كاتب الموضوع :
عالم خيال
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ابنة السماء..
الفصل الثالث عشر {الزعيم}
تجمد الموقف بشكل كامل في تلك اللحظة التي أشرقت فيها شمس ذلك اليوم.. فبعد ليلة قاسية وطويلة خاض فيها الرجال قتالاً غير متكافئ مع جيش الملك العربي، وبعد أن قتل العديد منهم ونجا من نجا منهم مثخناً بجراحه، وبعد أن اضطرت القبيلة كاملة للجلاء عن مخيمها واللجوء للكهوف القريبة دون أي طعام أو ماء أو غطاء يقيهم برد ذلك الشتاء، اكتملت صدمة القبيلة برؤية ججي بفكها الذي غرق بدماء أبيها، وبنظرة عينيها الزائغتين، وبصوتها المرتجف الذي يعلن أنها قد أصبحت زعيماً للقبيلة خلفاً لقادور..
تجاوز كين صدمته الكبيرة لما رآه بصعوبة، وحلّ محله توجس كبير وهو يمسك ججي التي فقدت الوعي، بينما تعالت همهمة ساخطة من الرجال القريبين قبل أن يقول أحدهم بصوتٍ واضح "ما الذي تظن تلك المجنونة أنها فاعلة؟.."
علق آخر "أمن المفترض أن تصبح زعيمة هذ القبيلة؟.."
أسرع آخر يقول باستنكار "هذا مستحيل.. الأكاشي لا يخضعون لامرأة.."
فقال مينار الذي اقترب ووقف قرب كين وججي "المفترض أن جام قد أصبح زعيماً لهذه القبيلة بعد التهامه لقلب قادور.. فما الذي يمنع خضوعكم له؟.."
قال أحد الرجال بسخط "لكنها امرأة.."
علق مينار قائلاً "أنت تعلم أنها ليست أقل رجولة من أي شخص منكم.. وقد هيأها قادور لتصبح زعيمة بعده منذ أمد بعيد.."
ظل كين ينظر لمينار بدهشة وصدمة لما يسمعه، لكن بإشارة من مينار، حمل كين ججي على ظهره وابتعد بها عائداً للموقع الذي وضعها فيه عندما أحضرها للكهف لأول مرة.. كان يتعمد الابتعاد عن موقع الرجال قدر استطاعته، كي يبقيها بعيدة عن أيديهم وعن بطشهم بعد كل ما جرى.. وفي الآن ذاته كان يسمع صياح أحد الرجال الذي قال بحنق "أنت تعلم أن الزعامة لا تنتقل باختيار الزعيم السابق وليست ورثاً يورثها لأبنائه.. وبالتأكيد ليس لبناته.."
فقال مينار "لقد أراد قادور ذلك، وهذا ما حدث.. فلم الاعتراض الآن؟.."
قال أحد كبار السن "مينار، أأنت مقتنع بما تفعله؟.. لمَ دفعت الفتاة لما فعلته ولم تحاول استلاب الزعامة لنفسك؟.. لو فعلت هذا، لكنا أكثر تقبلاً لزعامتك ولتبعناك بإخلاص.. أما هذه....."
فقال مينار "لمَ تصرّون على معاملتها كفتاة الآن؟.. لمَ لمْ يجرؤ أحدكم على التذمر بصوت واضح أمام قادور سابقاً؟.. لم خضعتم لما فرضه عليكم ولم تمتلكوا الجرأة على انتقاد تصرفه إلا بعد موته؟.."
قال أحد الرجال بسخط "لقد كنا صامتين لأننا أدركنا أنها مجرد هذيانٍ من رجلٍ قد بلغ من العمر أرذله.. لكن بعد موته فقد بدأ الأمر يتجاوز حدود المقبول وأصبح يهدد أمننا ويجعلنا سخرية لبقية القبائل.."
لوّح مينار بيده قائلاً "يهدد أمنكم؟.. وأي أمان تخشون عليه بعد كل ما جرى؟.. لقد قاتل جام أفضل من أي رجل منكم البارحة، ولم يلجأ للهرب حتى بعد إصابته العميقة.. فما الذي يجعلكم موقنين أن وجوده سيجعل أمنكم مهدداً؟.."
قال رجل بحنق "ستهجم علينا القبائل الأخرى محاولة فرض سيطرتها علينا.. فما دمنا قد رضينا بتولية امرأة علينا فهذا يشي بضعفنا وخنوعنا مما يجعلنا مطمعاً سائغاً لأي عدو.."
فقال مينار "لم يعُد لنا أمانٌ بعد أن سُلب منا مخيمنا وطردنا منه شرّ طرده.. فلنترك الخلاف بيننا ولنصبّ اهتمامنا بهذا العدو الذي احتلّ بلادنا دون خوفٍ منا أو وجل.."
صاح رجل بغضب "لا يمكننا الصمت على هذا مهما حاولت إقناعنا.."
دار مينار ببصره بينهم والهتافات الغاضبة تتعالى من الرجال حوله، عندها قال بازدراء "طبعاً.. فأنتم الأكاشي الهمجيون الذين لا يعرفون العقل ولا التعقل.. إن كل ما يشاع عنكم لا يخالف الواقع بتاتاً"
قال أقرب الرجال إليه بحنق "أتسخر منا يا مينار؟.."
قال مينار بحزم "بل أقرر واقعاً أراه أمامي.. العدو قد استولى على كل ما نملك، وكبّدنا خسائر لا يمكن أن نحصيها، ومع ذلك نجد الوقت الكافي للجدال فيما بيننا عن أحقية جام للزعامة ونتهدده ومن يواليه بالقتل.. أهذا يدلّكم على أي تعقل؟.."
فقال أحد الرجال باستياء "لم يكن هذا ليحدث لو لمْ توسوس لجام بفعل ما فعله.."
عندها قال مينار "ما حدث قد حدث.. على الأقل، كفوا عن العراك لليلة واحدة والتفتوا لجرحاكم وانْعَوا موتاكم.. وغداً لكل حادث حديث.."
تبادل الرجال النظرات الحانقة بصمت، ورغم ذلك تيقّن مينار أن هذا الجدل قد أرجئ لوقت آخر، وأصبحت ججي في مأمن من غدرهم ولو لليلة واحدة..
في تلك الأثناء، وبعد وصول كين لموقع منبسط وسط الكهف، وضع ججي على الأرض القاسية دون أن يجد ما يفرشه تحتها.. وجد أنها لا تزال تحتفظ بالخنجر الذي ناولها إياه مينار، فحاول انتزاعه من قبضتها ليجد أن أصابعها متشبثة به بقوة بشكل أثار دهشته.. نظر كين لوجه ججي الذي بدا عابساً بألم شديد، وإن كان يدرك أن هذا لم يكن بسبب الجرح الذي أصابها سابقاً.. فغمره إشفاق شديد عليها وهو يمسح الدماء عن وجهها بينما تعالى صياح الرجال الغاضب من وسط المخيم..
نظر كين خلفه لموضع تجمع الرجال الغاضب بقلق ثم عاد ببصره إلى ججي التي لم تستفق من غيبوبتها بعد.. فزفر هامساً "ما الذي حدا بك لفعل ما فعلته يا ججي؟.. كيف يمكنك أن تتصرفي بهذه الوحشية كما يفعل بقية الأكاشي؟.. ولكن..... أنتِ من الأكاشي بالفعل.."
تنهد وهو يتأمل ملامحها الصامتة، ثم بحث عن سيفه الذي كان قريباً وشد عليه بيده بإحكام.. لو لم يتمكن مينار من تخفيف غضب رجال القبيلة، فقد يحاول أحدهم قتل ججي ليستلب الزعامة لنفسه.. لكنه لن يسمح لأحدهم بذلك.. لن يسمح لهم بلمس شعرة من رأسها ولا الاقتراب منها بأي نوايا عدوانية.. تأمل وجهها ملاحظاً الشحوب البادي عليه، وزفر وهو بدهشة وصدمة لما رآها عليه في تلك اللحظات..
رغم كل ما شهده من ججي طوال السنوات الماضية، لكنه لم يتوقع تصرفاً مثل هذا الذي قامت به دون تردد.. والأسوأ أنها فعلت ما فعلته بأبيها الذي كان يدرك مقدار المحبة والاحترام الذي تحمله له، والإعجاب الذي تكنه له في قلبها.. ألهذا الحد يشغلها أمر حصولها على الزعامة بحيث تغضّ البصر عن الوسيلة التي عليها اتخاذها للوصول إليها؟.. أم أن هذا كان بإيعاز من مينار ولم يكن من ضمن خطط ججي سابقاً؟.. هو لا يذكر أنها تحدثت عن الزعامة وعن رغبتها بالوصول إليها.. بل إنها لم تكن تقبل بفكرة موت قادور وتغيّر زعيم القبيلة قط.. فكيف تغير كل ذلك بلحظة واحدة؟..
