كاتب الموضوع :
عالم خيال
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ابنة السماء..
الفصل الخامس {لقاء الزعماء}
في اليوم التالي، أعطى قادور الإشارة لرجاله باستكمال الرحلة نحو مخيّم طاغار، والذي يقع في موقعٍ أقرب لوسط سهول الأكاشي.. كانت أغلب قبائل الأكاشي تلجأ للترحال مع بدء الشتاء جنوباً، ثم تعود صيفاً لموقعها السابق سعياً وراء المراعي الأكثر ثراءً ونفعاً لماشيتها.. لكن قبيلة طاغار وهي الأكبر والأكثر ثراءً بين الأكاشي قد كفّت عن هذه الرحلات منذ أمد بعيد.. فهي رغم كثرة أفرادها تتمكن من تجاوز شهور الشتاء القاسية معتمدة على نفسها وثروتها في تجاوزه، وهي القبيلة الوحيدة التي سعت لبناء خيمة واسعة دافئة لاحتضان ماشيتها طوال ليالي الشتاء القارسة.. لذلك لم يكن صعباً على قادور تحديد موقعها والاتجاه إليها بعد انتهائه من أمر قبيلة (رأس الرمح) التي رفضت عرضه بشكل صريح..
في ذلك النهار، وجد الفتى ججي تقترب منه فتناوله القليل من الطعام وقربة ماء قائلة "انهض.. سنرحل حالاً.. احتفظ بما يمكنك الاحتفاظ به من الماء، فهو شحيح لدينا ولن تحصل عليه كلما رغبت به.."
تناول الفتى الطعام دون تعليق وإن بدا توتره واضحاً، ثم سألها "ما الذي جرى لرجال القافلة الثلاثة؟"
أجابت ججي "استجوبهم الزعيم وتيقن من كونهم جواسيس للملك العربي.. فأمر بقطع رقابهم جميعاً.."
سرت رجفة في جسد الفتى لهذا الخبر وشهيته للطعام تتلاشى تماماً، فدسّ الطعام والقربة في جراب الحصان الذي ناولته ججي لجامه.. كان كل ما يدور بذهنه هو ما سيفعله به الأكاشي في هذه الرحلة.. أهم سيمتنعون عن قتله حقاً؟.. وماذا سيحدث له بعد أن يتركه الأكاشي وحيداً في هذا المكان؟.. أم أن وجوده معهم أسوأ بمراحل؟.. ما عاد يدري ما الأسوأ في كل ما مر به في حياته القصيرة والتي لا تتجاوز ستة عشر عاماً..
وبعد أن امتطت ججي ظهر الغبراء، اقتربت من الفتى على ظهر الفرس وقالت "أسرع، سنرحل خلال لحظات.. ولن نتأخر لأجلك أبداً.."
نظر لها الفتى متسائلاً "إلى أين أنتم ذاهبون؟"
أجابت ججي متأملة الرجال من حولها "نحن متجهون لوسط سهول الأكاشي.. نحتاج ليومين تقريباً قبل الوصول لهدفنا.."
غمغم الفتى بتوتر "ماذا عني أنا؟.. ما الذي ستفعلونه بي؟.."
هزت ججي كتفيها مجيبة "لا شيء.."
نظر لها الفتى بدهشة وهي تضيف بابتسامة جانبية "أنتَ أنقذت حياتي، لذلك أنا أضمن لك حياتك مالم تقُم بأي تصرف متهور.. يمكنك الرحيل لو أردت.."
فغمغم الفتى بقلق "إلى أين سأذهب وأنا وحيد ولا أعرف الاتجاه السليم للوصول لمملكة وادي النسور؟.. سأتوه في هذه السهول حتى أقضي نحبي جوعاً.."
نظرت ججي حولها بصمت للحظات، ثم نظرت إليه قائلة "يمكنك البقاء معنا لو أردت.. الخيار لك.."
نظر لها بشيء من الصدمة.. يبقى مع الأكاشي؟.. قد تكون الفتاة مدينة له بحياتها، لكن أيعني هذا أنه سيكون آمناً على حياته معهم؟.. كيف يمكنه أن يتحمل البقاء مع قبيلة متوحشة لن تتردد في التهام أجزاء من ضحاياها بكل استمتاع؟..
لم يكن قد حسم أمره بعد وهو يمتطي ظهر الحصان، لكنه زفر وتبع الفتاة بصمت خلف القافلة الصغيرة.. لم يكن يملك أي خيارٍ في هذه اللحظة.. سيبقى معهم، وسيغادر عندما يتمكن من العثور على طريقة ملائمة للوصول لمملكة وادي النسور..
سمع الفتاة تسأله في تلك اللحظة "ما هو اسمك يا هذا؟.. لا أستطيع مناداتك بـ (يا فتى) في كل مرة.."
غمغم الفتى "اسمي كين.."
نظرت إليه معلقة "يبدو لي الاسم هادئاً ويناسب شخصاً مثلك.."
بدا له ذلك نوعاً من الاستهزاء، لكنه لم يملك التعليق على ذلك وهي تضيف "اسمي فا-جام.. يمكنك أن تناديني جام كما يفعل الجميع.. ومادمت معنا، عليك أن تتبع قوانيننا وأن تراقب تصرفاتك.. لا يمكنني حمايتك لو قمت بأي حماقة تغضب بقية الرجال.."
تساءل كين بعد تردد "هل جام هو اسم فتىً، أم فتاة؟"
نظرت له ججي مقطبة، ثم قالت بلهجة صارمة "حذار من إثارة غضبي أيضاً.. أنا لست فتاة ولا أسمح لك باعتباري كذلك.."
ثم أضافت وهي تدير وجهها للأمام "وعليك أن تفعل شيئاً بلكنتك السيئة هذه.. إنني بالكاد أفهم ما تقوله.."
لم يعلق كين رغم أنه مازال بدهشة من أمر هذه الفتاة بعد كل ما سمعه عن قوانين الأكاشي التي تحرّم ركوب المرأة على ظهر الخيول.. لكنه لم يتمكن من سؤالها عن هذا وما يشغل تفكيره في تلك اللحظات هو ما سيجري له مع هذه القافلة الصغيرة من الأكاشي الذين كان يخشاهم بشدة قبل أن يلقاهم بالفعل.. والآن، بعد أن التقاهم ورأى تصرفاتهم، ازدادت خشيته وتوجسه منهم أضعافاً مضاعفة..
