بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الثامن
-
فما لي بُعدٌ بَعدَ بُعدكَ بَعدما
تيقّنتُ انّ القُرب والبعدَ واحد
*الحلّاج
-
المملكة العربية السعودية – الرياض
الخامسة صباحًا
رتّب شماغه على رأسه , تعطّر
ثمّ التفت اليها
كانت تجلس على السرير
رأسها الى الأسفل
تعبثُ باصابع قدمها بسجّادِ الغرفة الناعم
اقترب منها
موقنٌ انّها تبكي !
رفعَ رأسها , وزفر
سالت دمعتيها على جانبِ وجهها
سحبها لتقف امامه
قبّل جبينها
ثمّ همسَ ببحّة
: لا تصعبينها علي !
انتحبت كطفلةٍ صغيرة
ليبتسم رغمًا عنه
سبحان من زرع المودّة في قلبها الصغير !
شهرٌ واسبوعان فقط منذ تزوّجا
ولم تكُن تعرفه من قبلها , لم يتحدّث اليها ابدًا ايّام خطوبتهما
تعلّقت به في شهرٍ واسبوعان
تستصعب فراقه , رغمًا عنها !
مسح على وجنتها
: بس ميلاف ورّمت عينك , بتضحكين طالباتك عليك اليوم
بتعبٍ قالت
: ماني مداومة
قال بجديّة
: انتي ما تدوامين عشان نفسك , عشان غيث
سحبت نفسًا عميقًا , والوجعُ ينخر قلبها المرهق
رنّ هاتفه , رفعه ثمّ زفر
: هذا فيصل وصل بياخذني للمطار , لا اوصيك على نفسك وعلى غيث
عانقته وهي تشهقُ ببكائها
قبّل رأسها
: استودعك الله الذي لا تضيعُ ودائعه
ابعدها بلطف
وسارا خارجين من الغرفة
نزلا الدرج كفًّا بكف
خرج غيث من الغرفةِ الجانبية , وابتسمَ بحزنٍ من اجلهما
صافحه عبد الله ثمّ عانقه
قال عبد الله بصدق
: استودعك الله يا غيث , الله يقومك سالم
ابتسم بهدوء
ليتابع عبد الله وهو يشدّ على كفّه
: ميلاف اختك ما تحتاج وصيّة
ابتسم بعتابٍ ودود
: عيب عليك !
زفرَ وقال
: يلا , فيصل برّى
قال غيث
: نستودعك الله دينك وامانتك وخواتيم اعمالك , الله يعزكم بالنّصر
امّن بحرارة , وامّنت ميلاف بهمس
التفت اليها وقبّل رأسها اخيرًا وخرج
لتبكي مجدّدًا
ضحك غيث وهو يقرصُ خدّها المحمر
: بسسسك ما تعبتي من البكا ! يلا اطلعي صلّي واجهزي اودّيك للمدرسة
,
,
المملكة العربية السعودية – الخبر
العاشرة صباحًا
دخلت وفي يدها مجلّة
قالت بهدوءٍ غريب
: صباح الخير
التفتت اليها , تفحّصتها لثوانٍ
ثمّ عادت تنظرُ الى مرآتها وهي تقول
: صباح النور
جلست على سريرِ شقيقتها , وقالت
: وجْد بكلمك في موضوع
انهت وجْد لمساتها الصباحية الناعمة على ملامحها الحادّة
اقتربت وجلست على المقعد المقابل للسرير
باهتمامٍ هادئ قالت
: قولي
بجديّةٍ كبيرة قالت دارين
: بداوم في الجامعة – وضّحت اكثر – منتظمة
نهضت وجْد وهي تقول بحزم
: قفلي الموضوع
نهضت دارين وقالت بحزمٍ هي الأخرى
: انا مو جاية استأذن وجْد , سنين دراستي كلها , وسنتين من الجامعة اجبرتيني بطرق ملتوية على دراسة المناهج العالمية من البيت , تعذّرتي بالسفر وغيره
اشارت اليها بالمجلّة
