لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء > القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 15-12-15, 08:49 AM   المشاركة رقم: 21
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Dec 2015
العضوية: 307841
المشاركات: 179
الجنس أنثى
معدل التقييم: عالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 460

االدولة
البلدAland Islands
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عالم خيال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: على جناح تنين..

 

الفصل الرابع: لماذا أدفن رأسي في التراب؟


في تلك الليلة، وبعد أن خضعت رنيم لإعداد طويل ومرهق للاحتفال الملكي الذي بدأت أصداؤه مع غروب شمس ذلك اليوم، فإن رنيم سارت تتبع إحدى الخادمات عبر أروقة القصر نحو موقع الاحتفال.. كانت رنيم ترتدي ثوباً ذهبياً طويل الأكمام وبرقبة عالية منشّاة وتبطنها طبقات من الدانتيلا الناعمة والتي تبدو أيضاً من أسفل أكمامها المشقوقة.. وفيما كانت تسير بخطوات وئيدة مرتدية حذاءً ذهبياً مزين بمجموعة من الأحجار الكريمة اللامعة، فإنها كانت تتلمس زينة شعرها الذهبية وتتأكد من انتظام تموجات شعرها المنسدل على كتفيها ومن القرطين الماسيين المتدليين من أذنيها.. كانت تنوء بما ترتديه وما تحمله على رأسها من زينة، ومن الأصباغ التي غطّت وجهها بحيث شعرت بعجزها عن الابتسام خشية أن تفسد شكلها الذي أمضت ساعات لإعداده.. ولما نظرت لوجهها في المرآة قبل مغادرة جناحها، راودتها رغبة شديدة في إزالة كل ما عبث بملامحها وأظهرها بشكل آخر لا يشبهها لا من قريب ولا من بعيد.. كيف يمكن للآخرين أن يسعدوا برؤيتها بشكل يخالف حقيقتها بهذه الصورة؟.. هذا لغز لم تفهمه حتى الآن..
ولدى وصولها للباب المخصص لدخول العائلة المالكة، والذي يختلف عن الباب الذي دخل منه ضيوف الاحتفال المميزين، سمعت نداء يتعالى باسمها ولقبها كخطيبة لولي العهد.. تضاعف توترها أضعافاً وهي ترى الباب يفتح بصوت عالٍ، عندها لم يكن أمامها مناص من التقدم بخطوات ثابتة وهي تمسك جانب ثوبها بحركة بدت أنيقة ولكنها تخفي قلقها وانفعالها الشديدين..
لاحظت أن الحضور تجمدوا في مواقعهم وهم يرمقونها بفضول كبير، ولم تفتها الهمسات التي اندلعت من بعض الحاضرات كبيرات السن.. لكنها حاولت تجاهل كل هذا وهي تبتسم لمن تلتقي عيناها بعينيه وتسير قدماً دون أن تعرف أين تذهب في هذه القاعة الواسعة التي غصّت بحضورها من جميع الأعمار.. رأت بعض النسوة يتقدمن منها مرحبات ومهنئات بهذه الزيجة، فشكرتهن بابتسامة دون أن تغفل عن تفحصهن المكثف لملامحها والابتسامة التي حملت جانباً هازئاً لم تحاول إحداهن إخفاءه..
بعد سير قصير دون هدف، لاحظت رنيم الأمير زياد الذي كان يضحك مع إحدى الأميرات المتصنعات غير عابئ بوجودها في الحفل.. لكنها لم تحاول الاقتراب منه وهي تدير وجهها جانباً تتأمل رعايا (الزهراء) من ذوي الطبقة العالية والأصول العريقة.. شعرت بغربة تامة، وكأنها وسط حقل مليء بالأشواك لا تجرؤ أن تخطو خطوة فيه دون أن تؤذي نفسها.. وبعد بعض الوقت، وجدت نوران تقترب منها قائلة بسرور "انظري إليك.. تبدين أجمل من المعتاد بكثير.."
ابتسمت رنيم بصمت وهي مدركة أن أي قول تقوله نوران ينطبق عليها هي بصورة أكبر بعشرات المرات.. كانت نوران تزهو بثوب طويل بلون خمري جميل يظهر بياض بشرتها وشعرها الذهبي، ورغم اقتناعها بقليل من الزينة وظهورها بمظهر طبيعي خالٍ من التبرج المبالغ به، إلا أنها بدت كحورية من قصة خرافية.. ألهذا السبب تشعر رنيم بتضاؤل شديد لوقوفها جوار نوران وكأنها برغوثة بشعة المنظر؟..
وجدت نوران تجذبها قائلة بابتسامة "لابد أنك لم تقابلي زياد.. لنذهب إليه.."
وغمزت بعينها مضيفة "ولابد أن زياد سيذهل لرؤية جمالك الأخاذ هذا.."
شعرت رنيم بشحوب ونوران تجذبها تجاه ذلك الشخص الذي تخشى مواجهته بشدة.. تخشى أن يعلق تعليقاً هازئاً لرؤيتها فيسبب لها الحرج أمام تلك الجماعة من الأميرات اللواتي تحلقن حوله..
قبل أن تصلا لموقع الأمير زياد الذي انشغل عنها ساهياً أو متعمداً منذ وصولها للحفل، جذبت رنيم ذراعها من يد نوران قائلة بارتباك "مهلاً.. أريد شرب بعض الماء.. أشعر بجفاف شديد في حلقي.."
نظرت لها نوران قائلة "وماذا عن زياد؟.. لا يمكن أن نتركه ينتظرنا.."
لم يبدُ أن الأمير ينتظرهما بحال وهو لاهٍ بحديثه الضاحك ذاك، فقالت رنيم بابتسامة مرتبكة "سأعود بعد لحظات معدودة وآتي للقاء الأمير من فوري.."
واستدارت مبتعدة تشق طريقها بين الحضور، حتى وصلت لمائدة صفّت عليها أنواع الشراب والماء البارد وبعض الحلويات.. فشربت رنيم بعض الماء وهي تحاول تمالك انفعالها.. ثم عادت ببصرها نحو الموقع الذي يقف فيه زياد، ولوهلة خايلها أن تلك الابتسامات والضحكات التي تتبادلها الأميرات معه هي نتيجة سخريته منها..
أشاحت رنيم بوجهها وغادرت نحو مخرج القاعة الذي يؤدي لشرفة واسعة خارجية ومنها للحديقة التي ظلت جوانبها مظلمة رغم المصابيح والمشاعل الموزعة في جوانبها بدقة.. شعرت بشيء من التعب وضيق تنفس جعلها تكره وقوفها في تلك القاعة الملأى بغرباء لا تعرف معظمهم.. والأدهى أن الأمير، زوجها المستقبلي، لم يلقِ عليها نظرة واحدة منذ دخلت القاعة.. ولم يحاول حتى تعريف الآخرين بها كخطيبته، وكأن وجودها لا معنى له..
اختارت رنيم جانباً مظلماً من الحديقة وجلست على كرسي طويل حجري بأرجل مزخرفة وتحيط به أشجار الياسمين ذات الرائحة العطرة.. حاولت أن تفرغ عوطفها ومشاعرها مما اكتسبته طوال هذا النهار من انفعالات عصفت بها.. إنها تشعر بشؤم شديد منذ وصولها للزهراء، ويتزايد هذا الشعور مع كل يومٍ يمضي.. لكن هل سيغير شعورها هذا شيئاً من واقعها؟..
ظلت رنيم في موقعها بصمت، رغم أن العطش سبب لها جفافاً في حلقها ورغم القشعريرة التي أثارتها في جسدها نسمة باردة هبّت على المكان.. لكنها لم تعبأ للأمر وهي متجمدة في موقعها دون حراك.. إنها تكاد تجزم أن من سيراها الآن سيظنها تمثالاً من التماثيل الموزعة في أرجاء الحديقة..
طال الاحتفال مدة طويلة، وكلما حاولت رنيم دفع نفسها للعودة للآخرين، شعرت بضيق من جديد وعزفت عن الحراك مستسلمة له.. هل الأفضل لها أن تعود لجناحها؟.. قد يعدّ الأمير ذلك سوء أخلاق، وهذا الاحتفال مقام احتفاءً بخطبتهما.. لكن، مع بقائها هنا، يمكنها أن تتذرع بحاجتها لبعض الهواء وشعورها بالاختناق في القاعة، وهو أمر لم يجانب الصواب كثيراً..
بعد وقت طويل، لاحظت رنيم خفوت الأصوات والأضواء القادمة من القاعة، فاقتنعت أن الاحتفال قد خفتت حدته، وقد يكون الحضور قد انتقلوا لموقع آخر من القصر كما يحدث في مثل تلك الحفلات.. فنهضت رنيم بهدوء وسارت بشيء من التردد وهي تتنهد.. لابد أن نوران ستثير زوبعة في اليوم التالي لغيابها عن هذا الحفل الذي أقيم خصيصاً لها..
سمعت صوت خطوات تقترب من خلفها، ثم أتاها صوت يزفر قائلاً "أخيراً عثرت عليك.."
انتفضت رنيم وهي تلتفت خلفها لترى مجد يقترب منها قائلاً بتقطيبة "ما بك؟.. لقد اختفيت منذ بدء الاحتفال، ونوران بحثت عنك طوال الساعات الماضية عبثاً.. لقد تضخمت أذناي لكثرة ما صبّتْ فيهما من الوساوس، ولولا خشيتها من إثارة بلبلة بين الحضور لأعلنت للجميع أنك اختُطِفْت من القصر.."
لم تجبه رنيم وهي تدير وجهها جانباً بصمت، فقال مجد وهو يقترب منها "أأنت على ما يرام؟.. بدوت شاحبة الوجه نوعاً ما في الاحتفال بشكل يثير القلق.."
لم تعلق وهي تدمدم "لا شيء.. أنا بخير.."
قال مجد "هل تمزحين؟.. ملامحك لا تدل على هذا بتاتاً.."
عادت رنيم للجلوس على الكرسي القريب وهي مطرقة.. فجلس مجد بدوره قائلاً "أخبريني بما حل بك.. قد أتمكن من معاونتك بأي شكل من الأشكال.."
قالت رنيم بعد لحظة صمت "أريد الرحيل.."
وإزاء صمت مجد أضافت بصوت مرير "أريد المغادرة لأبعد مكان ممكن.. لكن لا يمكنني التنصل من هذا الزواج لئلا ألقى غضب أبي وثورة أمي.. لكني حقاً أريد الرحيل فلم أعد أطيق رؤية شخص في هذا القصر.."
غمغم مجد وهو يتطلع للسماء "لا ألومك على هذا.."
أضافت وهي تدفن وجهها بين ذراعيها المستندتين على ركبتيها "الأمير زياد، زوجي المستقبلي، يعاملي بكل برود.. بل إنه يتعمد تحقيري ومعاملتي بكل دونية.. كما أن الملكة الأم تعاملني بكره واضح، وتتدخل بأموري بشكل سافر.. فما الذي جنيته لأستحق هذا؟.. ألم آتِ للزهراء بدعوة من الملك؟.."
ربت مجد على رأسها بخفة قائلاً "أدرك ما تشعرين به.. لكن لا يمكنك التنصل من هذا الزواج الآن.. لمَ لمْ ترفضي هذا المصير قبل أن يرسلك الملك قصيّ للزهراء؟.. كان عليك أن تكوني حاسمة في قرارك منذ البدء.."
قالت رنيم بمرارة "لا أحد يعيرني أي اهتمام ولا يُعتدّ برأيي أبداً.. رفضي لا يعني لأبي الملك شيئاً.. ثم إنني ظننت أن الأمور ستكون في (الزهراء) أفضل حالاً من (بارقة).. ظننت أنني سأبدأ حياة جديدة، وقد أتمكن من تغيير واقعي شيئاً ما.. قد أتمكن من أن أصبح بشخصية أقوى وأكثر حزماً في التعامل مع الآخرين.."
ابتسم مجد معلقاً "هل كنت تعوّلين على تغيير حياتك لتبدئي بداية جديدة؟.. هذا أمر صعب لو لم تبدئي بتغيير شخصيتك ذاتها.."
غمغمت رنيم "أدرك ذلك الآن.. لكني بدأت أفقد صبري حقاً.. أشعر بالحلقة تضيق على عنقي مع كل يوم يمضي، ولست أدري متى سأفقد القدرة على الاستمرار.."
قال مجد بحزم "لن يطول ذلك كثيراً ما لم تتمكني من تمالك نفسك بصورة أفضل.. تجاهلي ما يجري حولك، ولا تضعي آمالاً على الأمير زياد.. نحن لسنا في حكاية عاطفية، ولن تجدي الحب الذي قد تتأملينه من زوجك في المستقبل.."
غمغمت رنيم بمرارة "ليس هذا ما كنت أطمح إليه حقاً.. كل ما تمنيته هو بعض الحرية، والتخلص من بعض القيود التي تقيدني.."
نظر لها مجد بصمت وتعجب، ثم علق قائلاً "هذه نقطة أخرى لم أتوقعها فيك.. أغلب الفتيات، والأميرات منهن، يسعين للحصول على الحب الذي حلمن به سنين طويلة، مهما كان الأمر يقيّدهن ويجبرهن على التنازل.. ففي سبيل الحب، يمكن للفتاة أن تتنازل عن كل ما تملك من شخصية وكرامة وعزة نفس.. وهذا ما يشعرني أنهن لا يقدّرن أنفسهن حقاً.."
نظرت له رنيم متسائلة بتردد "أتظنني أقدّر نفسي حق قدرها بالفعل؟"
زفر مجد وهو يتطلع لوجهها المتردد، ثم قال "أنت تملكين الكثير من الصفات الرائعة يا أميرتي.. لكن كل هذا يزول لدى رؤية ملامح الخضوع والتردد البادية على وجهك.. كل جمال تملكينه، سواء أكان ظاهرياً أم داخلياً، يبهت عندما تخفضين رأسك وتخضعين لمن حولك.. ما الذي يدعوك لهذا الاستسلام الذي أقل ما يوصف به أنه مخزٍ لفتاة في منصبك؟"
خفضت رنيم وجهها المحتقن بصمت.. كان قوله كفيلاً بأن يجرحها بشدة، لكنه كان مصيباً ودقيقاً في كل ما ذكره.. ثم إنها، رغم قِصَر معرفتها بمجد، قد تآلفت معه وشعرت به كشخص موثوق يمكنها أن تطمئن إليه.. لذلك لم تستنكر قوله رغم قسوته بل استنكرت أن يكون خضوعها واستسلامها بهذا السوء.. ربما كانت تجمّل واقعها بأنها بهذا التصرف تشتري هناء بالها.. لكن مجد قد أزال كل ما دارَتْ به ضعفها وأبرزه أمام عينيها بشكل أثار خجلها مما تراه.. أهي بهذا السوء حقاً؟..
ولدى صمتها واحتقان وجهها، قال مجد بشيء من اللطف "أرجوك ألا تسيئي فهمي يا فتاة.. لا أعني تجريحك بقدر ما أرغب بإيقاظك من الغفلة التي تعيشين فيها.. حتى متى ستدفنين رأسك في التراب؟.. من هي مثلك حريّ بها أن تكون أكثر نباهة وفطنة وأشد يقظة لما يدور حولها.."
غمغمت رنيم بكآبة "أدرك ذلك.. فلا تقلق.. ما يسبب لي الضيق حقاً هو إدراكي مدى سوء واقعي بعيداً عن التجمّل الذي كنت أداري به ضعفي.. ما يسوؤني أن أرى أنني لست بالكمال الذي ظننت نفسي عليه.."
ربت مجد على رأسها مجدداً قائلاً "الاعتراف بهذا ليس سيئاً.. الأهم أن تقتنعي بتغيير ما ترينه.."
تنهدت رنيم للحظة، ثم نهضت مغمغمة "ربما كنت على حق.. لكن، من يدري إن كنت أقدر على ذلك؟.."
واستدارت بخطوات بطيئة عائدة لجناحها.. كانت تريد الخلوّ لنفسها والتفكير في ما عرفته هذه الليلة.. بينما وقف مجد يراقبها للحظات بصمت، قبل أن يستدير ويتجه بخطوات سريعة لشجيرة ورد قريبة.. وهناك، استطاع أن يرى تلك الخادمة التي أولته ظهرها وغادرت بخطوات سريعة مرتبكة.. لكن مجد لحق بالخادمة الهاربة حتى قبض على ذراعها بشدة وأوقف ركضها.. فالتفتت الخادمة إليه بفزع قائلة "ما الأمر يا سيدي؟.. أطلقني.."
لاحظ مجد أنها إحدى الخدم التي رآها عدة مرات ضمن حاشية الملكة، فقال مقطباً "أنت تعملين لدى الملكة، ألست كذلك؟.. أكنت تنوين الهرب والوشاية بما سمعته لها؟.."
هتفت الخادمة "لا يا سيدي.. أنا لا أتدخل فيما لا يعنيني.."
لكن مجد اعتصر ذراعها بشكل مؤلم بقبضته وهو يقول "أتظنين أنني لا أعرف عنكن شيئاً؟.. هل كنت تتلصصين بنفسك أم أن الملكة هي من أرسلتك؟.."
اتسعت عينا الخادمة شيئاً ما وهي تقول بقلق "لا يا سيدي.. لقد مررت من ذلك الموقع بالصدفة ولم........"
شدّ مجد على ذراعها بقوة فقالت بألم "أطلقني أرجوك يا سيدي.."
قال مجد بصرامة "لو لم تقولي الحقيقة، سألفق لك تهمة الخيانة وسيتم طردك من القصر.. لن ينفعك أي شخص عندها، ولا حتى الملكة الأم.."
بدا الارتياع على وجه الخادمة التي سرعان ما صاحت "لا تفعل هذا يا سيدي.. سأخبرك الحقيقة.. إنها أوامر الملكة.."
نظر لها مجد مقطباً وهي تضيف بارتباك "أنا أنفذ ما أمرتني به الملكة فقط.."
فسألها بحدة "وبمَ أمرتك بالتحديد؟.."
قالت الخادمة "أمرتني أن ألاحق الأميرة رنيم لعلّي أجد عليها ممسكاً أو زلة.. وتريدني أن أبلغها بكل ما أراه صغيراً كان أو كبيراً.."
تخلى مجد عن ذراع الخادمة وهو يفكر بما سمعه مقطباً، فتراجعت الخادمة خطوة وهي تضيف "هذا كل ما أوصتني به.. وأنا أنفذ أمرها فقط.."
لم يكن صعباً على مجد إدراك أن الملكة تبحث عن سبب لرفض هذا الزواج وطرد رنيم من القصر، فهي قد أبدت رفضها له سابقاً بكل صراحة.. فنظر مجد للخادمة بحزم قائلاً "لا بأس.. استمري فيما كنت تفعلينه.."
نظرت له الخادمة بدهشة، فأضاف بسرعة "لكنك لن تشي بأي شيء مما رأيته للملكة.. لن تنقلي عن الأميرة رنيم إلا ما يسرّني سماعه.. أفهمت؟.."
غمغمت الخادمة بقلق "ماذا لو أدركت الملكة الأم أنني خدعتها؟.. ستعاقبني بشدة على ذلك.."
قال مجد بصرامة "عقابها لن يكون أسوأ من عقابي لو علمت أنك أبلغت الملكة بخبر سيئ عن رنيم.. فكوني حذرة وتخيّري كلماتك بدقة.."
نظرت الخادمة بقلق لعينيه الحادتين، ثم أحنت رأسها قائلة بارتباك "سأفعل ذلك يا سيدي.. ثق بي.."
وتراجعت مبتعدة بخطوات سريعة، بينما زفر مجد بحدة وهو يغمغم "تباً.. ظننت أنني معتاد على تصرفات أهل القصر المتّسمة بالخسة والحقارة.. لكن لمَ يغلي دمي لمثل هذا التصرف وهو موجه لرنيم؟.. إنها لا تستحق شيئاً من هذا.."
ثم غادر بخطوات واسعة وشيء من الضيق عائداً لعمله وتفكيره منشغل بالفتاة التي تبدو شاذة في هذا القصر الفخم البهيج..