ما الذي سيقوله قادور لو عرف أن قلبه سيكون من نصيب ابنته التي لم تتردد في التهامه ولو لثانية واحدة؟.. ابنته التي رعاها واهتم بتدريبها ورفع منزلتها وسط هذه القبيلة، لم تتمهل للحظة حداداً على موت هذا الأب بل سارت في طريق تحقيق طموحاتها غير آبهة بكل ما جرى..
************************
بعد انقضاء ساعة على الصياح الذي تعالى في الجانب الآخر من الكهف، هدأت الأصوات فجأة وساد الصمت بحيث زاد قلق كين أكثر فأكثر.. كان كل ما يجري هنا يثير توجسه، وهذا الهدوء قد لا يكون بشارة خير لما قد يحدث لججي.. لكنه بدلاً من رؤية رجال القبيلة، رأى تينا التي وقفت قربهما بعينين حمراوين وشفتين مرتجفتين.. نظرت لكين ولججي بصمت، ثم تقدمت حتى انهارت جالسة قرب ججي التي لم تستفق من غيبوبتها بعد.. عندها غمغم كين قاطعاً الصمت "تبدين متعبة يا تينا.. لمَ لا تلجئين لبعض........."
قطع قوله وهو يراها تميل على ججي وتقبض على عنقها بيديها بقوة وهي تتنفس بحدة وانفعال.. هبّ كين نحو تينا وجذب ذراعيها وهو يهتف "ما الذي تفعلينه؟.. توقفي.."
كانت تينا تضغط على عنق ججي بأقوى ما تملك، وبدأ الاحتقان يبدو على وجه ججي فيما دمدمت تينا بصوت مرتجف "كيف أمكنك أن تفعلي ذلك؟.. أهذا كل ما يهمك؟.. بدل البكاء على أمك وأبيك، تندفعين لاقتناص الفرصة لنفسك حتى لو عنى ذلك أن تلتهمي قلب أبيك؟.."
جذب كين ذراعيها بقوة ودفعها خلفاً وهو يصيح "ما الذي تفعلينه يا تينا؟.. هل فقدت عقلك؟"
صاحت بغضب "هي السبب فيما أنا فيه من تعاسة.. هي السبب وقد فضّلت أن تجاري الرجال في قتالهم متجاهلة أمها التي ماتت دفاعاً عني.. هي السبب وهي التي لم تكن موجودة لتحمي أبيها.. كيف يمكنني أن أقبل بأختٍ تلتهم جسد أبيها فور موته؟.. إنها أبشع من أي رجل عرفته من الأكاشي.."
قال كين بحدة "هذا هراء.. أنت تريدين أن تلومي ججي لأي شيء بدا لك.. لقد حاولت ججي الدفاع عن المخيم وأنقذت الكثيرين أثناء القصف.. لمْ تلجأ للهرب كبقية النسوة وفضّلت أن تقاتل رغم أن ذلك قد يعني موتها.. التزمت بأوامر قادور ولمْ تغادر إلا بعد أن أصيبت وفقدت الوعي.. والآن، لمْ تفعل ما فعلته إلا بإيعاز من مينار.."
صاحت تينا "ولمَ قد يفعل مينار ذلك؟.. لمَ دفع ججي لفعلٍ قبيحٍ مثل هذا؟"
سمعا صوت مينار من خلفهما يقول "هذه كانت وصية قادور.. ولم يكن أمامي خيارٌ إلا بتنفيذها.."
التفتا إلى مينار الذي اقترب منهما بتعب بالغ بعد أن قام أحد الرجال بتضميد جراحه كيفما اتفق.. فجلس قرب ججي يطمئن عليها بينما قالت تينا بصوت مرتجف "لا يمكن ذلك.. لا أصدق أن أبي قد يسعى لهذا حتى لو كان ذلك بعد موته.."
فقال مينار "لكن هذا ما حدث.. فلو كان هناك من يجب لومه، فهو قادور وليس جام.."
ظلت تينا تحدق بوجهه بصدمة، بينما قال كين بحدة "وهل يسعد قادور بفكرة أن ابنته ستلتهم قلبه وتصبح زعيمة القبيلة؟.. أكان يسعى لأن تلقى حتفها بأسوأ وسيلة ممكنة على يد رجاله؟.. لو أنه أمر بقتلها لكان ذلك أهون مما اضطرها لفعله ولما ستلاقيه في الأيام القادمة.."
غمغم مينار "كشميتي مثلك لن يفهم ذلك أبداً.."
قال كين باعتراض "كيف تريد مني أن أفهم أمراً كهذا؟.. لا يمكن لججي أن تنجح في هذا مهما حاولت.. قد تكون أقوى من الشباب ممن يماثلونها في العمر، لكنها لن تكون أقوى من الرجال الأكبر سناً والأكثر خبرة منها.. مبارزة واحدة مع أحدهم ستُفقدها حياتها في لحظات قصيرة.."
زفر مينار قائلاً "لا ألومك على هذا.. لقد كان هذا رأيي بالفعل عندما صارحني قادور بالفكرة.. كنت مقتنعاً أن هذا محض جنون.. ولك أن تتخيل رد فعل قادور عندما صرّحت له بذلك.."
عاد مينار بذاكرته لإحدى الليالي عندما اجتمع به قادور منفردين في جانب المخيم ليطلعه على قراره بدفع ججي لاستلام الزعامة لو قضى نحبه على يد أحد أعدائه.. عندها لم يملك مينار أن يقول باستنكار "هذا جنون يا قادور.. لقد كانت فكرتك بتحويل ججي إلى رجل وإعلانها ابناً لك مسلية في البدء، وهي قد آتت ثمارها بالفعل.. لكن أن تجعلها زعيمة من بعدك، فهذا ما سيودي بحياتها بالفعل حالما تتجرأ على فعل ذلك.."
حدجه قادور بنظرة غاضبة وهو يقول "أظننتني استدعيتك لأخذ رأيك يا مينار؟"
قال مينار دون أن تخيفه نظرة الغضب تلك "لا.. أنا أدرك أنك لا تستشيرني في أي أمر يخص جام.. لكن، أريد أن أفهم دوافعك لتصرفٍ خطير كهذا.."
زفر قادور وصمت للحظات، ثم قال "لقد كانت تلك مجرد فكرة بالفعل.. عندما مات سيجان، شعرت بالدنيا تظلم أمام عيني.. شعرت أنني وحيدٌ ومنقطع بين الأكاشي.. لم أكن بمزاجٍ كافٍ للبحث عن زوجة جديدة تمنحني ذلك الابن وأن أنتظره حتى يكبر ويشتد ساعده.. شعرت أنني أصبحت كبير السن على هذا الأمر، وزادني همّـاً أمر ذلك الملك العربي الذي يستهدف سهولنا بشكل واضح مع تهاون الأكاشي في البحث عن وسيلة لصدّه.. تخيّلت سخرية الزعماء مني، وأنا الزعيم الذي لا أملك أبناءً يشتد بهم ساعدي وتقوى بهم عزيمتي.. وضاقت عليّ نفسي حتى كدت أموت من الغم.. حتى رأيت ججي ترتدي خوذة سيجان وتمسك سيفه الذي يفوقها طولاً.."
صمت مينار مستمعاً لقادور الذي أضاف "كانت فكرة مجنونة بالفعل، كما أكد لي الجميع.. لكني رأيت أن الفرصة مناسبة لأخرس جميع الزعماء قبل أن يسخروا مني بالفعل.. ماذا لو أنني، وأنا الذي لا أملك ابناً أفخر به، أستطيع أن أجعل ابنتي أفضل من جميع أبنائهم؟.. أن تكون ابنتي هي الأقوى، والأمهر، والأذكى بينهم؟.. ألن يجعلهم هذا يخجلون من معايرتي ببناتي وأنا لا أملك إلا هنّ؟.."
غمغم مينار بغير اقتناع "هذا ليس مقنعاً.."
فقال قادور "ليس مقنعاً لك الآن، لكنه كان مقنعاً لي وقتها.."
عندها علق مينار "ربما.. لكن هذا لا يبرر سعيك لجعلها زعيمة لقبيلتنا.. هذا يفوق الجنون بالفعل.."
زفر قادور من جديد وهو يتأمل المخيم الذي يرتمي عند قدميهما حيث جلسا على إحدى التلال العالية، ثم قال "بعد أن شهدت سعي ججي الحثيث لتحقيق ما صبوتُ إليه، وبعد رؤيتي لمثابرتها وذكائها الملحوظين، بدأت الفكرة تبدو أكثر واقعية مما قد تظن.. بجعلها الزعيم من بعدي، لو أصابني مكروه لأي سبب من الأسباب، ستكون ججي أكثر أمناً مما لو كانت مجرد فرد من هذه القبيلة.. بعد أن أقضي نحبي، لن يتردد الزعيم القادم في التخلص منها ومن العار الذي يجلبه وجودها في هذه القبيلة.. لكن بكونها زعيماً للقبيلة، ستكون بأمانٍ جزئي حتى تتمكن من أن تثبت وجودها للقبيلة كلها، ولا أشك بأنها ستتمكن من ذلك.."
