كاتب الموضوع :
عالم خيال
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: على جناح تنين..
الفصل السادس: عهد جديد وملك جديد
مع شروق الشمس، التي لم تتمكن من تخفيف البرودة الشديدة في الجو، اعتدلت رنيم جالسة وهي تضمّ الدثار الصوفي الذي وجدته على السرير حول جسدها.. كانت ثيابها القطنية غير قادرة على تدفئة جسدها البارد أو تخفيف البرودة القارسة في الغرفة الخشبية.. تأملت الموقع حولها بصمت، كانت الغرفة التي آوتها في الليلة الماضية صغيرة الحجم جداً مقارنة بأصغر جناح تعرفه، بأثاث بسيط دون زخارف، عليه فراش صوفي سميك ذو رائحة رطبة ودثار صوفي خشن أزعجها طوال الليلة الماضية، وفي جانبه باب صغير يؤدي لدار الخلاء..
لاحظت رنيم أن المدفأة الحجرية في جانب الغرفة كانت تضمّ حطباً مشتعلاً متوهجاً، فنهضت واقتربت منها لتنعم ببعض الدفء وهي تفرك يديها بقوة.. كان البرد في هذا الموقع شديداً وقارساً بشكل لم تعهده في مملكة أبيها الجنوبية حيث الدفء سمة عامة إلا في المناطق المرتفعة منها، ولم تعهده في (الزهراء) التي لا يكاد الطقس الربيعي فيها يتغير طوال السنة..
لاحظت وجود طاولة جانبية عليها بعض الأطعمة، والتي بدت طازجة.. وبالإضافة للمدفأة المشتعلة، فإن رنيم أدركت أن مختطفها قد دخل الغرفة وهي نائمة.. متى حدث ذلك؟.. ضمّت الدثار حول جسدها أكثر وهي تتوتر متلفتة حولها.. لقد نامت منهكة كجثة طوال تلك الليلة بعد أن أتعبها البكاء وهدّها التفكير والقلق، لكن هذا ليس عذراً لها لتغفل عن أمر مختطفها الذي لن يكون بالتهذيب الذي تتوقعه.. عليها أن تكون أكثر حذراً بعد هذا، ولا تغفل عن تصرفاته أبداً.. إنها لم تعد في ربوع القصر الآمنة، ولم يعد حراس القصر يقفون بتحفز عند أبواب جناحها، رغم أن وقوفهم لم يأتِ بالنتيجة المرجوّة عندما واجهت خطراً حقيقياً..
سارت نحو النافذة التي كساها شيء من الضباب للدفء في الغرفة مقارنة بالبرودة الشديدة خارجها.. وبالنور الضعيف الذي بدأ ينبلج من الأفق، كانت حدود القرية الصغيرة تبدو لها واضحة شيئاً فشيئاً.. كانت قرية صغيرة، تشبه بعض اللوحات المرسومة للقرى النائية التي وجدتها في بعض الكتب.. بيوتها خشبية ذات طابق واحد على الأغلب، جدرانها الخشبية بلون أبيض والعوارض بقيت بلونها البني القاتم.. أما أسقفها فهي متنوعة بعضها خشبية وبعضها من القش الذي ثبت بالحبال وعليه صخور لئلا تطيّره الرياح القوية.. ووسط القرية ممر حجري بدائي لا يتمتع بأي جمال كما كانت الطرقات الحجرية في (الزهراء) أو في (بارقة).. ولا تزهو القرية بأي زينة أو أشجار غير تلك التي زرعتها الطبيعة في جوانبها..
انتبهت من أفكارها على صوت باب الغرفة يفتح، وظهر من خلفه مختطفها الذي وقف قرب الباب قائلاً "ألم تتناولي إفطارك؟"
خفضت رأسها وهي تهز رأسها نفياً، ثم قالت بصوت مبحوح "ما الذي تريده مني؟"
زفر قائلاً "عدنا لهذا؟.. حتى متى سترددين هذا السؤال؟"
قالت برجاء "أعدني (للزهراء)، وأنا سأبحث عن تلك المدعوة جايا بنفسي.. سأسأل الملكة، وسأسأل الملك عبّاد نفسه لو أردت.. لن تحقق شيئاً بسجني في هذا المكان البعيد.."
قال الرجل بهزء "حقاً؟.. وتتوقعين مني تصديق ذلك؟"
هتفت بإلحاح "ولمَ أكذب عليك؟.. اسأل كاينا عني، وهي ستخبرك إن كنت سأخدعك أم لا.."
نظر لها الرجل بغير اقتناع، بينما تعالى صوت من جانب آخر من المنزل.. التفت الإثنان لمدخل الغرفة ليجدا رجلاً لا يقل عمره عن الستين، بملابس لا تختلف عن بقية القرويين الذين رأتهم رنيم، وبشعر ولحية بيضاوين وبشرة على شيء من السمرة لتعرضه للفحات البرد القارسة.. ورغم أنه لا يبدو مختلفاً عن البقية، إلا أن الاحترام الذي بدا على وجه مختطفها وهو يحادثه جعل رنيم تدرك أن لذلك الرجل أهمية في القرية.. أهو رئيسها؟.. هل سيجيب مطلبها لو طلبت منه إطلاق سراحها؟.. لكن هل يفهم لغتها كما يفعل الرجل وكما تفعل كاينا؟..
ظلت تراقب حديثهما بقلق ملاحظة الغضب على وجه الرجل قابله ضيق وحدة على وجه مختطفها.. وبينما كانت لا تفقه كلمة مما يقولان، فإنها أدركت أنهما يتحدثان عنها بالتأكيد..
فور دخول ذلك الرجل للغرفة، أدرك الأول أنه يريد التحدث بخصوص رنيم، فقال بشيء من الضيق "أعرف ما ستطلبه مني يا أرنيف.. لكن يجب أن تمهلني بعض الوقت لـ...."
قاطعه الرجل الأشيب بشيء من الحدة قائلاً "لا أفهم دوافعك يا آرجان فكيف تطلب مني الصبر على هذا؟.. لقد أفسدت خطتنا الطويلة لإنقاذ فتيات القرية باختطافك لهذه الفتاة وإحضارها لهذا المكان.. الآن جنود الملك كلهم سيكونون في أعقابكم وستعاني القرية من ويلات معركة مثل هذه.."
قال آرجان "ليس هذا ما أبغيه، وليس هذا ما سيحدث.. لديّ خطة للتفاهم مع الملك لاسترداد جايا.. هذه الفتاة مقابل خادمة من خدم قصره.. لمن تظن الملك سينحاز؟.. هذه هي زوجة ولي عهده ولن يفرط فيها الملك أبداً.. لذلك......."
قال أرنيف محتداً "لكن ليس في هذه القرية.. وليس بعد كل ما جرى لنا على أيديهم.. أنسيت بهذه السرعة آخر مرة تواجهنا فيها مع الجنود؟.. عشرات الرجال قتلوا، وما لا يقل عن عشرين فتاة من الهوت تم اختطافهن ومعاملتهن كأسرى وكخدم في قصر الملك لشهور طوال.. هل تريد تكرار هذا من جديد؟"
قال آرجان بتقطيبة شديدة "لا.. قطعاً لا.."
فقال أرنيف بحزم "إذن تخرج الفتاة من القرية اليوم.. لا نريد مزيداً من النحس بسبب هذه الأميرة.."
ظل آرجان مطرقاً بينما ألقى أرنيف نظرة كارهة على رنيم لم تفُتها، ثم استدار مغادراً عندما استوقفه آرجان قائلاً بحزم "هذا ما لا يمكنني فعله يا أرنيف.. واعذر وقاحتي هذه.."
نظر له أرنيف بتقطيبة شديدة رسمت خطوطاً سميكة على جبينه، بينما وقف آرجان في مواجهته قائلاً "لن أعيد الفتاة قبل أن أستعيد جايا.. لقد خططت للأمر جيداً، ولن تفشل خطتي بتاتاً.."
عبس أرنيف بشدة وهو يقول "أتعصي أمري يا آرجان؟.. لم أتوقع منك هذا التهور.."
قال آرجان بسرعة "ليس تهوراً.. سأشرح لك خطتي فلا تتعجل بإطلاق الأحكام عليها.. ولا تترك غضب أهل القرية يؤثر في حكمك، فأنا المتضرر الوحيد في كل ما جرى.."
نظر أرنيف لرنيم المنكمشة بصمت حتى خايل آرجان أنه سيرفض الأمر بشكل قاطع، لكن أرنيف قال بحزم "أنتظرك في منزلي، فلا تضيع وقتي رجاءً.."