*********************

في اليوم التالي، تذرعت رنيم بمرضها لئلا تخرج من جناحها.. لم تكن معتادة على سجن نفسها في جناح أو غرفة لأي سبب من الأسباب، لكن كلمات مجد في الليلة الماضية أخذت تدوّي في رأسها وأبعدت النوم من عينيها لساعات طوال.. حتى عجزت عن العثور على إرادة لمغادرة سريرها بعد ليلة أنهكها التفكير وتحليل مجريات حياتها منذ البدء.. لكن هل تملك حقاً الإرادة على تغيير حياتها؟.. هل تقدر على أن تبدأ حملة تغيير شاملة تنطلق من أعماق نفسها الضعيفة؟.. ومع التفكير الطويل، فإن رنيم قد بدت لمن يراها كمن وقعت أسيرة لمرض شديد بالفعل..
وكان التعليق الذي قالته نوران فور دخول جناحها هو "يا إلهي.. إنك مريضة جداً.. كيف حدث ذلك؟"
غمغمت رنيم بكلمات مبهمة، بينما اقتربت نوران من سريرها ووضعت يدها على جبين رنيم قبل أن تقول "حرارتك طبيعية تقريباً، لكن وجهك شاحب بشدة.. ما الذي تشعرين به؟"
غمغمت رنيم مبتسمة "لا تقلقي.. هو مجرد إرهاق وتعب.. سيزولان بعد بعض الراحة.."
قالت نوران وهي تجلس جانباً "ألهذا السبب اختفيتِ من الاحتفال البارحة؟.. لقد أمضيت وقتي في البحث عنك دون فائدة.. ولم أهدأ حتى طمأنني مجد أنك في جناحك.."
قالت رنيم دون أن تواجه عينيها "لقد خرجت لاستنشاق بعض الهواء بعد شعوري بشيء من الضيق والدوار.. ولما لم أتمكن من العودة للاحتفال لتعب ألمّ بي، عدت لجناحي لأرتاح.."
ثم نظرت لنوران بشيء من التردد متسائلة "هل سأل عني الأمير زياد؟"
نظرت لها نوران بصمت، ثم نهضت وتقدمت من النافذة قائلة "هل تخشين من غضبه لاختفائك؟.. لا تقلقي.. لن يفعل.."
خفضت رنيم بصرها وهي مدركة أن نوران تقصد عدم اهتمام الأمير بها بتاتاً، لكنها صاغت جملتها بشكل أقل جرحاً لمشاعرها..
استدارت إليها نوران بابتسامة متسعة وهي تقول "عليك أن تنهضي من هذا الفراش.. أريد قضاء بعض الوقت معك قبل اضطراري للرحيل، وهو أمر لم أتوقع حدوثه بهذه السرعة.."
راقبت رنيم الابتسامة السعيدة على شفتي نوران رغم حديثها عن اضطرارها للرحيل، ثم غمغمت "تبدين في غاية السعادة.. ما الذي جرى؟"
دارت نوران حول نفسها بضحكة عالية، ثم قالت "ألا أبدو كذلك؟.. يمكن رؤية السعادة في ملامحي بوضوح.."
وإزاء نظرات الدهشة من رنيم، قالت نوران وهي تقترب منها وتقبض على يدها بشدة "وصلني خبر أسعدني الليلة الماضية.. زوجي، السلطان عمران، سيصل في وقت لاحق من هذا اليوم.."
رفعت رنيم حاجبيها بدهشة وابتسامة نوران تتسع بسعادة قائلة "لم أتوقع أن يكون قد لحق بي بهذه السرعة.. لم أره منذ شهر كامل فقد كان في رحلة هامة طارئة.. لكنه قطع تلك الرحلة فجأة ولحق بي.. قال في إحدى رسائله أنه اشتاق إليّ، لذلك سيصل للزهراء وسيبقى فيها بضع أيام في القصر الخاص به قبل أن يصطحبني معه في رحلته تلك.."
نظرت رنيم لملامح البهجة الواضحة في وجه نوران، والتي ظلت تثرثر لوقت طويل عن زوجها وعن شغفه بها بينما سرحت رنيم في أفكارها.. ثم قالت لنوران بشيء من التردد "ماذا عن مجد؟.."
تساءلت نوران باهتمام "ماذا عنه؟"
قالت رنيم بتردد أكبر "ظننت أنك تحبينه.. كيف تنازلتِ عن حبك له وحلمك بالزواج منه ورضيتِ بما خططه الملك لك؟.. كيف أمكنك أن تكوني سعيدة بحياة لم تختاريها لنفسك؟.."
كان ذلك السؤال ذاته الذي تطرحه رنيم دائماً على نفسها منذ قرر الملك قصيّ مصيرها دون الرجوع إليها.. وتمنت لو تمنحها نوران في تلك اللحظة جواباً شافياً لحيرتها تلك، فضحكت نوران للحظة ولوحت بيدها قائلة "لا أنكر أنني أحببته بشدة.. لكنه كان حب مراهقة.. كنت أشعر أنه عالمي كله، ولم أدرك أن العالم سيغدو أكثر بهجة لي بعد زواجي من عمران وتقربي منه.."
ثم أضافت وهي تقترب من النافذة "كنت مستاءة من زواجي الذي رتّبه أبي رغم إرادتي، وشعرت أنني سأدفن نفسي في حياة لا مشاعر فيها.. لكني لم أكن أعلم أن زوجي كان يحبني بالفعل قبل أن يتقدم لخطبتي.. ولم أكن أدرك أن مشاعري ستميل تجاهه بعد أن غمرني بحبه وعطفه الكبيرين.."
ثم استدارت إلى رنيم قائلة "الكل يعرف بأمر مشاعري التي كنت أحملها لمجد، حتى زوجي.. ورغم غيرته، إلا أنه يصدق أنها مشاعر طفولية انتهت منذ زمن طويل.."
ظلت رنيم تستمع لها بدهشة وشيء من الأمل.. أيمكن أن تشعر هي بشيء مماثل كالذي شعرت به نوران بعد زواجها الذي كان بترتيب من الملك رغم إرادتها؟.. أيمكن أن يتضح لها أن الأمير زياد ليس بالسوء الذي تتخيله عليه وأنها ستجده أفضل لو تعرفت عليه أكثر؟.. لكن لا.. بدا لها واضحاً أن الأمير زياد لا يمكن أن يحوي شخصية أعمق مما تراها عليه بالفعل.. هو لا يحب إلا نفسه ولا يعشق إلا ذاته.. مثل هؤلاء الأشخاص لا يحبون إلا من يخدمهم ويسعدهم.. ولو لم تتمكن من إسعاده فهي لن تنال إلا على احتقاره ومعاملته الدونيّة كما فعل منذ اللحظة الأولى التي وقعت عيناه عليها..
ثم إنها لطالما حلمت بزواج يبتعد بها عن القصور والأسوار وينطلق بها لعالم مجهول أكثر رحابة من هذا العالم الكئيب.. لم تفكر بالحب قط، لكنها أمِلَتْ أن يربطها الزواج برجل قوي يسبغ عليها حمايته ويحيطها بعطفه.. رجل يفك قيودها التي تغلّها لحياة كئيبة لا روح فيها.. رجل قلباً وقالباً لا كالأمير زياد الذي يشمئز من لطخة صغيرة لطخت حذاءه اللامع ويصبّ سخطه على الخدم لذلك دون رحمة..

*********************

في وقت لاحق من ذلك النهار، كانت رنيم لا تزال منطوية على نفسها في جناحها.. كانت تراقب عمل الخادمة الصامتة التي علمت أن اسمها كاينا، وتتذكر وصيفتها صفية التي اختفت من القصر بأمر من الملكة سليمة.. في هذا الوقت بالذات، افتقدت رنيم وصيفتها الثرثارة طيبة القلب.. ورغم أن كاينا طيبة ومسالمة كذلك، لكن صمتها كان يثير حفيظة رنيم بشكل كبير، خاصة مع بقائها وحيدة لساعات طوال لسبب أو لآخر.. بينما لا تتوانى صفية عن الاستماع إليها وتقديم النصح لها بما يخفف عن رنيم ما تشعر به.. ولكم تفتقد رنيم هذا بشدة الآن..
راقبت كاينا التي كانت تهيئ سريرها لتلك الليلة وتعتني بجناحها وبكل ما تحتاج إليه.. رغم ثورتها في البدء، إلا أن رنيم لا تنكر أن كاينا تخدمها بكل إخلاص وتفانٍ أدهشاها.. تذكرت أنها حملت تساؤلاتها عن هاته الخادمات اللواتي رأتهن في أرجاء القصر ممن يشابهون خادمتها الجديدة في الصفات الخارجية وفي اللكنة الغريبة، وذلك في الأيام الأولى لوجودها في القصر.. في ذلك الوقت، استنكرت رنيم رؤية هاته الخادمات اللواتي لا ينتمين للزهراء ولا يتحدثن العربية إلا بلكنة غريبة واضحة، ويمكن رؤيتهن يؤدين أعمالهن بصمت وسكون ودون أي تدخل في شؤون سكان القصر كما تفعل بقية الخادمات عادة.. وإزاء تساؤلاتها، أجابها مجد "إنهم من شعب يعيش في الجزء الشمالي من المملكة.. إنهم لا يتحدثون لغتنا ويخالفوننا في الكثير من العادات والتقاليد.. إنهم أشبه بالغجر الرحّل الذين جابوا أجزاء عديدة من القارة، لكنهم استقروا في ذلك الجزء الخالي من المملكة منذ عدة عقود.. ومنذ استقرارهم، والمناوشات بينهم وبين جنود المملكة تكاد لا تهدأ.."
تساءلت رنيم بدهشة "لماذا؟.. ما سبب هذا العداء بينكم وبينهم؟"
أجاب مجد "أسباب عديدة.. ربما كان الاختلاف بيننا في أسلوب الحياة والمعيشة هو السبب الأكبر، كما أنهم يرفضون الخضوع للملك بشكل كامل ويعتزّون بهويتهم وتفردهم عن البقية.. كما أنهم أقل تحضراً منا بمراحل، ولا يعرفون القراءة والكتابة.. لذلك يطلق عليهم شعب المملكة الرعاع.."
كانت رنيم تستمع بمزيج التعجب والشغف لتلك الحكاية، ثم تساءلت وهي ترمق إحدى تلك الخادمات التي سارت حاملة دورقاً من العصير الطازج بصمت ودون اهتمام بما حولها "لكن ما الداعي لاستخدام هؤلاء كخادمات في القصر؟.. رغم وجود كفاية من الخدم والخادمات من أهل (الزهراء).. كما أن الملكة حرصت على استبعاد وصيفتي وخدمي واستبدلتها بإحدى تلك الخادمات.. فما السبب؟"
قال مجد بضيق "مزيج من الاستعباد والتظاهر.. الملك أسر عدداً من فتيات الرعاع لا يقل عن عشرين فتاة وجلبهن للزهراء بعد انتصاره في إحدى المعارك عليهم.. حجته بذلك أن وجود الفتيات في العاصمة سيكسر شوكة الرعاع ويقطع أجنحتهم.. ولن يجرؤوا على التهجم على القوافل التجارية أو التناوش مع جنود المملكة خشية على الفتيات من أن يصيبهن مكروه جراء ذلك.."
شعرت رنيم بإشفاق على الفتيات لما مررن به وهي تحاول تخيّل ما جرى لهن، بينما أضاف مجد "وجدتها الملكة فرصة سانحة لاستبدال بعض الخادمات في القصر بخادمات من الشمال، مدّعية أنهن أفضل في الخدمة وأكثر طاعة.. لكن ما تريده حقاً هو أن تلمح الدهشة في أعين ضيوفها لدى رؤيتهم لهاته الفتيات الغريبات بملامحهن الغريبة ولكنتهن الأغرب.. هذا كل ما هنالك.."
تساءلت رنيم بإشفاق "ألم يحاول ذلك الشعب استعادة هؤلاء الفتيات؟.. لا يحق للملك استعبادهن دون سبب.."
علق مجد "ليس المهم اعتبار ما يحق للملك وما لا يحق.. المهم هو قدرة الملك على ذلك أم عدم قدرته، والملك لا يترك فرصة ليثبت لخصومه أنه قادر على أي شيء.."
لم تدرِ رنيم بمَ شعرت به كاينا منذ أن اختطفت من موطنها وأسرها غرباء قساة حرموها من عائلتها وأحبابها وعاملوها معاملة العبيد.. شعرت بإشفاق شديد تجاهها وهي تراقب عملها الصامت، مما دفعها لتسألها "كاينا.. لمَ لمْ تحاولي الهرب قط؟.."
اتسعت عينا كاينا بدهشة، إنما التزمت الصمت على هذا السؤال وهي مستمرة بعملها، فقالت رنيم بإلحاح أكبر "لماذا رضيتِ بهذه العبودية رغماً عنك؟.. ألا تملكين تقرير مصيرك بنفسك؟.."
غمغمت كاينا "وهل يمكنني هذا حقاً؟"
قالت رنيم "أنا متعجبة من هذا الاستسلام البادي عليكن لهذه العبودية المفروضة عليكن بحد السيف.. أنتن لستن جواري، فكيف يتم استعبادكن بهذه السهولة؟"
أدارت كاينا بصرها بعيداً وقالت "لسنا مستسلمين لهذه العبودية ولا نرضى بها.. لكننا لا نريد أن نغامر بالهرب ونحن في وسط المملكة فهذا الهروب لن يطول كثيراً.. وعقابنا سيكون قاسياً على يد الملك فهو لا يسامح من يعصي أي أمر منه أبداً.."
دمدمت رنيم "هذا ليس سبباً.. لو كنت مكانك، لما ترددت في الهرب في أقرب فرصة.."
ابتسمت كاينا ابتسامة جانبية مغمغمة "ربما.. من يدري ما تحمله لنا الأيام؟"
صمتت رنيم وهي تتطلع لملامح كاينا المسترخية وتفكر في حالها.. لم يبدُ على كاينا أنها تحمل همّ هذه العبودية التي تعيشها، ولم يبدُ عليها أنها بائسة أو متعجلة للهرب بأي شكل كان.. فما الذي تخفيه ملامحها الهادئة الصامتة يا ترى؟..
لو كانت رنيم في موقعها، لهربت منذ اليوم الأول، وهو ما كانت تود فعله منذ زمن بعيد.. كيف لشخص يمتلك حريته وحياته الطليقة أن يرضى بهذه العبودية ويستكين لها؟..

