بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الخامس
-
وقد يجمع الله الشّيئينِ بعدما
يظنّانِ كلّ الظن أن لا تلاقيا !
*قيس ابن الملوح
-
-
المملكة العربية السعودية – الخبر
التاسعة صباحًا
ترتدي رداءً ثقيلًا , وطويلًا
بيدها كوبُ قهوة
وتنظر من شبّاك غرفتها
تكاد لا ترى خارج المنزل من اتّساع فنائه وحديقته
زفرت بتعب
وفركت جبينها
سارت خارجةً من الغرفة
رأت ثريا تشرف على الخدم الذين ينظّفون الدّور العلوي
انتبهت حينَ رأتها
اقتربت منها وقالت بحنوْ
: مس وجْد ما نمتي ؟
هزّت رأسها نفيًا
ودّت لو تعانقُ ثريا
لكنّ الأسوار التي بنتها حول نفسها تمنعها
المكانةُ التي تربّعت عليها , تردّها
ثريّا هنا من قبلِ وفاةِ والدها بعامان
كبرت هي وشقيقتها امامَ عينيها
تعرفُ ادقّ تفاصيلهما
تعرف ما يحبّانِ وما يكرهان
لا تثق وجْد بعاملةٍ بقدرها
قالت ثريا برفق
: مس وجْد , تحبّي تفطري ؟
قالت ببحّة
: ما اشتهي , في احد صاحي ؟
: بس مسْ سُلاف , وطلعت قبل نصف ساعة
عقدت حاجبيها بحدّة
: وين راحت
: قالت رايحة للبنك وما تطوّل
تأفّفت , وهي تتذمّر في نفسها
اذا كانت سُلاف تتصرّف بطيش
ماذا ستفعلُ دارين !
تذكّرت وصولهما قبل اسبوع
جلست امام سُلاف وسألتها بفزع
": متى طلع ؟ من قال لكم ؟
: طلع قبل ثلاث ايّام , جانا الخبر من خوي احمد
ازدردت ريقها وسألتها
: ما في خبر ان كان جاي للشرقية او لا ؟
هزّت رأسها نفيًا
: يقولون ما طلع من بيته من يوم طلع , اهله كانوا متجمعين عنده يوم طلعته , وهو ما ترك البيت ولا حتّى للمسجد
قالت وجْد بنبرةٍ تجرح روحها , بحقدٍ يدمّرها
: عساهم ينجمعون بجهنّم , المجرمين , فرحانين بولدهم الجاني
قالت سُلاف
: وجْد ما كنت حاسّة بشي لين قالوا انّه طلع , احس انّي خفت فجأة , اخاف يجي , اخاف يقرّب من دارين , دارين هبلا و...
نهضت وزمجرت بارتجاف
: اذبحه ان قرّب من دارين , لا تخافين , ما وصلت لهالعمر ولا لهالمواصيل عشان اسمح لكلب مثله يخلْ بأمان بيتي وعايلتي
تنفّست بغضب , مرّت ثوانٍ لتسيطر على نفسها
ثمّ قالت بهدوء
: اهم شي لا تكسرون الكلام اللي بقوله , ما في طلعة للفاضي والمليان , ما في طلعة بدون علمي وبدون الحرس , اهمْ شي عمّي احمد ودارين , امّي حصّة وثريا اساسًا ما يطلعون من البيت "
,
اخرجت ورقةً من ملف , ووضعتها في ملفٍّ آخر
سألتها اخرى من مكتبٍ مجاور
: بتطوّلين ؟
قالت بزفرة
: والله مدري , اخذت اجازة مفتوحة , بشتغل من البيت , لكن دوام ما ادري متى ارجع اداوم
قالت الأخرى ببلاهة
: لا يكون بتتزوّجين
ضحكت رغمًا عنها
: يا بنت الحلال اتركي عنّك ذا الطّبع , اي من صار عندها ظروف زوجتيها
ضحكت وقالت
: يختي ازمة العنوسة اثّرت فيني
حملت الملّف وحقيبتها , وانحنت لتقبّلها
: الله يرزقك , المهم مرّيني متى ما قدرتي
هزّت رأسها ايجابًا وقالت
: سلمي على امّك
ابتسمت
: يوصل
سارت خارجةً من المبنى
فتحت الباب الخارجي وهي تمسك بالملفِّ لئلا يطيرَ من الهواء
تأوّهت واهتزّت من جسدٍ ضخمٍ ارتطمَ بها
تراجعت عدّة خطواتٍ وهي تمسكُ بكتفها بألم
جاء صوته ثقيلًا معتذرًا
: معذرة
فتحت عينيها وقالت بألم
: ياخي ما تشوف
منعَ الصدمةَ من ان تظهرَ على ملامحه حينَ رآها
ظلّ ينظرُ اليها بصمت
تأفّفت وانحنت لتحمل الملف والحقيبة عن الارض
وسارت من جانبه
التفتَ ينظرُ اليها بغيرِ تصديق
ابتسم بذهولٍ بعد ثوانٍ
: وصلتي من قبل لا ادوّر عليك !
