كاتب الموضوع :
عالم خيال
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ابنة السماء..
الفصل الثالث والعشرون {نقطة تحوّل}
في اليوم التالي، وقبل انبلاج الفجر بقليل، كانت ججي تغادر خيمتها دون أن تذوق لحظة راحة.. لقد استعرّت الأفكار في عقلها وعجزت معها عن الخلود لأي راحة، ولم يزدها التفكير في كين إلا قلقاً وتوتراً.. لذلك، فقد نهضت أبكر من المعتاد واتجهت من فورها إلى خيمة كين فدفعت بابها دون لياقة وهي تقول بصوت حازم "انهض يا كين.. أمامنا عمل كثير هذا اليوم....."
دارت ببصرها في الخيمة المظلمة ملاحظة الفراش المطوي بعناية في أحد جوانبها.. هل استيقظ كين أبكر منها وغادر خيمته؟.. أم أنه لم ينم قط؟..
شعرت بشيء من التوجس وهي تغادر الخيمة وتتجه لجانب آخر من المخيم بحثاً عنه.. بحثت في عدد من المواقع التي تتوقع وجوده فيها دون أن تعثر عليه، عندما لاحظت أحد رجالها يقترب قائلاً بقلق "يا زعيم.. هناك أمر حدث للأسرى الذين قبضنا عليهم البارحة.."
نظرت له ججي باستياء قائلة "ما الذي جرى لهم؟.. هل مات منهم أحد؟"
قال الرجل بسرعة "بل هربوا.."
نظرت له ججي بصدمة والرجل يضيف "لقد غفوت للحظات قصيرة بعد منتصف الليل، وعندما انتبهت بعد غفوتي تلك لاحظت الصمت التام الذي حلّ بالخيمة.. لكنني ظننت أن الأسرى قد أخلدوا للنوم لذلك لم أحاول تفحص الخيمة بنفسي فالباب مغلق بإحكام.."
قالت ججي بغضب "غفوت؟.. أهذا هو عذرك؟"
قال الرجل بارتباك "لا أعلم ما حلّ بي.. لقد رأيت كين يقترب مني قبل منتصف الليل وطلب الحديث مع الأسرى من خلف الباب المغلق.."
قالت ججي بتوجس "وهل سمحت له بذلك؟"
قال الرجل بتوتر "لم يكن لديّ ما يمنع ذلك.. فهو يدك اليمنى، ونحن معتادون على إطاعة أوامره دون سؤال.."
لم تتمكن ججي من الاعتراض على ذلك والرجل يضيف "ولقد حادثهم بالفعل للحظات قصيرة فقط، لكن الحديث كان بلغتهم التي لم أفهم منها شيئاً.. بعدها شكرني كين بحرارة ومنحني بعض الأعشاب ذات الجودة لأدخنها بغليوني.."
وضعت ججي يداً على جبينها مغمغمة "وطبعاً غلبك النعاس بعد أن قمت بتدخين تلك الأعشاب.. أليس كذلك؟"
أجاب الرجل بحرج "أجل.. هذا ما حدث.."
أطلقت ججي شتيمة توتر لها الرجل قبل أن يسمعها تقول "والآن، بعد تلك الساعات الطويلة، ارتأيت أن تتفحص الأسرى أخيراً واكتشفت خلو الخيمة منهم.. أليس كذلك؟"
هز الرجل رأسه إيجاباً وتوتره يزداد.. فقالت ججي "اذهب لتفحص الخيول ولمعرفة ما فقدناه منها.. لابد أنهم لم يهربوا على الأقدام في هذا الموقع النائي.."
أسرع الرجل لتنفيذ قولها بينما عضّت ججي شفتها السفلى بشيء من الغيظ.. ما الذي يهدف له كين بهذا الفعل؟.. هل كان ينوي تحرير الأسرى منذ البدء؟.. وهل هرب معهم أم أنهم اصطحبوه عنوة بعد أن حررهم؟..
هزت رأسها وهي تستدير مغادرة.. لا يمكن أن يكون قد هرب معهم.. لقد وعدها أنه لن يهرب.. أخبرها مراراً وتكراراً أنها أقوى أسبابه للبقاء.. فكيف يمكنه أن يهرب بعد كل هذا؟.. لابد أنهم اختطفوه.. هذا ما تتوقعه وتكاد تجزم به..
اتجهت من فورها لخيمتها فحملت سيفها وقوسها مع كنانة السهام، ثم خرجت لتجد الحارس الذي كان يحرس الأسرى يقترب منها مهرولاً وقال "كما توقعت يا زعيم.. الخيول التي أتى بها الكشميت قد اختفت، وقد اختفى حصان كين أيضاً.."
قطبت ججي بحنق بينما أضاف الرجل "ولم نفقد حصاناً آخر غيره.."
فقالت ججي "أرسل إليّ تبريق.. أريده حالاً.."
أسرع الرجل لتنفيذ أمرها بينما اتجهت ججي لمربط الخيول وحملت السرج لتضعه على ظهر الحصان وتثبيته بشكل محكم عندما استوقفها تبريق متسائلاً "ما الذي جرى في هذا الوقت المبكر؟"
قالت بتقطيبة "لقد أطلق كين سراح الأسرى.. ويبدو أنهم أجبروه على الرحيل معهم.. فلا أثر له في المخيم كله.."
ثم أكملت عملها مضيفة "سأتبعه بنفسي مع عدد من الرجال.. سأتركك لتتولى تجهيز رحلتنا القادمة حتى أعود.."
جذب تبريق ذراعها ليوقفها قائلاً بتقطيبة "أين تظن نفسك ذاهباً يا جام؟.. أتظن أنك قادر على الرحيل بهذه السهولة وحيداً؟"
قالت ججي مقطبة "يجب أن ألحق بالأسرى قبل ابتعادهم بكين.."
فقال تبريق باعتراض "لا يمكن.. أنسيت موعدنا القريب مع الملك العربي؟.. من يضمن لنا أنك ستتمكن من العودة في الوقت المحدد؟.. بل من يضمن أنك لن تتعرض لهجوم في طريقك خلفهم؟"
قالت ججي بعصبية "أتريد مني الصمت على ما جرى؟"
أجاب تبريق "لا.. سأذهب أنا هذه المرة.. سآخذ أربع رجال معي وسنذهب لاستعادة كين.."
