كاتب الموضوع :
عالم خيال
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: على جناح تنين..
الفصل الخامس: مجرد أحلام
عمّ الظلام شبه الدامس تلك الليلة على القصر المنيف الذي يتجاوز حجمه حجم قرية صغيرة من القرى الفقيرة في المملكة.. ورغم مضيّ ساعات تلك الليلة وخلود أغلب سكانه للنوم، فإن بضع مواقع فيه ظلت ساهرة لشأن أو لآخر.. مثل تلك القاعة التي اجتمع فيها الأمير زياد مع نخبة من أصدقائه لا يقلّون عنه خبثاً وصفاقة، ودارت بينهم الكؤوس في جلسة ستطول عدة ساعات قبل أن يغرق بعضهم في النوم في مكانه بينما يغادر الأمير زياد لجناحه برفقة أحد الخدم وهو يترنح ويضحك لأقل كلمة.. وفي جانب آخر فإن الملك ظل ساهراً بدوره برفقة بعض وزرائه يتناقشون أمر الهجمات التي طالت قوافل تجارية خرجت من (الزهراء) نحو أحد الجوانب القصيّة من المملكة.. ومغزى مثل تلك الهجمات المتكررة في طريق اشتهر بأنه آمنٌ يسلكه التجار كل عام لتسويق بضائعهم..
في تلك الليلة، لم تكن رنيم قد غادرت سريرها سوى بعد المغيب لاستبدال ملابسها ولتناول بعض الطعام بعد أن أجبرتها كاينا على ذلك.. فمنذ صدمتها لما يخططه الأمير زياد لها، وهي محبطة ومكتئبة بحيث لا تملك الإرادة للجلوس ناهيك عن الخروج من جناحها أو مقابلة أي شخص من القصر.. وبالطبع لم يعبأ شخص لأمرها بعد رحيل نوران وهي الوحيدة التي أبدت اهتماماً صادقاً تجاهها، ومع انشغال مجد وعدم تمكنه من الاقتراب من جناحها لئلا يثير تصرفه الأقاويل في شأنها وشأنه..
ظلت رنيم منطوية على نفسها في سريرها وهي تجبر عقلها على أن يتوه في عوالم أخرى بعيدة عن القصر وعن (الزهراء) وعن المملكة كلها.. بعد أن فقدت كتبها، فإنها فقدت وسيلتها الوحيدة للهرب من الخيبات التي تحاصرها.. لذلك لجأت لخيالها الذي اتسع وتمدد مع الحكايات والكتب التي أدمنت قراءتها لسنوات طوال.. سرحت في عالم تكون فيه طليقة.. وربما تكون كإحدى تلك الكائنات ذوات الأجنحة تحلق في السماء بكل حرية دون أن يقيدها شيء للتراب.. استرسلت في خيالها حتى غرقت في النوم بالفعل ليتمدد خيالها في حلم طويل وجدت نفسها فيه..
كانت في الحلم كائناً يغزو الريش اللامع الأخضر جسده، بذيل طويل جميل وجناحان يلتمع ريشهما تحت ضوء الشمس.. كانت تحلق بكل سلاسة ونعومة، وترى (الزهراء) من تحتها كأنها رقعة صغيرة لا تتجاوز متراً واحداً ولا تكاد تلمح بشرياً من سكانها لعلوّها في السماء.. أدارت رنيم بصرها عن الأرض التي باتت تمقتها وحوّلت بصرها للغيوم التي تعلو رأسها وهي تحاول جاهدة الارتفاع فوقها.. رفرفت بجناحيها بقوة ودفعت نفسها حتى اخترقت جانباً من الغيوم وارتفعت فوقها لتبدو لها الشمس الوليدة في الأفق أشد لمعاناً من أي وقت مضى..
اتسعت ابتسامة رنيم كما لم تفعل من قبل، ولم تلبث أن تحولت إلى ضحكة عالية مليئة بسعادة لم تذقها منذ زمن.. رغم أنها مدركة أن هذا لا يعدو كونه حلماً، لكنه كان أجمل من أن تتمنى انتهاءه.. تمنت لو سجنت نفسها في هذا الحلم للأبد ولم تعُدْ لواقعها القاسي.. فليس في حياتها ما يدعوها للتلهف عليه أو البكاء على فقدانه..