تبعها مسرعًا وقال
: لو سمحتي
التفتت اليه قبل ان تركب السّيارة
قال حارسها الشخصيّ بحدّة
: نعم يا اخ ؟
أشارت اليه
: لحظة – التفتت اليه مستغربة – تفضّل ؟!
قال وهو لا يعلمُ ما يقول
: آآ – صمتَ لثوانٍ – انا آسف
رفعت احد حاجبيها وقالت بهدوء
: حصل خير
: جد ما كان قصدي , تعوّرتي ؟
اقترب الحارس منه وقال
: تسهّل
ضحكت رغمًا عنها , وقالت
: شكرًا على رقّتك , انا بخير
ابتسم , ثمّ قال
: صدفة سيئة مع بنت مثلك
ظلّت صامتة
ليبعده الحارس بهدوءٍ ويقول
: توكّل على الله , تفضّلي طال عمرك
رمقته بنظرةٍ أخيرة , وركبت السيّارة
تلك الملامح , مألوفةٌ لديها
لكنّ ذاكرتها الحمقاء قد أضاعتها !
قالت بلا اكتراث
: اكيد واحد من المراجعين !
ابتعدت السيّارة
ليبتسم وهو ينظرُ اليها , ثمّ ضحك بلا تصديق
: سُلاف !
,
,
ايطاليا – روما
الواحدة مساءً
تأفّفت وهي تنظرُ الى المنزلِ من بعيد
رفعت النظّارةَ عن عينيها وفركتهما
ثم أعادتها
مرّ الوقت بطيئًا
لترى رجلًا يقترب من المنزل
نزلت مسرعةً واقتربت منه
قالت متسائلة
: راين ؟
التفت اليها وأومأ ايجابًا
أخرجت شارتها , نظرَ اليها ببرود
ثمّ نظرَ الى وجهها
قالت
: قبل ستةِ اشهر....
قاطعها
: تركتُ ذلك العمل اللّعين , اتركوني وشأني
صمتت تنظرُ اليه
شتم الشرطة , وهمّ بدخولِ منزله
سحبته من سترته وألصقته بالحائط
اقتربت منه ونبرتها لم تتغير , بل ازدادت برودًا
وبخفوت
: انظر , ماتا ابواي قبل شهر , ثمّ اكتشفت انّها ليسا والداي , ثمّ اكتشفت ان قاتلهما ليسَ الّا صديقهما المقرّب , هل تعلمُ بأيَّ حالٍ انا ؟ لا املك الّا ابنةَ خالة , وحبيبٍ أحمق سأطلقُ على رأسه قريبًا واتخلّص منه , اقسم ان افرغ عبوّة مسدسي في رأسك دون ان اشفق على ابنائك الحُمر الثلاثة ولا على زوجتك الجميلة , هل سمعتني ؟
بارتجافٍ كبير , وقد جفّ ريقه واصفرّ وجهه , قال
: سمعتك , سمعتك سيّدتي
نفضته عنها , وقالت
: قبلَ ستّةِ أشهر قُتل رجلٌ ثلاثيني في مرآب السيارات الذي كنتَ تعمل به
هزّ رأسه ايجابًا
: نعم , لقد قتل , سمعت صوتَ اطلاق النّار , ورأيته حين سقط , لم ينتحر
: هل رأيت القاتل ؟
هزّ رأسه بخوف
: اقسمُ انّي لا اعلم من هو
: اروِ لي ما حدث في تلكَ الّليلة
: كان المبنى خاليًا الّا من رجلِ أعمالٍ عربي مع زوجته , وكانا نائمان , ورجلُ اعمال فرنسي , وكان يستمعُ الى الموسيقى حتّى الصّباح , وعميدًا متقاعدًا في الأمنِ الايطالي معه ضابط امن
صمت ليزدرد ريقه
قالت بحدّة
: تابع
: كان مع العميد حرسٌ شخصيّون كثر , بعضهم أمامَ غرفته وبعضهم في المرآب يحرسون سيّارته
: بأيَّ صفةٍ دخل المجنيُّ عليه
صمتَ بخوف
لتصرخ به
: تكلّم
: سيّدتي اقسم انّهم سيقتلوني
: انا من سيقتلك ان لم تتكلّم
ازدرد ريقه
لتزفرَ وتقول
: انظر , لا انت ستخبرُ احدًا انّي اتيتُ وسألت , ولا انا اخبرُ احدًا انّك اخبرتني
: هل تعديني ؟
: ان كنت صادقًا معي سأعدك
هزّ رأسه
: اقسمُ انّي لم اكذب بكلمة
: تابع
: اتى بشاحنةٍ تخصُّ العميد , وتحدّث مع الضابط طويلًا , حتّى انّ اصواتهما علَت , وحينَ سألتهما طرداني , لم يطُل جدالهما , ورأيت السائق يسقط , وحين اسرعتُ الى الدّاخل وجدت الضابط والحَرسَ قد اختفوا
قالت بحدّة
: اين اجدُ اسماء نزلاء تلك الّليلة
: اتى ذاتُ الضابط بعد يومين ومسح السّجل وهدّدني بقتلي وقتلِ عائلتي ان تكلّمت
قالت من بينِ اسنانها
: اقسمُ انّي لستُ اكثر رحمةٍ منه...