ثم ابتسم ابتسامة جانبية معلقاً "وبكونها زعيماً للأكاشي، ستكون هذه هي ضحكتي الأخيرة في وجوه كل من جرؤ على السخرية مني ومما حاولت تحقيقه عبرها.."
نظر له مينار بغير تصديق، ثم قال "أأنت واعٍ لما تقوله يا قادور؟.. تريد أن ترمي ابنتك في النار لكي تثبت أنها قادرة على النجاة منها؟.. أنت تريد لها أن تتبعك فور موتك بالفعل.. وهذا ما سيجري في اللحظة التي تحاول فيها اقتناص الزعامة لنفسها.."
ثم أضاف بضيق "لا يمكنك أن تطلب من ابنتك أن تنهض لتولي الزعامة في لحظة دون إعداد.. هذا سيسبب لها صدمة شديدة وستستنكر ذلك بالتأكيد.."
فقال قادور "من قال إنني لا أفعل ذلك؟.. أنا أعدّها للزعامة بالفعل، لكن بشكل تدريجي وغير مباشر.. لو طلبت منها أن تلتهم قلبي عند موتي وتتولى الزعامة من بعدي، فلابد أن يصيبها ذلك بالذعر.."
قال مينار بحنق "هذا لا يكفي.."
قال قادور وهو ينظر له بثبات "ألن تعاونها لو كنتَ موجوداً؟"
نظر له مينار مقطباً، ثم قال "لو لم أكن جزءاً من مخططك هذا منذ البدء، ولو لم أعرف ججي حق المعرفة وأكن طرفاً من صراعها لنيل ما نالته، لكنت أنا المبادر في قطع عنقها بالفعل.."
فقال قادور بابتسامة جانبية "وهل ستفعل؟"
زفر مينار وهو ينهض ويغادر تاركاً قادور وحده غارقاً في خططه التي يعدها الجميع جنوناً يفوق الخيال.. فكان تعليق كين على ما ذكره مينار من ذلك الحديث "ولماذا قمت بتنفيذ مخططه ذلك مادمتَ تعده جنوناً بالفعل؟.. هل كنت تريد لججي أن تفقد حياتها حقاً؟"
نظر له مينار باستياء وأجاب "بل أردت رؤية ما طمح له قادور.. الأكاشي يكرهون التغيير كراهية عارمة، لذلك كان من المثير للضحك رؤية انفعالهم لمثل هذا التغيير الصارخ الذي قد يؤدي لقلب الكثير من الأمور الخاصة بالمرأة في عالمنا.. من المثير للضحك رؤية هلع الرجال لما قد تصل إليه المرأة لو كانت تتحلى ببعض العزم، ومداراتهم لذلك الهلع بالغضب والقسوة في المعاملة بشكل مفضوح تماماً.."
فقال كين بغير تصديق "كلاكما قد أصابه الجنون بشكل تام.."
علق مينار قائلاً "ربما.. لكنه تغيير نحو الأفضل دون شك.. ليس لججي فقط.. ولا لنساء الأكاشي.. بل لرجالهم أيضاً.."
ونظر لكين مضيفاً "قد لا يبدو هذا التغيير بوضوح.. لكن مع الأيام والسنوات القادمة، يمكننا أن نأمل أن يغيّر هذا شيئاً في الأكاشي أنفسهم دون أن يملكوا الاعتراض على ذلك.."
عاد كين يغمغم باستنكار "هذا جنون تام.."
لم يعلق مينار على هذا القول، بينما غمغمت تينا بصدمة "كيف يمكن أن يصل التفكير بأبي لهذا الأمر؟.. ألهذه الدرجة هو يسعى لرفع ججي فوق مستوى الجميع؟.. ألهذه الدرجة هي مفضلة عنده؟.. ما الذي فعلته لتنال تلك الحظوة؟.."
نظر لها مينار بشيء من الإشفاق وقال "أنا أعترف أن قادور لم يكن منصفاً معك ومع ستينا بأي شكل من الأشكال.. لكنه، بخلاف رأيه في المرأة عامة، يتمتع برجاحة عقل تمكنت من تثبيته كزعيم لهذه القبيلة لعقودٍ طوال.. ولا نملك إزاء قراراته تلك إلا أن نرى توابعها، ونأمل ألا يكون مخطئاً هذه المرة.."
لم تعلق تينا وهي تحدق بوجه ججي التي لم تستفق من غيبوبتها، ثم نهضت ودفعت نفسها دفعاً للابتعاد عن ذلك الموقع دون أن تلقي على شقيقتها نظرة أخرى.. فنظر مينار إلى كين قائلاً "على أحدنا أن يبقى معها في الساعات القادمة، فلا يمكننا تركها لانتقام بقية رجال القبيلة.."
قال كين "سأبقى أنا.. أنت بحاجة لبعض الراحة بعد أحداث الليلة الماضية.. رغم أني لا أعرف كيف يمكنك الراحة في مثل هذا الكهف البارد والقاسي.."
ربت مينار على كتفه، ثم ابتعد بصمت فيما بقي كين جالساً قرب ججي وهو يزفر بحدة محتفظاً بسيفه قرب يده بتحفز تام.. ولا تزال صدمته لما رآه من تصرف ججي تعجزه عن تصديق ذلك بشكل تام.. وكأن ما جرى كان جزءاً من هلوسة مرت عليه في لحظة ضعف، لا واقعاً رآه بأم عينيه بكل قساوة توحي بها طبيعة الأكاشي أنفسهم..
************************
مع انقضاء ساعات ذلك النهار، كان الوضع في الكهوف التي توزع فيها أفراد القبيلة أسوأ ما يمكن.. كان البرد يزداد شدة مع مرور الساعات ومع الغيوم التي هيمنت على السماء، وللعجب بدأت ندف الثلج في الهطول بشيء من الكثافة رغم أن ذلك حدثٌ نادرٌ ولا يتكرر بشكل سنوي في هذا الجزء من السهول.. ولكن بدا أن كل الأمور قد تضافرت لجعل حياة أفراد القبيلة أسوأ مع البرد القارس وغياب أي وسائل للتدفئة إلا النيران التي أشعلت في أكثر من موقع، كما كان شحة الطعام والقليل من الماء الذي عثروا عليه في جانب أحد الكهوف عاملاً مساعداً في إنهاك القبيلة أكثر فأكثر..
وفي ذلك الوقت، لم تكن ججي أفضل مما سبق.. كانت الحمى ترجف جسدها رجفاً، والعرق يتصبب من وجهها الذي احمر بشدة حتى أصبح مقارباً لشعرها الأحمر في اللون، بينما شفتاها الجافتان تتحركان بين وقت وآخر في هذيان هامس لا يكاد يفهم كين منه كلمة..
ولما اقتربت تينا من ذلك الموقع، فإنها ألقت نظرة على كين الذي جلس جانباً والذي تحفز شيئاً ما لاقترابها.. فغمغمت بضيق "لا تقلق.. لن أحاول تكرار ما فعلته صباحاً.."
بدت الراحة على وجه كين لقولها ذاك، عندها قالت تينا مبررة أفعالها التي تراها الآن لا تقل وحشية عما فعلته ججي "لقد كنت على وشك الانهيار لكل ما رأيته البارحة، وللصدمة التي أصابتني لكل من فقدته.. لكني لا يمكن أن أقتل شقيقتي وهي فاقدة للوعي حقاً.. لستُ بتلك الخسّة أبداً.."
فقال كين بهدوء "أنا أدرك أنك لستِ كذلك.."
ألقت نظرة على وجهه الذي بدا متعباً بشدة وقالت "أنت بحاجة لبعض الراحة.. تبدو منهكاً.."
علق كين "وأنتِ كذلك.. تبدين متعبة.."
أدارت تينا وجهاً متورماً من البكاء بعيداً عن نظرات كين.. فمع بكائها لمقتل أبيها وأمها في ليلة واحدة، ولما حلّ بالمخيم، ومع صدمتها لما ارتكبته ججي، فإن تينا قضت أوقاتها ودموعها لا تكاد تجف وحزنها لا يكاد يهدأ..
نظرت لوجه ججي وهمست "كيف تمكنت ججي من القيام بتصرف وحشي كهذا؟.. كيف استطاعت أن تفعل هذا بأبينا دوناً عن الآخرين؟.. كيف أمكنها أن تكون جامدة المشاعر بهذه الطريقة؟.."
علق كين وهو يراقب ججي المستمرة في غيبوبتها وهذيانها "أتظنين أنها جامدة المشاعر حقاً؟.. هذه الحمى وهذا الهذيان ليسا بسبب الجرح الذي أصابها، فهو ليس ملتهباً.."
نظرت له تينا بدهشة، فأضاف "لو انتبهت لهذيانها، لأدركت ما أعني.."
