كاتب الموضوع :
عالم خيال
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ابنة السماء..
الفصل الرابع {المعركة الأولى}
في اليوم التالي، وبعد نومٍ عميق حصلت عليه ججي للمرة الأولى منذ غادرت المخيم في رحلة اختبار القدرات ذاك، نهضت دون أن يوقضها أحد وهي بنشاطٍ تام وغسلت وجهها قبل أن تسرع لارتداء ملابسها وتتوجه إلى النار التي أشعلتها الأم وسط الخيمة.. فجلست قريبة وتناولت منها كوباً من الحليب الساخن المحلّى بالعسل والأم تقول لها بابتسامة "هذه المرة الأولى التي أجدك فيها تنهضين دون أن أضطر لإيقاظك عدة مرات.."
قالت ججي بحزم "لأنني نمت بعمق البارحة.. ومنذ اليوم، لن تحتاجي لإيقاظي مجدداً يا أماه.. فلا تقلقي لأمري.."
قالت ستينا بأسى "كيف لا أقلق لأمرك مع تلك الهالات السوداء التي تبدو واضحة تحت عينيك والشحوب الشديد الذي يبدو على وجهك؟.. لقد أمضيت الأيام الماضية بقلق شديد ورعب غامر مما يحدث لك وأنت وحيدة وبعيدة عن المخيم، ولم أصدق عيني عندما رأيتك تدخلين الخيمة البارحة قطعة واحدة.."
لم تعلق ججي بينما استمرت ستينا في تذمرها وهي تناول تينا ذات الثمانية أعوام بعض الخبز الذي غمسته في العسل.. وبعد أن أنهت ججي فطورها، وتبادلت حديثاً قصيراً مع أمها عن أيامها الماضية، فإنها أسرعت تحمل سيفها وتغادر الخيمة نحو مجلس أبيها الذي يتخذه عادة وسط المخيم.. مع سماحه لها بالجلوس على بساطه، فإن هذا كان إذناً لها بالاقتراب من مجلسه والمشاركة في الحديث الدائر بين رجاله.. لذلك كانت ججي بلهفة شديدة للانضمام إليهم اليوم عوض الانزواء وحيدة في جانب المخيم والتدريب دون توقف كما تفعل عادة..
لدى وصولها للموقع الذي يجلس فيه قادور عادة مع رجاله، ويتحلق حوله بعض الرجال الأقل سلطة في القبيلة، رأت قادور يشير لها لتقترب منه.. ولما فعلت، ووجدته يشير إلى البساط الذي يجلس عليه في دعوة واضحة، لاحظت على الفور نظرات الاستنكار والبغض من العيون المحيطة بها.. وسمعت أحد الرجال الجالسين قرب قادور يقول باعتراض "أنت لست جاداً في هذا يا قادور!.."
نظر له قادور متسائلاً بهدوء "جادٌ في ماذا؟"
أشار الرجل لججي معلقاً بحنق "في السماح لـ... لابنك في الجلوس على البساط مع كبار رجال القبيلة.. الفتية مكانهم......."
قاطعه قادور قائلاً بصرامة "جام رجل.. لا يمكنك أن تعتبره أحد الفتية الذين لم يتمّ إعلانهم رجالاً بعد.."
قال الرجل بضيق دون أن يعبأ بصرامة قادور "وهل أصبح جام رجلاً حقاً؟.. نحن لم نرَ ما فعله، وكل ما عرفناه هو من حديثك أنت.. فكيف تريد منا أن نقتنع بما تقوله؟"
نظر له قادور والغضب يتنامى في ملامحه، عندها استدركت ججي قائلة "لا يمكنني الجلوس على البساط يا أبي.. سأبقى واقفاً مع البقية.."
فقال قادور بغضب "الأمر لم يعُد يتعلق بك يا جام.. إن كبران يشكك في كلمتي، فكيف يمكنني أن آمنه على أوامري وهو يشكك بها بشكل صريح أمام رجال القبيلة كلها؟"
توتر كبران بشدة بينما شعرت ججي بقلق شديد.. إن مسألة تعتبرها تافهة كمسألة جلوسها على البساط يمكنها أن تثير فتنة بين رجال القبيلة.. فكيف يمكنها تفادي ذلك؟.. لو جرى أي أمر يمسّ القبيلة، فسيتزايد بغض الرجال لها ولن تقدر على أن تأمن حياتها بينهم.. فما الذي يمكنها فعله؟..
سمعت كبران يقول بضيق "لم أعنِ ذلك يا قادور.. لكن جام، مهما كان المركز الذي حصل عليه، لا يمكنه أن يساوي كبار رجال القبيلة.. أنت تبخسنا حقنا بهذه الطريقة وتقلل من شأن خدمتنا الطويلة والمخلصة لك.."
فقال قادور بحدة "لا شأن لهذا بذاك يا رجل.. أنا أتحدث عن استهزائك الواضح بقولي، وهذا ما لا يمكنني أن أغفره لك.."
قال كبران بحنق "لم يكن هذا ما حدث الآن.. فلا تحمّل الأمور أكثر مما تحتمل......."
قطع حديثه مع تقدم أحد رجال الأكاشي راكضاً من مجلسهم عبر الخيم القريبة، ولم يلبث أن تقدم من قادور فانحنى عليه وتبادل معه حديثاً هامساً لوقت قصير.. وسرعان ما انتفض قادور واقفاً بتقطيبة شديدة، بينما تحفز رجال القبيلة حوله دون أن يعرفوا السبب الذي لأجله بدا الانفعال على وجه زعيمهم بعد حديثه الهامس مع الرجل.. وبينما تنحّى الرجل الذي قدِم لتوّه، فإن آخرين قد اقتربوا من موقع الزعيم وهم يدفعون ثلاث رجال غريبي الهيئة أمامهم.. دققت ججي في وجوه الرجال الثلاثة محاولة معرفة هويتهم، لكن كل ما تبينته أنهم ليسوا من الأكاشي، رغم محاولتهم ارتداء ثياب مشابهة لثيابهم..
وبعد وصول المجموعة إلى قادور، أجبر الأكاشي الرجال على الركوع أرضاً خافضي الرؤوس.. فقال قادور مواجهاً رجاله "أين عثرتم عليهم؟"
تقدم أحد الأكاشي قائلاً "عثرنا عليهم عند حدود مخيمنا وظللنا نراقبهم لبعض الوقت حتى تأكدنا أنهم يتجسسون على مخيمنا هذا بالذات.."
نظر الرجال بغضب شديد نحو الجواسيس ممتقعي الوجوه.. ثم تقدم منهم قادور قائلاً "من أنتم؟.. ومن أرسلكم للتجسس على مخيمنا هذا؟"
رفع أحد الجواسيس رأسه قائلاً بتوتر "لسنا جواسيس.. نحن عابري سبيل......"