ظلت ججي تنظر إليه باستياء، بينما قال تبريق مؤكداً على كلامه "لا تقلق.. لن نتأخر ولن نسمح لهم بالفرار.. لقد قالوا إن سفينتهم ترسو قرب إحدى القرى في الغرب.. ونحن أعلم بالسهول وطرقاتها منهم.. لذلك سنتمكن من اللحاق بهم بسرعة بالتأكيد.."
فقالت ججي "ستعود به بكل تأكيد يا تبريق.. أليس كذلك؟"
هز تبريق رأسه قائلاً "وهل فشلت في أي مهمة أوكلتها إليّ؟.. ثق بي وانتظر عودتي.."
لم تكن ججي تملك الاعتراض، فاستسلمت للأمر وهي تراه يستدعي بضع رجال ويقوم بتهيئة الأحصنة للطريق.. وخلال وقت قصير انطلق مع رجاله متجهين نحو الغرب بأقصى سرعة.. بينما وقفت ججي عند حدود المخيم وهي لا تقدر على تمالك العصبية التي شعرت بها جراء هذا الحدث الذي لم تتوقعه بتاتاً..
************************
عندما وصل تبريق ورجاله بعد عدة أيام لتلك القرية الصغيرة الواقعة غرب سهول الأكاشي، والتي تطل على البحر مكونة ميناءً بسيطاً ترسو عنده بعض السفن في طريقها للجنوب أو الشمال، فإن وقتاً قصيراً قد استغرقه للاستدلال على موقع جنود الكمشيت.. ففي هذه القرية، لم يكن من الممكن إخفاء تلك الجماعة المميزة بشكلها ولهجتها العسيرة.. وهكذا، تمكن تبريق من تحديد المنزل البسيط الذي استأجره الجنود لإقامتهم حتى وصول أول سفينة تنقلهم لقارة الثنايا..
ترجل تبريق عن ظهر حصانه، وقال لرجاله القريبين "حاولوا ألا يصاب كين في المعركة التي ستندلع هنا.. سيغضب منا جام لو أصيب كين بمكروه.."
هز الرجال رؤوسهم موافقين، فامتشق تبريق سيفه وتقدم دون تردد من الباب فركله مندفعاً وسط المنزل.. وفي جانبه، رأى الجنود الذين لا يقل عددهم عن سبع وقد هبّوا بشيء من الارتباك لرؤية الأكاشي.. تقدم تبريق نحوهم شاهراً سيفه، واشتبك مع أول جندي اندفع نحوه وجرده من سيفه بحركة سريعة، بينما تقدم رجاله من بقية الجنود.. انشغل أغلب الجنود بقتال الأكاشي، بينما وقف تبريق صائحاً "كين.. أأنت هنا؟.. أجبني لو كنت تسمعني.."
اندفع نحوه أحد الجنود حاملاً كرسياً خشبياً، فضرب تبريق به بقوة ليصيب ذراعه التي حمى بها رأسه.. تراجع تبريق خطوتين لقوة الضربة، ثم اندفع متجاهلاً الألم في ذراعه وهو يدفع سيفه نحو الجندي الذي حاول تفادي الإصابة بالكرسي.. فرفع تبريق قدمه وركل الكرسي والجندي من خلفه بقوة حتى أسقطه جانباً، ثم تلقى ضربة من جندي آخر بسيفه.. كان الموقع في المنزل ضيقاً لا يسمح لهم بحرية الحركة، فيما اعتاد الأكاشي على القتال في الأماكن المفتوحة بما يسمح لهم بتطويح أذرعهم في ضربات قوية دون أن يعبؤوا بمن يكون قريباً منهم.. لذلك لم تكن تلك المعركة الصغيرة سهلة والطرفان لا يملكان إلا مساحة محدودة للتحرك فيها..
وقبل أن يحتدم الأمر أكثر، سمع الطرفان صوتاً من خلفهم يطلب منهم التوقف، فتوقفت أيدي الجنود على الفور وهم يتراجعون عدة خطوات، بينما بقي الأكاشي على تحفزهم حتى رأوا كين يقترب منهم متسائلاً "ما الذي أتى بكم لهذا الموقع؟.."
اقترب تبريق خطوة قائلاً "أليس هذا بديهياً؟.. أتينا خلف جبانٍ هرب دون أن يعبأ بمن خلفه.."
لم يعلق كين على إهانة تبريق وهو يلتفت إلى الجنود طالباً منهم الرحيل.. فغادر الجنود بعد تردد، فيما اقترب كين من تبريق قائلاً "وما الذي تطمح لفعله باللحاق بي؟.. كان عليكم أن تنسوا أمر هذا الجبان وتتجاهلوه بشكل تام.."
فقال تبريق "لكن هناك من لا يمكنه نسيانك أبداً.. ألم تدرك ذلك قط؟.."
أطرق كين بصمت وتبريق يقول "لا يبدو لي أن أولئك الجنود قد أجبروك على الرحيل معهم.. فما الذي دعاك لذلك؟.."
لم يجبه كين وهو مطرق بصمت، فزفر تبريق قائلاً "هذا لا يهم.. لنعُد الآن.. من المفترض أن نرحل للقاء الملك العربي، لكننا أجلنا هذا الأمر بسبب اختفائك غير المتوقع.."
قال كين دون أن يرفع رأسه "لن أعود.."
نظر له تبريق بدهشة، ثم تساءل "ماذا تعني؟"
أجاب كين "سأعود إلى كاشتار، وإلى ما كنت عليه سابقاً.."
قال تبريق باستنكار "أنت تمزح بالتأكيد.. لمَ قررت العودة الآن بعد كل هذه السنوات؟"
لم يجبه كين أو يواجهه بعينيه، فالتفت تبريق إلى رجاله طالباً منهم البقاء خارجاً.. ولما خلا الموقع إلا منهما اقترب تبريق من كين وأمسك كتفه قائلاً "ماذا عن جام؟.. لقد أرسلني لاستعادتك وأصرّ ألا أعود دونك.. فما الذي يمكنني أن أقوله إزاء فشلي هذا؟"
تنهد كين دون أن يجيب، فعاد تبريق يقول "أأنت لا تنوي العودة إليه حقاً؟.. ألا تهتم لما سيجري له وأنت بعيد؟"
غمغم كين "لقد انتَفَتْ حاجة ججي إليّ.. إنها على وشك القيام بمعاهدة مع الملك فارس، وبعدها ستنتهي هذه الحرب وستعود الأمور لما كانت عليه.. لذلك، ما عاد لوجودي أي معنى هناك.."
