التي كانت في انتظاره ملقيا السلام على
الجالسان فيها ورفع يده يغلق الزر الذي تركته تلك ونظر بطرف
عينه للجالس بجانبه خلف المقود ينظر له مبتسما ويعلم أنه لا يفوت
شيئا وإلا قتله كتمانه له , قال بذات تلك الابتسامة الشيطانية
" تأخرت ثلث ساعة وليست عادتك "
هوا يعلم بأنه لن ينجى من تعليقاته فبِشر يهوى استفزازهم دائما
وهم اعتادوا على كونه واحد منهم وليس زعيمهم أو قائدهم الحربي
بينما فصل معهم وقت الجد لوحده ووقت الهزل لوحده فكانوا بذلك قرابة
الثلاثون رجلا بكلمة واحدة ورأي واحد وعقول راجحة تفكر في مصلحة
غيرها قبل نفسها , نظر تحته ورفع الحقيبة ورماها في الكرسي خلفه
حيث كان شاغر وألحقها السلاح وقال ببرود " تحرك بلا كثرة
حديث , وإن واحد منكما تحدث في هذه الرحلة الطويلة المملة
عن النساء رميته خارج النافدة أتفهما ؟ "
ضحك بِشر وقال وقد انطق بالسيارة " أوامرك سيدي ، رأيت
فقط مزاجك أفضل من يوم أمس فأردت أن ألطف الجو أكثر "
قال الجالس خلفهما " تحدث معي حيدر منذ قليل وقال أن مشكلة
خزان المياه في ريسوان يوشكون على حلها "
وانخرطوا في حديث طويل بطول طريقهم ذاك عن مستجدات ما
حدث وعن أكثر المشاكل تعقيدا حتى طغى الظلام على رحلتهم
كاشفا أضواء سيارتهم وهي تشق الطرق التي كان أغلبها ترابيا
فالجنوب كان الأقل حظا في أعمار ذاك المستعمر لتلك للبلاد .
وما أن وصلوا هناك حتى وجد مئات المسائل والمشاكل العالقة في
انتظاره , فرغم تكثيف رجاله لجهودهم وربطهم لليل بالنهار لكنهم
لم يستلموا قبلا مناطق سلمت نفسها طوعا فالوضع أكثر حساسية
وكان يحتاج لوجوده بالفعل كداعم قوي لأي أمر يقرروه مع أهالي
تلك البلدات ففي البداية سيحتاج الناس رؤيته وهم يتفقون على
كل شيء ومن الطبيعي أن يطالبوا بالاتفاق معه تحديدا
*
*
دخلت تدفع عجلات كرسيها من باب الغرفة المفتوح فرمت غسق
الكتاب من يدها جانبا وتوجهت نحوها قائلة " عمتي لو أرسلت لي
إحدى الخادمات لأتيتك بنفسي "
رفعت نظرها لها فوقها وهي تسحب بها الكرسي جهة الطاولة
المستديرة نهاية الغرفة عند تلاقي النافذتين الطويلتين في الزاوية
وقالت مبتسمة " فكرت أن أزورك أنا فأنتي لا تخرجين من
غرفتك إلا قليلا وقد تكوني تعتقدين أنك تزعجينني "
جلست مقابلة لها على الكرسي وراء الطاولة وقالت تبادلها ابتسامة
أصدق وألطف منها " أنا معتادة على هذا عمتي فقد كنت الفتاة الوحيدة
في منزل والدي وعمتي كانت مشغولة أغلب الوقت أو في زيارة خارج
المنزل وأخوتي ذكور منذ كبروا وأصبحوا شبانا لم نعد نلعب ونمرح
معا وأصبح أغلب وقتهم خارج المدينة وكنت أتسلى بالكتب وحدي "
هزت تلك رأسها بتفهم وقالت " الرجال دائما نصف موجودين
وإن عاتبت المرأة اتهموها بالنكران "
ضحكت المقابلة لها وقالت " عمتي جويرية كانت تقول ذلك دائما "
انطلقت ضحكة نصيرة وقالت " وأكبر دليل لديك هنا طبعا "