نظرت تينا لججي بدهشة، وأنصتت لهذيانها الهامس محاولة التدقيق في كلماتها، لكنها لم تفهم كلمة مما تقوله.. ثم، من بين هذيانها المبهم، استطاعت أن تسمعها تكرر بنبرة متألمة "سامحني..... سامحني........"
قرّبت تينا أذنها من فم ججي لتسمعها تقول بهمس مبحوح ونبرة متهدجة "سامحني يا أبي.. سامحني يا أبي.."
أبعدت تينا وجهها وهي تخفضه ودموعها تعود للانحدار على خديها.. كان كل ما جرى الليلة الماضية مؤلماً، وزادتها كلمات ججي إيلاماً وتعاسة.. لم تكره تينا الأكاشي يوماً كما كرهتهم في الأيام الأخيرة، وكرهت تلك الحياة التي تسير بالحروب والمعارك ولا يتم فضّ خلافاتها إلا بالسيف وحده..
وبصمت، نهضت تينا وغادرت تاركة كين قرب ججي.. لم تكن تملك ما تفعله مع ججي، ولم تكن تطيق البقاء معها لوقت طويل ومشاعر الغضب والإشفاق يتناهبانها تجاه أختها التي فاجأتها بشكل لم تتصوره قط..
وفي وقت متأخر من ذلك اليوم، عاد مينار إلى موقعهما واقترب من ججي ليجد أنها لا تزال في غيبوبة الحمى العميقة، بينما لاحظ وجود كين الذي جلس جانباً محتفظاً بسيفه قريباً وهو يرمق مينار بصمت، وإن بدا بأسوأ حالٍ ممكن.. فقال مينار "كيف هو جام؟.. ألم يستفق منذ الصباح؟.."
هز كين رأسه نفياً بصمت، فعلق مينار "وماذا عنك؟.. ألم تحصل على أي راحة؟.."
قال كين بضيق "وكيف يمكنني ذلك؟.."
فقال مينار "ما رأيك بأن تحظى ببضع ساعات من النوم العميق؟.. ستكون الأمور كلها على ما يرام.."
نظر كين لمينار ليرى إن كان يمزح أم أنه جاد، ثم قال بضيق "كيف تتوقع مني ذلك بعد كل ما جرى؟.. أتضمن لي أن رجال القبيلة لن يقتلوا ججي خلال تلك الساعات؟.."
أجاب مينار "يمكنني أن أضمن ذلك نوعاً ما.."
نظر له كين بعدم فهم، فشرح له مينار الأمر قائلاً "هناك اتفاق ضمني بين رجال القبائل على ألا يطيح رجال قبيلة بزعيم جديد قبل مرور ثلاث أشهر على الأقل.. مهما رغب الآخرون بفعل ذلك، فعليهم الانتظار لثلاثة أشهر قبل المحاولة، وخلالها يمكن للزعيم الجديد أن يحاول اكتساب ولائهم وطاعتهم ويستميلهم ليصبحوا من رجاله.. بخلاف ذلك يصبح الأمر فوضى لا يمكن التحكم بها.."
تساءل كين بشك "وهل وافق رجال القبيلة على منح ججي هذه المهلة؟.."
أجاب مينار "لقد تمكنت من إقناعهم بذلك في الوقت الحالي، وهم لا يجرؤون على كسر أي اتفاق خاص بالقبيلة لئلا يصبح وصمة عار في سمعتهم بين بقية القبائل.."
زفر كين بشيء من الراحة لهذا وهو مدرك أن ججي بأمانٍ جزئي الآن، ثم قال لمينار بحنق شديد "لكني لازلت أشعر بالحنق والصدمة لكل ما جرى.. لمَ دفعت ججي لتفعل ما فعلته؟.. كان يكفيها ما حققته حتى الآن، ويكفيها ما أصبحت عليه.. إنها مجرد ظل مشوه لرجل، وهي أنثى بالإسم فقط.. ألم يكفِ كل هذا لتسعى لتدميرها بوضعها في مصبّ غضب القبيلة كاملة؟.."
نظر مينار لكين بنظرة حادة مضيفاً "لو كنت تراها مجرد نسخة مشوهة وظلاً لرجل، فأنت لا تستحق أن تكون جوارها في هذه اللحظات.."
احتقن وجه كين لتأنيب مينار، ثم أدار وجهه جانباً وهمس "آسف.. لم أملك حدتي تلك مع التعب والصدمة التي شعرت بهما في الساعات الماضية.. لا يمكنني أن ألومك لما حدث، فهي، في النهاية، قد اختارت تنفيذ ما طلبته منها بملء إرادتها.."
عندها قال مينار "ارحل واحصل على بعض الراحة قرب النار.. سأستدعي تينا أو إحدى النسوة للعناية بجام أثناء ذلك.."
فقال كين "لا.. سأرحل إن وعدتني أن تبقى أنت لحمايتها، ولن أرضى بأي بديل عنك.."
صمت مينار للحظة متأملاً وجه ججي، ثم قال "لا بأس.. لا أملك ما يشغلني في الوقت الحالي.."
عندها نهض كين متوكئاً على سيفه، واقترب من ججي يطمئن عليها ويلمس جبينها بيده ليتأكد أن الحمى قد أصبحت أقل من السابق، ثم زفر ونهض قائلاً "أرجوك أن تحافظ على حياتها يا مينار.."
علق مينار "يمكنني حمايتها من غدر رجال القبيلة، لكن لا سلطة لي على هذا المرض.. لذلك لا تتوقع الكثير مني.."
لم يعلق كين وهو يرحل بخطوات متعبة، ولما غاب عن الموقع جلس مينار قريباً من ججي بصمت يتأملها عاقداً ذراعيه على صدره.. ورغم كلماته المطمئنة التي حاول إقناع كين بها، فإنه في الحقيقة لا يأمن على حياة ججي من غدر بقية الرجال.. فما ينطبق على أي زعيم جديد للقبيلة لا ينطبق على ججي لأنها تخالف أول شرط للزعامة، وهو أن تكون رجلاً.. ورغم أن رجال القبيلة قد اضطروا لمسايرة قادور في لعبته طوال السنوات الماضية، لكنهم لا يجدون داعياً لذلك الآن بعد موته.. ولذلك، احتفظ مينار بسيفه أمامه قريباً من متناول يده، وجلس بصمت حتى يتمكن كين من الحصول على ما يكفيه من راحة..
************************
لم تمضِ ساعات قلائل من تلك الليلة حتى وجد مينار أن كين قد عاد إليه.. كان وجهه يبدو أقل تعباً وإعياءً من السابق، لكنه لم يستعد قواه بشكل تام.. فتساءل مينار "ما الذي جاء بك الآن؟.. كان بإمكانك أن تحظى بالراحة لوقت أطول.."
غمغم كين وهو يجلس قريباً "لم أتمكن من ذلك والهواجس تتناهبني بما قد يحدث لججي أثناء نومي.."
فقال مينار بابتسامة "ألا تثق بي حقاً؟.."
لم يعلق كين وهو يناول مينار بعض اللحم المشوي قائلاً "لقد تمكن الرجال من اصطياد بعض الطرائد، ولو أن الأمر صعبٌ بدون خيول.. لذلك لم يحصل أي فرد من القبيلة على أكثر من هذا.."
تساءل مينار "ألم يعثروا على الماشية والخيول بعد؟"
أجاب كين "لقد انطلق اثنان مع الحصان الذي عثرتُ عليه وحيداً في المخيم.. وهما يبحثان عن الخيول والماشية منذ الصباح دون فائدة.. لكن لنأمل خيراً.."
سادهما الصمت لبعض الوقت، ثم تساءل كين بخفوت "ما الذي سيجري الآن؟.."
أجاب مينار "على جام أن يثبت نفسه كزعيمٍ لهذه القبيلة.. وعندما ينال موافقة الرجال، علينا عندها أن نخطط لاسترداد مخيمنا وكرامتنا المهدورة.. لا يمكننا أن ننزوي في هذه الكهوف كالفئران لوقت طويل.."
غمغم كين "كلا الأمران صعبٌ وعسير.. ولا أدري كيف يمكننا تحقيقهما بالفعل.."
بعد رحيل مينار، جلس كين بصمت في موقعه المعتاد قرب ججي وهو يتأملها غارقاً في أفكاره.. ما يزال قادور يلعب بحياة ججي حتى بعد موته، ومازال يطوّحها في الاتجاه الذي يشاؤه دون اعتبار لما قد يكون الأفضل لها أو ما قد ترغب به حقاً.. لكن كيف استسلمت ججي لهذا الأمر بهذه السرعة؟.. إنها لم تتردد ولو للحظة في تنفيذ ما طلبه مينار رغم الصدمة التي بدت ظاهرة على وجهها لموت أبيها.. ألهذه الدرجة هي قد اعتادت تنفيذ أوامره وأوامر قادور بحيث ما عادت تناقش أي أمر منهما مهما كانت تستنكره؟.. أم أن ذلك وافق هواها بالفعل؟..
