كاتب الموضوع :
عالم خيال
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ابنة السماء..
الفصل الخامس عشر {عهد جديد}
في اليوم التالي، في أول يوم لججي كزعيمة لقبيلة (أبناء الذئاب)، خرجت من خيمة أبيها، أو ما بقي منها، ووقفت تتأمل جوانب المخيم الذي بقي على دماره منذ تلك الليلة.. رغم تخلص الرجال من الجثث التي ملأت جوانبه، لكن لا تزال بقع الدماء متناثرة في أماكن كثيرة ورائحة الدماء تزكم الأنوف.. سارت ججي عدة خطوات حتى وصلت لمنتصف الساحة وسط المخيم، وجلست في الموضع ذاته الذي شغله قادور سنواتٍ طوال منذ وعت الدنيا وبدأت تراقبه باهتمام وشغف.. ظلت ججي صامتة وهي تجذب نفساً عميقاً، ثم زفرت بقوة وهي تستشعر هيبة الموقع الذي تجلس فيه، وتستشعر وجود أبيها الذي لطالما سُمعت أوامره الحازمة من هذا المكان..
رأت بضع رجال من الأكبر عمراً في القبيلة وهم يجلسون جوارها بصمت دون أن يبدو الامتعاض على وجوههم كما كانت تتوقع، بينما رأت جماعة من الرجال وقفت في جانب الساحة دون أن يحاول أحدهم إخفاء استيائه.. لكنها اكتفت بما تراه أمامها وهي موقنة أنها لن تحصل على رضى القبيلة كاملة.. لكن، على الأقل، لم يحاول أحدهم الهجوم عليها في الساعات القليلة الماضية.. وهذه بشارة سارة لها بالتأكيد..
سمعت أحد الرجال القريبين يقول لها "والآن، ما الذي ستفعله يا جام؟.."
تلفتت حولها في المخيم المدمر، وقالت "علينا البدء بنقل المخيم لموقع آخر أكثر أمناً.. سأذهب اليوم مع الرجال لتحديد الموضع الجديد لمخيمنا، وبعدها سنبدأ نقل الخيم والمتاع إلى ذلك الموقع وإنشاء مخيم جديد.. لو هطل الثلج من جديد، فسيصبح موقفنا أكثر حرجاً ونصف قبيلتنا تقضي الليل في العراء.."
عاد الرجل يقول "وماذا بعد ذلك؟.. أنت مدرك أن الملك العربي لن يتوقف عن محاولة غزو السهول مهما جرى لجيوشه.. ونحن ما عدنا نملك ما يكفي من الرجال لصدّ ذلك الهجوم بعد المعركتين الأخيرتين.. فما الذي سنفعله لو فوجئنا بهجوم جديد للملك قبل انقضاء هذا الشتاء؟.."
قلّبت ججي بصرها في الوجوه من حولها.. كانت مدركة لهذا الخطر القائم على القبيلة، لكنها لا تملك حلولاً سحرية لتخليصهم من هذا الهمّ بشكل نهائي.. فقالت لمن حولها "بمَ تشيرون عليّ؟.. أنتم أكثر خبرة مني في هذا المجال، ورأيكم يهمني بالتأكيد.."
تبادل الرجال النظرات الصامتة، وبدا لها أن الثقة التي وضعتها فيهم قد أعجبتهم ولو لوهلة.. ثم قال أحدهم "سيكون من المفيد أن نستزيد من الأسلحة والدروع.. فقد خسرنا الكثير بالفعل في هذه الحرب.."
صمتت ججي دون تعليق بينما قال آخر "رأيي أن نخاطب القبائل الأخرى.. وربما قبيلة طاغار بالتحديد.. فهم قد يمدّون لنا يد العون لو هددنا الجيش العربي بهجوم جديد.."
فقالت ججي "هذا رأي مناسب.. أظن أن طاغار قد يتمكن من تحريك القبائل لصدّ مثل هذا الهجوم كما حدث في المرة الأولى.."
قال آخر بضيق "ألن يظهرنا هذا بمظهر الضعيف ويغري بقية القبائل بالهجوم علينا؟.. قد يجدها أعداؤنا فرصة للقضاء علينا قبل أن نستعيد قوانا بشكل تام.."
أسرعت ججي تقول "لن نطلب عوناً من أحد، ولن نوحي لطاغار وغيره من زعماء القبائل أننا بحاجة لمساعدتهم.. ليس في الوقت الحالي على الأقل.."
تساءل الرجل القريب منها "ما الرأي إذاً؟.."
أجابت "سأتوجه إلى طاغار، وأبلغه بكل ما جرى لنا في تلك الليلة.. سأبلغه أن ذلك الهجوم قد لا يكون الأخير، وأننا يجب أن نتكاتف من جديد لصدّه.. وبناءً على رده علينا، سنعرف إن كنا نستطيع اللجوء لعونة في حالة تكرار مثل ذلك الهجوم أم أن علينا الاتكال على أنفسنا دون الحاجة لعون أحد.."
لم يعترض أي الرجال وججي تضيف "سأذهب برفقة رجلين إلى قبيلة طاغار منذ الغد.. وسأحاول العودة بأسرع ما يمكنني.."
قال الرجل الأكبر سناً "لا.. رحيلك برفقة رجلين فقط هو تقليل من شأنك.. عليك اصطحاب فرقة لا تقل عن سبع أو عشر رجال.. وإلا لن يأخذك رجال القبائل الأخرى على محمل الجد.."
فقالت ججي "لا بأس.. لم أكن أرغب باصطحاب الرجال لكي لا ينشغلوا عن العمل على تجديد المخيم.. لكن لا يمكنني ألا آخذ رأيك على محمل الجد كذلك.."
ثم نهضت قائلة "سأذهب لمعاينة الموقع الجديد لمخيمنا.. وبعدها، فليبدأ الرجال والنساء بنقل كل ما يمكن نقله من هذا الموقع.. كلما أنهينا العمل أسرع، كلما كان ذلك أفضل بالتأكيد.."
هز الرجال رؤوسهم دون اعتراض.. فاستدارت ججي لتنطلق في مهمتها تلك على ظهر الغبراء دون إبطاء.. وفي وقت لاحق من هذا اليوم، وبينما كانت ججي تذرع السهول في موقع بعيد من القبيلة متفحصة المكان، قال كين القريب منها بإصرار "سأرحل معك.."