قطعت ضحكتها عندما لمحت ظلاً أسود يعلوها.. وعندما رفعت رأسها بدهشة فوجئت بذلك النسر الضخم الذي انقض عليها بقوة.. تلقائياً، رفرفت رنيم بجناحيها جزعة وهي تدير نفسها جانباً محاولة الهرب دون أن تدرك السبب.. من أين ظهر هذا النسر الضخم بشكل المرعب؟.. أهو ينوي اصطيادها؟.. لكنها وجدت مخالبه الحادة تنغرس في كتفيها قبل أن تتمكن من الهرب وهو يجثم بثقله عليها، ومع ثقله، بدأت رنيم تهوي بقوة من ذلك الارتفاع والأرض تقترب منها بسرعة شديدة.. أطلقت صيحة فزع والمدينة في الأسفل تتقارب منها بسرعة وشدة حتى بدت لها المنازل والأبراج واضحة أشد الوضوح.. ورغم محاولاتها، لم تتمكن من الإفلات من النسر الذي زاد من ثقله عليها وكأنه يدفعها عامداً للأسفل.. وكأنه ينتوي إجبارها على السقوط والارتطام بالأرض بأعنف ما يمكن.. ورغم صرخاتها، إلا أن رنيم أدركت أن نهايتها قادمة لا محالة..
وقبل أن تلامس الأرض، استيقظت جزعة وقلبها يدق بقوة.. واستغرق الأمر منها بضع لحظات لتدرك أنها لا تزال في جناحها المظلم في القصر.. فهمست لنفسها وهي تتأمل الظلام الدامس من حولها "يا له من حلم مقبض.. ما الذي يعنيه يا ترى؟.."
مسحت قطرات عرق احتشدت على جبينها عندما سمعت صوتاً خافتاً قرب سريرها.. رفعت بصرها بشيء من الدهشة بعد أن اعتادت عيناها على الظلام لترى خيالاً أسود طويلاً يقف وسط الجناح عند قدم سريرها.. لوهلة ظنت أنها لا تزال غارقة في ذلك الحلم الكئيب، لكن حركة حادة من ذلك الظل نحوها وهو يدفع يده تجاهها بشيء ما جعلتها تتراجع بحدة حتى ارتطم رأسها بالإطار الخشبي المذهب للسرير بأطرافه البارزة الحادة.. ومع الألم الذي نبض من مؤخرة رأسها، ومع التماعة ذلك السيف العريض الذي وجّهه الظل ناحيتها وكاد يلامس طرف أنفها، فإن رنيم انتبهت من نومها بشكل كامل وندت عنها صرخة حادة عالية حملت رعباً عارماً في ثناياها.. ومع صراخها، كان من المفترض أن تقضّ مضجع القصر الساكن في عتمة تلك الليلة.. لكن ذلك لم يحدث البتة ولم يبدُ أن أحداً سيهبّ لنجدتها، بينما بدرت من الظل الطويل كلمات حانقة بصوت عميق أثار فزعها أكثر قبل أن يمد يده ويزيح الستار الذي يحجب نور القمر الباهت عن المكان.. ومع النور الخفيف الذي أضاء أرجاء المكان، فإن ارتجافة رنيم قد تحولت نفضة عارمة وهي ترى بوضوح هوية ذلك الظل، وتتبين فيه رجلاً لم تره من قبل في القصر.. ثم سمعته يقول بصوت خشن ولكنة ثقيلة زادتها رعباً "أين جايا؟.."
رفعت بصرها له برعب بالعة ريقها بصعوبة.. كان الظل لرجل طويل عريض الكتفين بجسد ممشوق ووجه لوّحته الشمس بشدة.. ملامحه جافة وعيناه حادتان زادتاها رعباً وحاجباه المنخفضان ألقيا ظلالهما على عينيه السوداوين بحيث بدت نظراته مبهمة غامضة.. بوجهه غير حليق بينما أرسل شعره الأسود الطويل في ظفيرة على ظهره.. وثيابه هي مزيج من قماش قطني بلون داكن وسترة جلدية وحذائين من جلد مدبوغ بلون بني يصل لأعلى ساقيه وقد لفّ فوقهما شرائط من قماش سميك ثبتهما على قدميه بإحكام..