*********************

بعد عدة أيام من ذلك الاحتفال، وبعد رحيل نوران بيوم وخلوّ القصر ممن يمكن لرنيم أن تتحدث معه بكل بساطة ودون تكلف، فإن الملكة قد استدعت رنيم لمقابلتها دون أن تفصح عن السبب.. وبالطبع، فإن رنيم لم تملك التعليق على ذلك وهي تتوجه لمقابلتها محاولة رسم ابتسامة على شفتيها.. رغم محاولات رنيم المتكررة لفرض رأيها بشكل أو بآخر خلال اليومين الماضيين، فإنها تخضع لمن يفوقونها منصباً ومكانة بسرعة قبل أن تنطق حرفاً واحداً مما يدور في عقلها.. ويبدو أنها ستلجأ للاستسلام عما قريب وتتخلى عن تلك الفكرة من الأساس.. فهي لا تناسبها ولا تناسب شخصيتها الحقيقية بتاتاً..
قادتها إحدى الخادمات لموقع الملكة في إحدى شرفات القصر الواسعة، والتي رصفت برخام ثمين بلون أخضر تتخلله عروق بيضاء.. وفي جوانب الشرفة وضعت أصصٌ لعدد متنوع من شجيرات الورد الزاهرة ورائحة أزهارها تخلب الألباب.. ووسط الشرفة جلست الملكة على كرسي حديدي قرب طاولة بيضاء عليها صحاف مذهبة بعدد متنوع من الأطعمة الخفيفة وأكواب ماء ودورق شاي معطر ببتلات ورد..
انتاب رنيم توتر كبير لم تتمالكه وهي تقترب من موقع الملكة التي لم تستدر تجاهها ولو للحظة وكأنها تعرف هوية المتقدم منها تمام العلم.. فلا يجرؤ شخص على الاقتراب من الملكة دون استئذان ودون المرور بحاشيتها التي تحيط بها إحاطة السوار بالمعصم..
وقفت رنيم أمام الملكة وانحنت باحترام قائلة "سعدتِ صباحاً يا مولاتي.."
قالت الملكة بجفاف "كفّي عن هذا التمثيل واجلسي.."
ابتلعت رنيم ما كانت تريد قوله وهي تطيعها بصمت، بينما ظلت الملكة صامتة وهي تطرق بأصابعها على الطاولة القريبة دون أن تدعو رنيم لتناول شيء مما ازدحمت به الطاولة ولو من باب اللياقة.. ثم قالت "هل أنت سعيدة هنا؟.."
فوجئت رنيم بهذا السؤال الذي جهلت معناه، فقالت بابتسامة متوترة "طبعاً أنا سعيدة يا مولاتي.. هذه المدينة، وهذا القصر، فاقا أحلامي وتوقعاتي.. والعيش فيهما يحقق آمال أي فتاة في العالم.."
قطبت الملكة شيئاً ما معلقة "لم أسألك عن (الزهراء) وعن القصر، فهما مطمح أي امرأة أو رجل في هذا العالم بالفعل.. ما أسألك عنه هو هذا الزواج.. أأنت سعيدة به؟.. هل تودين إتمامه بالفعل؟"
حافظت رنيم على ابتسامتها بصعوبة وهي تتساءل "ولم لا يكون ذلك يا مولاتي؟.. أهناك من لا تطمح للزواج من الأمير زياد؟"
مالت الملكة نحوها قائلة "حتى لو عاملك الأمير زياد بتعالٍ وفوقية؟.. ألا تشعرين بالسوء لاضطرارك احتمال تصرفاته المتعجرفة هذه؟"
ما زالت رنيم حائرة من مناورات الملكة اللفظية.. ما الذي تهدف إليه هذه المرأة بالضبط؟.. وبعد أن بحثت عن رد مناسب لمثل ذلك القول غير المتوقع، قالت رنيم بتهذيب "يحق للأمير التعامل بهذه الطريقة فهو ولي عهد عرش أعظم مملكة في عالمنا هذا.. لو كان الأمراء الأقل شأناً منه يفخرون بما يملكونه، فكيف لا يفعل ذلك الأمير زياد وهو من هو؟"
يبدو أن ردها أثار استياء الملكة التي قالت بضيق "وهل أحضرتك هنا لتشرحي لي مميزات الأمير زياد؟"
ظلت رنيم تنظر لها بغير فهم، فقالت الملكة بتقطيبة "اسمعي يا فتاة.. لابد أنك لاحظت أن الأمير زياد غير راغب بك، ولا يريد إتمام هذا الزواج.. لا يمكن لفتاة ألا تلحظ هذا من كلماته وتعليقاته.. لذلك أريد منك أمراً واحداً.."
ومالت نحو رنيم قائلة "أريدك أن تعلني رفضك لهذا الزواج.. اطلبي مقابلة الملك، وعندما تمثُلين أمامه أعلني عن عدم رضاك الارتباط بالأمير ورغبتك العودة لمملكة أبيك.."
رفعت رنيم عينيها بدهشة وصدمة، ثم قالت باضطراب "ولمَ لا يرفض الأمير هذا الزواج؟.. لابد أن كلمته مقبولة أكثر مني في هذا الشأن.."
قالت الملكة بحدة "الأمير لن يفعل ذلك.. فافعلي ما يطلب منك.. أستطيع أن أرى على وجهك الكئيب هذا أنك غير مسرورة ببقائك في القصر.. فلا تتعسي نفسك بهذا الأمر وأعلني رفضك بكل صراحة.."
خفضت رنيم رأسها مفكرة للحظة.. بدا لها واضحاً أن الملكة تخشى من رفض هذا الزواج أمام الملك، ويبدو أن الأمير زياد يخشى ذلك أيضاً.. فقد بدا لها بوضوح إصرار الملك على تزويج الأمير منها كما سمعت في اللقاء الوحيد الذي كان لها معه.. ألهذا تريد الملكة أن يأتي الرفض منها هي؟..
لم ترفع رنيم بصرها وهي تقول بصوت مرتبك "اعذريني يا مولاتي.. هذا أمر مستحيل بالنسبة لي.."
قطبت الملكة بشدة وهي تقول محتدة "ماذا تعنين؟"
التقطت رنيم نفساً قوياً لتشد عزمها، ثم قالت وهي تفرك يديها بشدة "لا أستطيع رفض الزواج من الأمير والعودة لقصر أبي.. هذا سيجلب عليّ نقمة الجميع، وستتضرر مصالح مملكة بني غياث بهذا كثيراً.."
ظلت الملكة تحدج رنيم بغضب.. كان رفضها فجائياً ولم يدر بخلد الملكة قط وهي تستدعيها لهذا اللقاء سابقاً.. كانت تظن أن رنيم ستذعن للأمر كعادتها منذ قدومها للقصر، فهي لا تملك الإرادة الكافية لمواجهة الملكة، كما أن عرضاً كهذا كفيل بإراحة رنيم التي بدت كارهة لوجودها في هذا القصر منذ البدء.. لكن ما لا تعلمه الملكة أن رنيم تخشى عودتها لقصر أبيها بشدة.. تخشى ما سيعلق به أبواها على هذا الأمر، وتخشى من نقمة المملكة عليها بعد أن ينقطع الخيط الذي كان سيُعقد بين المملكتين ولمدة طويلة..
انتبهت رنيم في تلك اللحظة لخطوات تقترب من طاولة الملكة دون استئذان كما يحدث عادة، ثم تعالى صوت الأمير زياد وهو يقول بعجرفة معتادة "ما الذي تفعلينه هنا؟"
انتبهت رنيم أنه يعنيها بهذا التساؤل.. وبينما لم تعلق الملكة على حديثه الخالي من اللياقة، فإن رنيم نهضت وأحنت رأسها له قائلة بصوت مبحوح "مولاتي الملكة قد استدعتني للحديث......"
قاطعها الأمير بنفاذ صبر وهو يجلس في كرسيها ملوحاً بيده "ارحلي من هنا.. أريد الحديث مع الملكة منفرداً.."
لم تملك رنيم الاعتراض وهي تنحني لهما من جديد وتستدير مغادرة بهدوء.. كانت تشعر براحة لانقطاع حديثها مع الملكة، لكن تصرف الأمير الذي تلى حديث الملكة القاسي كان كلطمة موجهة لوجهها جعلت قلبها يغوص في جوفها.. لكنها لم تظهر هذا وهي تخرج من الشرفة بصمت..
بعد مغادرة رنيم، وكاينا تتبعها كالمعتاد بصمت، انتبهت الأخيرة لتأفف الأمير زياد وهو يجلس جوار أمه قائلاً بحنق "متى سأتخلص من هذه التافهة؟"
لا تدري كاينا لمَ شعرت بالقلق لقوله، رغم أنها متأكدة أنه لم يحاول إخفاء تأففه وضيقه عن رنيم.. لكنها تحركت على الفور وطلبت من رنيم الممتقعة أن تمنحها مهلة صغيرة لأداء عمل مهم.. ثم هرعت تعبر ذلك الرواق وخرجت من أحد الأبواب الزجاجية التي تفضي للحديقة ومنها عبر سلالم حجرية يقف على جانبيها تمثالان لفتاتين تحملان جرتين.. وخلف أحد التمثالين، فإن كاينا انزوت وهي متأكدة أن موقعها يقع تحت تلك الشرفة العالية التي جلست فيها الملكة الأم.. تظاهرت كاينا بأنها تعالج حذاءها وهي تنصت بكل حواسها مدركة أن من في الشرفة لا يمكنهم لمحها.. لكن لا يزال خطر رؤيتها من جوانب أخرى من الحديقة قائماً..
في تلك اللحظة سمعت صوت الأمير زياد يقول "حتى متى؟.. لقد طلبتِ مني الصبر مدة طويلة.. لكني سئمت ذلك.. لماذا يفرض عليّ الملك الزواج من بلهاء تسكن قرية لا أهمية لها حتى لو كان والدها ملكاً؟.. هذه سخافة.."
أتاها صوت الملكة الأم وهي تقول بصرامة "أخبرتك أن تتعامل معها بشكل ينفّرها منك، لكن جهودك كانت بلا طائل فها هي ترفض الانصياع لطلبي.. الآن علينا البحث عن وسيلة جديدة أكثر فائدة.."
قال الأمير زياد باشمئزاز "أنا لم أعُد أطيق النظر لوجهها.. سأبلغ أبي رفضي لهذا الزواج جملة وتفصيلاً.. أنا رجل، ولن يمكنه أبداً أن يجبرني......."
ضربت الملكة مقبض الكرسي بقوة وهي تقول "بل سيفعل.. سيجبرك على الزواج منها فهو لن يكسر وعده أمام ملك بني غياث.. لذلك من الخير لنا العثور على وسيلة ملائمة للتخلص منها دون أن نقع في عواقب لا نريدها.."
قال الأمير زياد باهتمام "ما رأيك بأن ندسّ من يقتلها؟.. سنخرج بها من القصر وهناك سنرسل من يتخلص منها.. ثم ندّعي أن اللصوص قد قتلوها بغية الحصول على ما ترتديه من جواهر.."
قالت الملكة بضيق "ما هذه الخطة التافهة؟.. أنسيت وجود مجد؟.. لن يسمح لها بمغادرة القصر دون حراسة مشددة.. ثم إن موضوع اللصوص هذا لا يصل لحد القتل في (الزهراء).. مدينتنا من أأمن المدن في جميع الممالك.. كيف تتوقع من الملك أن يصدق كذبة رخيصة كهذه دون أن يشك بالأمر؟.."
قال الأمير زياد باعتراض "لكني أراها مقنعة.. لمَ لا نحاول تنفيذها؟.. دعي أمر مجد عليّ.. يمكنني شغله بأفضل الطرق.."
صمتت الملكة للحظات، ثم قالت بابتسامة جانبية "لا.. لازلت مقتنعة بتفاهة خطتك.. لكن جانب الشخص المدسوس عليها قد أعجبني.. لكن يمكنني استخدامه بوسيلة أفضل وأكثر فاعلية.."
نظر لها الأمير زياد بغير فهم، فمالت نحوه قائلة باهتمام "استمع لما أقوله جيداً.. وتأكد أنك لن تفشي سرّ ما سأفعله لأي شخص، حتى للجارية التي تقضي الساعات برفقتها كل ليلة.."
مال الأمير زياد تجاهها باهتمام شديد، بينما تلاعبت ابتسامة خبيثة على شفتي الملكة الأم وهي تضيف "خطة بسيطة هي، لكنها لن تفشل بالتأكيد.."
قطبت كاينا باهتمام بالغ وهي تقبض على يديها بشدة.. ومع كل كلمة تتفوه بها الملكة، فإن كاينا تتأكد لحظة بعد لحظة أن إحساس البغض الذي شعرت به منذ رؤيتها للملكة لم يكن خائباً أبداً..