قال تبريق بإصرار "أتظن ذلك حقاً؟.."
نظر له كين قائلاً بحزم "أجل.. هذا ما أظنه.."
فقال تبريق بضيق "ولمَ قررت الآن أنك لا تريد أن تكون جزءاً من قبيلتنا؟.. لمَ لمْ ترحل منذ البدء؟.. ألا تظن أن هذا التوقيت غير ملائم لجميع الأطراف؟"
أدار كين رأسه جانباً وقال "لكنه ملائم لي.. وكما قلتَ أنت، لقد حلّت جميع مشاكلي مع مملكة كشميت، وما عاد هناك سبب لهروبي منها.."
فقال تبريق بغير اقتناع "لا أصدق ذلك.. ولا يمكن لمن رآك يوماً مع جام أن يصدق أنك سترحل بهذه السهولة يا كين.. فهل تحاول خداعي أم أنك تخدع نفسك؟.."
رفع كين بصره إليه قائلاً بحزم "هذا أمرٌ يخصني يا تبريق.. ولا شيء يجبرني على العودة للقبيلة.. أليس كذلك؟"
همّ تبريق بالاعتراض من جديد، لكن كين استوقفه قائلاً "الأهم من ذلك.. هناك أمرٌ أريد الحديث معك عنه.. وأريد أن تعدني ألا تذكر حرفاً من هذا لججي مهما كانت الظروف.."
نظر له تبريق باستغراب لهذا الطلب، فقال كين "بخصوص هذا اللقاء الذي تنتوي ججي القيام به مع الملك فارس.. أنا أثق أنه لن ينتهي نهاية سعيدة أبداً.. وأثق أن الملك ينتوي خيانتكم بشكل سيصدمكم.."
قال تبريق بغير اقتناع "لمَ أنتَ واثقٌ من هذا؟.."
فقال كين بتوتر "لأن الملوك لا يرضخون لأعدائهم، ولا يمكن أن يرضخوا لبضع قبائل بدائية كما يصفونكم في الممالك الأخرى.. هذا يعدّ إهانة له وتصغيراً من شأنه أمام بقية الممالك.. ولذلك، سيسعى بكل ما يملك للتخلص من ججي ومن أي زعيم يقف في وجهه.. لقد أخبرت ججي بشكوكي، لكنها رفضت الإصغاء لما أقوله بشكل تام.."
ظل تبريق صامتاً بتفكير، فتقدم كين خطوة وأمسك ذراعه قائلاً برجاء "أرجوك يا تبريق.. لا تغادر موقعك إلى جوار ججي أبداً.. ولا تسمح للملك باللقاء معها منفرداً دون أن تكون معها.. مهما كانت ججي قوية، ومهما كانت ذكية، فلا يمكنها أن تقاوم جماعة من الجنود أو تصدّ طلقات بنادقهم.. سيغتالونها فور أن تجتمع بالملك، هذا ما أنا واثقٌ منه.."
قال تبريق "بالطبع لن أسمح له بفعل ذلك، وسأحمي زعيمنا بكل ما أملك.."
فقال كين "ليس هذا ما أطلبه منك فقط.. هناك أمرٌ آخر.."
نظر له تبريق بتعجب، فخلع كين الخاتم الفضي من إصبع يده اليمنى، ومدّ يده نحو تبريق مضيفاً "هناك أمرٌ آخر قد تتعجب له أو تستنكره.. لكني أرجوك أن تحققه لي مهما كانت النتائج.."
ووضع الخاتم في راحة يد تبريق الذي قال وهو يتأمل الخاتم "وما الذي يجبرني على طاعتك في أي أمر؟"
قال كين "لأنك تتمنى الخلاص مني بالفعل.. أم أنك نسيت؟"
حدج تبريق كين بنظرة حادة وهو يقول "حسناً، أيها السليط.. يبدو أنني لن أستطيع الإفلات منك هذه المرة.. فما الذي تريده مني حقاً؟"
جذب كين نفساً عميقاً، وبدأ يشرح لتبريق طلبه الصغير.. كان واثقاً من تقديره لما سيجري مع الملك فارس.. وهو مدركٌ أن الأكاشي الواثقون بأنفسهم والمعتزّون بهويتهم لا يمكنهم تخيّل أن الشعوب الأخرى تستحقرهم وتعاملهم بدونيّة.. وثقة الأكاشي هذه هي بالذات ما سيودي بهم إلى نهاية لا يتمناها أحدهم في حياته..
************************
رغم أن الخطة كانت تقضي بأن تتحرك ججي مع فرقة من الرجال نحو موقع الاجتماع مع هاكين وبقية زعماء القبائل الذين سيحضرون ذلك اللقاء، لكن ججي رفضت بكل عناد مغادرة موقعها بانتظار عودة تبريق مع كين.. كانت واثقة من نجاح تبريق في المهمة التي أوكلتها إليه.. وكانت واثقة كل الثقة أن كين سيعود معه بعد أن يتخلص من جنود الكشميت.. لم يخايلها الظن ولو لوهلة أن كين قد لا يعود لها هذه المرة كما كانت تتوقع.. لذلك كانت صدمتها وعصبيتها كبيرتين وهي ترى تبريق يعود بعد ما يقارب عشرة أيام مع من صاحبه من الرجال بدون أن تلمح كين معه.. تلفتت في الموقع بحثاً عن أي أثر له، ثم قالت لتبريق مقطبة عند اقترابه منها "أين هو؟.."
نظر لها تبريق بصمت للحظة ملاحظاً الاستياء الواضح على وجهها، فقال وهو يدرك الثورة التي عليه مواجهتها بعد جملته هذه "لم أتمكن من إعادته.."
نظرت له بصدمة للحظة، ثم صاحت بثورة "ماذا تعني بذلك؟"
نظر لها تبريق بصمت وهي تقول بغضب "أتحاول إقناعي أنك لم تتمكن من استعادة كين أنت وكل رجالك؟.. كيف يمكنك أن تعود إليّ بفشلك هذا؟"
قال تبريق بحزم "لم أفشل يا جام.. لكن كين رفض العودة معي بإصرار.."
قالت بغضب "هذا محال.. لا يمكن أن يعود كين إلى الكشميت راضياً.. لا يمكن أن يفعل ذلك.."