عاد الرجل يكرر السؤال على رنيم التي لم تتمالك ذهولها من هذا الهجوم على جناحها الواقع وسط القصر بغفلة من حراسه، ولما لم يجد إجابة لتساؤله عاد يلوح بسيفه العريض نحوها صائحاً بشيء من الحدة "أين جايا؟.. أجيبي.."
انتفضت رنيم واقفة بذعر وهزت رأسها بشدة دلالة عدم المعرفة أو عدم الفهم.. هل يبحث عن شخص ما أم عن شيء ما يسمى جايا؟..
في تلك اللحظة سمعت كلمات بصوت متوتر صدرت من باب جناحها، ثم رأت كاينا خادمتها الوفية وهي تهرع نحو الرجل وتجادله بشيء من العصبية.. ظلت رنيم تراقبها بذهول وعدم استيعاب.. مع هيئة ذلك الرجل الغريبة والمرعبة، ومع وجوده الأشد غرابة في هذا الوقت وهذا المكان، فإن خادمتها لم تظهر دهشة للأمر ولا خوفاً من ذلك الغريب، بالإضافة لتحدثهما بلغة واحدة لم تفقه رنيم منها حرفاً..
لاحظت أن الرجل ألقى عليها بنظرة حانقة بينما استمرت كاينا تحدثه بعصبية.. لكنه ألقى عدة كلمات حازمة عليها قبل أن يجذب رنيم من ذراعها بشدة متجهاً لباب جناحها.. جذبت رنيم ذراعها بقوة وهي تهتف برعب "أطلقني.."
حدجها الرجل بنظرة سبّبت لها نفضة قوية وشدد قبضته على ذراعها قائلاً بحنق "اصمتي.."
عاد يجذبها خلفه من جديد دون أن تُجدي مقاومتها المستمرة في منعه من ذلك، بينما سارعت كاينا تتبعها قائلة "لا تقلقي.. إنه لا ينوي لك شراً.."
التفتت إليها رنيم قائلة بنبرة مرتعبة "أتعرفين هذا المتهجم؟.. كيف دخل القصر وسط الحراسة المشددة؟.."
لم تكد تتم جملتها عند مغادرتهم جناحها حتى رأت في الرواق الواسع ما سبب لها صدمة شديدة.. فعلى ضوء المصابيح المتناثرة بشكل مدروس في الرواق القريب، رأت رنيم عدداً من الأجساد الملقاة أرضاً والدماء التي لطخت الجدران والأرضية دليل واضح لما جرى بغفلة منها.. غطت رنيم فمها بيد وهي تهمس "هل قتلتهم جميعاً؟.."
أسرعت كاينا تقول "ليسوا موتى.. فلا تقلقي.. أغلبهم نجا من الموت بأعجوبة.."
انتبهت في تلك اللحظة للأنين الصادر من بعض تلك الأجساد، وبدا لها أن إصاباتهم لا تبدو قاتلة، لكنها كافية لتعطيلهم.. زادت رنيم من مقاومتها لمختطفها على أمل أن يهبّ أحد الحراس لنجدتها، وصاحت بصوتٍ عالٍ وهي تجذب ذراعها "أنقذوني.. ليساعدني أحدكم.."
لكن من رأته يقترب من مختطفها من الجهة الأخرى للرواق لم يكن حارساً جلّ همه إنقاذها، بل رجلان لا يختلفان كثيراً عن مختطفها في الشكل والزي والسيف العريض الذي يخلو من أي زينة أو غمد.. قلّبت رنيم بصرها فيمن حولها بصدمة وهي تسمع الحوار الذي دار بين الثلاثة، وقد بدأت تدرك أبعاد ما جرى في القصر في غفلة من الجميع.. لم يكن ذلك تسللٌ قام به رجل واحد، بل هجوم قامت به جماعة لا تعلم رنيم عدد أفرادها.. جماعة نجحت في التغلب على تحصينات القصر وأسواره بوسيلة ما وتخلصت ممن يواجهها من الحراس والآن قد تمكنت من القبض عليها لسبب لا تفهمه..