: هذا كلامك , بنستقر حاليًا بالخبر , قلتي اختك تهمك وتهمك سعادتها ورغبتها , اتركيني اعيش وجْد , انا مو كلب زينة عندك تلبسيني وتكشخيني وتلمعين اسمي ومظهري وبالمقابل تتحكّمين باكلي وشربي ونومي وقومتي وطلعتي ودخلتي وحياتي كاملة
صمتت لثوانٍ , ثمّ قالت
: الجاهل والمثقف السافل والراقي المحافظ والداشر , كل الناس تدخل الجامعة , انا ما اشوف اي سبب مقنع تمنعيني ادخل للجامعة منه , بعد كذا تقنعيني عشان انفّذ رغبتك
لم ترتخِ نظرتها , ولم تلِن نبرتها , ولم يتهاون اصرارها
امام نظرات وجْد المذهولة
تابعت بتصميم
: قلت لك مو جاية استأذن , لا تفقدين نفسك احترامك وهيبتك عندي برفضك , لأنّي خير شر داخلة الجامعة
تركتها وخرجت
تهاوى جسدُ وجْد على المقعد
بكفّيها المرتجفين مسحت على جبينها الندي
تنفّست باضطراب
كبُرت دارين !
ويبدو انّها ستشبهها
و ستتخطّاها !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
العاشرة وخمسٌ واربعون دقيقة صباحًا
تأوّهت وفتحت عينيها
اصبحت مؤخّرًا تستيقظ على آلامِ ظهرها
رغمَ انّ سنا اصرّت كثيرًا ان تنام على سريرها
لكنّها رفضت بشدّة
رفعت رأسها
كانت سنا تجلس على المقعد تمشط شعرها
قالت غِنا ببحّة
: صباح الخير
ابتسمت سنا
: صباح النور , اجهزي بنروح للسوق نشتري اغراض غرفتك , اليوم عبد الوهّاب طلع الدولاب القديم منها وفضيت خلاص , وجاب البوية وبنصبغها , بس نروح نختار الاثاث
قالت بغيرِ اكتراث
: وايد متحمسة انتي , روحي اشتري الاغراض بروحج
قالت سنا باصرار
: لا والله تروحين وتختارين الالوان والاثاث اللي تبينه , لازم غرفتك على مزاجك لأنّ اغلب وقتك فيها
تجاهلتها وهي تخرج من الغرفةِ الى الحمّام
صادفت الجدّة
التي لم ترها منذُ وصولها !
كانت تخرجُ من الحمام , وحين رأت غِنا كسرت نظرتها , وهمّت بالاسراعِ الى غرفتها
لتقف غِنا مائلةً بجسدها الى الحائط
بخمولٍ وسخرية قالت
: صبحج الله بنواياج حجيّة , شلونج ؟ شدعوى يبه لا نشوفج لا نسمع حسّج , خانسة !
لم تجبها , وسارت لتمرّ من جانبها
لكنّ كلمات غِنا اوقفتها , وهزّتها الفًا !
قالت غِنا بنبرةٍ غريبة
: لو ظلّت ثانية بحياتي ماني مسامحتج فيها , ولو ظل على دخولج الجنّة بس مسامحتي لج , همْ ما راح اسامحج , راح ادعي عليج كل يوم , كل لحظة , كل ثانية , انّ الله يحرق قلبج وينتقم منّج
تركتها ودخلت الى الحمّام
دخلت الجدة الى غرفتها
زفرت آهةً وسقطت ارضًا
بكت بحرقةٍ كبيرة
وهي تردد برهبة
: يا ويلي من الله !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الثانية عشرةَ مساءً
دخلت وهي تلقي السلام بخفوت
رددن السلام بأصواتٍ متفرّقة
: طلعوا الكتب , منال امسحي السبورة
جلست على المقعد , ووضعت كفّها على رأسها وزفرت
سألتها احداهن
: سلامات ابلة !