تساءلت وهي تشدّ لجام الغبراء لتديرها في الموقع "لمَ؟.."
أجاب "لأنك متسرعة، ولا تقدّرين عواقب أفعالك بتاتاً.. أنا متأكد أنك لن تتواني عن خوض معركة ضد أي مهاجمين يعترضون طريقك.."
نظرت له متعجبة وتساءلت "وما العيب في ذلك؟"
قال بغيظ "ألا تدركين أنك لا يجب أن تندفعي في أي قتال بعد الآن؟.. أنت زعيمة هذه القبيلة، وخوضك أي معركة قد يستهدف حياتك.. لن يتمكن الرجال من حمايتك وأنت وسط الخطر.."
نظرت له بصمت للحظات، ثم أدارت وجهها جانباً قائلة "أنت لا تثق بالرجال الذين سيصاحبونني.. أليس كذلك؟.."
أجاب كين بضيق "بالطبع.. لازلتِ حديثة عهد بالزعامة، ولا يمكنك أن تثقي ثقة مطلقة برجالك بعد.. كما تعلمين، فأنتِ حالة خاصة في تاريخ الأكاشي.. وسيتطلب الأمر جهداً ووقتاً قبل أن تتمكني من السيطرة على قبيلتك سيطرة محكمة.."
لم تعترض ججي رغم أن قوله لم يعجبها.. هو ليس مجرد انعدام ثقة بالرجال من حولها، بل هو انعدام ثقة بقدرتها على تفادي أي اغتيال قد يقوم به الرجال في هذه الرحلة.. وهو أمرٌ لم يسرّها أن تسمعه من كين.. ثم سمعت مينار الذي اقترب منهما على ظهر حصانه يقول "وأنا مع كين في هذا.. لا يجب أن تأمني رجال القبيلة بعد، ولا بدّ أنك بحاجة لشخص تثقين به ليكون جوارك في كل وقت.."
نظرا إليه وهو يضيف "سآتي أنا أيضاً معك.. لابد أنك ستحتاجين لبعض العون لإقناع رجال قبيلة طاغار بأخذك على محمل الجد.."
غمغمت ججي "كنت أنوي جعلك تستلم أمور القبيلة أثناء غيابي يا مينار.."
لم يعلق مينار على هذا وهو يشير للموقع حولهما قائلاً "هذا موقعٌ مناسب جداً.. أليس كذلك؟.. هناك بئرٌ قديمة في المكان، وهي غزيرة المياه بالفعل ولا تزال تحتفظ بدفء الأرض في هذا الجو القارس.. كما أن الموقع فسيح بحيث يمنحنا رؤية جيدة لما حولنا لئلا نؤخذ على غفلة منا.."
تأملت ججي الموقع حولها دون اعتراض وغمغمت "بلى.. هذا المكان رائعٌ بالفعل.."
وزفرت وهي تدير أمر هذه الرحلة التي توشك على القيام بها في ذهنها.. لقد تجاوز الأمر إقناع رجال القبيلة بزعامتها عليهم.. عليها الآن أن تواجه القبائل الأخرى وتثبت نفسها كزعيم قادرٍ ومؤهلٍ لقيادة قبيلته.. عليها أن تحصل على احترامهم، وإلا لن تتمكن من الثبات في موقعها لوقت طويل.. والأسوأ أن هذا حدث قبل أن تتمكن من الثقة بولاء رجال قبيلتها لها بشكل تام ونهائي..
************************
في هذا اليوم، انشغلت تينا بعملها تماماً في الخيمة الخاصة بتبريق.. لقد علمت أن المخيم سينتقل لموقع جديد، لذا بدأت استعداداتها لهذا الأمر منذ استيقظت فجراً.. بدأت تجمع ما نجا من صناديقها وأغراضها المنزلية البسيطة، وقامت بطيّ الفرش والسجاجيد قرب مدخل الخيمة استعداداً لحملها نحو الموقع الجديد.. ولم تنسَ المفارش والملابس التي قضت سنواتٍ من عمرها في تطريزها بكل عناية وحب، لتجد أن الكثير منها قد ناله الدمار الذي حلّ بجانب الخيمة، وما نجا منه بدا بحالة مزرية لا تسر العين..
شغلت تينا نفسها بعملها تماماً لتتفادى أي حديث مع تبريق، وهي تخشى تلك المواجهة معه بعد أن رآها تتحدث مع كين في الليلة الماضية.. إنها لا تنسى غضبه واعتراضه في صبيحة زواجهما عندما حاولت إقناعه بألا يتدخل في أي أمر يخصها.. وقد حدد كين بالتحديد كسبب لهذا الغضب.. فما الذي سيفعله الآن وقد تجاهلت تحذيره ذاك؟..
وعندما رأته يقترب منها، عندما كانت تنفض ملابسها التي تبعثرت وتعيدها للصناديق المزخرفة، غلبها شيء من التوجس والذعر وهي تدير وجهها جانباً وتشغل نفسها بما تفعله.. تمنّت أن يرى انشغالها ويعزف عن الحديث معها، لكنه تقدم منها أكثر بصمت مما أثار رجفة واضحة في جسدها.. لا تدري سبب هذا الذعر الذي اعتراها، لكن شعورها بأنها قد فقدت والديها وأن أحداً لن يقف في وجه تبريق مهما تعامل معها بقسوة كان شعوراً قاسياً سبب لها خوفاً واضحاً..
توقف تبريق للحظة وهو يرى رجفة جسدها الواضحة، ثم قطب بشيء من الاستياء وقال "أأنت خائفة مني؟"
لم تجبه أو تنظر إليه وهي مستمرة بعملها، فوجدته يقترب حتى وقف قربها متسائلاً بضيق "ما الذي تظنين أنني سأفعله ليغمرك هذا الخوف مني؟"
نظرت له بتردد، ثم غمغمت برجفة واضحة وهي تدير وجهها جانباً "ستفعل ما يفعله كل رجال الأكاشي عندما يستبد بهم الغضب.. ولا أظنك تخشى اعتراض أحد على ما قد تفعله بي الآن.."