التفتت رنيم إلى كاينا القريبة قائلة بصدمة وغضب "أأنت سبب كل هذا؟.. هل سهّلت لهؤلاء المتوحشين التسلل للقصر والتنكيل بمن فيه بكل حقارة؟.."
رفعت كاينا رأسها قائلة "لست أنا الحقيرة وأنا التي اختُطفت وأُجبرت على الخضوع لأصحاب هذا القصر بكل ذِلّة.."
قالت رنيم بنظرات قلقة "وهؤلاء؟.. أهم من الرعاع أيضاً؟.."
رمقها الرجال الثلاثة بشيء من الحدة بينما قالت كاينا بحزم "أنتم من أطلق علينا هذا اللقب.. لكننا لسنا رعاع.. نحن الهوت ونفخر بذلك.."
استدار الرجل الأول إليها مشدداً قبضته عليها وقال بحدة "كفى جدالاً.. لن أطلقك حتى أعرف ما فعلتموه بجايا.. أين هي؟.."
قالت رنيم بقلق "لكني لا أعلم من هي جايا ولا أين هي.. أطلقني أرجوك فلا شأن لي بأي شيء.."
سارعت كاينا تقول "هي بالفعل لا تعلم شيئاً.. لقد جاءت للقصر منذ وقت قصير ولا تدري بأي شيء جرى فيه سابقاً.."
صاح الرجل بكاينا بغلظة "كيف لا تعلمين أنتِ من أمر جايا شيئاً؟.. ما الذي كنت تفعلينه في الأشهر الماضية؟.."
قالت كاينا بتوتر "لقد فقدتُ أثرها منذ أيامٍ عدة.. وحريّ بسؤالي عنها أن يجذب الأنظار إليّ.. لكني لم أتوانَ عن البحث عنها بكل ما أملك دون أن أكشف من أمرنا شيئاً.."
وإزاء نظرات الرجل الحادة أضافت بسرعة "كل ما يمكنني تأكيده أن آخر من خدمته كان الأمير زياد.."
غمغم الرجل بحنق "زياد؟.. ذلك الوغد.. لن يفلت من يدي مهما اختبأ أو هرب.."
نقلت رنيم بصرها بينهم ثم قالت بتوسل "ها أنت تدرك ألا علاقة لي بهذا الأمر.. فأطلقني أرجوك.."
قبل أن يجيبها الرجل سمعا صياحاً من رجل آخر بتلك اللغة الخاصة بالهوت توتر لها الرجال جميعاً.. وصاحب ذلك صوت بعض البنادق يندلع في أرجاء أخرى من القصر.. وسرعان ما بدأ الرجال يتراجعون رغم الحنق على وجوههم، وبالمثل تبعتهم كاينا دون تردد.. عندها وجدتها رنيم فرصة للهرب من قبضة ذلك الرجل الذي انشغل عنها للحظات، فجذبت ذراعها بقوة واستدارت هاربة بأسرع ما تستطيع.. لكنها لم تكد تبتعد حتى فوجئت به يلحقها بخطوات واسعة ويضربها بقوة على ظهرها أسقطتها أرضاً.. عندها سارع للوي ذراعيها خلف ظهرها ثم قيّد يديها بشدة بحزام ثوبها القطني.. صاحت رنيم وهي تقاومه "ما الذي تبغيه مني؟.. ماذا تنوي فعله بي؟.."
قال الرجل وهو ينهضها واقفة "أنت زوجة زياد.. ألستِ كذلك؟"
اتسعت عينا رنيم بقلق محاولة إدراك مغزى قوله، لكنها فوجئت به يحملها ويضعها على كتفه بخفة كأي جوال قمح، وسرعان ما لحق بالبقية دون إبطاء.. فصاحت رنيم وقاومت بشدة وهي تحاول الإفلات من قبضته القوية ومن مصير تخشاه بشدة.. كانت تجد أنها تتعرض للاختطاف وسط القصر وعلى مرأى من حراسه دون أن تجد من يمد يده لمعاونتها.. فأين اختفت الخادمات وبقية الحرس؟.. وأين الأمير زياد، زوجها المستقبلي؟.. بل أين اختفى مجد الذي كان عوناً لها منذ قدومها ووعدها أنه سيحميها دائماً؟..