************************
أمضى كين يومه مع قافلة الأكاشي بحالٍ يرثى له.. لم يتمكن من النوم في الليلة الماضية بعد المذبحة التي جرت أمام عينيه، وقضى ما بقي من الساعات التي تسبق الفجر مسهداً يتلفت بذعر لأي حركة أو صوت يسمعه.. وفي هذا اليوم استمر سير القافلة لوقت طويل دون راحة تقريباً حتى منتصف النهار، حتى شعر كين برأسه يتطوح يميناً ويساراً وهو لا يكاد يرى ما حوله من التعب..
ومع نهاية اليوم وإقامة رجال الأكاشي المعسكر المؤقت لمبيتهم، انزوى كين جانباً بعيداً عنهم وقبع قريباً من حصانه وهو يرتجف من البرد الذي ازداد مع حلول الليل.. ورغم تعبه الشديد، لم يكن بحالٍ يسمح له بالنوم أبداً وقلقه لم يخفت لوجوده مع تلك القبيلة المتوحشة.. حتى وصلت إليه ججي معلقة "يمكنك أن تكون نافعاً على الأقل وتشعل النار لنفسك.."
غمغم كين وهو يضم ثيابه لجسده بحثاً عن الدفء "لا أعرف كيف أفعل ذلك.."
نظرت له ججي باستنكار وهي ترمي بحزمة حطب أرضاً، ثم غمغمت وهي تنشغل بإشعال النار "من أي عالم أنت؟.. هل تشتعل النار من تلقاء نفسها في بلادكم؟"
أجاب كين بضيق "بل لدينا من يقوم بهذه المهمة عنا.."
نظرت له باهتمام معلقة "أتعني عبيداً؟.. إذن هذا يعني أنك من عائلة غنية.."
أدار كين وجهه بتوتر كبير وغمغم "الكشميت بكافة طبقاتهم يستخدمون العبيد لأداء الأعمال اليومية.."
ابتسمت ججي معلقة "ومع ذلك.. أكاد أجزم أنك من عائلة غنية بالنظر ليديك الناعمتين هاتين.."
نظر لها كين بتوتر وهي تضيف "أكاد أجزم أنك لم تستخدمهما يوماً لكسب رزقك بأي شكل من الأشكال.."
أدار كين وجهه جانباً وقال "ما كُـنْـتُـه في تلك البلاد قد انتهى.. ولا يهمك في شيء.."
قالت ججي بابتسامة "بالفعل.. هو لا يهمني بشيء.."
صمت كين وهو ينظر للنار الوليدة غارقاً في أفكاره التي سرحت به تجاه كشميت وما جرى فيها منذ رحيله عنها.. ثم زفر بيأس وهو يفكر بوضعه الحالي.. إنه موقن بأهمية رحيله عن هذه القافلة وإكمال رحلته للشمال.. لكن هل يجرؤ على فعل ذلك وحيداً؟.. لقد قلّت القوافل بشكل كبير في السهول مع الإشاعات التي تطايرت عن هجوم الأكاشي عليها لأدنى شبهة بكونهم جواسيس الملك فارس.. وهو لم يرَ قافلة أخرى في هذه الأنحاء غير تلك التي ارتحل معها منذ وصل السهول مختبئاً في قاع إحدى السفن..
اختفت ججي من الموقع ملبية نداء زعيم القافلة، والذي أدرك كين أنه أباها.. فزفر بحدة وهو يشعر بمعدته تتضور جوعاً.. إنه لا يجرؤ حتى على طلب بعض الطعام، وما منحته إياه الفتاة قد استنفذه طوال ساعات النهار.. وحتى مع حرصه على الاقتصاد، إلا أن الكمية القليلة لم يبقَ منها شيء لعشائه..
استخرج قربة الماء التي كانت معه وجرع جرعات صغيرة منها ليهدئ جوعه، ثم رفع بصره للنجوم التي تعلو رأسه وهو يزفر من جديد.. لقد اعترف أمام قادور أنه قتل شخصاً في كشميت ولذلك هو هارب منها، فهل ما فعله جريمة؟.. هل يستحق ما فعله أن يهرب من موطنه ويعبر البحر الشاسع مختبئاً في قاع سفينة ضيقة وسط الفئران والصناديق ذات الرائحة النتنة؟.. هل يستحق أن يمرّ بهذه التجربة المريعة التي عاشها في هذه السهول الدموية والتي لا يزال جسده يرتجف لذكراها؟..
لو عاد به الزمن لتلك اللحظة التي أغمد فيها خنجره في قلب ذلك الشخص، هل كان سيرتكب جريمته تلك من جديد ويعود لهذه المعاناة التي يعيشها؟.. أم أنه سيتردد ولو للحظة؟..
في ذلك الوقت، لم يراوده التردد ولو لهنيهة وعزمه يجعله يتجاهل كل نتائج عمله ذاك.. لكن الآن.. بدأت بعض الشكوك تراوده عن صحة قراره، فالجزاء الذي حصل عليه من ذلك الفعل أسوأ مما توقع بكثير..
لاحظ كين في تلك اللحظة ججي قادمة تجاهه حاملة بعض الطعام، مما هيّج جوعه أكثر فأكثر.. وبينما هي تمر قرب أحد رجال الأكاشي، والذي بدا أنه الأصغر سناً في المجموعة، انتبه كين لذلك الرمح الذي طوّح الرجل جزءه الخشبي نحو ساقي ججي بضربة قوية لم تتمكن من تفاديها.. فسقطت ججي سقطة مؤلمة رغم أنها حاولت تفادي ذلك بذراعيها، بينما أطلق الرجل ضحكة ساخرة وهو يعلق "انظروا للرجل الصغير الشجاع.. أتمنى أن تستمتع بطعامك هذه الليلة.."
دهش كين من تصرف الرجل تجاه ججي، والتي نهضت ونفضت الغبار عن ملابسها، وحملت الطعام الذي سقط على الأرض قبل أن تكمل سيرها نحوه بصمت ودون أن تبدو المهانة على وجهها لما جرى.. ازدادت دهشة كين وهو يراقب سير ججي وهي مرفوعة الرأس، وازدادت التساؤلات التي كانت تدور بذهنه عن هذه الفتاة التي تنكر كونها كذلك.. ما الذي يحدوها لفعل ما فعلته؟.. لا يبدو أن ما تفعله يجلب فخر رجال القبيلة بها، بل بدا له واضحاً أن عدداً منهم يكرهونها ببغض شديد.. وربما ما كان يمنع سيوفهم من الإطاحة بها كونها ابنة زعيمهم..