بهدوءٍ قالت
: الله يسلمك
قالت اخرى
: ابلة في واجب
اشارت بلا اهتمام
: نشوفه في وقت ثاني
نهضت وكتبت العنوان على السبورة
ثمّ التفتت الى طالباتها تراجع أسس الدرس السابق , وتتدرج الى درسِ اليوم
همست احداهن لرفيقتها
: شكلها مو في المود اليوم
افزعها صوتُ ميلاف الحازم
: ها يا اروى
نهضت اروى وازدردت ريقها
ظلّت صامتة
لتعيد عليها السؤال بهدوء
لم تجبها
قالت ميلاف ببرود
: ما بتجاوبين ؟
: ابلة ما كنت معك
بعصبيّةٍ ضربت على الطاولة وقالت
: حضرتك حاضرة الحصّة وجالسة قدّامي وانا اتكلّم , وش ردّك ما تكونين معي ؟
استغربوا عصبيّتها , اعتادوا حزمها وجديّتها
اما الغضب , لم يكن من صفاتها !
قالت وهي تغلق الكتاب بقوّة , وتجلسُ على المقعد
: ما وراي شي , انتظرك تجاوبين , او اخصم عليك خمس درجات
احتقن وجه اروى , وقالت بارتجاف
: ممكن تعيدين السؤال ؟
بحدّةٍ قالت
: ماهو ممكن
ظلّت صامتة لدقائق , نظرها منكسرٌ الى الأسفل
وميلاف تنظرُ اليها بحدّة
الطالبات وجلات من غضبِ ميلاف , حزينات لاحراج اروى !
قالت ميلاف وهي تكتب في سجل الاسماء
: اوكي يا اروى اجلسي
قالت ببحّة
: ابلة لا تنقصيني , انا على تخرج
بهدوءٍ قالت
: ماهي مشكلتي
قالت احداهن وهي خائفة , لكنّها لم تعتد رؤيةُ منكرٍ دون تغييره ما استطاعت !
بترددٍ كبيرٍ قالت
: ابلة حرام , اروى ما سوّت شي
تهامسن الفتيات ليصمتنها
التفتت اليها ميلاف
نظرت اليها طويلًا , ثمّ جمعت اوراقها وخرجت
وهي تقولُ ببحّة
: لحد يطلع من الفصل
ما ان خرجت , انهارت اروى بالبكاء
وانهارت ميلاف على مقعدٍ قريبٍ من الفصل
حبست ادمعها
وهي تنظر الى ما خطّته في سجل الاسماء
كانت خطّت خططًا عشوائية
مسحتها وهي تزفر بتعب
لم تستحقّ تلك الصغيرة ان تفرغ غضبها عليها !
رحيلُ عبد الله , ومرض غيث
جاءا ثقيلين على الفتاة المدللةِ التي تقبعُ داخلها
الناعمةُ الصغيرة , التي تجلسُ في الغرفةِ العليا في منزل عمّها
التي تزور السوق كل اسبوع , تنتقي معطّرات جسدها باهتمام
المنعّمات والمرطبات , ومساحيق التجميل الطبيعية ذات الاوان المختلفة
همّها كبر
تعدّاها كثيرًا
لم تعد تتذكّر كيف تجمّل ملامحها
ولا كيف تعطّر ثيابها
زفرت بحرقةٍ وهي تنهض
دخلت الى الفصل , ليصمتن جميعًا ويعُدن الى امكانهن
قالت بهدوء
: تعالي يا اروى
نهضت اروى وخرجت معها ووجهها مصفر
مسحت على ذراعها برفق
: معليش , سامحيني شوي تعبانة اليوم
ظلّت صامتة
لتقول ميلاف مطمئنة
: ما نقصتك , سامحيني احرجتك قدّام زميلاتك
قالت ببحّة
: عادي يا ابلة
اشارت اليها لتعود الى الفصل
وتبعتها ميلاف , التي قالت بصوتٍ مسموع
: انا اعتذرت لزميلتكم برى , ماهو كافي لأنّي اسأت لها قدّامكم , وقدّامكم اعتذر منها , شوي تعبانة اليوم ما انتبهت لعصبيتي , لحد يطلع من الفصل , خلّوا بعلمكم الحصّة الجاية بناخذ درسين
تركتهن وخرجت
,
,
المملكة العربية السعودية – الخبر
الحاديةَ عشرةَ صباحًا
بغضبٍ سحبت قلمًا تضغطُ عليه , تفرغ انفعالها فيه
قالت بحدّة
: وقفت بوجهي قالت ما استأذنك ! وش اسوي !