فاجأته لطمة من أقرب الرجال إليه، بينما قادور يقول "نحن لا نتهاون مع الكاذبين.. نحن موقنون أنكم جواسيس للملك العربي، والكذب لن يفيد إلا في جعل نهايتكم أسوأ بمراحل.."
نظر الجواسيس لبعضهم البعض نظرة مذعورة، بينما قال قادور بشدة "ما هي مخططات الملك العربي؟.. إنه لم يرسلكم للسهول بهذه الكثافة كما يجري في الشهور الأخيرة إلا لأنه ينوي غزو السهول بجيوشه.. أليس كذلك؟"
تبادل الجواسيس النظرات الحذرة، ثم قال أولهم بصوت متوتر "نحن لا نعلم عن هذا شيئاً.. إنما نحن عابري سبيل افترقنا عن قافلتنا، ووجدنا أنفسنا في هذه الأنحاء.."
نظر قادور لأحد رجاله قائلاً "اقطع لسانه.."
اتسعت عينا الرجل بارتعاب، بينما أمسك أحد الرجال ذراعيه خلف ظهره بيد وأمسك رأسه ليثبتها باليد الأخرى.. وبين صياحه المرتعب، والنظرات المفزوعة من الرجلين الآخرين، قام رجل آخر من رجال قادور بسحب لسان الرجل وقطعه بسرعة ودون ترفق بخنجر صغير يملكه.. ارتمى الرجل أرضاً وهو يمسك فمه بألم بينما الدماء تتصبب من بين أصابعه المرتجفة ممتزجة بدموعه الغزيرة.. لكن أحداً لم يعبأ به وقادور يضيف للرجلين الآخرين "والآن.. أريد الحقيقة دون كذب أو مداراة.. واعلما أن عقابكما لن يكون أهون مما حصل له.."
قال الرجل الثاني بارتجافة "ولكن....."
لكن الثالث اندفع قائلاً بصياح منفعل "لا تفعل هذا أرجوك.. سأخبرك بكل ما أعرفه.."
نظر له الثاني مصعوقاً وقال بحنق "ما الذي جرى لك؟.."
قال الثالث بنظرات زائغة "لا أريد أن أتعذب دون سبب.. أنا لا أقوى على تحمل ذلك.."
صاح به الثاني بحدة "لقد تطوعت لهذا ملء إرادتك.. فلمَ هذا الجُبن الآن؟"
أجاب الثالث بغضب "تطوعت؟.. تقصد أجبرت على ذلك بعد أن رفض أغلب الرجال القيام بهذا العمل.. أنت تدرك قسوة الأكاشي، ولهذا السبب بالذات انسحب أغلب الرجال من هذا العمل رغم كل المغريات.. إنهم......."
قاطعه قادور بصرامة وبصوتٍ أعلى "ما هي مخططات الملك العربي؟.. أخبرني بكل ما تعرفه بالتفصيل.."
نظر الرجل الثالث لرفيقه بارتجافة، ثم قال بصوت ينتفض "الملك فارس قادمٌ على رأس جيشٍ كبير إلى هذه السهول.. وقد أرسلنا لاستطلاع أمر قبائل الأكاشي والبحث عن أضعف ثغرة تبيح له التقدم في السهول قبل خوض أي حرب معكم.."
نظر له الرجل الثاني باحتقار وهو يغمغم "أيها الخسيس.."
فقال الثالث "يمكنك أن تشتمني كما تشاء.. لكن لن يمكنني الرد على شتائمك هذه بلسانٍ مقطوع.. أليس كذلك؟"
لم يعلق الثاني وهو ينظر لرفيقه الذي ظل ينتحب ووجهه منقبضٌ بألم شديد دون أن يحاول شخص إيقاف نزيف جرحه.. بينما تساءل قادور "ما هو عدد جنوده وما هو عتاده؟.. ومتى تتوقع أن يصل لهذه السهول؟.. من أي موقع بالضبط؟"
قال الثالث بتردد "لا أعرف عدد جنوده، لكنهم لا يقلون عن خمسين ألف جندي.. وعتادهم متنوع بين البنادق والمدافع الثقيلة والسهام والسيوف بطبيعة الحال.. أما موعد وصوله لهذه السهول......."
وتلفت حوله بشيء من القلق قبل أن يضيف بتردد "لا نعرف الموعد بالضبط، لكن سيستغرق منه الوصول للجبال الشرقية عدة أسابيع على الأقل.. وبعدها، يعتمد وصوله للسهول على سرعة جنوده في قطع الجبال وعلى مقاومة سكان الجبال له.."
نظر رجال القبيلة لبعضهم البعض بقلق وصدمة لهذا الخبر.. بينما قطب قادور بشدة وهو يسأل "من أي موقع بالضبط؟"
أسرع الرجل يقول "لا أعلم بالتحديد.. لكنه قرر أن يستغلّ أضعف نقطة من السلسلة الجبلية التي تفصل السهول عن باقي مناطق القارة العظمى.. أظنه سيستهدف الجزء الجنوبي منها والذي يلتقي بالبحر.."
أطرق قادور مفكراً والجاسوس يتلفت حوله بقلق شديد.. ولما طال صمت قادور، قال الجاسوس بتوسل "والآن، بعد أن أخبرتك بكل ما لدي، ألن تطلق سراحنا؟.. نحن مجرد تابعين ولا نشعر ببغضٍ للأكاشي.. لقد أرغمنا على القيام بهذا العمل.."
نظر لهم قادور بصمت والرجل يضيف بإلحاح "لو أطلقت سراحنا، فنعدك ألا نعود أدراجنا للملك فارس.. سنهرب لإحدى الممالك الشمالية، ولن ننقل أي أخبار عن الأكاشي لملكنا أبداً.."
رمقهم قادور بصمت، ثم قال لرجاله "نفذوا مهمتكم يا رجال.."
لم يتساءل الرجال عن مغزى تلك المهمة، بل استلّ كل رجل منهم سيفاً وطوّحه بسرعة نحو عنق أحد الرجال الثلاثة الراكعين أرضاً والذين لم يدركوا مغزى ما قاله قادور.. وخلال لحظة، تدحرجت الرؤوس الثلاثة أرضاً بينما سقطت الأجساد الهامدة جانباً..
لم يعترض شخص من رجال القبيلة أو يبدي استنكاره لما جرى.. فقد جرت العادة بين الأكاشي على قتل الجواسيس فور رؤيتهم وحتى لو كانت الشبهة المحيطة بهم لا تتجاوز الشك.. ولولا وصيّة قادور لرجاله بجلب الجواسيس إليه لاستجوابهم لتمّ قتلهم فور القبض عليهم خارج المخيّم.. وخلافاً للمعتاد، لم يلجأ أي رجل من الأكاشي لالتهام أي جزء من أجساد الجواسيس المقتولين.. فالأكاشي لا يعتدّون بالجواسيس ولا يعتبرون أنهم قد يحصلون على أي قوة من التهام أي عضو من أعضائهم، بل يعاملونهم معاملة أقرب للاحتقار والدونية..