جلست ججي قرب النار ونفضت ما علق من رمال برغيف الخبز الذي أحضرته، قبل أن تناوله لكين قائلة "خذ.. يبدو أن حصتنا من الطعام تتقلص بسرعة.. عليّ النهوض باكراً صباح الغد ومحاولة صيد بعض الطرائد لئلا نهلك جوعاً.."
تساءل كين "ما كان ذلك؟!"
نظرت له بعدم فهم، فشرح قائلاً "لقد لاحظت أن الرجل تعمد عرقلة سيرك وإسقاطك.. فلمَ يفعل ذلك؟"
قالت وهي تتناول الرغيف الخاص بها "أمرٌ لا شأن لك به.."
بدا عدم اهتمامها بالحديث عن الموضوع، أو تظاهرها بعدم الاهتمام، أمراً مستغرباً كذلك.. لو كانت فتاة عادية كاللواتي عرفهن سابقاً، لتلاحقت الكلمات على شفتيها دون توقف، ولربما صاحب ذلك بعض الدموع والبكاء بشعورٍ عارم من الإشفاق على النفس.. فلمَ تتظاهر هذه الفتاة بالقوة لهذه الدرجة؟.. أهي مقتنعة حقاً أنها تستطيع أن تصبح رجلاً لو حاولت ذلك بإخلاص؟..
قرر ألا يبحث في الأمر أكثر من ذلك، وغمغم لنفسه "يبدو أن الأمور في هذه السهول ليست بالبساطة التي تبدو عليها رغم بدائية شعبها.. لكنها يمكن أن تثير التعجب والعديد من التساؤلات دون شك.."
وقضم قضمة من رغيفه الذي علقت به بعض الرمال.. لكنه في تلك اللحظة، ومع جوعه الشديد، بدا ألذ من أشهى الأطعمة التي عهدها في عالمه السابق..
************************
مع انتصاف اليوم التالي، كانت القافلة الصغيرة قد تمكنت من الوصول لوجهتها الواقعة وسط السهول.. كان مخيم طاغار هو الأكبر الذي رأته ججي، ولم تملك دهشتها وهي تتلفت حولها متأملة الخيام الأكبر حجماً من المعتاد والأكثر زخرفة وزينة مما اعتادته في قبيلتها.. كانت الماشية التي رأوها في المراعي القريبة هائلة العدد، ومن عدد الخيم التي تراها أمامها قدّرت أن تلك القبيلة مكونة مما يزيد على خمسة آلاف عائلة، وهو عدد كبير جداً مقارنة بباقي القبائل وبقبيلة (أبناء الذئاب) الذي يصل تعداد العوائل فيها لما يقارب الألف عائلة فقط..
تساءلت ججي وهي تسير بفرسها قرب أبيها "كيف تتمكن هذه القبيلة من الترحال بهذا العدد الكبير؟"
قال قادور بهدوء "طاغار هو الشخص الوحيد الذي تمكن من كسر القاعدة التي يلتزم بها الأكاشي.. فقد استقر في هذا الموقع الأكثر ثراءً في السهول لوجودهم قرب نبع ماءٍ وفير.. وبدأت قبيلته بالتوسع وبدأ يضمّ عوائل أخرى بشرط حصوله على ولائها التام.. وهو الآن، رغم أنه يقارب الثمانين عاماً، يحكم قبضته على هذه القبيلة كأفضل قائد يمكن أن يحصلوا عليه.."
قالت ججي بدهشة "لم أكن أعلم أن أمراً كهذا ممكنٌ بين الأكاشي.."
غمغم قادور "كل شيء ممكن بشيء من الحكمة وحسن التدبير.. أتمنى أن تتسع حكمة طاغار ليستوعب طلبي هذا ويقبل الانضمام إليّ.. فهو سيكون باعثاً لكثير من القبائل للانضمام إلينا دون قيد أو شرط.."
ساد الصمت أفراد القافلة الصغيرة وهم يدلفون المخيم الكبير الذي امتد لمسافة واسعة من المنطقة.. وكان كين أكثرهم صمتاً ودهشة وهو يتأمل ذلك المكان الغريب بالنسبة له.. للمرة الأولى يتوغل في إحدى مخيمات الأكاشي ويقترب من حياتهم العادية.. لذلك لم يملك فضوله وهو يتأمل كل ما تقع عليه عيناه ويحاول تفسير التنظيم الذي تسير عليه القبيلة ومستويات أفرادها ومراكزهم.. لكن، لدهشته العميقة، لاحظ أن حياة الأكاشي متساوية نوعاً ما ولا تبدو الطبقية بينهم واضحة كما هي في مملكة كشميت.. قد يملك بعضهم بيوتاً وخيماً أكبر من الباقين، وقد يملك بعضهم ماشية أكثر، لكنهم في الظاهر يبدون متساوين في اللبس والهيئة والطعام وخلافه.. وبهذا تزايد فضوله أكثر فأكثر وهو يتناسى قلقه وارتعابه الدائمين منذ فقد القافلة التي صاحبته في رحلته وسط السهول..
توقف الركب وسط الساحة التي تتوسط هذا المخيم، وترجل قادور يتبعه البقية بينما تقدم منهم رجل من رجال القبيلة قائلاً "ما هذه الصدفة السعيدة يا قادور؟.. لم نرك هنا منذ أمدٍ بعيد.."
صافحه قادور قائلاً بابتسامة باهتة "ليست صدفة بالتأكيد.. أين طاغار؟"
أشار الرجل لخيمة كبيرة قرب الساحة، وتقدمه إليها بينما أشار قادور لرجاله لينتظروه في موقعهم.. وسار يتبع الرجل حتى دخل الخيمة الواسعة والتي كانت مظلمة شيئاً ما مقارنة بالخارج.. تقدم قادور من منتصف الخيمة حيث فرش فراش بسيط قرب موضع النار التي تتوسط الخيمة كما هي العادة، ورأى على الفراش رجلاً عظيم الهامة رغم جلوسه، بلحية طويلة كثة بيضاء، وحاجبين كثين تدليا على عينيه شبه المغمضتين، بينما استطال شعره الضعيف حتى تدلى على ظهره كخيوط من صوف الأغنام..
وعند اقتراب قادور، رفع طاغار رأسه قائلاً بصوت عميق "مرحباً بك في مخيمنا يا قادور.. لقد كنت أتوقع وصولك.."
تساءل قادور وهو يقترب من مجلس طاغار "يبدو أن الأخبار تطير بسرعة هذه الأيام.."
ابتسم طاغار وقال "بالفعل.. لقد أرسلت إليّ قبيلة (رأس الرمح) تستشيرني في الطلب الذي تقدمت إليه بها.."