قاطعها فورًا
: عملت في المرآب لسبعِ أعوام , وجرَت عادتي ان اسجّل اسماء نزلاء كل ليلة في دفترٍ صغير واحضره لأبنائي , كانوا يفرحوا ويتفاخرون بأنّ والدهم رأى تلك الشخصيات
قالت متمتمة
: على تلك الشخصيات اللعنة – سألته – اين الدفتر ؟
: سأحضره حالًا
اختفى لدقائق
وعاد ومعه دفترٌ صغير
مدّه اليها
: منذ تلك الليلة لم اعد اكتب , ولم اذكر لأبنائي شيئًا عن من جاؤوا تلك الليلة
قطعت الصفحةَ الأخيرةَ وقالت
: خُذ
قبل ان تذهب نادته
: راين , هل كان اسم ابنك الأصغر مارسِلْ ؟
التفت بفزع
: سيّدتي اتوسّل...
قاطعته بحدّة
: انت لم ترني هنا
بارتجافٍ وتوسّل قال
: انا لم اخرج من منزلي اليوم اصلًا
تركته وذهبت
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
السادسة صباحًا
رتّبت من شكلها امامَ المرآة
تنفّست باضطراب
ثمّ حملت حقيبتها وعباءتها ونزلت
رفعَ نظره اليها وهو يشرب من كوب الشاي
ابتسم وانزل الكوب
: صباح الخير ابلة ميلاف
ضحكت بتوتّر
: تكفى يا ابلة !
انفجر ضاحكًا رغمًا عنه
: والله ميلاف ما ادري شلون بتسيطرين على الوضع ! يا بنتي انتي طولك من طول بنات الثانوي , بيسفلون فيك ان سوّيتي ابلة على روسهم
بغيرِ اكتراثٍ قالت
: اللي بتكبّر راسها نكسره , ماني رايحة العب
ابتسم باستغراب
: اعصابك ! بتروحين تهاوشين بنات النّاس من اول يوم !
ابتسمت باستدراك
ثمّ ارتدت عباءتها
: يلّا نمشي
نهض وهو يقول
: الله يعينك يا عبد الله , على ايش متزوّج ابن الناس ! بالليل مرابط وبالنهار زوجته مداومه , عاشوا
لم تعلق وخرجت معه
خلال عشر دقائق توقّف امام المدرسة
ابتسم بمحبّة
: يلا بالتوفيق ابلة ميلاف , ارفقي ببنات الناس
: ادعْ لي عبد الله , سامعة عن بنات الثانوي وحوش
انفجر ضاحكًا
ثم غمزَ بشقاوة
: عاد ضبطيلي وحدة
رمقته بطرفِ عينيها
: تذكّر وعدك للهبلا اللي ناطرتك من كان عمرها اربعطعش سنة
عقد حاجبيه
: من...
بلع كلماته لأنّها نزلت وتركته
قال مستغربًا
: انا واعد وحدة اتزوجها !
,
دخلت الى المبنى , وأنزلت غطاء وجهها
تنفّست بتوتّر
دلفت الى غرفةِ الادارة
اقتربت منها موظّفةٌ ببشاشة
: هلا ومرحبًا , اكيد انتي ميلاف !
ابتسمت مرتبكة
: ايه , هلا فيك
: شيلي عباتك اول , وتفضلي لغرفة المديرة
خلعتها على مهل , رتّبت مظهرها ثمّ دخلت الى غرفة المديرة
التي ابتسمت بهدوء
: حيّاك الله يا ميلاف
: الله يحييك
مدّت اليها بعض الأوراق
: عبّي لي هالاوراق لا هنتِ
أشارت اليها لتجلس على المقعد
جلست وعبّأتها , ثمّ مدّتها اليها
بعد ثوانٍ دخلت امرأة بدينة , وقصيرة
تبدو مرهقة , رمت بنفسها على المقعد المقابل لميلاف
سألت المديرة
: ما وصلت الابلة الجديدة ؟
ابتسمت المديرة وهي تشيرُ ناحيةَ ميلاف
التي تنفّست باضطراب
صافحتها السيّدة بمودّة , وقالت ممتنة
: الله يفتحها بوجهك , هلكت من التدريس , بتاخذين عن ظهري فصلين وتريحيني
ابتسمت وتساءلت
: استاذة احياء ؟!