قالت سُلاف بهدوء
: خلّيها تداوم
بذهولٍ غاضب قالت
: انتي تقوليلي خلّيها تداوم ؟ كأنّك ما تدرين عن شي !
قالت سُلاف بجديّة , وهي تنظرُ برحمةٍ الى القلم المحشور بين يديْ وجْد الغاضبة
: قدّامك خيارين بدون ثالث , يا تعلمينها يا تتركينها , ولأنّك جبانة وما بتقولين لها , اتركيها تداوم
كسرت القلم ورمته ارضًا بقوّة
: شلون اتركها ؟
: خلّك ذكية وجْد , خلّيها تفهم انّك بتخلّينها تداوم بمزاجك مو لأنها حدّتك , وانتي بتحمينها بطريقتك , بتظلْ عينك عليها بطبيعة الحال
ظلّت صامتة , وهي تعضُّ على شفتيها بغيض
بعد دقائق طرقت دارين الباب , ثمّ اطلّت برأسها
صمتت حين رأت وجْد
قالت سُلاف
: تعالي دارين
: على بالي لحالك , وجْد ما رحتي الشغل !
قالت سُلاف وهي تلوّح بملفٍّ امام دارين
: كنت ابيها بشغلة , آمري حبيبتي
رفعت كتفيها
: ولا شي , كنت ابيك تختارين معاي كم قطعة من متجر نيارا
اعتدلت وجْد في وقفتها وحملت حقيبتها
: ادخلي , ولا تنسين تتسوّقين للجامعة
التفتت اليها بذهول , وابتسمت سُلاف
قالت بلا تصديق
: وش تقصدين للجامعة ؟
بهدوءٍ قالت وجْد
: تداومين من الاسبوع الجاي
صمتت لثوانٍ , ثمّ شهقت بلا تصديق وهي تقفزُ لتعانق شقيقتها
قبّلت وجنتها مرارًا , وهي تشكرها مبتهجة
ابتسمت وجْد بحنوْ
ثم ابعدتها عنها وقالت
: بس بنجلس ونتكلم قبل لا تداومين , ماهو تبين تداومين خلاص تلبسين وتروحين
قالت بعد ثوانٍ , بابتسامة
: في النهاية ما عندي الّا اخت وحدة !
هزّت دارين رأسها بحماس
: اي شي تبينه انا حاضرة
ودّعتها وجْد بابتسامةٍ وخرجت
قفزت دارين على سرير عمّتها
قالت بحماس
: عميمة اقرصيني اضربيني , مو مصدقة والله !
ضحكت منها سُلاف , ثمّ قالت
: يلا وريني
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الثالثة مساءً
اقتربت تتفحّص الخشب
لتسمع عبد الوهّاب يهمس من بين اسنانه
: غطّي شعرك عدل وابعدي عن الهندي اكلك بعيونه
التفتت اليه تكادُ تقتله
: مو شغلك فيني ! اختك هناك روح لها وتحكّم فيها , انا ما لك شغل فيني
بغضبٍ هامس قال
: انتي ماشية معاي جعلك ما عاد تمشين , تحرّكي اطلعي
بغضبٍ خرجت من المحل
تبعتها سنا التي اكتفت من شجارهما
قالت غِنا من بين اسنانها
: الحين نرد للبيت , ما اظل دقيقة هني
قال عبد الوهّاب
: جات منك , يلا للسيّارة
سنا التي كانت متحمّسة , لم تعارض وسارت امامه ليخرجوا من مركز التسوّق
ركبت خلفهما , وحشرت السّماعتان الصغيرتين في اذنيها , ورفعت صوت الموسيقى الايطاليّة التي تفضّل
قال عبد الوهّاب منزعجًا
: ذي اللي متمسكة فيها بسنونك ؟ والله ما تسوَى مواطيك
قالت بمحبّة
: غِنا نصّي , كذا قطعة من قلبي , والله ما بتفهم وش احس , هذه توأمي !