فقال تبريق "لم أنت متشبث به هكذا؟"
نظرت له بغضب عارم وصاحت "كين لا يمكن أن يتخلى عن الأكاشي.. لا يمكن أن يرحل وسط هذه الظروف التي نعيشها.. أنسيت أن معظم نجاحاتنا كانت بسبب مخططاته تلك؟"
هز تبريق رأسه قائلاً "أأنت تخشى من فشلك بدونه أم أنك تريده هو؟.."
فقالت بجفاء "ما الذي تعنيه؟.. أفصح لو كنت تملك رأياً تريد إقناعي به.."
زفر تبريق بضيق بينما وقفت ججي في موقعها وهي تشدّ على قبضتي يديها بقوة وملامح وجهها منقبضة.. ثم سمعته يقول "حتى متى ستتمسك به يا جام؟.. عليك أن تطلقه وتتركه يعود لعالمه.."
صاحت بحنق "عالمه؟.. هل أقنعك أنه راضٍ بالعودة إليه؟"
قال تبريق هازاً رأسه "لا.. لكن لم يكن له بدٌ من ذلك.. إنه ليس رجلاً عادياً.. إنه أمير من الكشميت.. مهما هرب، فسيستعيدونه مهما طال الزمن.."
نظرت له ججي بنظرات حادة حانقة وهي تود لو تطرده لئلا تسمع المزيد، بينما أضاف تبريق "عليك أن تدرك أنك وهو لا تجتمعان أبداً.. أنت من الأكاشي الهمجيين.. وهو من الكشميت الغرباء.. كين لم يكن يوماً من الأكاشي ولم يكن ولاؤه لهم بأي حال.. ولو بقي معنا وقاتل إلى جوارنا طوال هذه السنين، فهذا لا يعني أنه قد أصبح منا.. ومادام عزم على الرحيل، فلا يمكننا إبقاؤه بيننا رغمًا عنه.."
فقالت ججي بحنق وقد فاض بها الكيل "اصمت.. لا أريد سماع المزيد.."
فقال تبريق بهدوء "كما تريد.. لكن ضع في ذهنك أننا لن نبقى هنا زمناً طويلاً.. علينا أن نبدأ سيرنا نحو موقع اللقاء مع الملك العربي قبل أن يغضب لتجاهلنا إياه ويعتبرها إهانة في حقه.."
وغادر تاركاً ججي تقف في موقعها وهي تشدّ قبضة يدها بقوة.. وتحاول ابتلاع هذا الخبر الذي لم يدُر في ذهنها أبداً طوال السنوات الماضية أن تسمعه في يومٍ ما.. وفي وقوفها وسط المخيم، شعرت أن الأنظار تتجه إليها بتفحص كرهته، وكأنها تقرأ تعبيراتها وتشمت من عجزها عن استعادة يدها اليمنى الذي لطالما لازمها بشكل شبه دائم.. عندها استدارت ججي وعادت لخيمتها بصمت مغلقة الباب خلفها بقوة.. تلفتت حولها شاعرة بحشد من المشاعر التي غلب عليها الحنق، عندها ركلت كل ما يمكنها ركله في خيمتها بغيظ، ثم تناولت سيفها وتسلّت بضرب بعض المِخاد الثقيلة به مبعثرة ما بقلبها.. ولولا خشيتها من تهاوي الخيمة على رأسها لشغلت نفسها بضرب الأعمدة الخشبية التي ترفعها.. ظلت على هذا الحال وهي تتنفس بقوة وتزفر بحدة بين ضربة وأخرى.. وتدمدم بأنفاس متلاحقة "كين الأحمق.. كين الغبي.."
ولما شعرت بذراعيها تؤلمانها لهذا المجهود، تهاوت جالسة قرب النار وسط الخيمة وهي ترمي سيفها بعيداً وتقول بغيظ "ذلك المعتوه.. فليهرب كما يشاء.. لطالما أدركت أنه لا يستحق أن يكون رجلاً.."
سمعت صوتاً يقول من مدخل الخيمة "أكلّ هذا الغضب لأنه تخلى عنك؟"
التفتت إلى المدخل لترى تينا تدخل الخيمة بخطواتها الهادئة كعادتها، وتأملت محتوى الخيمة المبعثر وججي تقول بحزم "لست غاضباً لأنه تخلى عني.. بل لأنه هرب في موقف حاسم كما نحن الآن.."
قالت تينا بسخرية "حقاً..!"
قطبت ججي دون أن تعلق، بينما أخذت تينا تلملم الأغراض المبعثرة وهي تقول "لو أنك كنت صريحة معه، ولو أوليتِه بعض الاهتمام لما اختفى بهذه الصورة.. لكن، والحال هكذا، ما الذي يربطه بهذه السهول الدموية كما يصفها دائماً؟.."
قالت ججي بضيق "ما الذي تعنينه؟.. أنا صريحٌ معه دائماً.. ألم أجعله ذراعي اليمنى؟.. أليست كلمته مسموعة بين رجال القبيلة كلهم رغم ضعفه وهزاله؟.. ما الذي يبغيه بعد؟"
نظرت لها تينا بتعجب، ثم اقتربت منها قائلة "من قال لك أن هذا ما يبغيه حقاً؟.. أتظنين أن أميراً مثله يرضى بأن يكون مجرد مساعد لزعيم قبيلة لا أهمية لها في هذا العالم؟.."
قالت ججي بغيظ "هل تستهزئين بقبيلتك يا تينا؟"
زفرت تينا وهي تقف أمام ججي التي أدارت وجهها جانباً بضيق، ثم جلست قربها وأمسكت كتفها قائلة "هو لا يريد أن يكون مجرد ذراعٍ أيمن لك.. هذا الدور يمكن أن يقوم به عشرات الرجال من هذه القبيلة دون أن يهمك هويته.. إنه يريد موقعاً أكبر وأقرب إليك من ذلك.."
ثم أحاطت وجه ججي بيديها وهي تواجه عينيها مضيفة "حتى متى ستتجاهلين مشاعره تجاهك؟.. بل حتى متى ستتجاهلين مشاعرك أنت؟"
حدجتها ججي بنظرة حادة متسائلة "مشاعري؟.. أي مشاعر تعنين؟.. إن كنت تعنين غضبي هذا فهو..."
قالت تينا بحزم "هذا الغضب يخفي مشاعر أخرى أكثر قوة ورقة.. مشاعر تنكرينها لأنك واثقة أنها ستجعلك أضعف مما تحبين.. مشاعر تعرفها أي أنثى في العالم بالفطرة إلا أنت.."