وغادر بصمت تاركاً آرجان يزفر بحدة.. وبعد بعض الصمت تجرأت رنيم على أن تتساءل هامسة "ما الذي جرى؟.. أهذا رئيس قريتكم؟"
نظر لها آرجان بصمت، فقالت بشيء من الأمل "هو غاضب لإحضاري لهذه القرية كما البقية.. أليس كذلك؟.. لمَ لا تطيعه وتعيدني للزهراء؟.. هذا خير لك ولي.."
قال آرجان "أرنيف لا يهمه أن تعودي للزهراء، جلّ همه أن تغادري هذه القرية.. فهل هذا ما تريدين مني فعله؟"
امتقع وجه رنيم وهي تفكر في الأمر.. أينوي رميها خارج القرية في موقع منقطع كهذا؟.. ما الذي يمكنها فعله وحيدة وهي على هذا البعد من (الزهراء) ومن أي مدينة مأهولة بالسكان؟..
وإزاء صمتها قال آرجان وهو يغادر "لا تأملي أن يتمّ ما بذهنك قبل أن أستعيد جايا.. التزمي الصمت واصبري.."
وخرج ورنيم تتساءل بانفعال "ومن هي جايا هذه؟.. لماذا عليّ أن أتحمل أخطاء غيري؟"
لكنها لم تجد إجابة إلا من باب غرفتها الذي أغلق تاركاً إياها حبيسة لمدة لا يعلمها إلا الله تعالى..
*********************
في وقت متأخر من ذلك النهار، وجدت رنيم الباب يفتح ووجه كاينا يطل عبره قائلة "مرحباً.. جئت لأطمئن عليك.."
قالت رنيم بكآبة من موقعها الذي لا تغيّره فوق سريرها "تطمئنين أنني لم أهرب بعد؟.. لا تخافي، ذلك الرجل يتأكد من هذا بكل حزم.."
ابتسمت كاينا وهي تقترب منها حاملة إناءً يحوي بعض الفطائر الطازجة قائلة "لا بأس.. لن يطول بك هذا السجن طويلاً.. كما أن القرية ليست بهذا السوء رغم استقبالهم الحافل لك البارحة"
نظرت رنيم لكاينا بتقطيبة لترى إن كانت تمزح بقولها هذا.. كيف يمكن لأمرها ألا يكون بهذا السوء حقاً؟.. ثم زفرت وهي تدير رأسها جانباً بصمت.. عندها جلست كاينا على السرير قائلة "أكنتِ تفضّلين أن تبقي في ذلك القصر حتى يتهمك الأمير زياد في شرفك ويردّك لقصر أبيك مكللة بالعار؟.. أهذا ما كان سيسعدك حقاً؟"
قالت رنيم بغضب "أتجدين أنني أفضل حالاً الآن؟.. اختطافي لن يمرّ مرور الكرام، وعودتي ستكون مكللة بعار لن أمحوه ما حييت.. أتظنين أن الأمير زياد سيرضى بي زوجة بعدها حقاً؟"
نظرت لها كاينا بشيء من الاستنكار، ثم علقت "أأنت تتمنين الزواج من ذلك الشاب البغيض حقاً يا رنيم؟.. أأقصى أحلامك أن تصبحي أدنى من جارية في قصر خانق وتحت إمرة امرأة متكبرة قاسية وشخص متعجرف لا يستحق بأن يوصف بأنه رجل؟"
نظرت لها رنيم بمرارة وكاينا تسألها بإلحاح "أحقاً لا يتجاوز طموحك أكثر من هذا؟"
دفنت رنيم وجهها بين ذراعيها قائلة "ما أطمح له لا يمكن تحقيقه، وقد يئست من الحصول عليه أبداً.."
قالت كاينا بإصرار "ما الذي يجبرك على العودة لذلك القصر؟.. ما الذي يجبرك على تقمص حياة لا تريدينها والعيش وفق قوانين لا تحبينها؟.. أنت حرة في اختيار ما تريدينه.. أليس كذلك؟"
نظرت لها رنيم متسائلة بمرارة "أنا حرة؟"
أجابت كاينا بسرعة "لن يطول هذا السجن بك كما قلت لك سابقاً.. إن هي إلا أيام معدودة ونطلق سراحك بعدها.. عندها، يمكنك اختيار ما تريدين فعله بحياتك بعيداً عن سلطة أبيك أو غيره.."
عادت رنيم تدفن وجهها بصمت، ثم غمغمت بشيء من الانكسار "هذه لست أنا.. لا يمكنني فعل ما أشاء دون أن أخشى رد فعل أبي والآخرين على ذلك.."
زفرت كاينا بحدة لاستسلام رنيم بشكل متكرر، ثم نهضت قائلة "لو كنتِ تعتبرين هذا سجناً، فأنت عشتِ في سجن أكبر منه طوال حياتك.. وللمرة الأولى أرى سجينة تعود لسجّانها وترجوه تقييد حريتها من جديد.."
تركت الإناء على طاولة قريبة وغادرت ليعود الصمت ويلفّ رنيم من جديد.. صمت لا يكاد يغطي على الصخب الذي يدور في رأسها والأفكار تصطرع فيه بشكل محموم ومتكرر..
*********************
عندما امتثل مجد لاستدعاء الملكة سليمة والأمير زياد، الذي لم يتم تنصيبه كملك بعد، كانت الأخبار قد وصلته بالفعل عن موت قائد الجيش فِراق في حادث مؤسف.. لم يكن بحاجة لذكاء كبير ليعلم أنه تم التخلص منه بسبب رفضه السابق تولّي زياد ولاية عهد المملكة وادعائه بأنه أضعف من أن يحكمها.. لذلك لم يكن من المدهش موته في ذلك الحادث في هذا الوقت بالذات..
انحنى مجد أمام الملكة والأمير وذراعه المكسورة معلقة لعنقه قائلاً "هل طلبت لقائي يا مولاي؟"
رأى الأمير زياد ينهض ويقترب منه قائلاً بصرامة "مجد.. أنت حارس هذا القصر، وأنت المسؤول عن سلامة من فيه.. فكيف يحدث ما حدث للملك في وجودك ووجود حراسك؟.. هذا أمر لا يمكن أن يمرّ مرور الكرام.."
قال مجد عاقداً حاجبيه "لم يكن هذا في نطاق عملي.. يمكنني حراسة الملك من أي هجوم متوقع، لكن كيف أتأكد أن الخادمات اللواتي يتسللن في جوانب القصر قد عمدن لتسميم طعامه انتقاماً لما جرى لهن؟.."
قال زياد محتداً "هذا ليس عذراً.. كان عليك أن تحذر هذا أيضاً وتتصرف بما يلزم لسلامة الملك.."
خفض مجد رأسه دون اعتراض قائلاً "ربما كان قولك محقاً يا مولاي.. لا يمكنني أبداً الاعتذار عما جرى، ولا يمكنني التكفير عن مثل هذا الذنب.. لذلك، لا يسعني إلا أن أستقيل من هذا المنصب الذي لا أستحقه.."
قال زياد بحزم "أنت بالفعل لا تستحقه.."
سمع مجد صوت الملكة وهي تقول بهدوء "مهلاً يا زياد.. مجد قد قام بكل ما يمكنه فعله بالفعل.. لقد تخلص من أولئك الدخلاء دون أن يطالنا أي أذى.. كما أنه كان مخلصاً طوال سني عمله الطويلة مع الملك الراحل.."
نظر لها مجد بشيء من الدهشة لم تبدُ على ملامحه.. من المحال أن تُثني الملكة على شخص ما لم يكن ذلك يصبّ في صالحها.. فما الذي تهدف إليه فعلاً؟.. بدا على الأمير زياد تفكير مفتعل ثم غمغم "هذا حق.. لا يمكنني نكران جهودك يا مجد طوال السنوات السابقة.."
ظل مجد يراقب مسرحيتهما المفتعلة بانتظار ما ستسفر عنه، عندما قال الأمير زياد بابتسامة جانبية "ربما وجب عليّ مكافأتك بدل إقالتك من منصبك هذا.. أنت تستحق الأفضل بكل تأكيد.."
ووضع يده على كتف مجد مضيفاً "حسناً.. سأولّيك منصب قائد الجيش.. أنت شخص كفؤ ولن أجد من يتولى هذا المنصب خيراً منك.."
انتابت مجد دهشة عميقة لهذا، بينما ربت زياد على كتفه قائلاً بابتسامة "هنيئاً لك هذا المنصب يا مجد.."
تدخلت الملكة في تلك اللحظة قائلة بحزم "في البدء، على مجد أن يعلن ولاءه لك، وأنت ملك البلاد القادم، ويتعهد بمعاونتك في السنوات القادمة دون خيانة.."