قال عبد الوهّاب مستغربًا من حاله
: ما احس بشي ناحيتها , غير انّي متضايق منها وابي افتك من شرها , مو المفروض احبها او اتقبلها ولو شوي بما انها اختي بنت امّي وابوي ؟
زفرت سنا , ثمّ قالت
: انت دايمًا كذا , تخلّي احساسك السيء يغطّي احساسك الزين , وعلى بالك انّه مو موجود , عطْ نفسك فرصة , وبتكتشف انّك تحبها , لأنها اختك ! حبها فطرة ماهو اكتساب , مثلًا لمّا يجي ولد خالتها كل يوم وانت تعصّب , ذي غيرة , مثلًا لمّا قرّبت من الهندي بطفاقة وانت عصّبت , هذا خوف عليها , مثلًا لمّا طلعت الدولاب من الغرفة وقلت لي اليوم نشتري اثاث , هذا اهتمام , ذي اختك وهّابي , شقيقتك !
ظلّ صامتًا
لم تسمع كلمةً واحدة من حديثهما , كانت مندمجةً في اغنيتها !
توقّفت السيارة امام المنزل , وتقدّمتهما سنا الى الباب
فتحته , لتدفعها غِنا جانبًا وهي غاضبة , ودخلت
زفرت سنا , وقال عبد الوهّاب مغتاضًا
: نقص عليها ذي الحيوانة احب شكيلاتها
ضحكت سنا ودخلت الى المنزل
قبل ان يدخل , ناداه احدهم
: لو سمحت
التفت , ثمّ عقد حاجبيه غضبًا !
: خير
مدّ اليه الحقيبةَ الصغيرة
: وصلها لغِنا لا هنت
سحبها بقوّةٍ ودخل صافعًا الباب خلفه
,
صعدت الى غرفتهما المشتركة
وهي تنزعُ عنها العباءة مشمئزّةٍ من ثقلها على جسدها
رمت بها ارضًا وصاحت
: شلون تلبسون هالشي !
قالت سنا بهدوء
: غِنا استغفري ربّك , هذا حجاب وستر ما يجوز تتقرفين منّه وترمينه كذا
تجاهلتها وهي تبدّل ثيابها بينَ بابيْ الخزانة
انتهت ومشّطت شعرها , وتعطرت بعطرها الرجالي
انزعجت سنا
: وش ذا العطر ؟
تجاهلتها ايضًا
لتقول سنا وهي تلملم الغرفة
: اكلمك انا !
تجاهلتها , حتّى انتهت سنا ونزلتا معًا
,
دفعَ اليها حقيبتها حينَ رآها , وقال بحدّة
: ما له داعي كل يوم يرسلون لك اكل , ماحنا وصخين ولا حنا جوعانين
قالت وهي تفتح الحقيبة
: زين
وضعت والدتهم الغداء
وقالت ببحّة
: ابوكم اليوم جاي
قالت سنا بزفرة
: ما بغى
قالت غِنا بسخرية
: شلون بيرد وانا هني ؟ اخاف عباله مشيت , قولي له يا معودة
لم تجبها والدتها
قال عبد الوهّاب
: والتعبان عبد المحسن ردْ واخيرًا , ان شالله بيجي ذي اليومين
قالت سنا
: اجل اذا جا ان شالله نسوّي جمعة لعمامي ويتعرّفون على غِنا
ببرودٍ قالت غِنا
: ما ابي اتعرّف على احد
نهضت والدتها وهي تحملُ صحنًا للجدّة
ولأوّل مرّةٍ تتحدّث الى غِنا
بحزمِ الأمّهات الذي لا جدال فيه !