ولما هدأ المكان، التفت قادور إلى أقرب رجاله وأكثرهم تأثيراً في القبيلة وقال "هذا يستدعي منا اجتماعاً عاجلاً يا رجال.. فلنتوجه لخيمتي لنعرف ما علينا تقريره في هذه المسألة.."
لم يخالفه أحد الرجال وعددهم لا يقل عن خمس، وسرعان ما اجتمع الرجال مع قادور في خيمته بعد أن غادرتها ستينا مع تينا.. بينما لم تتردد ججي في اللحاق بهم والبقاء في جانب الخيمة لتنفيذ أي طلب يطلبه منها قادور، وفي الحقيقة كانت تريد أن تروي فضولها مما سيدور من حديث بين الرجال بشأن هؤلاء الجواسيس.. ولما لم تجد اعتراضاً من قادور عندما تبعتهم، فإنها وقفت بصمت في جانب الخيمة البعيد بانتباه شديد.. بينما تحلّق الرجال حول موقع النار التي كانت مطفأة في ذلك الوقت، ولما استقر الجميع ابتدرهم قادور قائلاً "ما رأيكم بما جرى اليوم؟.. لقد تجاوز الأمر الحدّ هذه المرة.. نحن نبعد مئات الأميال عن الجبال الشرقية، ووصول الجواسيس لهذا الموقع يستدعي تصرفاً حازماً منا هذه المرة.."
تساءل أحد الرجال الأكبر سناً في القبيلة "ما الذي تقترح علينا فعله؟.."
قال قادور "ما الذي تقترحونه أنتم عليّ؟.."
قلب رجل آخر كفيه مجيباً "وما الذي يمكن فعله حقاً؟.. لقد تم قتل الجواسيس، وهذا كفيل بتخليصنا من خطرهم.. ألا يكفي هذا؟"
قطب قادور قائلاً "هذا مجرد حلٌ مؤقت لا يلغي الخطر الحقيقي.. ألم تسمع ما قاله؟.. الملك العربي قادم بجيوشه لهذه السهول.. لا يمكننا أن نقبع في مخيماتنا وننتظره بسكون.."
قال أحد الرجال "ما الذي يدعوك لتصديق هذا القول حقاً؟.. ربما حاول ذلك الجاسوس تهديدنا لكي لا نقوم بإيذائه.."
علق قادور "ألم تدرك أن إقراره بكونه جاسوساً هو أكبر خطر على حياته؟.. ما الذي سيجنيه من تلفيق هذه الحكاية عن الجيش العربي الذي يتقدم منا بشكل حثيث؟"
فانبرى رجل آخر يقول "يمكننا أن نرسل رجالاً من القبيلة لتقصّي الأمر.. بهذه الطريقة نتأكد من هذا الخبر قبل أن نتخذ أي قرار.."
قال قادور بضيق "مثل هؤلاء الرجال سيستغرقون وقتاً طويلاً وثميناً لجلب مثل تلك المعلومات إلينا.. من الخطر لجوؤنا للسكون في مثل هذه الأوقات.. علينا التصرف بسرعة، وعلينا التصرف بحزم.."
تنهد الرجل الأكبر سناً بينهم، ثم تساءل "هل سترسل رجالك مرة أخرى لزعماء القبائل القريبة محاولاً استمالتهم من جديد؟.. لقد فعلتَ ذلك عدة مرات وجوبهت بالرفض في كل مرة.."
نهض قادور قائلاً بحزم "بل سأذهب بنفسي لتحقيق هذا الأمر.. فلن يقدر زعماء القبائل الأخرى تجاهل هذا الأمر لو واجهتهم بنفسي.. والأمر بين أيدينا لا يحتمل المماطلة والتسويف.. سآخذ نخبة من رجالي وسأرحل فجر الغد.."
ونظر لأحد الرجال مضيفاً "ستكون أنت المسؤول عن القبيلة يا سادر.. سأستأمنك عليها وأتمنى أن تكون عند حسن ظني بك.."
تساءل سادر "كم سيطول غيابك في تلك الرحلة؟"
أجاب قادور "لن يقل الأمر عن عدة أسابيع على الأقل.. لكن أتمنى ألا يطول أكثر من ذلك.."
وابتعد عن الرجال نحو مخرج الخيمة ليلاقي ججي التي وقفت جانباً تستمع لما يقال، ولما وصل إليها ورأى التساؤل الذي يطل من عينيها وهي تمسك سيفها بتحفز، قال بهدوء "أعدّ العدة لرحلتنا هذه يا جام.. ستصحبني فيها بالطبع.."
التمعت عينا ججي بلهفة، ولم تتوانَ عن تنفيذ أمره في اللحظة ذاتها بكل حماس.. لقد تمنّت بشدة أن يصطحبها معه في رحلته هذه، ولكنها خشيت من طرح الأمر عليه بنفسها.. لكنه لم يتركها بحيرتها طويلاً وها هو يعرض عليها مصاحبته في هذه المهمة.. فكيف لها أن تكون أسعد من هذه اللحظة؟..
************************
تنهدت ججي بعد أن انتهت ذكرياتها إلى حيث بدأت هذه الرحلة التي هم فيها.. منذ بدأت رحلتهم هذه، والتي استغرقت منهم حتى الآن ستة أيام، اجتازت المجموعة الصغيرة والتي لا يتعدى عدد أفرادها عشرة رجال الجانب الشرقي من السهول.. وقد مروا بقبيلتين بالفعل قبل وصولهم لقبيلة (رأس الرمح) والتي لاقتهم بالرد ذاته كما جرى مع القبيلتين السابقتين.. زفرت ججي وشيء من الضيق يعتمر صدرها لكل ما سمعته اليوم، من رجال قبيلة رأس الرمح ومن رجال قبيلتها هي.. لماذا، بعد كل هذه السنوات وبعد كل ما فعلته لتثبت ما أصبحت عليه وما تستحقه بين رجال القبيلة، ما تزال تسمع التعليقات ذاتها وما تزال تواجه بالرفض ذاته؟.. هل ما تفعله أمر مستنكر لهذا القدر؟.. ألا يرون فيها أي شيء إلا كونها (امرأة)؟!.. ألن يقبلوها بينهم أبداً مهما مرت السنوات عليها وهي تحاول الاندماج بهم؟..
انتبهت ججي من سرحانها على صوت أحد الرجال الذي اقترب بخطوات سريعة وهو يقول لقادور "هناك قافلة مجهولة الهوية في موضع قريب.. لا يبدو عليهم أنهم تجار، وأخشى ما أخشاه أن يكونوا جواسيس آخرين للملك العربي.."