نظر زياد لمجد بترقب، بينما فكر مجد بصمت للحظة.. لم يكن هذا ما يسعى إليه، ولا يسعده ذلك بحال.. التعامل مع الملك عبّاد يختلف تماماً عن العمل مع الأمير زياد.. فالأمير زياد لا يتمتع بالصراحة والوضوح التي امتلكها الملك عبّاد، والعمل معه لن يخلو من الانغماس في الوحل أكثر فأكثر مع كل يوم يمضي.. وفوق ذلك هذا المنصب سيربطه أكثر بالعاصمة مع هذه الأيام التي تنذر بتقلبات كبيرة، ولن يجد الحجة الملائمة ليرحل بحثاً عن رنيم..
كان لا يزال يشعر بالسوء لما جرى لها، ويغمره استياء كلما تذكر أنها اختطفت بسبب تهاونه في حمايتها واهتمامه بالعائلة المالكة قبلها..
وبعد تفكير، قال مجد باحترام "مع شكري لهذا العرض الرائع، إلا أنني أتمنى إعفائي من هذا المنصب الذي لا يليق بي.."
نظر له زياد باستنكار صائحاً "ما معني هذا؟"
بينما قالت الملكة مقطبة "أترفض منصباً كهذا لن تناله أبداً حتى في أحلامك؟.. لماذا؟"
قال مجد "هذا منصب كبير ومسؤولية أكبر لا يمكنني حملها.. لذلك، سأرضى بأي منصب آخر وسأقسم بالولاء للأمير زياد في أي موقع كنت.."
قالت الملكة وهي تنهض بحدة "أتدرك معنى هذا يا مجد؟.. أنت ترفض طلباً لملكك القادم، ألا يسمى هذا خيانة؟"
مرة أخرى مع هذه التهمة؟.. كان يدرك أن الملكة يحلو لها التلويح بهذه التهمة لنيل ما تريده، لكنه قال بثبات "الأمير زياد يدرك تمام الإدراك أنني بعيد عن هذه التهمة يا مولاتي.."
قال زياد بعصبية "هذا شأن آخر.. أنا أريدك معي، وأريدك أن تساعد في تثبيت حكمي.. أنت مدرك أن الكثير من الشخصيات المعروفة في (الزهراء) قد يرفضون مبايعتي بالحكم.. وأريد شخصاً أميناً موثوقاً به لمساندتي.. فكيف ترفض ذلك؟"
ثم أضاف بحدة "لو لم تفعل ما آمرك به، فسأقوم بسجنك على الفور.."
قطب مجد وهو يرى الحدة في وجهي الملكة والأمير زياد، بينما أضافت الملكة "هذه هي الوسيلة الوحيدة التي يمكنك بها التكفير عن ذنبك بموت الملك السابق يا مجد.. فكُن حصيفاً وفكر فيما يضمن لك مستقبلاً عالياً في هذه المملكة.."
خفض مجد رأسه مفكراً للحظات دون أن تزول تقطيبة حاجبيه، ثم زفر أخيراً وركع أرضاً بيد واحدة وقال "أتعهد بالولاء للملك زياد، ملك مملكة بني فارس ووريث عرشها.. وأضع نفسي في تصرفه في أي وقت ومكان وبأي صورة كانت.."
بدا الرضا على وجه الأمير زياد، بينما قالت الملكة بابتسامة "رائع.. أنت تثبت ولاءك لهذه المملكة في كل يوم يا مجد.. ستصبح ذا مكانة مشهودة في هذه المدينة وفي المملكة كلها.."
لوّح زياد بيده قائلاً "انهض يا مجد واستلم منصبك منذ اللحظة.. أريدك أن تجتمع بقادة الألوية والكتائب المختلفة في الجيش وتتأكد من أنهم يقسمون بالولاء لي.. ومن لا يفعل، فتخلص منه بسرعة.."
قال مجد بحزم وهو يقف "مع احترامي لك يا مولاي، لا يمكنني قتل أي شخص لا يدين لك بالولاء.."
قال زياد بغيظ "لا يهم.. اطرده من منصبه ومن المدينة كلها.. المهم ألا يثير أي بلبلة في المدينة حتى يتم تنصيبي وأصبح الملك فعلياً على هذه المملكة.."
هز مجد رأسه موافقاً، ثم استأذن للرحيل وغادر بعد أن أدى التحية للأمير زياد.. لم يكن انصياع مجد لمطالب زياد والملكة ضعفاً أو خشية على ما قد يحدث له.. لكنه بالفعل يشعر بشيء من الذنب لما جرى للملك.. ويشعر بأنه مدين للملك عبّاد الذي أأتمنه على حياته وعلى قصره.. لذلك، فالمعاونة على تثبيت المملكة في هذه المرحلة القادمة أقل ما على مجد فعله للوفاء بعهده للملك عبّاد.. وبعد أن يتم ذلك، وتستقيم أمور المملكة في عهدها الجديد، فلكل حادث حديث..
*********************
مع اقتراب ذلك المساء، كانت رنيم مستلقية على سريرها بعد أن تعبت من ذلك السجن الخانق الذي هي فيه.. النافذة مغلقة بإحكام ولا يمكنها فتحها، والباب مغلق كذلك.. الغرفة ضيقة ولا تحوي إلا سريراً صغيراً وطاولة جانبية، والمدفأة التي كانت تمنحها بعض الدفء قد استهلكت الأخشاب التي بقلبها وانطفأت منذ وقت طويل.. لا تدري رنيم حتى متى ستبقى بهذه الصورة، ولا حتى متى ستظل بهذا الاستسلام.. لقد يئست حقاً من تغيير نفسها، وجلّ ما تريده هو العيش بسلام بعيداً عن أي صراع.. فلمَ يستكثرون عليها هذا؟..
انتبهت في تلك اللحظة لصوت المفتاح يدار في قفله، فاعتدلت جالسة بتوتر لترى آرجان يدخل الغرفة حاملاً بعض الطعام ودورق ماء وهو يقول لها "أكنتِ نائمة؟.. ألم تشعري بالجوع بعد هذا النهار الطويل؟"
لم تعلق رنيم رغم اصطراع معدتها بجوع شديد مع رائحة الطعام، لكنها لم تظهر ذلك وهي ترى آرجان يضع الطعام جانباً ثم يتقدم منها.. انتاب رنيم شيء من التوتر والقلق وهي تقول منكمشة "ما... ما الذي تريده مني؟"
مد يده إليها فوجدته يحمل بعض الأوراق وريشة كتابة بالإضافة لمحبرة.. نظرت للأوراق بدهشة وهو يقول لها "أريدك أن تكتبي رسالة للملك.. وعليك أن تحسني كتابتها دون خداع.. لو سارت الأمور كما أتوقع، فستحصلين على حريتك قريباً جداً.."
لم تكن رنيم واثقة من هذا الأمر، لكنها لم تعترض وهي تحمل الأوراق والمحبرة للطاولة القريبة.. فأزاحت الطعام جانباً وجلست على كرسي بتأهب لكتابة ما يطلب منها.. فقال آرجان وهو منشغل بتنظيف المدفأة وتعبئتها بمزيد من الأخشاب "وجّهي الرسالة للملك عبّاد، واسأليه عن إحدى الخادمات التي لم نعثر عليها معهن.. اسمها جايا، وقد أسرها الملك مع الباقيات وأخذها للزهراء لكنها اختفت بعد وقت وجيز.."
تساءلت رنيم بفضول لم تملكه "ومن تكون جايا هذه؟"
نظر لها آرجان بتقطيبة قائلاً "هلّا فعلت ما يطلب منك؟.. أخبري الملك أنني أحتجزك عندي رهينة، ولن أطلق سراحك حتى يعيد إلينا جايا.. أخبريه أنني لن أتردد في الاقتصاص منكِ لو أصاب جايا أي مكروه أو لمس شخص شعرة من رأسها.."
نظرت له رنيم بارتجافة وقالت بعينين متسعتين "هل ستفعل هذا حقاً؟"
قال بابتسامة جانبية "لا.. لكن لا يضيرك أن تكتبي هذا لإقلاق الملك وليتصرف بسرعة أكبر.. أليس كذلك؟"
صمتت رنيم وهي تغمس الريشة في المحبرة، ثم تنقلها على الورق كاتبة رسالتها بخط جميل أنيق، فانسابت الكلمات على الورقة بسرعة ورنيم تحمّلها مشاعرها المتوترة.. على الملك عبّاد أن يتصرف بسرعة.. عليه أن ينقذها قبل أن تواجه غضبة الهوت العارمة، أو تواجه انتقام مختطفها الذي بدا عازماً على الوصول لمراده مهما كلفه ذلك.. عليه أن يعيدها لحياتها السابقة الهادئة رغم كآبتها وضيقها..