لم يعلق قادور وهو يجلس قرب طاغار ويضع سيفه جانباً، بينما أضاف طاغار وهو يمسد لحيته الطويلة الكثة "يبدو أنهم قلقون بشدة من العرض الذي عرضته عليهم.. يخشون أن يكون الأمر خدعة منك لإزاحتهم من طريقك، ويشكّون أن تكون لديك نوايا توسعية في السهول.."
قال قادور بضيق "ما هذا الهراء؟.."
علق طاغار "هذا كان رأيي بالفعل.. على توقعات كيراد بشأنك وعلى توقعاتك أنت بشأن الملك العربي.."
رفع قادور حاجبيه بدهشة للرفض المباشر الذي حصل عليه فور قدومه، ثم قال باستياء "كيف تتهمني بأن ما أحمله إليك مجرد هراء؟.. أنت لم تستمع إليّ بعد.."
غمغم طاغار "سأستمع لكل ما لديك بالطبع.. لكني أصرّ على أن كل تخميناتك لا أساس لها من الصحة.."
غالب قادور استياءه الشديد لهذا، وفضّل المضيّ قدماً في هذا الحديث عوض الاستسلام لغضبه والرحيل دون الحصول على مساندة قبيلة قوية كهذه.. فهو سيكون الخاسر الوحيد بهذه الأحوال.. سحب قادور نفساً عميقاً وهو يرتب أفكاره والكيفية التي سيطرح بها رأيه، ثم انطلق في الحديث يحدوه الأمل أن تحدث كلماته بعض التغيير في رأي طاغار..
بينما دار حديث طويل بين قادور وطاغار منفردين في الخيمة، فإن ججي جثت على الأرض بانتظار عودة أبيها وهي تغرز السيف أمامها كعادتها.. فجلس كين قربها وتساءل وهو يتلفت حوله "لقد سمعت أن العرب متحضرون كثيراً ويمتلكون الكثير من الأنظمة التي تنظم حياتهم.. لكنني دهشت لما رأيت الأكاشي يعيشون عيشة بداوة بصورة همجية.."
غمر الاستياء ججي لوصفه شعبها بهذه الصورة، فقالت بحنق "نحن لسنا عرباً.. لو كان الأمر كذلك، لما رأيت هذه المعارك التي تدور بيننا وبين الملك العربي.."
فتساءل "لم أكن أعلم ذلك حتى وصلت السهول.. لكن كيف لا تكونون عرباً رغم أن لغتكم هي العربية؟"
نظرت للأعلى مفكرة للحظة، ثم عادت ببصرها إليه مجيبة "مما سمعته، أن الأكاشي في الأصل ليسوا عرباً، ولهم لغتهم الخاصة بهم.. لكن مع قربهم من العرب وتعاملهم معهم، وخضوعهم لسيطرتهم في أزمانٍ قديمة، بدأ الأكاشي يفقدون لغتهم ويتخذون العربية لغة لهم لأنها الأسهل في التواصل والمعاملات.. ما بقي من اللغة القديمة الأسماء التي نتسمّى بها.."
غمغم الفتى "أليس هذا ضعفاً من الأكاشي؟"
قالت ججي بحدة وحزم "ليس ضعفاً.. الأكاشي لا يتصفون بالضعف بتاتاً.. لكنها تغيرات حدثت منذ زمن بعيد ولا يمكنك أن تتهم بها شخصاً معيناً أو قبيلة معينة.."
لمحا في تلك اللحظة قادور يقترب منهما، فقفزت ججي واقفة واقتربت منه متسائلة "كيف جرى الأمر؟"
لم يجبها قادور وعبوس وجهه يدلّ بوضوح على الرد الذي حصل عليه.. وبإشارة من يده، امتطى الرجال أحصنتهم دون تساؤل وقادور يقوم بالمثل قبل أن يوجه حصانه خارجاً من المخيم بصمت..
غلب القلق الرجال لصمت قادور وعبوسه، لكن أحدهم لم يسأل عن مغزى مغادرتهم السريعة للمخيم دون أن يرتاحوا فيه ولو لوقت قصير.. وبعد أن ابتعدوا عن المخيم وعن مراعي الماشية التابعة له، أمرهم قادور بأن يعسكروا في الموقع ويقضوا الليلة هنا..
أطاعه الجميع بصمت ودون تساؤل، ولما جلس قادور جانباً واجتمع حوله بقية الرجال، تساءل كاد "ما الذي جرى بينك وبين طاغار يا زعيم؟.. هل رفض الاستجابة لمطالبك؟"
قال قادور مقطباً "لم يرفض بشكل تام.. لكنه لم يقبل كذلك.."
نظروا له بدهشة وتعجب، فأضاف "لقد أخبرني في البدء بعدم اقتناعه بالقضية التي طرحتها أمامه.. وبعد أن استمع لكل ما لديّ ولكل ما جرى لنا مع الجواسيس، وبعد إلحاح مني ليتخذ تصرفاً حازماً إزاء هذا الأمر، أخبرني عن موافقته الجزئية على ذلك.."
تساءل كاد "وما الذي تنطوي عليه هذه الموافقة الجزئية؟"
أجاب قادور "أي أنه قَبِل بأن يمدني بالرجال والأسلحة لو اندلعت الحرب بالفعل، لكن لن يفعل قبل أن تصله أخبار عن وصول الجيش العربي لهذه السهول.. وقطعاً لن يفعل ذلك ما لم تنضمّ بقية القبائل إليّ.."
قال كاد باستنكار "وماذا لو لم ترضخ بقية القبائل كما جرى لنا مع من مررنا بهم؟"
هز قادور كتفيه بقلة حيلة وقال "رغم أنني أصررت أن يكون هو البادئ، إذ سيتبعه عدد غير قليل من القبائل.. لكنه ذكر أن هذا هو بالذات السبب الذي يمنعه من ذلك.. لا يريد لباقي القبائل أن تتبع قراراً اتخذه ثم تلومه على النتائج.."
صمت الرجال وقد غمرهم ضيق شديد لهذا الفشل الذي يقابلهم في كل موقع.. ولولا ثقتهم الكبيرة بكلمة زعيمهم وطاعتهم العمياء له، لصرّح بعضهم بيأسه من هذه الفكرة وفضّل العودة للقبيلة لمواصلة حياته العادية دون الاهتمام بما قد يجري في مستقبل بعيد لا يعرفه أحد..