اعتدلت ججي جالسة تستمع لما يقال بينما تساءل قادور "كيف أدركت ذلك؟"
أجاب الرجل "القافلة لا تحمل أي نوع من البضائع إلا زاد أفرادها، ومكونة من الرجال فقط.. لا أعلم وجهتهم، لكننا بعيدون عن مسار القوافل التجارية القديم.."
غمغم قادور "أتظن أنهم ينوون تجاوز الجبال نحو مملكة ذلك الملك العربي؟.."
أجاب الرجل "أو ربما هم قادمون منها نحو السهول متخفين بشكل قافلة عابرة.."
صمت قادور محاولاً تقليب خياراته، فأضاف الرجل "لا يمكننا أن نتجاهل أمرها.. كما قال الجاسوس الذي قبضنا عليه قرب القبيلة أن الجيش يتقدم نحو السهول.. لذلك لا يمكننا أن نتجاهل أي جواسيس محتملين قد يحملون أخباراً عن قواتنا وتحركاتنا للملك العربي.."
فقال قادور "لكن هذه شكوكٌ لم تتثبتوا منها.."
فقال الرجل "هناك أمرٌ آخر.. لقد رأينا أثناء مراقبتنا لهم أن ثلاث رجالٍ منهم قد انفصلوا عن القافلة لبعض الوقت.. غابوا لما لا يقل عن ساعتين قبل أن يعودوا وينفردوا بزعيم القافلة كما بدا لنا بحديث طويل.."
نظر لهم قادور باهتمام والرجل يضيف "عند رؤيتنا هذا، لم يخامرنا أي شك أن تلك القافلة تتجسس على من تمرّ به من القبائل دون أن تكشف نفسها.."
فقال قادور "هذا ما يبدو.. علينا التحرك بسرعة ولو كان الأمر يندرج تحت الشك فقط.."
فقال الرجل "أعطنا الأمر يا زعيم.."
تساءل قادور "كم رجلاً هم؟"
أجاب الرجل "عشرون رجلاً فقط.."
نظر قادور للرجال من حوله، وعددهم لا يتجاوز العشر، ثم قال "فليذهب خمسة منكم.. أريد ثلاث رجال منهم فقط، والبقية لست بحاجة إليهم.."
هز الرجل رأسه واستدار مبتعداً، فاستوقفه قادور مضيفاً "خذ جام معك.. سيكون الرجل الخامس معكم.."
نظر له الرجل بدهشة وقال "أيعني هذا أن أصطحب ثلاث رجال فقط معي بالإضافة لجام؟"
قال قادور بحسم "بل أربعة.. ألا تعدّ جام رجلاً؟"
أجاب الرجل باستياء واضح "بالنظر لانعدام خبرته وصغر سنه، لا يمكنني أن اعتمد عليه كما أعتمد على الرجال الأكثر خبرة.."
فقال قادور "كيف تتوقع منه أن يحصل على الخبرة وهو يتدرب وحيداً؟.. ثم إن أي واحد منكم لم يحصل على مثل تلك الخبرة إلا عندما قام الرجال الأكبر سناً بضمّكم إليهم في إحدى مهماتهم السابقة.."
سكت الرجل على مضض، بينما قال قادور "أنا أولّيك أمره يا كاد.. تصرف به كيفما تشاء، المهم أن يعود وقد حصل على الخبرة التي ستؤهله لمهام أكبر وأقسى في الأيام القادمة.."
هز كاد رأسه موافقاً رغماً عنه، ثم أشار لثلاث رجالٍ آخرين ليتبعوه قبل أن يلقي نظرة صامتة على ججي.. ففهمت ججي أنه يدعوها لتلحق به، ولم تتردد في فعل ذلك وهي تهرع للغبراء فتعلق سيفها في حزامها وتضع قوسها وكنانة السهام على كتفها ثم تمتطي ظهر الفرس بتأهب.. رغم رحلتهم الطويلة منذ فجر هذا اليوم دون راحة إلا القليل منها، لكن ججي كانت تشعر بتوتر وحماس كبيرين أطارا التعب والنعاس من عينيها وهي تتبع الرجال الأربعة بقيادة كاد حتى غادروا المعسكر صامتين.. دام سيرهم الصامت وسط الظلام شبه التام ساعة دون توقف ودون أن يتبادل أحدهم كلمة مع الآخرين.. وبعد تلك الساعة، أشار لهم كاد ليلتزموا الصمت وهو يقف بحصانه في موقع منخفض ويترجل عنه.. فتبعه الآخرون بصمت وهم يربطون الخيول في شجيرات قريبة لئلا تهرب لأدنى صوتٍ يفزعها، ثم تسلل الرجال الأربعة تتبعهم ججي عبر المنحدر القريب ونظروا من فوقه ليلحظوا على الفور تلك النار التي أشعلت وسط المنحدرات وتحلق حولها جمع من الرجال، بينما رُبطت الأحصنة في موقع قريب و بضع جمال أنيخت في جانب آخر..
التفت كاد إلى الرجال قائلاً "هذه المهمة لن تكون صعبة، فيمكننا التخلص من نصفهم مع هجومنا المفاجئ قبل أن يجدوا الوقت للتصدي لنا.. لا تنسوا أننا بحاجة لثلاث رجالٍ أحياء.."
هز الرجال رؤوسهم موافقين، بينما أمسكت ججي مقبض سيفها بشدة وتوتر.. كانت تلك هي مواجهتها الأولى مع أعداء حقيقيين.. لقد تدربت طويلاً وبشكل مكثف لمثل هذه اللحظة، لكن رؤية أعدائها بشكل واقعي وهم يتسامرون ويضحكون غير مدركين للخطر المحيق بهم قد أثار في نفسها ارتباكاً كبيراً لم يغِب عن عيني كاد الذي قال "أعلم أنك تتوقع المشاركة في هذه المهمة، لكنك لستَ مستعداً بعد يا جام.."
قالت ججي بشيء من التردد "بل أنا كذلك.."
قال كاد بإصرار "لا أتهمك بهذا، لكني أريدك أن تتدرج في هذا الأمر.. لن تستفيد شيئاً من الاندفاع في معركة قد تفقدك حياتك.. ونحن منشغلون بأعدائنا بحيث لن نتفرغ لمراقبتك وحمايتك.."
فقالت ججي بعناد "سأحمي نفسي بنفسي.."
تنهد كاد وقال "استمع إليّ وأطعني فأنا قائدك الآن.. ابقَ هنا وانتظر اقترابنا من القافلة.. وقبل أن نبدأ الهجوم الفعلي، أريدك أن تخلصنا من كل من تقدر عليهم بسهامك.."
نظرت له ججي باهتمام وهو يضيف "لا تبدأ باكراً فتحفز الرجال وتفقدنا عنصر المفاجأة، ولا تتأخر حتى نشتبك معهم.. عندها لن تتمكن من التصويب دون أن تخاطر بإصابة أحد رجالنا.."