وبعد أن أنهت رسالتها، رفعت رأسها نحو آرجان الذي نجح في إشعال الحطب في المدفأة ليعيد الدفء للغرفة، ثم توجه إليها وتناول الرسالة منها يتأملها بصمت.. قبل أن يسألها بشيء من الشك "هل كتبتِ ما طلبته منك بالضبط؟"
بدا لها بوضوح أنه لا يحسن القراءة كما لا يحسن الكتابة، ويبدو أنه لا يعرف إلا التحدث بهذه اللغة فقط.. فأجابت رنيم بتوتر "بلى.. فعلت ذلك.."
هز رأسه باستحسان ورنيم تقول "هل تملك مغلفاً يمكنني أن أضعها فيه؟"
علق آرجان بهزء "مغلف؟.. لا نتمتع برقيّ كهذا.. سيتم ربط هذه الرسالة في سهم وسيرمى السهم في قصر الملك ذاته.. لا تقلقي لهذا الأمر واستمتعي بوقتك حتى نحصل على رد ملائم.."
تستمتع بوقتها؟.. شعرت رنيم بضيق وانفعال يكاد ينفجر له رأسها.. كانت الجدران في هذه الغرفة الضيقة تطبق على أنفاسها، وتزيدها بؤساً فوق ما تشعر به لاختطافها.. لكنها كالعادة لا تستطيع الاعتراض، ولا تستطيع تغيير واقعها قيد أنملة..
*********************
في اليوم التالي، دهشت رنيم لرؤية كاينا تحمل لها إفطارها في وقت مبكر.. فقالت "هل أصبحت تعملين خادمة عند هذا الرجل الآن؟"
ابتسمت كاينا معلقة "لستُ خادمة عند أحد هنا.. الكل في القرية يتعاونون عند الحاجة ولا نعامل بعضنا كخدم أبداً.."
ثم وضعت الطعام على الطاولة مضيفة "ثم إن من تعنينه غير موجود حالياً.."
نظرت لها رنيم بدهشة، بينما لوّحت كاينا بإصبعها قائلة "ولا يخايلك أنك ستقدرين على الهرب مني.. لن أكون أقل في حراستك منه، ولن أتهاون معك لو حاولت الهرب أبداً.."
قالت رنيم بضيق "أهرب لأضيع في هذا المكان المنقطع بلا وسيلة للترحال؟.. لست حمقاء لهذه الدرجة.."
عاد لها فضولها فتساءلت "وأين ذهب ذلك الرجل في هذا الوقت؟"
أجابت كاينا "عاد للزهراء ليحصل على رد قاطع من الملك.."
شعرت رنيم بلهفة شديدة وهي تقول "حقاً؟.. كم يوماً سيطول غيابه؟"
ابتسمت كاينا قائلة "تحلّي ببعض الصبر وكلي طعامك.. لابد أن يعود قريباً، ولابد أن سجنك هذا سينتهي بعودته.. فلا تقلقي.."
في الليلة التالية، وبينما كانت رنيم تتقلب في فراشها بتململ بانتظار ما سيسفر عنه الخطاب الذي وجهته للملك دون أن تعلم بما حل في (الزهراء) من بعد رحيلها، فإن مجد كان في الوقت ذاته يسير عابراً أحد الممرات المكشوفة ذات السقف المزخرف والأعمدة المتوازية.. كان ذلك الممر يقوده بشكل محاذٍ للقصر نحو مبنى جانبي لا يقل عن القصر أبهة وإن كان أصغر حجماً بكثير.. كان ذلك حتى وقت قريب منزل قائد الجيش فِراق الذي لم يتردد زياد في التخلص منه بعد ساعات معدودة من موت أبيه.. ومع تولّي مجد هذا المنصب كان محتماً عليه أن يسكن في القصر ذاته ليكون قريباً من الملك في أي وقت يحتاج إليه..
زفر مجد وهو يفكر بالأحداث القليلة الماضية التي اشتعلت مع اختطاف رنيم.. رغم أن ذلك التسلل من قِبَل جماعة الهوت كان ضئيلاً ولم يسفر إلا عن مقتل بضع أفراد من الحراس وجرح آخرين وتهريب الأسيرات من الهوت، إلا أن قتل الملك عبّاد وحده له تبعات جمّة على هذه المملكة قد تؤدي مع بعض الوقت لتفككها لو لم يحسن زياد إحكام قبضته عليها.. يكفي ما يصلهم من أخبار عن تحركات مشبوهة لدى مملكة كشميت وتجمعات من السفن الحربية التي تخوض عباب بحر السلام في وقت كهذا..
فهل يحق لمجد، مع كل هذه الأحداث الهامة، أن يشغل تفكيره برنيم وهي فرد واحد مقابل مملكة كبيرة كهذه؟.. هل يحق له أن يتخلى عن واجبه تجاه هذه المملكة ويسعى خلف رنيم مدفوعاً بشعور الذنب الذي يؤرقه كل ليلة؟..
قطع تفكيره صفير خافت وشيء مرق أمامه بشكل خاطف.. توقف مجد عن الحركة وهو يحدق في ذلك السهم الذي سقط على بعد خطوة واحدة منه.. فتوتر بشدة وهو يبحث عن مصدر هذا السهم.. هل كان المتسلل الذي أطلقه قد وجهه بنيّة قتل مجد بعد أن أصبح قائداً للجيش؟.. وهل ستتبعه سهام أخرى؟..
انتبه في تلك اللحظة لتلك الورقة المربوطة أعلى السهم، فتقدم منها ونزع السهم ساحباً الورقة برفق لئلا يتلفها.. ونظر حوله بحيرة ملاحظاً الصمت التام في الموقع، قبل أن يفضّ الورقة ويقرأها بسرعة.. تراكضت عيناه على الكلمات وأدرك من الوهلة الأولى هوية كاتبته.. عندها انتفض وهو يستدير قابضاً على الرسالة بشدة وصاح متلفتاً حوله "أين أنت؟.. أعلم أنك هنا.. فأظهِر نفسك وواجهني.."
جاوبه الصمت المطلق، فعاد يصيح "أعطيك كلمتي أن سوءاً لن يلحق بك حتى أتحدث معك.."
أتاه الصوت من موقع علوي يقول ببرود "لست أخشاك لو ظننت هذا للحظة.."
رفع مجد بصره للأعلى ليجد فوق شجرة وارفة قريبة من هذا الممر جسداً مظلماً لا يبدو واضحاً في هذه الليلة السوداء.. وخلال لحظة، كان الجسد قد اعتدل واقفاً وقفز دون وجل من ذلك الموقع ليستقر أمام مجد.. قطب مجد وهو يرى المشاعل القريبة تلقي بضوئها على الرجل بحيث بدت ملامحه واضحة شيئاً ما.. عندها قال بغيظ "أهو أنت؟.. أنت من اختطف رنيم.. ما الذي فعلته بها؟"
قال آرجان الذي وقف أمامه ممسكاً بسيفه العريض في يده "هي بخير.. فلا تقلق.. لكن الأمر مرهون باستجابتكم لما طلبته في هذه الرسالة.. أريد منك تسليمها للملك عبّاد وسأنتظر الرد خلال يوم واحد.. ومع مغيب شمس يوم الغد، لو تم تجاهل مطالبي، فسوف.........."
قاطعه مجد مقطباً "الملك عبّاد قد مات.."
قطع آرجان قوله وهو يحدق في وجه مجد بصمت وصدمة، فأضاف الأخير "قامت إحدى الفتيات اللواتي هربن معكم بتسميمه قبل رحيلها، ولم نتمكن من إنقاذه.. هل نسيتم هذا بهذه السرعة؟"
عقد آرجان حاجبيه وقال "لا.. لم أكن أعلم بهذا.. ولم نأتِ المرة الماضية للانتقام منه لو دار ذلك بخلدك.. لقد قامت تلك الفتاة بذلك التصرف بشكل فردي ولم تبلغ به أحداً منا.."
ثم قال بحزم "هذا لا يغيّر من الواقع شيئاً.. الفتاة ستظل سجينة عندي حتى أستعيد جايا.. أبلغ الأمير زياد بذلك، واطلب منه تحقيق مطالبي بأسرع ما يمكن لضمان سلامة الفتاة.."
زفر مجد بحدة وقال "بل هذا يغير كل شيء.. الأمير زياد لا يعبأ لأمر الفتاة، ولن يحرك إصبعاً لإنقاذها.. أما بالنسبة لتلك المسماة جايا، فقد بحثت عنها في أرجاء القصر منذ تلك الليلة.. حاولت العثور عليها لكي أتمكن من استعادة رنيم، لكني لم أعثر لها على أثر.. وبسؤال الملكة التي كانت تدير أمور هاته الفتيات أخبرتني أن تلك الفتاة قد تمكنت من الهرب قبل وقت طويل، عندما كنتُ غائباً لاصطحاب الأميرة من مملكة أخرى.."