قال باستياء أكبر "ولمَ ظننت أنني سأفعل ذلك؟.. أأنت مقتنعة أنني سأستغل غياب أبيك لأعاملك بكل دونيّة؟.. لستُ من هذا النوع أبداً.. ثم ما الذي هيأ لك أنني غاضب بالفعل؟"
نظرت له بصمت وشيء من الحيرة، ثم قالت بتردد "ألستَ غاضباً لحديثي مع كين البارحة؟"
قال مشيحاً بوجهه "لو كنت غاضباً، لقمت بلكمه هو.. لكني لا أستطيع إيذاء امرأة بأي صورة كانت، ولا أستطيع أن أؤذيك أنت بالذات.."
تساءلت بدهشة "لماذا؟.. أليس ذلك طبيعياً بين رجال الأكاشي؟.."
قال تبريق "ربما.. لكنه ليس أمراً مقبولاً عندي أنا.."
ظلت تنظر له بدهشة متزايدة حتى سببت له الحنق وهو يقول "ماذا؟.. هل تستنكرين قولي هذا أم تكذبينه؟"
غمغمت بدهشة "لا.. لكني لم أتوقع أن أسمع قولاً كهذا من رجل من الأكاشي.."
فقال باستياء "وهل الأكاشي بهذا السوء في نظرك؟"
أدارت بصرها جانباً قائلة "بل هم أسوأ.."
صمت تبريق وهو يتأمل ملامحها التي لا يكاد يراها إلا واجمة أو غاضبة، ورؤية خوفها منه الآن قد أربكه بقدر ما سبب له من ضيق لنظرتها تلك له.. مد يده وأزاح خصلات شعرها عن جانب وجهها برفق، ولما التقت عيناها بعينيه، قال بجدية "كما قلت لك سابقاً، أنا مستعد لإطلاق سراحك متى ما شئتِ.. سأبقيك معي لو رغبتِ بذلك، وسأطلقك متى ما طلبتِ مني ذلك.. ضعي هذا في ذهنك دائماً يا تينا.."
غمغمت بغير تصديق "هل أنت واثق من هذا؟.. هل يسعدك هذا حقاً؟"
قال تبريق "لستُ أبحث عن سعادتي في هذه اللحظات.."
فقالت بعد تردد "وهل ستتنازل عني بهذه السهولة؟.. ألم تعلن تشبثك بي بكل عناد في السابق؟"
حاول تبريق استقراء ملامحها ومعرفة ما تعنيه بهذا السؤال، لكنها كانت تنظر له بصمت بانتظار جوابه.. فقال "وقد أدركت خطأ ما فعلته بك الآن.. فكيف أصرّ على الخطأ بعد هذا؟.."
ونهض مغادراً الخيمة فيما شدّت تينا قبضتيها على الثوب الذي تمسكه، وغمغمت بحيرة "أهذا مقدار الحب الذي ادّعيت أنك تكنّه لي؟.. هل تلاشى بهذه السرعة؟.."
لم تستطع تينا تفسير ما شعرت به في تلك اللحظات.. كانت في السابق تتمنى الفكاك من زواجها هذا، وتتمنى العودة لكين الذي كان يمثل حلماً طالما حلمت به.. لكن ذلك الحلم تبخر بسرعة، وكلما رأت كين مع ججي ورأت اهتمامه بها، شعرت أن حبها له يتلاشى ويخفت دون أن تدرك سبب ذلك.. أكانت تحبه لأنها ظنت أنه يبادلها الحب؟.. أم أن حبه لججي قد أشعرها بأنها لا تستحقه ولا تستحق اهتمامه؟..
والآن، رغم أن إعلان تبريق إطلاق سراحها يجب أن يثير في نفسها بهجة وسروراً، لكن كل ما تحسّ به هو الكآبة التي لا تدري سببها.. ما الذي تبغيه حقاً من حياتها هذه؟.. ما عادت تدري في تلك اللحظات..
************************
بعد رحلة لم تكد تتجاوز الأربعة أيام، أشرفت الفرقة الصغيرة المكونة من سبعة رجال بالإضافة لججي على مخيم طاغار الذي يحتل بقعة واسعة يصعب إغفالها.. ولما تأملت ججي المخيم بحماس واضح، قال أحد الرجال المرافقين لها "ما كان الداعي للترحال بهذه السرعة دون راحة إلا أقل القليل؟.. لسنا بعجلة من أمرنا حقاً.. والخيول قد أصبحت منهكة بشكل كبير.."
قالت ججي "لا يمكنني ترك قبيلتنا لوقت طويل، فلا ندري ما قد يجري لها أثناء غيابنا.. لذلك أفضّل الذهاب والعودة بأسرع ما يمكنني.."
لم يجادلها الرجل مقتنعاً بهذا المنطق، بينما قال مينار القريب "لننطلق الآن.. لو أنهينا مهمتنا بسرعة، فسنتمكن من العودة للقبيلة منذ الغد.."
لكزت ججي فرسها متقدمة من المخيم يتبعها بقية الرجال، بينما اعترض مينار بحصانه طريق كين الذي كان يقف صامتاً.. وإزاء نظرة كين المتسائلة، قال مينار "أنا أعلم أنك تملك عقلاً راجحاً يا كين، وأعلم أنك لن تتردد في مساعدة جام متى ما احتاج لعقلك هذا.."
قال كين بدهشة "ما الذي تقصده بهذا القول يا مينار؟.."
نظر مينار للرجال الذين ابتعدوا عن موقعهما، ثم قال "أريد منك أن تلتزم الصمت طوال بقائك في حضرة رجال هذه القبيلة، ولا تتحدث ما لم يوجّه إليك أي سؤال.."
نظر كين بدهشة متزايدة وضيق لمينار، لكن مينار استدرك قائلاً "لو تدخّلت في الحديث كعادتك وأبديت رأيك معارضاً أمراً من جام، فسيبدو أمام أولئك الرجال بمظهر الضعيف الذي لا يثق رجاله بكلمة منه.. كما أنني لا أريد أن تتعرض لأي مكروه بسبب أمرٍ ستقوله دون تقدير.. لا تدري ما الذي قد يبيّته الآخرون لك.."
غمغم كين "لا تقلق.. لن أفعل ذلك قطعاً.."