في تلك الليلة، اقتربت ججي من أبيها ووقفت خلفه حيث انعزل عن البقية في جانب المعسكر.. كان مستغرقاً في تفكير عميق، ولم تفتها تلك الزفرات التي يطلقها بين حين وآخر.. عندها قالت "أبي.. ما الذي تنوي فعله الآن؟.. هل ستذهب لإقناع قبيلة أخرى بالانضمام إلينا؟.."
غمغم قادور "كنت آمل أن يُحدث طاغار تغييراً في هذا الموضوع.. لا أدري لمَ يستهين الكل بأمر ذلك الملك الذي يهدد أمننا بهذه الصورة؟!.."
تساءلت ججي "لأنه قد أمضى عشر سنوات منذ بدأ بتأسيس مملكته تلك.. أليس كذلك؟.. إنه لم ينجح طوال تلك السنوات في تخطي الجبال والتغلب على الأكاشي أبداً.. فما الذي يقلقك الآن؟"
نظر قادور للهلال الذي اعتلى صفحة السماء بصمت للحظات، فاقتربت ججي وجلست قربه قائلة "أما آن لك أن تكف عن هذا القلق وتهتم لشؤون قبيلتنا يا أبي؟"
قال قادور وهو ينظر إليها "هناك علامات تؤجج قلقي أكثر فأكثر في الشهور الماضية.. ولا يمكن لعاقل أن يغفل عنها.. أولاً هناك أمر القوافل التي كانت تمر عبر السهول في الطرق التجارية المعتادة، وأغلبها قوافل عربية.. لقد بدأت تتناقص منذ سنتين تقريباً حتى كادت تختفي رغم أن طريقها الذي يمرّ عبر السهول من أكثر الطرق التجارية أهمية في المنطقة.."
قالت ججي باهتمام "سمعت أنهم يخشون من هجوم الأكاشي عليهم واتهامهم بأنهم جواسيس.. ألم يحدث هذا مع القافلة الأخيرة التي التقينا بها؟"
أجاب قادور هازاً رأسه "لا.. عندما بدأت القوافل تتقلص، لم تكن هناك أي حوادث اعتداء من الأكاشي عليها ولم تنتشر شائعات مثل تلك قبلها.. مع اختفاء القوافل بدأنا نعثر على أنماط غريبة من القوافل والأفراد، لا تحمل بضائع ولا تسير في مسار القوافل التجارية المعتاد.. ومع البحث والتقصي أدركنا أنهم جواسيس للملك العربي وقد انتشروا في السهول كلها.. وهنا بدأ الأكاشي بملاحقتهم وقتلهم للتخلص من خطرهم وما قد يحملونه من معلومات عنا لأعدائنا.."
ظلت ججي تستمع إليه باهتمام وهو يضيف "بدأت الأسلحة والمعدات التي نملكها تتناقص بسبب تخلّي بعض التجار عن التعامل معنا ورفضهم بيعنا للمواد اللازمة لصنعها.. نحن نصنع الأسلحة بأنفسنا، لكننا نحتاج لبعض المواد والمعدات التي تمكننا من ذلك.. ونجلب أغلب ما نريده من بعض المدن القائمة في الشمال.. وهذا الرفض من أعجب ما مر بي، فكيف يتفق عدد كبير من التجار من مدن متفرقة وبعيدة عن بعضها البعض على كلمة واحدة وفي وقت واحد تقريباً؟.. ألا يدلّك هذا أن للملك العربي يدٌ في هذا لحرماننا من العون؟"
قالت ججي بدهشة "لكن ما شأن الملك العربي بتلك المدن الشمالية؟.. إنها ليست تابعة له.. أليس كذلك؟"
أجاب قادور زافراً "لكنها موالية له منذ عدد من السنين.. لذلك يمكنه الضغط على ملوكها لتسيير التجارة بما يوافق مصالحه.. ثم جاء حديث أولئك الجواسيس الذين قبضنا عليهم قرب مخيمنا لنتأكد أن كل شكوكي كانت حقيقية.."
شدّت ججي قبضتها على السيف في حزامها وهي تقول بتوتر "أأنت واثق مما تقوله يا أبي؟.. لمَ إذن يرفض الأكاشي تصديقك بهذه الصورة؟"
قال قادور بحزم "لا أدري.. لكن لن يَسَعُهُم إلا الندم عندما يهاجمهم الملك العربي وهم بغفلة من الأمر.. وأنا لا أتمنى رؤية هذا يحدث.."
قالت ججي بحماس "لا تقلق.. حتى لو فوجئنا بهجوم من أعدائنا، فنحن لن ننكسر بسهولة.. الأكاشي هم الأقوى والأكثر شجاعة بكل تأكيد.."
ابتسم قادور معلقاً "لا أشك بذلك يا جام.. لكن ليت الأمر يُحسم بالشجاعة والقوة فقط.."
قاطعهما صياح من أحد الرجال وهو يقول "يا زعيم.. هناك فرقة صغيرة من ثلاث رجال تقترب منا.."
نهض قادور وأسرع إلى البقية متسائلاً "هل علمتم هويتهم؟"
أجاب الرجل "من الصعب ذلك في هذه الليلة المظلمة.. لكن يبدو لي من خوذاتهم ذات القرون أنهم من الأكاشي.."
وقفت ججي قرب البقية تتأمل الفرقة الصغيرة التي تقترب منهم بشكل حثيث.. كانت قادمة من اتجاه معاكس للموقع الذي يقع فيه مخيم طاغار، لذلك كانوا متأكدين أنهم ليسوا مبعوثين من طرفه.. فمن هم إذاً؟..
توجس الجميع وهم يتحفزون لاستقبال هؤلاء الرجال المجهولين، حتى باتوا على بعد عدة خطوات من المعسكر فقاموا بإيقاف أحصنتهم بحدة وأحدهم يصيح "هل الزعيم قادور هنا؟"
اقترب قادور عدة خطوات وهو يتساءل "من المتحدث؟"
قفز الرجال الثلاثة من على أحصنتهم وتقدم أولهم ليركع أمام قادور قائلاً "يا زعيم.. لقد أتينا من المخيم بناءً على طلب سادر برسالة عاجلة إليك.."
تعرف قادور في المتحدث وجه أحد رجال القبيلة، فتساءل "تحدث بما عندك.."
فقال الرجل وهو يقف بتوتر "بعد رحيلكم بأيام معدودة، جاءتنا فرقة من الأكاشي ينتمون لقبيلة (نجم الشمال) المتاخمة للجبال الشرقية.. كانوا في حالة يرثى لها، ومعهم القليل من النسوة والأطفال، بالإضافة لأخبارٍ سببت لنا قلقاً كبيراً.."