ضحكت المديرة بهدوء , وقالت
: شكلها ما يعدّي اقتصاد منزلي !
ابتسمت ميلاف محرجة , مستغربةً كلامَ المديرة
التي قالت بهدوء
: ابلة دليّل اختي , بنت امّي وابوي يعني , فما في مشكلة
ابتسمت ميلاف بلطف
: ما شالله
دخلت المساعدة وقالت للمديرة
: ابلة عفاف هذا الجدول الجديد
عدّلت نظارتها الطبيّة
وقرأته بتفحّص
ثمّ اعادته الى مساعدتها
: اطبعيه وحطّيه بغرفة المعلمات , ووزعيه على معلمات ثالث علمي – اشارت ناحية ميلاف – جيبي نسخة لأبلة ميلاف
خرجت المساعدة , ليجفّ حلقُ ميلاف
ردّدت بحذر
: ثالث !
ضحكتا رغمًا عنهما
ثمّ قالت دليّل
: هذولا علمي اهون من الادبي , المهم من اوّل حصّة لا تخلّين احد يحط راسه براسك , ماهو تدخلين بطريقة الابلات الجدد نتعرّف ونتصادق والى آخره
قالت مستغربة
: مو مهم الطالبات يحبّون استاذتهم ؟
: مهم يا بنتي , اسمحي لي اناديك بنتي شكلك حيل صغير
ابتسمت ميلاف
: وانتي مو حيل كبيرة
ضحكت , وتابعت
: قلت لك مهم , لكن ذا الجيل يشوف تصرفات الابلة الطّيبة ضعف وغباء منها مع الاسف , عشان كذا لازم تكونين صارمة
قالت
: طيب ما بيكرهوني ان صرت صارمة !
: الله يصلحك ما قلت شيلي عليهم العصا , تعال شوفي عندنا ابلة خلود وابلة نجلاء , ما تقدر بنت تمرْ من ممر يمشون فيه , لكن كل البنات يحبّونهم , من البداية حطّوا قوانين وضوابط
مسحت على جبينها وتنفّست بارتباك
قالت دونَ ان تشعر
: لو ما ظروفي ما كان فكّرت اشتغل
رفعت رأسها مستردكة , بحرجٍ قالت
: معليش
مسحت دليّل على فخذها بحنوْ
: دام لك سبب وظروف وهدف , لا تسمحين لدلع البنات وفضاوتهم يردّك او يأخّرك , لو انتظرتي رضاهم عليك بتخرّجين اجيال وانتي ما كسبتي شي
هزّت رأسها بهدوء
قالت المديرة
: الله يوفقك يا ميلاف , ابلة دليّل معاك لا تخافين ولا تشيلين هم , البنات نفسهم درّستهم اوّل وثاني ثانوي , وثالث الترم الأوّل , يعني تعرفهم عدل
نهضت دليّل
: قومي نطلع غرفتنا – التفتت الى شقيقتها وسألتها – متى اوّل حصّة لها ؟
: الرابعة قبل الفسحة
ضحكت بخفّة
: الله يعينك بيكونون جوعانين
نهضتا وصعدتا الى المكتب
غرفة واسعة
فيها ما يقاربُ عشرةَ مكاتب
لم يكن فيها سوى ثلاث معلّمات
وخادمة
سلّمت دليّل , وسلّمت ميلاف بخفوت
جلست دليّل خلف مكتبها , وأشارت الى المكتبِ بجانبها
: تعالي
جلست بجانبها
قالت دليّل لأحدى المعلمات
: عهود ابي قائمة اسماء ثالث 2 علمي
اخرجتها من درجِ مكتبها ومدّتها اليها
وسألتها مبتسمة
: عساه خير ؟
: خير خير ان شالله , بس نبي ندخل عليهم اعصار
ضحكن منها
وضحكت ميلاف بشدّة , من شدّة توتّرها
قالت دليّل بضحكة
: البنت تعبت اعصابها
حمحمت , ورفعت كفّها معتذرة
أشارت دليّل الى الورقة , الاسمُ الأول
: ابتهال , هذه ما في راسها دراسة.....