قطبت ججي بشيء من الاستنكار، فابتسمت تينا معلقة "لمَ لا تمنحين عقلك إجازة ليوم واحد وتسألين قلبك بإخلاص؟.. لو لم تصِلي لنتيجة هذا اليوم فحالك ميؤوسٌ منه.. لكني واثقة أن قلبك سيدلك على حقيقة ما يجري.."
ونهضت تتمّ عملها بتنظيف المكان، بينما بقيت ججي في موقعها متربعة قرب النار وهي مطرقة بصمت.. وبعد بعض الوقت، غادرت تينا بهدوء كما دخلت تاركة ججي تفكر وتفكر وتسأل نفسها باستمرار.. لمَ هي غاضبة حقاً؟.. الحرب قد أوشكت على الانتهاء، وهي قد اكتسبت خبرة كافية وأصبحت أكثر قدرة على اتخاذ الخطوات الملائمة لخوض معاركها دون الاستعانة بكين.. فلمَ هي مستاءة لرحيله؟.. لمَ تستنكر عليه أن يقرر التخلي عن الأكاشي والعودة لعالمه السابق؟.. لمَ تشعر بأنه خذلها بشدة؟.. ألأنه خدعها؟.. أم لأنه رحل دون وداع؟..
لم تعد قادرة على الجلوس في هذه الخيمة الخانقة، فخرجت منها واتخذت طريقاً يدور بها حول المخيم وهي تتأمل جوانبه بصمت.. ثم اتخذت موقعها المعتاد في جانب المكان حيث تطل على السهول الشاسعة خلفه وهي تتأمل الأفق بصمت ساهمة.. للمرة الأولى تقضي ججي وقتها صامتة بتفكير عميق فيما لا يخص القبيلة.. للمرة الأولى تفكر في أمر كين بهذه الحدة والإلحاح.. كانت تشعر أنها لو لم تفعل ذلك، فستمضي الأيام دون أن تفكر في أمرها مع كين كما يجب ودون أن تفك طلاسم هذه العلاقة التي لا تعرف لها اسماً.. ولو لم تفعل، فستظل ذكرى كين تورثها غصة كلما مرت بخيالها، وهو أمر لا تستطيع تجاوزه بعد أن قضت أهم سنواتها الماضية بقربه وقضتها معه.. لقد كان كين ملازماً لها ومتواجداً في حياتها بشدة بحيث لا تذكر حدثاً هاماً جرى لها إلا وكان كين طرفاً من تلك الذكرى..
************************
في تلك الليلة، عادت تينا إلى خيمة ججي التي التزمت بصمتها أغلب ساعات النهار، فقالت وهي تقترب منها حاملة بعض الطعام "أنت لم تتناولي أي شيء يذكر منذ الصباح.. أليس كذلك؟.."
غمغم ججي بصوت خافت "لا رغبة لي بالطعام.."
نظرت تينا لوجه ججي الصامت، ولم يغب عن عينيها الشحوب الخفيف الذي بدا عليه.. كما كان صمت ججي غريباً وهي التي اعتادت أن تلفت الأنظار بصوتها العالي في كل وقت.. جلست تينا قرب ججي وابتسمت لها، ولما استمر صمت ججي دون أن تلاقي أختها بعينيها قالت تينا بهدوء "هل فكرت بالأمر كما طلبت منك؟"
استمر صمت ججي وتينا تتساءل "هل أدركت حقيقة مشاعرك تجاه كين؟.. أم أنك لازلت بعنادك القديم؟"
فقالت ججي بحنق وغضب "وما فائدة ذلك؟.. لقد هرب ذلك الجبان دون أن يعبأ بي أو يهتم لما قد أشعر به.. إنه لم يهتم حتى بإبلاغي برغبته تلك بالرحيل.. كان يستغفلني طوال الوقت.."
قالت تينا بغير اقتناع "هذا مستحيل.. أنت لا تعرفين ما يعنيه وجودك بالنسبة له.."
أشاحت ججي بوجهها جانباً رافضة الاقتناع بما تقوله، عندها قالت تينا "هل أخبرك أمراً احتفظت به سراً لوقت طويل؟.."
لم تجب ججي بالرفض أو الإيجاب، فاستمرت تينا تقول "قبل زواجي من تبريق، ذهبت إلى كين، وصارحته بحبي له.."
نظرت لها ججي بدهشة، فأضافت تينا "أجل.. كين هو من كنت أحب قبل زواجي، وطلبت منه أن يتزوجني أو أن نهرب معاً.. وهو من رفضني بسببك أنت.."
غمغمت ججي "بسببي أنا؟.."
هزت تينا رأسها إيجاباً وقالت "أخبرني أنه لا يرى غيرك، ولا يهتم بفتاة إلا أنت.."
خفضت ججي رأسها معقودة الحاجبين، فضغطت تينا على يدها وقالت "لقد كان يحبك منذ البدء.. وقد صارحك بذلك مرات ومرات بكل الوسائل الممكنة.. هل تنكرين ذلك؟.. أنت من عامله بتجاهل ونكران لمشاعره.. أنت من تنكر لمشاعره بقسوة.. ومع ذلك، بقي إلى جوارك وبذل ما في وسعه لحمايتك ودفعك للأمام راضياً بأن يبقى مجرد نكرة.."
ظلت ججي صامتة وتينا تضيف "أتظنين أن أي رجلٍ قد يكون سعيداً عندما ينسب نجاحه إلى غيره؟.. كان يفكر ويخطط، ونجاح مخططاته ينسب إليك أنت.. لو كان شخصاً آخر لغضب وفارقك منذ البداية.."
قالت ججي بحدة "لقد فعلت ذلك لأحميه.. إنه شخص غريب، ولذلك لن يتردد أحد أعدائنا في قتله لتعطيلنا بأي صورة كانت.. وقتله لن يثير نقمة القبيلة ولن تطالب بدمه المهدور.. لذلك سيكون لقمة سائغة لكل من أراد الانتقام مني.."
فقالت تينا "هذا صحيح، لكنه لا يلغي أن كين فعل الكثير لأجلك منكراً ذاته.."
ثم هزت كتف ججي قائلة "ما الذي قاله لك قبل أن يغادر في الليلة الأخيرة؟.. لابد أنه ذكر شيئاً، فمثله لن يرحل دون تفسير أبداً.."