هزت ججي رأسها موافقة وقد خفت ارتباكها وتوترها شيئاً ما.. ربما بهذه الصورة يمكنها أن تشارك دون أن تقترب من المعركة، وهذا يخفف من الضغط الذي شعرت به على أعصابها وهي تراقب أولئك الرجال.. صحيحٌ أنها لا تملك مهارة فائقة في استخدام السهام، لكنها خجلت من ذكر ذلك وتخييب ظن رفاقها بها.. لقد تدربت بشكل شبه يومي، وعليها أن تثبت مهارتها التي اكتسبتها من التدريبات المكثفة تلك..
ابتعد الرجال الأربعة متسللين بدورة حول القافلة الغافلة عما يجري حولها، بينما بقيت ججي متوترة وهي تتناول قوسها وتثبت سهماً فيه بانتظار اللحظة الحاسمة.. رأت كاد والرجال يتسللون من جانب المخيم مستغلين صفّ الجمال التي تحجبهم عن الأنظار، دون أن يعبؤوا برغائها المتوتر لاقتراب غرباء منها.. لكن صوتها جذب انتباه رجال القافلة وهم يصمتون ويلتفتون لموقع الجمال بدهشة وشيء من التوجس.. عندها شدّت ججي الوتر في قوسها وصوّبته بإحكام وهي تتنفس بقوة لإفراغ توترها، ثم كتمت تنفسها لئلا يؤثر في تصويبها وهي تغمض عيناً وتحرك القوس بخفة قبل أن تطلق يدها.. فشق السهم الهواء بصفير خفيف لينغرز في ظهر أقرب الرجال ناحيتها والذي شهق لحظة قبل أن يهوي على وجهه والبقية ينظرون له بعدم فهم دام لحظات..
أسرعت ججي تضع سهماً آخر في القوس وتشدّ الوتر من جديد قبل أن تطلق السهم، وفي هذه المرة بعد أن انفضّ الرجال بذعر مع مرأى سهمها السابق، فإنها أخطأت هدفها مع حركة الرجال المفاجئة والسهم ينغرز عند قدم أحدهم.. وفي الآن ذاته، تعالت صيحة مفزعة من جانب المعسكر مع اندفاع كاد ورجاله من مخبئهم شاهري سيوفهم.. ثبت بعض رجال القافلة في موقعهم بصدمة ودهشة لهذا الهجوم، فكانوا فريسة سهلة للأكاشي الذين أسقطوا خمسة منهم بضربات سريعة، لكن البقية تراكضوا مبتعدين وكل منهم يبحث عن سيفٍ أو رمحٍ يقاتل به.. وبعد غياب عنصر المفاجأة، كان بقية الرجال متأهبين لقتال الأكاشي مع نسبة أربعة لواحد تقريباً لصالح رجال القافلة الأكثر عدداً.. لكن مهارة وسرعة الأكاشي لا يستهان بها وهم الذين يتعاملون مع السيوف كجزءٍ ممتد من أجسادهم ويطوحونها بمهارة مستهدفين الأعناق والرؤوس بغير تردد..
أما ججي التي بقيت في موقعها بصمت دون أن تتلقى أمراً بالمشاركة، فقد ظلت متأهبة بسهمٍ جديد وهي تراقب المعركة بتوتر هائل.. لم تكن هذه المعركة الأولى التي تراها رأي العين، فقد رأت الكثير منها منذ صغرها.. لكن كانت المرة الأولى التي تشارك في إحداها كأي رجل من الأكاشي.. ورغم أن دورها اقتصر على اقتناص الأعداء من مبعدة، إلا أن ذلك لم يخفف التوتر الذي شعرت به وهي تصوّب على رجال القافلة بين لحظة وأخرى محاولة اقتناص أحدهم، ثم تعدِل عن ذلك خوفاً من إصابة أحد رفاقها..
لاحظت في تلك اللحظة جسداً أسود ينهض من موضعٍ بعيدٍ شيئاً ما عن القافلة.. راقبته ججي للحظة ثم تحركت من موقعها محاولة الاقتراب منه ورأته يراقب المعركة بصمت مختبئاً في موقعه.. ثم رأته يقترب من الجمال التي بدأت تحاول النهوض فزعة وهي ترغو بصوتٍ عالٍ بينما الجسد الأسود يتسلل خلفها محاولاً التخفي عن أعين المهاجمين.. لم تدرك هوية ذلك الجسد، لكنها أدركت نيته على الهرب مع اتجاهه لموقع الأحصنة والتي عجزت عن الفرار بسبب اللجام الذي يقيدها لأشجارٍ قريبة.. كانت تعرف أن السماح لأحد أفراد القافلة بالهرب ممنوع بتاتاً مع تشديد قادور على ذلك مهما كانت النتيجة.. فشدّت وتر القوس بعد أن ألقمته سهماً، وصوّبت بثبات وهي تكتم أنفاسها، ولما اقترب الشخص من الموضع الذي صوّبت السهم إليه، أطلقت الوتر ليندفع السهم شاقاً الهواء ويرتكز عند قدمي ذلك المجهول.. ارتدّ المجهول بذعر واضح، بينما شتمت ججي في سرّها بعد أن خاب مسعاها في الإطاحة بذلك الشخص.. عندها لم تجد بداً من التدخل بنفسها لئلا تسمح له بالهرب مع انشغال بقية الرجال بالمعركة الدائرة.. فاستلّت سيفها وقفزت هابطة من ذلك المنحدر نحو موقع الشخص الذي تلفت حوله بذعر شديد قبل أن يستدير هارباً بعد أن لاحظ اقترابها منه، لكن ججي استغلت خفتها وسرعة خطواتها وهي تركض خلفه وتطوّح سيفها بقوة في اللحظة التي استدار لينظر إليها بارتباك وهو يحاول حماية نفسه بذراعيه.. فأصابه السيف بضربة في ذراعه اليسرى وهو يسقط أرضاً متألماً بصوتٍ واضح..
اقتربت منه ججي دون تردد وقد أنستها تلك المطاردة الصغيرة قلقها السابق من المواجهة المباشرة مع أعدائها.. لم يكن ذلك الشخص مسلحاً، ولم يبدُ أنه سيقاومها بأي شكل كان، لكنها لم تتردد وهي ترفع سيفها عالياً وتتقدم منه خطوة أخرى.. فصاح الشخص بذعر شديد "مهلاً.. لا تقتلني أرجوك.."
توقفت ججي لوهلة وهي تسمع جملته التي قالها بلهجة سيئة لا تكاد تُفهم.. كانت تلك هي المرة الثانية التي تسمع فيها هذه اللهجة في حياتها، ولم يكن ذلك منذ زمن بعيد.. فمدّت يدها بالسيف نحو الشخص وهي تقول آمرة "انهض لكي أراك.. وحذار من القيام بأي حيلة لأنني لن أرحمك عندها.."