لم تستطع مشاركتها الضحك ولا بابتسامة صغيرة مهما جاهدت نفسها
فالأيام القليلة لغيابه لم تبدد مخاوفها ولم تستطع فيها فهم نفسها فلازالت
كلما تذكرت قبلاته تلك تشعر بملمس شفتيه على شفتيها وكأن الأمر
يحدث الآن , باتت تكره تلك الذكرى بمقدار ما تحرقها وتشعل
مشاعرها وكرهت أكثر قوته المسيطرة وخروجه الكاسب
دائما لتبقى وحدها تغوص في دوامة فهم ألغازه ودواخله
" غسق أين وصلت ؟ "
صوت عمتها المبتسم أعادها من أفكارها التي لم تتركها منذ غادر
فأطلقت تنهيدة حارة بائسة وقالت " شردت قليلا آسفة عمتي "
قالت تلك بذات ابتسامتها " لقد اتصل بالأمس وهو بخير وسأل
عنك أيضا "
رفعت نظرها وعلى وجهها ملامح استنكار واضح فسبقتها عمتها
قائلة بعد ضحكة صغيرة " أعلم أنك لا تفكرين فيه ولا تريدين سماع
أخباره لكني خمنت أن تكوني على الأقل تريدين الاطمئنان على
صحته ولتعلمي أنه لا يدخل هناك ناسيا كل شيء خلفه هنا "
لعبت بأصابعها تحت الطاولة ونظرها عليها وقالت بكلمات حذرة
وكأنها تخرجها من أوردتها مرغمة " وسأل عني لماذا فلم يفعلها
سابقا ؟ "
قالت تلك من فورها " هو لم يتصل قبل هذه المرة ، أما لماذا فلا
أعلم فكل ما قاله ( كيف حال غسق ) "
شعرت بقشعريرة تسري في بدنها وقد صور لها عقلها صوته
الجهوري ونبرته المبحوحة وهو يقولها وكان وكأنه أمامها فانتفضت
واقفة تطرد تلك الأفكار من السيطرة عليها ووقفت أمام النافذة قائلة
" ما أجمل نوافذكم هنا فهي طويلة وواسعة تشعرك بأن الطبيعة
موجودة حولك "
لكن الجالسة خلفها يبدوا أنها لم تحب انسحابها من حديثهم السابق
فقد قالت " غسق ألم تتفقا على شيء أبدا حين كان هنا ؟ "
تنفست بعجز وقلة حيلة فلن يجدي إغلاقها لموضوعه أبدا على ما
يبدوا ، التفتت لها واستندت بحافة النافدة خلفها وقالت بتوجس
" هل تحدثتما عن الأمر وقت اتصاله ؟ "
قالت بجدية " سألته فقط حتى متى سيهمل وجود زوجة في حياته
وأنه لم يعد حرا كما في السابق وحين ضغطت عليه كثيرا بتوبيخي
قال باختصار ( لتقبل بي هي في حياتها أولا ثم عاتبيني عليها )
فأسكتني بذلك ولم أستطع قول شيء "
كانت ستتحدث لكنها سبقتها قائلة " أعلم ما تريدين قوله يا غسق
وبأن الاختيار في يده مثلك لكن ألا تري معي أنه يسكت عن الأمر
بإرادته وليس المهر ما يمسكه عنك ؟ بل شهامته كرجل لا يريد
الدخول بامرأة لم يعطها حقها "
حركت رأسها باستنكار وقالت وهي تبعد خصلات غرتها المتطايرة
عن وجهها " المهر من حقي عمتي وشرط أساسي لتحقق العقد
فلما يكون شهامة منه ؟ "
تنهدت نصيرة بصبر وقالت " لأن الأمر ليس كله بيدك يا غسق فكل
ما تستطيعيه تحديد مهرك وغفلت عن أنه ثمة شيء يسمى شرعا بالمهر
المؤجل ويكون برضا الولي أي والدك جدك عمك أو خالك أقربهم حيا
وأنتي لك والد وحتى إن لم يكن فلابد لك عم أو خال والعقد صحيح
وأنتي زوجته أو ما كان ليختلي بك ولا لدقيقتين وأنتي لا
تحلين له وهو ابن شقيقي وأعرفه "
