كاتب الموضوع :
عالم خيال
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: رحلة ضياع
~ الفصل الخامس ~
لم تكن تلك الليلة الليلاء قد انقضت بعد وطوت مآسيها وسلمة يلكز الحصان وهو منطلق به نحو قلعة سنداد، بينما جمان خلفه تنهنه باكية بيأس ومرارة.. مرت ساعة على هربهما من القصر، ولازالت جمان مصدومة لا تكاد تتوقف عن البكاء.. فقال سلمة بشيء من القلق "لم يعد لهذا البكاء أي فائدة يا مولاتي.. لا أريد أن ينهكك البكاء ونحن لم نتخلص من الخطر بعد.."
همست جمان باكية "لا أستطيع.. كلما فكرت بمن تركناهم خلفنا ينقبض قلبي ولا أملك دموعي.."
صمت سلمة دون أن يعلق، فسمعها تضيف "أتعتقد أننا نستطيع العودة للقصر؟"
قال سلمة بسرعة "لا.. قطعاً لا يمكننا ذلك.. لا نعلم ما الذي قد نجده هناك، وإن كان التتر قد غادروه أم لا.."
ارتجف صوتها وهي تهمس "لكني أريد أن أعرف ما حلّ بالقصر وبمن بقي فيه.."
فقال سلمة بضيق "ربما من الأفضل ألا نفعل ذلك في الوقت الحالي.. ليست لديّ القدرة على قتال كل أولئك التتر لو واجهتهم في القصر.."
صمتت جمان وهي تخفض وجهها والدموع تعود لتسيل على خديها ببطء، قبل أن تقول بحزن مرير "ربما ما كان علينا الرحيل قبل أن نحاول إنقاذهم.. لقد تخلينا عن الجميع.. هذا بغيض"
تنهد سلمة وهو يشعر بها تضغط على موضع جرحه، ثم غمغم "ما كنت أستطيع فعل شيء بمفردي.. جلّ همي كان أن أنقذك أنت، وأنت أمانة أأتمنني إياها مولاي.."
صمتت جمان وهي تشعر بغصة في حلقها.. وللمرة الأولى تشعر بالراحة لغياب خديجة.. لو واجهت خديجة هؤلاء التتر، سيقتلونها دون لحظة تردد.. عندها لن تقدر جمان على الصمود وهي ترى من كانت بمكانة أم لها تقتل على يد أولئك الأوغاد.. ولربما انهارت وعجزت عن الهرب مما سيسهل على التتر القبض عليها..
سمع سلمة في تلك اللحظة صوتاً من موقع قريب جعله ينظر جانباً بقلق.. كانا في ذلك الوقت يعبران المساحات المسطحة التي تفصلهما عن القلعة، والتي انتشرت فيها العديد من التشكيلات الصخرية متفاوتة الاحجام والأشكال.. ومن خلف إحدى تلك التشكيلات الضخمة، استطاع سلمة أن يرى على النور الخافت للقمر جماعة من الخيول لم يقدر على معرفة عددهم.. كانت الجماعة تقترب منهم بشكل حثيث، مما جعل جمان تقول بذعر "أتعتقد أنهم من التتار؟"
لم يعرف سلمة بم يجيبها فغمغم "لا أدري.. لكن لا يمكنني المجازفة"
غيّر طريقه متجاوزاً عدداً من التشكيلات الصخرية، فلاحظ على الفور أن تلك الجماعة قد تبعته أيضاً مما يعني أنهم عازمون على مطاردته، وإن كان جاهلاً بالسبب الذي يدعوهم لذلك.. أهم التتر؟ أهم قطاع طرق؟.. لا يدري، ولا يدري ما الحظ الذي أوقعه في مرمى بصرهم في هذه الليلة شحيحة النور..
حاول أن يزيد من سرعة الحصان، ملاحظاً أن المسافة بينه وبين مطارديه ثابتة تقريباً.. فلا يمكنه الهرب منهم، ولا يمكنهم اللحاق به في الآن ذاته.. دار سلمة ببصره فيما حوله بحثاً عن سبيل للهرب منهم والاختباء، لكن إن لجأ لأي من تلك التشكيلات الصخرية، فسيتبعونه على الفور.. والقلعة لا تزال بعيدة عنهم..
سمع صيحة ذعر من جمان، ولما التفت خلفه رأى على النور الخافت للقمر بعض راكبي تلك الخيول يصوبون سهامهم نحوه.. لكز سلمة حصانه بقوة فيما بدأت بعض السهام تنهمر حولهما بشكل متفرق.. شعر سلمة بقلقه يتزايد رغم أن الرجال لم يتمكنوا من إحكام التصويب في هذا الظلام.. لكن لو أفلح سهم واحد في إصابة الحصان الذي لا يملكون غيره، فهذا معناه نهايتهما الأكيدة..
نظر سلمة أمامه ملاحظاً مجموعة أخرى من التشكيلات الصخرية متفاوتة الأحجام والتي تقترب منهم بسرعة، ولاحظ في الآن ذاته أن نور القمر يخفت قليلاً قبل أن يعود لينير البقعة ثم يخفت من جديد.. رفع بصره ليجد أن بعض السحب قد بدأت تغطي وجه القمر، فالتمعت في ذهنه فكرة قد تفيدهما في التخلص من مطارديهم.. فقال لجمان "اسمعيني يا مولاتي.. سأخفف من سرعتي فور أن نصل لتلك التشكيلات ونختفي خلفها.. عليك عندها القفز عن الحصان والاختباء بسرعة خلف أقرب الصخور إليك.."