غمغم آرجان بحنق "لو هربت لعادت للهوت بالتأكيد...."
قال مجد بتقطيبة "لكن الملكة قالت إن الفتاة قد سرقت كنزاً غالياً من كنوز الملك، ولا أحد يعلم في أي اتجاه هربت.. ربما هربت لمملكة أخرى لتتمكن من بيع ذلك الكنز والاستفادة مما سيعود به عليها.."
صاح آرجان بغضب "هذا كذب.. كذب.. جايا لن تسرق ولن تلمس شيئاً لا تملكه.. كفّ عن هذه الأكاذيب وسلمني إياها.."
سمعا صيحة تعلو من جانب الحديقة، ولاحظا تدافع عدد من الحراس بعد أن انتبهوا لوجود شخص غريب مع مجد.. أدرك آرجان عندها أن فرصة نجاته من هذا الموقف ضئيلة لو لم يبادر بالابتعاد في هذه اللحظة.. استدار إليه مجد ملاحظاً تلفت آرجان حوله وقال بحدة "أين الفتاة؟.. عليك إعادتها فنحن لا نعلم إلى أين رحلت تلك المدعوة جايا.."
لكن آرجان تجاهله وأطلق صفيراً طويلاً ومجد يصيح به "أين الفتاة؟.. أين هي أيها الجبان؟"
قطع قوله مع هبوط جسم قريب بشيء من العنف مثيراً عاصفة قربه، ولما انتبه مجد لذلك الجسم كان آرجان قد امتطى ظهر التنين الذي استجاب لندائه وقال بصوت واضح "لا أصدق حرفاً مما قلته لي.. أبلغ زياد أن الفتاة لن تعود حتى تعود فتاة الهوت التي اختفت.. واحدة مقابل أخرى.. وما سيصيب فتاة الهوت من ضرر، سيصيب فتاتكم أيضاً.."
وبتربيتة على عنقه، فإن التنين أقلع بسرعة وارتفع في السماء ليغيّبه الظلام في قلبه بينما سمع مجد صوت أقدام الحرس تقترب منه وأحدهم يصيح "هل يتعرض القصر لهجوم آخر يا سيدي؟"
قال مجد بتقطيبة "لا.. ليس هجوماً هذه المرة.."
وزفر بحدة مغمغماً "تباً لهذا الصفيق.. أرجو ألا تكون رنيم قد قضت نحبها ذعراً لما جرى لها.."
نظر للرسالة في يده، وزفر من جديد مفكراً في أمر تلك المدعوة جايا.. لو استعادها، فقد يتمكن من إنقاذ رنيم بشكل أسرع.. لكن بدا أن تلك الفتاة قد ذابت ولم يعد لها أثر في القصر كله.. لمَ تلك الفتاة بالذات؟.. وكيف اختفت بصورة لا يعرفها أحد في القصر كله؟..
*********************
بعد أربعة أيام من اختفائه، وبعد أن فاض الصبر برنيم وكادت تجن في انتظاره، انتبهت لصوت مختطفها الواضح يصلها عبر الباب المغلق.. جلست في سريرها بشيء من اللهفة بانتظار أن يفتح باب الغرفة.. لابد أنه تمكن من إيصال رسالتها، ولابد أن شخصاً ما في (الزهراء) سيستجيب لمطالبه.. هل جاء بهم لهذا المكان؟.. أم سيأخذها إليهم على ظهر تنينه؟..
في تلك الأثناء، كانت كاينا تحدث آرجان المتجهم قائلة بحدة "ما الذي ستفعله الآن؟.. لقد باءت مخططاتك بالفشل والوحيد الذي سيتحمل تبعات ذلك هي رنيم.. فما ذنبها؟"
قال آرجان بحدة "اصمتي.. أتظنين أنني لا أدرك ذلك؟"
ظلت كاينا تراقبه مقطبة وهو يدور في منزله بعصبية، ثم عادت تسأله "قل لي أنك تملك خطة أخرى على الأقل.."
زفر بحدة وقال "سأبحث عن جايا في قرى الهوت الأخرى.. ربما لجأت لإحداها ومنعها أمر ما من العودة إلينا.. وبعد أن يرتاح كاجا من عناء هذه الرحلة، سأعود به للزهراء، عسى أن يكون الملك، أو ذلك الرجل الذي يدعى مجد، قد استوعبا ما نطلبه منهما وحاولا البحث عن جايا بجدية أكبر.."
غمغمت كاينا وهي تغادر "وستظل هذه المسكينة حبيسة دارك حتى يقررا ذلك؟.. كان عليك أن تطيعني عندما طلبتُ منك تركها في الزهراء.."
وخرجت صافقة الباب خلفها بقوة، بينما جزّ آرجان على أسنانه بغضب.. لا يمكن أن تختفي جايا بهذه الصورة.. لا يمكن أن يكون ذلك الرجل صادقاً في كل ما قاله عنها.. لمَ هي دوناً عن بقية الفتيات؟..
طال انتظار رنيم وهي تسمع حديث آرجان مع شخص آخر بلغته دون أن تتبين ما يقال.. ثم بعد وقت طال، ساد الصمت في المنزل بشكل لم تتوقعه.. توترت لهذا وهي تتقدم من الباب وتطرقه بشيء من الحدة.. وبعد بعض الصمت، وجدت الباب يفتح ووجه آرجان يبدو من خلفه بعبوس واضح.. لا تدري لم خفق قلب رنيم لمرأى عبوسه وقد أدركت ما يحمله من أخبار، لكنها تساءلت رغم ذلك "حسناً.. ما الذي جرى مع الملك؟"
زفر آرجان بحدة، ثم قال بشيء من الجفاء "لم يحدث ما يمكنك التلهف عليه.. ما تزال الأمور كما هي وما تزالين حبيسة هذا المكان.. فاهدئي ولا تثيري غضبي.."
وغادر مغلقاً الباب خلفه بينما وقفت رنيم في موقعها ذاهلة.. ثم ركضت للباب وضربته بحدة بقبضتيها وهي تصيح "ماذا تعني بهذا؟.. ألم تصل رسالتي إلى الملك؟.. ألم يرسل أحداً لإنقاذي؟.. افتح بالله عليك ولا تتركني هكذا.."
لكن الباب ظل صامتاً والمنزل ساكناً ورنيم تتهاوى في موقعها واضعة يداً مرتجفة على جبينها.. ما الذي جرى؟.. لمَ لمْ يهرع شخص لإنقاذها مما هي فيه؟.. كيف يتخلون عنها بهذه البساطة؟.. هذا مستحيل.. مستحيل تماماً..
*********************
في اليوم التالي، وبعد انقضاء معظم ذلك النهار، وجدت رنيم المنطوية على نفسها في جانب المكان أن كاينا قد أتت لرؤيتها كعادتها.. وما إن جلست قربها حتى سألتها رنيم برجاء "كاينا.. أخبريني بما جرى بالرسالة التي أرسلها ذلك الرجل للملك.. ما كان رد الملك عليها؟.. ولمَ لمْ يأتِ أحد لإخراجي من هذا المكان؟"
نظرت لها كاينا بشيء من الشفقة، ثم قالت "حدثت أمور كثيرة منذ غيابك عن (الزهراء) يا رنيم.."
سألتها رنيم وقد هوى قلبها عند قدميها "أمور كثيرة؟.. ما الذي جرى؟"
أجابت كاينا بعد لحظة صمت "الملك عبّاد قد مات.."
اتسعت عينا رنيم بذعر وكاينا تضيف "إحدى الفتيات قد قامت بتسميمه تلك الليلة التي هربنا فيها، لكنها لم تخبر أحداً بذلك.. يبدو أن الملك قد أساء إليها بشكل ما، ولذلك لجأت للانتقام قبل رحيلها.. ولم يدرك أحد ما جرى للملك حتى مات بالفعل، لذلك لم يتمكن طبيب القصر من إنقاذه.."
هتفت رنيم وهي تتشبث بكاينا "ما الذي سيجري لي إذاً؟.. بعد موت الملك، من سيعبأ لأمري ويأتي لإنقاذي؟"
قالت كاينا محاولة تهوين الأمر "لقد استطاع آرجان التحدث مع مجد بغفلة عن بقية الحراس.. وقد كان مجد قلقاً لأمرك بشدة.. لابد أنه سيسعى لاستعادتك بشتى الطرق.."