صمتت ججي متذكرة تلك الليلة.. تلك اللحظات الأخيرة التي رأت فيها كين وتحدثت معه.. راودتها غصّة قوية أعجزتها عن الكلام وهي تتذكر كل كلمة وهمسة خرجت من شفتيه.. وقتها، ومع انفعالها وغضبها مما تكشف أمامها من الحقائق، لم تكن مهتمة بما قاله.. ولم تتمعّن في كلماته وفي معناها.. كان همّها منصباً على الكثير من الأمور، بينما كان كين آخر اهتماماتها.. ولم يكن ذلك لأنها لا تهتم به حقاً، لكن لأنه كان أمراً مضموناً في حياتها.. كان وجود كين الدائم قربها وتأكيده على أنه لن لن يفترق عنها من الأمور التي دفعتها للتركيز على كل ما يشغلها وإرجاء التفكير به..
والآن، هي لا تندم على شيء قدر ندمها على هذا..
بعد صمت طويل أخرجتها تينا من ذكرياتها وهي تسأل بإلحاح "ما الذي أخبرك به يا ججي؟.. لا يمكن أن أصدق أن كين قد فضّل الصمت ورحل دون تفسير.."
زفرت ججي وقالت بصوت متغير "لقد أخبرني أنه لن يرحل أبداً دون سبب.. أكّد لي أنه لن يرحل قط، وأخبرني أنني أقوى أسبابه.."
ثم أضافت بصوت متهدج "لكنني لا أفهم.. كيف يدّعي هذا أمامي ثم يرحل بعدها مباشرة؟.. أكان يكذب عليّ؟.. هل رحل ساخراً من الفتاة البلهاء التي خدعها ببضع كلمات جوفاء؟.."
أمسكت تينا ذراعيها وقالت "ألم تفهمي أيتها الحمقاء؟.. لقد رحل بسببك أنت، ولأجلك أنت.."
نظرت لها ججي بدهشة وتينا تقول "لابد أنه يخشى عليك من بحث ملك كشميت عنه.. قد يسيء الملك فهم ما جرى لأخيه، وقد يحاول استعادته بالقوة لو رفض العودة هذه المرة.. عندها، لا يمكن ألا يصيبك مكروه وأنت لن تسمحي لهم باستعادة كين بالقوة.. أليس كذلك؟.."
خفضت ججي بصرها مجدداً بملامح متغيرة وهي تزم شفتيها المرتجفتين.. قاومت الدموع التي أوشكت على الانحدار على خديها بكل ما تملك.. ظلت تضم قبضتيها وتخفض وجهها وهي تودّ لو تبقى وحيدة.. فالندم الذي يحتشد في صدرها لن يزول بسهولة مهما ذرفت من الدموع.. والألم والتعاسة اللذان يبدوان على وجهها بوضوح من أشد ما تكره للآخرين رؤيته..
لكن تينا ضمّتها بقوة وقالت مشفقة "لا بأس يا ججي.. يمكنك استعادته دون شك.. إنه ما يزال حياً، وهذا يعني أن لقاءك به ليس مستحيلاً.."
لكن ججي لم تشعر بأي راحة لمثل هذا القول.. كل ساعة تمضي تزداد فيها المسافة بينهما، ويزداد كين بعداً عن قبضتها بشكل يزيدها أسىً فوق ما تتصور.. لم تتخيل يوماً أن تشعر بهذا الألم لرحيله، وأنها ستشعر بهذا الضياع والأسى لاختفائه..
ولكي تمنع دموعها من الانهمار بمذلة أمام تينا، ولكي تخلو لنفسها، فإنها نهضت وسارت بخطىً مترنحة إلى فراشها فألقت جسدها عليه وهي تغمض عينيها بقوة.. بينما وقفت تينا تراقبها بإشفاق بالغ وهي حائرة في الطريقة التي يمكنها بها أن تهدئ حزنها وألمها ذاك.. ججي القوية دائماً، والشجاعة بشكل يفوق البقية.. ججي الصلبة التي لم تنكسر لحظة موت أبيها وقدوتها بل اتخذت قرارها في تلك اللحظة بما عليها فعله دون تردد.. ججي التي تسخر من الهزائم ولا يرتجف جسدها لخوف أو ذعر.. هي ججي ذاتها التي تراها الآن بهذا الضعف البالغ والوهن الغريب.. أين كانت تخفي هذا كله عن عيني تينا؟..
لاحظت تينا ظلاً قرب الباب في تلك اللحظة، ولما استدارت إليه رأت تبريق يطلّ عبر الباب المفتوح ويشير لها لتتبعه.. ترددت تينا للحظة وهي ترمق شقيقتها الساكنة، ثم قررت أن عليها منحها بعض الوقت لتخلو لنفسها وترتب أفكارها فيما عليها فعله.. تناولت غطاءً سميكاً وغطت به جسد شقيقتها الصامتة، ثم غادرت بصمت بدورها وهي تتبع تبريق الذي همس "كيف هي الآن؟"
هزت تينا كتفيها بحيرة وقلة حيلة، فقال تبريق وهو يجذبها لتبتعد عن الخيمة "عليك تركها لترتاح قليلاً.. بعد أحداث هذا اليوم، ومع ما ينتظرنا غداً، من الأفضل لها الحصول على بعض النوم لتلتقي بالملك العربي بعقلٍ صافٍ.."
غمغمت تينا وهي ترمق الخيمة خلفها "لا أظنها ستحظى بأي نوم هذه الليلة.. فما جرى ليس شيئاً يمكن أن يبعث على الراحة.."
قال تبريق "أنتِ تبالغين.."
هزت تينا رأسها معلقة "لا.. بل أنا أثق بذلك.. ندمها على ما فرطت به، والمرارة التي تشعر بها لأنها لن تراه مرة أخرى سيكونان أقوى من أي تعب أو نعاس.."
ابتسم تبريق وقال محاولاً تخفيف القلق البادي عليها "لا ألومها لو حدث ذلك.. أنا بالكاد كنتُ أذوق نوماً منذ عدت للمخيم ورأيت فتاة جميلة سلبت عقلي رغم أنها كانت تناديني (يا أبتاه) منذ رأتني.."
قالت تينا مشيحة بوجهها "لكنك تنازلت عن تلك الفتاة التي سلبت عقلك بأسرع مما توقعت وعرضت عليها أن تطلق سراحها بعد أيام قليلة من زفافك منها.. كيف تريدني أن أصدق حباً تبخر بهذه السرعة؟"
فقال تبريق وهو يدير بصره جانباً بدوره "لو أنك عرفت كيف كان قلبي يتمزق ألماً وأنا أعرض عليها هذا الأمر، لأشفقت عليّ بالتأكيد.."