صاحت جمان بذعر "لا يمكنني فعل ذلك.."
قال سلمة بحزم "بل عليك أن تطيعيني.. حاذري أن يروك قبل اختبائك.. سأتخلص من الحصان بعدك بقليل وسأتركه يركض وحيداً.. قد نستطيع خداع ملاحقينا للحاق بالحصان فيما نهرب نحن.."
هزت جمان رأسها بفزع قائلة "لا أستطيع.. سيجدونني ولن تستطيع إنقاذي منهم بعدها.."
فقال سلمة بشيء من الحدة "أرجوك لا تتخاذلي الآن.. أطيعيني فلا نعلم متى سيسقط هذا الحصان ونقع نحن الإثنان تحت رحمة ملاحقينا.."
وصلوا لتلك التشكيلات الصخرية وبدأ الحصان في الركض بينها، فقال سلمة "أأنت مستعدة؟"
هزت جمان رأسها إيجاباً باضطراب، فخفف سلمة سرعة الحصان بعد أن تأكد أن صخرة ضخمة تخفيهم عن الأعين، وصاح بجمان "اقفزي الآن واختبئي جيداً.."
غالبت جمان اضطرابها وهي تقفز عن الحصان لتسقط أرضاً وتتدحرج قليلاً بينما لكز سلمة الحصان ليعاود ركضه بسرعة وهو يلقي نظرة قلقة على جمان.. فرآها تتدحرج على الرمال قبل أن تنهض بسرعة وتتلفت حولها بذعر، ثم ركضت نحو أقرب الصخور واختبأت خلفها قبل أن يقترب ملاحقوهم ويلمحوها.. عاد سلمة يلكز الحصان وهو يحاول أن يُبقي المسافة ثابتة بينه وبين الآخرين، وظل يفكر بقلق.. هل سينخدع الرجال بهذه الخدعة؟ ألن يلاحظوا أن الحصان قد غدا بلا راكب على ظهره بعد أن يقفز عنه؟.. يأمل أن تغطي السحب القمر لفترة أطول حتى يستطيع أن ينجو بعنقه ويعود لجمان.. التفت خلفه فرأى المجموعة تطارده بإصرار وتحاول إيقافه بشيء من السهام بين فترة وأخرى.. وقرب آخر صخرة في التشكيلات التي يمرون بينها، والتي شكل حاجزاً بينه وبين مطارديه، أوقف سلمة الحصان فجأة وقفز عنه قبل أن يضرب فخذه بقوة بنصل سيفه بشكل عرضي مما جعل الحصان يصهل ويركض بسرعة مبتعداً.. أما سلمة فقد ركض نحو أقرب التشكيلات الصخرية فاختبأ خلفها ليبدأ الصعود فوقها مما يمنحه مجالاً أكبر للرؤية.. وقبل أن يصل أعلاها، سمع سنابك الخيل تقترب من موضعه بوضوح، فربض قرب سطح تلك الصخرة وهو يراقب جماعة الخيول التي استمرت في الركض بسرعة دون أن يدرك هويتهم مع الظلام المهيمن في المنطقة كلها..
أسرعت تلك الجماعة والتي لاحظ أنها لا تقل عن خمس خلف حصانه الذي استمر بركضه مبتعداً عن موقعهم.. فتنهد سلمة وهو يراهم غير مدركين لكون الحصان وحيداً بلا أي راكب على ظهره.. وقبل أن يتحرك من موقعه، لاحظ أن أحد تلك الجماعة قد انفصل عن بقية رفاقه غير بعيد عن موقعه وهو يدير حصانه ويعود بسرعة أقل نسبياً.. فغمغم سلمة مقطباً "أهم يشكـّون بما فعلناه؟.."
ظل يراقب اقتراب الرجل منه وهو قابض على سيفه بقوة وقد عزم على الاستفادة من هذه الفرصة التي قد لا تواتيه مرة أخرى.. هما بحاجة لحصان لإكمال مسيرهما للقلعة، وهذا الرجل يمنحه الفرصة على طبق من ذهب.. لما اقترب الرجل من موضعه وهو يتلفت حوله، والحصان يبطئ من سيره بين التشكيلات الصخرية، قفز سلمة فجأة على الرجل وارتمى معه أرضاً والحصان يصهل من المفاجأة.. وقبل أن يتمالك الرجل نفسه كان سلمة يدوس السيف المعلق في حزام الرجل ليمنعه من استخدامه وهو يرفع سيفه ناوياً إصابة الرجل بضربة مميتة.. فسمع الرجل يصيح في تلك اللحظة "أرجوك لا تقتلني..."
فوجئ سلمة بلغته العربية وهو يرى الرجل الملثم يزيح لثامه وهو يصيح "لا ننوي بكم شراً.. فلا تقتلني.."
جعلته تلك الصيحة يتردد قليلاً، وقبل أن يسأل الرجل عن هويتهم وجده يركله في صدره بقوة ويلقيه للوراء.. تمالك سلمة نفسه بسرعة ونهض واقفاً ليجد الرجل قد استلّ سيفه وهو يهوي به نحو صدره.. سارع سلمة لصدّ الضربة بسيفه فيما الرجل يضحك ساخراً وهو يهتف "يا لك من غرّ ساذج.."