نظرت لها رنيم بمزيج الأمل واليأس، وهما مزيجان متناقضان بشدة لم تشعر بمثلهما من قبل.. يحدوها الأمل أن مجد يهتم لأمرها، وسيأتي لنجدتها بالتأكيد.. ويأس لأنه لم يأتِ بعد رغم مرور كل هذه الأيام.. فما معنى هذا؟.. أهو بسبب موت الملك؟.. أم بسبب رفض زياد السماح له بذلك وهو قد أصبح حاكم المملكة ورئيس مجد؟..
أمسكت كاينا كتفيها قائلة "اسمعيني يا فتاة.. لن تستفيدي شيئاً من هذا البؤس.. سواء أأتى شخص لإنقاذك أم لا.. أهناك فارق؟"
غمغمت رنيم بمرارة "ألا ترين أن هناك فارقاً في هذا؟"
قالت كاينا "لا.. أنا واثقة أن ذلك لن يختلف بالنسبة لك.. ثقي بي يا فتاة.. نحن لا ننوي إيذاءك، ولا ننوي الانتقام لك لما جرى ولأي شيء سيجري.. اعتبري أننا نستضيفك لبعض الوقت، رغم أن هذا جرى بغير إرادتك.. صدقيني لم أكن أتمنى أن يحدث هذا، لكن الآن أرى أنه لا يصنع فارقاً حقاً بالنظر لما كان سيجري لك على يد الملكة والأمير زياد.."
قالت رنيم بصوت متهدج "لقد دُمرت حياتي يا كاينا.."
رفعت كاينا حاجباً وقالت "أتظنين ذلك؟.. وهل أنت آسفة على تلك الحياة حقاً؟"
صمتت رنيم دون إجابة.. لم تكن آسفة على حياة كرهتها، لكنها كانت شيئاً مفهوماً على الأقل.. الآن هي تمر بأيام لا تدري إلى أين ستأخذها أو ما الذي سينتج عنها بعد ذلك.. وهي حبيسة في غرفة بعد أن كانت حبيسة قصر واسع، وتعيش وسط أناس يكرهون النظر لوجهها بأي شكل كما كانت في القصر تماماً.. فما الذي تغيّر حقاً؟..
قضت رنيم ذلك اليوم غارقة في كآبتها، وقد غاب عنها آرجان طوال اليوم بعد أن بدا متعباً بشدة في اللحظة التي رأته فيها في الليلة السابقة.. ومع مغيب شمس ذلك اليوم، وجدته يدخل الغرفة حاملاً بعض الطعام وبعض الأخشاب لإشعال النار في المدفأة اتقاءً لبرد تلك الليلة.. ولما رأته رنيم التزمت الصمت وهي تراقب عمله للحظات.. ثم قالت بصوت لم تملك تهدجه "ما الذي سيجري لي بعد الآن؟"
أجاب دون أن ينظر إليها "لا شيء.. سيظل الحال على ما هو عليه.. لنأمل أن يمتلك ذلك الرجل بعض الحماسة للسعي خلفك وإعادة جايا لنا.."
قالت بمرارة خافتة "أما من أمل في إعادتي للزهراء؟"
صمت للحظات وهو يمارس عمله، ثم قال باقتضاب "ليس في الوقت الحالي.."
زمّت رنيم شفتيها بضيق ومرارة.. لو كان ينوي احتجازها لوقت غير محدد، فهل سيبقيها حبيسة هذه الغرفة حقاً؟.. إنها لم تكد ترَ نور الشمس منذ أيام عدة إلا من نافذة غرفتها الصغيرة، ولا تكاد تقدر على أن تشمّ هواءً نقياً بسبب إقفاله للنافذة.. فهل ستظل على هذه الحال مدة أطول؟..
ودّت لو تخبره بحقيقة ما يعتمل في صدرها، لكنها لم تجرؤ يوماً على ذلك أمام والديها ومن بعدهما زوجها المستقبلي، فكيف تفعل ذلك أمام مختطفها الجلف؟.. لابد أنه سينتقم منها بشدة لو فعلت.. كما أنه لم يعبأ بها عندما طالبته بإعادتها للزهراء.. فهل سيعبأ بضيقها من هذه الغرفة؟..
بعد أن انتهى من عمله، وبدأت المدفأة تنشر بعض الدفء في الغرفة الصقيعية، توجه للمخرج ورنيم جالسة بإطراق وهي تفرك كفيها باستمرار.. لكنها وجدته يقف وسط الغرفة متسائلاً "ما بك؟.. لو كان هناك ما تريدين قوله، فإليّ به.."
خفضت رنيم بصرها بصمت، فسمعته يقول ونظراته الحادة منصبّة على رأسها "عليك التحدث لو كان هناك ما لا يعجبك.. أكره تلك النظرات التي تظهر ما يخفيه لسانك.."
لم تجبه رنيم وشيء من التوتر يغزوها.. ما الذي يبغيه منها بالضبط؟.. وجدته يتقدم فيضرب الجدار خلفها براحة يده وهو يميل نحوها قائلاً بحدة "لا تبتلعي لسانك هكذا.. ألا تملكين رأياً في الأمر؟.."
هزت رنيم رأسها نفياً بسرعة وقلبها يغوص في صدرها.. لابد أنها أثارت غضبه.. فما الذي سيفعله بها الآن؟.. سمعته يزفر بحدة قبل أن يقول "أنت أسوأ مما ظننت.. أحقاً أنت أميرة وأنت منعدمة الشخصية بهذه الصورة؟.. أم أن ما تفلحين بفعله حقاً هو التسلط على الخادمات والحرس في قصر أبيك؟.."
ثم استدار مغادراً معلقاً "بئس الحال.. هذا ممل جداً.."
رفعت رنيم رأسها وقد شعرت بسوء وحنق كبيرين، ثم قالت قبل أن يغلق باب الغرفة "لكني........"
رغم أن صوتها كان ضعيفاً بسبب ارتباكها، إلا أنه توقف ونظر إليها بشيء من التعجب.. استجمعت رنيم شجاعتها وقالت بصوت أكثر وضوحاً دون أن تواجهه بعينيها "أنا أريد الخروج.. لا يحق لك سجني في غرفة واحدة بعد أن اختطفتني عنوة.. كما ليس عليك أن تخشى هروبي فذلك مستحيل تماماً..........."
حلّت ابتسامة ساخرة على شفتي آرجان محل ذلك التعجب، ثم سمعته يقول "هذا أفضل دون شك.. التعامل مع شخصية سلبية كشخصيتك ممل بالتأكيد.. ورغم ذلك، فطلبك مرفوض تماماً.. لا يمكنك مغادرة الغرفة لئلا تواجهي غضب أهل القرية.."
وغادر مغلقاً الباب خلفه، بينما احتقن وجه رنيم بغضب.. لقد خدعها.. فما هدفه من ذلك حقاً؟.. مادام سيرفض طلبها دون نقاش، فلمَ شجعها على طلبه؟.. أهو يتسلى بها؟.. أم أنه أمر آخر؟..
*********************
نهضت رنيم في وقت باكر من صباح اليوم التالي على بعض الضجة في جانب من جوانب المنزل.. لم يكن الفجر قد انبلج بعد وبدت السماء سوداء من نافذتها عندما فوجئت بآرجان يفتح باب غرفتها قائلاً "اغسلي وجهك واستعدي.. ستغادرين هذا المكان لعمل قصير.."
قالت رنيم بتوترها الدائم "أي عمل؟.. ولمَ في هذا الوقت بالذات؟.."
أجابها وهو يرمي شيئاً على سريرها "استبدلي ملابسك بهذه.. لقد طلبت من كاينا جلبها لك.. من المحال خروجك بهذه الملابس الخفيفة في هذا الجو القارس.."
تساءلت بقلق أكبر "لماذا؟.. ما الذي سأفعله بالتحديد؟"
أجاب آرجان بملل "نفذي ما أقوله بصمت.. لا نملك الكثير من الوقت.."
وغادر تاركاً الباب خلفه مفتوحاً ورنيم مشدوهة مما جرى.. لم يسبق له أن فعل أمراً كهذا منذ وصولها لهذه القرية، فما الذي يعنيه هذا؟.. راودها خاطر أن يكون هذا بسبب ما قالته في اليوم السابق، هل ينتوي عقابها على تجرؤها بذاك الطلب؟..
أسرعت بارتباك تغسل وجهها بالماء الذي وضع في آنية في جانب الغرفة.. تذكرت الأواني الفضية ذات النقوش المنمنمة التي تجدها في كل جناح في قصر أبيها وقد ملئت بماء صافٍ مزج بماء الورد.. ولم تكن هذه الآنية تقارن بتلك بأي حال..
نظرت للثياب التي كانت من قماش صوفي بلون أصفرٍ باهتٍ ونقوش بأشكال هندسية على الحزام الذي يخصها، ثم استبدلت ملابسها بعد أن أغلقت باب غرفتها من جديد بإحكام.. لم تكن معتادة على استبدال ملابسها بنفسها، وقد عانت أشد المعاناة من البقاء بالثوب ذاته لعدة أيام.. لكن كيف يمكنها التذمر وهي سجينة لدى هذا الرجل الغريب؟..
