كاتب الموضوع :
عالم خيال
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ابنة السماء..
الفصل الثامن {سنوات الرخاء}
توالت ضربات الموج القوي على ذلك المنحدر الحاد بصوتٍ مسموعٍ في الجزء الجنوبي من سهول الأكاشي، وتناثر الرذاذ على الصخور مكوناً شلالاً خفيفاً من القطرات التي تطايرت لمسافات غير معتادة.. قبل أن تنحسر الموجة عائدة للبحر الذي ينتظرها أسفل المنحدر وتتأهب لضربة جديدة رغم أنها لم تفلح في كسر ثبات المنحدر الصخري.. وفي جزء قريب من ذلك المنحدر، تناثرت الخيم ذات الأساس الخشبي التي يغطيها قماش سميك بلون أبيض مع بعض الزخارف مكونة مخيماً على شيء من الاتساع يخص قبيلة (أبناء الذئاب).. كان الضباب الخفيف قد بدأ ينسحب استعداداً لاستقبال شمس ذلك اليوم، بينما هدأت القبيلة في مخيمها الشتوي بعد أن استقرت في الموقع منذ عدة أسابيع..
وفي خيمة متطرفة، لا يزيد حجمها عن حجم أصغر خيمة في الموقع، استيقظ كين من نومه على تلك الرائحة المميزة التي احتشدت في المكان وأطارت النوم من عينيه.. نظر حوله في الخيمة ملاحظاً النار التي أشعلت وسطها، بينما جلس ذلك الشخص محني الظهر قربها وهو يعبث بغليونٍ بسيط في يده.. فنهض كين معلقاً "هل يجب أن تبدأ يومك في كل مرة بهذه الأعشاب التي تخنقني برائحتها الكريهة يا مينار؟"
غمغم مينار وهو يحشو غليونه بالمزيد من الأعشاب "لو جربتها مرة لما كففت عن تدخينها.."
علق كين وهو يغسل وجهه بماء في إناء جانبي "لا أريد الاعتماد على هذه الأشياء.."
تقدم من النار وجلس قربها وهو يقول بنفضة "لقد ازداد البرد هذه الأيام.. أليس كذلك؟"
قال مينار "لن تكون الأمور أفضل في وقت قريب بتاتاً.."
لم يعلق كين بل تساءل "هل استيقظت ججي؟"
أجاب مينار "لمَ تصرّ على مناداته بهذا الاسم رغم محاولاته العديدة لإقناعك بالعدول عن ذلك؟"
قال كين بإصرار "هل أتت أم لا؟"
فقال مينار "لقد أتى جام قبل فترة ووجدك نائماً.. فغادر متذمراً من كسلك الذي لا يطاق كما وصفه.."
علق كين بضيق "كان عليك إيقاظي عندها.. لابد أنها تركتني ورحلت كالعادة.."
فتساءل مينار "ما الذي ستفعله إذاً؟"
هز كين كتفيه مجيباً "سأذهب للبحث عن بعض الطرائد بنفسي.. الشتاء على الأبواب، ونحن بحاجة لمخزون إضافي قبل أن تقل الطرائد في هذا الموقع من السهول.."
تأمل مينار كين بصمت للحظات.. لقد مرت ست سنوات منذ انضمّ كين لقبيلة (أبناء الذئاب)، والآن وقد بلغ الثانية والعشرين من عمره فإنه قد اكتسب طولاً يقارب طول مينار، وإن بقي جسده نحيفاً بشكل بالغ رغم كل محاولاته للتغلب على ذلك.. استطال شعره حتى لامس كتفيه، وقد اعتاد على ربطه خلف عنقه، بينما اكتسبت بشرته شيئاً من السمرة لطول بقائه في العراء كما يفعل أغلب الأكاشي.. وقد أصبح أقوى وأكثر صلابة مما كان عليه عندما أحضرته ججي معها وهو لا يتجاوز السادسة عشر من عمره، رغم ما يبدو عليه من نحول ورغم أنه لا يزال أضعف من الأكاشي عموماً.. فعلق مينار بابتسامة "لشدّ ما تغيرت في هذه السنوات يا كين.."
نظر له كين بعدم فهم، فأضاف مينار "لقد أصبحت أشبه ما يكون بالأكاشي.."
غمغم كين وهو ينهض "أتمنى ألا أكون قد اكتسبت همجيتهم ووحشيتهم بعد.."
ضحك مينار لتعليقه، بينما حمل كين سيفه وقوسه، وغادر نحو مربط الخيول الواقع شرق المخيم ليفك رباط حصانه ذي اللون البني والعرف الأشقر مع نجمة بيضاء على جبهته.. فقام كين بتثبيت السرج على ظهره ثم امتطاه وتلفت حوله بحثاً عن الغبراء، لكنه أدرك أن ججي قد غادرت بالفعل بعد أن تأكد من غياب فرسها من وسط القطيع.. عندها لكز كين حصانه وركض به مبتعداً عن المخيم ومحاذياً المنحدر الذي يمتد لمسافات طويلة حتى الأفق..
رغم مرور السنوات على انضمامه للقبيلة، ورغم مرور الأشهر والسنوات عليه وهو يرافقها من مخيمها الصيفي للمخيم الشتوي بشكل سنوي، لكنه لم يجد في نفسه دافعاً للرحيل وحيداً.. رغم بلوغه مبلغ الشباب، لكنه لم يجد لديه القدرة على قطع هذه السهول دون مرافقين ومنظر تلك القافلة التي سالت دماء أصحابها وتناثرت أشلاؤهم في بقعة واسعة من ذلك الموقع لا تزال تقض مضجعه.. كما أنه لم يكن يملك وطناً يتلهف للعودة إليه وهو الذي غادر وطنه متسللاً هارباً من الجريمة التي ارتكبها والتي لن تمر مرور الكرام كما يثق تماماً..