شعر سلمة بالغضب وهو يصدّ ضربة جديدة للرجل، ثم هوى بسيفه نحو عنق الرجل الذي سارع لصدّ الضربة أيضاً.. فعاجله سلمة بلكمة من يده اليسرى بقوة قبل أن يسدد سيفه في ضربة لصدره وهو يقول بغضب "ليس لديّ الوقت لسخريتك هذه.."
وأتبع ضربته الأولى بأخرى انغرزت في صدره بقوة شهق لها الرجل واتسعت عيناه، قبل أن يجذب سلمة سيفه تاركاً جسد الرجل يسقط جثة بلا حراك.. شعر سلمة بضيق لاضطراره قتل الرجل، رغم إدراكه أنه من قطاع الطرق، لكن توتره الذي ازداد مع مرور الساعات هذه الليلة وقلقه الشديد على مصير جمان لم يسمح له بإطالة التفكير.. تلفت حوله ليطمئن لابتعاد بقية الرجال، ثم تقدم من الجثة واستولى على سيفه قبل أن يتجه إلى الحصان الذي وقف جانباً متوتراً.. فتقدم منه وأمسك لجامه مغمغماً "الحمدلله أنك لم تهربي وتتركيني وحيداً"
لم يجد منه ممانعة وتحفزاً منه، فسارع لامتطائه وعاد أدراجه للموضع الذي ترك عنده جمان.. ولما اقترب منها هتف "مولاتي.. أأنت بخير؟"
رآها تطلّ من خلف الصخرة بعينين متسعتين، ثم ركضت نحوه وهي تسأله "ماذا عن الآخرين؟"
ساعدها لتركب خلفه قائلاً "رحلوا.. وأتمنى ألا يعودوا في وقت قريب.."
ولكز الحصان ليتجه في اتجاه آخر بعيد عن ذاك الذي سار فيه بقية الرجال.. بينما عادت جمان تتساءل "هذا الحصان يختلف عن الذي كنا عليه.. ما الذي فعلته؟"
أجابها "استوليت عليه بعد أن تخلصت من راكبها الذي ابتعد عن رفاقه.. سنبتعد ونختبئ في موقع أكثر أمناً حتى تطلع الشمس.. لم تعد هذه البقاع آمنة وقد لا نسلم في المرة القادمة إن لحق بنا قطاع الطرق.."
صمتت جمان وهي تنظر خلفها بقلق خشية أن يكون الرجال على إثرهم، ثم عادت ببصرها للأمام وهي تهمس "أتمنى أن تكون هذه آخر مآسينا.."
***********************
بعد ساعة من الجري المتواصل، أوقف سلمة الحصان المنهك في موقع تحيط به بعض التكوينات الصخرية الضخمة مما شكـّل لهما ستاراً ملائماً.. ترجـّـل سلمة عن الحصان وهو يقبض على اللجام بقوة لئلا يفزع الحصان منه ويولـّي مبتعداً، والتفت نحو جمان التي لم تتحرك من موقعها على ظهر الحصان وهي مطرقة قائلاً "هل أنت بخير يا مولاتي؟.."
فوجئ بها تقول بشيء من الحدة "لا تنظر إليّ.."
بدت الدهشة على ملامحه، إلا أنه لم يملك الاعتراض وهو يخفض بصره متسائلاً "ما الأمر يا مولاتي؟.. أأنت خائفة؟.. سنصل للقلعة قريباً فلا تخشي شيئاً.."
غمغمت بصوت خفيض وضيق واضح "لا يمكنني الذهاب لأي مكان بهذا الشكل.. أريد وشاحاً لتغطية شعري، وأريد ملابس أخرى.."
قال سلمة "ملابسك لا بأس بها، تحتاجين فقط لتغطية شعرك بوشاح.."
قالت جمان بعصبية "أخبرتك أني أريد إبدالها.. لا يمكنني الذهاب للقلعة بهذه الصورة.."
لم يعلق على قولها وهي تراه يخلع عمامته ويمد يده بها نحوها دون أن يرفع بصره ويقول "ربما كان عليك استخدام هذه مؤقتاً، فلا نملك حلاً آخر.. رغم أنها لا تناسب قـَدْرَك يا مولاتي.."
تناولت جمان العمامة وهي تغمغم "لم يعد هناك أي قـَدْرٍ يناسبني بعد ما جرى الليلة.."
فكـّت العمامة ولفـّـتها حول رأسها لتخفي شعرها الذي تداعبه النسمات الخفيفة، بينما أدار سلمة ظهره لها وهو يقول بحزم "بل ستعود لك مكانتك بأفضل مما كان.. إن هذه إلا غمّة ستزول بإذن الله تعالى.."
وأضاف "سآخذك نحو القلعة التي أتمنى أن تكون آمنة.. وسآخذك إلى قصر مولاي عبدالله بن جعفر، حيث يمكنك أن تكوني في رعاية ابنه عامر حتى عودة مولاي.. فهذا أفضل لك"
نظرت جمان إليه بقلق وهي تسوّي العمامة على رأسها وقد لفـّتها كوشاح، ثم قالت بتردد "كيف يمكنني البقاء في قصره وحيدة؟.. لا أعتقد أنني سأكون مرتاحة لذلك البتة"
قال سلمة بعد لحظة صمت "هذا ما يجب أن يكون.. فلا أعلم موقع مولاي بالتحديد، ولا يجدر بي أخذك معي وأنا أبحث عنه.. وجودك في القلعة أكثر راحة وأمناً لك دون شك.."