*********************

سارت كاينا بخطوات سريعة عبر الرواق الذي يؤدي لجناح رنيم وهي تفكر بشكل محموم.. ما سمعته خطير جداً، وله عواقب وخيمة بالنسبة لرنيم.. لذلك لم تقدر على البقاء صامتة وتتعامل مع الأمر بحيادية.. هي عادة لا تتدخل في أي أمر، ولا تهتم لأمر أي شخص في هذا القصر ما عدا ما يخصّ الخادمات الأخريات من ذوات جنسها.. لكن لا تستطيع تجاهل ما يخططه هذان الإثنان لرنيم.. تلك الفتاة التي تجدها على شيء من الطيبة بشكل لم تشهده من قبل في القصر، قد أذابت حواجز كثيرة بينها وبين كاينا منذ عملها معها رغم قِصَر تلك المدة.. لأول مرة تجد كاينا من يتعامل معها كإنسان، وكفتاة، لا كمجرد خادمة لا أهمية لها ويمكن استبدالها في أي لحظة.. ربما لهذا السبب استاءت كاينا لما سمعته.. لهذا السبب ركضت عائدة للجناح لتنذر رنيم مما يحاك ضدها بكل دناءة من أشخاص لا تنقصهم الأموال ولا المناصب ولا الهيبة.. أشخاص استكثروا على الفتاة أن تعيش حياتها بصمت وسكينة.. وفور اقتحامها للجناح، وجدت رنيم تجلس في جانب المكان دون أن تستبدل ملابسها وهي منطوية على نفسها تحدق من النافذة بصمت.. انتابت كاينا شفقة على هذه الفتاة المسالمة والتي ترى في عينيها براءة وطيبة قد يجدها الآخرون سلبية وضعفاً..
التفتت رنيم عندما انتبهت لدخول كاينا، وقالت "هل أنهيتِ ما ذهبت لإنجازه؟"
اندفعت كاينا إليها بعد أن تأكدت من إغلاق باب الجناح، وقالت بصوت متعجل "بل كشفت أمراً حرصت الملكة الأم على إخفائه عن الآخرين.. لذلك جئت لتحذيرك قبل أن يتم تنفيذ ما خططت له الملكة مع الأمير زياد.."
واندفعت تغلق النافذة خشية وجود متلصص أسفلها، بينما نهضت رنيم واقتربت منها قائلة بحيرة "لا أفهم ما ترمين إليه يا كاينا.. ما الذي جرى في اللحظات التي غبتِ فيها عني؟"
قالت كاينا باندفاع "لقد شككت أن الأمير زياد يريد التحدث مع الملكة الأم لشأن يخصّك، وتوجست من ذلك الحديث خيفة.. لذلك اختبأت في موقع قريب وتنصّت على حديثهما.."
رفعت رنيم حاجبيها معلقة "هذا سوء تصرف يا كاينا.. لمَ تلجأ الخادمات للتنصت دائماً؟"
قالت كاينا منفعلة "أهذا ما يهم الآن؟.. ألا يهمك أن تعرفي ما تحدث فيه الإثنان بما يخصك؟"
أدارت رنيم وجهها جانباً للحظات، ثم قالت بتوتر "لا.. لا أريد معرفة ذلك، فهو لن يسرّني بحال.."
واستدارت مبتعدة، لكن كاينا أمسكت ذراعها لتوقفها قائلة "تجاهل الأمر لن يمنعه من الحدوث يا مولاتي.. الأمير زياد يخطط مع الملكة للتخلص منك.."
نظرت لها رنيم بشيء من الصدمة، ثم قالت بغير تصديق "ربما أسأتِ فهم حديثهما.."
قالت كاينا بعصبية "لا.. لقد تباحثا في أفضل الخطط للتخلص منك دون أن ينالهما غضب الملك.. سيلصقان بك تهمة تجعل الملك يطردك من قصره ويعيدك لأبيك دون أن يتمّ هذا الزواج.."
اتسعت عينا رنيم وهي تهمس بصدمة "ماذا تقولين؟"
قالت كاينا وهي تقبض على ذراعي رنيم وتشدّ عليهما "سيحاولان دسّ أحد الحراس الشباب في جناحك بعد أن يغرياه بالكثير من العطايا المجزية.. فإن لم يتمكن من إغوائك فلن يتردد في الاعتداء عليك بالقوة.. وعندها سيكشفان كونك غير عذراء للملك، وسيدّعيان وجود عشيق لك من بين الحراس في القصر.. وحتى لو اتهمتِ الحارس بما فعله فهو بعد أن ينجز مهمته سيُطرد من القصر ومن العاصمة بأكملها، ولن يمكنك إثبات أن ما حدث لم يكن برضاك.. عندها لن يجد الملك بداً من إعادتك لمملكة بني غياث بعد أن تتناقل الألسن ما سيحدث لك وتصبح فضيحة في أرجاء القصر والعاصمة بأكملها، وهو ما ستتأكد الملكة من حدوثه بأكبر صدىً ممكن.."
شحبت رنيم بشدة وهي تستمع لما يقال.. غلبتها نفضة شديدة والخادمة تقول بانفعال "عليك أن تفعلي شيئاً قبل أن يحدث ذلك.. غادري القصر قبل أن ينفذوا مخططهم القذر هذا، فلو لجأتِ للملك طالبة عونه لن يتردد الإثنان في تنفيذ خطة أخرى لا نعلم عنها شيئاً.."
تهاوت رنيم على كرسي جانبي في جناحها، وبدت مع شحوبها الشديد كأن الحياة قد فارقتها بالفعل.. فاقتربت كاينا منها قائلة بإلحاح "يجب أن نفعل هذا فور مغيب شمس هذه الليلة.. يمكنني تدبير كل الأمور لوحدي.. سأعثر على وسيلة لإخراجك من هذه المدينة وسأوفر بعض الحراس لحمايتك.. عليك فقط أن تجزلي لهم العطاء عند وصولك إلى........"
قاطعتها رنيم بيأس وصوت مرتجف "إلى أين؟.. أين سأذهب بالله عليك؟"
نظرت لها كاينا بدهشة، ثم قالت "ستعودين إلى قصر أبيك.. أليس هذا بديهياً؟"
أطلقت رنيم ضحكة مبتورة قبل أن تقول بعينين زائغتين "أبي سيقتلني بنفسه لو عدت إليه خائبة الوفاض ودون زوج.. هدفي من وجودي في الحياة هو في الزواج من ولي عهد مملكة بني فارس.. ولو لم يحدث ذلك، فأنا لا جدوى لي.. وموتي أفضل بالنسبة له من عودتي لقصره وتحمّل خذلاني له بهذه الطريقة المخزية.."
ثم وضعت رأسها على راحتي يديها هامسة بصوت يرتجف "أنا ضائعة تماماً.. فإلى أين أذهب؟"
ركعت كاينا قربها وهزتها قائلة "أليس لك أي رأي فيما يجري لك؟.. ألا تقدرين على مواجهة أبيك وإخباره بما انتوى الأمير زياد وأمه فعله بك؟.. قد يتفهم.. لا يمكن للملك أن يقبل بهذا على ابنته.."
غمغمت رنيم بمرارة "أنت متعاطفة معي أكثر مما قد يفعل أبي في حياته كلها.. عودتي لقصر أبي هو حكم عليّ بالموت.."
قالت كاينا بغير تصديق "هذه مبالغة.."
لم تعلق رنيم ودمعة تسيل من عينها وتسقط على ثوبها وهي تحدق بالنقوش الزاهية في السجادة تحت قدميها.. لقد وصلت لنقطة مسدودة ولم تعد قادرة على معرفة ما يمكنها فعله.. لطالما عاشت حياتها مسيّرة كما يشاء والدها الملك أو كما تحبّ أمها الملكة الثانية.. بل إن الملكة الأولى كان لها يد أيضاً في تسيير حياتها واتخاذ قراراتها عنها بينما لم تملك رنيم سوى الإذعان وتنفيذ خيارات لم تتخذها ولا تناسبها لكنها لم تعترض بكلمة يوماً.. وحتى إن اعترضت فإن الآخرين كانوا لا يأبهون لاعتراضها.. لذلك كان جلّ ما تملكه هو الهرب بخيالها.. لم تكن تهرب فقط من كآبة القصر وجدرانه الصماء.. بل كانت تهرب من ضعفها ومن خنوعها المخجلين.. تهرب لتحلم بأنها أكثر قوة وشجاعة مما هي بالفعل.. تحلم بأن تكون ذات شخصية جميلة تجذب الآخرين وتبهرهم.. أن تكون كصبيحة، الزوجة الثانية للملك قصيّ الأول جدها الأكبر، وهي امرأة عُرفت بقوتها وحكمتها وطيبتها الشديدة.. كانت فارسة لا يشق لها غبار في تلك الأوقات المضطربة التي صاحبت إنشاء مملكة بني غياث، وفي الآن ذاته كانت أماً رؤوماً اعتنت بصبي وفتاة يتيمين ليسا من صلبها بعد أن أدركت أنها لا تنجب.. لقد اشتهرت سيرتها واهتم كثير من الكتاب والمؤرخين بتدوينها مازجينها أحياناً ببعض المبالغات والخرافات التي تزيد حكايتها جمالاً وإبهاراً في عيني رنيم.. ولا تزال اللوحة التي تحمل صورتها، بدرع لامع فضي حاملة علم المملكة مرفرفاً وشعرها الأشقر يتطاير في الهواء، لا تزال تلك اللوحة معلقة في أهم قاعات قصر أبيها جوار لوحات تخص ملوك المملكة السابقين.. لكن للأسف، فإن رنيم لم تستطع أن تكون مثلها ولا تستطيع المحاولة حتى.. كل ما كانت تأمله أن تمضي حياتها دون أن تضطر للصدام مع أشخاص يفوقونها قوة وإصراراً.. وهو ما يكاد يحدث الآن في قصر الملك عبّاد..
تساقطت الدموع من عيني رنيم متتابعة وكاينا تقول "عليك اتخاذ القرار.. هل ستبقين في هذا القصر وتنتظرين غدر الأمير زياد؟.. أتظنين أن حالك سيكون أفضل بعد أن يلصق الأمير تهمته عليك وتعودين مكللة بالعار لقصر أبيك؟.. كوني قوية واتخذي قرارك بنفسك.."
لكن هذا مستحيل.. هكذا رددت رنيم لنفسها وهي تنهض متعثرة وتسير لسريرها العريض فترمي نفسها عليه وتدفن وجهها في وسائده بصمت.. من المحال أن تتخذ رنيم خطوة كبيرة كهذه.. من المحال أن تجد الشجاعة للهرب ومواجهة أبيها حتى لو كانت مظلومة.. دفنت وجهها في وسادة ناعمة الملمس، ورغم الرائحة العطرة التي تضوع من سريرها عادة، إلا أنها شعرت بغثيان شديد من كل ما تراه وتشمّه في هذا القصر.. أغمضت عينيها محاولة الهرب من واقعها الذي لطمها بشدة.. وشعرت بجدران القصر تكاد تطبق عليها، ولم يكن لها مهرب من هذه الكآبة التي حلّقت فوق رأسها..
شعرت بكاينا تقف قرب سريرها متنهدة بضيق لهذا الخنوع الذي أبدته رنيم، ثم دمدمت "ربما تنقلب حياتك رأساً على عقب هذه الليلة.. لنأمل أن تملكي الإرادة لاتخاذ التصرف الصحيح عندها.."
وغادرت بصمت مغلقة باب الجناح خلفها.. ورغم أن جملة كاينا كانت غامضة وأشعلت عدة تساؤلات في نفس رنيم، إلا أن صدمتها لما يخطط لها كانت حاضرة بقوة ومهيمنة عليها وهي تسلك السبيل الوحيد لتنسى هذه الصدمة.. ومهربها الوحيد كان في استغراقها في أحلام اليقظة وتناسي واقعها المؤلم الذي يزداد كآبة مع كل يوم يمضي..

*********************

 
 

 

عرض البوم صور عالم خيال   رد مع اقتباس
قديم 15-12-15, 08:57 AM   المشاركة رقم: 22
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Dec 2015
العضوية: 307841
المشاركات: 179
الجنس أنثى
معدل التقييم: عالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 460

االدولة
البلدAland Islands
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عالم خيال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: على جناح تنين..

 