مضى وقتٌ لم تشعرانِ به
ودليّل تخبرها عن الطالبات
وهي تكتب ملاحظاتها امام اسم كل طالبة , حتّى انّها كتبت اوصافهنّ وأماكنهنّ لتعرفهن فورًا
رنّ جرسُ الحصة الرابعة
لتتنفّس بتوتّر
قالت دليّل
: يلا خلّينا نشوفك , غزوة مباركة
ابتسمت
رتّبت شعرها , وأحمر شفاهها
تعطّرت
وحملت عدّتها وخرجت من الغرفة تسيرُ ناحيةَ الفصل
توقّفت بجانبه دقيقتان
قالت بخفوت
: اللهم احلل عقدةً من لساني يفقهُ قولي , بسم الله توكّلت على الله ولا حول ولا قوّة الّا بالله , اللهم افتح علي واعنّي
فتحت الباب ودخلت
وهي تلقي السلام بصوتٍ مسموع
تجاهلت التعليقاتِ التي ملأت اذنيها
طغى صوتُ شقيقها
طغى مرضه وحقيقة انّه مودّعٌ للحياة
على وجوه الفتيات , واصواتهن , ودلالهن من دونِ معنى
قالت فتاةٌ حاجبيها غامقان , ونظرتها باردة , وعلى انفها فصٌ فضّي
: من انتي ؟ علينا ابلة دليّل
قالت بنبرةٍ معتدلة , تميلُ الى الجديّة والحزم
: انا استاذة ميلاف المعلّا , استاذتكم – شدّت على احرفها , وتابعت – الجديدة لمادّة الأحياء
تعالت بعض الضحكات
وصلَ الى سمعها تعليقٌ وقح
: ما عدّت طول ساقي ومسويّة ابلة
رفعت صوتها وقد احتدّ بعض الشيء
: اسمعوني يا ثالث , ما ضيّعتوا اثنعش سنة تدرسون , ومو باقي الّا اشهر على تخرجكم , عشان تجي وحدة بطولي على قولكم وترسبكم , ما لي ست سنوات متخرجة من الثانوي , عمري من اعماركم وتفكيركم خابزته وعاجنته بيدي , اللي ما تبي تحترم نفسها قبل لا تحترم المادّة والاستاذة والمقام اللي هي فيه , تتفضّل تطلع برّى , انا سامحة انها تترك حصّتي ولا اشوفها لنهاية الترم , واشوفها السنة الجاية بعون الله
ضربت على الطاولةِ وقالت بحزم
: في احد بيطلع ؟
لم تنبس ايّهن ببنت كلمة
قالت ميلاف ببرود
: وذا اللي توقعته , طلعوا الكتب
سحبت احد اقلام السبورة والتفتت اليها
زفرت بارتباك , وهي تقلّب عينيها لتطردَ توتّرها
,
,
المملكة العربية السعودية – الخبر
العاشرة صباحًا
قالت بحدّةٍ متوتّرة
: ليش طلعتي !
وضعت الملف على الطاولة , وقالت
: لا تبالغين وجْد ! ماهي عادتك وش فيك !
زفرت وهدّأت نفسها
قالت سُلاف
: رحت اخذت اجازة مفتوحة , وجبت اغراضي واوراقي المهمّة من المكتب
صمتت
مرّ وقتٌ يسير , لتطرق ثريا الباب وتدخل
قالت معتذرة
: ازعجتكم , مس وجْد عندك اجتماع الساعة احدعش ونص قلتي لي اذكرك
نظرت الى ساعتها
نهضت وهي تزفر
قالت سُلاف
: وين الاجتماع ؟
: بالظهران , توقيع مشروع إعمار
: مع فهد ؟
: اي , وفي شريك ثالث
: انتبهي لنفسك ولا تتأخّرين , وطمنيني عليك كل ما قدرتي
: ان شالله , بس لا تغافلك دارين وتطلع
: احش رجولها ان قرّبت للباب
ابتسمت وجْد وذهبت الى غرفتها
استبدلت ثيابها خلف حاجز التبديل
ثم خرجت ومدّت ذراعيها لتلبسها ثريا عباءتها وترتّبها عليها
لفّت حجابها على رأسها وجمّلت وجهها بألوانٍ ناعمة تكاد لا تُرى
حملت حقيبتها وذهبت الى غرفةِ دارين
كانت نائمةً بعمق
انحنت وقبّلت رأسها
همست
: خلّك عاقلة لين ارجع
نزلت وركبت السيّارة
حين خرجت السيّارةُ من الفناء
سارتا من امامها ومن خلفها سيارتان سوداوتان
زفرت وجْد , وهي تمدّ بصرها الى المسافة المحيطة بالمنزل
ممتلئة برجالٍ بأجسادهم الضخمة
وسيّاراتٍ سوداء منتشرة حولَ المنزل
قالت بخفوت
: الله يكفينا شركم ما خليتوا فينا سلام
,
الحاديةَ عشرةَ وخمسُ دقائق
في فندقٍ فخمٍ وضخم
في أعلى دورٍ فيه
وقفت بجانبِ الجدارِ الزجاجي المطل على المدينة