صمتت جمان وهي تشعر بضيق من ذلك، لكن كما قال سلمة فإن من الخير لها أن تأوي لقصر ذو حراسة جيدة، حتى لو كان ذلك سيسبب لها الحرج مع عامر.. لكن، ألم تكن ستزفّ إليه بعد وقت قصير؟ لمَ عليها أن تكون حرجة ممن سيصبح زوجها قريباً؟..
تنهدت بينما قال سلمة "سأذهب لألقي نظرة فيما حولنا، وبعدها سننطلق نحو القلعة بحذر.. لا نريد أن يباغتنا التتر كما حدث الليلة.."
وابتعد نحو أقرب التكوينات الصخرية ليرتقي أكبرها ويلقي بنظرة شاملة على الموقع المحيط بهما.. بينما هبطت جمان من على ظهر الحصان ووقفت تعدّل العمامة على رأسها وتلقي بنظرة على ملابسها البسيطة.. رغم أن ملابسها كانت تستر جسدها كله ولم تكن شفافة، إلا أنها لم تعتد الخروج بهذه الملابس القطنية البيضاء التي تستخدمها عادة للنوم، بالإضافة لكونها حافية القدمين.. ومع شروق الشمس، سيزول الظلام الذي تشعر أنه كان ستراً لها.. وهي التي لم تكن تخرج إلا بكامل زينتها وبألبسة حريرية مطرزة ومزينة بالذهب والجواهر..
رمت تلك الفكرة خلف ظهرها وهي تقف وتنظر جهة القصر الذي تركوه في حالٍ يرثى لها.. كان النور الأحمر الصادر من جهة القصر واضحاً ويدلّ على حجم الحريق الذي يلتهمه والحدائق المحيطة به.. غزتها المرارة وهي تراقب الأفق وتفكر في حال من تركتهم.. عندما كانت تأمل بالخروج من أسوار القصر، وعندما كانت تتمنى بعض الحرية، لم يكن هذا المنظر الذي تود رؤيته.. ولم يكن هذا الحال الذي يسعدها أن تخلـّفه وراءها..
جلست جانباً محاولة تمالك رجفة جسدها وهي تقول "رباه.. لم حدث كل هذا؟"
سمعت صوت سلمة يقول وهو يقترب من موقعها "لا يجب علينا الاعتراض على قضاء الله تعالى.."
قالت بمرارة "لكن ما جرى أمر فظيع.. لا أكاد أتمالك رجفة جسدي وأنا أتذكر منظر الأجساد الغارقة بدمائها.. ليس هذا اعتراضاً مني على أمر الله، لكنه صدمة بما رأيته وبفظاعة ما يمكن للإنسان أن يرتكبه.."
لم يعلق سلمة وهو مدرك مدى صدمتها للأمر.. وجلس جانباً قائلاً "سنرتاح قليلاً حتى ترتفع الشمس قبل أن نكمل طريقنا نحو القلعة.."
وضعت جمان رأسها بين ذراعيها وهي تغمض عينيها محاولة تناسي ما رأته وشهدته في الليلة الماضية.. لكن لم يكن الأمر بالسهولة التي تصورتها.. وربما لا يكون كذلك أبداً..
***********************
عندما استيقظ إمام فجأة، شعر بأشعة الشمس الدافئة على جسده الغارق في العرق.. باغته الألم الحارق في ذراعه اليسرى، فنهض وهو يمسك ذراعه بقوة عندما انتبه لشيء جعله يحدق في ذراعه للحظات.. بعد المعركة الشرسة التي خاضها مع التتري قبل أن يفقد وعيه، تذكر أن التتري قد أفلح في إصابته بضربة قوية في ذراعه اليسرى.. ولقوة الضربة استطاع قطع ذراعه من تحت الرسغ بشكل كامل..
نظر إمام لثيابه الممزقة وللموضع الخالي من ذراعه وهو يشعر بشعور غريب تجاوز الشعور بالألم.. ثم حاول تجاوز ذلك وهو يلاحظ أن ذراعه قد تم تضميدها بشكل كامل وإن كانت الضمادات قد غرقت في دمائه.. تطلع حوله بصمت ملاحظاً القصر الذي تفحمت أجزاء كبيرة منه، وعندما التفت لمبنى العبيد رآه قد تهدم بالكامل ولم يبق منه إلا حطام محترق.. رأى الجثث المتناثرة حوله فعبس وهو يغمغم بمرارة "تباً لأولئك الأوغاد.."
سمع خطوات راكضة نحوه مما جعله يتوتر وهو يلتفت خلفه.. فرأى زهران يقترب منه حتى وصل إليه وعلى ملامحه راحة عميقة وهو يقول "استيقظت أخيراً؟ الحمدلله.. خشيت أن تقضي نحبك لكثرة ما نزفت من دماء.."
تساءل إمام بدهشة "ما الذي جرى هنا؟.. كل ما أذكره هو سقوطي من نافذة القصر وبعدها فقدت الوعي.. كيف لم يتخلص التتري مني؟ وكيف نجوت أنت؟"
قال زهران "مهلاً.. سأذهب لأحضر لك بعض الماء فأنت منهك تماماً.. وبعدها أخبرك بكل ما رأيته.."
وعاون إمام على النهوض مضيفاً "الأفضل أن تبقى في الظل حتى أعود.."