ولكز حصانه ليتبع الآخرين ومينار يلحقه.. وخلال وقت قصير، كانت الفرقة تتجاوز خيام المخيم بسرعة متوسطة دون أن يغيب عن عيني ججي النظرات التي يلقيها أفراد القبيلة عليها.. كانت قد لاحظت نظرات مشابهة في المرة السابقة التي أتت فيها لهذا المكان مع أبيها، لكن هذه النظرات الآن كانت أكثر حدة وانفعالاً.. لكنها لم تعبأ للأمر كعادتها وهي تصل لساحة القبيلة، فتترجل عن الغبراء يتبعها بقية الرجال.. وعلى الفور، لاحظت المجموعة اقتراب أحد الرجال منهم بتساؤل واضح، فتقدمت ججي قائلة "أريد مقابلة الزعيم طاغار.. لديّ أمر مهم أريد الحديث عنه معه.."
التفت الرجل إلى مينار القريب بتجاهل واضح لججي وهو يتساءل "ما الذي جاء بكم لقبيلتنا؟.. أهو بخصوص الهجوم عليكم من سفن الملك العربي؟.."
لم تُظهر ججي غضباً لتجاهل الرجل لها، بينما قال مينار بصرامة "جام هو زعيم قبيلة (أبناء الذئاب) بموافقة رجال القبيلة كلهم.. وتجاهلك لما يقوله قد يؤثر على العلاقات بين القبيلتين.."
نظر الرجل لججي بضيق، ثم عاد لمينار قائلاً باستنكار "حقاً؟.. هل رضي رجال القبيلة بتولية......."
قاطعه مينار قائلاً بحدة "ما يجري في قبيلتنا لا يخصّ أحداً غيرهم.. ونحن لم نأتِ لاستشارتك أو للحديث معك يا هذا.."
نظر الرجل بغضب لمينار، بينما تقدمت ججي قائلة "نريد رؤية طاغار.. أبلغه بذلك رجاءً، وله الخيار في قبول ذلك أو رفضه.."
لم يستطع الرجل مناقشة ذلك أو رفضه، فاستدار مغمغماً "انتظروا هنا.."
وتوجه إلى خيمة طاغار بينما ظلت ججي واقفة مع مينار الذي قال "أرأيت؟.. لهذا السبب كنت مصراً على القدوم معك.. ستحتاج لبعض الوقت لنيل ثقة بقية زعماء القبائل.. وسيكون الأمر أصعب من نيل ثقة رجال قبيلتنا بالفعل.."
غمغمت ججي "لا بأس.. لا يخيفني ذلك بتاتاً.."
عاد الرجل بعد لحظات قائلاً بجفاء "سيقابلكم الزعيم الآن.. اتبعوني.."
سارت ججي خلفه ومعها مينار وكين، بينما تأخر البقية بانتظار عودتهم.. دلفت ججي خيمة طاغار، لتجده في مجلسه وسط الخيمة وبين رجاله.. كانت ججي قد لمحت طاغار من باب خيمته في المرة السابقة التي أتت لرؤيته مع أبيها، وقد أدركت أن السنوات الماضية لم تكن رفيقة به جداً.. فهو قد بدا واهناً بشدة حتى أصبح لا يقدر على السير بمفرده إنما يتم حمله حملاً على سواعد رجاله.. ورغم أن بصره قد خفت بشكل كبير لكنه لا يزال قادراً على رؤية ما حوله بشكل جزئي.. ورغم كل الضعف البادي عليه، لكن ججي تعجبت أن رجال قبيلته متشبثون به حتى الآن ولم يحاول أحدهم إطاحته بعد.. لابد أن طاغار يحظى باحترامهم وولائهم العميق، وهو أمر غبطته عليه بشدة في تلك اللحظات..
جلست ججي حول النار بإشارة من طاغار الذي قال "من كان يتخيل أن تأتِ إليّ يا جام وقد أصبحت زعيماً لقبيلتك؟!.. هذا أمرٌ لم أتخيله في حياتي.."
علق أحد رجال طاغار بعبوس "لا أدري ما دها رجال تلك القبيلة ليسلّموا أمرهم لامرأة.. هذا حمق.."
تجاهلته ججي بينما نظر له مينار نظرة تحذير من التطاول على زعيمهم، فيما قال طاغار بهدوء "أنا لم أظهر استنكاري للأمر يا راك.. بل أبديت عجبي وربما إعجابي للأمر.."
ازداد العبوس على وجه المدعو راك، بينما ابتسمت ججي بشيء من الراحة لقول طاغار الذي بيّن لها أنه لن يرفضها أو يرفض أي أمر تقوله فقط لأنها امرأة.. ثم سمعته يضيف "كيف تمكنت من إقناع قبيلتك بهذا الأمر؟.. أود معرفة ذلك.."
قالت ججي "هناك أمرٌ أكثر أهمية جئت للحديث عنه يا سيدي.. وهو يستدعي منا تحركاً عاجلاً وتخطيطاً منظماً لتجاوزه.."
قال طاغار بهدوء "أتعني هجوم السفن على مخيمكم؟.."
ازداد تعجب ججي لمعرفة هذه القبيلة بالمعركة التي لم يمضِ عليها الكثير، فتساءلت "كيف علمتم بذلك بهذه السرعة؟.."
قال طاغار "مثل هذه الأخبار لا يمكن إخفاؤها.."
لم تعلق ججي على قوله وطاغار يضيف "في الواقع، لقد وصلتنا عدة أنباء من قبائل أخرى تسكن على الساحل تخبرنا بهجوم من عدة سفن للملك العربي على مخيماتها.. وبما أن مخيمكم على الساحل أيضاً، خمّنت أنكم قد تتعرضون للهجوم نفسه قبل أن تصلني أخباركم بالفعل.."
غمرت الصدمة ججي ومن معها لمثل هذه الأخبار، بعد أن كان ظنهم يجزم بأن الهجوم تركز على قبيلتهم فحسب.. فتساءل مينار "كم قبيلة تعرضت للهجوم غيرنا؟.."
أجاب راك "أربع قبائل، وأنتم القبيلة الخامسة.."
قالت ججي بقلق "هذا هجوم شامل وليس مجرد انتقام لما جرى منذ ست سنوات.. وما الذي جرى لتلك القبائل؟.."