عندما وصل لمخيم هذه القبيلة للمرة الأولى، أخذته ججي لمينار وطلبت منه استبقاءه معه واعتباره تلميذاً من تلاميذه.. ورغم اعتراض مينار بأنه لا يملك تلاميذ ولا يستقبل أحداً في خيمته التي يعيش فيها وحيداً، لكن ججي رجته بكل حماس وطلبت منه تغيير الفتى ليصبح أشد قوة وأكثر بأساً مما هو عليه.. ورغم تجاهل مينار لطلبها ذلك في البدء، لكن ججي استمرت في سحب كين معها كل يوم أثناء قيامها بالتدريبات.. ودفعته للتدريب بشيء من القسوة والإلحاح حتى اعتاد مينار على وجوده معهما وأصبح يتولى تدريبه بنفسه دون اعتراض هذه المرة.. ورغم كل شيء، لم يستمع أي منهما لاعتراض كين ولرفضه، ولم يعبأ أحدهما لرأيه في الأمر..
والآن، بعد السنوات هذه، لم يعد أحد يلاحظ وجود كين في المخيم أو يستنكره.. ورغم أن الكثيرين منهم ينادونه بالكشميتي، لكنهم يتعاملون معه كما يعاملون أي رجل آخر من رجال الأكاشي.. أما مينار، فسرعان ما تآلف مع كين وأصبح بالنسبة إليه أقرب للعائلة التي لا يملكها.. مع أنه في المعتاد لا يصرح بهذا بشكل علني، لكن كين يدرك أن مينار يستطيب وجوده معه ويستمتع بالخدمات التي يقدمها له كين عن طيب خاطر..
تنهد كين وهو يراقب السهول من حوله.. لقد تغيرت أمور كثيرة بالفعل طوال تلك السنوات.. ما عاد ذلك الفتى المذعور الذي يرتجف لرؤية رجل من الأكاشي.. ورغم أنه لا يشاركهم في مهماتهم ورحلاتهم الفردية، ولا يستمتع ببعض الاحتفالات الدموية التي يقومون بها عند القبض على بعض أعدائهم، لكنه أصبح أكثر اندماجاً معهم مما تخيل في أكثر أحلامه جموحاً.. ورغم أنه أصبح أكثر ثقة بنفسه، وما عاد يقلق لمغادرة المخيم وحيداً بحثاً عن الطرائد، لكنه لم يجرؤ على الرحيل قط.. وكلما مرت السنوات، قلّ لديه ذلك الدافع للرحيل مع استحالة عودته لوطنه.. ازداد ارتباطه بالقبيلة أكثر عن السابق، وأصبح يرى أن البقاء معهم ليس سيئاً حقاً كما تخيّل..
أحكم كين لف المعطف الجلدي حول عنقه اتقاءً للبرد، ولكز حصانه وهو يدور بعينيه حوله بحثاً عن طريدة يصطادها.. لابد أن ججي قد خرجت بدورها للبحث عن طرائد لعائلتها، ولابد أنها ستعيّره بما اصطاده كالعادة.. لكن هذه المرة، لن يسمح لها بالتغلب عليه أبداً.. سيتغلب عليها ولو مرة واحدة في حياته..
************************
بعد أن ارتفعت الشمس في السماء، وبعد أن أنهت النسوة أعمالهن اليومية وبدأن بالتحضير لغداء رجال القبيلة، فإن تينا قد هرعت عابرة الخيم التي تفصلها عن نهاية المخيم حتى انفرج المنظر أمامها عن تلك السهول الفسيحة الواسعة.. تلاحقت أنفاسها بانفعال وهي تزيح خصلات شعرها الأشقر للوراء متأملة الأفق بصمت.. الآن، وهي في الرابعة عشر من عمرها، قد أصبحت تينا أقرب شبهاً لأمها وبدت كنسخة مصغرة منها.. ورغم أن تينا كانت ذات جمال ملحوظ وقامة فارعة رغم صغر سنها، لكنها لم تكن تهتم بنظرات الشباب التي تلاحقها ولا بالغزل الذي يلقيه بعضهم على مسامعها.. لم تكن تهتم بشباب الأكاشي بتاتاً، ولم تكن تهتم بنظرات الإعجاب ولا بالكلمات الجلفة التي يظنونها غزلاً قد يوقعها في حبائلهم.. لم يكن يهمها إلا ذلك الشاب الهادئ الذي يبدو كنسمة هادئة مقارنة بخشونة شباب قبيلتها وقسوتهم..
ومع انعتاق ججي من مهام النسوة المعتاد، فإن أعمال عائلتها قد وقعت على كاهل تينا التي قامت بكل ما تطلبه منها ستينا دون أي تذمر.. شريطة أن تحصل على بعض الوقت تسترقه استراقاً من أعبائها لرؤية كين والتحدث إليه على وجه الخصوص..
تنهدت تينا وهي جالسة على صخرة بانتظار عودة كين.. عادة يعود عند انتصاف النهار ليحضر الطرائد التي اصطادها، وبقاؤها هنا كان وسيلة ممتازة للقائه بعيداً عن الآخرين وقضاء الوقت وحيدة معه.. وهو أمر بالكاد يحدث مع وجود ججي معه أغلب أوقات النهار.. تنهدت تينا مرة أخرى وهي تهمس "أين أنت يا كين؟.. لا تدعني أنتظر هكذا.."