حاول إمام تمالك رجفة جسده وضعفه مع ما نزفه من دماء، ولما جلس في ظل ما تبقي من القصر تركه زهران مسرعاً ليحضر له الماء.. كان الموقع غارقاً في صمت غير مألوف، مما جعل غصة تسدّ حلق إمام وهو يحاول عدم التدقيق في الجثث القريبة منه، فلم يكن يرغب بمعرفة هوية من عاش معه في هذا القصر عمراً والآن لا يعدو كونه جثة هامدة وربما تمّ التمثيل بها..
تمالك إمام حزنه وهو يسند رأسه للجدار بصمت حتى رأى زهران يعود إليه حاملاً بعض الماء في إناء.. تناول إمام منه الإناء وشرب الماء بجرعات كبيرة ثم صبّ الباقي على رأسه الذي يكاد ينفجر ألماً.. ثم رمى الإناء جانباً وهو يسأل زهران "والآن أخبرني بكل ما جرى.."
قال زهران "بعد أن تركتنا ودخلت القصر، تشجع بعض الرجال ولحقوا بك محاولين قتال التتار.. بينما بقيتُ مع البقية فلم يكن أحدنا يُحْسِن القتال مثلكم أنتم.. اقترح البعض أن نهرب بالخيول الموجودة في الإسطبل، لكن ميسرة هددهم بالقتل إن حاول أحدهم الهرب، مما يعني أن يفقد الآخرون وسيلة الترحال الوحيدة هنا.."
غمغم إمام بسخط "تباً لهم.. عوضاً عن مساعدتنا للتخلص من التتار ونحن أكثر عدداً، يفكرون بالتخلي عن الجميع والهرب؟.. إنهم يستحقون ما جرى لهم"
خفض زهران بصره قائلاً بمرارة "لا أحد يستحق أن يقتل بهذه الطريقة.. بعد أن غاب الرجال في القصر خلفك، خرج ثلاثة من التتر ويبدو أنهم كانوا يبحثون عن رفيقهم الذي قتلته أنت.. ولما وصلوا لمبنى العبيد ورأوا جثته ثاروا علينا وأعملوا سيوفهم في رقاب الرجال الذين لم يجرؤوا على المقاومة ولم يجدوا مكاناً يهربون إليه.."
نظر له إمام باستنكار بينما قال زهران "أنا كنت في ذلك الوقت قد صعدت لسطح المبنى لأمنح نفسي موضعاً أفضل لمراقبة الوضع.. ولما رأيت المذبحة التي قام بها التتار بقيت متجمداً في موضعي دون أن أجرؤ على الحراك.. ثم رأيت التتار بعد أن فرغوا من الرجال يدلفون مبنى العبيد ويبدؤون بتفتيشه.. خشيت أن يصل أحدهم لموضعي، فلم أجد بداً من الاختباء.."
وأشار لإحدى الأشجار التي كانت كثيفة الورق لكنها تفحمت من النار ولم يبق منها إلا رمادٌ قائلاً "تلك الشجرة كما تعلم قريبة من السطح، فلم أملك إلا أن أقفز على أقرب فرع لها وأختبئ بين أوراقها الكثيفة أراقب ما يجري مفزوعاً.. بعد أن رأيت مقتل رجال أكبر مني عمراً وأقوى مني بمراحل، كيف لي بمواجهة أولئك التتر؟ دعوت الله كثيراً أن يغفلوا عني ويرحلوا.. والحمدلله أنهم غادروا المبنى بعد أن استولوا على كل ما له قيمة.. وللأسف لم يتركوه إلا بعد أن أضرموا فيه النيران ولست أدري ما هدفهم من ذلك.."
لم يعلق إمام وهو عابس بضيق، بينما أضاف زهران "عندما بدأت النار تقترب من الشجرة، لم أجد بداً من النزول والاختباء في موقع آخر.. ومن هناك، ظللت أراقب القصر وما يجري فيه بقلب واجف.. لست أدري ما جرى لكم فيه، لكني فزغت عندما رأيتك تسقط من نافذة القصر العلوية أرضاً دون حراك.. ظننت عندها أنك ولاشك قد قضيت نحبك، وأظن التتري قد اعتقد الأمر ذاته فلم يأتِ لتفحص جسدك.. ونحمد الله على ذلك، وإلا ما تردد في فصل رأسك عن جسدك رغم فقدانك للوعي.."
دمدم إمام "لست أدري أكان ذلكَ من حسن حظي أم من سوئه.."
قال زهران بعتاب "احمد الله على نجاتك يا إمام.. أنت بخير ولم تفقد إلا يداً واحدة.."
علق إمام "لكني أعيش وغمامة سوداء تلتهم قلبي مع كل ما رأيته وما شهدته من أهوال.. الأمر ليس هيناً بتاتاً ولن تعود الأيام كما كانت أبداً"
هز زهران رأسه وهو يقول "المهم أنك بخير وأنك حيّ.. هذه نعمة من الله تعالى.."