قال طاغار هازاً رأسه "لم تكن الأخبار التي وصلتني سعيدة بتاتاً.. قبيلة (المِجَنّ) قد دمّر مخيمها تدميراً تاماً وتشتت رجالها لكونهم الأقرب في مسار السفن.. قبيلتا (المخلب الأسود) و(عين النسر) قد أصيبتا بأضرار وخيمة، لكنهم تراجعوا مبتعدين عن قصف المدافع تاركين مخيمهم ليعسكر فيه جنود الملك.. أما قبيلة (أبناء الضباع) فقد تمكنت من الخلاص من الهجوم بحرق مخيمها على من فيه من الجنود بالإضافة لحرق السفن التي اقتربت كثيراً من الساحل بسهام مشتعلة.."
غمغمت ججي بتفكير "هذا الهجوم الكثيف يعني أن الملك العربي ينوي الهجوم على الأكاشي من أكثر من موقع.. يبدو أنه يريد تفادي الهزيمة التي لحقت بجيشه السابق، لذلك يريد تشتيتنا بهذه الصورة ومنعنا من الانضمام في جيش واحد ومقاومته بقوة.."
علق طاغار قائلاً "هذا تحليل مشابه لما استنتجته من مثل هذه الأخبار.."
ثم قال باهتمام "والآن، ألن تخبرني بالوسيلة التي استخدمها رجالك للخلاص من هجوم تلك السفن؟.."
لم تجد ججي بداً من الحديث عن المعركة التي خاضتها القبيلة منذ عهد قريب.. وبعد أن أنهت شرحها المفصل لجوانب خطتهم تلك، قال طاغار وهو يمسد لحيته الطويلة "رائع.. تلك خطة مذهلة بالفعل.. جيد أنكم استغللتم جهل الأكاشي بالبحر لمفاجأة عدوكم من حيث لا يحتسب.. أكانت تلك خطتك أنت يا جام؟"
قالت ججي بثبات "أجل.. بهذه الطريقة اقتنع رجال القبيلة أنني مؤهل لاستلام الزعامة وأنني كفٌء لها.."
ظل طاغار صامتاً للحظة دون تعليق، فقطعت ججي الصمت قائلة "ما الذي تنوي فعله الآن بخصوص هذا الهجوم الذي باغتنا به الملك العربي؟.."
قلب طاغار كفيه مجيباً "وما الذي يمكنني فعله؟.. لن أتخذ أي تصرف في الوقت الحالي.."
نظرت له ججي بصدمة بينما انبرى مينار قائلاً "لكن، هل يمكنكم الصمت على هذا التعدي السافر على سهولنا؟.. نحن لن نكون الوحيدين المتضررين من مثل هذا الهجوم.. فسيصل الجيش إلى مخيمكم هذا وإلى باقي القبائل، وتواجهون الخطر ذاته الذي واجهناه.."
فقال طاغار بابتسامة "أدرك ذلك طبعاً.. هل تعدّني أحمقاً؟.."
غمغمت ججي بحيرة "إذن.. لمَ.....؟"
أجاب "نحن في بداية الشتاء.. الثلج قد هطل في مواقع كثيرة من هذه السهول، وأغلب القبائل تمتنع عن التحرك والترحال في هذا الجو شديد القسوة.. لا أظن جيوش الملك العربي، والتي أتت من جو أدفأ من هذا بكثير، ستقدر على مواصلة هجومها في مثل هذه الظروف.. لابد أنها ستنتظر في مواقعها حتى ذوبان الثلج، وعندها يمكنها أن تواصل مهمتها بسهولة أكثر.."
عندها قالت ججي بحماس "إذن هي فرصتنا للقضاء عليها مادامت عاجزة عن الحركة.. فلنفاجئهم بهجوم قوي ونتخلص منهم للمرة الأخيرة.."
مسّد طاغار لحيته كعادته وهو يغمغم "لا أظن الأكاشي يفضلون القيام بهجوم على أعدائهم في مثل هذا الجو.. ستضطرون للبقاء في العراء أثناء الإعداد لهذا الهجوم، وسيكون هذا في غير صالحنا بالتأكيد كما أنه سيضعف عزائم الرجال.."
صمتت ججي وهي عاقدة ذراعيها بتفكير.. بينما أضاف طاغار "سأبلغ القبائل القريبة برأيي هذا، وسأنصحهم بأن يقوموا بالهجوم على معسكرات الجنود فور ذوبان الثلوج.."
قالت ججي باعتراض "ما لم يكن الأمر منظّماً وبتوقيت متقارب، فسيكون الأمر في غير صالحنا.. ستتخذ المعسكرات التي لم تواجه بأي هجوم حذرها فور أن يصلها خبر استهداف أحد معسكراتها الأخرى.."
قال طاغار بهدوء "لا أعارض ما تقوله يا جام، لكن هذا كل ما يمكنني فعله.. حتى الآن، يمكنك اعتبار هذه الاعتداءات فردية، وستتعامل كل قبيلة مع الهجوم الذي واجهته بنفسها كما نفعل عادة.."
قطبت ججي بضيق بينما أضاف طاغار "لا تحاول أن تكرر ما فعله قادور.. فالفارق بينك وبينه يساوي الفارق في النتائج.. ولو أطاعت القبائل قادور بإيعاز مني، فذلك لأنهم لم يجدوا حرجاً في اتّباعه في تلك الحرب.. أما أنت، فشأنٌ آخر بالتأكيد.."
لم تستطع الاعتراض على هذا القول وهي تدرك أنه لا يقصد التقليل من شأنها.. عندها قالت "أرجو أن نبقى على تواصلٍ فيما يخص هذا الأمر طوال الوقت.. وسأبلغك بأي تحركات أشهدها للملك العربي في الأنحاء القريبة من مخيم قبيلتنا.."
هز طاغار رأسه موافقاً، ثم قال موجهاً حديثه لمينار وكين "أريد الحديث مع جام على انفراد.. فهل تسمحان لي بذلك؟.."
لم يعترض أحدهما وهما يغادران الخيمة وقد سبقهما بقية رجال قبيلة طاغار، لتبقى ججي جالسة مع طاغار وحيدة في الخيمة.. عندها قال لها "لقد آلمني خبر موت قادور عندما وصلني.. لقد كان رجلاً عظيماً وقائداً بارعاً بنظرة ثاقبة.. ولا أنسى له مساهمته في صدّ جيش الملك العربي الذي كاد يجتاح السهول قبل ست سنوات.."