لم تستطع استيعاب تلك الحقيقة ولا تصدق أن والدها شراع قد يوافق
أن يترك مهرها مؤجلا حتى يتفقا وإن بعد عشرة أعوام ليتبجح عليها
ذاك الرجل بأنه يتركها تقرر شهامة منه ليس إلا ! همست باستياء
واضح " لا هذا ليس عدلا أبدا "
قالت عمتها بتأنيب " هذا شرع الله يا غسق هل ستعترضين عليه ؟
ثم لا تنسي أنك بمنع نفسك عنه تخالفين حدوده "
أولتها ظهرها مجددا تنظر لتلك الأشجار التي غطى أوراقها اللون
النحاسي المائل للاصفرار وقالت بضيق " لما أنتي في صفه عمتي ؟
هل لأنه ابن شقيقك وأنا ابنة شراع ؟ لما ينسى الجميع أن هذا الزواج
حدث رغما عني وعن والدي ؟ بأني أجبرت على أن أعيش وسط
قبائل تستنكرني وأنه عليا أن أصفق لهم بحرارة يوم تغزوا جيوشهم
ودباباتهم أهلي هناك ؟ أقليل في حقي أن أطلب مهرا يساوي
نصف ما لقيت وسألقى ؟ "
هزت تلك من خلفها رأسها بيأس وقالت " أنا لا أقف في صفه ضدك
يا غسق وإلا ما كنت عاتبته عليك , أنا أفكر في مصلحتك قبله لأنك
ستكونين الخاسر الوحيد إن أبقى الزواج معلقا هكذا أو تزوج بغيرك
أو أرجعك لوالدك مطلقة ففكري فيه وفي أخوتك على الأقل وحاولي
التفاهم معه على ما يرضي كليكما , وأؤكد لك أنه لن يظلمك أبدا لا
بزواجه منك ولا بمهرك ولا أي شيء فلم نعرفه ظالما يوما وكان
يعطي كل ذي حق حقه حتى إن كان لا يعرفه ، فحتى ورثتي من
والدي يحفظها رغم تنازلي عنها وقال أنها حق ابني وإن لن نجده
أبدا ، وكذلك أرض جوزاء شقيقته وقد صرح بأنه حتى إن ماتت
فلن يلمسها أحد وهي لأبنائها من بعدها وهم ليسوا منا ، بل حتى
أرض دجى رحمه الله وماله لم يقربه أحد ولم يقسمه على الورثة
ومؤكد يضع احتمالات لأن يظهر له زوجة أو ابن لا نعلم عنه
ولا يريد أكل حقه ، فأخبريني كيف لرجل مثله أن يظلمك يا
غسق وينكر حقك ؟ "
مررت أصابعها في شعرها ونظرت للأعلى ثم تنهدت قائلة بعجز
" أعدك أن أفكر في الأمر وأن أتناقش معه فيه عمتي فلا تغضبي
من كلامي ولنترك هذا الحديث برمته أرجوك "
ثم مدت رأسها ونصف جسدها خارج النافذة وقالت مبتسمة
" هذا صوت حبيبة تتشاجر مع الدجاج , جربي أن تخرجي
لتلك الجهة عمتي ستحبينها بالتأكيد "
ابتسمت تلك بود ناظرة للجسد الذي تدلى الشعر مغطي نصفه تحار
في قلب هذه الفتاة الذي لا يحمل شيئا على أحد وقد نست في لحظة
كل حديثهما الذي بدت فيه مستاءة جدا وحانقة من كل شيء حولها
وهذا ما لاحظته عليها إن غضبت لا تغضب من أجل نفسها وسرعان
ما تعتذر , وإن جرحتها الكلمة لا تردها على صاحبها أبدا وسرعان
ما تنساها له , حركت عجلات كرسيها ما أن التفتت لها تلك وقالت
" اذهبي أنتي وغيري من مزاج الصباح , أنا سأذهب لجوزاء
ستمشط لي شعري وتظفره بما أنه جف أخيرا "
تحركت من فورها تساعدها بسحب الكرسي لها وقالت وهما
تخرجان من الغرفة " شعرك محتفظ بجماله عمتي وطريقة
ظفر جوزاء له تجعله أكثر تميزا "
قالت مبتسمة وهما تسلكان الممر وتدخلان تقاطعه مع الممر الغربي