الفصل الخامس: مجرد أحلام


عمّ الظلام شبه الدامس تلك الليلة على القصر المنيف الذي يتجاوز حجمه حجم قرية صغيرة من القرى الفقيرة في المملكة.. ورغم مضيّ ساعات تلك الليلة وخلود أغلب سكانه للنوم، فإن بضع مواقع فيه ظلت ساهرة لشأن أو لآخر.. مثل تلك القاعة التي اجتمع فيها الأمير زياد مع نخبة من أصدقائه لا يقلّون عنه خبثاً وصفاقة، ودارت بينهم الكؤوس في جلسة ستطول عدة ساعات قبل أن يغرق بعضهم في النوم في مكانه بينما يغادر الأمير زياد لجناحه برفقة أحد الخدم وهو يترنح ويضحك لأقل كلمة.. وفي جانب آخر فإن الملك ظل ساهراً بدوره برفقة بعض وزرائه يتناقشون أمر الهجمات التي طالت قوافل تجارية خرجت من (الزهراء) نحو أحد الجوانب القصيّة من المملكة.. ومغزى مثل تلك الهجمات المتكررة في طريق اشتهر بأنه آمنٌ يسلكه التجار كل عام لتسويق بضائعهم..
في تلك الليلة، لم تكن رنيم قد غادرت سريرها سوى بعد المغيب لاستبدال ملابسها ولتناول بعض الطعام بعد أن أجبرتها كاينا على ذلك.. فمنذ صدمتها لما يخططه الأمير زياد لها، وهي محبطة ومكتئبة بحيث لا تملك الإرادة للجلوس ناهيك عن الخروج من جناحها أو مقابلة أي شخص من القصر.. وبالطبع لم يعبأ شخص لأمرها بعد رحيل نوران وهي الوحيدة التي أبدت اهتماماً صادقاً تجاهها، ومع انشغال مجد وعدم تمكنه من الاقتراب من جناحها لئلا يثير تصرفه الأقاويل في شأنها وشأنه..
ظلت رنيم منطوية على نفسها في سريرها وهي تجبر عقلها على أن يتوه في عوالم أخرى بعيدة عن القصر وعن (الزهراء) وعن المملكة كلها.. بعد أن فقدت كتبها، فإنها فقدت وسيلتها الوحيدة للهرب من الخيبات التي تحاصرها.. لذلك لجأت لخيالها الذي اتسع وتمدد مع الحكايات والكتب التي أدمنت قراءتها لسنوات طوال.. سرحت في عالم تكون فيه طليقة.. وربما تكون كإحدى تلك الكائنات ذوات الأجنحة تحلق في السماء بكل حرية دون أن يقيدها شيء للتراب.. استرسلت في خيالها حتى غرقت في النوم بالفعل ليتمدد خيالها في حلم طويل وجدت نفسها فيه..
كانت في الحلم كائناً يغزو الريش اللامع الأخضر جسده، بذيل طويل جميل وجناحان يلتمع ريشهما تحت ضوء الشمس.. كانت تحلق بكل سلاسة ونعومة، وترى (الزهراء) من تحتها كأنها رقعة صغيرة لا تتجاوز متراً واحداً ولا تكاد تلمح بشرياً من سكانها لعلوّها في السماء.. أدارت رنيم بصرها عن الأرض التي باتت تمقتها وحوّلت بصرها للغيوم التي تعلو رأسها وهي تحاول جاهدة الارتفاع فوقها.. رفرفت بجناحيها بقوة ودفعت نفسها حتى اخترقت جانباً من الغيوم وارتفعت فوقها لتبدو لها الشمس الوليدة في الأفق أشد لمعاناً من أي وقت مضى..
اتسعت ابتسامة رنيم كما لم تفعل من قبل، ولم تلبث أن تحولت إلى ضحكة عالية مليئة بسعادة لم تذقها منذ زمن.. رغم أنها مدركة أن هذا لا يعدو كونه حلماً، لكنه كان أجمل من أن تتمنى انتهاءه.. تمنت لو سجنت نفسها في هذا الحلم للأبد ولم تعُدْ لواقعها القاسي.. فليس في حياتها ما يدعوها للتلهف عليه أو البكاء على فقدانه..
قطعت ضحكتها عندما لمحت ظلاً أسود يعلوها.. وعندما رفعت رأسها بدهشة فوجئت بذلك النسر الضخم الذي انقض عليها بقوة.. تلقائياً، رفرفت رنيم بجناحيها جزعة وهي تدير نفسها جانباً محاولة الهرب دون أن تدرك السبب.. من أين ظهر هذا النسر الضخم بشكل المرعب؟.. أهو ينوي اصطيادها؟.. لكنها وجدت مخالبه الحادة تنغرس في كتفيها قبل أن تتمكن من الهرب وهو يجثم بثقله عليها، ومع ثقله، بدأت رنيم تهوي بقوة من ذلك الارتفاع والأرض تقترب منها بسرعة شديدة.. أطلقت صيحة فزع والمدينة في الأسفل تتقارب منها بسرعة وشدة حتى بدت لها المنازل والأبراج واضحة أشد الوضوح.. ورغم محاولاتها، لم تتمكن من الإفلات من النسر الذي زاد من ثقله عليها وكأنه يدفعها عامداً للأسفل.. وكأنه ينتوي إجبارها على السقوط والارتطام بالأرض بأعنف ما يمكن.. ورغم صرخاتها، إلا أن رنيم أدركت أن نهايتها قادمة لا محالة..
وقبل أن تلامس الأرض، استيقظت جزعة وقلبها يدق بقوة.. واستغرق الأمر منها بضع لحظات لتدرك أنها لا تزال في جناحها المظلم في القصر.. فهمست لنفسها وهي تتأمل الظلام الدامس من حولها "يا له من حلم مقبض.. ما الذي يعنيه يا ترى؟.."
مسحت قطرات عرق احتشدت على جبينها عندما سمعت صوتاً خافتاً قرب سريرها.. رفعت بصرها بشيء من الدهشة بعد أن اعتادت عيناها على الظلام لترى خيالاً أسود طويلاً يقف وسط الجناح عند قدم سريرها.. لوهلة ظنت أنها لا تزال غارقة في ذلك الحلم الكئيب، لكن حركة حادة من ذلك الظل نحوها وهو يدفع يده تجاهها بشيء ما جعلتها تتراجع بحدة حتى ارتطم رأسها بالإطار الخشبي المذهب للسرير بأطرافه البارزة الحادة.. ومع الألم الذي نبض من مؤخرة رأسها، ومع التماعة ذلك السيف العريض الذي وجّهه الظل ناحيتها وكاد يلامس طرف أنفها، فإن رنيم انتبهت من نومها بشكل كامل وندت عنها صرخة حادة عالية حملت رعباً عارماً في ثناياها.. ومع صراخها، كان من المفترض أن تقضّ مضجع القصر الساكن في عتمة تلك الليلة.. لكن ذلك لم يحدث البتة ولم يبدُ أن أحداً سيهبّ لنجدتها، بينما بدرت من الظل الطويل كلمات حانقة بصوت عميق أثار فزعها أكثر قبل أن يمد يده ويزيح الستار الذي يحجب نور القمر الباهت عن المكان.. ومع النور الخفيف الذي أضاء أرجاء المكان، فإن ارتجافة رنيم قد تحولت نفضة عارمة وهي ترى بوضوح هوية ذلك الظل، وتتبين فيه رجلاً لم تره من قبل في القصر.. ثم سمعته يقول بصوت خشن ولكنة ثقيلة زادتها رعباً "أين جايا؟.."
رفعت بصرها له برعب بالعة ريقها بصعوبة.. كان الظل لرجل طويل عريض الكتفين بجسد ممشوق ووجه لوّحته الشمس بشدة.. ملامحه جافة وعيناه حادتان زادتاها رعباً وحاجباه المنخفضان ألقيا ظلالهما على عينيه السوداوين بحيث بدت نظراته مبهمة غامضة.. بوجهه غير حليق بينما أرسل شعره الأسود الطويل في ظفيرة على ظهره.. وثيابه هي مزيج من قماش قطني بلون داكن وسترة جلدية وحذائين من جلد مدبوغ بلون بني يصل لأعلى ساقيه وقد لفّ فوقهما شرائط من قماش سميك ثبتهما على قدميه بإحكام..
عاد الرجل يكرر السؤال على رنيم التي لم تتمالك ذهولها من هذا الهجوم على جناحها الواقع وسط القصر بغفلة من حراسه، ولما لم يجد إجابة لتساؤله عاد يلوح بسيفه العريض نحوها صائحاً بشيء من الحدة "أين جايا؟.. أجيبي.."
انتفضت رنيم واقفة بذعر وهزت رأسها بشدة دلالة عدم المعرفة أو عدم الفهم.. هل يبحث عن شخص ما أم عن شيء ما يسمى جايا؟..
في تلك اللحظة سمعت كلمات بصوت متوتر صدرت من باب جناحها، ثم رأت كاينا خادمتها الوفية وهي تهرع نحو الرجل وتجادله بشيء من العصبية.. ظلت رنيم تراقبها بذهول وعدم استيعاب.. مع هيئة ذلك الرجل الغريبة والمرعبة، ومع وجوده الأشد غرابة في هذا الوقت وهذا المكان، فإن خادمتها لم تظهر دهشة للأمر ولا خوفاً من ذلك الغريب، بالإضافة لتحدثهما بلغة واحدة لم تفقه رنيم منها حرفاً..
لاحظت أن الرجل ألقى عليها بنظرة حانقة بينما استمرت كاينا تحدثه بعصبية.. لكنه ألقى عدة كلمات حازمة عليها قبل أن يجذب رنيم من ذراعها بشدة متجهاً لباب جناحها.. جذبت رنيم ذراعها بقوة وهي تهتف برعب "أطلقني.."
حدجها الرجل بنظرة سبّبت لها نفضة قوية وشدد قبضته على ذراعها قائلاً بحنق "اصمتي.."
عاد يجذبها خلفه من جديد دون أن تُجدي مقاومتها المستمرة في منعه من ذلك، بينما سارعت كاينا تتبعها قائلة "لا تقلقي.. إنه لا ينوي لك شراً.."
التفتت إليها رنيم قائلة بنبرة مرتعبة "أتعرفين هذا المتهجم؟.. كيف دخل القصر وسط الحراسة المشددة؟.."
لم تكد تتم جملتها عند مغادرتهم جناحها حتى رأت في الرواق الواسع ما سبب لها صدمة شديدة.. فعلى ضوء المصابيح المتناثرة بشكل مدروس في الرواق القريب، رأت رنيم عدداً من الأجساد الملقاة أرضاً والدماء التي لطخت الجدران والأرضية دليل واضح لما جرى بغفلة منها.. غطت رنيم فمها بيد وهي تهمس "هل قتلتهم جميعاً؟.."
أسرعت كاينا تقول "ليسوا موتى.. فلا تقلقي.. أغلبهم نجا من الموت بأعجوبة.."
انتبهت في تلك اللحظة للأنين الصادر من بعض تلك الأجساد، وبدا لها أن إصاباتهم لا تبدو قاتلة، لكنها كافية لتعطيلهم.. زادت رنيم من مقاومتها لمختطفها على أمل أن يهبّ أحد الحراس لنجدتها، وصاحت بصوتٍ عالٍ وهي تجذب ذراعها "أنقذوني.. ليساعدني أحدكم.."
لكن من رأته يقترب من مختطفها من الجهة الأخرى للرواق لم يكن حارساً جلّ همه إنقاذها، بل رجلان لا يختلفان كثيراً عن مختطفها في الشكل والزي والسيف العريض الذي يخلو من أي زينة أو غمد.. قلّبت رنيم بصرها فيمن حولها بصدمة وهي تسمع الحوار الذي دار بين الثلاثة، وقد بدأت تدرك أبعاد ما جرى في القصر في غفلة من الجميع.. لم يكن ذلك تسللٌ قام به رجل واحد، بل هجوم قامت به جماعة لا تعلم رنيم عدد أفرادها.. جماعة نجحت في التغلب على تحصينات القصر وأسواره بوسيلة ما وتخلصت ممن يواجهها من الحراس والآن قد تمكنت من القبض عليها لسبب لا تفهمه..
التفتت رنيم إلى كاينا القريبة قائلة بصدمة وغضب "أأنت سبب كل هذا؟.. هل سهّلت لهؤلاء المتوحشين التسلل للقصر والتنكيل بمن فيه بكل حقارة؟.."
رفعت كاينا رأسها قائلة "لست أنا الحقيرة وأنا التي اختُطفت وأُجبرت على الخضوع لأصحاب هذا القصر بكل ذِلّة.."
قالت رنيم بنظرات قلقة "وهؤلاء؟.. أهم من الرعاع أيضاً؟.."
رمقها الرجال الثلاثة بشيء من الحدة بينما قالت كاينا بحزم "أنتم من أطلق علينا هذا اللقب.. لكننا لسنا رعاع.. نحن الهوت ونفخر بذلك.."
استدار الرجل الأول إليها مشدداً قبضته عليها وقال بحدة "كفى جدالاً.. لن أطلقك حتى أعرف ما فعلتموه بجايا.. أين هي؟.."
قالت رنيم بقلق "لكني لا أعلم من هي جايا ولا أين هي.. أطلقني أرجوك فلا شأن لي بأي شيء.."
سارعت كاينا تقول "هي بالفعل لا تعلم شيئاً.. لقد جاءت للقصر منذ وقت قصير ولا تدري بأي شيء جرى فيه سابقاً.."
صاح الرجل بكاينا بغلظة "كيف لا تعلمين أنتِ من أمر جايا شيئاً؟.. ما الذي كنت تفعلينه في الأشهر الماضية؟.."
قالت كاينا بتوتر "لقد فقدتُ أثرها منذ أيامٍ عدة.. وحريّ بسؤالي عنها أن يجذب الأنظار إليّ.. لكني لم أتوانَ عن البحث عنها بكل ما أملك دون أن أكشف من أمرنا شيئاً.."
وإزاء نظرات الرجل الحادة أضافت بسرعة "كل ما يمكنني تأكيده أن آخر من خدمته كان الأمير زياد.."
غمغم الرجل بحنق "زياد؟.. ذلك الوغد.. لن يفلت من يدي مهما اختبأ أو هرب.."
نقلت رنيم بصرها بينهم ثم قالت بتوسل "ها أنت تدرك ألا علاقة لي بهذا الأمر.. فأطلقني أرجوك.."
قبل أن يجيبها الرجل سمعا صياحاً من رجل آخر بتلك اللغة الخاصة بالهوت توتر لها الرجال جميعاً.. وصاحب ذلك صوت بعض البنادق يندلع في أرجاء أخرى من القصر.. وسرعان ما بدأ الرجال يتراجعون رغم الحنق على وجوههم، وبالمثل تبعتهم كاينا دون تردد.. عندها وجدتها رنيم فرصة للهرب من قبضة ذلك الرجل الذي انشغل عنها للحظات، فجذبت ذراعها بقوة واستدارت هاربة بأسرع ما تستطيع.. لكنها لم تكد تبتعد حتى فوجئت به يلحقها بخطوات واسعة ويضربها بقوة على ظهرها أسقطتها أرضاً.. عندها سارع للوي ذراعيها خلف ظهرها ثم قيّد يديها بشدة بحزام ثوبها القطني.. صاحت رنيم وهي تقاومه "ما الذي تبغيه مني؟.. ماذا تنوي فعله بي؟.."
قال الرجل وهو ينهضها واقفة "أنت زوجة زياد.. ألستِ كذلك؟"
اتسعت عينا رنيم بقلق محاولة إدراك مغزى قوله، لكنها فوجئت به يحملها ويضعها على كتفه بخفة كأي جوال قمح، وسرعان ما لحق بالبقية دون إبطاء.. فصاحت رنيم وقاومت بشدة وهي تحاول الإفلات من قبضته القوية ومن مصير تخشاه بشدة.. كانت تجد أنها تتعرض للاختطاف وسط القصر وعلى مرأى من حراسه دون أن تجد من يمد يده لمعاونتها.. فأين اختفت الخادمات وبقية الحرس؟.. وأين الأمير زياد، زوجها المستقبلي؟.. بل أين اختفى مجد الذي كان عوناً لها منذ قدومها ووعدها أنه سيحميها دائماً؟..
وجدت أن الجمع الصغير قد اتجه لأبواب زجاجية تؤدي لشرفة واسعة مرتفعة تتجاوز حجم الشرفات العادية.. ووسطها، وعلى ضوء القمر، لاحظت رنيم تلك الأعين الملتمعة كأعين الهررة بلونها الأخضر المشع بينما تدلى اللسان الطويل من الفم الواسع بأنيابه الحادة.. شهقت رنيم بشدة وهي ترى تلك الكائنات رأي العين للمرة الأولى، فرغم معرفتها بها إلا أنها لم ترها سابقاً إلا في بضع لوحات مرسومة متناثرة في عدد من أروقة القصر.. لم تكن تلك الكائنات التي انتصبت وسط الشرفة، وعددها لا يقل عن خمس، إلا تنانين على شيء من الضخامة.. وقد التمع جسدها على نور القمر الشحيح وبعضها مغطىً بحراشف سميكة، بينما فردت أجنحتها العريضة التي تشبه أجنحة الخفافيش وحركتها بقوة دافعة الهواء بصوت واضح أيقظ رنيم من ذهولها..
ركلت رنيم وصرخت بشدة لدى رؤيتها تلك التنانين التي وقفت بتململ وهي تصدر فحيحاً من أفواهها بتهديد واضح.. لم تكن تحلم بلقاء هذه الكائنات يوماً، ولم تكن تعرف عنها إلا ما قرأته في متون الكتب في مكتبة أبيها الضخمة، وكل ما عرفته أنها تعيش في الجانب الشمالي من القارة العظمى حيث الجو أكثر برودة، وحيث تؤمن لها الجبال العالية مأوىً يناسب طبيعتها المتوحشة.. والآن تراها وتقترب منها في هذه الظروف الصادمة وفي لحظة اختطافها قسراً من أشخاص لا تعرفهم ولسبب تجهله تماماً.. لكن الرجل الذي يحملها شدّد قبضته عليها وهو يقترب من أحد أشرس التنانين مظهراً بلون أبيض وأطراف حمراء، جلده ثخين يكاد يخلو من الحراشف التي كست أجساد بعض التنانين الأخرى، وعيناه خضراوان لامعتان فوق أنف طويل ينتهي بفم مدبب بأسنان صفراء حادة.. لاحظت رنيم نوعاً من اللجام البدائي في فم التنين وسرج غريب الشكل على ظهره، ويعلو طرفا السرج الأمامي والخلفي أكثر من المعتاد ليمنحا الراكب ثباتاً أكبر.. تلفتت رنيم حولها برعب وارتباك بحثاً عمن ينقذها، لكن القصر بقي هادئاً بشكل مريب، بينما امتطى الرجال الذين سبقوهما ظهور التنانين الأخرى وكل منهم يردف خلفه إحدى الخادمات اللواتي ينتمين للهوت.. وانتبهت رنيم لعدد آخر من تلك الكائنات تحلق في الجو ولا يكشفها إلا نور القمر الشاحب..
سمعوا في تلك اللحظة خطوات راكضة من خلفهم لعدد من الأشخاص، وسرعان ما ظهر عدد من الحراس من بوابة تلك الشرفة حاملين بنادقهم بتأهب يتقدمهم مجد الذي صاح "قفوا واستسلموا حالاً.. الحراس يحاصرونكم من جميع الجهات.."
تلفتت كاينا بتوتر لتلاحظ جمعاً آخر من الحراس يقف في جوانب الحديقة وفي الشرفات الأخرى موجهين بنادقهم تجاه الدخلاء بتحذير واضح.. ولدى رؤية مجد، صاحت رنيم بهستيرية "أين كنت يا مجد؟.. كيف يتم اختطافي بكل بساطة من القصر وأنت موجود؟.."
قال مجد بحزم وهو يتقدم "لم أكن لأسمح بذلك.. كنت فقط أؤمّن الملك وعائلته قبل قدومي إليك.."
شعرت رنيم بشيء من المرارة لقوله.. طبعاً الملك وأفراد عائلته أهم منها، وما سيجري لها سيحتل المرتبة الثانية من اهتمامات مجد وحراس القصر.. لماذا لا تشعر بأي صدمة لهذا؟..
توقف مجد عن تقدمه فجأة عندما أنزل المختطف رنيم من على كتفه بعنف ووجّه سيفه العريض إلى عنقها بتهديد واضح.. دار مجد ببصره في الرجال والخادمات أمامه للحظة، ثم قال بحزم "لو حاولتم الهرب فلن نتردد في إطلاق رصاصات بنادقنا عليكم.."
قال الرجل بسخرية "ألا يهمك أمر الفتاة؟.."
قطب مجد بينما أضاف الرجل بصرامة "لو أردت استعادتها فأعد جايا إلينا.. هذا هو شرطنا الوحيد.."
كان دور مجد لتنتابه الحيرة وهو يتساءل "ماذا تعني؟.. من هي جايا؟.."
صاح الرجل بحدة "لا تتظاهر بالغباء.. فهذا لن يجعلني أكثر تسامحاً في معاملة هذه الفتاة.."
سمعوا أحد رجال الهوت يجادل الأول بشيء من العصبية، دون أن يخفف الأول نظراته الحادة والحازمة التي وجهها لمجد وحراس القصر.. وقبل أن يتصرف أحد الحرس بحركة، أصدر أحد التنانين زمجرة قوية نحو الحراس صاحبها فحيح من آخر أثار الفزع في قلوبهم وجعلهم يتراجعون خطوات تاركين مجد يقف في موقعه بمفرده.. ولم يكد الحراس يستعيدون ثباتهم حتى فوجئوا بالرجل يرمي رنيم على ظهر التنين القريب ويقفز خلفها بدوره جاذباً العنان بقوة، لينطلق التنين على الفور بعد أن زمجر بتحذير شديد.. ووسط صراخ رنيم المرتعبة، فإن مجد الذي كان الأسرع حراكاً ركض بسرعة متجاوزاً المسافة البسيطة التي تفصله عن الدخلاء، ثم قفز بأقوى ما يملك ليتعلق بساق التنين الذي يحمل الفتاة.. وبينما أطلق التنين صيحة غاضبة وهو يواصل ارتفاعه، فإن مجد زاد من تشبثه بالتنين وهو يحاول رفع جسده عالياً.. لكن الرجل سارع لركل مجد بغير ترفق حتى أسقطه من ذلك الارتفاع الذي لا يقل عن خمسة أمتار وسط نظرات رنيم المرتعبة..
سقط مجد سقطة مؤلمة رغم محاولته تخفيف سقطته تلك، وقبل أن يعتدل سمع أحد الحراس يصيح بالبقية "أطلقوا الرصاص على التنانين.. امنعوها من الهرب.."
بدأ الحراس في إطلاق رصاصات بنادقهم على التنانين بتوتر كبير بينما نهض مجد قابضاً على ذراعه اليمنى التي اشتعلت بألم حارق، وصاح في رجاله "حاذروا من إصابة الأميرة.."
كانت الرصاصات غير مجدية في التصدي للتنانين التي نجح جلدها السميك المغطى بالحراشف في تخفيف تأثير الرصاصات وصدّها في بعض الأحيان.. وبينما حاول راكبوها تفادي ذلك السيل المنهمر من كل الاتجاهات، فإنهم فوجئوا بصوت مدفع يدوي من جانب القصر قبل أن يلمحوا طلقة مشتعلة تطير تجاههم شاقة السماء المظلمة.. تفادت التنانين تلك الطلقة بصعوبة ليجدوا أن طلقات أخرى بدأت تتبعها بغزارة وقد أضاءت جانباً من الظلام المهيمن على القصر والسماء..
صاح الرجل الذي اختطف رنيم بالبقية وهو يناور طلقة كادت ترتطم بصدر التنين "يكفينا هذا.. لنتراجع في الوقت الحالي.."
وجذب العنان في يده ليرتفع بالتنين بسرعة فائقة وحركة بدت مجنونة لرنيم التي صرخت بشدة وهي لا تصدق ما يجري لها.. ووسط شهقاتها المرتعبة، فإن الأرض تضاءلت أمام عينيها بسرعة كبيرة بينما الطلقات المشتعلة ما تزال تشق السماء نحوهم.. ومع طيران التنين بحركات خطرة، تزايد شعور رنيم بأن جسدها يكاد يفقد توازنه حيث ألقاها الرجل على بطنها فوق التنين دون أن يفك قيد يديها ليسمح لها بالتشبث بالسرج.. وإزاء منظر كهذا، وانفعالات عنيفة كالتي مرت بها، لم تجد رنيم ما تفعله أفضل من أن تفقد وعيها في محاولة للهروب من ليلة أثارت رعبها بلا حدود..