خفضت ججي بصرها بصمت تقديراً لكلمات طاغار، وسمعته يضيف "لطالما أعجبت به وبآرائه.. ورغم اختلافي العميق مع رأيه بتنشئتك كرجل، لكني الآن لا يسعني إلا أن أسلّم بما فعله وأبدي إعجابي بصحة توقعاته حتى الآن.."
فقالت ججي "لم أكن لأصل لما وصلت إليه لولا جهود أبي.. وسأظل أذكر له وقوفه معي طوال السنوات الماضية.."
علق طاغار قائلاً "البقاء في هذا المنصب ليس سهلاً يا جام.. إنه يتطلب جهداً كبيراً، ولكن عليك بادئ ذي بدء أن تتخلص من خوفك من رجالك.. يجب ألا تخشاهم، ويجب ألا تظل خائفاً من اللحظة التي سيقفز أحدهم بخنجره نحو صدرك.. لو تخلصت من هذا الخوف، فستقدر على أن توجّه جهودك للعمل على تثبيت موقعك وإثبات أحقيتك بهذه الزعامة.."
هزت ججي رأسها موافقة وهي تقول "سأفعل ذلك بالتأكيد.."
فقال طاغار "لا أشك بقدرتك على ذلك.."
ساد الصمت للحظات وججي تفكر فيما قاله طاغار، ثم سمعته يقول "عندما وصلتني أنباء تغلبكم على السفن التي وصلت الخليج وهاجمت مخيمكم، انتابتني الدهشة لتمكنكم من ذلك رغم أن الأكاشي لا يقدرون على تجاوز العائق بينهم وبين السفن وهو البحر.. أكانت هذه خطة الكشميتي الذي يرافقك؟"
دهشت ججي لقول طاغار، رغم تأكيدها السابق بأن الخطة كانت خطتها هي.. لكن بدا أنها لا يمكن أن تفلت بكذبة مثل هذه أمام حدسه الصائب وخبرته الطويلة.. فتساءلت "كيف علمت بذلك؟"
ابتسم طاغار معلقاً "يمكنك أن تقول إنني أعرف الأكاشي حق المعرفة، وحفظت أساليبهم عن ظهر قلب.. ما فعلتموه لا يدلّ على أنه بتخطيط من الأكاشي.. لذلك زال تعجبي على الفور عندما رأيت ذلك الكشميتي الذي يرافقك.. وراودتني فكرة أنه قد يكون صاحب ذلك التخطيط.."
فقالت ججي "بلى.. تلك كانت خطته، وقد آتت ثمارها بالفعل.."
عندها قال طاغار بعد أن زالت ابتسامته "استمع إليّ يا جام.. كما قلت لك، سيكون صعباً عليك الاحتفاظ بالمنصب الذي حصلت عليه.. وستسعى بعض القبائل للإطاحة بك بكل ما تملك، رفضاً لهويتك التي يستنكرونها.. لكني لا أتمنى ذلك.. لم يعد لدي الكثير لأعيشه، وما عدت أتشبث بقوانين الأكاشي التي لا تتغير أو تتبدل مهما مرت عليها السنوات.. الأكاشي لا يعتدّون إلا بالقوة، لكن القوة ليس قوة الساعد والجسد فقط.. فمن يملك عقلاً قد يكون هو صاحب الكلمة الأخيرة بالفعل.."
قالت ججي "بمَ تنصحني إذاً؟.."
أجابها بحزم "احتفظ بأمر هذا الكشميتي سراً.. لا تدع أحداً يعلم أنه صاحب ذلك المخطط، وصاحب الفضل في نجاح معركتكم مع العدو.. لا أشك أن ذلك الكشميتي سيكون ذا فائدة جمّة لك منذ الآن لو أحسنت استغلال ذكائه، لكن لو علمت القبائل بأمره، فقد يلجأ أحدهم للتخلص منه لتجريدك من نقطة تفوقك على البقية.. وقد يكون هو وسيلتك الوحيدة لإثبات نفسك للجميع.."
قالت ججي بثبات "لا تقلق.. لن أفعل ذلك بتاتاً.. ولن أسمح لأحد بأن يصل إليه أبداً.."
فابتسم طاغار قائلاً "جيد.. أتطلع لرؤية ما سيجري بعد الآن.."
نهضت ججي بعد أن فرغ طاغار من حديثه، واستدارت مغادرة الخيمة لتقف عند بابها قائلة له "لمجرد العلم، ذلك الكشميتي اسمه كين.."
اتسعت ابتسامة طاغار بصمت، بينما غادرت ججي الخيمة عائدة لرفاقها.. بهذا، هي حصلت على دعم طاغار وقبيلته ومباركتهم.. الآن تشعر أنها ليست في موقف الضعيف الذي تهزه الرياح كيفما شاءت.. أصبحت أكثر ثباتاً وقوة، ومما لا شك به أن هناك العديد من القبائل ممن تتبع كل رأي لطاغار ولن تتردد في الانضمام إليه عندما تدعو الحاجة..
************************
أثناء رحلة العودة للمخيم الجديد، وبينما عسكرت المجموعة في إحدى الليالي وخلد أغلب أصحابها للنوم، اقتربت ججي من كين الذي جلس على مبعدة متدثراً بمعطف صوفي مبطن بالفرو، والذي لم يكفِ لتدفئته في هذه الليلة القارسة حيث كان يراقب في نوبة الحراسة الأولى.. فجلست قربه بصمت وهي تعبث بالأرض العشبية عند قدميها، فتساءل كين "ما الأمر؟.. منذ اجتماعك بطاغار وحيدة وأنت مهمومة بشكل واضح.."
قالت ججي زافرة "لست مهمومة، إنما أفكر فيما سنفعله في الأيام القادمة.."
علق كين "أمامنا عدة أيام من العمل الشاق لإعادة تعمير المخيم.. هناك الكثير من الموارد التي احترقت وتلفت، وعلينا التزود مما ينقصنا منها لمواجهة الشتاء الذي حلّ بقوة.."
قالت بضيق "فقط؟.. أنسيت أننا قد نكون على مشارف حرب جديدة؟.."
فقال كين "الأكاشي عادة لا يشغلون أنفسهم بأي حرب إلا عند وقوعها، فما الذي يمكنك فعله منذ الآن؟.."
غمغمت "لا أدري.. لكن لا أستطيع الصمت على هذا.."