وجدت أن الجمع الصغير قد اتجه لأبواب زجاجية تؤدي لشرفة واسعة مرتفعة تتجاوز حجم الشرفات العادية.. ووسطها، وعلى ضوء القمر، لاحظت رنيم تلك الأعين الملتمعة كأعين الهررة بلونها الأخضر المشع بينما تدلى اللسان الطويل من الفم الواسع بأنيابه الحادة.. شهقت رنيم بشدة وهي ترى تلك الكائنات رأي العين للمرة الأولى، فرغم معرفتها بها إلا أنها لم ترها سابقاً إلا في بضع لوحات مرسومة متناثرة في عدد من أروقة القصر.. لم تكن تلك الكائنات التي انتصبت وسط الشرفة، وعددها لا يقل عن خمس، إلا تنانين على شيء من الضخامة.. وقد التمع جسدها على نور القمر الشحيح وبعضها مغطىً بحراشف سميكة، بينما فردت أجنحتها العريضة التي تشبه أجنحة الخفافيش وحركتها بقوة دافعة الهواء بصوت واضح أيقظ رنيم من ذهولها..
ركلت رنيم وصرخت بشدة لدى رؤيتها تلك التنانين التي وقفت بتململ وهي تصدر فحيحاً من أفواهها بتهديد واضح.. لم تكن تحلم بلقاء هذه الكائنات يوماً، ولم تكن تعرف عنها إلا ما قرأته في متون الكتب في مكتبة أبيها الضخمة، وكل ما عرفته أنها تعيش في الجانب الشمالي من القارة العظمى حيث الجو أكثر برودة، وحيث تؤمن لها الجبال العالية مأوىً يناسب طبيعتها المتوحشة.. والآن تراها وتقترب منها في هذه الظروف الصادمة وفي لحظة اختطافها قسراً من أشخاص لا تعرفهم ولسبب تجهله تماماً.. لكن الرجل الذي يحملها شدّد قبضته عليها وهو يقترب من أحد أشرس التنانين مظهراً بلون أبيض وأطراف حمراء، جلده ثخين يكاد يخلو من الحراشف التي كست أجساد بعض التنانين الأخرى، وعيناه خضراوان لامعتان فوق أنف طويل ينتهي بفم مدبب بأسنان صفراء حادة.. لاحظت رنيم نوعاً من اللجام البدائي في فم التنين وسرج غريب الشكل على ظهره، ويعلو طرفا السرج الأمامي والخلفي أكثر من المعتاد ليمنحا الراكب ثباتاً أكبر.. تلفتت رنيم حولها برعب وارتباك بحثاً عمن ينقذها، لكن القصر بقي هادئاً بشكل مريب، بينما امتطى الرجال الذين سبقوهما ظهور التنانين الأخرى وكل منهم يردف خلفه إحدى الخادمات اللواتي ينتمين للهوت.. وانتبهت رنيم لعدد آخر من تلك الكائنات تحلق في الجو ولا يكشفها إلا نور القمر الشاحب..
سمعوا في تلك اللحظة خطوات راكضة من خلفهم لعدد من الأشخاص، وسرعان ما ظهر عدد من الحراس من بوابة تلك الشرفة حاملين بنادقهم بتأهب يتقدمهم مجد الذي صاح "قفوا واستسلموا حالاً.. الحراس يحاصرونكم من جميع الجهات.."
تلفتت كاينا بتوتر لتلاحظ جمعاً آخر من الحراس يقف في جوانب الحديقة وفي الشرفات الأخرى موجهين بنادقهم تجاه الدخلاء بتحذير واضح.. ولدى رؤية مجد، صاحت رنيم بهستيرية "أين كنت يا مجد؟.. كيف يتم اختطافي بكل بساطة من القصر وأنت موجود؟.."