تحلق الجميع حوله وهم ينصتون باهتمام وقلق كبيرين، بينما أضاف الرجل "قبيلة (نجم الشمال) قد تعرضت لهجوم غادر وقوي من جيش الملك العربي.. ورغم مقاومة رجال القبيلة بكل ما يملكونه فإن جيش الملك تمكن من القضاء على مقاومتهم والتخلص منهم بعدها وتدمير المخيم بشكل كامل.."
اتسعت الأعين بصدمة كبيرة بينما قطب قادور بصمت والرجل يضيف "لم ينجُ من هذا الهجوم إلا الفرقة التي لجأت إلينا.. وقد لجأت لقبيلتنا بالذات بوصية من زعيمهم قبل مقتله، نسبة للعلاقات المتينة بيننا وبينهم منذ سنوات طويلة.."
فقال قادور باستنكار "كيف حدث كل ذلك؟.. لقد أخبرنا الجواسيس أنه سيستغرق عدة أسابيع للوصول للجبال التي تفصلنا عنهم..!"
فقال الرجل بتوتر شديد "لم يصل الجيش بعد.. هذه فرقة متوسطة من جيش الملك العربي وصلت للسهول.."
غمغم قادور بصدمة "فرقة متوسطة فقط فعلت كل هذا؟"
ثم نظر لرجاله مضيفاً "ظني أن هذه الفرقة قد أتت للتمهيد لوصول الجيش.. لئلا يباغَت بهجوم عليه فور تخطيه الجبال وبعد رحلة منهكة سيخوضها لتجاوزه.."
قال كاد بقلق "ما الرأي الآن يا زعيم؟.. ما عاد يمكن السكوت على هذا الأمر.."
فقال قادور بحزم "نعود لما انطلقنا له.. سأتحدث مع طاغار من جديد، وهذه المرة سيقتنع بما أقوله دون جدال.."
أسرع أحد الرجال يجذب حصانه إليه، فامتطاه قادور وانطلق مع رجلين من رجاله نحو مخيم طاغار من جديد.. بينما بقيت ججي تراقبهم بقلق وشيء من الانفعال.. يبدو أن الحرب وشيكة بالفعل.. وهي بقدر خشيتها منها بقدر ما هي منفعلة لما يجري حولها من أحداث.. إن ما يجري الآن أكثر إثارة من البقاء في المخيم والانشغال ببعض الأعمال العادية التي لا تتغير أو تتبدل يوماً بعد يوم..
وفي مخيم طاغار الذي سكن مع اقتراب منتصف الليل، اندفع قادور نحو خيمة طاغار دون أن يعبأ بالرجل الذي يحرس الخيمة وقد حاول إيقافه.. وفي الداخل، رأى طاغار مجتمعاً مع بعض رجاله وقد نظروا لقادور بشيء من الاستنكار.. بينما قال الرجل الذي كان يحرس الخيمة "لقد حاولت منعه من الدخول يا زعيم.. لكنه أبى ذلك.."
تساءل طاغار بهدوء "ما معنى ما حدث يا قادور؟.. لقد أخبرتك برأيي الصريح على طلبك، فما الذي تملك قوله بعد هذا؟"
قال قادور بحزم "أتيت لأخبرك أن الرأي قد خانك للمرة الأولى يا طاغار.."
قال أحد الرجال باستنكار "ما الذي تقوله يا قادور؟.. هل أتيت للهزء بزعيمنا؟"
فقال قادور بصوتٍ أعلى متجاهلاً اعتراض الرجل "لقد أخبرتني أن رأيي بخصوص الملك العربي مجرد هراء.. شكوكٌ لا أساس لها من الصحة.."
قال طاغار "ومازلت أظن ذلك.."
فقال قادور بحزم "هذه الشكوك التي لا أساس لها من الصحة قد وصلت لحدود السهول، وهجمت على قبيلة (نجم الشمال) بغفلة منهم.. وقد أبيدت تلك القبيلة بشكل شبه كامل إلا من شراذم تمكنت من الهرب قبل أن تصلها يد الجنود العرب.."
قفز الرجال واقفين باستنكار شديد، بينما ظل طاغار ينظر لقادور بصمت لوقت طويل.. ثم خفض بصره وقال "هذا يقلب الأمور رأساً على عقب.."
فقال قادور "لقد حذرتكم من هذا.. ورغم ذلك، فقد جرى الأمر أسرع مما توقعت أنا.."
تنهد طاغار وغمغم "بهذه الحالة، لا أملك الصمت إزاء ما جرى.."
قال أحد الرجال بعد صمت "ولمَ علينا أن نعبأ لأمر تلك القبيلة؟.. لم نكن على وفاق معهم على كل حال.."
نظر له قادور باستياء وقال "أتظن أن الملك العربي قد أتى ليخلصكم من أعدائكم؟.. إنه يسعى للتخلص منا جميعاً.. إلا لو كنت تريد أن تحني رأسك للملك بمذلة على أمل أن يستبقيك على قيد الحياة.."
علق طاغار قائلاً "هذا ما لا نرضى به.. وما جرى لقبيلة (نجم الشمال) سيجري لنا بالتبعية لو صمتنا على هذا.."
ثم أشار لقادور قائلاً "اجلس يا قادور.. يبدو أن حديثنا سيطول هذه المرة.."
وفي هذه المرة، كان قادور أكثر ثقة بالنتائج التي سيحصل عليها من هذه المناقشات مع التطورات الأخيرة..
************************
مع فجر اليوم التالي، كان عدد من رجال قبيلة طاغار قد انطلقوا في مهمة محدودة ولكل منهم وجهة مغايرة للبقية.. فكل منهم حمل رسالة شفوية من طاغار إلى زعماء عدد من أكبر وأقوى القبائل في السهول، وبدعوة مؤكدة لإجراء اجتماع عاجل وسريع لا يحتمل التأجيل، مع التشديد بأن يتم الاجتماع ليلة اكتمال القمر القادم بعد ما يقلّ عن عشرة أيام..
بقي قادور معسكراً خارج مخيم طاغار رافضاً دعوته للبقاء في خيمة يخصصها له.. وقد قام بإرسال بعض رجاله في مهمة عاجلة وهي استطلاع ما جرى لقبيلة (نجم الشمال) وتحديد ما فعلته تلك الفرقة بعد احتلالها ذلك الموقع.. هل باشرت بالسير نحو موقع آخر والاشتباك مع قبيلة أخرى أم أنها فضّلت الحفاظ على موقعها انتظاراً لبقية فرق الجيش التي ستلحقها عما قريب؟..