ثم أضاف متطلعاً للقصر خلفه "رأيت بعد سقوطك بوقت وجيز بقية التتر يخرجون من القصر.. كانوا محملين بكل ما له قيمة في القصر من ذهب ومال وجواهر.. ولم ينسوا الاستيلاء على الخيول في الإسطبل، وحملوا عليها من شاؤوا من الجواري بعد أن ربطوهن بإحكام.. ثم غادروا تاركين النار تلتهم القصر بما فيه.. وبعد رحيلهم، حاولت دخول القصر لأرى إن كان هناك من هو بحاجة لي، لكني لم أجد إلا جثثاً في كل مكان.. ولما عدت إليك، وكنت يائساً في الحقيقة من كونك على قيد الحياة، اكتشفت أنك على غير ما توقعت مازلت حياً.. ومازال قلبك ينبض.. فأسرعت أعالج جرحك الذي نزف الكثير، واضطررت لكيّ الموضع بالنار لأوقف النزف، وضمدته بعدها دون أن تـُبدي أي حراك.. ثم انتظرت استيقاظك بفارغ الصبر فنحن أصبحنا وحيدين تماماً في هذا القصر.."
سأله إمام بشيء من القلق "ألم ترَ سلمة؟ ما الذي جرى له ولمولاتي؟"
أجاب زهران "لا تقلق.. قبل سقوطك أنت من النافذة، رأيت سلمة يخرج من ذات النافذة ومعه مولاتي.. واستغل قرب إحدى خيول التتر تحت النافذة فقفز على ظهرها وسيطر عليها بسرعة قبل أن تتبعه مولاتي.. حاول أحد التتر إيقافه، لكن سلمة أطار رأسه بضربة واحدة قبل أن يغادرا أسوار القصر بأمان.."
تبدت الراحة على وجه إمام وإن قال بضيق "تباً له.. هرب دون أن يحاول معاونتنا.."
فقال زهران محاولاً التهوين من الأمر "المهم أنه أنقذ مولاتي.. والمهم أنهما حيّين يرزقان.."
زفر إمام وهو يخفض بصره بصمت، ثم قال "شكراً لك يا زهران.. أنا مدين لك بحياتي.."
ربت زهران على كتفه قائلاً "لا بأس يا صاحبي.. المهم الآن، ما الذي سنفعله بعد كل ما جرى هنا؟"
نظر إمام حوله وقال "وما الذي بيدنا فعله؟ علينا أن ننتظر عودة مولاي، هذا إن لم يلقَ مصيراً مشابهاً.."
قال زهران مقطباً "يجب أن نذهب بك للقلعة لعلاجك.. إن بقيت بجرحك هذا لمدة أطول فأنت هالك لا محالة.."
غمغم إمام "وبم يمكننا فعل ذلك؟"
أجاب زهران "لقد استولى التتر على الخيول كلها.. لكن بقي لدينا حمار في الحظيرة.. سيكون سيرنا به أبطأ بالطبع، لكنك لن تتمكن من السير على قدميك للقلعة بأي حال.."
صمت إمام وزهران يضيف "ربما نستغرق نهاراً كاملاً في الوصول للقلعة، لكن هذا أفضل من البقاء هنا.."
غمغم إمام متنهداً "بعد كل ما جرى، أخشى أن يكون ذهابنا إليها بلا فائدة.."
***********************
عندما تبدّت لهما قلعة سنداد عند الأفق بأسوارها العالية، لاحظ سلمة بوضوح سحائب الدخان التي علتها والتي أتت من جهات متفرقة منها.. ورغم القلق الذي شعر به، إلا أنه لم يبطئ سرعة الحصان وهو يتقدم من القلعة بإطراد.. سمع جمان تشهق لما انتبهت للقلعة وهمست "القلعة تعرضت لهجوم أيضاً؟"
قال سلمة "يبدو أن فرقة أكبر من التتار قد هاجمت القلعة الليلة الماضية.. لكن أتمنى أن تكون قد غادرتها وإلا سيكون لقاؤنا بها سيئاً.."
فقالت جمان بقلق شديد "لا تقترب من القلعة حتى نتأكد من أمرها.."
هز سلمة رأسه موافقاً، وإن استمر بسيره بالحصان حتى مشارف القلعة.. فسمع جمان تهمس بقلق "أرجوك توخّ الحذر.. أخشى أن نواجه التتار مرة أخرى.."
خفف سلمة سرعة الحصان مع اقترابهم من القلعة قبل أن يقول "المكان يبدو لي أهدأ من اللازم.. وأبواب القلعة مشرعة على مصراعيها.. ربما هم غادروها حقاً.."
لم تعلق جمان رغم القلق الشديد الذي يعتريها كلما فكرت بإمكانية مواجهة التتار من جديد.. ولما وصلوا إلى باب القلعة الأقرب إليهما، أوقف سلمة الحصان فجأة فصهل وهو يدور في موقعه بتوتر.. نظر سلمة أمامه بصمت مقطباً بينما أشاحت جمان ببصرها وهي تغمض عينيها بقوة وتئن بألم.. شعرت بقبضة قاسية تعتصر قلبها مع المنظر الذي تراه ولم تشهد مثله في حياتها.. فرغم الجثث التي رأتها في القصر والتي غطاها الظلام، فإن رؤية أكوام الجثث التي تناثرت في طرقات القلعة لا يشبهه بأي حال.. وزاد من حدة الأمر نور الشمس الذي جعل المنظر أشد وضوحاً وقسوة.. سمعت جمان سلمة يقول بخفوت "لا تنظري يا مولاتي.."
تشبثت بكتفيه بقوة وإن حاولت إبقاء عينيها مغمضتين وهي تشعر بالحصان يسير مجدداً.. لكن كيف لها أن تتجاهل الرائحة القوية لمزيج الدخان الصادر من بعض المنازل المتفحمة والدماء التي أغرقت الطريق تحتهما؟..