لاحظ في تلك اللحظة أن ججي التي لم تستيقظ من غيبوبتها بعد قد بدأت ترتجف وتهز رأسها بشدة، فأمسك بذراعيها محاولاً إيقاف رجفتها وهو يقول لها "ججي.. ما بك؟.. ما الذي يجري لك؟.."
هزت رأسها بشدة وهي تهذي، فأمسك وجهها بيديه متأملاً ملامحها المنقبضة بألم، ولما تكرر همسها قربّ أذنه منها ليستمع لما تقوله، فسمعها تعيد الكلمات التي لم تفتأ ترددهن منذ تلك الساعة "سامحني يا أبي.. سامحني.."
ولما شعر كين أنها تعاني أشد المعاناة في هذيانها وغيبوبتها تلك، أمسك كتفيها وهزها قائلاً "استيقظي يا ججي أرجوك.. لقد انتهى كل شي.."
وبعد عدة محاولات، رآها تفتح عينيها قليلاً وتنظر له بنظرة خاوية، فسألها كين "أأنت بخير؟.."
سمعها تغمغم بصوت مبحوح "كين.. أرأيت ما قمتُ بفعله؟.. لقد قتلتُ أبي.."
واحتشدت الدموع بسرعة في عينيها لتسيل على خديها المشتعلين بسبب الحمى وهي تهمس بصوت متهدج "لقد قتلته وأكلت قلبه.. كيف أمكنني فعل ذلك؟.."
شدّ كين على كتفيها قائلاً "أنت لم تقتليه يا ججي.. كان ميتاً عندما أحضره الرجال.. لم تقتليه أنت.."
لكنها لم تكن تستمع لكلمة مما يقولها وهي تقول باكية "لقد قتلته والتهمت قلبه.. تعساً لي.. كيف فعلت ذلك؟.. "
كان يراها بهذا الضعف والتهاوي للمرة الأولى منذ عرفها، وهي التي لم يشهد منها دمعة قط.. وهذا آلمه بشدة وهو يرفعها قليلاً ويضمها إليه بأقوى ما يملك.. ظل يستمع لانتحابها الذي لم يخفت ويشعر بارتجافة جسدها وحرارته المرتفعة بسبب المرض، بينما ضمّها بقوة وهمس "اهدئي يا فتاتي.. الذنب ليس ذنبك.. اهدئي واستعيدي قواك بسرعة.."
ظلت ترتجف باكية وهي تتشبث به، بينما بقي كين صامتاً وهو يشدّها إليه ويمسح على شعرها برفق.. ظل مشفقاً عليها وفي الآن ذاته شعر بشعور غريب يجتاح صدره وهو يضمها إليه ويسمع صوتها الباكي المبحوح.. لطالما أشعرته ججي أنها قوية، وأنها لا تحتاج له ولحمايته.. لطالما أشعرته أنها هي من يتكفل بحمايته ورعايته طوال الوقت، ورؤيتها ضعيفة بهذه الصورة قد أربكته بقدر ما أشعلت في صدرة رغبة شديدة بحمايتها ومسح دموعها.. ورغبة قوية بضمها والإبقاء عليها قريبة من قلبه.. كيف لهذه الفتاة بالذات أن تسبب له هذه المشاعر كلها؟.. ولمَ هي دوناً عن بقية الفتيات؟..
لقد حاول أن يجد تفسيراً للأمر عدة مرات وهو يراقبها في جوانب المخيم متعجباً من انجذابه لفتاة خشنة المظهر والتصرفات، لكنه لم يجد تفسيراً حقيقياً للأمر.. حتى يئس من العثور على جواب لتساؤلاته واضطر للاقتناع أن تلك المشاعر القوية التي تجتاحه تجاه ججي بالذات لا تفسير لها ولا وسيلة لتغييرها أو صرفها في اتجاه آخر.. كما رضي بالبقاء جوارها دون أن يملك أي أمل بالاقتراب منها أو نيل حبها وهي التي ترفض الاعتراف بأنها فتاة وأنها قد تجد مشاعر من رجل تميل نحوها لأي سبب..
وجد بكاء ججي يخفت وجسدها يسكن قليلاً، لكنه لم يتخلّ عنها وهو مدرك أن فرصة كهذه لن ينالها مرة أخرى في أي ظرف آخر.. فشدّ ذراعيه المحيطتين بجسدها وهو يهمس في أذنها "كيف تفعلين بي كل هذا يا ججي؟.. متى سترينني حقاً؟.."
لم يسمع منها صوتاً وجسدها مستكين بين ذراعيه.. شعر كين أنها رغم قوتها وخشونتها المعتادة، فهي تبدو الآن ضعيفة وضئيلة بين ذراعيه.. بدت هشة جداً بحيث ازدادت رغبته بالتشبث بها أكثر.. لكنه سمع صوتاً يصدر من خلفه في تلك اللحظة، فانتفض وهو يطلق ججي ملتفتاً خلفه، فرأى تينا التي وقفت في موقع قريب بصمت.. ومن الوجوم الذي بدا عليها وهي تنظر إليه، فإنه أدرك أنها رأت ما يفعله.. لذلك شعر بحرج شديد وهو يدير بصره جانباً وتينا تقول "كيف هي الآن؟.."
لم يجب وهو ينظر جهة ججي التي أطلقها من قبضته بارتباك في اللحظة السابقة، فبدا له بوضوح أنها قد عادت لغيبوبتها أو أنها نائمة بعمق.. كانت ملامحها قد تخلت عن عبوسها السابق وبدت أكثر سكوناً وهدوءاً مما سبق.. فزفر وهو يتأمل وجهها بينما اقتربت تينا وتلمست جبين ججي للحظة قائلة "لا تزال الحمى قوية، لكنها كفت عن الهذيان على الأقل.. ويبدو لي أنها نائمة.."
لم يعلق كين وهو يدير وجهه جانباً بينما التزمت تينا الصمت للحظات، ثم قالت بشيء من الكدر "لم أنت متضايق هكذا؟.. هل أزعجك قدومي في هذا الوقت؟.."
قال كين بضيق "ما الذي تعنينه؟.."
قالت وهي تتفحص ملامحه "لا أدري.. تبدو مستاءً لرؤيتي في هذا الوقت بالذات.. أكنت تفضل ألا أقاطعك في تلك اللحظة؟.."
شعر كين بانفعال شديد وهو ينتفض واقفاً ويقول بحنق "لم أفعل ما أخشى من رؤيتك له.. لقد كانت تبكي وتهذي بحزن شديد وحاولت إسكاتها.. هذا كل ما هنالك.."
واستدار مغادراً بعد أن اطمأن لوجود تينا قرب ججي.. كان بحاجة للحصول على بعض الراحة، وبحاجة للبقاء وحيداً في تلك اللحظات.. لذلك سار في الكهف حتى وصل للمدخل الذي اجتمع قربه بعض أفراد القبيلة وهم نائمون بعمق.. تجاوزهم كين بصمت وغادر الكهف متسلقاً تلك المرتفعات الصخرية حتى وصل لقمتها المسطحة والتي لم تكن ترتفع كثيراً عن الأرض.. كان الفجر قريباً ولم تكن السماء معتمة بشكل كامل، بينما بدأت زقزقات عصافير قريبة تعلو في المكان.. فجلس كين وحيداً وتأمل الأفق بصمت محاولاً استعادة سكونه.. لا يدري سبب هذا الضيق والانفعال الذي شعر به لدى قدوم تينا.. ألأنها رأت ما فعله؟.. أم لأنها بدت مستاءة لذلك؟.. لو فكر بالأمر قليلاً، لأيقن أنه لا يعبأ بنظرة تينا لما يفعله وللحب الذي يحمله لججي، فهي تعرفه تمام المعرفة.. ولا يخشى أن يصل الأمر لججي أو مينار، فما سبب ضيقه ذاك؟.. ألأنها، كما قالت، قاطعت تلك اللحظة النادرة التي قضاها مع ججي وحيداً؟.. ألأنها قطعت تلك اللحظة التي شعر فيها بقربه من ججي وقربها من قلبه؟.. أم لأنه يدرك أن لحظة مثل هذه لن تتكرر مرة أخرى؟..
زفر وهو يستلقي على الأرض الصخرية متأملاً السماء فوقه، ورغماً عنه تذكر ما قاله مينار.. أهذا حقاً سيغيّر عقول الأكاشي وأفكارهم التي لم تتغير منذ مئات السنين؟.. أم أن ججي وحدها هي التي ستجني مغبّة هذا التغيير؟.. إنه لم يسعد قط برؤية ما هي عليه، ولم يشعر بسرور لما تحققه وسط قبيلتها طوال السنوات الماضية.. ألأنها تُظهره بمظهر الضعيف مقارنة بها؟.. أم لأنها قد استلمت الدور الذي كان من المفترض أن يستلمه هو في حياتها؟..