والتفتت إلى كين قائلة "والحق يقال، لقد فاجأتَني بتلك الخطة المذهلة التي ساعدتنا على التخلص من الجنود المعسكرين في مخيمنا.. لن أنسى لك هذا قط يا كين.."
غمغم كين بدهشة واستغراب "ما الأمر؟.. من النادر أن أسمع منك شكراً.."
قالت بجدية "لأنك أسديت لي جميلاً لن أنساه لك قط.. لذلك كان يجب أن أشكرك بكلمات واضحة.."
ابتسم كين دون أن يخفت تعجبه، فيما أضافت ججي "وأريد أن أطلب منك أن تستمر بتزويدي بآرائك الراجحة وخططك البارعة في المستقبل أيضاً.."
قال كين بارتباك "ليس الأمر كما تصفينه، إنما كنت أحاول معاونتك صادقاً لأنني خشيت أن يقتلك رجال القبيلة.. لست أملك خبرة كافية في هذا المجال.."
قالت ججي وهي تمسك كتفه بقوة "بل يبدو لي واضحاً أنك تملك عقلية تتفوق علي في هذا الأمر.. حتى آراءك المتفرقة في المعارك التي خضناها قد كانت صحيحة في كل مرة.. لا يمكن أن يكون هذا مصادفة.. فهل ستعاونني في هذا الأمر يا كين؟.."
نظر لها كين بصمت، ثم غمغم "وهل يمكنني أن أرفض؟.."
ابتسمت ججي براحة، ثم ربتت على كتفه مضيفة "إذن سأعتمد عليك في هذا الأمر.."
هز كين رأسه موافقاً وهو يشعر بشيء من السوء لأنه قد لا يكون كما تتوقع ججي منه.. هو يمتلك خبرة ضئيلة من قراءاته السابقة عندما كان في كاشتار، وقد كان يهتم بقراءة التاريخ المفصل لمملكة كشميت والحروب التي خاضتها، كما أنه يفكر بطريقة تختلف عن تفكير الأكاشي.. لذلك تكون خططه مختلفة عن خطط الأكاشي المعتادة والتي تتخذ نهجاً مباشراً وواضحاً.. فهل هذا كافٍ لجعله مخطِّطاً حربياً بارعاً كما تصفه ججي؟..
سمعها تضيف "هناك أمر آخر.."
نظر لها باستفهام، فأضافت "لا يمكنك أبداً أن تخبر أحداً بأنك صاحب تلك الخطط.. سيبقى هذا سراً بيننا، ولن يعلم به إلا مينار وتبريق، فأنا أثق بهما.. عدا عن ذلك، لا يمكنك التصريح بهذا الأمر لأي مخلوق كان.. اتفقنا؟.."
انتاب كين شيء من الضيق وهو يعلق "أتخشين أن يستهين بك الأكاشي لو علموا أن تلك الخطط ليست لك؟.."
قالت بحزم "بل أخشى أن يستهدفوا حياتك يا كين.. يمكنهم أن يسعوا للخلاص منك لتجريدي من نقطة تفوق عليهم، وأنا لا أريد أن أتسبب بأي أذىً لك.. لذلك افعل ما أطلبه منك.."
كان ذلك أمراً أكثر منه طلباً، وبينما بدا الاستياء بوضوح على وجه كين للهجة التي حدثته بها، فإنها قالت "سأجعلك يدي اليمنى، فأنت كفؤٌ لهذا المنصب.. وهذا سيجعل لك مكانة عالية في القبيلة.. ألا يسعدك هذا؟.."
هز كين رأسه موافقاً بصمت، فربتت ججي على كتفه بقوة وسرور ظاهر على ملامحها، ثم نهضت مغادرة تاركة إياه لأفكاره.. هل هذا ما يسعى إليه حقاً؟.. لم يعد كين يدري ما يسعى إليه وما يريده وسط هذه الأحداث التي يفترض بها أن تكون بعيدة عن اهتماماته حقاً..
وفي اليوم التالي، وبينما سارت الفرقة الصغيرة عبر السهول في طريق العودة، اقترب مينار بحصانه من ججي وقال "ما الذي تنوي فعله الآن؟.."
قالت ججي ببساطة "لا شيء.. العودة للمخيم وتعميره.. هذا كل ما يهم الآن.."
علق مينار قائلاً "لا.. هناك ما هو أهم.. وهو توطيد أواصر العلاقات بين القبائل الموالية لنا ومعرفة موقفها منك بعد أن أصبحت زعيماً.."
تساءلت ججي "ولمَ عليّ فعل ذلك؟.. كلنا نعرف من يوالينا ومن يعادينا من قبائل الأكاشي.. فهناك قبيلة (المخلب الأسود) التي تتعارك معنا على المراعي القريبة من مخيمنا الشتوي ولا تنفكّ تخوض مناوشاتٍ دائمة مع رجالنا.. وهناك قبيلة (جلْوان) التي هاجمتنا في إحدى السنوات الماضية محاولة سرقة ماشيتنا أثناء انتقالنا للمخيم الصيفي.. أما قبيلة........."
قاطعها مينار قائلاً "هذا معروفٌ لأصغر طفل في القبيلة.. لكن درج زعماء القبائل عند استلامهم للزعامة على مراسلة حلفائهم من القبائل الأخرى وتوطيد العلاقة التي يمكن لها أن تنفصم لأدنى سبب.. وأنت، بظرفك الخاص وبما تمثله من تحدٍ للقبائل الأخرى، أدعى لأن تقوم بهذا العمل فور استلامك للزعامة.. قبيلة طاغار هي البداية، لكن لا يجب أن تكون هي نهاية المسار.."
علقت ججي قائلة "إذن، هل عليّ أن أرسل رسلي إلى تلك القبائل فور وصولي للمخيم؟.."
أجاب مينار "لا.. عليك الرحيل بنفسك لمقابلة الزعماء.. قد يعتبرون إرسال الرسل استهانة بمكانتهم، وقد لا تعرف من يواليك حقاً بردٍّ شفوي لا معنى له.. المواجهة هي خير ما يمكنك فعله لمعرفة خبايا النفوس تجاهك.."