كانت بشوق للحديث معه عوض استراق النظر إليه من بعيد كما تفعل عادة.. فهو إن لم ينشغل بتدريباته اليومية، فإنه يقضي أوقاته في مجالس الرجال يستمع لأحاديثهم وليعرف آخر الأخبار التي وصلت إليهم.. لذلك لا تجرؤ تينا على الاقتراب منه بسبب معاملة الأكاشي الدونية للمرأة وكرههم لوجودها في مجالسهم.. الوحيدة التي حصلت على استثناءٍ من هذا هي ججي، أو بالأصح جام، ولشد ما تحسدها تينا على هذا.. هي لا ترغب بأن تعامل كرجل، ولا تهتم بأمر بقية الرجال.. كل ما يهمها أن تكون قريبة من كين اللطيف وتستمع لصوته الهادئ وهو يتحدث بدون صخب وانفعال كما يفعل الأكاشي عادة..
لمحت في تلك اللحظة ذلك الحصان الذي يتقدم منها بشكل حثيث، فتلألأت عيناها وتورد خداها بشدة وهي تراقب الحصان وراكبه.. بدأ قلبها يخفق انفعالاً وخفضت وجهها بتوتر وهي تعدل خصلات شعرها الشقراء الناعمة التي تنسدل على جبينها.. ما زاد توترها اليوم هو عزمها على البوح لكين بمشاعرها.. لقد امتلأ صدرها بحبٍ قوي عجزت معه عن كتمانه ورغبت أن تفصح له عن هذا الحب بشدة.. إنها تكاد تجزم أنها يبادلها ذلك الحب.. لابد أنه يخجل من التصريح به بالنظر لشخصيته الهادئة، وهي لا تكره هذا ولا يهمها أن تكون هي البادئة.. ستصارحه بحبها، وستنال حبه بكل تأكيد..
بعد لحظة، سمعت الحصان يصهل وصاحبه يجذب لجامه لإيقافه على بعد خطوات منها، فاستدارت إليه بلهفة وانفعال لترى ذلك الحصان الأشقر الذي شاب لونه شيء من الحمرة، وعرفه الأشقر يتحرك مع تململه.. دهشت وهي ترفع بصرها للراكب على ظهره، وقد أدركت أن هذا ليس حصان كين.. فرأت رجلاً غريباً يتجاوز كين في العمر بعشر سنوات على الأقل، أسمر البشرة شيئاً ما بشعر بني أشعث ولحية كثة.. ومن بين ملامحه العابسة التمعت عيناه السوداوان الحادتان بينما برز جرح واضح على جبينه ممتداً حتى جانب أنفه..
دهشت تينا من منظره الذي أثار في نفسها بعض التوجس وهي مدركة أنه ليس من رجال قبيلتها، فتراجعت خطوة بينما قال الرجل بصوتٍ خشن "يا صغيرة.. أين الزعيم قادور؟.."
ابتلعت ريقها للحظة ثم أشارت للمخيم قائلة بصوت مبحوح "في خيمته وسط المخيم.."
لكنه لم ينطلق في طريقه بل لبث للحظة يتأملها بصمت مما أزعجها وهي تدير رأسها جانباً.. وأخيراً، سمعته يقول "إلى اللقاء يا صغيرة.."
وابتعد بسرعة على ظهر الحصان تاركاً تينا تدمدم بغيظ "من الصغيرة أيها الأعمى؟.."
كانت قد بلغت الرابعة عشر من عمرها، والفتيات في سنها يتزوجن وينجبن الأطفال ويصبحن مسؤولات عن عوائلهن.. فكيف يجرؤ هذا المعتوه على اعتبارها صغيرة؟.. إنها لا تستنكر زواجها في هذا الوقت، بل إنها تتمناه في هذه اللحظة.. تتمنى أن تتزوج من كين، وتحلم في أغلب الأوقات أن يصارحها بحبه لها وبأنه يعشقها منذ أمد بعيد.. ألن يكون ذلك رائعاً؟.. ربما هو لا يلتفت لها ويظهر عدم اهتمامه بها لأنه يخشى من أن يفتضح أمر حبه لها.. ربما يخجل من أن تلتقي عيناه بعينيها لأنها ستقرأ لهفته عليها فيهما بوضوح.. لابد أن هذا هو سبب صمته الوحيد وسبب عدم تصريحه لها بحبه الذي تكاد تقرؤه في ملامحه حتى لو هرب بعينيه منها..
بعد بعض الوقت، لاح لها كين بحصانه، فهبت واقفة بسرعة وانتظرت قدومه حتى اقترب منها وأوقف حصانه متسائلاً "ما الأمر؟.. أهناك ما جرى في المخيم؟.."
قالت بابتسامة وهي تدفع خصلة من شعرها خلف أذنها "لا.. فرغت من أعمالي وأحببت انتظار عودتك.. ربما تحتاج معاونة في الاهتمام بصيدك الذي جلبته.."
أشار كين لزوج من الأرانب ربطها من سيقانها خلفه، وقال "هذا كل ما حصلت عليه اليوم.. لقد لاحظت قدوم رجل غريب للمخيم، فأتيت لرؤيته ومعرفة سبب قدومه إلينا.."
دمدمت تينا رغماً عنها "آه.. ذلك المعتوه الذي بلا عينين.."
نظر لها بتعجب، فقالت وهي تقترب منه "تجاهل ذلك الشخص، فلا يبدو على رجلٍ أشعثٍ مثله أي أهمية.. ما رأيك بأن تصطحبني في جولة في هذا المكان؟.. أريد البحث عن بعض الأعشاب الطبية التي أوصتني بها أمي، ووجودك سيساعدني بالتأكيد.."
تساءل كين "ما الذي كان يريده الغريب من مخيمنا؟.."
قالت بضجر "يريد لقاء أبي.. أرجوك يا كين.. تعالَ معي.."
لكن كين قال وهو يترجل عن حصانه "فيما بعد يا تينا.. لابد أن الغريب يملك بعض الأخبار الهامة.."