وبيدها كوبُ قهوة
تتنفّسُ ببطء
تخشى ان تلتفت ويقعَ بصرها عليه
قالت بهدوء دونَ ان تلتفت
: اتّصلي على فهد
اتّصلت رويدة , ومدّت اليها الهاتف
مرّت ثوانٍ , ليأتي صوتُ فهد على عجل
: انا في الباركينج الحين طالع لكم
أغلقت الهاتف ومدّته الى رويدة دون التفات
بعد دقائق بسيطة , دخل فهد الى القاعة
قال معتذرًا
: انا آسف تأخّرت
نهض ضاري وحيّاه
: ماهي مشكلة – بسخريةٍ تابع - كان وقت ممتع
عقدَ حاجبيه باستغراب
التفتت اليه وجْد وقالت بهدوء
: هلا فهد
ابتسم بلطفٍ واعتذار
: معليش
هزّت رأسها بهدوء
: ماهي مشكلة
جلسَ الثلاثة الى طاولةٍ دائرية
على مسافاتٍ منسّقة
كلٌّ منهم يدير الاجتماع من زاويته ومنظوره
تناقشوا لبعضِ الوقت
ضاري يخالف وجْد في كل ما تقوله
ويستفزّها لتخالفه في ما يقوله
توتّرت وجْد كثيرًا
عادت بظهرها الى الوراء
قالت بهدوءٍ قدر ما استطاعت
: ما تتخيّل لأيّ حدْ مستثقلتك
بلطفٍ بالغ , اراح ذقنه الى راحة كفّيه , وبسط أصابعه على وجنتيه
لانت نظرته , ورقّت نبرته
وقال مبتسمًا ابتسامةً اربكتها , وجعلتها تهربُ بنظرها عنه
: وما تتخيّلين لأيّ حدْ مستلطفك
ابعدت نظرها عنه وتنفّست باضطراب
لتسمع تأوهه , التفتت اليه
كان يفرك جبينه وينظر ناحية فهد
التفتت الى فهد الذي كانَ ينظر اليه بغضبٍ وحقد
قالت بذهول
: فهد !
التفتَ اليها , وقال ببراءة
: رميت عليه المرسمة بس !
شعرت انّ اعصابها تلفت حقًّا
نهضت من مكانها وقالت
: فهد بكلمك شوي
نهض معها وخرجا من القاعة
قالت بحدّة
: ما يصير نلغي المشروع ؟
قال بصدمة
: تدمرينا احنا الثلاثة اذا الغيناه , تعرفين الوقت والجهد والمبالغ اللي انحطت بس لفكرة المشروع
قالت وهي تفركُ جبينها
: يا انا يا هو
قال بصدق
: ما ينفع والله , وجْد وصلنا للتوقيع وش فيك !
قالت وهي تحاولُ اخفاء غضبها
: ضاري يأثّر علي
ارتخت عضلات وجهه
اختفت تعابيره جميعها
قال بخفوت
: كان مستفز بالنّسبة لك !
أشاحت بوجهها عنه
: هذا الاستفزاز بالذّات , ما استفزني احد من قبل بهالشكل – صمتت لثوانٍ , ثمّ قالت ببحّة – ما كانت نظرة احد لي ابدًا مثل نظرته
قال بلا تصديق
: وجْد !
احمرّت سمرتها
جمعت كفّيها , ليلتقيانِ سبابتيها على مقدمةِ انفها
تنفّست بعمقٍ لتبدّد توتّرها
ثمّ قالت غاضبة من نفسها
: ماهو افضل ولا اجمل رجل قابلته ! ولا هو مميّز لهالحد
ابتسم فهد بلا تصديق
ثمّ قال
: يمكنّه اوّل رجل حط عينه بعينك واستفزّك , او يمكنّه اول رجل ناظرك كأنثى مو شريكة
بسخريةٍ قالت
: كأنثى !
: وجْد بعدين نتكلّم بهالتفاصيل , لازم ننتهي من التوقيع اليوم , تكفين لا تخربين بيتي
قالت بجديّة
: فهد....
: عارف والله , فاهمك , نتناقش بعدين , وانا بوقف بينك وبينه قدر المستطاع ما بسمح يصير بينكم تصادم
زفرت , ودخلا الى القاعة
تحاشت النظرَ ناحيةَ ضاري
الذي كان ينظرُ اليها بهدوءٍ تام
وقع فهد على الأوراق التي أمامه
ومدّها الى ضاري , قال بجديّة
: يلا ضاري وقّع , عندنا مشاغل بنطلع
قال ضاري وقد عقد حاجبيه
: عساس بنتغدّى ؟
: ما نقدر , وجْد عندها ارتباطات وانا عندي شغل
رفع حاجبيه وهزّ رأسه مهمهمًا
وقّع , والتفت ناحيةَ وجْد
قال بنبرته التي تؤذي وجْد
: تفضّلي
اخذت رويدة الاوراق منه قبلَ ان يمدّ يده
وقّعتها وجْد ونهضت كالمقروصة
: مع السلامة
رفعَ ضاري صوته
: مع السلامة
خرجت على عجل
ليلتفت فهد الى ضاري
قال بوعيد
: ان بركت على قلبك الحين من يردْني عنّك ؟
قال باستسلام
: مو قادر امنع نفسي !