: بتتعرّفين على عمامك
داخلها تراقصَ وانتشى رغمًا عنها , لكنّ غصّةً تعثّر بها انتشاؤها
غصّةٌ عكّرت عليها تقبّل " والدتها " واوامرها
قالت بحدّة
: محد بيجبرني على شي
بحدّة اجابتها والدتها , وهي تخرجُ من المجلس
: صوتك
ظلّت تنظرُ من خلفها , لا زالت كلمتها الحادّة تعبثُ في قلبها وسمعها
ابتسمت سنا واحنت رأسها الى الأسفل
وقال عبد الوهّاب ساخرًا
: وااك واك واك , تهزّأت !
احمرّت اذنيها , تجاهلته وهي تنظرُ الى طعامها
كأنّ روحًا نُفخت في روحها
رغمَ حدّةِ والدتها
لكنّها اسعدتها ! رغمًا عنها اسعدتها
لا تذكرُ انّها سُعدت يومًا من غضب امّها الراحلةِ منها !
هل تُراها لأنّها كانت تشعرُ بانتمائها لها دونَ حاجةٍ لاثبات ذلك !
هل شعرت بانتمائها للمرةِ الأولى لوالدتها ؟ عبرَ حدّةِ نبرتها وفرضِ امرٍ عليها !
لمَ الغضب في المواقف دومًا يكون اثبات متانة العلاقة !
زفرت وهي تقلبُ الملعقةِ دون ان ترفعها الى فمها
تحت نظر سنا وعبد الوهّاب !
,
,
المملكة العربية السعودية – الظهران
الثالثة مساءً
جلست بجانبه وهي تمدّ له كأس العصير
قال دون ان يرفع بصره عن المجلّة
: سلمتي
نظرت الى ما ينظرُ اليه , ثمّ سألت
: مو هذه اللي حضرنا معرضها في باريس ؟
هزّ رأسه ايجابًا بعد ان ارتشف من كأسه
قالت بنبرةٍ متعالية
: ما حبيتها , مغرورة
ابتسم , وقال بهدوءٍ وهو يعيدُ بصره الى وجه وجْد في المجلّة
: ماهو كل الناس بتواضعك يا روحي !
اقتربت وقرأت بعض المقتطفات
قالت وهي ترفع حاجبًا واحدًا
: عمرها ثمانية وعشرين , شكلها فوق الثلاثين
لم يعلّق
قالت وهي تبتعد عنه
: عشتو ! ما لقت واحد ينحشر بين اهتمامتها , العانس !
ضحكَ بخفّة , ودّع وجه وجْد بنظرةٍ اخيرة
اغلق المجلّة , والتفت اليها وقال باهتمام
: رشا
همهمت , ليقول
: ليش تكرهين كل حرمة تمرْ من قدّامي ؟ لأي سبب وبأي مقصد , موظفاتي وعميلاتي وشريكاتي ومتابعاتي وحتّى شغالات البيت , طبعًا مستحيل يكون غيرة !
رفعت حاجبيها , وقالت بغيض , وبنطقها المضحك
: ضــاريي !
غطّى عينيه وضحك حسرةً على حظّه !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الرابعة مساءً
فتحت الخادمة الباب وابتعدت ليدخل
دخل الى المجلس , والقى السلام بخفوت
اجابته امرأة في منتصف عقدها السادس
تبدو في الاربعين !
انيقةٌ , ولها جلسةٌ تبعث الرهبة
: وعليكم السلام , من وين جاي
جلس على الأريكة وهو يزفر
دون ان يجيبها
قالت بحدّة
: من عندها ! المتسكعة عديمة الأصل
قال دونَ ان يرفع صوته
: لا يسخر قومٌ من قومٍ عسى ان يكونوا خيرًا منهم , ولا تنابزوا بالالقاب
استغفرت رغمًا عنها , صمتت لثوانٍ ثمّ قالت
: لمتى بتظل تلاحقها ؟ وش تبي منها !
رفع رأسه اليها , قال وهو يضغط على الاحرف
: زوجتي
بغضب قالت
: الله لا يبارك فيها من زوجة , لا بركة في السـ...