" الشعر من سمات قبيلتنا وبسببه سميت الحالك "
قالت غسق وقد وصلتا باب الغرفة " قبيلة والدتي أيضا تميزت
بالشعر الطويل الكثيف لذلك سميت بقبيلة غزير "
مدت نصيرة يدها لمقبض الباب قائلة " أجل سمعت عنها وهي
كما قلتِ سابقا تنحدر جذورها من الحالك "
وما أن أدارت مقبض الباب حتى قبّلت تلك خدها وهي لازالت
تقف خلفها وقالت مغادرة " سأخرج لحبيبة وأراك لاحقا عمتي "
وغادرت تتحاشى ملاقاة جوزاء تجنبا لتجنب تلك لها وخرجت للحديقة
من باب المطبخ الخلفي قريبا من قن الدجاج الواسع هناك وجلست على
حافة مقعد حجري قد وضع مع بناء المنزل , جلست على ظهره وقدماها
على مقعده تراقبها مبتسمة حتى انتبهت تلك لوجودها وقالت تحدثها
من بعيد وبصوت مرتفع " لقد فقصت بيضات الدجاجة الحمراء "
قفزت من الكرسي قائلة بحماس " حقا !! أرني إياها فكم
أعشق أفراخها الصغيرة جدا "
وتوجهت نحوها تراقبانها في المكان الوعر الذي كانت تنام فيه
فوق البيض وقالت حبيبة " أنظري لرأسه من تحت جناحها
يبدوا أنهم أربعة أو خمسه من انتفاخ جناحيها "
قالت بحماس وهي تراقبهما " متى ستخرج بهم ؟ أريد
رؤيتهم وهم يركضون خلفها "
سوت حبيبة وقفتها قائلة " يوم أو يومين وستخرج بهم "
ابتعدت عنها ووقفت عند جذع شجرة السنديان التي لم تفقد خضرتها
ولونها الزاهي مع تقدم أيام الخريف تراقب حبيبة وتتشاركان الأحاديث
فهي تعرف كيف تصوغ الجملة العادية بحيث تصبح مضحكة واعتادتا
على ممازحة بعضهما وكأنهما صديقتان وليس خادمة وزوجة سيدها
" حبيبااااا "
كان ذاك الصوت الرجولي الصارخ الغاضب القادم من خلفها قد
جعلها تبتعد عن الجذع منتصبة في وقفتها ولم تتجرأ على الالتفات
للخلف وهي ترى نظرة الرعب في عيني تلك الخادمة وقد وضعت
يدها على رأسها متمتمة " يا مصيبتي لقد نسيته "
قالت غسق بتوجس وهي تسمع الخطوات المقتربة منهما
" ما هوا الذي نسيته ؟ "
بلعت تلك ريقها وقالت منزلة يدها " خرطوم المياه ولابد وأنه غمر
المكان , وهو أكثر ما يكرهه إهداره هكذا وسأسمع منه الآن
محاضرة أعرفها جيدا "
وما هي إلا لحظات ومر ذاك الجسد الطويل بجانبها بذات تلك المشية
الواثقة الثقيلة والرشيقة في ذات الوقت حتى وقف على بعد خطوات
بينها وبين تلك التي تكاد تقطع شفتها من عضها تنظر للواقف أمامها
وقد أمسك خصره بيديه صارخا فيها " إن كنا لا نحتاج الماء فغيرنا
لا يجده , كنت تركت أحد العمال تولى المهمة مادام عقلك
ليس معك "
همست تلك بلا حيلة " آسفة سيدي ولن أتولى ذلك مجددا , أنا
فقط أردت أن ... "
قاطعها بحدة " لا عذر يشفع لك أبدا "
وعاد يذكرها بأنها تهدر شيئا إن فقدوه ما استطاعوا العيش بدونه وكانت
هي تتلقى التعنيف بصمت بينهما الواقفة خلفه قد تاهت عينها في شعره
المبلل وكان يرتدي بنطلونا من الجينز وقميصا أبيض وسترة سوداء
خفيفة مخصرة ولم تكن تفكر سوا في متى جاء واستحم ولا تعلم عنه !