وناولها الأرانب وهو يجر حصانه مبتعداً، فقالت تينا بغيظ "وهل أتيتُ من أجل الأرانب؟.."
وزفرت وهي تبتعد بدورها مدمدمة "تباً لذاك الرجل الغريب.. لقد أفسد يومي.."
وفي خيمة قادور، كان الرجل الغريب يجلس مع قادور الذي بدت الابتسامة الغريبة على وجهه بحيث دهش كين لها عندما ولج الخيمة.. ولما رآه الغريب ظل يراقبه بتعجب، بينما قال قادور "هذا هو كين.. أنت تذكره في صغره، أليس كذلك؟.."
تساءل الغريب بسؤال موجهٍ لكين في الأساس "أذكره، وأتعجب من استمرار وجوده في هذه القبيلة حتى الآن.. ما الذي يجبرك على البقاء وسط هذه السهول يا فتى؟.."
غمر الاستياء كين من الاستهانة الواضحة في صوت الغريب، لكنه أجاب بلهجة حيادية "أمورٌ شتى دفعتني للبقاء هنا.. وأنا لم أعُد فتىً لو لم تلاحظ هذا.."
قال الغريب "وما هي تلك الأمور؟.."
أجاب كين "لو أردت إيضاحها، لأخبرتك بها منذ البدء.."
فقال الغريب لقادور باستنكار "كيف تسمحون له بالبقاء بينكم؟.. ربما كان جاسوساً للكشميت.."
نظر له كين بضيق، بينما ضحك قادور قائلاً "لا تعبأ لما قاله يا كين.. فهو يحب التلاعب بمشاعر من حوله.."
تساءل كين بفضول لم يستطع كبحه "ومن هو هذا الغريب؟.."
أجاب قادور "هذا تبريق.. إنه أحد رجالي المخلصين، لكنه كان بعيداً في رحلة طالت بضع سنوات، ولم يعد إلا الآن.."
ثم التفت إلى تبريق متسائلاً "ما هي الأخبار التي جلبتها لي؟.. أتمنى أن يكون غيابك قد أثمر معلوماتٍ هامة ولا تكون قد قضيت تلك السنوات في السكر والعربدة.."
أجاب تبريق ملوحاً بيده "لا تقلق.. إن الحانات في المدن العربية لا تقدم إلا أسوأ نوع ممكن من الشراب.."
قال قادور بغيظ "أهذا هو العذر الوحيد الذي منعك من ذلك؟.."
ضحك تبريق معلقاً "وهل كنت تظنني أرتاد الحانات لمجرد المتعة؟.. تلك الأماكن هي الأفضل للتقصي وجمع الأخبار عن أي أمر.."
سمعا باب الخيمة يفتح في تلك اللحظة، ودلفت منه ججي قائلة بصوت تتعمد جعله جهورياً "هل استدعيتني يا أبي؟"
التفت الثلاثة إليها وقادور يقول "اقترب يا جام.."
اقتربت ججي حتى جلست قرب أبيها واضعة سيفها جوارها كعادتها.. لم تكن ججي في التاسعة عشر من عمرها تشبه الفتاة التي كانت عليها في الثالثة عشر بشيء.. فقد ازدادت طولاً حتى قاربت طول قادور، وأصبح جسدها أقوى مما تكون عليه الفتيات عادة وامتلكت ذراعين قويتين بشيء من العضلات الخفيفة لطول تدريبها الذي لا تتخلى عنه بشكل يومي، وشعرها الأحمر القصير قد استطال حتى لامس كتفيها بشكل مشابه لبقية الرجال في قبيلتها، وإن بقي غير مستوِ الأطراف وهي تقطعه بخنجرها الحاد بشيء من الإهمال.. ورغم ملامحها التي تحمل بعض جمال أمها، لكن تقطيبة حاجبيها الدائمة ونظراتها الحادة وتحدثها بصوت تتعمد خشونته جعل الأعين لا تلاحظ ذلك الجمال مطلقاً..
التفت قادور إلى ججي قائلاً "أنت تذكر تبريق.. أليس كذلك؟.. لقد أرسلته في مهمة طويلة منذ تلك المعركة التي هزمنا فيها الجيش العربي.. وقد عاد للتو من مهمته تلك.."
قالت ججي باهتمام "وما هي تلك المهمة التي استغرقت منه ست سنوات لإنجازها؟"
أجاب قادور "هذا أمرٌ لا يعرف به الكثيرون في القبيلة.. بعد انهزام الجيش العربي وعودته عبر الجبال لمملكته، خشيت أن تكون هذه خدعة من الملك حتى يحشد حشوداً أكبر ويستجلب مدداً أكبر من المدن القريبة.. وبما أن بقاءنا في ذلك الموقع من السهول كان عسيراً والقبائل تتحرق للعودة لمخيماتها التي تركتها شبه عارية من أي حماية، عندها كان الرأي الذي سيضمن به ألا يباغتنا الجيش من جديد هو في إرسال فرقة تتقصّى أمره في الجانب الآخر من الجبال.."
وأشار إلى تبريق مضيفاً "ولما استشرت تبريق بهذا الأمر، وهو من أخلص رجالي، فإنه رفض رحيل فرقة من الرجال للمملكة العربية.. ففرقة كاملة كفيلة أن تثير الانتباه وتلفت الأعين إليها خاصة مع الحرب التي انتهت وأخبارها تصل للمدن العربية كافة.. أما رحيل رجل واحد فلن يلفت الأنظار حتى لو كان من الأكاشي.."
غمغمت ججي "لكن الأكاشي لا يقومون بالتجسس على غيرهم.."
قال قادور بحزم "رغم كرهنا لذلك، لكن كان علينا أن نفعل هذا لنحمي أنفسنا من أعدائنا.. الاعتماد على الحظ وحده لن ينفعنا في مواجهة عدوٍ يعدّ العدة للهجوم علينا في أي وقت.."