*********************

بعد وقت طويل، والأمير زياد قد استنفذ كل الصبر عنده حيث اختبأ مع بعض الحرس في أحد الأجنحة القصيّة من القصر، رأى مجد يدلف الجناح بذراع مجبرة بشكل بسيط ومعلقة في عنقه برباط قوي.. فقال زياد بتقطيبة "ما الذي جرى؟.. هل نجحت في التخلص من أولئك الدخلاء؟"
زفر مجد قائلاً "لقد غادروا بالفعل.. لكنهم قد استعادوا جميع الفتيات اللواتي جلبهن الملك من الهوت.."
قال زياد بحنق "كيف يحدث هذا في قصر أعظم ملك في الدنيا؟.. هذه وصمة عار علينا، وعليك أنت بالذات وأنت المكلف بحراسة هذا القصر وأصحابه.."
قال مجد خافضاً رأسه "أعلم ذلك يا مولاي.. لكنني أشدد الحراسة على القصر كل ليلة لتفادي أي هجوم من الخارج.. ولم أتوقع يوماً أن يبدأ الهجوم من الداخل، بواسطة هاته الفتيات اللواتي يعلمن مداخل القصر ومخارجه.. كما أنني لم أتوقع يوماً أن يتركز الهجوم على القصر من الأعلى.."
قال زياد بحدة "هذا لن يعفيك من العقاب بتاتاً.. نحن في حالٍ يرثى لها بسببك.."
قال مجد دون أن يقابل عيني زياد بعينيه "هناك أمر آخر يا مولاي.."
سأله زياد بجفاء "ما هو؟.. هل سرق أولئك الرعاع شيئاً من القصر؟.. سيكون ذلك متوقعاً.."
أجاب مجد بتوتر "لا.. لكن أحدهم قام باختطاف مولاتي رنيم.."
نظر له زياد مقطباً، بينما أضاف مجد "لقد تحدث المختطف عن فتاة اسمها جايا.. وطالب بإعادتها.."
قال زياد رافعاً حاجبيه "آه.. تلك الفتاة؟.. لقد اختفت منذ مدة طويلة.."
فقال مجد "عليّ أخذ فرقة من الجنود واللحاق بهم قبل أن يبتعدوا عن (الزهراء) كثيراً.. ربما أستطيع إجبارهم على الهبوط بتلك التنانين بوسيلة ما، وعندها......."
قال زياد بجفاء "لا تتعب نفسك.. لا يهمني ما يجري لتلك الفتاة.."
نظر له مجد بدهشة وعدم استيعاب، ثم قال "مولاي.. إن مولاتي رنيم....."
قال زياد بحدة "أخبرتك أن تنسى أمرها.. ألا تفهم؟.. سلامتي وسلامة الملك أهم من تلك التافهة.."
ثم استدار مبتعداً وهو يدمدم "هذه فرصة أتتني من السماء للخلاص منها.. والآن يتوقعون مني أن أحاول جهدي لاستعادتها؟.. هذا أمر مضحك.."
تبعه مجد قائلاً بإلحاح "مولاي.. لا يمكنني التخلي عن مولاتي رنيم.. عليّ استعادتها قبل أن يفعل بها أولئك الرعاع شيئاً.. لو أصابها أي مكروه، فإن الملك قصيّ لن يصمت على هذا.."
قال زياد باستهزاء "الملك قصيّ؟.. وما الذي يمكن أن يفعله ذلك التافه تجاه مملكتنا العظيمة؟"
ثم أضاف ضاحكاً "أراهنك أنه سيسارع لإرسال ابنة أخرى لاستبدال تلك التي فشلت.. فلا يمكنه أن يفرّط في علاقات مملكته البائسة بنا بسهولة لأجل فتاة.."
لم يكن رد فعل الأمير زياد مفاجئاً لمجد، ولم يكن توقعه عن رد فعل الملك قصيّ بمستغرب.. فكما قالت رنيم مراراً، أهمية وجودها في الحياة هو في نجاحها فيما سيقت له.. وفشلها يجعلها لا تستحق اهتماماً من أحد.. أيمكن لحياتها أن تكون أكثر جفافاً وقسوة رغم ما يحيط بها من نعيم؟..
وقف مجد وسط الجناح مقطباً بشدة، ثم قال بلهجة حازمة "عذراً يا مولاي.. بعد أن أتأكد من تخلصنا من الدخلاء، سأذهب على رأس فرقة صغيرة من الجنود لاستعادة مولاتي رنيم.. هذا واجبي، وما حدث لها كان بسبب تهاوني.. لذلك......"
قاطعه صياح زياد بغضب "ماذا تعني؟.. أتعصي أوامري؟"
قبل أن يعترض مجد بكلمة، جاءه صوت الملكة سليمة وهي تقول بصرامة "عصيان أوامر الملك أو ولي عهده كفيل بجعلك في مصاف الخونة يا مجد....."
نظر مجد للملكة التي اقتربت منهما بتقطيبة وهي تضيف بصرامة "وأنت تعلم عقوبة الخيانة جيداً.. أليس كذلك؟"
قال مجد بضيق "وهل الحفاظ على سلامة أحد أفراد العائلة المالكة يحسب خيانة؟"
أطلق الأمير زياد ضحكة ساخرة والملكة تضيف بابتسامة جانبية "تلك الفتاة لم تكن، ولن تكون جزءاً من العائلة المالكة.. وبعد ما جرى لها الليلة، فإنها لم تعد بمكانة تسمح لها بالتشرف للانضمام لعائلة الملك عبّاد.. لذلك لا تتعب رأسك بأمرها كثيراً.."
خفض مجد رأسه بضيق شديد، أهو ذنبها أنها اختطفت من قصر الملك وسط الحراسة المشددة؟.. ثم قال محاولاً الثبات على موقفه "مع احترامي لك ولولي العهد يا مولاتي، لا يمكنني بتاتاً أن........"
قاطعه صياح من جانب الجناح وأحد الخدم يقترب مسرعاً من الملكة صائحاً "مولاتي.. مولاي.."
التفتت إليه الملكة قائلة بضيق "ما الأمر؟.. لمَ هذا الصياح المزعج؟"
قال الخادم وهو يشير خلفه بفزع ظاهر "مولاي الملك عبّاد.. إنه.... إنه......."
لم يكن الأمر بحاجة لتفصيل ومجد يركض دون إبطاء نحو الغرفة الداخلية في الجناح حيث الملك، ولم يلبث الأمير زياد والملكة أن تبعاه بتوتر كبير.. يبدو أن هذه الليلة لن تنتهي برحيل الدخلاء واستتباب الأمن في قصر الملك الواسع..