نهض الشخص بشيء من التردد وهو يمسك ذراعه المصابة بيده الأخرى، ولما وقف متجاوزاً الجمال القريبة بحيث ألقت النار البعيدة بعض الضوء عليه، تأملته ججي بشيء من الصمت واهتمام كبيرين.. كان ذلك الشخص مجرد فتىً لا يكبرها بكثير، ورغم أن ملامحه كانت باهتة مع الظلام الذي لم تفلح النيران في التغلب عليه، لكن ججي اتسعت عيناها نوعاً ما وهي تدرك هويته.. فغمغمت "أهو أنت؟"
صمت الفتى وهو يتراجع بشيء من الدهشة دون أن يزول ذعره، فاستوقفته ججي بحزم قائلة "لا تتحرك خطوة من موقعك.."
أطاعها الفتى بشيء من القلق بينما سمعت ججي صوت كاد وهو يقترب منهما بسيفه الملوث دماً "هل بقي منهم أحد؟.. من هذا الفأر المختبئ؟"
لاحظت ججي الهدوء الذي خيّم في الموقع بعد أن نجح الرجال في التخلص من أغلب رجال القافلة، بينما ركع ثلاثة منهم مرتعبين أمام الأكاشي باستسلام.. وبينما اقترب كاد من الفتى، رفع الأخير ذراعيه بذعر شديد وكأنه يحمي نفسه بتلك الذراعين الهزيلتين.. وقبل أن يقترب كاد منه اندفعت ججي لتقول "مهلاً.. لا تلمسه بأذى.."
نظر لها كاد مقطباً، فأضافت بسرعة "اتركه لي.. فأنا أريده.."
قال كاد عاقداً حاجبيه "لا يمكنني تركه.. لقد أمر الزعيم بقتلهم جميعاً إلا ثلاثة منهم، ولا أظن هذا الفتى يصلح لما يريده الزعيم.."
قالت ججي بإصرار "لا يمكنك أن تقتله.. أنا سأتحمل مسؤولية بقائه حياً.."
فقال كاد بإصرار وصرامة "مستحيل.. أطِع أمر قائدك يا جام ولا تضطرني لاتخاذ تصرفٍ آخر معك.."
أسرعت ججي تقول "ألا تظن أن هذا الفتى سيكون أسرع في البوح بما يعرفه من أولئك الرجال؟.. ثم إنني أتحمل نتيجة قراري هذا أمام الزعيم.. فممَ تخشى؟.."
قال كاد باعتراض "قولك غير مقنع.. ثم إن الفتى ليس عربياً، لذلك هو بلا فائدة لنا.."
لم تعلق ججي على هذا القول فهي كانت تعرفه سابقاً، بينما استدار كاد إلى الفتى مضيفاً "ملامحه تدل على أنه من الكشميت.. أليس كذلك؟"
اتسعت عينا ججي بتعجب بينما بدا الارتعاب في وجه الفتى وهو ينظر لكاد الذي تفحص ملامحه على ضوء النار البعيدة.. وبدا له أن موته وشيك ومحتم تماماً رغم محاولات ججي.. ومع صمت ججي، تقدم منه كاد بسيفه الملوث بالدماء وهو يقول "استعدّ يا فتى.."
تراجع الفتى خطوة حتى سقط أرضاً وهو يرفع ذراعيه أمام وجهه ويغمض عينيه بذعر.. ولما هوى السيف نحوه وتعالى صوت صليلٍ عالٍ في المكان، فتح الفتى عينيه ليتطلع بدهشة لججي التي وقفت أمامه وهي تصدّ ضربة كاد بسيفها مغمغمة من بين أسنانها بغيظ "أخبرتك أنني أريد الفتى.. لا تتسرع بالقضاء عليه يا كاد.."
قال كاد مقطباً "هل ترفض أوامر قائدك يا جام؟"
ثبتت ججي بنظراتها أمام كاد مقطبة، وبعد صمت قصير تراجع كاد قائلاً بابتسامة جانبية "يبدو أنك مستميت للحفاظ على حياته.. هل أعجبك لهذه الدرجة؟.."
لم تعلق ججي وهي صامدة في موقعها أمام كاد، فاستدار الأخير مضيفاً "لا بأس.. يمكنك الاحتفاظ به في الوقت الحالي حتى يقرر الزعيم ما نفعله به.. لكن لو بدرت منه أي شبهة لا تعجبني فسآمر بقطع عنقه في الحال.."
زفرت ججي بينما ابتعد كاد قائلاً للفتى بسخرية "كن حذراً يا فتى.. سيظل سيفي معلقاً فوق عنقك.."
عادت ججي للفتى المذعور زافرة، ثم ركعت قريبة وهي تغمغم بخفوت "عليك أن تكون شاكراً.. ها أنذا أرد لك الديْن وأنقذ حياتك كما أنقذتَ حياتي.."
نظر لها الفتى بارتعاب للحظات، ثم بدا أنه انتبه لهويتها مما جعل حاجبيه يرتفعان وهو يقول "أهو أنتِ؟"
أشارت له ججي ليصمت وهي تتلفت خلفها، بينما تساءل الفتى بقلق ورعبٍ بالغ "ألن يقوموا بقتلي؟"
قالت رافعة إصبعها أمام شفتيها "لن يفعلوا.. ما لم تتهور وتخبرهم أنك أنقذت حياتي قبل أيام.. اتفقنا؟"
كان هذا تهديداً واضحاً منها، لكن الفتى لم يجد إلا التسليم بالأمر وهو يهز رأسه موافقاً في وعد صامت دون أن يكف جسده عن الارتجاف.. ثم نهض ليقف قربها متطلعاً لما حوله.. ولم تكن رؤية الأشلاء من حوله والدماء التي صبغت الأرض العشبية تمنحه أي راحة بال.. أعادت ججي سيفها لحزامها وهي تدفع الفتى لينضمّ للأسرى، ورغم ذعره الواضح فإنها لم تحاول الترفق به وهي تجذبه من ملابسه لينضمّ لرفاقه الراكعين في جانب المكان.. والذي لا يشك أحدهم أن مصيره لن يكون مبشّراً بأي خير على يد الأكاشي..
************************
بعد أن انتهى الرجال من جمع الأسلحة واقتياد الأحصنة والجمال وكل ما يمكن غنيمته من تلك القافلة، عادوا لمعسكر قادور وكل منهم يجرّ حصاناً عليه أحد الأسرى وقد ربطت يداه خلف ظهره بالسرج.. وكذلك فعلت ججي بالفتى وهي تجذب حصانه بعد أن تأكدت من ربط يده بإحكام في السرج لئلا يفكر بالهرب.. وعند وصولهم للمعسكر، لم تتمالك ججي نفسها وهي تقفز من على ظهر الغبراء وتسرع لأبيها بابتسامة ظافرة وتقول "لقد أنجزنا المهمة كما طلبت يا أبي.."