في تلك الأثناء، كان كين منزوياً كعادته في جانب المعسكر يستمع لما يصله من أحاديث.. وقد بدا الهم والقلق أشد ما يبدو على ملامحه.. وقد علقت ججي على ذلك قائلة "ما بالك؟.. هل أفزعك ما يجري؟"
قال بقلق "أليس ذلك بديهياً؟.. الحرب على وشك أن تشتعل في هذه السهول، وأنا لا دخل لي فيها.. فما الذي أفعله هنا؟"
فقالت ججي بغير اهتمام "إذن ارحل.."
نظر لها بشيء من الضيق.. أتهزأ به؟.. بعد أن قتلوا رفاقه وتخلصوا من وسيلته الوحيدة للترحال في هذه السهول، تطالبه بالرحيل بكل بساطة؟.. إنها واثقة وتتحلى بشجاعة لأنها محاطة بجمع كبير من بني قومها، لكنه وحيد.. وحيد ولا يأمن على نفسه البقاء ولو لليلة واحدة وسط هذه السهول..
سمعها تسأله "هل تخشى الموت؟"
قال بضيق "ألا تخشينه أنت؟"
أطلقت ضحكة قصيرة وعلقت قائلة "لقد تهددت الموت بالقتل عندما كنتُ في الخامسة من عمري.."
نظر لها بدهشة وهي تضيف "لم أكن وقتها أفهم معنى الموت.. كل ما أعرفه أنني فقدت أخي الأكبر سيجان بسببه.. كنت وقتها غاضباً وحزيناً لفقده، وقد عاهدت أبي أنني سأقضي على هذا المسمى موتاً فور رؤيتي له وأستعيد سيجان منه.."
غمغم كين "أكنتِ حمقاء بهذه الصورة؟"
قالت باعتراض "كنت صغيراً جداً.. كما أنني كنت أحب أخي سيجان فهو لطيف ورفيق معي.. لذلك، لا أظنني أخشى الموت حقاً بل أخشى الهزيمة والانكسار.. وهما أمران يبغضهما الأكاشي بشدة.."
صمت كين وهو منطوٍ على نفسه.. يزداد تعجبه من هذه الفتاة في كل مرة يتحدث فيها معها، وتزداد دهشته من الأكاشي ومن حياتهم الغريبة هذه.. أن يخشى المرء الهزيمة ولا يخشى الموت.. أن يقضي حياته مرتحلاً من موقع لآخر ويبغض الاستقرار والتطور.. أن يحمل هذا الفخر بأصله وهذه الكبرياء رغم أنه شعبٌ لا يشكل إلا نقطة صغيرة في بحر شعوب هذا العالم الواسع.. ما الذي يجعل الأكاشي مختلفين بهذه الصورة؟..
ورغم الأيام القليلة التي قضاها وسطهم، فإنه لم يحصل على إجابة مقنعة لكل هذه الأسئلة..
************************
مضت أيام هادئة على المعسكر الذي أقامه قادور ورجاله على مقربة من مخيم طاغار، قبل أن يبدأ توافد زعماء القبائل الأخرى بتتابع.. ورغم أن هذا يحقق مسعى قادور الذي بذل فيه جهده مراراً، لكن ذلك لم يكن يملأ صدره بأي سعادة مع الأخبار التي تتوالى عن جيش الملك العربي..
فقد علم قادور من رجاله الذين عادوا من رحلة الاستطلاع التي قاموا بها أن الفرقة التي سبقت الجيش قد استقرت في مخيم قبيلة (نجم الشمال) المدمر بشكل كامل.. فبدا واضحاً أنها تنتظر قدوم باقي فرق الجيش لتبدأ غزو هذه السهول..
وفي اليوم المحدد، اليوم الثالث عشر من الشهر القمري، كان الزعماء المدعوون قد اكتملوا وعسكروا في جوانب قريبة من مخيم طاغار.. وفي تلك الليلة، توجه قادور لحضور الاجتماع مع رجلين من رجاله تاركاً البقية في المعسكر، فوجد المخيم وقد ازدحمت ساحته بجماعات من مختلف القبائل التي صاحبت زعمائها في هذا الاجتماع غير الاعتيادي.. كان مثل ذلك الاجتماع نادر الحصول، إن لم تكن هذه هي السابقة الأولى في تاريخ الأكاشي.. ففي المعتاد لا يجتمع أكثر من ثلاثة زعماء معاً لمناقشة أمر حرب من الحروب الدائمة بين القبائل أو للتوصل لمعاهدة جديدة تجمع بينهم وتؤلف حلفاً جديداً يقوّي أواصر العلاقة بينهم..
وعندما التقى قادور بكيراد، زعيم قبيلة (رأس الرمح) في ساحة المخيم، قال الأخير بضيق "هل نجحت في التأثير على طاغار بكلماتك يا قادور؟"
قال قادور تعليقاً على ذلك "أتظن أنني لفّقت أمر ذلك الهجوم لأقنعه بهذا الأمر؟"
لم يجب كيراد وهو يتجه إلى خيمة طاغار تابعاً من سبقه من الزعماء، وعددهم لا يقل عن عشرة رجال، فتبعه قادور داخلاً الخيمة التي عبقت برائحة الشاي العطري التي لم تفلح في إزالة رائحة دخان الأعشاب التي يدخنها بعض الرجال بغلايينهم.. فجلس قادور في موقعه ملاحظاً الاستياء على أغلب الزعماء وقد اضطر بعضهم للجلوس في موقع واحد مع أحد أعدائهم، أو ضيقهم من نجاح قادور في جمعهم رغم رفضهم السابق والصريح له.. وأخيراً تحوّل انتباههم إلى طاغار الذي قال بصوته المتحشرج "لابد أن الاستياء يغمركم لهذا الاجتماع الغريب، فبعضكم لا يحاول إخفاءه من وجهه.. لكن آن الأوان لنجتمع ولو لمرة واحدة على كلمة واحدة.. فنحن نواجه خطراً كبيراً كنا نتفادى التفكير به لسنوات طوال.. لكن ما جرى لا يمكن السكوت عليه.."
ثم أضاف مقلباً بصره بين الزعماء "أنتم تعلمون أنني أحاول جمعكم على كلمة واحدة منذ أكثر من ثلاثين عاماً.. لكن عناد الأكاشي مشهور ولا يمكن التغلب عليه.."