قاطعها
: لا تسبّوا الدهر
رمت كأس الشاي المذهب بقوّة على الأرض
ليبتسم ببرودٍ وينهض
قالت محذّرة
: هذا اسمه عقوق
: اسمه امر بمعروف ونهي عن المنكر
اولاها ظهره , لتقول
: حمد اجلس
زفر وجلس
كأنّ همّ رزان التي تبدو قد نسيته لا يكفيه
تتسلّط عليه والدته كلّ يوم
تسبّ رزان , وساعة رزان , وزواجه من رزان , وحياته مع رزان , وخياله في رزان
مستكثرةً عليه نصف ساعة او ساعة يقضيها امام بيتِ جدّتها
علّه يلمحها
علّها تراه فتحنّ وتعود
زفر وهو يمسح وجهه بكفّه
دخلت فتاةٌ شابّة , انحنت وقبّلت رأسه , وجلست قريبةً منه
: ما شفتك على الغدا اليوم !
اجابها بهدوء
: كان عندي مشوار
زمّت شفتيها وصمتت
مرّت ثوانٍ , لتسأله بحذر
: ما كلمت رزان ؟
صرخت بها والدتها بغضب
: رغــــد ووجــع
اغمضت عينيها وعضّت على لسانها
ليبتسم حمد وينهض
سأل والدته
: ابوي وين ؟
: معزوم
هزّ رأسه , وقال
: انا بنام , ساعة وقوموني
قالت والدته
: روح نام حبيبي , الله يطهّر قلبك و...
ابتسم بلطفٍ وقال
: مشكورة يمه
خرج مسرعًا من المجلس
لتقول والدته مغتاضة
: علّك ما تربحين يا رزان
قالت رغد وهي تقترب من والدتها
: يمّه حرام البنت يتيمة
: حرمت عليها عيشتها الّا حرمت عليها عيشتها , العجوز كبري وين اليتم فيها ! على كذا انا بعد يتيمة
فتحت رغد عينيها بصدمة
: يمّه حرام عليك عمرها خمسة وعشرين ! اصغر من حمد بعشر سنين !
: الرجال ما يبين فيه الكبر
بمكرٍ قالت
: اييه , عشان كذا يبيّن ابوي عندك ولدك
التفتت تبحثُ عن ما ترميها به بغضب
لتنفجر ضاحكةً وتهرب منها
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الرابعة مساءً
نظرَ اليها وهي تغطي فمها وتخرج من الغرفةِ مسرعة
بهدوءٍ اخرج هاتفه واتّصل بخالته
مرّت ثوانٍ لتجيبه
: هلا حبيبي
: هلا خالتي , بسألك عن شي
: آمر يمّه
: ميلاف لها يومين ماهي عاجبتني , خاملة وتعبانة , اليوم قلت اغيّر جوها دام زوجها مشى جبت لها على الغدا رز هندي ادري انها تحبّه , انقرفت من ريحته وما اكلته , الحين حطّينا القهوة شربت وراحت ركض رجّعتها
عقدت حاجبيها لثوانٍ , ثمّ قالت محرجة
: انت وش فهمك بهالامور !
ابتسم بانجاز
: اشتغلت فترة مساعد في صيدلية , المهم تخميني صح ؟
: والله ما ادري وش اقول لك , لازم تحلّل
: بجيب لها المنزلي , ونتأكّد بالمستشفى وقت ثاني
محرجةً قالت
: براحتك , مع السلامة
انفجر ضحكًا وهو ينزلُ الهاتف
اخذ مفتاح السيّارة والمحفظة
قال بصوتٍ مرتفع وهو يرتدي حذاءه
: ميلاف عندي مشوار بطلع
من الحمّام اجابته ببحّة
: اوكي
,
,
الى الملتقى
-
قال مجاهد :
قال لي ابن عبّاس –رضي الله عنهما- ( لا تنامنّ الا على وضوء , فإنّ الأرواح تبعث على ما قبضت عليه )