التفتت ججي إلى تبريق متسائلة باهتمام "غيابك طوال هذا الوقت هو بشارة جيدة لنا.. أليس كذلك؟"
نظر له كين وقادور باهتمام مماثل، فقال تبريق "ربما.. فكما تعلمون، تراجع الملك العربي قبل بدء معركة (الليلة البيضاء) كما يطلق عليها العرب، وذلك بسبب بعض القلاقل والثورات التي حدثت قرب النهر الأبيض.. يبدو أنها قد أثارت قلق الملك فارس بشدة ليتراجع في مثل ذلك الوقت.. ومن نتائج ذلك أن تمكنا من القضاء على الجيش العربي وردعه عن سهولنا بشكل تام.."
علقت ججي قائلة "أتعني أننا لم نكن لنهزمهم لولا غياب الملك عن جيشه؟"
قال تبريق بابتسامة جانبية "لا.. لكن ذلك ساعد ولو بشكل محدود.. ومنذ رحيلي عن السهول قمت بتتبع آثار الجيش المهزوم حتى التحق بالجيش الذي يملكه الملك العربي وانضمّ إليه في مقاومة تلك الثورات التي قامت بها بعض المدن القديمة في الموقع.."
سأل قادور "وهل تمكن من ذلك؟"
أجاب تبريق "استغرقه الأمر عدة أشهر ليقوم بذلك، ثم عدداً آخر من الأشهر ليحفظ النظام ويعيّـن بعض الولاة ويعدّ جيشه من جديد.. وبعد أن انتهى واطمأن لذلك الموقع، انطلق بجيشه نحو موقع قريب من أحد الأنهار وسط القارة، ثم انشغل عندها ببناء مدينة جديدة وعظيمة.. ويبدو أنه يتهيأ لجعلها عاصمة له ومقراً لحكمه، وقد سمعت أنه أطلق عليها اسم (زهراء المدائن).."
تساءلت ججي باهتمام "أهذا يعني أنه صرف النظر عن احتلال السهول؟"
قال قادور عاقداً ذراعيه على صدره "لا أظن ذلك بتاتاً.. لابد أنه يرجئ ذلك لوقت آخر.."
فقال تبريق "ربما.. لقد ظللت أجوب المواقع القريبة من موقع الجيش وأتحسس الأخبار والشائعات التي يتداولها العامة بحثاً عن خبر يتعلق بحرب وشيكة بيننا وبينهم.. لكن الحديث كان في الأغلب حول الثورة التي قامت والمدينة التي يبنيها الملك الجديد.."
فقال كين معلقاً "لابد أنه أراد أن يؤسس ملكه ويشدّ قبضته على ما يملكه من أراضٍ بالفعل قبل أن يفكر بالتوسع في هذه المناطق.."
قال تبريق باهتمام "لقد خمّنت أنا ذلك أيضاً.. يبدو أن القلاقل التي حدثت وسط ملكه قد أشعرته بالتهديد، وبأن مملكته ليست بعيدة عن التفكك والانكسار.."
تساءلت ججي "لكن متى سيكف عن التفكير باحتلالنا وإجبارنا على الانصياع له؟.. لمَ هذه السهول بالذات؟"
أجاب قادور "لأنه يرى أن السهول ليست تحت سلطة ملك يحكمها، ولذلك فهي أرضٌ متاحة لكل من يقدر على السيطرة عليها.. لقد حاولت الممالك الشمالية فرض سيطرتها علينا والوصول لمنفذ أكبر للبحر القريب، لكنها فشلت في ذلك واقتنعت بأن هذه السهول لا يمكن أن تكون لغير الأكاشي.."
عندها قالت ججي بحماس "وسيدرك الملك العربي ذلك قطعاً.. لقد هزمناه مرة، ولن نتردد في هزيمته مرة أخرى.."
قال تبريق بهزء "هزمناه؟.. ألم تكن طفلاً وقتها؟"
نظرت له ججي مقطبة وقالت "لقد شاركت في تلك الحرب.. كنت مع الرماة، وقد أدّيت دوري كأفضل ما يكون.. ولو لم يمنعني أبي من المشاركة مع الأكاشي بسيفي، لما ترددت في خوض غمار المعركة.."
نظر تبريق إلى كين متسائلاً "وماذا عنك أيها الكشميتي.. هل شاركت في تلك الحرب أيضاً؟"
صمت كين بتقطيبة وججي ترمقه بابتسامة، ثم قالت ضاحكة "كين كان يحرس متاعنا عندها.."
ازدادت تقطيبة كين باستياء وهو يعلق "لستُ من الأكاشي، ولم يكن لديّ سبب قوي لأشارك في حرب لا علاقة لي بها.."
فقال تبريق بابتسامة "لكنك لم ترحل حتى الآن.."
نظر له كين عابساً وهو يقول "وهل تريد مني أن أفعل؟"
شعرت ججي بالضيق الذي بدا على وجه كين وبالتوتر الذي يشعر به في جلستهم هذه، فضربته بقوة على كتفه وهي تقول بابتسامة "لا داعي لهذا الانفعال.. نحن نمزح معك دون شك.."
حاول كين محو العبوس الذي يبدو على ملامحه، بينما قال قادور "لا أحد يتمنى رحيل كين.. فهو قد أصبح منا بالفعل.. وإن لا يزال رقيق القلب لا يتحمل طقوسنا الوحشية كما يصفها.."
تعالت ضحكات البقية على تعليقه بينما لم يتمكن كين من إخفاء استيائه هذه المرة.. ثم قفزت ججي واقفة وقالت "يبدو أن علينا الرحيل قبل أن ينفجر كين غضباً.. وهو أمر نادر الحدوث، لذلك لا يمكنني أن أضمن النتائج.."