*********************

عندما استيقظت رنيم، بعد وقت لا تعلمه، وجدت نفسها راقدة على أرض عشبية باردة مبللة بالندى الذي تسلل لثياب نومها القطنية.. وأول ما رأته، بعد أن فتحت عينيها، هو ذلك الوجه الضخم بأنيابه البارزة الغارقة بالدماء والعينان الخضراوان الملتمعتان.. شهقت رنيم بذعر كبير وهي تنهض مفزوعة لذلك المنظر، وقبل أن تطلق صرخة ذعر لمرأى ذلك التنين قريباً منها، اقتربت منها كاينا بسرعة قائلة "لا تخافي.. إنه لن يؤذيك.."
صاحت رنيم برعب وهي تتراجع زاحفة "ألا ترينه؟.. ألا ترين الدم الذي يسيل من شدقيه؟"
قالت كاينا مبتسمة "لقد تناول وجبته قبل قليل.. لذلك لن يفكر بإيذائك ما لم تفزعيه بصراخك.. لم أتوقعك بهذا الجبن يا رنيم.."
نظرت رنيم للتنين بتوتر كبير، ثم نظرت لكاينا بدهشة لدى سماع اسمها.. فأكدت كاينا قولها معلقة "لم أعد أعمل في القصر ولستِ سيدتي.. لذلك يحق لي أن أناديك باسمك.. أليس كذلك؟"
قالت رنيم بصوت مرتجف "كيف؟.. كيف تفعلين هذا بي؟.. أنا لم أسئ إليك قط، ولم أعاملك كما يفعل الآخرون.. فلماذا تعاقبيني بهذه الطريقة؟"
قالت كاينا بأسف "لم أهدف لعقابك، ولم أكن أتمنى أن يحدث هذا لك.. لكن بعد أن عجزنا عن العثور على جايا، فإن ذلك الرجل خشي أن ينتقم الملك منها بسبب هروبنا.. لذلك كان اختطافك ضماناً لئلا يصيب جايا أي ضرر، وليتمكن من مبادلتك بها عندما يحاول الملك استعادتك.."
دارت رنيم ببصرها في المجموعة حولها من الرجال ومن الفتيات اللواتي كن يخدمن في قصر الملك.. ثم قالت بصوت مرتجف "ومن هي جايا؟"
نظرت كاينا للرجل الذي اقترب منهما قائلاً بحزم "أهذا وقت تفسير الأمور؟.. علينا الرحيل.. فرقة من الجنود تقترب من موقعنا.."
نهضت كاينا بتوتر، بينما راود رنيم شيء من الأمل أن تتمكن من التحرر من مختطفيها هؤلاء.. لابد أن يكون مجد على رأس تلك الفرقة من الجنود بحثاً عنها، فلا تشك أنه الوحيد الذي سيسعى خلفها من (الزهراء) كلها..
اقتربت كاينا من الرجل قائلة بلغة الهوت "ما الذي ستفعله الآن بعد هذه الحماقة التي ارتكبتها؟.. هل ستأخذ الفتاة للقرية حقاً؟"
قال الرجل مقطباً "هذا كل ما يمكنني فعله.. لا يمكنني البقاء معها في العراء ولا أضمن ألا يستعيدها الجنود قسراً مني.. عليّ أن أستعيد جايا مهما كانت الوسيلة.."
قالت كاينا محتدة "ليس بهذا الأسلوب.. ألا تعرف حقاً ما سيفعله أهل القرية عند رؤيتها؟.. أنت لا تستطيع ضمان سلامتها في القرية أكثر من أي موقع آخر.."
قال بشيء من الضجر "لا داعي لهذا التذمر.. أخبرتك أنني واثق مما أفعله.."
لوحت كاينا بإصبعها في وجهه قائلة بصرامة "هذه الفتاة الطيبة لا تستحق أي شيء مما جرى لها.. ولو أصيبت بأي مكروه، فلن أسامحك على ذلك بتاتاً.."
لم يعلق الرجل على قولها وهو يقترب من رنيم ويجذب ذراعها قائلاً "هيا بنا.. سنغادر في الحال.."
جذبت رنيم ذراعها وهي تقول بصوت متوسل "استمع إليّ.. أنا لن أفيدك بشيء.. الأمير زياد يرغب بالتخلص مني ولن يهتم لأمري بتاتاً.. أخطأت بخطفي أنا من بين جميع من في القصر.."
قال الرجل بتقطيبة "أتظنين أنك ستخدعينني بهذا القول؟.."
صاحت وهو يجبرها على النهوض "أنا لا أكذب.. استمع إليّ.. لا تعوّل على أهميتي لدى الملك أو الأمير زياد.. فأنت ستكون الخاسر في النهاية.."
لكن الرجل لم يعبأ لاعتراضها وهو يقترب بها من التنين الذي لعق بلسانه الطويل ما سال على فكه من دماء، وبدت لها أنيابه الصفراء ضخمة وواضحة أشد الوضوح.. حاولت رنيم التنصل من قبضة الرجل وهي تهز رأسها بقوة صائحة "أرجوك.. لا تفعل هذا.. ستندم على هذا.."
جذبها الرجل بشدة وهو ينظر لها بغضب قائلاً "أتهددينني؟"
هزت رأسها بقوة وذعر من نظراته الحادة، فيما قال بحدة "أتظنين أنك في موقع يسمح لك بتهديدي؟.. أنت بلهاء.."
غمغمت رنيم بتوسل "لم أعنِ ذلك.. عنيت أنك لن تستفيد من هذا الذي تفعله.."
لكنه جذبها رغم توسلاتها ورفعها عنوة ليضعها فوق السرج على ظهر التنين، ثم امتطى ظهر التنين بدوره خلفها بينما انكمشت هي بشدة وهي تتلفت حولها بحثاً عمن يمكن أن يقف في صفها، وتقلب بصرها في الأفق ترقباً لقدوم فرقة الجنود.. لكن كاينا، كما كانت بقية الفتيات، كن قد تجاهلنها بشكل تام وكأن ذعرها وثورتها بغير سبب مفهوم.. بينما لم يبدُ لجنود الملك أي أثر في أي موقع قريب..
وبكلمة واحدة، حذرها الرجل بحزم "تمسكي.."
لم تملك رنيم الاعتراض وهي تتشبث برأس السرج العالي أمامها، وبحركة حادة ارتفع التنين بقوة مرفرفراً بجناحيه والهواء يندفع بقوة حولها بحيث أغمضت عينيها بذعر مستسلمة للانفعالات التي عصفت بها..
التفت الرجل حوله للحظات، ثم قال لرفاقه الذين تبعوه على التنانين الأخرى "لنذهب قبل قدوم الجنود.. لن نتوقف قبل الوصول للقرية.."
لم يعترض أحدهم بكلمة وهم يدفعون التنانين للتحليق متخذين وجهة واحدة يعرفونها تمام المعرفة.. رغم أن الهوت يوصفون بالرعاع من بقية شعوب العالم، ورغم ما يبدو عليهم من عدم تحضر وجهل، إلا أنهم يملكون وسائلهم الخاصة في ترحالهم وفي تطويع تلك الحيوانات التي عجزت شعوب العالم عن الاقتراب منها.. ولم يكونوا بحاجة لآلات معقدة وحسابات طويلة لتحديد وجهتهم نحو موطنهم، بل يسيرون إليه بسلاسة ودون أخطاء كما ينجذب رأس البوصلة للشمال بدقة في كل مرة..
ظلت رنيم في موقعها منكمشة على نفسها بشدة وهي تتشبث بالجزء المرتفع من السرج أمامها وتغمض عينيها بقوة.. كانت تكفيها الحركات القوية التي يقوم بها التنين كي تصاب بدوار وتشعر بنفضة شديدة في جسدها.. ترى ما سيكون شعورها عندما تفلت السرج وتسقط من على ظهر التنين هاوية للأرض من هذا الارتفاع الشاهق؟.. هل ستفقد وعيها من الذعر أم أنها ستحتفظ بحواسها وهي تراقب اقتراب الأرض منها بشكل متسارع ومفزع؟.. تذكرت ما انتهى عليه حلمها المفزع، ولم يكن هذا ليهدئ روعها بحال..
شعرت بالتنين يهوي شيئاً ما قبل أن يميل جانباً بقوة، فأطلقت صيحة ذعر وانكمشت أكثر وهي تحاول تمالك ذعرها وتتمنى لو تفقد الوعي من جديد لكي ترتاح من هذا الخوف المفزع.. لكن الرجل خلفها قال بشيء من الحدة "لا تنطوي بهذه الطريقة فوق ظهر التنين.. خوفك يصيبه بتوتر فهو يشعر برجفة جسدك الواضحة.. افتحي عينيك وكفي عن هذا الخوف.."
قالت رنيم بصوت متهدج وذعر واضح "محال.. أنزلني على الأرض فوراً.. لا أطيق البقاء على ظهر هذا الحيوان أكثر من هذا.."
قال الرجل بحنق "ألا تنسين أنك أميرة حتى وأنت بعيدة عن القصر؟.. قلت لك افتحي عينيك وكفي عن التشبث بالأرض لهذه الدرجة.. ألا تطيقين الابتعاد عن التراب للحظة واحدة؟.."
شيء ما في قوله جعلها تقاوم ذعرها وتفتح عينيها ببطء لتسمح لنفسها بالنظر لما حولها.. كانت التنانين الأخرى تطير حولهم بشكل متماوج، ترتفع وتنخفض بتناغم واضح وهي ترفرف بأجنحتها الضخمة بحركات هادئة.. وفي الأفق، بدأت الشمس تعلن عن وجودها بنور ذهبي قوي دحر ظلمة تلك الليلة وأكسب الغيوم القريبة لمعة وإشراقاً غير معهودين..
بدأت عينا رنيم تتسعان وهي تنظر للغيوم التي تقترب منهم فيخترقها التنين بقوة واندفاع دون أدنى تردد، لتجد رنيم أن الغيوم الرطبة قد لمست وجهها بخفة مثيرة برودة شديدة في بشرتها وهي تشمّ رائحة منعشة لم يسبق لها أن شمّتها من قبل..
شيئاً ما، تناست رنيم موقفها الحالي، وتناست التنين الشرس الذي تمتطي ظهره، وكل فكرها منشغل بالأفق الذهبي الذي تبدّى بقوة بعد الظلمة الكئيبة لتلك الليلة التي لم يتسنّ لنور القمر الشحيح أن يخفف منها.. كانت المشاعر القوية التي تعصف بها، ممتزجة مع الأفق المنير، وانعكاس الضوء الوليد على الغيوم من جهة بينما تتشبث الزرقة بها من الجهة الأخرى بإصرار، والرياح التي حملت برودة رغم شدتها إلا أنها كانت منعشة نوعاً ما، واللون الأزرق البهيج الذي تبدّى من تحتهم وهم يعبرون إحدى البحيرات الكبيرة التي عكست بعض أشعة الشمس مع بدء هذا النهار.. كل هذا جعل رنيم تصمت مذهولة وهي تراقب ما يجري.. شعرت أنها في عالم آخر بالفعل.. في عالم لم تعرفه إلا من صفحات الكتب، ومن مخيلتها الواسعة التي لم تجمح لتنقل لها هذه الصورة التي تراها الآن..
هل كانت رنيم تتخيل وهي تمسك أحد تلك الكتب التي يعلوها الغبار وتحلم وهي مسندة رأسها إلى الأرفف الخشبية القاسية أنها ستنتقل لعالم آخر رغماً عنها في غمضة عين؟.. أكانت تتخيل أن تعيش هذه اللحظة التي بدت لها مستحيلة وجدران القصر السميكة تخنقها ومن خلفها أسوار المدينة العالية؟..
رغم أنها مدركة أن عواقب ما تمر به ستكون وخيمة عليها.. ورغم قلقها مما سيفعله بها هؤلاء الرعاع، ورد فعل أبيها الملك والملك عبّاد على ما جرى لها، إلا أنها تناست واقعها في لحظة وهي تستغرق فيما تراه بكل مشاعرها..
سمعت الرجل يعلق من خلفها "يبدو أنك تناسيتِ خوفك في لحظة.."
عاد لها واقعها بسرعة، فعادت تتشبث بالسرج بقوة وهي تقول بصوت مرتجف "أرجوك.. أطلقني.. أنا لا ذنب لي فيما جرى لمن تبحث عنها.."
قال الرجل بحزم "لم أقل إن لك ذنباً فيما جرى.. لكنك وسيلتي لاستعادتها، ولضمان سلامتها من غدر الملك.."
خفضت رنيم عينيها قائلة بصوت مرير "لكن.. لمَ أنا؟.. لمَ لمْ تختطف الملكة أو تختطف الأمير زياد نفسه؟.. لمْ استهدفت شخصاً بغير أهمية مثلي؟"
علق الرجل "كفي عن التقليل من شأنك بهذه الصورة.. واتركي الملك والأمير زياد يقرران أهميتك عندما أتفاوض معهما.."
راقبت رنيم الغيوم المتسارعة حولهما وهي منشغلة بأفكارها المريرة.. كيف حدث ما حدث؟.. كيف انقلب واقعها بهذه الصورة؟.. وما ذنبها ليحدث كل هذا لها؟..

*********************

تدافعت دموع الملكة سليمة غزيرة وهي تقف قرب نافذة زجاجية ضخمة تطل على حدائق القصر في قلب (الزهراء) متأملة الشمس التي ارتفعت سريعاً شاقة السماء.. كانت تقف وحيدة في إحدى القاعات، تستمع للصمت من حولها دون أن تتمكن من إيقاف دموعها أو رجفة شفتيها..
بعد وقت قصير، سمعت صوت باب القاعة يفتح وصوت حذائي الأمير زياد الواضحين يقتربان منها قبل أن يقول بضيق "أمازلت تبكين يا أماه؟.. أأنت حزينة حقاً لما جرى؟"
قالت بشيء من الحدة "لست حزينة على ما جرى قدر هلعي مما سيجري.. فحريّ بشابٍ أحمق مثلك أن يجهل تبعات ما حدث هذا اليوم.."
زفر زياد بضيق واضح والملكة تدور في الموقع مدمدمة بغيظ وهي تمسح دموعها المتدافعه بمنديل في يدها "الملك مات.. من كان يتخيل أن يموت الملك العظيم عبّاد بسبب سمّ دسّته له إحدى الخادمات الملعونات قبل فرارهن؟.. هذا شيء لم أتوقعه في أحلامي.."
هز زياد كتفيه معلقاً "وماذا في ذلك؟.. سأتولى أنا الحكم وستبقين أنت الملكة الأم في مملكة بني فارس.. لن يتغير شيء بتاتاً.."
نظرت له مقطبة بعين غير راضية، ثم قالت بجفاء "أتظن أن شاباً خليعاً مثلك يقدر على الحفاظ على مملكة هائلة كهذه؟.."
ودارت في موقعها من جديد قائلة "الويل لي لو تفككت هذه المملكة على يد ابني.. كيف يمكننا تفادي مثل ذلك؟.."
قال زياد وهو يرمي جسده على كرسي قريب باسترخاء "أنت تبالغين يا عجوز.."
نظرت له بتقطيبة شديدة، ثم تقدمت منه وقبضت على مجمع ثوبه ورفعته حتى واجهت عيناه بعينيها قائلة "أنسيت أنك لا تقابل بترحيب من أغلب القيادات في (الزهراء)؟.. قائد الجيش فِراق بالذات لا يطيق النظر لوجهك.. كيف تتوقع منه أن يقسم بالولاء لك؟"
قطب زياد وقد انتقل قلق الملكة إليه، بينما تخلت عنه الملكة وهي تقول بحزم "عليك أن تتصرف بسرعة.. يجب أن تدعّم مُلكك بأشخاص يدينون بالولاء لك، وتحسم أمر خصومك قبل أن يفيقوا لأمرك.."
غمغم زياد "لم يمضِ على موت الملك ساعات معدودة.."
شدّت الملكة جسدها ووقفت وسط القاعة باستقامة وهي تقول بحزم صارم "عليك أن تحسم الأمر الآن، أو تفرّ من القصر قبل أن تعامل كملك مخلوع.. وصدقني لن تكون معاملة تليق بك أبداً بالنظر لكل ما ارتكبته في سني حياتك القصيرة هذه.."
نظر لها زياد بتوتر شديد، ثم اعتدل باهتمام قائلاً "ما الذي عليّ فعله؟.. سأطيعك في كل أمر، فهل تملكين خطة معينة؟"
ابتسمت الملكة ابتسامة جانبية ماسحة آخر دمعة سالت من عينها، ثم قالت بحزم "طبعاً.. وهل يخلو عقلي من الخطط الناجحة؟.."
وجلست على كرسي قريب متطلعة لزياد الذي أولاها اهتمامه الكامل مضيفة "في البدء، عليك التخلص من فِراق، فهو لن يكون معك بتاتاً.."
قال زياد بحماس "سأطرده من منصبه.."
نظرت له الملكة بحنق قائلة "حقاً؟.. كيف تتوقع أن تملك مملكة عظيمة كهذه وأنت قصير النظر بهذه الصورة؟.. أتظن أن فِراق سيستسلم لطرده؟.. كما أن أغلب قيادات الجيش وألويتها معه ويطيعونه.. سيطيح بك بإشارة من إصبعه.."
ومالت تجاهه متممة حديثها بفحيح "عليك أن ترسل من يغتاله.. في هذه الساعة.."
قال زياد بقلق "من يمكنه أن يفعل ذلك بهذه السرعة؟.."
اعتدلت الملكة قائلة "لا تقلق.. لقد فكرت في هذا الأمر بالفعل.. الجارية التي يملكها ولا يكاد يطيق فراقها تدين لي بالكثير.. وستفعل ما أشاء لو ضمنت لها مكاناً عالياً في هذا القصر.."
فقال زياد باهتمام "وماذا عن مجد؟.. هل نتخلص منه هو أيضاً؟"
نظرت له الملكة شذراً قائلة "يا لك من أحمق.. مجد هو ورقة رابحة في يدك.."
نظر لها بحيرة مغمغماً "حقاً؟"
قالت بحزم "افهمني أيها الغرّ الساذج.. مجد، رغم أنه لا يواليك ولاءً تاماً، لكنه كان أميناً وموالياً للملك الراحل.. وستمنعه أمانته من خيانة ذكرى الملك والتخلص من ولي عهده.. باستخدام مجد، وباستغلال مثاليته وموالاته للملك الراحل، يمكننا أن نحكم قبضتنا على الجيش بسهولة.. أقترح عليك أن تقوم بترقيته ليتولى منصب قائد الجيش، فهذا سيسهّل علينا الحصول على طاعة بقية الفرق والألوية دون عسر.."
ثم لوّحت بإصبع مثقل بخاتم ذهبي قائلة "هذه مجرد البداية.. بعد ذلك سنلتفت للقيادات الأصغر والأقل تأثيراً.. لو أحكمت سيطرتك على الجيش وألويته، فستكون بخير.."
ووضعت يدها على كتف الأمير زياد قائلة بابتسامة واثقة "ستكون بخير يا بنيّ.. ستظل كذلك ما دمت تطيعني.. ثق بي ونفذ كل ما أقوله حرفياً دون جدال.."
قال زياد بحماس "سأطيعك.. طبعاً سأفعل كل ما توصِني به.. المهم ألا ينتقل هذا العرش لغيري.."
قالت الملكة بابتسامة جانبية "لا تقلق.. لا يمكن أن أسمح بذلك بتاتاً.."