بعد ارتدائها لتلك الثياب التي تكونت من قميص بأكمام واسعة تصل لمنتصف ذراعها وبنطال فضفاض طويل، فإنها شعرت بتوتر كبير وهي تنظر لنفسها بقلق.. كيف يمكنها ارتداء مثل هذه الثياب التي لم تعتدْ عليها من قبل؟.. إنها لا تختلف عن ثياب الرجال كثيراً، وتشبه ثياب الخادمات في قصر (الزهراء) وإن كانت تنقصه الزينة التي على ثياب الخدم وتختلف عن قماشها الناعم الجميل.. لكن هل تجرؤ على الرفض؟..
أخيراً، بعد أن استسلمت دون اعتراض كعادتها، سرّحت شعرها المموج وعقصته، وارتدت حذاءً بسيطاً وجدته قرب الباب، ثم تقدمت من باب الغرفة بتوتر وأطلت منه نحو بقية المنزل الذي لم تره منذ قدومها.. كان المنزل الصغير مزدحماً بعدد من الأدوات التي كوّمت في جوانبه، بينما رأت عدداً من الدروع والأسلحة التي علقت في أحد حوائطه.. نافذته التي تحتل جانباً عريضاً من المنزل لا تغطيها أي ستائر، وأثاث المنزل الخشبي البسيط الذي يكاد يخلو من أي زخارف وتغطيه أغطية ملونة زاهية بنقوش وتطريزات لم ترَ مثلها من قبل.. ووسط المكان، رأت آرجان يقف قرب طاولة قريبة يتناول طعامه منها بسرعة..
وبعد تردد، تساءلت رنيم بصوت مبحوح "إلى أين تنوي أخذي؟.. ولأي عمل؟"
قال وهو يشير لإناء قريب "ألا تكفّين عن هذه الأسئلة؟.. تناولي فطورك بسرعة فسنغادر حالاً.. وارتدي هذه لكيلا تتجمدي من البرد.."
تقدمت رنيم من الطاولة متطلعة لذلك الإناء الذي حوى فطورها البسيط.. ورغم جوعها، إلا أنها لم تجد في نفسها أي شهية لتناول الطعام والقلق يعتمرها مما سيجرّها إليه ذلك الرجل الغريب.. ما مصيرها بعد أن تغادر هذا المنزل برفقته؟..
عندما فتح آرجان الباب وخرج منه، وقفت رنيم قرب الباب تتأمل الموقع خارجه بعد أن ارتدت سترة من جلد مدبوغ مبطن بفرو سميك لتمنحها الدفء في هذا الوقت المبكر.. كانت منازل القرية الصغيرة ممتدة أمام ناظريها، مغلفة بظلام شبه تام بحيث أيقنت رنيم أن الفجر لا يزال بعيداً.. ربما لن يغمر نور الشمس الموقع إلا بعد ساعة أو يزيد، وهذا ما نبأتها به زقزقات بعض العصافير المبكرة والتي لم تتمكن من رؤيتها.. نظرت لآرجان الذي حمل بعض الأدوات القريبة ثم تساءلت بقلق "ما الذي سأفعله بالضبط؟.."
قال لها بسرعة "ألم أخبرك؟.. إنه عمل ضروري.. وأحتاج عونك فيه.."
قالت رنيم بقلق متزايد "وما هو هذا العمل الذي لا ينتظر طلوع الشمس؟.."
لم يجبها وهو يحمل بعض تلك الأدوات ودلواً فارغاً، فأضافت "ألست تنوي الخلاص مني؟.."
قال آرجان بنفاذ صبر "وهل أنوي الخلاص منك بدلو فارغ وبعض الأدوات؟.. كفي عن هذه الخيالات واتبعيني.."
وغادر خلف المنزل مبتعداً نحو موقعٍ يعلو عن موقع بقية القرية، فتبعته رنيم بعد شيء من التردد.. لاحظت أنه يستطيع السير في ذلك الموقع المظلم بسهولة دون الحاجة لأي إنارة، بينما تتعثر هي بالحجارة بين خطوة وأخرى وتلحقه بصعوبة تامة، بالإضافة إلى أنها بدأت تلهث بعد مسافة قصيرة وهي لا تكاد تتمتع بأي لياقة.. انتبهت في تلك اللحظة إلى أنه فضّل حمل كل الأدوات بنفسه رغم أنه طلب عونها، فتعجبت لأمره شيئاً ما مما دفعها لتقول "يا سيد.. إلى أين نحن ذاهبان حقاً؟.."
قال لها دون أن يلتفت إليها "اسمي آرجان.."
فقالت "يا سيد آرجان.. إلى أين....؟"
قاطعها قائلاً بضيق "لا أحب أن تناديني بذاك اللقب.. الهوت لا يحبون الألقاب.. أنا هو أنا دون أن أكون سيداً لأحد.."
كان دور رنيم لتقول بنفاذ صبر "إلى أين تأخذني حقاً؟.. لمَ تتنصل من إجابتي بهذه الصورة؟.."
نظر لها قائلاً بابتسامة جانبية "ممّ أنت خائفة؟.. لاشيء يضطرني لاقتيادك كل هذه المسافة لارتكاب أي جرم بحقك.. اتبعيني بصمت فما يزال الهوت نائمون، ولا نريد إيقاظ أحد منهم بعد.."
تلفتت رنيم حولها بشيء من القلق، لكنها لم تتمكن من رؤية شيء مع الظلام الشديد من حولها.. ثم توقفت فجأة عن السير عندما سمعت زمجرة خافتة ولفحتها أنفاس دافئة جعلتها ترفع بصرها وتفتح عينيها على اتساعهما.. فأمامها، وعلى بعد متر أو أقل قليلاً، استطاعت رؤية تينك العينين اللامعتين بلون أخضرٍ زاهٍ، والتي التمعت في الظلام كأعين القطط وإن كانت تفوقها حجماً بعدد من المرات.. تراجعت رنيم خطوة بذعر بينما صدر فحيح من ذلك الجسد الذي تململ وهو يزمجر بتحذير واضح.. لكن آرجان قذف بشيء ما نحوها قائلاً "لا تفرّي مذعورة، فسيلحق بك وسيطؤك بقدمه دون شك.."
انتفضت رنيم بذعر وهي تلتقط ذلك الشيء، لتجد أنه تفاحة حمراء بحجم كف يدها.. ولم تكد تلتقطها حتى وجدت التنين الذي كان أمامها يندفع نحوها بسرعة صرخت لها رنيم فزعة وهي تتعثر فتسقط أرضاً.. أغمضت عينيها بشدة وفزع وهي تنتظر اللحظة التي ستشعر فيها بالألم عندما ينشب التنين أنيابه في جسدها، لكنها عوضاً عن ذلك شعرت بلفحات أنفاسه الحارة وهو يتشممها ويزوم بشيء من الحنق..
أخيراً تجرأت رنيم على فتح عينيها لترى تلك العين الخضراء قريبة منها وهو يبحث بأنفه تحت ذراعها التي ضمّتها لجسدها عند سقوطها.. وقبل أن تفهم ما يفعله سمعت آرجان يقول "إنه يبحث عن مكافأته، وأنت تخبئينها.. لا تستثيري غضبه رجاء.."
أسرعت رنيم تمد يدها بالتفاحة نحو ذلك الفم العريض، ورغماً عنها أغمضت عينيها خشية أن يلتهم نصف ذراعها مع التفاحة بفمه العريض وأنيابه الحادة.. لكنها شعرت بلسانه الرطب وهو يلتقط التفاحة بمهارة ويرميها عالياً قبل أن ينقض عليها ويلتهمها بقضمة واحدة.. ثم استدار وهجم على آرجان الذي أطلق صيحة أفزعت رنيم، فنهضت بسرعة واقتربت من جسده الذي سقط أرضاً وهي تشعر بدقات قلبها تتعالى.. لو أن التنين قد هجم على صاحبه، فهي التالية بالتأكيد.. فكيف لها أن تفرّ من مصير كهذا؟..
لكنها بعد لحظة سمعت ضحكة تصدر من آرجان والتنين يزوم بحنق، ثم قال آرجان مربتاً على خطمه "لم يعد لديّ المزيد.. ألم نتفق على أن أجلب لك تفاحة واحدة كل صباح؟"
نظرت له رنيم بدهشة وهي تراه يحدث التنين كصديق قديم، ثم وجدته يعتدل مزيحاً الحيوان الضخم من فوقه وهو يقول لها "هل فزعت من تصرفاته؟.. التنين لا يختلف عن غيره من الحيوانات، ولا يجب أن يثير الفزع في نفسك.. فكما استطاعت بعض القبائل والممالك ترويض النمور والأسود الشرسة، فإن شعبنا قد استطاع التعامل مع التنانين وتسييرها لمصلحتنا.."