فقال أحد الرجال باستياء "كنت تريد جمعنا تحت زعامتك، ولم ترضَ بالتخلي عنها.. فكيف تتهمنا بالعناد وأنت تفوقنا في ذلك؟"
قال طاغار بهدوء "لو كنت أعلم أنك تمتلك بعض الحكمة يا براد لولّيتك الزعامة دون تردد.."
أمسك براد سيفه الذي وضعه جانباً وقال بغيظ "وهل أتيتُ هنا لتهزأ بي؟"
أمسك أحد الرجال يده لتهدئته بينما قال طاغار "لا.. بل أتيتكم أنا بدعوة واضحة لنسيان خلافاتكم وعداواتكم التي لا تهدأ للحظة.. فهل يمكنكم ذلك؟"
ساد الصمت الرجال دون أن يبدو الاقتناع على الوجوه، فزفر طاغار بحدة وقال بصوتٍ أعلى "حسناً.. إليكم رأيي في الأمر.. إن لم تجتمعوا اليوم على كلمة واحدة، فلا سلطة لأحد عليكم.. لكن عندما تواجه قبيلة كل واحد منكم هجوماً من الجيش العربي وتتم إبادتها إبادة تامة، فنحن نرفض المعاونة في صدّ هجومهم عنكم ونرفض استقبال من يهرب من تلك القبيلة ليلجأ إلينا مستغلاً ما نملكه من خيرات ومستفيداً من الحماية التي سيحصل عليها معنا.. أيكون هذا الحل أكثر ملائمة لعقولكم؟.."
فقال قادور "لا أظن الأمر الذي ندعو إليه بهذا السوء.. نحن لا نريد منكم مالاً ولا نريد التدخل في أموركم.. نريد أن تجتمع القبائل على كلمة واحدة وتسيّر رجالها في جيش واحد لمواجهة الجيش العربي.. كل قبيلة تدافع عن نفسها وعن مركزها وكل ما تملكه، وهذا سيكون الدافع الوحيد لكم للانضمام إلينا.."
فقال براد دون أن يخفي استياءه "ولمن ستكون قيادة الجيش ذاك؟.. لك أم لطاغار؟"
قال طاغار "أنا لن أتمكن من المشاركة، فكما تعلمون لم أعد قادراً على امتطاء ظهر حصاني.. لذلك سأرسل من ينوب عني من الرجال.."
فقال قادور "منعاً لنشوب أي خلافات، وهي لابد ستطفو في حلفٍ غير مسبوقٍ بين الأكاشي مثل هذا، فأنا أرى أن نقوم بتعيين أربعة منا لقيادة هذا الجيش، على أن تتم القرارات فيه بالتشاور ولا ينفرد بها أحد.."
التفت طاغار حوله معلقاً "هل هذا يرضيكم؟.. أنتم تعلمون أننا لا نملك وقتاً طويلاً للتشاور في الأمر.. فقد مرّت عدة أسابيع منذ حدث ذلك الهجوم، ولا نعلم أين وصل الجيش العربي الآن.."
قال قادور "لقد أرسلت فرقة من رجالي لمراقبة الجيش وإبلاغنا بتحركاته.. حتى الآن هم معسكرون في مخيم قبيلة (نجم الشمال)، ولو قاموا بأي تحرك فسيصلنا خبرهم بأسرع ما يمكن.."
غمغم طاغار "حسناً فعلت.."
فقال براد بضيق "تبدو لي موالياً لقادور وتحابي كل ما يفعله يا طاغار.."
قال طاغار بصرامة "لأنه لم يفعل إلا الصواب.. ما السيئ في خضوعكم لاتفاقٍ واحد لمرة على الأقل؟.. إنه لن يخدش كبريائكم المزعوم بأكثر مما سيفعله الجيش العربي عندما يدمر مخيماتكم ويسبي نساءكم ويقتلكم شر قتلة.."
تلفت كيراد حوله في وجوه الزعماء الذين بدوا في صراعٍ حول قبولهم هذا الأمر أو رفضه، ثم قرر أن يكون هو البادئ، فاعتدل في مجلسه ووضع سيفه أمامه قائلاً "أنا أثق بك يا طاغار وأثق برأيك السديد دائماً.. قادور أيضاً رجل ذو حكمة نعرفها تمام المعرفة.. لذلك، سيكون سيفي وسيف رجالي تحت تصرفكما ما لم يؤدِّ الأمر لخضوع قبيلتي لأي قبيلة أخرى.."
فقال طاغار "وأنا أضمن ألا يتم ذلك.."
تطلع بقية الزعماء في وجوه بعض بصمت، ثم بدأوا بالموافقة على المشاركة واحداً تلو الآخر.. فما يعرفه الأكاشي حق المعرفة، أنهم رغم قوتهم وشجاعتهم لا يمكنهم أن يواجهوا جيشاً كبيراً كجيش الملك العربي فارس.. كما أن الإمكانيات الضعيفة التي يملكونها، وخذلان التجار لهم في السنوات الماضية قد أضرّ بهم بشكل أكبر مما قد يتخيله المرء..
وبعد أن تأكد طاغار أن القبائل العشر، ومن يواليهم من القبائل الأخرى، قد استقرت على رأي واحد، قال للزعماء الماثلين أمامه "لدينا يومان اثنان لنستقر على رأي واحد بخصوص هذه الحرب الوشيكة.. أريد أن أعرف كم رجلاً ستقدم كل قبيلة وكم سيفاً ودرعاً يمكنها توفيره.. من سيتكفل بالمؤونة ومن سيتقدم لتجهيز الموضع الذي سيعسكر فيه الجيش دون أن نفاجأ بهجوم غادر من الأعداء.. يجب أن نتفق على كل أمر مهما كان صغيراً قبل أن يعود كل زعيم لقبيلته فيحشد رجاله ويلتقي بالبقية في الموقع الذي سنحدده الآن.. لا نريد أن نغفل عن أي أمرٍ قد يسبب الفرقة والشقاق في صفوفنا قبل أن نهزم عدونا ونبعده عن أرضنا وللمرة الأخيرة.."
هز الرجال رؤوسهم موافقين قوله، فأضاف وهو يرفع يده بكوبه "فليكن اجتماعنا على كلمة واحدة في هذا اليوم هو بداية لاتحاد الأكاشي جميعهم في مستقبلٍ قريب.. هذا ما تمنيته منذ زمنٍ طويل ومازلت أتمناه وأرجوه.."
غمغم قادور وهو يرتشف رشفة من كوبه "أنت متفائلٌ يا طاغار.."
ابتسم طاغار معلقاً "التفاؤل خيرٌ من غيره بالتأكيد.."
************************
|