نهض كين بدوره، وغادر الخيمة بصمت وججي تسير معه.. ثم قالت بعد خروجهما "هذا أمر نادر الحدوث بالفعل.. أن أراك غاضباً بهذا الشكل!.."
قال كين بضيق "بالطبع سأغضب لجعلكم إياي مادة للسخرية في مجلسكم ذاك.."
فقالت ججي ضاحكة "أتعتبر هذه سخرية؟.. كان عليك رؤية ما فعله الرجال بي عندما أعلنني أبي رجلاً.. ستعرف عندها كيف تكون السخرية مؤذية بحق.."
نظر لها كين بصمت ودهشة متعجباً من استهزائها بأمر كهذا.. لكن بدا أن ججي لا تحمل أي ذكريات مريرة بهذا الخصوص، ولم يبدُ أنها تبغض أحداً من رجال قبيلتها على ما كان منهم سابقاً.. ورغم السنوات التي قضاها مع ججي، ورؤيته لبعض تلك السخرية والإهانات التي كانت تطالها في صغرها، لا يزال متعجباً من قوة إرادتها ومرحها مع كل ما جرى..
بعد رحيل ججي وكين، قال تبريق "لقد تغيرت أمورٌ كثيرة في القبيلة منذ رحيلي.."
تساءل قادور "أي أمور تعني؟"
أجاب تبريق "قبل رحيلي، كان جام يواجه غضباً شديداً من رجال القبيلة ويتعرض للسخرية منهم بشكل يومي.. الآن، أرى أن الآخرين قد تقبلوا وجوده شيئاً ما وما عاد أمره مستنكراً.."
قال قادور بهدوء "ما يخص جام هو قرارٌ يخصني وحدي.. لذلك لا يحق لأحد الاعتراض عليه.. وجام قد أثبت أنه أفضل من كثير من شباب القبيلة، فلا يجرؤ أحد على السخرية منه بتاتاً.."
عاد تبريق يقول "لكنه بالفعل كان يواجه سخرية ومضايقات من الكثيرين.. لكن يبدو أن جام لم يكن يخبرك بشيء عنها.."
فقال قادور بحزم "لو أن جام اشتكى لي عن هذا الأمر، لكان هذا دليلاً على ضعفه وقلة حيلته.. ولم أكن لأرضى بهذا بتاتاً.."
غمغم تبريق "إذن كان من حسن حظه أنه لم يفعل.. لابد أن هذا كان اتباعاً لنصيحة مينار.."
تساءل قادور وهو يرمق تبريق "وهل شاركت أنت بتلك المضايقات والسخرية؟"
ضحك تبريق مجيباً "أتظنني سأخبرك أنني كنت كذلك بكل بساطة؟.. لكن اطمئن.. لم يكن لي دخل في الأمر، ولم يكن يهمني ما تفعله بجام.. فأنا لست من ذوي العقول المتشددة ولست أؤمن بهذا الحديث عن الشؤم الذي تجلبه المرأة.."
فقال قادور بهدوء "إذن، فزوجتيك تعيشان في نعيم بالتأكيد.."
ابتسم تبريق ابتسامة جانبية معلقاً "أتهزأ بي يا زعيم؟.."
ابتسم قادور بدوره دون أن يعلق.. ثم نظر لتبريق بجدية مضيفاً "أريدك أن تحدثني بما فعلته في السنوات الماضية بكل تفصيل يا تبريق.. وهذه المرة، لا تغفل عن أي تفصيل أو نقطة ولو بدت لك تافهة.. فلا ندري أي أمر قد يكون سبباً في تغيير حياتنا الهادئة هذه.."
************************
في ذلك اليوم، وبعد عودة كين من جولته المسائية على ظهر حصانه، وبعد أن ربط حصانه في المربط الخاص بالخيول في جانب المخيم وسار بصمت عائداً لخيمة مينار، تناهى لسمعه صوت ضحكٍ صادرٍ من الخيمة بشكل تعجب له.. ولما دلف الخيمة لاحظ على الفور تلك الرائحة الشهية التي تعبق في المكان، ثم انتبه لوجود تينا قرب النيران المشتعلة وسط الخيمة وهي تتحدث مع مينار وتضحك بتبسط.. وحالما رأته، التمعت عيناها وهي تقول "ما الذي أخّرك لهذا القدر يا كين؟.. كاد الطعام يبرد قبل أن تصل.."
تساءل كين "أأنتِ من حضّر هذا الطعام؟"
أجابت بابتسامة "أجل.. استخدمت زوج الأرانب التي أحضرتها صباحاً.. وحضّـرت لك بعض الأرز بلحم الأرانب والخضار.."
نزع كين معطفه ووضعه جانباً مع سيفه ونزع حذاءه.. كان الجو دافئاً في الخيمة مقارنة بخارجها.. فجلس كين قرب النار واغترف بعض الطعام من القدر في إناء صغير وشرع بتناوله بصمت.. ولما عيل صبر تينا وهي تراقبه منتظرة رأيه، سألته "ما رأيك؟.. أهو لذيذ الطعم؟"
رفع كين رأسه ونظر لها للحظة قبل أن يخفض بصره كعادته ويقول "بالطبع.. كل ما تطبخينه لذيذ الطعم عادة يا تينا.."
احمر خدا تينا بسرور واضح بينما غمغم مينار "لقد أخبرتك برأيي بالطعام منذ البدء.. لكن هذا لا يكفيك كما يبدو.."
قالت تينا باحتجاج "بل أنا أهتم برأيك يا مينار.. لكني خشيت ألا يعجب هذا الطعام كين.."