سار سلمة بالحصان عبر بوابة القلعة المشرعة على مصراعيها وعبر الطريق الذي يشق المنازل القريبة، محاولاً تجاوز الجثث التي ارتمت متفرقة في كل مكان وعلى مرمى بصره.. بدا الأمر وكأن نمراً متوحشاً قد أطلق وسط أناس عزّل فجال بينهم يقتل ويمزق ويلطخ الجدران بدمائهم دون أن يجد مقاومة تذكر.. ما الذي يجعل جندياً، مهما كان جنسه ودينه وما نشأ عليه، يرتكب مثل هذه الجرائم في أناس لا ذنب لهم ولا جريرة؟.. ما الذي يجعل إنساناً يسعد بتدمير الحياة بكافة أشكالها بدون هدف واضح؟..
سمع صوتاً خافتاً من شارع جانبي، فالتفت بقلق ويده تمتد لتمسك مقبض سيفه.. فرأى رجلاً أشيب اللحية يقف منكمشاً وهو ينظر إليهما بعينان متسعتان ذعراً.. ولما تأكد من هويتهما تنهد وهو يقول بصوت ينتفض "الحمدلله.. خشيت أن أولئك التتر قد عادوا لمزيد من المذابح"
كان حال الرجل يرثى له مع الدماء التي تلطخ ملابسه والغبار الذي يتخلل لحيته ويعفر وجهه.. فتساءل سلمة مقطباً "أأنت بخير؟ ما الذي حدث هنا؟ أهم التتار من فعلوا كل هذا؟"
زفر الرجل وهو يجلس جانباً وقال بمرارة "أجل.. مخطئ من يسمي أولئك بشراً.. إنهم وحوش، ولا يملكون ذرة رحمة في قلوبهم.."
وضحك بشيء من المرارة قائلاً "ذلك الوالي الأحمق.. لقد فتح أبواب القلعة وسلم مفاتيحها للتتار دون قتال.. وأجزل لهم العطايا والهدايا أملاً في أن يُبْقوا على عنقه.. لكنهم بعد أن أخذوا ما يريدون، أطاروا عنق الوالي أول ما فعلوا، ثم عادوا لأهل القلعة فوضعوا فيهم السيف بدون تردد أو ندم.."
استمع له سلمة وجمان باستنكار وصدمة والرجل يضيف مشيراً لما حوله "أيصدق عاقل أن يحدث كل هذا في يوم وليلة؟ القتل والنهب والسلب، حدث كل هذا بسرعة وبلا رحمة.. ناهيك عن الأعمال الوحشية التي ارتكبوها بالنساء والأطفال والعجائز.."
تساءل سلمة وهو يترجل ويقترب منه "وكيف نجوت أنت منهم؟"
قال الرجل قالباً كفيه "ليس مهارة مني في القتال بالتأكيد.. كيف لي أن أجابه أولئك وأنا ضعيف؟.. لقد اندسست بين جثث القتلى فحسبوني قتيلاً مثلهم.. ولم أترك موقعي حتى تأكدت أنهم قد غادروا القلعة تماماً.."
عضّت جمان شفتها وهي تشيح جانباً محاولة إزالة تلك الصورة من ذهنها.. كيف استطاع أن يحتفظ هذا الرجل بعقله وهو يجد نفسه مرمياً بين الجثث لساعات؟.. إنها بالكاد تستطيع أن تمنع نفسها من الانهيار مع مرأى الموت المحلق فوق القلعة والمهيمن عليها..
سمعت سلمة يتساءل "وماذا عن عائلة القائد عبدالله بن جعفر؟ ماذا عن ابنه عامر؟ هل نجوا من هذه المذبحة؟"
قال الرجل ساخراً "بالطبع.. لقد هربوا قبل قدوم التتار بساعات وحملوا معهم كل أموالهم وذهبهم وعبيدهم.. لو لم يلتقِ بهم الجيش التتري الذي غادر القلعة فهم بالتأكيد قد وصلوا إلى الكوفة ليبدؤوا حياة جديدة رغدة.."
شعرت جمان بالاطمئنان لما سمعته بينما قطب سلمة بصمت.. حاول أن يفهم سبب رحيل عامر دون أن يحاول معرفة مصير جمان مع إدراكه للخطر القادم والذي سيحيق بالمنطقة كاملة.. أي عذر يملك ذاك الرجل تجاه من ستكون زوجته؟..
نظر سلمة لجمان خلفه وقال "انتظريني هنا يا مولاتي.."
لم تعلق جمان وهي تراه يبتعد عنها ليدخل أحد المنازل القريبة ومنها لمنزل آخر وآخر.. بينما ظلت جمان تنتظره وهي على ظهر الحصان مدة طويلة، ولم تكن تجرؤ على الترجل عن الحصان وكأن بقاءها في هذا الموقع المرتفع يبعدها عن الأهوال التي تراها ويمنعها من الاستسلام للذعر الذي يمرح في صدرها..
بعد ذلك الوقت، رأت سلمة يعود وهو يحمل قربة ماء وبعض الطعام.. ولما وصل للحصان وضع ما يحمله في الجراب المعلق على ظهره وجمان تغمغم "هل يجوز بنا فعل هذا؟"
قال سلمة باقتضاب "لم يعد لهذا الطعام من صاحب.."
صمتت جمان وهي تشعر بالألم يعتصر صدرها لتعليقه، ثم لاحظت أنه بحث ببصره حولهما، قبل أن يبتعد خطوات وينحني لأخذ شيء سقط أرضاً قرب إحدى الجثث.. ولما عاد إليها رأت في يديه حذاءً عادي المظهر قد غطاه الغبار وقد لاحظ أنها حافية القدمين.. فقالت جمان بصوت مرتجف "أنت تعلم أني لن أرتدي هذا.."
وضع سلمة الحذاء جانباً في جراب الحصان وهو يقول "لا مفرّ من ذلك.."
وأسرع يمتطي الحصان والرجل القريب يقول "هل أنتما مغادران؟ كونا حذرين، ففرق التتار تجوب المناطق وقد يلتقون بكما في أي موضع"
لم يعلق سلمة رغم القلق الظاهر على وجه جمان، وأدار الحصان متجهاً نحو بوابة القلعة بصمت.. فسألته جمان بقلق "إلى أين سنذهب الآن؟"
أجاب سلمة "سنحاول تتبع قافلة عبدالله بن جعفر.. ماداموا قد أفلحوا بالهرب فوجودك معهم سيكون أكثر أمناً"
همست جمان وهي تخفض وجهها "لماذا لم يأتِ عامر للبحث عني قبل رحيله؟.."
جز سلمة على أسنانه محاولاً كبت غيظه دون أن يجيب تساؤلاتها بما يهدئ قلقها.. ولكز الحصان ليبدأ ركضه مغادراً القلعة بكل الدمار الذي حلّ في أنحائها.. مع تصرفه الأخير، يثبت عامر أنه ليس أهلاً بجمان حقاً.. كيف يتركها دون أن يكلف نفسه مشقة السؤال عنها وهو مدرك ولاشك غياب ربيعة؟.. استنكار سلمة يزداد كلما فكر بالأمر، وبغضه لعامر يتضاعف أكثر من السابق..
***********************
~ بعيدا عن الخيال (٥) ~
فظائع التتار في المدن
وصل جنكيزخان إلى مدينة “سمرقند” وحاصرها من كل الاتجاهات.. وكان من المفروض أن يخرج له الجيش الخوارزمي النظامي، ولكن دب الرعب في قلوبهم، وتعلقوا بالحياة تعلقاً مخزياً، فأبوا أن يخرجوا للدفاع عن المدينة المسلمة!!.. فاجتمع أهل البلد وتباحثوا في أمرهم بعد أن فشلوا في إقناع الجيش المتخاذل أن يخرج للدفاع عنهم.. وقرر البعض من الذين في قلوبهم حمية من عامة الناس أن يخرجوا لحرب التتار.. وبالفعل خرج سبعون ألفاً من شجعان البلد.. خرجوا جميعاً على أرجلهم دون خيول ولا دواب.. ولم يكن لهم من الدراية العسكرية حظ يمكنهم من القتال.. ولكنهم فعلوا ما كان يجب أن يفعله الجيش المتهاون.. وعندما رأى التتار أهل “سمرقند” يخرجون لهم قرروا القيام بخدعة خطيرة، وهي الانسحاب المتدرج من حول أسوار المدينة، في محاولة لسحب المجاهدين المسلمين بعيداً عن مدينتهم.. وهكذا بدأ التتار يتراجعون بعيداً عن “سمرقند” وقد نصبوا الكمائن خلفهم.. ونجحت خطة التتار، وبدأ المسلمون المفتقدون لحكمة القتال يطمعون فيهم ويتقدمون خلفهم.. حتى إذا ابتعد رجال المسلمين عن المدينة بصورة كبيرة أحاط جيش التتار بالمسلمين تماماً.. وبدأت عملية تصفية بشعة للجيش المسلم.. فقد المسلمون في “سمرقند” سبعين ألفا من رجالهم دفعة واحدة..
وعاد التتار من جديد لحصار “سمرقند”.. وأخذ الجيش الخوارزمي النظامي قراراً مهيناً!!.. لقد قرروا أن يطلبوا الأمان من التتار على أن يفتحوا أبواب البلدة لهم.. وقال لهم عامة الناس: إن تاريخ التتار معهم واضح.. ولكنهم أصروا على التسليم.. فهم لا يتخيلون مواجهة مع التتار، وبالطبع وافق التتار على إعطاء الأمان الوهمي للمدينة، وفتح الجيش أبواب المدينة بالفعل، ولم يقدر عليهم عامة الناس.. وفتح الجنود الأبواب للتتار وخرجوا لهم مستسلمين، فقال لهم التتار: ادفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم، ونحن نسيّركم إلى مأمنكم.. ففعلوا ذلك في خنوع.. ولما أخذ التتار أسلحتهم ودوابهم فعلوا ما كان متوقعاً منهم.. لقد وضعوا السيف في الجنود الخوارزمية فقتلوهم عن آخرهم!!..
ثم دخل التتار مدينة “سمرقند” العريقة، ففعلوا بها مثلما فعلوا سابقاً في “بخارى”.. فقتلوا أعدادا لا تحصى من الرجال والنساء والأطفال، ونهبوا كل ثروات البلد، وانتهكوا حرمات النساء، وعذبوا الناس بأنواع العذاب البشعة بحثاً عن أموالهم، وسبوا أعداداً هائلة من النساء والأطفال، ومن لم يصلح للسبي لكبر سنه، أو لضعف جسده قتلوه، وأحرقوا الجامع الكبير، وتركوا المدينة خراباً!!..
((قصة التتار)) الدكتور راغب السرجاني
***********************
|