ظل بضيق شديد يفكر بالأمر من جوانبه، عندما قطعت أفكاره صيحة اندلعت من الكهف القريب.. ورغم أنها لم تكن عالية كفاية، لكنه تعرف فيها صوت تينا مما جعله يقفز واقفاً ويركض عائداً لمدخل الكهف دون تردد.. ما الذي جرى في اللحظات القصيرة التي تركهما فيها وحيدتين؟.. أيمكن أن يكون رجال القبيلة قد غافلوه وحاولوا الانتقام من ججي أثناء غيابه عنها؟..
وكما خمّن وخشيَ، فقد رأى في عمق الكهف الذي استقرت فيه ججي عدداً من شباب القبيلة ولاحظ على الفور السيوف والخناجر التي يحملونها في أيديهم.. وبنظرة سريعة، أدرك من ملامحهم المتحفزة وتجمعهم الهدف الذي لأجله جاؤوا في هذا الوقت بالذات.. عندها ركض نحوهم دون تردد ودفع آخرهم بعيداً ولكم آخر قبل أن يشق لنفسه طريقاً نحو الوسط.. وقبل أن يفلح في عبور تلك الجماعة، وجد أحد أولئك الشباب يجذبه بقوة ويلكمه على وجهه صائحاً "ما الذي تظن نفسك فاعله؟.. دخيل مثلك لا يحق له أن يتدخل في أمور القبيلة.."
فقال كين وهو ينظر له بغضب "هل جئتم للنيل من زعيمكم؟.."
قال الشاب ملوحاً بسيفه "زعيمنا؟.. أنت تمزح، أليس كذلك؟.."
وقف كين عابساً وهو ينظر للثلاثة الذي سدّوا طريقه، بينما تعالت صيحة فزعة أخرى من تينا وتّرت كين بشدة.. لكنه سمع في تلك اللحظة صوت ججي وهي تصيح بغضب "لا تجرؤ على هذا.."
رغم شعوره بالراحة لأن ججي بخير وقد استعادت وعيها، لكن ما يسمعه لم يزده إلا قلقاً وتوتراً وهو يرى الشاب القريب يهجم نحوه بسيفه.. تراجع كين خطوة ومال جانباً ليتفادى تلك الضربة، ثم وجه سيفه بضربة سريعة نحو يد الشاب مسببة له جرحاً مؤلماً أجبره على إسقاط سيفه.. عندها أسرع كين يتناول السيف الذي سقط أرضاً، واندفع بين الشابين وهو يلوّح بسيفيه بقوة.. لم يكن يرغب بإصابة أحدهما أو قتله، بل جلّ ما رغب به هو الوصول لججي والوقوف معها لحمايتها.. تراجع الشابان جانباً وهما متحفزان للهجوم عليه، لكن كين لم يستدِر إليهما وهو يندفع مزيحاً مجموعة أخرى سدّت طريقه..
صاح أحد الشابين خلفه محاولاً إيقافه، لكن كين كان قد ارتطم بأقرب الشباب إليه مطيحاً إياه جانباً قبل أن يندفع متفادياً البقية حتى وصل للموضع الذي تتحلق حوله تلك الجماعة من الشباب.. وفي الوسط، وجد ججي مستيقظة وراكعة وسط المكان، بوجه محمرّ بشدة بسبب الحمى، وشعر ثائر نافس وجهها في الاحمرار، وملامح عابسة ثائرة بقوة..
كانت راكعة وهي تمسك عنق أحد الشباب بذراعها، بينما يدها الأخرى تقبض على خنجر غاب في كتف الشاب حتى مقبضه.. ولما سحبت خنجرها، بدأت الدماء تثور من موضع الجرح العميق بينما ركلت ججي الشاب المتألم ليسقط عند أقدام رفاقه وهي تقول بصوت مبحوح غاضب "لو ظننتم أنني ضعيف بسبب مرضي هذا وأنني سأكون لقمة سائغة لكم، فعليكم التفكير بالأمر من جديد.. لن أقضي نحبي قبل أن أقتل نصفكم على الأقل.."
نظر لها الشباب بغضب والشاب الجريح يقف بدوره ممسكاً جرح كتفه، بينما أسرع كين ليقف إلى جوارها حاملاً سيفه بتأهب.. لو حاول أحدهم الوصول إليها، فلن يتردد في المقاومة بكل ما يملك ليحميها.. هذا على الأقل ما يمكنه فعله لها، أو على الأقل المحاولة فلا يثق أنه بقادرٍ على التغلب على الأكاشي مهما فعل..
رأى بعضاً منهم يتقدمون منها خطوة، بينما وقفت ججي وهي تمسك خنجرها مدمدمة "لم أتوقع أن يكون رجال قبيلتي بهذه الخسّة.. أهكذا يفعل الأكاشي؟.."
علق أحدهم بسخرية "وهل اعترف أبوك بقوانين الأكاشي عندما قرر أن يرفعك لمكانة لا تستحقينها؟.."
تزايد الغضب في صدر ججي لدى ذكر أبيها، وهو أمرٌ لا ترضى به من أي شخص كان.. وقبل أن تشتعل الأمور من جديد، وصل مينار للموقع وتجاوز حلقة الشباب بالقوة قائلاً بغضب "أهذا ما خططتم له بكل حقارة؟.. أن تتخلصوا من زعيمكم في هدأة الليل بكل خسّة؟.. هذا ليس مذهب الأكاشي أيها الجبناء.."
قال أحد الشباب بغضب "لكنها ليست زعيماً لنا.. لا ينطبق عليها أحد الشروط الأساسية للزعامة، فهي ليست ولن تكون رجلاً مهما تصنعت ذلك.."
دار مينار ببصره في الوجوه الغاضبة، ثم قال "لقد وعدني رجال القبيلة بالانتظار حتى يستعيد جام قواه، وبأنكم لن تلمسوه قبل أن يشفى من مرضه.. فكيف تكسرون وعدكم لي بهذه البساطة؟.."
قال أحد الشباب بسخرية "نحن لم نعدْك بشيء.. كان ذلك وعداً من أحد العجائز الخرِفين الذين يظنون أنهم يملكون سلطة علينا.. أما نحن، فلا....."
قاطعته ضربة قوية بعصاً خشبية أصابت رأسه، ولما التفت حانقاً للخلف، رأى جماعة من كبار القبيلة يقفون خلفهم والأقرب إليهم يقول بحنق "عجوزٌ خرف؟.. أهذا كل ما هداك لسانك لقوله؟"
تراجع الشاب بشيء من القلق وقد فوجئ هو ورفاقه بتدخل كبار رجال القبيلة فيما انتووا فعله، فيما قال الرجل مواجهاً مجموعة الشباب قائلاً بغضب "لو كنتم تملكون الوقت الكافي للعبث في المكان، فالأفضل لكم قضاء أوقاتكم في البحث عن الماشية والخيول.."
اندفع الشاب يقول من جديد "لا يمكنكم إملاء الأوامر علينا.."
عاد الرجل لضربه بالعصا الخشبية على رأسه ضربة مؤلمة، ثم قال بصرامة "لقد تمكن مامير من العثور على موضع الماشية في الشمال من موقعنا هذا.. انطلقوا لمعاونته في إعادتها إلينا، فنحن بحاجة لها أشد ما يكون في هذه الأوقات.."
تبادل الشباب النظرات التي تشي بشدة الضيق، لكنهم في النهاية استسلموا للأمر وهم يغادرون الموقع بصمت.. عندها تقدم ذلك الرجل من مينار وألقى نظرة على ججي قائلاً "ألا تعتقد أن الإصابة التي أصابت ذلك الشاب لن تكون لها تبعاتها في القبيلة؟"
قالت ججي بصوتها المبحوح "أما يفترض بي أن أدافع عن نفسي ضد هجومٍ حقير مثل هذا؟"
لم يعلق الرجل وهو يقول موجهاً حديثه لمينار "سنبقى على الوعد يا مينار، وننتظر منك أن تفعل الأمر ذاته.."
لم يعلق مينار بينما لوّح الرجل بيده لبقية الرجال قائلاً "فلنذهب.. لا أطيق البقاء بعيداً عن النار لوقت طويل.. عظامي ما عادت تتحمل مثل هذا البرد.."
غادرت المجموعة الموقع تاركة مينار وكين اللذين وقفا بصمت، وتينا التي خفت ارتعابها بعد جهد جهيد، فيما تهاوت ججي جالسة وهي تشعر بارتجافة في جسدها.. اقترب منها كين متسائلاً "أأنت بخير؟"
غمغمت ججي "أشعر بضعف شديد.. يبدو أنني لم أتعافَ من الحمى بعد.."
فقال كين "عليك تناول بعض الطعام لتستعيدي قواك بسرعة.."
نهضت تينا قائلة "سأذهب لجلب بعض الطعام حالاً.."