ابتسم قادور بدوره معلقاً "أحسنت صنعاً يا جام.. سأنتظر رأي كاد بك، فهو الأقدر على تقدير ما فعلته في هذه المهمة.."
ثم نظر خلفها معلقاً "لكني أرى أربعة أسرى.. ألم أطلب منكم إحضار ثلاثة فقط؟"
تعالى صوت كاد يقول "هذا ما قلته لجام.. لكنه أصرّ على إحضار هذا الفتى وعدم قتله.. لا أعلم ما فائدة شاب صغير من الكشميت فيما نفعله.."
أسرعت ججي تقول "أرجوك يا أبي.. لابد أنك ستستفيد من هذا الفتى أكثر من بقية الرجال.. فهو لن يقدر على المراوغة والخداع وببعض التهديد سيخبرنا صراحة عن هوية تلك القافلة وما كانت تفعله في هذه الأنحاء.."
قال كاد باعتراض "لكنه كشميتي.."
أجابت ججي "لكنه صاحبهم طوال هذه الرحلة.. فلا بد أنه لاحظ أو عرف شيئاً من أمورهم.."
فقال قادور لكاد "أحضر الفتى، وأبقِ بقية رجال القافلة على شيء من المبعدة ليسمعوا ما يقال دون تدخل.."
أسرع كاد لتنفيذ أمره، بينما قالت ججي باستعطاف "أرجوك يا أبي.. لا تقتل هذا الفتى.."
قال لها قادور بتعجب "نحن نقتل الجواسيس بعد استجوابهم.. وأنت تدرك ذلك.."
فقالت بضيق "ألا يمكنك استبقاء هذا الفتى فقط؟.. إنه ليس عربياً، لذلك أستبعد أن يكون جاسوساً.. يمكننا أن نستبقيه كخادم لنا.. وموته لن يفيد أحداً.."
راقب قادور الفتى الذي جذبه كاد حتى موضع قريب، وقال لججي بسخرية "خادم؟.. بهذا الجسد الضعيف، فإنه يحتاج لمن يخدمه أكثر من أن يكون خادماً لأحد.."
قالت ججي برجاء "ألن تحقق لي هذا الطلب فقط يا أبي؟"
نظر لها قادور بنظرة متفحصة وقال "ما الأمر يا جام؟.. لم أنت لحوح للحفاظ على حياة هذا الفتى؟.. ما الذي تبغيه منه؟"
أدارت ججي بصرها جانباً قائلة "لا أبغي منه شيئاً.. لكن أرى أن موته دون ذنب فعله هو أمر مأساوي.."
ضحك قادور بشكل أثار تعجب الرجال من حوله، ثم قال لججي "للمرة الأولى أسمع رجلاً من الأكاشي يصف الموت بأنه مأساوي.. أخبرني الحقيقة يا جام ولا داعي للمواراة.."
شعرت ججي بحرج كبير.. كانت تريد إنقاذ حياة الفتى لكي ترد له الدين المعلق في عنقها، لكن لا يمكنها أن تخبر أباها عما جرى لها واضطرارها للاعتماد على هذا الغريب لإنقاذ حياتها.. قلّبت الأمرين معاً بتوتر كبير، ثم رأت أن وفاءها بالدين أكثر أهمية من معرفة أبيها بحادث مرّت عليه أيام عدة.. عندها جذبت نفساً لتهدئة توترها وأخبرته بالحادثة التي جرت لها وهي بعيدة عن القبيلة، ولقاءها بالقافلة وإنقاذ هذا الفتى لحياتها.. بينما ظل قادور يستمع لها بتعجب وصمت حتى فرغت من حكايتها.. ثم نظر للفتى المرتعب وقال "رغم أنني حانق لكذبك عليّ في السابق وإخفاء هذا الأمر عني، لكن لا يمكنني إلا أن أفعل ما طلبته مني.. فلولا معاونة هذا الفتى لك، لفقدت ابني الثاني في وقت مبكر جداً.."
نظرت له ججي بابتسامة راحة، بينما قال قادور "لكن هذا لا يمنع أن أستجوبه لأعرف الحقيقة منه.."
أمر ججي بأن تقرّب الفتى منه، فجذبته ججي دون ترفق وأجبرته على الركوع عند قدمي قادور دون أن تفك وثاقه.. رفع الفتى بصره بارتجافة إلى قادور الذي نظر إليه بصمت للحظات ثم تساءل "ما الذي جاء بكشميتي وحيداً لهذه السهول؟.. ألست جاسوساً؟"
قال الفتى بارتجافة "لا.. وهل يرسل الكشميت شخصاً صغيراً مثلي لمثل هذه المهمة؟.."
تساءل قادور "إذن ما الذي جاء بك لهذه الأنحاء؟.."
نظر له الفتى بشيء من التوتر، ثم أدار وجهه مغمغماً "أفضل الاحتفاظ بأسبابي لنفسي.."
لاحظ النظرات الغاضبة من الرجال القريبين، بينما قال قادور بصرامة "يمكنك أن تحتفظ بأسبابك تلك وأنت ترى رأسك يتدحرج بعيداً عن جسدك.. أو يمكنك أن تخبرني بما جاء بك لهذه السهول الآن ودون كذب.."
تحولت رجفة الفتى لنفضة رعب وقد أدرك أنه قد تجاوز حدوده، ثم نظر للأرض مجيباً "بسبب بعض المشاكل التي وقعت فيها في كشميت، هربت من المملكة وأتيت لهذا المكان.."
تساءل قادور بتعجب "وأي مشاكل تأتي بك لهذا المكان البعيد عن موطنك؟"
زفر الفتى للحظة وهو متردد في الإجابة، ثم قال بصوت خفيض "لقد قتلت شخصاً في كاشتار.. وأنا هاربٌ منذ ذلك الوقت.."
بدت السخرية على وجوه بعض الرجال وهم يتأملون جسد الفتى الهزيل، بينما غمغم قادور بتعجب "حقاً؟.. هذا أمرٌ مفاجئ من شخص مثلك!.."
أضاف الفتى "كنت أنوي الذهاب لمملكة وادي النسور، وهي كما سمعت عنها مملكة آمنة وبعيدة عن الحروب الدائرة وسط القارة.. لكني لم أدرك أن عليّ اجتياز سهول الأكاشي للوصول إليها.. وقد حالفني الحظ بالانضمام لهذه القافلة التي ما شهدت منها أي تصرف أُنكره.."
صمت جازاً على أسنانه، ثم قال ببغض لم يملكه "لكن كان يجب أن نصطدم بكم قبل الوصول لهدفنا.. كان يجب أن أدرك أن حظي سيئ منذ البدء.."
لم يعلق قادور على قوله وهو يسأله "لو كنتم متجهون للشمال، فلماذا وصلت القافلة لهذا الموقع الأقرب للشرق وللجبال التي تفصلنا عن باقي القارة؟.. مسارها يجب أن يقطع الجزء الغربي من السهول.. هذا يطيل المسافة كثيراً.."