*********************

بعد رحلة طويلة أرهقت رنيم كثيراً لطول جلوسها دون حراك، لاحظت معالم تلك البيوت الصغيرة التي امتدت لمسافة معقولة وسط تضاريس جبلية قاسية .. كانت تلك قرية صغيرة تفترش وادياً ضيقاً وسط جبال عالية قممها بيضاء ثلجية، ولا تكاد ترتبط ببقية العالم إلا عبر طريق ضيق ووعر.. أهذه قرية من قرى الهوت؟.. وعند اقترابهم من تلك القرية، بدأت التنانين الهبوط نحو ساحة صغيرة تتوسط ذلك المكان..
انتاب رنيم توتر لا محدود لدى اقترابهم من هدفهم، ولرؤيتها ذلك الجمع الذي بدأ يحتشد قرب الساحة بانتظار القادمين.. بدا أن القرية كلها كانت بانتظار عودة فرقة التنانين تلك، ولم يبدُ على أحدهم أي ذعر لمرآها لاعتيادهم عليها.. ولما هبط التنين الذي حمل رنيم على ظهره، فإن الرجل خلفها قد هبط بسهولة ونشاط، بينما تجمدت رنيم في موقعها متيبسة الأطراف.. ومع كل تنين يهبط، فإن الفتيات الأسيرات يسارعن للهبوط ولقيا عوائلهن بعد فراق طال.. سمعت رنيم عدة صيحات فرح وضحكات تندلع هنا وهناك، بالإضافة لبكاء ودموع بعض النسوة الأكبر سناً..
انتبهت رنيم من تأمل ما حولها على تململ التنين تحتها، بينما قال مختطفها "يحسن بك أن تهبطي قبل أن يرمي بك التنين أرضاً.."
قالت رنيم برعب "كيف أفعل ذلك؟.."
رفع الرجل يده قائلاً "سأسندك عند الهبوط.."
ترددت رنيم للحظات، وقبل أن تتحرك بالفعل كان صبر التنين قد نفذ وهو ينتفض بقوة ويرميها من على ظهره، فوجدت نفسها تسقط على الأرض بشيء من العنف.. وبينما ارتفع التنين طائراً بسرعة مثيراً الغبار في الموقع، فإن الرجل قد اقترب وعاون رنيم على النهوض قائلاً "أخبرتك أن عليك الإسراع.."
نهضت رنيم بساقين ترتجفان ورأس يدوّي بألم وعينين غشيتهما الدموع.. وقبل أن تتضح لها الرؤية من جديد، انتبهت لصمت ساد الموقع بعد تلك الضجة التي أثارها لقاء الهوت بفتياتهم المختطفات.. تلفتت رنيم حولها بدهشة لهذا الصمت بينما قطب مختطفها شيئاً ما.. ولم يلبث أحد رجال القرية أن تقدم قائلاً بلغة الهوت التي لا تفهمهما رنيم "أهذه فتاة من المدينة؟.. ما الذي جاء بها؟"
قالت إحدى الفتيات التي كانت تعمل خادمة في قصر الملك "هذه أميرة وخطيبة للأمير زياد.."
اتسعت الأعين بصدمة واستنكار، بينما قال الرجل من جديد بحدة "ما الذي جاء بها معكم؟"
قال مختطفها "لم نعثر على جايا.. فأحضرت هذه الفتاة لنقايضها بجايا عندما نحاول استعادتها.."
صاح الرجل "هذه حماقة.."
تبعته صيحات مؤيدة من عدد من أفراد القبيلة، بينما انكمشت رنيم شيئاً ما وهي تلاحظ الغضب في الأعين المحدقة بها.. بدا لها واضحاً أن وجودها غير مرحب به، فما الذي ينتوون فعله بها؟..
قال مختطفها بحزم "مهما كان رأيكم بالأمر، كان لابد لي من الحصول على ضمان لئلا يمس الملك جايا بضرر نتيجة هرب بقية الفتيات.."
صاحت امرأة كبيرة من العمر بغضب "أنت ستجلب الوبال على هذه القرية.. زوجة الأمير؟.. هل تريد أن يحرّك الملك جيوشه ليسحق هذه القرية تماماً؟"
كان الغضب قد بدأ يظهر بوضوح في الوجوه المحيطة بهما وآخر يصيح "نحن لم ننسَ بعد ما جرى قبل شهور.. هل تريد تكرار هذا مرة أخرى؟"
وصاح رجل من الجهة الأخرى "يجب أن تدفع هذه الفتاة ثمن ما فعله الملك بقريتنا.. يجب أن يذوق بعض ما ذقناه لاختطافه بناتنا دون وجه حق.."
انكمشت رنيم أكثر وهي ترى بعض الرجال يتقدمون منها بأعين تنطق شراً.. رباه.. ما الذي ينتوون فعله بها؟.. قلّبت بصرها بذعر بينهم وبين مختطفها الذي قطب بشدة وصاح بصرامة "لن يمسّها شخص بسوء.. كما قلت لكم، سلامة جايا مرهونة بسلامة هذه الفتاة.. ومهما فعل الملك في السابق، فإن إيذاء هذه الفتاة لن يعيد شيئاً مما جرى.."
انبرت كاينا بين الجموع تقول "أجل.. هذه الفتاة لا ذنب لها، وهي ليست من عائلة الملك.. إنها من مملكة بعيدة.. فكيف تعاقبونها على ما جرى؟"
قال أحدهم بحنق "يكفي أنها زوجة ابن الملك.. هذا كافٍ ليشعل قلوبنا بنار لا تخمد.."
بدأ بضع رجال منهم يتقدمون منها غير عابئين بتهديد مختطفها، وبدأت أيديهم بالتطاول عليها وهي تشعر بمن يشدّ شعرها بقوة.. صاحت رنيم مرتعبة وهي تحاول الإفلات دون أن تدرك وسيلة للتخلص من الجموع التي تكاثرت حولها، عندما وجدت مختطفها يبعد الآخرين عنها ويحميها بذراعه بينما رفع سيفه العريض باليد الأخرى صائحاً "لو تجرأ أحدكم على الاقتراب منها، فلن أرحمه بتاتاً.."
صاحت امرأة من بعيد "اطردها من هذه القرية.. لا نريد أن نواجه جيش الملك من جديد.."
تعالت الصيحات الغاضبة من الجموع المحيطة بهما، بينما جذب الرجل رنيم المرتعبة بشدة وقادها عبر طريق حجري نحو جانب القرية.. وبينما استمر الصياح الغاضب من خلفهما، فإن أحداً لم يجرؤ على الاقتراب ولمسها بسوء والرجل يحجز بينها وبينهم.. تلفتت رنيم حولها مذهولة للنظرات الغاضبة والصياح الذي صمّ أذنيها، وقد أمكنها أن تفهم مغزى الحديث الذي دار حولها رغم أنها لم تفهم كلمة واحدة مما قيل.. بينما دفعها الرجل أمامه حتى وصلا منزلاً في جانب القرية لا يختلف عن غيره الكثير، ففتح بابه ودفعها لتدخل مغلقاً الباب بشدة خلفه..
نظرت رنيم للرجل بقلق قائلة "ما الذي ستفعله بي؟.."
لم تملك رجفة صوتها وهي تسأله بعد أن واجهت الغضب الواضح من أفراد القرية هذه.. فما سيكون مصيرها في مكان كهذا؟..
جذبها الرجل دون أن يجيبها حتى أدخلها غرفة جانبية بأثاث قليل، ثم خرج وأغلق الباب خلفه ورنيم تسمع دوران المفتاح في قفله.. أخيراً، تهاوت رنيم على سرير في جانب الغرفة وهي تحدق في الأرض الخشبية تحت قدميها الحافيتين.. حتى الآن، لا تصدق أنها اختُطفت من قصر الملك عبّاد ووصلت مع مختطفيها لأقصى هذا العالم.. رحلة قد تستغرق أياماً طويلة على الأرض لم تحتج التنانين إلا لنهار وليلة لقطعها متجاوزين كل المعوقات والتضاريس المختلفة على الأرض برفّة جناح.. لكن لا يمكن أن يكون هذا حلماً.. لا يمكن لحلم أن يكون بهذه الدقة والواقعية.. ولا يمكن له أن يستثير فيها هذه المشاعر الغريبة المتعاكسة وهي على ظهر ذلك التنين.. فما الذي سيحدث لها الآن بعد كل هذا؟.. عودتها (للزهراء) لن تحدث ببساطة ودون عواقب.. فهل ستعود حقاً لذلك المكان؟..
تذكرت رنيم الثورة التي قام بها الهوت لدى رؤيتها، وتذكرت ما سمعته من كاينا في القصر قبل تلك الليلة المشؤومة.. فانطوت على نفسها وهي تشعر بمرارة شديدة وحزن عارم..
لو راجعت رنيم حياتها منذ البدء، للاحظت حوادث مشابهة تتكرر بشكل دائم ولا يمكن تأويلها بشكل خاطئٍ بتاتاً.. فهي في قصر أبيها تواجه تأففاته الدائمة لتأخرها بالزواج عما يحدث لقريناتها من الأميرات.. بينما تتذمر أمها بشكل دائم وتصرّح في كل لحظة وحين برغبتها الشديدة في التخلص من ابنتها التي كادت تصبح عانساً..
ومع ظهور ذلك الزوج الأسطوري، سرّ أبويها أشد السرور لخلاصهم منها ومن همّها الدائم، وكررا عليها تحذيراً شديد اللهجة في حال فشلها وعودتها لهم خائبة.. أما كان المفترض بهم أن يطمئنوها أن أبواب قصر أبيها مفتوحة لها في كل وقت؟.. أما كان من المفترض أن يبقى قصر أبيها واحة أمان تعود إليها لو تعسّرت حياتها في المدينة الغريبة عليها؟..
وفي جزء لاحق من حياتها، واجهها رفض صريح من الملكة في (الزهراء) ومن زوجها المفترض، الأمير زياد، وتطور الأمر ليخططا لطردها بطريقة مخزية ستصمها بعار أبدي..
ومع التطور الأخير والفجائي الذي حدث لها مع المتسللين من الهوت، فإنها اختطفت عنوة لعالم غريب لم يسبق لها رؤيته، ورغم ذلك جابهت ثورة من الهوت ترفض وجودها بينهم وتطالب بطردها في اللحظة التي وطأت فيها قدماها تراب القرية..
هل هي مكروهة لهذه الدرجة؟.. أما من مكان يؤويها؟.. أما من مكان يسعد أصحابه لوجودها فيه حتى لو لم يرتبط ذلك بمصالحهم الشخصية؟.. ما الذي فعلته لتجني مثل تلك الكراهية؟.. وإلى أين يمكنها أن تلجأ دون أن تواجه مثل تلك المشاعر البغيضة التي تلاحقها طوال سني حياتها؟..
غلبتها مشاعرها وملامحها تنقبض بأسىً واضح، ثم وجدت دموعها تسيل رغماً عنها وهي تجهش ببكاء مرير.. ذرفت دموعاً غزيرة وهي لا تملك التوقف عن البكاء لوقت طويل.. تداعت مشاعرها مع دموعها وغلبها الحزن على حياتها التي لم يعد لها أي معنى.. لم تتمكن من الحصول على السعادة التي كانت ترجوها وتطمح إليها، ولم تتمكن من إرضاء أبويها، ولم تحصل حتى على رضى زوجها المستقبلي وأبويه.. ما الذي عليها أن تتوقعه من حياتها القادمة؟.. ما الذي عليها أن تسعى إليه؟.. لا شيء.. لم تعُد تدرك أو تتوقع شيئاً من أيامها القادمة ومن حياتها التي صارت بلا هدف ولا معنى..


*********************

 
 

 

عرض البوم صور عالم خيال   رد مع اقتباس
قديم 15-12-15, 09:00 AM   المشاركة رقم: 23
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Dec 2015
العضوية: 307841
المشاركات: 179
الجنس أنثى
معدل التقييم: عالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 460

االدولة
البلدAland Islands
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عالم خيال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: على جناح تنين..

 

أتمنى لكم المتعة مع الفصلين الجديدين
هل حجم الخط الآن أفضل؟
وسؤال آخر.. لمَ لا أستطيع تعديل موضوعي؟
أريد إضافة الفصول الجديدة للموضوع الرئيسي، لكن خاصية التعديل اختفت فجأة
فما الحل؟؟؟؟

 
 

 

عرض البوم صور عالم خيال   رد مع اقتباس
قديم 15-12-15, 09:39 AM   المشاركة رقم: 24
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Jul 2014
العضوية: 271387
المشاركات: 11,112
الجنس أنثى
معدل التقييم: bluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميع
نقاط التقييم: 13814

االدولة
البلدJordan
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
bluemay غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: على جناح تنين..

 
دعوه لزيارة موضوعي

اهلا ومرحبا بك عزيزتي خيال

واعتذر عن تأخر ردي بسبب انشغالي

ولكن راقت لي روايتك جدا


احببت رنيم ومتشوقةةلمتابعة الفصول المتبقية فما زلت في البداية ولكن احبب ان اخط اعجابي بما قرأته حتى اﻵن


عزيزتي انا مشرفة على هذا القسم وانا مستعدة لتقديم اي مساعدة

الخاصية تعديل تختفي بعد 24 ساعة من انشاء اي موضوع
فأتمنى ان تضعي اي ملاحظة او تعديل عى الموضوع وسأنفذه إن شاء الله

لك خالص ودي

MaYa

 
 

 

عرض البوم صور bluemay   رد مع اقتباس
قديم 15-12-15, 10:55 AM   المشاركة رقم: 25
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Dec 2015
العضوية: 307841
المشاركات: 179
الجنس أنثى
معدل التقييم: عالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 460

االدولة
البلدAland Islands
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عالم خيال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: على جناح تنين..

 

سعيدة بوجودك معي يا أختي بلومي وردك على الرواية
وسعيدة أكثر أن أحداثها أعجبتك حتى الآن
توقعي الكثير والكثير من المفاجآت حتى النهاية

ليست لي ملاحظات أو طلبات، لكني كنت أريد إضافة وصلات الفصول في صفحة الموضوع الأولى
لتسهيل القراءة على من يقرأ بدل تقليب صفحات الموضوع كلها
لكن يمكنك، رجاءً لا أمراً، إضافة وصلات الفصول كلها في الصفحة الأولى بعد انتهاء الرواية
يمكنك إضافة الفصول دفعة واحدة في النهاية
شاكرة لك جهودك يا عزيزتي..

 
 

 

عرض البوم صور عالم خيال   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
تنين.., جناح
facebook




جديد مواضيع قسم القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 11:44 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية