كاتب الموضوع :
عالم خيال
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: رحلة ضياع
~ الفصل الحادي عشر ~
في أحد أسواق بغداد الشعبية المزدانة بمختلف أصناف البضائع ومختلف أنواع البشر ومزيج غريب من الأصوات والألسنة، سار سلمة مع جمان التي أصرّت على مرافقته في بحثه وسؤاله عن أبيها في هذا اليوم أيضاً.. لقد أمضيا عدة أيام يبحثان في أحياء المدينة الكبيرة وأسواقها المختلفة دون حظ يذكر.. لكنهما لم ييأسا وسلمة يسأل من يمرّ بهما عن أي قادمين لبغداد هرباً من التتار أو من قطاع الطرق، لكنه في كل مرة لا يجد جواباً شافياً..
كانت جمان تسير قربه بقلق واضح إنما بصمت تام وهي تتجنب النظر إليه ما استطاعت.. نظر لها سلمة بطرف عينه قبل أن يدير بصره فيما حولهما وهو يكبت قلقه.. فبعد أن صارحها بمشاعره بشكل واضح، ورغم الانفعال الذي بدا على ملامحها والاحمرار الذي غزا خديها، إلا أنها التزمت الصمت وهي تبعد بصرها عنه.. كان سلمة مستعداً لأي رد فعل إلا الصمت.. هذا الصمت التام الذي يثير حيرته وتوجسه.. لا يدري سبب ذلك، لكنها لا تكاد تبادله الحديث الآن.. أهي تبغضه؟.. ربما هي كذلك لكنها تخشى من صدّه بشكل ظاهر لئلا يتركها وحيدة وهو أكثر من تعتمد عليه.. لكنها لابد أن تفصح عن بغضها له بعد أن تعثر على أبيها.. تنهد سلمة وهو يغمغم لنفسه بأسى "لابد أنها كذلك.. رباه، ما الذي جنيته على نفسي؟.. أما أمكنني مسك لساني عن التفوه بما قلته؟"
سمع في تلك اللحظة صوتاً يهتف من خلفه "سلمة.. أهذا أنت؟"
التفت سلمة بدهشة خلفه ليرى شاباً يكبره بقليل، على شيء من السمرة والطول، ورغم التعب والإرهاق البادي على وجهه فقد تعرفه سلمة بسرعة وهو يقول بدهشة "جُنَيْد؟"
وأسرع إليه يعانقه بسرور وهو يقول "ظننتك قد قضيت نحبك مع من في القافلة.. ما الذي جاء بك إلى هنا؟"
ونظر إلى جمان التي وقفت قريباً بقلق، ثم تساءل من جديد "وأين مولاي؟ ألم تكن معه؟"
نظر لهما جنيد بدوره متسائلاً بقلق "بل ما الذي جاء بك هنا؟ ولم مولاتي معك أيضاً؟"
فقالت جمان بإلحاح "تحدث يا جنيد.. أين أبي؟ أهو هنا في بغداد؟"
قال جنيد "طبعاً هو هنا في بغداد.. لقد تركته في الدار وأتيت لشراء ما نحتاجه، ولم أتصور أنني قد أقابلكما هنا.."
تنهد سلمة بارتياح وهو يغمغم "حمداً لله.. لقد قيل لنا إن القافلة قد أبيدت عن بكرة أبيها.."
نظر لجمان فوجد دموعها تسيل على خديها وهي تقول لجنيد بصوت مرتجف "أهو هنا حقاً؟.. أين هو؟ خذني إليه"
أسرع جنيد أمامهما وهما يتبعانه.. ورغم سعادة سلمة بالعثور على ربيعة، إلا أن القلق قد عاد إليه وهو يخشى من ردة فعله عندما يعلم بما جرى للقصر.. ترى، ما الذي سيقوله عن كل ما جرى لهما؟..
***********************
نظر سلمة عبر باب غرفة تلك الدار البسيطة لجمان التي بكت بحرقة على صدر أبيها وربيعة يربّت على رأسها ويحاول تهدئتها.. كان ربيعة قد استأجر داراً في بغداد بما بقي معه من مال قليل، وقضى الأيام الماضية فيه مع عبده جنيد الذي اعتنى به وجلب له من يحتاجهم من أطباء ومعالجين لعلاج الجراح التي خلفتها له مواجهتهما مع قطاع الطرق..
التفت سلمة إلى جنيد الذي كان يقف خلفه قائلاً "من كان يصدق أن نلتقي بكم مجدداً في بغداد؟.. لقد بدأت أفقد الأمل في العثور عليكم بعد كل ما مررنا به.."
قال جنيد "لقد نجوت مع مولاي بالكاد من ذلك الهجوم على القافلة.. لكنه كان جريحاً، فلم أقدر على العودة به إلى القصر مع جراحه تلك.. لذلك لم أجد مناصاً من القدوم به إلى بغداد ليعالج بواسطة أفضل أطبائها..”
وأضاف هازاً رأسه "لقد قضى مولاي أياماً عصيبة في بغداد بانتظار أن يسترد عافيته.. كان يودّ العودة للقصر منذ اللحظة الأولى، وقلقه على مولاتي شديد.. لكن جراحه منعته من ذلك، ولم أتمكن من تركه والعودة للقصر بدوري لأنني الوحيد الذي نجا من بقية القافلة.."
نظر سلمة للدار البسيطة ذات الأثاث الخالي من أي زينة، ثم تنهد قائلاً "شتان بين ذاك القصر وهذه الدار.. لكن للأسف عودتنا للقصر الآن مستحيلة.. خطر التتار لم يَزُل بعد.. القلعة أيضاً قد غدت خراباً ولا أمان فيها.."
غمغم جنيد "ربما كان على مولاي أن يفكر في الاستقرار في بغداد.. هذه المدينة أكثر أمناً والعيش فيها ليس سيئاً.."
علق سلمة وهو يسمع صوت بكاء جمان بوضوح "هو أكثر أمناً لها بالتأكيد.."
بعد أن تمالكت جمان انفعالاتها، وجلست قرب أبيها على سريره وهي تمسك يده بيدها ودموعها معلقة بأهدابها، قال ربيعة وهو يضغط على يدها "أخبريني يا ابنتي.. ما الذي جرى لكم منذ غادرتُ القصر؟ تبدين في أسوأ حال ممكنة"
خفضت جمان رأسها وهي تهمس "عصيّ عليّ أن أتحدث عن هذا الأمر يا أبتاه.. اسأل سلمة عن هذا فهو سيخبرك به أفضل مني.."
تنهد ربيعة وهو يقول "لابد أنك قاسيتِ الكثير يا ابنتي.. ما كان علي مغادرة القصر في مثل تلك الأوقات.."
قالت جمان "لا تـَلـُم نفسك على هذا.. ما جرى قد جرى وهذا قد كـُتِب علينا.."
نظر لها ربيعة متعجباً من أمرها، فلم يرها من قبل تتحدث بعقل بل كانت تستسلم لأهوائها وعواطفها أينما قادتها.. التفت ربيعة نحو الباب المشرع ونادى سلمة الذي جلس مع جنيد في صحن الدار.. عندها أسرعت جمان تجفف دموعها بشكل تلقائي وقد كرهت أن يراها سلمة الذي دخل الغرفة بصمت.. فابتدره ربيعة قائلاً "سعيد أنا برؤيتك يا سلمة وبعودة جمان لي.. يبدو أنكما قد واجهتما أهوالاً في الطريق إلى بغداد.. لكن أين البقية؟ ولِمَ غادرتما القصر وحيدين؟.."
بقي سلمة واقفاً تأدباً أمام ربيعة، وبدأ إخباره بكل ما جرى منذ سمع بأخبار التتر من تلك القافلة وحتى وصولهما بغداد ولقائهما به.. ومع كل حادثة يسردها سلمة كان ربيعة ينظر له مصدوماً، بينما خفضت جمان وجهها وهي كارهة لاستعادة تلك الذكريات البغيضة التي تجعل صدرها يضيق بشدة..
ولما فرغ سلمة من حديثه، التفت ربيعة لجمان التي نظرت له بصمت.. فقال بتأثر وهو يضمها لصدره من جديد "حمداً لله على عودتك لي يا ابنتي.. كيف جرى كل هذا في تلك الأيام القليلة؟.. الآن أشعر بندم أكبر لرحيلي وتركك وحيدة"
صمتت جمان وهي تحاول ألا تعاود البكاء من جديد.. بينما قال ربيعة لسلمة الذي وقف بصمت "شكراً لك يا سلمة لكل ما فعلته ولوفائك لي.. عندما ضممتك لقصري منذ سنين طوال تأملتُ فيك خيراً، ولم يَخِبْ ظني بك.. أنت خير من بقية أولئك العبيد كلهم، ولا أظنني سأجد خيراً منك أبداً.."
شعرت جمان بشيء من التوتر لمغزى قول أبيها، فلم تملك نفسها واندفعت تقول "أبي.. سلمة ما عاد عبداً.. لقد أعتقـتـُه.."
نظر لها ربيعة بدهشة بينما صمت سلمة تماماً، فقال ربيعة بتعجب "لكنك لا تملكين الحق بذلك.. أنا مالكه، وأنا من يعتقه.."
فقالت جمان بتوتر "لكنه أنقذ حياتي عدة مرات.. وهو قد استحق ذلك.."
قال ربيعة "مهما يكن.. أنا لم أمنحه حريته بعد، وأنا صاحب الحق الوحيد بفعل ذلك.. أليس كذلك يا سلمة؟"
نظرت جمان بتوتر نحو سلمة لتجده يخفض بصره وهو يقول بهدوء "أنا عبدك وسأظل كذلك يا مولاي.."
اتسعت عينا جمان بصدمة لم تملكها، بينما ابتسم ربيعة قائلاً "كنت أثق أنك لن تخذلني أبداً، وأنا لا يمكنني التخلي عنك بتاتاً.. أسعدني ما صنعته لجمان وحفاظك على حياتها.. عندما أستعيد مكانتي وأموالي التي فقدتها، فسأجزل لك العطاء وأرفع مكانتك بين رجالي.. فأنت تستحق ذلك.."
نهضت جمان وهي تقول بغضب "لِمَ أنت قاسٍ بهذه الصورة؟ أظننته سعيد بكونه عبداً عندك؟.. ألا يمكنك أن تطلقه وتعيد له حريته نظير كل ما قدمه لي ولك؟.. ألا تستطيع الاستعاضة عنه بأي عبد آخر؟.."
التفت ربيعة إليها قائلاً بهدوء "لا تتدخلي في أموري يا جمان.. بعد موتي، وبعد أن يصبح سلمة عبداً لكِ، يمكنكِ إعتاقه أو فعل ما تشائين به.."
نظرت جمان لسلمة لتجده خالي الانفعال كما عهدته سابقاً وإن تجنـّب النظر إليها مباشرة، فخفضت جمان بصرها باضطراب ومرارة.. ثم اندفعت خارجة من الغرفة ومن الدار كلها والدموع تحتشد في عينيها.. من القسوة معاملة سلمة كشيء يتم نقله من شخص لآخر.. رغم أنها نشأت في عالم يعرف العبيد والجواري كشيء مسلـّم به، لكن سلمة شأن آخر.. بعد كل ما فعله، أيمكنها التعامل معه كعبد كما في السابق؟.. أيمكنها أن تتناسى فضائله عليها منذ تلك الليلة التي كادت تـُـقتل فيها أو بأحسن الأحوال تـُسْبى وتستعبد كجارية بدورها؟.. كيف يمكن لأبيها أن يجازي سلمة على حياته التي كاد يفقدها عدة مرات وهو ينقذها من كل الأخطار التي مرت بها بأن يعيده للعبودية بكل بساطة؟..
في تلك الأثناء، بقي سلمة صامتاً بين يدي مولاه الذي قال بابتسامة "حقاً لم أخطئ في الثقة بك يا سلمة.. فلم تدّخر وسعاً في إنقاذ جمان رغم أن أي عبدٍ آخر قد يفرّ بجلده تاركاً مولاته لمصيرها في مثل تلك الأحوال.."
غمغم سلمة "لكني لم أكن لأفعل ذلك البتة يا مولاي.."
فقال ربيعة بابتسامة متسعة "لا تقلق.. لن تندم على ذلك.. بعد عودتنا واستعادة كل ما فقدته سأرفعك مكانة عالية، وأمنحك داراً خاصة بك قرب قصري الجديد.. وسأقوم بتزويجك من أي جارية تشاء.. فلتعلم أن من يسدي إليّ معروفاً لا يندم أبداً.."
شعر سلمة بألم في صدره لكلمات ربيعة التي كانت كخناجر تضربه بقوة، وكأنه يخبره صراحة أن عبداً مثله لا يستحق مجرد التفكير في ابنة مولاه.. لكنه أحنى رأسه متجاوزاً غصته ولم يعترض وهو يقول "سأظل ممتناً لك مدى الحياة يا مولاي.."
***********************
بقيت جمان جالسة فوق منحدر صغير يطل على ذلك الحي من أحياء بغداد تراقب الصبية في لهوهم وسكان الحيّ في غدوهم ورواحهم منشغلين بمختلف الأعمال.. تنهدت وهي تراقبهم بصمت.. شتان بين هذه الحياة وما رأته في المدن التي ابتلاها الله بمحنة التتار.. حياة كهذه تبدو وادعة آمنة بشكل بدا لها قاسياً..
تنهدت من جديد وهي تشعر بمرارة.. رغم ما رأياه في طريقهما إلى هنا، ورغم ما واجهه أبوها، لا يزال يتصرف بأنانية ويستبقي سلمة كعبد رغم فضائله عليها، وعلى أبيها الذي بالتأكيد لن يسرّ لو أصابها مكروه.. كيف يمكنه ذلك؟ كان يجب أن يكافئ سلمة على كل ما فعله، لا أن يعيده لظلم العبودية التي لم يكن له يد فيها..
انتبهت من أفكارها عندما رأت سلمة يقترب ليقف قريباً يراقب المنظر الذي تتطلع إليه بصمت.. أدارت جمان وجهها جانباً بغصة ووجهها يحمرّ بشدة، خجلاً منه لأنها أعطته أملاً لم يَدُمْ طويلاً.. في تلك اللحظة كان سلمة آخر من تتمنى رؤيته.. كيف لها أن تواجهه رغم إدراكها التام بما يشعر به من ضيق من تلك العبودية التي لا يجد منها فكاكاً؟..
سمعته يقول في تلك اللحظة "هل أطلب منك نسيان كل ما قلته لك قبل لقائنا بمولاي؟"
نظرت له بشيء من عدم الفهم، ثم تذكرت مشاعره التي صرح لها بها في ذلك الوقت.. فغلبتها رجفة في شفتيها وهي تهمس "ماذا تعني؟"
واجه سلمة عيناها للمرة الأولى منذ اجتمعا بأبيها، وقال بهدوء "ليس من مقامي قول شيء مما قلته لك يا مولاتي.. ولا أتمنى الإساءة لك بـــ........"
صاحت جمان "لا تنادني مولاتي..."
صمت دون أن يعلق وهي تنهض واقفة وتقول بانفعال "أنا لست مولاتك.. وأنت لست عبداً، حتى لو أصرّ أبي على ذلك.. لا تعاملني بهذه الطريقة بتاتاً وإلا لن أسامحك أبداً"
أشاح سلمة بوجهه محاولاً تجاوز غصة في حلقه، بينما قالت جمان بصوت مرتجف "تلك المشاعر لا يمكن وأدها بسهولة لمجرد أنك ترى نفسك لست أهلاً لي.. فكيف تطلب مني نسيانها؟"
غمغم سلمة "يسوؤني أن أشعر أنني تعدّيت حدودي معك.. ربما ما كان يجب أن أقول ما قلته سابقاً.."
همست جمان "لكنني كنت أشد سعادة بها مما قد تتصور.."
لم يلتفت سلمة نحوها وهي تضيف مغالبة الحرج الذي تشعر به "لطالما كانت لك مكانة عندي ربما كنتَ جاهلاً لها.. لكن قربك الشديد مني منعني من رؤيتك حقاً وإدراك قيمتك الحقيقية، ولم يكن ذلك لأنك كنت عبداً فلم يكن لذلك من أهمية عندي.. لكن، بعد ما رأيته من شجاعتك وصفاتك التي لم يملك الآخرون ربعها، ربما كنتُ في قرارة نفسي أتمنى أن أحظى بإعجابك وحبك.. وبعد أن سمعت تلك الكلمات منك بوضوح، غلبني خجل شديد منعني من أن أظهر لك قبولي لمشاعرك تلك.."
رأته يخفض وجهه بانفعال لم تخطئه وهي التي تعرف لمحاته كلها.. فتقدمت خطوة منه وهي تهمس "ألم تدرك قدر سعادتي بكل كلمة نطقتها في ذلك اليوم؟.."
فوجئت به يقول بصوت هادئ ظاهرياً "لكني أطلب منك حقاً نسيان كل شيء.. فهذا الحديث لم يعد له أي معنىً يا مولاتي.."
ضغط على الكلمة الأخيرة رغم تحذيرها السابق وكأنه يؤكد على معناها، ثم استدار مغادراً تاركاً جمان تقف بصدمة وألم شديدين.. ولما غاب عن بصرها دون أن يلتفت إليها لمرة واحدة، أخفت جمان وجهها بيديها وهي تهمس بألم "لِمَ تلومني على أمر لا أملك منه شيئاً؟.."
***********************
أمضت جمان مع أبيها عدة أيام في بغداد الهادئة هدوءاً أشعر جمان بغرابة.. فمع كل الأحداث التي جرت في مناطق متفرقة من البلاد، مازالت بغداد هادئة وكأن الأمر لا يعنيها.. ومع كل القتلى الذين شربت الأرض من دمائهم، مازال أهل بغداد يضحكون ويتشاجرون في الأسواق ويقيمون حفلات لهوهم وأنسهم..
ظلـّت جمان تراقب ما يجري في الحيّ حولها وغصة في حلقها تؤلمها كلما سمعت عن أحد مواكب الخليفة التي يبالغ في زينتها وفي بذل المال لتجهيزها.. تشعر بالأسى على من مات ولم يذكره أحد أو يحزن لقتله.. ألهذه الدرجة لم يعد أحد يبالي؟..
وقفت في يوم قرب النافذة وهي ترى في دار قريبة استعدادات أصحابه لزفّ ابنة لهم لزوجها.. كان السرور واضحاً على الوجوه وبعض جيرانهم قد أتوا للمشاركة ببهجة لا يمكن إغفالها.. تنهدت جمان وهي عاجزة عن فهم ذلك.. أولئك الذين قتلوا دماؤهم لا ثمن لها؟..
رأت في تلك اللحظة سلمة عائداً من مهمة أرسله فيها أبوها، وهو يمشي خافض الرأس كعادته بتقطيبة ظاهرة.. عادت المرارة لجمان وهي تراقب سلمة بحزن.. لقد امتنع عن الحديث معها منذ ذلك اليوم، ولا يخاطبها إلا بمولاتي في كل مرة.. رغم إنكاره، إلا أنها تشعر به يلومها على ما جرى، ولأنها منحته أملاً بحرية لم يستطع الحصول عليها حقاً..
انتبهت لخطوات خلفها، فاستدارت لترى ربيعة قادماً من إحدى الغرف حتى وقف قريباً منها ينظر من النافذة بدوره.. ولما رأى ما يصنعه جيرانه، غمغم "وددتُ لو كنتِ في موقع تلك الفتاة.. لكن ربما لم يَفـُت الأوان بعد.."
نظرت له جمان متسائلة، فقال بابتسامة "فور أن تعود الأمور لسيرتها السابقة، سنكمل إجراءات زفافك من عامر.. لقد تأخر الأمر كثيراً"
نظرت له جمان بشيء من الصدمة وعدم الفهم، ثم قالت بانزعاج "عامر مرة أخرى؟ أمازلت راغباً بمصاهرته بعد كل ما فعل؟"
قال ربيعة محاولاً تهوين الأمر "كل إنسان يتفوه بما قد لا يقدّر عواقبه في أوقات الضيق.. أنا متأكد أن عامر لم يقصد أي........"
قاطعته جمان صائحة "لقد طردني بشكل صريح.. أعلنَ عن ندمه لقبول الزواج بي ووصفني بأنني شؤم عليه.. أي شيء تريد أكثر من ذلك لتعرف أنه شخص خسيس؟"
قال ربيعة بصرامة "لا يقنعني ذلك.. ألا ترين أنه استطاع حماية أهله وأموال أبيه بخروجه قبل وصول التتار؟ ذلك تصرف حكيم يجعلني مطمئن لوجودك عنده.."
صاحت جمان بغضب "ذاك الجبان قد هرب بأمواله ولم يعبأ بما يجري لمن خلفه.. لم يعبأ حتى بما قد يجري لي.."
لم يبدُ أن ربيعة استمع لكلمة مما تقوله وهو يقول بشكل قاطع "لن أجد أفضل من عامر زوجاً لك بتاتاً.."
استدارت جمان لتغادر وقد غلبها انفعالها وغضبها.. فرأت على الفور سلمة الذي كان قد دخل الدار دون أن تنتبه ووقف قريباً من الباب بصمت بانتظار انتهاء حديثهما.. كانت ملامحه هادئة كالعادة لا تُبدي أي انفعال، رغم أنها متأكدة أنه سمع كل ما قيل.. فقالت جمان بصوت مرتجف "ألا تملك ما تقوله في هذا الأمر يا سلمة؟"
رأته يقطب بشيء من الضيق لأنها تجرّه بهذا السؤال لحوار لا دخل له فيه، بينما قال ربيعة بشيء من الحدة "أجننت يا جمان؟.. وما شأن سلمة؟!.. لا تحاولي التنصل من هذا الزواج الآن"
استدارت جمان نحو أبيها وقالت بغضب "عامر لا يستحق أن أفكر به بتاتاً.. وسلمة أفضل منه ومن كل رجاله.. لِمَ تفكيرك ملتوٍ هكذا؟.. أنت لا تكاد ترى ما هو واضح كالشمس.."
وغادرت صحن الدار بغضب بينما بقي سلمة في موقعه صامتاً.. فسأله ربيعة "ما الذي جرى بينكما مع عامر يا سلمة؟ أتمنى ألا تكون قد تهورتَ بقولٍ أو فعلٍ يفسد علاقتنا معه"
قال سلمة بعد لحظة صمت وتردد "سامحني يا مولاي.. لم أملك نفسي فضربته عندما وجدته يتطاول على مولاتي بحديثه.. ولم أظن......"
صاح ربيعة بحنق "ماذا فعلت؟ كيف يمكنك أن تقوم بشيء كهذا نحو شخص بمكانته؟.. كان يجب أن تقدّر وضعك جيداً ولا تتطاول على من هو أعلى منك مكانة.. لقد أفسدت كل شيء"
بدا الضيق على وجه سلمة، بينما أضاف ربيعة بأمر "عندما نلتقي بعامر من جديد، أريدك أن تنحني بين يديه وتعتذر عما كان منك.. حاذر أن تسيء له مهما قال لك أو فعل بك.."
خفض سلمة وجهه وهو يقول بصوت خافت "أمرك يا مولاي"
زفر ربيعة وسأله عن المهمة التي أرسله فيها، ولما أبلغه سلمة بما أنجزه صرفه ربيعة بضيق ظاهر.. فخرج سلمة وقد استبدّ به ضيق شديد بدا في ملامحه بوضوح.. فلم يتوقف حتى خرج من الدار ومن الحي كله إلى أن قادته قدماه لجانب بعيد من المدينة.. فجلس في موقع قصيّ عن الآخرين وهو يعبس بضيق هامساً لنفسه "عامر مرة أخرى؟.. ليتني ضربته بشدة ذلك اليوم وشفيت غليلي منه.. لا أدري ما الذي يجعل مولاي ملهوفاً على مصاهرته وإعادة جمان إليه رغم ما أبداه من وقاحة.. تباً له من وضيع.."
وتخلل شعره بيده وهو يضيف بحنق مرير "ما الذي فعله عامر لها أكثر مما فعلته أنا؟ لقد تخليتُ عن الجميع لأجلها.. قتلتُ لأجلها.. عذبتُ رجلاً لأجلها.. مرغت كرامتي بالتراب ورضيت بالعودة للعبودية لأجلها.. فكيف يغدو ذاك الوضيع خيراً مني؟.."
تذكر ما قاله إمام قبل وقت بدا له طويلاً..
"هذه هي المكانة التي لا يستحقها العبد مهما كان كفؤا.."
فابتسم سلمة بمرارة وسخرية مغمغماً "أجل.. العبد سيظل عبداً.. ومولاته ستظل مولاته حتى يُوارَى جسده في التراب...... بئساً لي.. كيف تعلقتُ بأملٍ واهٍ زادتني خسارته ألماً وشفقة على نفسي؟.."
تنهد سلمة وفكرة تطرح نفسها في نفسه بقوة.. لو قام بجمع ما يكفي من المال، هل سيرضى مولاه بأن يشتري نفسه منه؟.. هل سيمنحه حريته حقاً؟.. يودّ لو يتحقق له ذلك، عندها سيخرج من حياة جمان ويُخرجها من حياته ما بقي له من العمر.. سينساها، حتى لو أبَى قلبه ذلك.. أليس ذلك أفضل من البقاء قريباً والاحتراق بنار المهانة لوضاعته مقارنة بها؟ أليس ذلك أفضل من رؤيتها تزف لحقير مثل عامر وابتلاع غيرته وغصّته بصمت؟..
بعد أن ازدادت المرارة في صدره، همس بألم مغمضاً عينيه "تباً لك يا أبي.. لِمَ رميتني في هذه النار لأجل حفنة من المال؟.."
***********************
عندما استدعى ربيعة سلمة في اليوم التالي، أسرع بالمثول بين يديه في غرفته التي لا يغادرها إلا قليلاً بسبب جراحه التي لم تبرأ بعد.. ولاحظ عند مروره بصحن الدار أن جمان لا أثر لها في أي موقع، لكنه لم يعلق وهو يقف أمام ربيعة الذي قال "سلمة، أريد أن أرسلك إلى الكوفة والحِلـّة والبصرة خلال الأيام القادمة.. لقد فقدت أغلب أموالي فيما سرقه قطاع الطرق من القافلة ومع دمار القصر بما فيه.. ولم يبقَ لي إلا ما يدين به التجار في بعض المدن.. وبحصولي على هذه الأموال يمكنني أن أبدأ التجارة من جديد وأستعيد بعض ما فقدته.."
قال سلمة "لقد بعت الحصان الذي أتيتُ به إلى بغداد للحصول على ما يكفينا من المال.."
فقال ربيعة على الفور "لا بأس.. سأعطيك ما تشتري به حصاناً جديداً.. فأحْسِن اختياره.. لا تتأخر كثيراً في العودة إليّ، لكن لا تعد إلا بعد أن تحصل على أموالي كلها.."
وأخبره بأسماء التجار في تلك المدن والذي عليه أن يلتمس الأموال عندهم.. ولم يكد يفرغ حتى سمعا الباب يفتح بقوة وخطوات تسرع إليهما مع صوت جنيد الذي قال بهلع "مولاي.. لديّ أخبار سيئة.."
نظرا له بقلق ملاحظين الذعر الذي بدا على وجهه بوضوح، فقال جنيد وهو يشير خلفه "هناك حديث يتناقله سكان بغداد بمختلف طوائفهم.. يبدو أن التتار قد أعدّوا جيوشاً لا حصر لها، وهم على مسافة عدة أيام من بغداد.."
نظر له الإثنان بصدمة وجنيد يقول بذعر "يبدو أن التتار عازمون على الإطاحة ببغداد وبالخليفة.."
توتر سلمة مع تلك الأخبار التي لم يتوقعها، بينما قطب ربيعة قائلاً "لا داعي لهذا الذعر.. بغداد أكثر المدن حصانة في البلاد.. والخليفة لن يسمح لأولئك الهمج بفعل ما يشاؤون بعاصمة الخلافة"
قال جنيد بتوتر "ولكن.. يقال إنه جيش عظيم لم يُرَ مثله من قبل.."
ابتسم ربيعة قائلاً "فليفعلوا ما يشاؤون.. إن كانوا يظنون أن اقتحام قلعة سنداد تساوي اقتحام بغداد فهم واهمون.. جيوش الخليفة قادرة على صدّهم بسهولة.. فلا تخشوا شيئاً"
لم يقتنع سلمة بهذا مع ما يعرفه المسلمون من ضعف الخليفة والجيش الذي يتبعه.. لكنه في قرارة نفسه كان يريد تصديق ذلك.. يريد حقاً أن يشعر أنهم بأمان مهما اجتمعت جيوش التتر حولهم..
نظر سلمة لربيعة قائلاً "وماذا عن الكوفة يا مولاي؟ إن خرجت الآن فلا آمن من أن يتعرض لي التتار ويستولوا على ما معي.."
تنهد ربيعة مجيباً "لا مفرّ من تأجيل الأمر إذاً.. لا بأس، لدي من الأموال لدى تجار بغداد ما يكفينا في الفترة الحالية.."
وصرفهما في الوقت الحالي، فغادر سلمة بصحبة جنيد الذي قال بتوتر وقلق كبيرين "هذه الأخبار تزعجني حقاً.. ما الذي يدفع التتار لحشد مثل هذا الجيش إن لم يكونوا واثقين من النصر؟.."
لم يعلق سلمة وهو يدير بصره في الدار بقلق.. مع هذه الأخبار، عاد إليه قلقه مما قد يجري وخوفه على جمان.. وشعر برغبة ملحّة في رؤيتها والاطمئنان عليها.. لكنه منذ التقائهما بربيعة الذي أصرّ على إبقائه في عبوديته البغيضة، شعر سلمة بهوانٍ وذلة جعلته غير قادر على مواجهة عينيها.. وكأنه يخشى أن يرى في عينيها مدى وضاعة مركزه وهوانه عندها.. لذلك حاول تجنبها قدر ما يستطيع..
سمع جنيد يقول بعد خروجهما من الدار "سأذهب وأستطلع ما يجري في المدينة وما يدور بها من أخبار.."
فقال سلمة وهو يتبعه "أنا آت معك.."
عليه أن يطمئن بنفسه، ولا يستسلم لكلمات مولاه الواثقة.. فما عاد يثق بأي شيء في هذا الزمان.. ولا حتى بأسوار بغداد المنيعة..
***********************
سار سلمة يتبع جنيد عبر طرقات الحيّ نحو أحد أسواقها.. فلاحظ سلمة على الفور أن الأخبار بدأت تنتشر بين العامة وبدأ الهلع يستولي على النفوس، وكان هذا واضحاً لتجمع الكثيرين منهم خارج بيوتهم وفي جوانب السوق والجدال بينهم يحتد بشدة بين مستنكر لتجرؤ التتار على التقدم نحو بغداد وبين مذعور من ضعف الخليفة والجيش الذي يتبعه من الدفاع عن المدينة..
رأيا جماعة من كبار تجار السوق، كما بدا من ملابسهم الفخمة، يجتمعون جانباً وأصواتهم تعلو بجدال واضح.. فاقترب منهم جنيد وسلمة ليسمعا أحد الرجال يقول بحدة "كيف لهذا الجيش الضعيف أن يصدّ جيشاً من التتر يربو على مائتي ألف؟.. بغداد ستسقط في أيديهم حتماً طال الوقت أم قصر.."
بدا الرعب واضحاً في الوجوه بينما قال رجل أكبر عمراً "لا داعي لمثل هذا الفأل السيئ.. الله سبحانه وتعالى سيحفظ بغداد وشعبها المسلم من أولئك الكفرة.. هذا شيء لا جدال فيه.."
قال الأول "أنت تتعلق بأمل زائف.. لقد قال الله سبحانه وتعالى {وأعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ومِنْ ربَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكُمْ}.. فما الذي أعده الخليفة لقتال التتار؟.. لقد اكتفى بالتهديد والوعيد ظاناً أن هولاكو سيرتجف ذعراً من بضع كلمات.."
اقترب جنيد من أحد الرجال قائلاً "من هو ذاك المدعو هولاكو؟ وما الذي جرى بينه وبين الخليفة؟"
قال الرجل بحنق "هولاكو هو نائب خان التتار على فارس التي احتلها التتار بعد هزيمة جلال الدين منكبرتي، وهو قائد جيوش التتر التي تسعى نحو بغداد.. لقد رفض الخليفة الانصياع لهولاكو، لذلك سيّر ذاك الكافر الجيوش للإطاحة ببغداد.. كيف يجرؤ على الظن أن خليفة المسلمين سينصاع لمثل أولئك الهمج؟"
سأله جنيد بقلق "ماذا تعني؟ ما الذي طلبه أولئك التتار من الخليفة؟"
أجاب الرجل بسخرية "إنه يلومه لأنه لم يمد له يد العون في القضاء على الحشاشين.. وطلب منه المثول بين يديه بعد أن يهدم حصون بغداد ويردم خنادقها.. أو يرسل له الدفتردار الصغير وسليمان شاه.. حقاً ذاك الرجل مجنون.."
تساءل سلمة "ومن هما هذان اللذان طلبهما هولاكو؟"
قال الرجل باستنكار "ألا تعرفهما؟.. إنهما من أهم وزراء وكبار الأمراء التابعين للخليفة.. وهما يحرضان الخليفة على الإعداد لقتال التتار، لذلك طلبهم هولاكو فيبدو أن دعواتهما قد أثارت غضبه.. لكن يبدو أن هوى الخليفة مع وزيره مؤيد الدين العلقمي.."