نظرت له بشيء من الشك متسائلة "أأنت واثق من ذلك؟"
نظر لها بابتسامة حانية وقال "وكيف أسعد بفراق الفتاة التي سلبتني عقلي؟.. هذا يعني أن أفقد عقلي وقلبي معاً في لحظة واحدة.. فما الذي سيتبقى مني بعدها؟"
أدارت تينا بصرها جانباً وقالت بشيء من الارتباك "أنت تجيد الكلام المعسول بشكل لم أتوقعه.. كدت للحظة أن أصدق ما تقوله.."
أحاطها تبريق بذراعه وغمغم "ليتك تفعلين ذلك.."
************************
في اليوم التالي، دخل تبريق خيمة ججي ليجدها جالسة قرب النار بصمت متجاهلة تينا التي تحدثها بحديث خافت.. فاقترب تبريق منهما متسائلاً "هل استدعيتني يا جام؟"
رفعت بصرها إليه قائلة بصوت حازم "علينا الرحيل للقاء الملك العربي.. أم أنك نسيت ذلك؟.."
كانت الجدية التي تبدو على وجهها غريبة مع انفعالها في اليوم السابق.. بدا أنها نبذت كل ما شعرت به في اليوم السابق، وارتدت ملامح جامدة حادة وكأنها ترفض أن يرى شخصٌ مشاعرها الحقيقية.. أم أنها نبذت تلك المشاعر بالفعل وتناستها؟..
لم يستطِع تبريق أن يسألها ما هي فاعلة بشأن كين، فقال عوضاً عن ذلك "كم رجلاً سنصطحب معنا؟.."
أجابت وهي تنهض واقفة "عشرون رجلاً.. سأجعل سادر على رأس القبيلة أثناء غيابنا كما هي العادة.."
نظر تبريق إلى تينا، فرآها تنظر إليهما بشيء من اليأس، ثم قال "لا بأس.. سيجهز الرجال خلال دقائق معدودة.."
وغادر الخيمة تاركاً تينا التي قالت لججي "هل ستتركين كين يرحل حقاً؟.. ألن تذهبي لاستعادته؟.."
قال ججي وهي ترتدي حذاءها استعداداً للرحيل "لقد رفض طلب تبريق منه العودة إلينا، فلمَ يجب أن أضيّع وقتي في اللحاق به؟"
قالت تينا بانفعال "هناك فرق بين تبريق وبينك أنت.. لو رآك أنت، ولو صارحته بحاجتك له وبحقيقة مشاعرك، فلا أشك أنه سيتخلى عن الدنيا ليبقى معك.."
نظرت لها ججي عابسة وقالت "من قال لك إنني بحاجته حقاً؟.. ما أشعر به وما أحتاجه أمران مختلفان تماماً.."
هتفت تينا "هذا لا يعني شيئاً.. هل ستكونين سعيدة بحياتك دون أن يكون كين قريباً منك؟.."
زفرت ججي باستياء، ثم ارتدت خوذتها وتناولت سيفها قائلة "لديّ من الأمور ما هي أهم من ملاحقة ذلك الأحمق.."
وضعت السيف في حزامها، وغادرت الخيمة فيما تنهدت تينا مغمغمة بضيق "من الأحمق بينكما؟.. حقاً ما عدت أدري!.."
انشغلت ججي بإعداد حصانها للرحلة الطويلة والتي ستأخذها للجانب الشرقي من السهول.. ثم امتطت ظهر الحصان ووقفت للحظة تدير بصرها في المخيم الهادئ في هذا الصباح.. كانت على وشك أن تتخذ خطوة هامة في حياة الأكاشي، وكل ما يقلقها إن كانت هذه الخطوة ستعود على قبيلتها بالخير أم أنها ستكون شؤماً عليهم لأجيالٍ طويلة.. هل سيذكرها أفراد قبيلتها بخير، أم أنهم سيلعنونها ببغض لما جلبته على رؤوسهم؟.. لكن أي خيار تملكه الآن؟.. لم تعُد القبيلة بذات القوة ولا التجهيز اللازم لمواجهة جيوش الملك، ومن حسن حظهم أنه عرض عليهم أن يبرموا معاهدة تحقن دماءهم ودماء جنوده قبل أن ينكسر رجال قبيلتها بالفعل ويسقطوا فريسة سهلة لجيوش الملك..
ومع كل هذا.. أي خيار تملكه الآن في كل ما تفعله؟..
رأت سادر يقترب منها مع بضع رجال من كبار القبيلة، وسمعته يقول "كن حذراً يا جام.. أكاد أشمّ رائحة الغدر في عرض الملك.."
غمغمت ججي بصوت خفيض "لمَ الكل مصرٌّ على هذا القول؟"
ثم نظرت لسادر قائلة "لا تقلق.. سآخذ حذري بالطبع.."
فقال سادر "هذا لا يعني أنك لا تستهين به.."
صمتت وهي تجول ببصرها في المخيم، ثم قالت "لا يمكنني التفريط بهذه الفرصة أبداً.. لأجلكم.. لأجل القبيلة كاملة.."
نظر لها الرجال بصمت، ثم قال سادر ببطء "وإن لمْ تعُد قط؟.."
ابتسمت ابتسامة باهتة وهي تجيب "أخوّلك التصرف بما في صالح القبيلة.. مهما كان ذلك القرار.."
في الآن ذاته، كانت تينا تقف قرب حصان تبريق الذي تململ بانتظار صاحبه.. صمت تبريق وهو يثبت السرج على ظهر حصانه وتينا تنظر إليه بتوتر قبل أن تقول "هل ستعود يا تبريق؟"
أجاب تبريق وهو ينهي عمله "سأحاول ذلك.. لن يمنعني من العودة إلا الموت.."
ازداد القلق في عينيها وهي تغمغم باستياء "لا تتحدث عن الموت الآن أرجوك.."
أمسك تبريق يدها وقال بابتسامة "لا تقلقي.. سأعود بالتأكيد.."
ابتسمت تينا ابتسامة متوترة بدورها، ثم قالت "هل ستمنع ججي من ارتكاب أي جنونٍ يودي بحياتها؟"
قال تبريق هازاً كتفيه "سأحاول، لكني لا أضمن ذلك بتاتاً.."
خفضت تينا بصرها بصمت وهي تضغط على يده بيديها، ثم همست "سأنتظرك حتى تعود.. فلا تجعلني أنتظر طويلاً يا تبريق.."