ونظرت لكين مطولاً وهي تقول "نحن لا نعلم نوع الطعام الذي يتناولونه في كشميت.. ربما كان طعامنا المحلي لا يناسب أذواقهم.."
علق مينار "لا يحق لكين التذمر بتاتاً، ولا أظنه يكره طعامنا بعد كل تلك السنوات.."
فقال كين "لم أقل إن طعامكم لا يعجبني.. بل إنه لذيذ حقاً.."
وأنهى ما في صحنه بينما قالت تينا باعتراض "أنت لم تأكل إلا القليل.. ألا تريد المزيد؟"
هز كين رأسه نفياً، بينما تعالى صوت ججي من المدخل وهي تقول "رائحة لذيذة.. لا تقولوا لي إن هذه رائحة الطعام الذي يحضره مينار!.."
التفت الثلاثة إليها وكين يقول بابتسامة "لا أظن مينار بقادر على تحضير طعام بهذه اللذة بتاتاً.."
فغمغم مينار بحنق "يا لك من ناكر للجميل.."
دخلت ججي دون حرج وكأنها معتادة على ذلك، وجلست قرب النار وهي تقول بشهية واضحة "أهو طعام تينا إذاً؟.. يا لك من بخيلة.. لمَ لمْ تستبقِ بعض هذا الطعام لي ولأبوينا؟"
غمغمت تينا بشيء من الكدر الواضح "هذا كان صيد كين، لذلك هو الأحق بتناوله.."
لم تعلق ججي وهي تضع الجزء الأعظم مما بقي من الطعام في صحن آخر وتبدأ بالتهامه بسرعة.. عندها علق مينار قائلاً "اذهب لمنزلك لو كنت جائعاً لهذا الحد يا جام.. أريد استبقاء بعض هذا الطعام للغد.."
قالت ججي باعتراض "أنت بخيل بما لا تملكه يا مينار.. هذا يفوق الحد.."
ابتسم كين مراقباً شجارهما الذي اعتاد عليه، بينما نظرت له تينا بكدر ثم رمقت ججي بشيء من الضيق الواضح.. كانت تتمنى لو لم تقاطع ججي جلساتها القصيرة مع كين، ففي حضورها كان انتباه كين ينتقل من تينا إلى ججي وتفشل تينا في الحصول على اهتمامه بشكل شبه تام.. لم تكن تينا تعزو اهتمام كين بججي إلا لأنها تجبره على ذلك بصوتها العالي وحديثها المتواصل وضحكاتها الخشنة.. في نظرها، فإن ججي بالنسبة لكين ليست إلا صديقاً مقرباً تجمعهما هوايات واهتمامات متشاركة.. بينما لا تتمكن تينا من الاجتماع بكين إلا للحظات قصيرة فقط كلما تسنى لها ذلك..
بعد أن أنهت ججي طعامها، انشغلت بحديث مع مينار حول بعض الأخبار التي سمعوها من تبريق هذا اليوم وتخصّ تحركات الملك العربي.. عندها وجدتها تينا فرصة للحديث مع كين وهي تميل عليه وتهمس بعينين متلألئتين "كين.. ما رأيك بأن نخرج لنسير قليلاً؟.. أكاد أختنق من هذه الخيمة الخانقة.."
نظر لها كين بشيء من الحيرة وتساءل "ألا تشعرين بالبرد في هذا الجو القارس؟"
رغم خيبتها لرده السريع، لكنها تساءلت بخفوت "هل تخشى عليّ؟"
قال كين بإخلاص "بالطبع.. أنت رقيقة ولا تتحملين هذا البرد الشديد.."
احمر خدا تينا بشدة وهي تهمس "حقاً؟"
ثم قالت بلهفة "لكن البرد لا يهمني ما دمت معك.."
ابتسم كين متعجباً من قولها، فخفق قلب تينا بقوة لابتسامته وهي تتأمل ملامحه بصمت.. بدت لها ابتسامته عذبة جميلة بشكل كبير، وما خفق له قلبها أن تلك الابتسامة كانت موجهة لها بالذات.. لها هي وحدها.. لكن قاطعتهما ججي وهي تقف قائلة "كين.. ما رأيك بنزال سريع بالسيف بعد هذه الوجبة الدسمة؟.. لا أظنني أستطيع النوم بمعدة متخمة كما أنا الآن.."
هز كين رأسه موافقاً على الفور، ونهض تابعاً ججي دون أن يعبأ ببرودة الجو الشديدة خارج الخيمة.. أما تينا، فقد وجمت وهي تراقبه بصمت وحيرة.. لماذا يتركها بعد كل ما جرى؟.. إنها لا تفهمه حقاً.. لقد حاولت مرات ومرات أن تدفعه ليبوح بمشاعره لها، لكنه لم يفعل ذلك ولا في أي مرة.. ما الذي يدفعه للهرب والمراوغة كما ترى منه؟.. أهو يخشى من غضب أبيها؟.. لابد أن ذلك هو السبب.. إنه يخشى أن يغضب زعيم القبيلة من تقرب كشميتي من ابنته وقد يعدّ ذلك تعدّياً على حرمة بيته.. لكن تينا لا تهتم لما قد يقوله أبوها، كل ما يهمها أن يبوح لها كين بما تهوى سماعه وتنتظره بشغف كل يوم..
سمعت مينار يسألها في تلك اللحظة "هل لك ببعض الشاي الساخن؟.. سيدفئ أوصالك في هذا البرد.."
غمغمت تينا وهي تنهض "لا.. لا أرغب بذلك.."