انبرى آخر يقول "لكن مؤيد الدين يحرض الخليفة على المفاوضة مع التتار.. كيف يمكن لخليفة مسلم أن ينصاع لأولئك الكفرة؟! وأعمالهم في خراسان وفارس تشهد بخسّتهم ونقضهم للعهود.. ما الذي سيحل ببغداد عندما يستسلم الخليفة لهم وهم أشدّ كرهاً للإسلام من غيرهم؟"
احتدم الجدال بين الرجال وسلمة يستمع لهم وهواجسه تزداد.. أحقاً بغداد آمنة كما كان يظن؟ ما هذا الحظ الذي جعلهم يلجؤون لبغداد قبل أيام قليلة من اقتراب جيش التتار منها؟.. لو كان يعلم بما سيجري، لوجّه حصانه تجاه البصرة أو الموصل ليتجنب أذى التتار.. لكن من كان يعلم؟..
رأى الرجال في تلك اللحظة رجلين يركضان نحوهما قبل أن يقاطع أحدهما الجدال قائلاً "لديّ خبر لكم يا رجال.. الدفتردار الصغير يعدّ العدة لملاقاة جيش التتار بمباركة الخليفة.. إنه يجمع الجيوش والعدة الملائمة للحرب وسيسير بهم خلال أيام قليلة.."
علت الراحة بعض الوجوه وأحدهم يقول "الحمدلله.. إذن ستنجلي الغمة قريباً.. فلن يصمد أولئك الكفار أمام مجاهدينا الموحدين.."
قال آخر "الله ناصرهم بإذنه تعالى.."
غمغم رجل آخر بضيق "أتظنون ذلك؟ ألا تعلمون أن التتار لا يهزمون أبداً؟.. لم يستطع جلال الدين منكبرتي من التغلب عليهم بجيوشه كلها، وهو الذي أذاق الخلافة الويل فيما سبق.. فكيف تقدر جيوشنا الهزيلة على مثل أولئك؟.."
لكن لم يبدُ أن أحداً يرغب بالاستماع لقول مشؤوم كقوله.. فتجاهله البعض بينما أغلظ له الآخرون في القول ليكف عن تشاؤمه.. فالكل يريد أن يتعلق بالأمل.. والكل يريد الاطمئنان أنه آمن في بغداد.. وأن هذا الأمن سيدوم أبداً..
***********************
عاد سلمة وجنيد لبيت ربيعة بعد جولة في الأحياء القريبة والاستماع لما يدور بين أهالي بغداد عن اقتراب الجيش التتري.. لم يكن سلمة قد سَكَنَ قلقه بعد، لكن خبر تجهيز جيش لملاقاة العدو قد أراحه قليلاً وهو بانتظار ما ستسفر عنه الأمور..
لما دخل جنيد البيت، رأى جمان تجلس في صحن الدار تراقب السماء من نافذة قريبة.. فاقترب منها جنيد متسائلاً "أين مولاي يا مولاتي؟.. هناك خبر مهم أريد أن أبلغه به.."
قالت جمان "يبدو أنه نائم الآن.. ما الذي جرى؟"
أبلغها جنيد بالأخبار الجديدة التي حصل عليها.. فاتسعت عينا جمان التي تعلم بقدوم التتار للمرة الأولى.. أهذا يعني أن الأمان الذي شعرت به في بغداد زائف حقاً؟.. ظلت تستمع لجنيد وهي متناهبة المشاعر بين قلقها على ما سيجري لها وقلقها من أن تفقد أبيها بعد أن التقت به أخيراً.. فهل كان كل ما بذله سلمة من تضحيات سابقاً هباءً منثوراً؟..
بعد قليل، وبعد أن ابتعد جنيد لغرفته التي يشاركها مع سلمة في آخر الدار، رأت جمان سلمة يدخل الدار وهمّ جليّ على وجهه.. نهضت وهي تناديه، فتوقف سلمة بانتظارها وهو مطرق بصمت، ولما اقتربت منه جمان تساءلت بقلق "أحق ما قاله جنيد؟ هل التتار قادمون للمدينة؟"
أجاب سلمة دون أن يجابه عينيها "أجل.. هذه أخبار مؤكدة.."
فقالت بقلق أشد "وهل ستخرج جيوش الخليفة للدفاع عن بغداد؟"
هز سلمة رأسه مجيباً بهدوء "هذا ما سمعناه"
عندها غمغمت جمان "أتظن لذلك أي جدوى؟"
صمت سلمة وهو عاجز عن الكذب بما لا يقتنع به.. فزفرت جمان وهي تضم قبضتها أمام وجهها بقلق ظاهر.. ألقى سلمة عليها نظرة فلم يفته ارتجاف يديها والذعر المختفي في عينيها.. لابد أن ذكرى ما جرى لها مع التتار تعود لها في هذه اللحظات.. ذكرى تلك القرية التي تكومت جثث أهلها في ساحتها دون أن يجدوا من يواري أجسادهم التراب..
غمغم سلمة محاولاً تهدئة مخاوفها "مهما حدث، فبغداد حصينة جداً.. لن تسقط بهذه السهولة.. فلا تخشي شيئاً"
نظرت له بصمت للحظات، ثم غمغمت "ليس هذا ما يبدو في عينيك يا سلمة.."
قال سلمة مديراً بصره بعيداً "وما أدراك ما يدور بخلدي يا مولاتي؟"
رغم قوله، أدركت جمان أنه قد هرب ببصره وكأنه يخشى أن تكشفه عيناه.. فقالت له "قد لا أعرف ما يجول بذهنك يا سلمة، لكني أرى اليأس والهم واضحاً في عينيك الآن.. ولا يمكنك إخفاء ذلك عني"
وأضافت وهي تخفض وجهها "وأرى اللوم فيهما يحرقني كلما نظرت لي.. وهذا مما لا أطيقه.."