صمت الفتى وهو يدير بصره جانباً، فقال قادور بإصرار وحزم "أجب سؤالي.. ما الذي دعى القافلة لاجتياز كل هذه المسافة التي تبعدهم أكثر وأكثر عن هدفهم؟"
أجاب الفتى بعد تردد وبعد أن ألقى نظرة على بقية رجال القافلة "لقد أصرّ قائد القافلة على اتخاذ هذا المسار دون أن يخبرني بالسبب، ولم أكن أملك الاعتراض على ذلك.."
عاد قادور يسأله بحزم "وما الذي رأيته من هذه القافلة؟.. إنها ليست قافلة تجارية بالتأكيد.."
تردد الفتى بشكل واضح وهو يقلب بصره فيمن حوله، فقال قادور بصرامة "يحسن بك أن تفصح عن كل ما تعرفه دون تردد.."
عندها قال الفتى خافضاً رأسه "في كل ليلة نخيّم فيها في أحد المواقع، كان قائد القافلة يرسل أربعة من رجاله في مهمة لا أعلم عنها شيئاً.. ولما سألته عن السبب، أخبرني أن هذا مجرد احتياط لئلا يداهمنا الأكاشي ونحن بغفلة من الأمر.."
اتسعت عينا ججي باهتمام وهي تستمع إليه، بينما رمق قادور الرجال الذين كسا الشحوب وجوههم وهو يقول "هذا يثبت الأمر.. ذلك الرجل كان يرسل جواسيسه لاستطلاع مواقع القبائل وكل ما يمكن جمعه من معلومات.. أليس كذلك؟"
انبرى أحد الأسرى يقول "لا يا سيدي.. هذا غير صحيح.. كان القائد يرسلنا لاستكشاف المواقع حول القافلة لئلا نفاجأ بهجوم من الأكاشي.. فقد سمعنا بما يفعله الأكاشي بأي عربي يعثرون عليه في هذه السهول، ولم يكن هذا يطمئننا بأي حال.."
علق كاد بسخرية "لكن لم يبدُ أنكم كنتم مستعدون للدفاع عن أنفسكم عند وصولنا إليكم.."
فقال الرجل "هل تصدق قول هذا الصبي على ما نقوله نحن؟.."
قال قادور وهو يعود لخيمته "لا.. لكنني سأستجوبكم بنفسي وأحصل على كل ما أريد معرفته بالتأكيد.."
قالت ججي "وما الذي أفعله بهذا الفتى؟"
قال قادور "أطلق سراحه.. لا يبدو لي أنه كاذباً، ولا يمكنني الأمر بقتله بعد كل ما جرى منه سابقاً.."
اقتاد الأكاشي الأسرى الثلاثة نحو خيمة قادور، بينما ظل الفتى ينظر لما حوله بقلق شديد.. فرأى ججي تقترب منه وتفك وثاقه قائلة "افرح يا هذا.. أنت محظوظ فقد أمر أبي بإطلاق سراحك.."
بدت المرارة على وجه الفتى عوض الارتياح وهو ينهض بشيء من الوهن ويتلفت حوله للمعسكر الصغير.. بدا توتره عارماً وهو يلقي بنظرة مذعورة على أي رجل يتحرك قربه، فضربت ججي كتفه براحة يدها وهي تقول ضاحكة "لا داعي لهذا الذعر أيها الجبان.. لن يخالف شخص أمر الزعيم أبداً.. لذلك أنت في أمان جزئي ما لم تُثر غضبي.."
غمغم الفتى بمرارة "أمان؟.. وحتى متى سيدوم ذلك؟"
قالت مفكرة "حتى تفارق معسكرنا هذا.. لا يمكنني أن أضمن حياتك في المرة القادمة التي نلتقي فيها.."
قال الفتى بأسى "وإلى أين يمكنني الذهاب؟.. أنا مقضيّ علي في كل الأحوال في هذه السهول الوحشية.."
جلس جانباً ورمى رأسه على ذراعيه وهو ينتفض بشدة، فقالت ججي وهي تقف أمامه "كف عن هذا الخنوع يا فتى.. ألست رجلاً؟.. ما الذي يثير ذعرك؟"
نظر لها بحدة وقال بصوت متهدج "ما الذي يثير ذعري؟.. أنتم.. الأكاشي كلهم يثيرون ذعري.. أتظنين أنني، بعد أن رأيت رفاقي يقضون نحبهم أمام عيني بأبشع وسيلة ممكنة، يمكنني أن آمن على نفسي وأنا وحيد في هذه السهول؟.."
وخفض رأسه قائلاً بمرارة "لم أصدق رؤية أولئك الرجال الذين اصطحبوني معهم وكانوا بغاية الكرم واللطف معي، لم أصدق رؤية البشاعة التي تم التخلص منهم بها.."
جلست ججي قريبة وقالت "سرعان ما تنسى هذا.. المهم الآن أن تفرح لنجاتك فقد كان موتك وشيكاً للغاية.."
زفر الفتى معلقاً "أتظنين أنني يمكن أن أفرح بعد أن تلقوني في السهول وحيداً؟.. أشك أن تمنحوني أي حصان لأرحل عليه، ناهيك عن الزاد والماء الذي سرقتموه من القافلة.."
قالت ججي بحدة لم تملكها "لم نسرقه.. الأكاشي لا يقومون بتصرف خسيس كالسرقة.. لقد أصبح كل ما تملكه القافلة غنيمة لنا بعد أن قضينا عليهم.."
فقال الفتى بحدة مماثلة "ولمَ القضاء على قافلة مسالمة تمرّ بسهولكم؟.. لمَ عليكم أن تكونوا أفظع من كل الإشاعات التي تناقلها الناس عنكم؟"
قالت ججي بحنق "إنهم جواسيس.. كيف تريد منا التصرف مع جواسيس للملك الذي ينوي غزو أرضنا والقضاء علينا؟.."
قطب الفتى معلقاً باستياء "قد لا يكون الأمر بالسوء الذي تظنونه حقاً.. ربما لو تعاونتم مع الملك العربي، فلن يلجأ لحربكم وقتل أي رجل من رجالكم.."
فقالت ججي بسخرية "أهذه هي فكرتك عن التصرف الأمثل للحرب القادمة؟.. للأسف، الأكاشي لا يتصرفون بهذا الخنوع الذي أنت عليه.."
ونهضت مغادرة بحنق واضح، بينما زفر الفتى وهو يحدق بالأرض العشبية عند قدميه.. ما الذي سيفعله بعد أن يلقيه الأكاشي كالكلب في هذه السهول؟.. كم يوماً سيتمكن من العيش وهو وحيد قبل أن يقضي نحبه جوعاً أو عطشاً أو بسيف أحد الأكاشي؟.. يا له من حظ يزداد سوءاً مع كل لحظة تمضي..
************************
|