عضت طرف شفتها وهربت بنظرها بعيدا عنه موبخة نفسها ( سحقا
لك يا غسق ما الذي تركته عيناك فيه أيضا ؟ كادتا تدخلان تحت ثيابه )
عادت بنظرها لشعره الأسود الرطب اللامع المصفف بعناية كعادته
يحف ياقة قميصه الأبيض من تحت السترة ثم أغمضت عينيها متأففة
من نفسها ( بماذا تسمين هذا يا حمقاء ؟ أتشتاقين له لهذا الحد وهوا
من لا يهتم حتى لوجودك في هذا العالم !! )
ولم تنتبه أن حديثه الغاضب ذاك توقف وأن الواقفة هناك اختفت أيضا
حتى فتحت عينيها وتيبست مكانها وقد وجدته أمامها بعد أن دار بجسده
لها تنظر لعينيه قاتمة السواد من الغضب ولازال يمسك خصره بيديه
فرفعت كفيها بجانبي وجهها وقالت ببراءة " لم أفعل شيئا طبعا "
اقترب منها عدة خطوات حتى كان أمامها مباشرة وقد تحولت
نظرته من الغضب للجمود التام فعضت طرف شفتها وأنزلت
رأسها للأسفل وقالت بصوت منخفض ناعم " آه نعم هي تولت
مهمة السقاية لأني سأخرج معها هنا , لكن لا تصرخ بي
بتلك الطريقة أخشى أن لا أتحمل مثلها "
خرج صوته صلدا وكأنه يسحب فوق قطعة حديد
" لماذا تغمضين عينيك ؟ أتكرهين رؤيتي لهذا الحد ؟ "
رفعت نظرها له بسرعة وقد انفتح فمها من الصدمة ولم تعرف بما
تعلق فلم تتخيل أن يكون هذا السبب وأن يفسر الأمر هكذا ! شعرت
بأنها في مأزق حقيقي فإن قالت الحقيقة فضحت نفسها وذلك ما لن
تفعله أبدا فهل ستعترف بأنها أغمضتهما لأن مشاعرها تغلبت عليها
وخشيت أن تركض جهته وتحضنه من ظهره ! هزت رأسها بلا بقوة
رافضة الفكرة فقرب حاجبيه وغضن جبينه وقال بحزم
" لماذا إذا ... هل لي أن أفهم ؟ "
عضت شفتها مجددا فحتى تلك الإشارة برأسها لم تقصد بها جوابا
لسؤاله , قربت مثله حاجبيها الرقيقان لكن في نظرة عابسة صغيرة
ورقيقة زادت عينيها طولا مقربة صفي الرموش الحالكة الكثيفة
وهمست برقة " لا تفرغ باقي غضبك بي مطر أقسم لم
أقصد ما فهمت "
مد يده وسندها على الجذع خلف رأسها وأحنى رأسه ناظرا لعينيها
( عابثة ) .... تلك كانت الكلمة التي لفضها ولم تخرجها شفتيه وهو
ينظر لوجهها الدائري الجميل وعيناها السوداء والواسعة وخداها
المتوردان وتلك الخصلات التي طارت متمردة على الوشاح الذي
وضعته على رأسها , عابثة صغيرة فاتنة وخطر على أي رجل
ذاك ما اعترف به وإن لم يقله لأنه قال بدلا عنه وبصوت متزن
لم يحمل الغضب هذه المرة لكنه لم يعبر عن أي شيء غيره
" أنتي أتتبعين هذه السياسة كلما كنت في مأزق يا لعوب ؟ "
نظرت لعينيه بصدمة لبرهة ثم رفعت حدقتيها للسماء وقالت بتفكير
" حين كنت صغيرة وكان والدي يعاقب أحد أشقائي كنت
أستلم أنا عنهم مهمة البكاء "
ظهرت ابتسامة ساخرة على طرف شفتيه من تهربها من السؤال
وقال ببرود ساخر " لم أراك بكيت الآن ؟ "
نظرت لعينيه مجددا وخشيت فورا على نفسها من سحرهما فأبعدت
نظرها مرخية له للأسفل وقالت " لأنك لم تضربها طبعا فأنا لم
أكن أبكي إلا حين يضرب أحدهم "
أبعد يده مسويا وقفته وقال ببرود " من هذا الكاذب الذي
أخبرك أني أضرب النساء ؟ "
ولم يعطها مجالا للرد لأنه غادر مجتازا لها قائلا " لفي وشاحك
جيدا والحقي بي عند السيارة "
المخرج ~
بقلم الغالية : سما 23
غسق الدجى الخجولة* بها لا تستهين
لن ترضخ لك بسهولة*يا مطر شاهين
فهي تربية شراع* ذاك الرجل الأمين
وهي امرأة ذكية* رغم الحسن المبين
وهي امرأة قوية* رغم ظلم السنين
جاءت ديار الحالك* لكشف السر الدفين
فصارت سيدة القصر* وعاشت كالسجين
متى تفك قيدها * وتعاملها بلين
متى نراكما معاً * يا أجمل عاشقين
*****
نهاية الفصل ..... موعدنا القادم مساء الأحد إن شاء الله