ابتسم تبريق وهو يلمس خدها بأصابعه وغمغم "سأعود يا تينا.."
وجدها تتراجع بصمت فيما امتطى هو ظهر حصانه دون أن يضيف كلمة أخرى، وجذب اللجام ليدير الحصان وهو يلكزه ليسير لاحقاً بججي التي انطلقت مسرعة وسط نظرات رجال ونساء القبيلة.. وخلال لحظات، تبعهما عشرون رجلاً على ظهور الخيل، حاملين أسلحتهم ودروعهم باستعداد تام للقتال وللدفاع عنها لأي لمحة غدر.. ابتسمت ججي وهي تواجه الأفق بنظراتها وتلكز الحصان ليركض بأقصى سرعته.. لكم هي فخورة بقبيلتها وبما حصلت عليه من ولاء تام من رجالها.. لم تتوقع يوماً أن تصل لهذا المكان، وأن تحصل على هذا الولاء.. ولا يغيب عن ذهنها الخطر الذي تسير إليه بإرادتها الحرة.. لكن، لو تحققت توقعات كين وكبار قبيلتها، فهي على الأقل لن تندم لما وصلت إليه.. على الأقل، حققت بعض طموحاتها، وحققت الغرض الذي لأجله اتخذ قادور قراره بجعلها رجلاً، رغم كل السخرية التي طالته جراء ذلك..
************************
في وقت آخر، وفي موقع آخر يبعد مئات الآلاف من الأميال عن سهول الأكاشي التي تحتل جزءاً صغيراً فقط من القارة العظمى، وفي ميناءٍ حيويٍ ينبض بالحركة الدؤوبة والأعمال التي لا تنتهي، رسَت تلك السفينة الكبيرة ذات الزخارف والرايات التي تحمل الشعار الملكي الخاص بتلك المملكة.. وفور رسوّها، في موقعٍ خاصٍ من الميناء يستوعب حجمها الكبير، تم مدّ جسر خشبي من السفينة وحتى رصيف الميناء الحجري..
ومن قلب السفينة، خرج كين ووقف على الجسر يتأمل الميناء الذي يعتبر جزءاً حيوياً من هذه المدينة العظيمة.. تأمل جوانب المكان بمشاعر مختلطة، متذكراً تلك الليلة التي خرج فيها من المدينة خائفاً يرتعد فرقاً من أي ظل يمر به.. ثم بعد تردد، دفع نفسه ليهبط نحو الرصيف الحجري ملاحظاً عدداً من الجنود الذين اصطفوا في جوانب الرصيف مكونين فرقة خاصة لحمايته واصطحابه في رحلة العودة نحو قلب المدينة..
سار كين عدة خطوات على الرصيف ملاحظاً الأعين الفضولية في جوانب أخرى من الميناء، عندما رأى تلك العربة التي توقفت قريباً من موقعه.. ظن كين أن تلك العربة آتية لاصطحابه، فتقدم نحوها بصمت عندما وجد بابها يفتح بسرعة ورأى شخصاً يرتدي ثياباً زاهية يخرج من العربة مسرعاً إليه.. تجمد كين للحظة وهو يرفع بصره ليرى تلك الشابة ذات البشرة البيضاء الشاحبة والشعر الفاحم والعينين السوداوين الدامعتين وهي تركض نحوه حتى رمت نفسها عليه وهي تعانقه بقوة..
بدا لكين، الذي لم يستوعب بعد أنه قد عاد لموطنه، وللعاصمة كاشتار، أن من يراها هي جزءٌ من حلم يحلم به.. رفع يداه بعد هنيهة وضم الجسد الباكي والشابة تقول من بين دموعها "كيف تفعل هذا بي يا كين؟.. لقد اختفيت لسنواتٍ طوال دون أن تصلنا أخبار عنك، إلا تلك الأخبار التي تناقلها الجنود بمقتلك في ميناء سربيل بعد أيامٍ من هربك.."
ورفعت وجهها المبلل بالدموع وهي تنظر إليه مضيفة بصوت مرتجف "لقد مرت عليّ أيامٌ وشهور كنت أثق فيهما أنك قد قضيت نحبك في موضع مجهول ولن نعثر عليك بعدها أبداً.. ولم أكد أصدق الأنباء التي وصلتنا منذ أشهر قليلة عن وجود كشميتي في سهول الأكاشي.. بل لم أصدق بتاتاً أنك أنت ذلك الكشميتي المجهول.."
ابتسم كين أخيراً وهو يقول "كيف حالك يا أختاه؟.."
قالت بنبرة لائمة "أتسألني الآن؟"
ثم شدت على يديه قائلة "لمَ لمْ تعُد طوال تلك السنين حتى بعد موت الملك سوجا وتولّي ترمين الحكم من بعده؟.. ألم تعلم أن ترمين قد أسقط جميع الأحكام الصادرة بحقك فور توليه العرش؟.."
غمغم كين "وكيف لي أن أدرك ذلك وأنا في تلك المنطقة المعزولة عن العالم بشكل شبه تام.."
نظرت له بإشفاق وهي تقول "يا لأخي المسكين.. كيف تمكنت من قضاء تلك السنوات مع تلك القبائل الوحشية التي تتصف بهمجية مطلقة؟.. لابد أن حياتك كانت عسيرة هناك.. هل كنت سجيناً لديهم؟"
ابتسم كين وهو يجذبها نحو العربة قائلاً "لم يكن الأمر سيئاً كما لك أن تتصوري.."
قالت باستنكار "مستحيل.. هل تقنعني أن العيش مع تلك القبائل التي لا تملك أي تحضر ولا معرفة كان أمراً مقبولاً؟.. هذا من سابع المستحيلات.."
غمغم كين وهو يستقر في العربة معها "ربما كان ذلك من وجهة نظر العالم كله.. لكن العيش في تلك السهول يخالف التوقعات بشكل قد لا تتصورينه قط.."
انطلقت العربة شاقة الطريق الذي يتجاوز بها السور الأول فالثاني فالثالث الذي يحيط بكاشتار.. ووسط السور الثالث، الذي يضمّ القصور الملكية وقصور كبار التجار والوزراء والطبقة الغنية من العاصمة، يستقر القصر الذي شهد طفولة كين وسنوات مراهقته الأولى.. قبل أن تضطره الظروف لهجر كل شيء والهرب متسللاً وسط أستار الظلام، في رحلة ساقه إليها قدره نحو عالم كان مجهولاً بالنسبة له..
************************
|