وغادرت بسرعة تاركة كين ومينار قرب ججي، فالتفت مينار إلى ججي قائلاً "رغم أنني أتمنى أن تستعيد قواك بأسرع ما يمكن، لكني أخشى من اللحظة التي ستفعل فيها هذا.."
قال كين بغير تصديق "هل وعد الرجال بالانتظار فقط حتى تنهض ججي من مرضها؟.. ماذا عن الأشهر الثلاثة التي وعدتني بها؟"
قال مينار بتبرير "كان ذلك لإزالة قلقك لا أكثر.."
نظر له كين بضيق، فيما غمغمت ججي "لا تقلق.. تلك عقبة سأتخطاها بكل تأكيد.."
جلس مينار قربها وربت على كتفها قائلاً بابتسامة "هذا ما أرجوه يا جام.. بل هذا ما أثق فيه بالتأكيد.."
************************
بعد بدء ذلك النهار الذي لم يتمكن من إزالة ولو جزءٍ ضئيلٍ من برودة الليلة الماضية، وفي موقع آخر من الكهف الذي يتفرع عدة تفرعات في تلك المرتفعات الصخرية القديمة، ظل تبريق جالساً بصمت وتينا تنظف جرح خاصرته بقطعة قماشية اقتطعتها من قميصه وقربها إناءٌ فيه بعض الماء الذي قامت بتدفئته في النار القريبة.. لم يلتئم الجرح بعد، وبدا أنه لا يزال يسبب آلاماً شديدة لتبريق الذي احتفظ بصمته وإن دلّ عبوس وجهه على ما يشعر به.. ورغم أن تينا قد اعتنت بتبريق بكل إخلاص في الوقت الذي مضى، لكنها لم تتمكن من محو الكآبة التي تعلو وجهها بين حينٍ وآخر.. لقد فقدت والديها في ليلة واحدة، وسقطت ججي في غيبوبة وحمى منذ تلك الليلة.. ومع أساها لمن فقدته، فإن تينا شعرت أنها قد أصبحت مجردة من أي سندٍ وحماية.. لم يعد لها إلا زوجها، ولشدّ ما تبتئس عندما تخطر لها هذه الفكرة وهي التي لم تقبله بعد في حياتها رغم كل ما رأته منه..
بعد أن تزايد ضيقها وهي تتذكر كل ما جرى منذ ليلة الهجوم على مخيم القبيلة، فإنها تأففت بصوتٍ عالٍ وهي ترمي القطعة القماشية في إناء الماء وتغمغم متذمرة "لقد سئمت كل هذا.."
لاحظت أن تبريق قد أدار وجهه ونظر إليها بصمت، فقالت بضيق أشد "إن ججي مريضة، وعليّ الاعتناء بها أيضاً.. فلمَ لم تحضر إحدى زوجتيك لتتولى أمورك في مثل هذه الأوقات؟.. لا أكاد أملك الوقت الكافي للحصول على بعض الراحة.."
أدار تبريق وجهه بعيداً وتينا تلف الجرح بقماش نظيف دون أن تخفي ضيقها، ثم سمعته يقول "أمازلتِ تصدقين ما قيل عني سابقاً؟"
نظرت له مقطبة، فأضاف "ظننت قادور قد شرح لك الأمر قبل زواجنا بالفعل.."
قالت باستياء وهي مستمرة في عملها "لا.. لقد أخبرته أنني لا أريد الزواج من شخص متزوج باثنتين بالفعل، لكنه قال إن هذا الأمر لا يخصنا.."
فقال تبريق "إذن هو لم يخبرك بحقيقة الأمر؟.. زوجتي الأولى قد ماتت بعد زواجي بها بعدة أشهر بسبب مرضٍ معدٍ، والثانية قد طلقتها وعادت لأهلها لأنها رفضت الإقامة في قبيلتنا هذه واستحقرتها.. كان ذلك قبل رحيلي نحو المملكة العربية منذ سنوات.."
نظرت له تينا بدهشة وصمت، ثم أسرعت تحمل إناء الماء وما تلطخ من القماش بدمائه وهي تغمغم عابسة "هذا لا يغيّر من رفضي الزواج بك شيئاً.. فلم يكن هذا هو سبب رفضي الوحيد كما تعلم.."
وغادرت تاركة تبريق يزفر بضيق بدوره وهو يستشعر الألم الشديد في موضع الجرح.. ورغم ذلك، سارع لارتداء معطفه وغادر الموقع شاعراً بالحاجة لاستنشاق بعض الهواء.. فقد أصبح المكان قرب تينا خانقاً لا يكاد يطيق البقاء فيه للحظات معدودة.. رغم أنه كان يعلم ببغض تينا له، وبأنها لم تغفر له إصراره على الزواج بها، لكن رؤيتها وهي ترجوه لإنقاذ كين كان أكثر مما يطيق.. شعر بضيق وكآبة شديدين، واستحقر مشاعره لتينا وهي التي لا ترى سوى كين مهما فعل.. رغم مضيّ أيامٍ قليلة على عودته للمخيّم من رحلته التي دامت لسنوات، لم يكن لتبريق ألا يلاحظ تينا بجمالها الواضح.. لكن ما جذبه إليها، وما جعلها لا تغادر تفكيره طوال اليوم، هو أنها لم تكن تتحلى بأي غرور أو ميوعة، ولم تتردد في إظهار ضيقها وغضبها ومعاملته بكل خشونة.. رغم أن هذا من المفترض أن ينفره منها، بالإضافة لمعرفته بحبها الشديد لكين، لكنه رغم ذلك لم يستطع معرفة كيفية التخلص منها ومن التفكير بها باستمرار.. لذلك، تجاهل كل ما يسبب له الضيق فيها وأصرّ على استمرار هذا الزواج.. كان يأمل أن تراه على حقيقته، وترى حبه واهتمامه بها.. وهذا قد يجعلها تميل نحوه حقاً.. لكن كيف يمكن ذلك وهي ترجوه، بعد أيام قلائل من زواجهما، أن يبذل جهده لحماية غريمه والدفاع عنه؟.. أيمكن له أن يرجو أمراً منها بعد هذا؟.. أم أن عليه فعلاً أن يطلق سراحها ويتخلى عنها؟..
لكنه لا يستطيع فعل ذلك الآن، بعد أن فقدت والديها ولم يعد لديها من تعتمد عليه.. فما العمل الآن؟..
************************
بعد ساعات من بدء ذلك النهار، بدت ججي أفضل حالاً من السابق بعد أن تناولت القليل من الطعام وشربت الكثير من الماء في محاولة لتخفيف الحمى عن جسدها.. فلم يملك كين ابتسامة ارتسمت على وجهه وهو يقول "بهذا المعدل، يمكنك أن تمتطي ظهر الغبراء بكل يسر خلال يوم على الأكثر.."
رمقته ججي بصمت للحظة، ثم أدارت بصرها فور أن التقت عيناهما بحركة بدت واضحة لكين، وهو أمر لم يعتده من ججي الواضحة والصريحة بثباتٍ يثير الإعجاب.. لكنه لم يعلق وهو يقول "أتشعرين أنك أفضل حالاً الآن؟.."
لكنها لم تجب قوله، ومرة أخرى لاحظ أنها تبعد بصرها عنه بسرعة قبل أن تلاقي عيناه.. فما السر؟.. التزم الصمت من جديد وهو يراها متوترة بشكل ملحوظ وتقطيبة على جبينها، ثم بعد صمت قصير سألته "كين.. هل كنت معي طوال الليلة الماضية؟"
نظر لها بتعجب لهذا السؤال، فقالت مبررة مثل ذلك السؤال الغريب "لقد تراءى لي أنك كنت قريباً كلما فتحت عيناي.. لكنني كنت شبه غائبة عن الوعي بسبب الحمى الشديدة ولا أعي ما يدور حولي.."
فأجاب كين بهدوء "كنت معك طوال الليلة الماضية واليوم الذي سبقها كذلك.."
نظرت له بدهشة واضحة، فعلق مبتسماً ابتسامة صغيرة "أظننت أنني سأتركك تحت رحمة رجال القبيلة بعد الجنون الذي ارتكبتِه أمام أعينهم؟"
لم تعلق ججي بكلمة رغم الامتنان الذي تبدّى في عينيها، لكن سرعان ما خفضتهما من جديد بصمت تطاول للحظات قبل أن تقول "وهل.. هل بدر مني أي تصرف غريب؟"
تساءل كين "ما الذي تعنينه؟.. كنتِ مصابة بحمّى، لذلك من الطبيعي أن تبدر منك تصرفات غريبة وهذياناً أغرب.."
قالت بتوتر "ليس هذا ما عنيته.."
فقال وهو يميل نحوها "أفصحي لكي أفهمك يا ججي.."
زفرت بصمت قبل أن تدير وجهها جانباً متفادية نظراته المتفحصة وهي تقول بارتباك "هل... هل صاحب هذياني بعض البكاء؟.."