صرخ به
: ضاري لا تشتّت مخ البنت , انت متزوّج ووجْد ما في حياتها غير عايلتها
نهض ليسقط المقعد من خلفه , قال بغضبٍ ووريدٌ في رقبته انتفخ
: متزوّج متزوّج....
قاطعه فهد وهو ينهض ويقترب منه
: ضاري
صرخ به
: وش ضاري
زفر فهد وشدّ على كتفه
صمتَ لثوانٍ
ثم قال باستسلام
: ما ادري وش اقول لك
ساخرًا قال
: ما بتلقى شي تقوله اصلًا
تركه وخرج
ليجلس فهد ويريح رأسه الى كفّيه بزفرةٍ طويلة
,
,
ايطاليا – روما
الثالثة مساءً
رتّبت الأوراقَ في الملفِّ بحذر
قالت رزان بتوتّر
: غِنا تكفين خلّيني اجي معاك
هزّت رأسها نفيًا
: لي شهر اشتغل على هالقضية , ما صار لي شي
قالت رزان
: بس اليوم غير , يمكن يصير شي , يمكن يكون ماخذ احتياطته , يمكن يصير اي شي
هزّت رأسها نفيًا
: ما تروحين , سمعيني عدل , هذا الملف فيه كل الادلة والقضايا اللي ربطتها ببعض وكلام الشهود وأسماءهم وعناوينهم
وضعته على الطاولةِ ونهضت
: ان تأخرت فوق السّاعة خمس , تودّينه للشرطة ويجون للبيت , بس ان شالله ما يصير شي
عانقتها رزان بتوتّر
ثمّ قالت بارتجاف
: غِنا الشنط جاهزة , والحجز اليوم الساعة ثمانية , ما بسامحك ان ما رجعتي
ابتسمت غِنا
وخرجت من عندِ رزان الى منزلِ وائل
في طريقها اتّصلت بالضابط الذي كان في المرآب ليلة الجريمة
قالت
: مرحبًا , انا المفوّضة غِنا
: اهلا بك , ماذا حدث
: متوجّهةٌ الى منزلِ وائل الآن , انت مستعد اليس كذلك ؟
: انا مستعد , والسّيد العميد بانتظار اتّصالك
ودّعته وأغلقت الهاتف
وهي تتذكّرُ ما رواه لها
" المجني عليه يعملُ لصالح رجلِ مافيا عربي , جاء بشاحنةٍ ضخمة , ظاهرها انّها تحملُ حقائب جلديّة لماركةٍ عالمية , وتحت البضائع كان يخبّئ سلاحًا , اوصلها وقال انّها تخصّ السيّد العميد , فتّشناها دون ان ندقّق او نعلم عن السلاح , اتّصلت بالعميدِ واستنكرَ الأمر , ولم يكُن يعلمُ عنه شيئًا , تشاجرنا مع السّائق , واصرّ انّها للعميد , جاءه اتّصالٌ يستفسر ان كان سلّم الشاحنة , فأخبرهم انّها ليست لنا , وحينها ادركَ الأحمق انّ الشاحنة لرجلِ الأعمال الفرنسي شريك المافيا العربي , علم انّه تورّط , وقبل ان يهرب قتلوه , من قتله امّا رجال المافيا العربي او رجلِ الأعمالِ الفرنسي "
سألته عن سبب اخفائهم اسم العميد المتقاعد , فأخبرها انّ لاسمه وزنًا ويخشى ان يتلوّث في عالمِ الجريمة اذا ما ذُكر
وسألته ان كانوا هم من اخفوا الأدلّة , فنفى ذلك تمامًا
وصلت الى منزلِ وائل
دخلت , واستغربت اختفاء الخدم , والهدوء في المنزل
صعدت الى الأعلى وهي تنادي
: عمّي !
سارت في ممرٍّ طويل
شعرت بحركةٍ من خلفها
التفتت نصف التفاتة , وقبل ان تتمّها هوَت عصًا سميكة على رأسها
اصبحت شبه غائبة عن الوعي
سمعت صوتَ وائل
: اربطها الى الكرسي
حملها رجلٌ ضخم
وضعها على الكرسي وهمّ بربطها
تنفّست بقوّة
وهي تكرّر لنفسها
" قومي يا غِنا , ذبح امّج وابوج وضيّع حياتج , لا تخلّينه يكمّل عليج..."