اقترب كين الذي استمع لحديثهما بصمت وقال باعتراض "لكن قدوم ججي إليهم قد لا يكون له أحسن الأثر في نفوس الرجال، وما جرى مع رجال طاغار هو مجرد عيّنة لما قد يجري في القبائل الأخرى.. ربما كانت الرسائل الشفوية أكثر أمناً وأقل استثارة لغضب تلك القبائل من رؤيتهم لها وهي تدخل مخيمهم على ظهر فرسها.. فقد يعتبر الزعماء هذا العمل بمثابة تحدٍ لهم وتجاهلٍ لكل ما يبغضونه.."
فقال مينار "لكن قدومها إليهم دليلٌ على سعيها للتحالف معهم بإخلاص.. لا يجرؤ على إرسال الرسل في مثل هذه المواقف إلا زعماء القبائل القوية ذات التأثير بين الأكاشي.."
قالت ججي بانعدام صبر "هلّا اتفقتما على رأي واحد؟.. أنتما تشتتاني.."
تبادل مينار وكين النظرات، ثم قال كين بعد لحظة تردد وقد غلبه القلق من استثارة غضب مينار "الرأي يظل رأيك يا ججي.. وسنتبع ما تقولينه.."
صمتت ججي للحظة وهي تقلّب الأمر في ذهنها، ثم قالت بحزم "العمل اليدوي مملٌ جداً.. لذلك أنا مع اقتراح مينار.."
نظر لها كين بغير تصديق للوسيلة التي اتخذتها لاتخاذ هذا القرار، بينما قالت ججي لمينار "أرسل أحد الرجال إلى المخيم لإبلاغهم بما اعتزمت فعله.. وسننطلق من فورنا إلى هدفنا التالي، وهي القبيلة الأقرب إلينا.."
استدعى مينار رجلاً لتلقينه تلك الرسالة، بينما زفر كين معلقاً "أنت تتعاملين مع الموقف بتهاونٍ كبير.."
قالت ججي بانشراحٍ تام "وأنت تحب تعقيد الأمور.. بعض الترحال لا يضير أحداً يا كين.."
صمت كين متراجعاً عن التعليق الذي يود قوله.. إن ججي تستهين بموقفها، وتستهين بنظرة رجال الأكاشي لها.. والآن، بعد أن بدأت تكتسب بعض الثقة والولاء من رجال قبيلتها، فإن هذا قد بدأ يعمي عينيها عن الخطر الذي قد تواجهه كزعيمة أنثى وسط مجتمع يكره المرأة بكافة الأشكال..
************************
دامت الرحلة التي اتخذتها ججي مع الفرقة الصغيرة من رجالها ما لا يقل عن ثلاثة أسابيع، جابت فيها جانباً من سهول الأكاشي وزارت فيها ما يقارب أربع قبائل كانت موالية لأبيها، بالإضافة لقبيلتين كانتا على حياد وقد تأمّلت ججي أن تكسبهما لصفها بشكل أو بآخر.. لكن ما واجهته ججي في تلك القبائل لا يقل عما رأته في عيون الرجال في قبيلة طاغار.. كانت تواجه بسخرية وغضب شديدين، ولا يتوانى الزعماء عن رفض مقابلتها بكل صراحة أو حتى طردها من مخيم القبيلة دون اعتبار للصلات التي كانت بين القبيلتين سابقاً.. ولم يكن ذلك مثار غضب ججي قدر قلقها من أن يتسلل ذلك الغضب والضيق لرجال قبيلتها مع تلك المعاملة..
وأخيراً، بعد رحلة طويلة ومرهقة، قررت ججي أن العودة للقبيلة هو أفضل خيارٍ متاحٍ لهم، وعلقت على نظرات كين الصامتة قائلة بضجر "أدرك ما تودّ قوله يا كين.. لقد قمت بتحذيري، وأنا رفضت الانصياع لنصيحتك تلك.."
ثم أضافت "لكنني لست نادماً.. من الأفضل لي مواجهة هذا الأمر بنفسي، ورؤية حقيقة الواقع بدل التحليق في الخيال.."
ابتسم كين معلقاً "هذا منطق معقول من شخص لا يتعامل بالمنطق أبداً.."
نظرت له بغيظ، عندما اقترب منهما مينار حيث جلسا جانباً في الموقع الذي اتخذوه معسكراً لهم لتلك الليلة، وقال موجهاً حديثه لججي "لقد عاد الرجل الذي أرسلناه للمخيم قبل قليل.. وهو يحمل لنا بعض الأخبار.."
تساءلت ججي بقلق "ما الذي جرى في غيابنا؟.. هل اقترب أعداؤنا من المخيم؟.."
أجاب مينار "لا يتعلق الأمر بأعدائنا، فلا تزال الأمور مستقرة هناك.. لكن الأمر يتعلق برسولٍ من قبيلة (الأرقط) وصل مخيمنا قبل بعض الوقت بحثاً عنك.. وهو موجه إليك من زعيم تلك القبيلة براد.."
نظرت له ججي باهتمام وقالت بلهفة "ما الذي يريده منا؟.."
أجاب مينار "إنه يدعوك للقدوم لقبيلته في زيارة سلمية.."
تزايدت لهفة ججي وهي تقول بحماس "أليست تلك القبيلة من القبائل المحايدة بالنسبة لنا؟.. أهذا يعني أنه يريد إنشاء حلفٍ معنا؟.. هذا رائع.."
قال مينار مقطباً "ليس كذلك.. هذه الدعوة في هذا الوقت بالذات لا يمكن أخذها بتهاونٍ أبداً.. لابد أن لبراد مطمعاً فيك ويريد تحقيقه.. وإلا ما معنى أن يدعوك لزيارته في الوقت الذي رفضت كل القبائل استقبالك في مخيماتها؟.."
قالت ججي "لا داعي لهذا التشاؤم.. لابد أن أخبار المعركة التي خضناها مع سفن الملك العربي قد وصلت إليه وأثارت إعجابه.."
علق كين "أنا مع مينار في هذا.. عليك أن تكوني أكثر حذراً يا ججي.."
قالت ججي بشيء من الضيق "أنا لست أحمقاً.. يمكنني أن أدرك متى ما كان براد يريد استغلالي، ويمكنني أن أوقفه عند حده لو لزم الأمر.."
فقال مينار "إذن هل تنوي الانطلاق إلى قبيلة (الأرقط)؟.."
أجابت ججي بحزم "طبعاً.. وبأسرع ما يمكن.."
************************
|