صمت كين وهو يحاول معرفة ما يقلقها في هذا الأمر.. أهي قلقة لبكائها أم أنها تحاول تذكر ما جرى منه في ذلك الوقت؟.. إنه واثق أنها لو كانت بوعيها لبادرت للكمه بقوة لو حاول ضمّها إليه.. فهل هي تريد التأكد مما جرى؟..
بعد أن طال صمته وقتاً طويلاً وهو يفكر إن كان الوقت ملائماً للاعتراف لها بما فعله وبما يكنّه في صدره أم أن هذا ليس الوقت الأفضل لذلك، سمعها تقول بارتباك أشد "لقد راودتني هواجس كثيرة أثناء غيبوبتي، ولم أعد أدرك ما حدث حقيقة وما كان مجرد هذيانٍ مني.. لكن.... لا أدري لم يراودني خاطر أنني بكيت الليلة الماضية دون سبب مفهوم.."
بعد أن أدرك كين سبب القلق الذي انتاب ججي، وأنه عائد لبكائها الذي تخجل منه، قال بهدوء "لابد أن ذلك كان هذياناً بالفعل.."
نظرت له بمزيج الشك والراحة لهذا القول، ثم زفرت وهي تفرك يديها بصمت محاولة تذكر ما جرى طوال ذلك الوقت الذي قضته مريضة لا تعي ما يجري لها.. لكن كين قطع أفكارها قائلاً "ألا يتوجب عليك التفكير بالكيفية التي ستقنعين بها رجال القبيلة بالتسليم لك كزعيمة لهم؟.. البدايات دائماً صعبة، وكونك أول امرأة تتجرأ لتطالب بالزعامة هو أمرٌ صعب يتطلب جهداً غير عادي لتجاوز معوقاته.."
زفرت ججي وغمغمت "أنا أدرك أن جميع رجال القبيلة يكرهونني.. وأنني لن أتمكن من كسب ثقتهم بطريقة عادية أبداً.."
علق كين "يكرهونك؟.. إنهم يتمنّون موتك في التو واللحظة.. إن بغضهم لك لا يمكن قياسه بكلمات.."
قالت بضيق "أيجب أن تصف الأمر بهذه الطريقة؟"
أجاب "لكي تدركي مدى المجهود الذي عليك بذله قبل أن يفكر أحدهم باقتناص قلبك بغفلة منا.. عليك أن تكوني أذكى منهم، وتستبقي أفكارهم قبل أن يفكروا بها.."
قالت بحزم "لا.. الأكاشي لا يؤمنون إلا بالقوة.. عليّ أن أثبت لهم أنني أفضل زعيم يمكنه أن يتولى القبيلة في الوقت الحالي.."
تساءل كين "وكيف يمكنك فعل ذلك؟"
زفرت بصمت وهي تحدق في يديها، ثم قالت "سأبارز من يطلب مبارزتي.. وسأتغلب عليه.. وبذلك يمكن للآخرين إدراك......."
قاطعها كين قائلاً باستنكار "أنت تمزحين.. أليس كذلك؟"
نظرت له مقطبة، وهو يضيف "الأكاشي لن يمنحوك مبارزة عادلة.. سيبارزك الرجال واحداً تلو الآخر حتى تسقطي منهكة، وأنت ضعيفة الجسد بالفعل بعد الحمى هذه.. وعندها سيكون قلبك من نصيب من يحالفه الحظ بالتواجد قربك في تلك اللحظة.. أظننت حقاً أن هذه الفكرة قد تكون لصالحك؟"
قالت بضيق "لن يقتنع الأكاشي مالم أتغلب على أقوى رجالهم.. وأنا قوية بالفعل ولست ضعيفة.."
قال كين بإلحاح "هذه فكرة حمقاء.. أرجوك اعدلي عن هذه الفكرة وفكري بغيرها.."
فقالت باستياء "إذن، هل تملك أنت فكرة أخرى؟.. يجب أن يكون الأمر مقنعاً، فلا تتوقع أن مجرد خطبة عصماء مني أمام القبيلة كافية لكسب رضاهم.."
غمغم كين "لا.. نحن بحاجة لخطة كبيرة تذهلهم.. أنت بحاجة لإثبات قدراتك كزعيمة، لا كمقاتلة.."
ونهض وهو يدور في المكان بتفكير ويدمدم بين وقت وآخر "ربما كان هذا الحل نافعاً.. لا.. هذا غير مقبول....... الأكاشي لا يعرفون سوى القوة.. فكيف يمكنك كسب رضاهم دون استعراض قواك بالفعل؟.. وما الذي يمكنني أن أعينك به وأنا لا أملك أي قوة يعتدّ بها؟.."
غمغمت ججي معلقة "جيد أنك تعترف بذلك.."
توقف كين عن دورانه وهتف "السفن....."
نظرت له بدهشة، فاقترب منها بسرعة وقال "السفن التي تربض في هذا الخليج مهددة أمنكم وباسطة حمايتها على الجنود الذين عسكروا في مخيمكم.. لو تمكنت من القضاء على تلك السفن بخطة ما، فهذا سينال إعجاب الأكاشي بكل تأكيد.."
قالت مقطبة "هذا مستحيل.. إنها في عرض البحر، ورجالنا لا يعرفون السباحة ولا يملكون أي سفن أو قوارب لاستخدامها.."
قال كين "هذا أدعى لأن يتفاجأ أصحاب تلك السفن بهذا الهجوم.."
ثم عاد يدور في موقعه مغمغماً "لكن، لا يمكننا أن نضمن ألا يحاول الجنود المعسكرون في مخيمنا التدخل في ذلك الوقت.. كما أن الهجوم على السفن سيزيد استنفارهم ويصبح القضاء عليهم عندها صعباً.."
فقالت ججي بحزم "إذن علينا القضاء على السفن، وعلى الجنود، في آن واحد.."
نظر لها كين بدهشة، ثم قال "سيكون هذا محض جنون.."
تنهدت ججي معلقة "هذا الجنون هو الوسيلة الوحيدة لإكسابي ثقة باقي رجال القبيلة.. وأنا سأفعل كل ما يمكنني لتحقيق ذلك.. ولتحقيق ما تمناه أبي مني قبل موته.."
تنهد كين وهو مطرقٌ بتفكير عميق، فاحترمت ججي صمته وهي تدور بأفكارها حول ما هي مقدمة عليه.. مع قبيلتها، ومع الجيش المعادي، ومع بقية قبائل الأكاشي التي لن تصمت على توليها الزعامة بالتأكيد.. يبدو أنها قد فتحت على نفسها أبواباً عديدة وعليها إغلاقها بإحكام كي تأمن على حياتها.. هل تشعر بالندم لما فعلته ولسعيها خلف الزعامة؟.. لا.. لم يخايل ججي أي ندم على هذا، فهي لن تتخلى عن الزعامة، ولن تتخلى عن حياتها التي بدأت للتو..
انتبهت لكين الذي رفع رأسه وقال لها "امنحيني يوماً للتفكير في الأمر يا ججي.. وسنجتمع أنا وأنت ومينار لوضع خطة محكمة لإنجاح مسعانا.."
قالت ججي "لا بأس.. أنا أثق بك يا كين.."
هز كين رأسه، ثم غمغم قبل أن يغادر "اهتمي بنفسك جيداً.. سأستدعي مينار ليبقى قربك حتى أعود.."
قالت ججي بحزم "لا داعي لذلك.. كما رأيتْ، يمكنني الدفاع عن نفسي دون الاعتماد على أحد.."
ابتسم كين ابتسامة جانبية معلقاً "أدرك ذلك، لكن الاحتياط واجب.."
واستدار مبتعداً، فاستوقفته ججي متسائلة "أين أمي؟.. لم أرها منذ استيقاظي.. أهي مع تينا؟.."
نظر كين لججي بصمت وشيء من الصدمة.. تذكر في تلك اللحظة أن الوقت لم يسعف أحداً لإخبار ججي بما جرى لأمها، ووقوعها في غيبوبة ليوم وليلة لم يمكّنها من الانتباه لغياب ستينا في مثل تلك الأوقات.. تنهد كين وهو يدرك أنه لا يقدر على تجاهل هذه النقطة، فعاد للجلوس قرب ججي وأمسك يدها وهي تنظر له بدهشة، وبكلمات موجزة، أخبرها بكل ما جرى لستينا وهي تحاول الدفاع عن ابنتها من هجوم الجنود.. ولما غادر ذلك الموقع بعد بعض الوقت، كانت ججي تخفي وجهها بيديها وهي تكبت انتحابها بشدة.. تلك ضربة جديدة أصيبت بها قبل مضيّ ساعات معدودة على المصائب التي تتابعت على قبيلتها، وعليها هي بالذات، منذ قرر ذلك الملك العربي أن يدفع جنوده للهجوم على مخيمهم الآمن في ظلام الليل بكل حقارة..
************************
|