أطلقت آهةً حادّة
وافلتت من يدِ الضخم
بحركةٍ سريعة اخرجت سلاحها وأطلقت عليه
ليسقط فورًا
التفتت الى وائل
وهي تترنّح
ابتسم , صمت لثوانٍ
ثمّ ضحك
: عفية عليج والله , بنت ابوج
بحدّةٍ قالت
: امش لمكتبك
: لا تأمنين لنفسج وايد
صاحت به
: امشْ جدّامي
سار امامها , وجلس على الأريكة في غرفةِ المكتب
كان ظهرها للباب
قالت بحقد
: ليش ذبحت ابوي
قال ساخرًا
: وايد عايشة الدّور انّه ابوج !
صاحت به بجنون
: ابوي غصب عنّك يا الخسيس
رفع كفّيه باستسلام
: ابوج ابوج , يعني اهو ربّاج بالنهاية , خلاص ابوج ولا تزعلين
صمتَ لثوانٍ , ثمّ ابتسم وقال
: اضطريت , مثل ما راح اضطر اذبحج
دونَ ان تلتفت صوبت مسدّسها نحو الخلف وأطلقت
لتسمع صوت سقوطِ جسدٍ أرضًا
قهقه بشدّة , وقال بلا تصديق
: والله افتخر فيج وايد غِنا , عفية بنيتي
اقتربت منه وصوّبت المسدّس على جبينه
قالت من بينِ اسنانها
: كان يعتبرك اخوه , كان يثق فيك , ليش ذبحته ؟
صمتَ لثوانٍ , ثمّ زفرَ بحزنٍ هو الآخر
: ما تمنّيت , بس اهو ما ترك لي خيارْ ثاني , كل غباء يسوونه هاللّي حاطهم على شغلي , يحاصره ابوج ويلاحقه , ما كنت اقدر اتركه يكشفني !
ببحّةٍ عميقة قالت
: وامي شذنبها !
باستفزازٍ لمشاعرها , بسخريةٍ مريرة , قال يمثّل الأسى باستفزاز
: عاد امّج ما لي ذنب فيها , الغبي اللي قلت له يفجّر السيّارة ما اختار وقت مناسب , اهو ذبح امّج مو انا
تنفّست بقوّة , غيرَ مصدّقة بأنه ذاتُ الرّجل الذي كبرت في وجوده
الرّجل الذي يحلّ محلَ الأبِ عندها !
قال بابتسامةٍ باردة
: بس الصج عجبتيني بتحقيقاتج وتحرّياتج , حسّيت بالفخر انّ مفوضة مثلج طلعت من تحت ايدي وايد يوسف الله يرحمه , بس صدمتيني وايد بحركة العميد , ما توقّعت انّج بتوصلين له وبتقعدين معاه وبيسلمج شغله
ضحك , ثمّ تابع
: لو كنتي صاحبة مكر ما حطّيتي روحج بهالموقف , المفروض تستغلّين ذكائج وتصفّين معاي , اراهن انّج كنتي بتصيرين ذراعي اليمين , ووريثة لي
ابتسمت ساخرةً منه
ليقول مبتسمًا
: مشكلتج يا غِنا ما تحسبين خطوة جدّام
نهض لترفع سلاحها في وجهه
دونَ ان يتحرّك قال بأسف
: ما تمنّيت اكون سبب بأي الم لج , ولا تمنّيت بأسوأ احلامي اكون قاتل اخو دنيتي , صدقيني انا وايد احبج واحب ابوج , انتوا عايلتي , وما في شي يعوّر كثر ما ان الانسان يذبح عايلته , بظلْ بهالذنب طولْ حياتي
قالت مستخفّةً به
: لاا ؟ صج عاد ! يبه انت تجذب جذبة وتصدّقها ! انت هني نهايتك
ابتسمَ بهدوء , وتابع
: لأنّي اثق بذكائج , ادري انّج مأمنة الوضع اذا صار لج شي , وبيصير , وادري انّج مخليه عند بنت خالتج مستندات وملفّات , مع الاسف عايلة كاملة , اقرب عايلة لي , موتهم على ايدي
اهتزّ جسدها
قالت بلا تصديق
: ر... – ارتدت الأحرف لتخنقها في ثوانٍ , ثمّ هتفت بفزع – رزان ! شسوّيت لها !
ابتسم
لتشعرَ بذراعين ثقيلتين تحيطان برقبتها
,
,
-
الى الملتقى
-
يقول ابنُ القيّم
" من أدام الحمد , تتابعت عليه الخيرات
ومن ادام الاستغفار , فتحت له المغاليق "
لكُ الحمد يا ربّ قيّمًا لفضلك ونعمك
نستغفرك من ذنوبنا , ونسترحمك من خطايانا