أدارت رنيم رأسها جانباً بصمت.. من المحال عليها في هذه الظروف أن تتأقلم مع رؤية هذه الكائنات المرعبة.. ربما لو كانت في القصر ومحاطة بجمع من الجنود، لكان الأمر أفضل بكثير.. لكن أن تتعامل مع هذا الكائن وهي أسيرة لصاحبه، فهذا مما لا يطمئنها بأي حال..
سمعته يقول وهو ينهض نافضاً ثيابه "احملي هذا الدلو وتوجهي للجدول القريب.. أمامنا عمل كثير في إزالة هذه القذارة عن هذا الكسول.."
بعد تردد كبير، أطاعته وهي تتقدم من جدول قريب لا تكاد تراه، إنما مهتدية بصوته السلس الذي أشعرها ببعض الراحة.. وبعد ممانعة كبيرة، تقدم التنين ليقف قريباً من الجدول ليبدأ آرجان في غسل جلده والعناية به.. بدا لها أن آرجان يعتني عناية فائقة بهذا التنين ويعامله برفق شديد وكأنه مجرد طفل لا حيوان ضخم يفوقهما حجماً.. فتساءلت بعد تردد وبعد أن وجدت أنه يستفرد بمعظم ذلك العمل "كيف تمكن الهوت من ترويض هذه الكائنات المعروفة بشراستها؟.. ما علمته أن التخلص منها، وترويضها بصورة أكبر، عمل مستحيل لم يتمكن أي شعب مع كل علومه من تحقيقه.. فكيف يمكن للهوت المعروفين بـ......"
ترددت للحظة فقاطعها قائلاً بابتسامة جانبية حملت سخرية واضحة "معروفين بماذا؟.. بجهلنا وكوننا أقرب للرعاع منا للبشر المتحضرين؟.. هذه مغالطة كبيرة.."
غمغمت رنيم "ربما كنتَ محقاً بهذا، من وجة نظرك أنت.. لكن هذا ليس سبباً كافياً لتفسير علاقتكم الغريبة بالتنانين.. فكيف تفعلون ذلك حقاً؟"
سمعته يقول وهو منهمك في عمله "نحن لم نروّض التنانين ولم نجبرها على الانصياع لنا.. لا يمكن لبشري أن يفعل ذلك مع كائن ذو كبرياء كهذا التنين.. كل ما هنالك أننا تمكنا من تطويعها بما نقدمه لها من خدمات ومن طعام وخلافه، بينما يصرّ بقية البشر على تطويعها بالقوة وهو ما ترفضه هذه الكائنات.."
استمعت له رنيم بدهشة وهو يضيف "ولذلك، هي بحاجة لرعاية وعناية كبيرة لكي تبقى في خدمتنا.."
تساءلت رنيم وهي تربت على أنف التنين المسترخِ جانباً بعد شيء من التردد "لكن، لمَ كان علينا القدوم في مثل هذا الوقت المبكر للعناية بها؟.. أهناك ما يمنع انتظار النهار؟"
قال آرجان "لا شيء يمنع ذلك.. لكن أنسيتِ أن الهوت يكرهون رؤيتك؟.. لو شاهدوك خارج منزلي فلن أقدر على منعهم عنك.."
صمتت رنيم للحظات، ثم عادت تتساءل "ومن الذي يعاونك في أعمالك هذه عادة؟"
قال آرجان "لا أحد.. أفعل هذا بنفسي عادة.."
استمعت له رنيم بشيء من الدهشة.. هل اضطر للنهوض في وقت أبكر من المعتاد ليخرجها من المنزل قبل استيقاظ بقية من في القرية؟.. ما الذي يدفعه لذلك رغم أنه يقوم بالأعمال ذاتها وحيداً في العادة؟.. هل فعل هذا بسبب طلبها الخروج من المنزل؟.. تنهدت وهي تحك جانب رقبة التنين الذي بدا مستمتعاً بهذا أكثر من أي شيء آخر.. إنها لم تعُد تفهمه.. كيف يهتم بما تريده وهو مختطفها؟..
وبعد بعض الوقت قضته في العناية بهذا الكائن الخرافي، ومعاونة آرجان بما يمكنها عمله رغم تفرده بكل الأعمال المهمة، فإن آرجان توقف فجأة وتلفت حوله للحظات قبل أن يقول "يكفي هذا.. يستحسن أن تعودي لمنزلي قبل استيقاظ الآخرين.."
توترت رنيم شيئاً ما متلفتة حولها، ثم رأت آرجان يتقدمها وهو يشير لها لتتبعه.. فلم تتوانَ عن ذلك وهي تسرع في خطواتها بعد أن بدأ نور خفيف يزيح الظلمة السابقة واستطاعت رنيم أن ترى موضع قدمها بوضوح.. كان من المدهش عودة رنيم لمحبسها طواعية، فما الذي منعها من الهرب في هذه اللحظة؟.. في الواقع، لهذا أسباب عديدة.. منها أنها تخشى مواجهة بقية الهوت.. ويأسها من إمكانية عودتها إلى (الزهراء) أو حتى لـ(بارقة) وحيدة دون معاونة.. ثم إن موقع القرية الغريب يجعل من الصعب عليها، وهي التي قضت حياتها في القصور، من تخطي تلك السلسلة الجبلية والوصول للسهول القريبة ومنها لأقرب قرية..
لكن.. كم من الوقت سيمضي قبل أن يقتنع آرجان أن انتظاره سيطول دون فائدة؟.. هل سيطول الأمر لأسبوع؟.. أسبوعان؟.. أم يستلزمه الأمر شهراً للتأكد أن أحداً لن يأتي بحثاً عنها لإنقاذها؟.. يبدو أن لقب (زوجة ولي العهد) كان أكبر منها كالثوب الفضفاض الذي يبدو عليها بشعاً وغير ملائمٍ بالمرة..
تنهدت رنيم بحدة لم تلحظها وهي تحدق في موضع خطواتها وتتبع آرجان بآلية.. فسمعته يقول "يا للبؤس.. أكل هذا الضيق بسبب عودتك لتلك الغرفة؟.. إذن ما الذي ستفعلينه لو حبسك الهوت في سجونهم الضيقة كريهة الرائحة؟"
نظرت له رنيم بقلق متسائلة "أهي حقاً كذلك؟"
ابتسم بجانب فمه بصمت للحظات، ثم قال وهو ينظر للقرية الساكنة عند قدميهما "لا.. الهوت لا يملكون سجوناً البتة.. هذه عقوبة لا توجد في شرائعنا ولا نطبقها على أي شخص كان.."
تساءلت رنيم بدهشة "كيف ذلك؟.. وما الذي تفعلونه بمن يرتكب خطأ أو إثماً من الهوت؟"
أجاب هازاً كتفيه "هناك عقوبات أخرى أكثر نفعاً للطرفين، وهي تتمحور بالأساس حول القيام بخدمات مجانية للطرف المتضرر.. لكن إن كان الجرم أكبر من أن يُغتفر، فالعقوبة القصوى بالنسبة للهوت هي النفي.. مغادرة القرية دون رجعة هي أشد عقوبة يمكن إيقاعها على أي مجرم من القرية.."
غمغمت رنيم "أنتم متهاونون كثيراً.."
قال آرجان "ربما.. لكن لاحظي أننا نعيش حياة أكثر أمناً مما تعيشونه أنتم في العاصمة.. ثم إن أي رجل أو امرأة من الهوت يضطر للرحيل عن قريته سيعيش حياة عسيرة جداً خارجها.. فالهوت غير مرحب بهم في أي مكان كما تعرفين، لذلك يكون هذا هو العقاب الأشد وقعاً على أي شخص من هذه القرية.."
ظلت رنيم تستمع له بتعجب.. ما سمعته وعرفته عن الهوت صوّر لها أنه شعب جلف متوحش يعيش بصورة أدنى عن بقية البشر.. ظنت أنهم همج لا قانون لديهم ولا ثقافة ولا يختلفون عن الحيوانات بشيء.. ورغم أنها تعرفت على كاينا في القصر وتآلفت معها شيئاً ما، إلا أن ذلك الشعور لم يفارقها بتاتاً حتى رأت قرى الهوت بنفسها.. وبدأت تعرف أي نوع من البشر هم بعيداً عن الادعاءات والأساطير التي تشاع عنهم.. وبعيداً عن نظرة الشعوب الأخرى الضيقة لهذا الشعب المعتزل..
*********************
|