وغادرت الخيمة بصمت فقد انتفت حاجتها للتواجد في تلك الخيمة برحيل كين.. زفرت وهي تخرج لتتلقاها البرودة القوية خارجاً، بينما تناهى لسمعها صليل السيوف من موقع قريب.. هل تذهب لمراقبتهما عسى أن تسنح لها الفرصة للاختلاء بكين؟.. لكنها عدلت عن تلك الفكرة، فججي لن تسمح لها بذلك وستظل تلاحقهما بتعليقاتها وحديثها المتواصل طوال الوقت.. لماذا تشعر تينا بهذا القدر من الغيرة من ججي؟.. إنها مقتنعة أن كين لا يراها كفتاة.. فهي لا يمكن أن تبدو لأحد إلا كرجل حتى لو كانت تتصنع ذلك.. ومع ذلك، تصاب تينا بغيرة شديدة لقربها من كين وتبسطها معه بهذا الشكل..
عادت تينا تزفر وهي تقطع صفاً من الخيم باتجاه خيمة أبيها والمشاعل المتفرقة تنير طريقها، عندما سمعت صوتاً يقول بشيء من السخرية "من يرى تنهداتك هذه يظنك تحملين جبلاً من الهم على رأسك.."
التفتت بدهشة لتجد ذلك الرجل الغريب الذي عرفت أن اسمه تبريق يجلس جانباً وسيفه على ركبته.. بدا لها أنه كان يعتني بسيفه، وقد دهشت لأنه بدأ الحديث معها وهو يضيف "ما الذي يجعل فتاة صغيرة مثلك تزفر بهذه الحدة والكآبة؟"
شعرت بالضيق من جديد لنعته إياها بالصغيرة للمرة الثالثة هذا اليوم.. لم تكن بمزاج رائق للمزاح معه، لذلك قالت بشيء من الضيق "وما الذي يهمّك أنت بما أفعله؟.. اهتم بأمورك.."
ابتسم تبريق معلقاً "هذا أسلوب وقح للتعامل مع شخص أكبر منك.. ألا يمكنك إظهار بعض الاحترام؟"
قالت بسخرية "سأفعل ذلك بالتأكيد يا عماه.."
وغادرت بخطوات سريعة تاركة تبريق يغمغم بشيء من الحنق "عم؟!.. هل أبدو كبير السن لهذه الدرجة؟"
لم يكن عمر تبريق يتجاوز الثلاثين إلا بسنة أو اثنتان، ولذلك استاء من ذلك الوصف وهو ينهمك في العمل على سيفه قائلاً لنفسه "عندما غادرتُ القبيلة لم تكن تلك الفتاة إلا طفلة صغيرة.. والآن هي تهزأ بي؟.. يا للسخرية.."
************************
بعد مبارزة محدودة بالسيف في جانب من جوانب المخيم، توقف كين وججي بعد أن شعرا بالألم في ذراعيهما لذلك المجهود، وجلسا جانباً يتأملان السهول المظلمة والسكون الذي يعمّ الموقع وججي تقول "ها قد غلبتك كما أفعل في كل مرة.. متى ستكف عن إثارة مللي وتحقق بعض التغيير ولو لمرة في حياتك؟"
قال كين بهدوء "عندما تسمحين لي بذلك.. أنت قوية، وأنا لا أقدر على التفوق عليك مهما حاولت.."
تساءلت ججي "أأنت لا تقدر ذلك حقاً؟.. أم أنك تخشى غضبي لو هزمتني بالفعل؟"
علق كين "أنتِ تغضبين في كل الأحوال دون سبب لذلك.."
فقالت بتذمر "أنت لا تمتلك اللطف الكافي يا هذا.."
لم يعلق كين وهو يرمق السهول بصمت، بينما تساءلت ججي "لمَ لمْ ترحل قط يا كين؟"
تساءل بدوره "وهل كنت تتمنين رحيلي حقاً؟"
أسرعت تقول "لم أعنِ ذلك.. لكنك لم تكن راغباً بالبقاء في هذه السهول.. كنت تكرهها، وتكره الأكاشي.. ظننت أنك ستبقى معنا فترة قصيرة حتى تعثر على قافلة ترحل معها.. لكنك لم تفعل هذا قط طوال السنوات الماضية.."
هز كين كتفيه مجيباً "لم تراودني الرغبة بالرحيل عن القبيلة أبداً.."
فقالت ججي مفكرة "لكن هذا يثير تعجبي أكثر فأكثر.. ألم ترغب بالعودة قط إلى مملكة كشميت؟.. لابد أن البحث عنك قد خفت بعد هذه السنوات.. ألا تشتاق لعائلتك؟.. ألا يضايقك البقاء مع غرباء في هذه الحياة التي لطالما وصفتها بأنها قاسية ووحشية؟"
نظر لها كين قائلاً "أيسوؤك أنني قررت البقاء مع القبيلة التي أصبحت أقرب إليّ من عائلتي؟"
غمغمت ججي بدهشة "حقاً؟"
فنهض كين واقفاً وقال "كيف يمكنني أن أترك مينار وأنا أثق أنه سيكتفي بتدخين تلك الأعشاب الضارة دون الاهتمام بغذائه وصحته؟.. كيف أغادر متخلياً عن طعام تينا الذي لم أذق ما يفوقه لذة؟.."
ونظر لججي مضيفاً بابتسامة "وكيف أغادر وأنا أثق أنك لن تجدي أحمقاً يرضى بمنازلتك في ليلة باردة كهذه الليلة؟"
ابتسمت ججي بدورها وهي تنهض قائلة "أنت محق.. لقد بدأت أتجمد بالفعل.."
وضربت ذراع كين بقبضتها قائلة "سعيدة أن لديك ما يدفعك للبقاء هنا.. وكما قلت لك، لن يخيّب الأكاشي آمالك أبداً.."
وابتعدت نحو خيمة أبيها بينما وقف كين يراقبها بصمت.. ثم نظر للسهول الساكنة مغمغماً "كل ما أرجوه ألا تخيب آمالي بالفعل يا ججي.."
************************
|