لم يعلق سلمة على قولها فشعرت بهذا الصمت موافقة ضمنية على ذلك، عندها نظرت له قائلة برجاء "هل تسامحني على ما جرى؟ لو كان الأمر بيدي، لما رضيت بإعادتك لهذه العبودية البغيضة بتاتاً.. لكن أبي عنيد جداً.. وبعد كل ما فقده، فهو لا يريد أن يفقدك أنت أيضاً"
غمغم سلمة دون أن ينظر إليها "ليس الذنب ذنبك يا مولاتي، فلا داعي للاعتذار.."
همست جمان "أأنت واثق من ذلك؟ أخشى مما قد يحدث لنا في هذه الظروف القاسية، وأخشى أن نفترق وفي صدرك شيء علي.. فهل سامحتني حقاً؟.."
رأته ينظر إليها بشيء من الصدمة، لكن سرعان ما أدار بصره وهو يغمغم "أخبرتك ألا داعي للاعتذار، فأنا لا أحمّلك أي ذنب.."
وغادر مشغول الفكر بينما تابعته جمان ببصرها بشيء من المرارة.. لم يكن قوله يبعث فيها أي راحة، على عكس ما قد يعتقد.. أما سلمة، فقد دلف الغرفة التي يشاركها مع جنيد، وتجاهل جنيد المنبطح على الفراش الوحيد فيها وهو يتجه نحو النافذة ويتطلع للسماء كعادته كلما شغلته أفكاره.. رغم أنه استاء من اعتذار جمان له بشكل متكرر، وهذا أشعره بمدى فداحة واقعه، إلا أن ما لفت نظره كان حديثها عن احتمال فراقهم في ظل هذه الظروف.. وكأن الأمر صدمه بشكل لم يكن يتوقعه.. أصبح يخشى المجهول أكثر فأكثر، ويخشى مما قد يصيب جمان في هذه الأحداث التي على وشك الوقوع بعاصمة الخلافة.. فما الذي بيده فعله؟.. ما الذي بيده فعله حقاً؟..
***********************
مع مطلع الشمس بعد عدد من الأيام، خرج معظم أهالي بغداد يشهدون ما لم يروه منذ زمن.. خرجت الجيوش المهيبة من بغداد يقودها مجاهد الدين أيبك الدفتردار الصغير.. خرج الجنود بأسلحتهم وعدّتهم وعتادهم والمدينة كلها تلهج بالدعاء لهم ولينصرهم الله تعالى على أعدائهم.. ورغم المهابة البادية على ذلك الجيش، إلا أنه في الواقع لا يتعدى عدد جنوده عشرة آلاف هم كل من بقي في المدينة من جنود.. فمنذ سنوات، دأب الخليفة، بمشورة من وزيره مؤيد الدين العلقمي، على تخفيض ميزانية جيشه وتقليل عدد الجنود وتحويلهم لأعمال أخرى مثل الزراعة والصناعة وغيرها من الأعمال.. وقد وافق هذا الرأي هوىً عند الخليفة الذي عُرف بحبه للدينار والدرهم وكنزه للأموال وضيقه من صرفها على الجيش وتسليحه وإعداد جنوده..
ورغم احتفاء أهل بغداد بذلك الجيش، إلا أن اليأس كان واضحاً في كثير من الأعين وهم يشعرون بمهانة جيشهم مقارنة بما يسمعونة من تعداد جيش التتار ومن قوة جنوده وشراستهم في القتال.. فمع كل الأخبار الواردة منذ سنين لا تحصى عن هجمات التتار لخراسان وفارس وما حاذاها، وقر في نفوس الجميع أن التتار شعب لا يهزم وجنوده لا يطالهم الموت.. من يجابه التتار مهزوم ولابد، ومن يعارضهم مقتول دون شك..
ومع ذلك، بقي أمل في النفوس بأن تحدث معجزة ما ويتغلب هذا الجيش على جيش التتار العارم..
هو أمل ضعيف شبه معدوم، لكنه يدفع عنهم اليأس التام والواقع المظلم..
وهل يملكون إلا الرجاء والأمل؟..
***********************
~ بعيدا عن الخيال (١١) ~
ضعف جيوش الخليفة
بدأ الضعف يدب في الجيش مع ضعف الخلافة العباسية، وغدا قوة ثانوية ليس في إمكانها أن تلعب دوراً مهماً.. ففي أيام الخليفة الناصر، يظهر العجز والقصور أمام جيوش محمد خوارزمشاه، فقد أرسله الخليفة بقيادة وزيره ابن القصاب إلى خوزستان فاستولى عليها كما استولى على بعض مدن فارس.. لكن عندما وصلت جيوش محمد خوارزمشاه، انسحب منها وولى الأدبار، ولذلك كان الناصر يتحاشى ملاقاة جيوش محمد خوارزمشاه بعد ذلك. كما كان الخليفة المستنصر يلجأ للأمراء المسلمين بطلب معونتهم حين الحاجة.. فكان الأيوبيين يرسلون إليه فرقاً من جيوشهم، كما كانوا يستخدمون له جنداً مرتزقة.
أما في عهد (المستعصم)، فقد عمد الخليفة إلى إنقاص الجيش فبعد أن كان عدد الجنود يبلغ تعدادهم مائة ألف أو يزيدون في عصر (المستنصر)، فإنهم في عصر (المستعصم) لا يتجاوز عددهم عشرة آلاف جندي. ((محنة الإسلام الكبرى)) د. مصطفى طه بدر
***********************
|