قال مجد بحزم وهو يتقدم "لم أكن لأسمح بذلك.. كنت فقط أؤمّن الملك وعائلته قبل قدومي إليك.."
شعرت رنيم بشيء من المرارة لقوله.. طبعاً الملك وأفراد عائلته أهم منها، وما سيجري لها سيحتل المرتبة الثانية من اهتمامات مجد وحراس القصر.. لماذا لا تشعر بأي صدمة لهذا؟..
توقف مجد عن تقدمه فجأة عندما أنزل المختطف رنيم من على كتفه بعنف ووجّه سيفه العريض إلى عنقها بتهديد واضح.. دار مجد ببصره في الرجال والخادمات أمامه للحظة، ثم قال بحزم "لو حاولتم الهرب فلن نتردد في إطلاق رصاصات بنادقنا عليكم.."
قال الرجل بسخرية "ألا يهمك أمر الفتاة؟.."
قطب مجد بينما أضاف الرجل بصرامة "لو أردت استعادتها فأعد جايا إلينا.. هذا هو شرطنا الوحيد.."
كان دور مجد لتنتابه الحيرة وهو يتساءل "ماذا تعني؟.. من هي جايا؟.."
صاح الرجل بحدة "لا تتظاهر بالغباء.. فهذا لن يجعلني أكثر تسامحاً في معاملة هذه الفتاة.."
سمعوا أحد رجال الهوت يجادل الأول بشيء من العصبية، دون أن يخفف الأول نظراته الحادة والحازمة التي وجهها لمجد وحراس القصر.. وقبل أن يتصرف أحد الحرس بحركة، أصدر أحد التنانين زمجرة قوية نحو الحراس صاحبها فحيح من آخر أثار الفزع في قلوبهم وجعلهم يتراجعون خطوات تاركين مجد يقف في موقعه بمفرده.. ولم يكد الحراس يستعيدون ثباتهم حتى فوجئوا بالرجل يرمي رنيم على ظهر التنين القريب ويقفز خلفها بدوره جاذباً العنان بقوة، لينطلق التنين على الفور بعد أن زمجر بتحذير شديد.. ووسط صراخ رنيم المرتعبة، فإن مجد الذي كان الأسرع حراكاً ركض بسرعة متجاوزاً المسافة البسيطة التي تفصله عن الدخلاء، ثم قفز بأقوى ما يملك ليتعلق بساق التنين الذي يحمل الفتاة.. وبينما أطلق التنين صيحة غاضبة وهو يواصل ارتفاعه، فإن مجد زاد من تشبثه بالتنين وهو يحاول رفع جسده عالياً.. لكن الرجل سارع لركل مجد بغير ترفق حتى أسقطه من ذلك الارتفاع الذي لا يقل عن خمسة أمتار وسط نظرات رنيم المرتعبة..
سقط مجد سقطة مؤلمة رغم محاولته تخفيف سقطته تلك، وقبل أن يعتدل سمع أحد الحراس يصيح بالبقية "أطلقوا الرصاص على التنانين.. امنعوها من الهرب.."
بدأ الحراس في إطلاق رصاصات بنادقهم على التنانين بتوتر كبير بينما نهض مجد قابضاً على ذراعه اليمنى التي اشتعلت بألم حارق، وصاح في رجاله "حاذروا من إصابة الأميرة.."
كانت الرصاصات غير مجدية في التصدي للتنانين التي نجح جلدها السميك المغطى بالحراشف في تخفيف تأثير الرصاصات وصدّها في بعض الأحيان.. وبينما حاول راكبوها تفادي ذلك السيل المنهمر من كل الاتجاهات، فإنهم فوجئوا بصوت مدفع يدوي من جانب القصر قبل أن يلمحوا طلقة مشتعلة تطير تجاههم شاقة السماء المظلمة.. تفادت التنانين تلك الطلقة بصعوبة ليجدوا أن طلقات أخرى بدأت تتبعها بغزارة وقد أضاءت جانباً من الظلام المهيمن على القصر والسماء..
صاح الرجل الذي اختطف رنيم بالبقية وهو يناور طلقة كادت ترتطم بصدر التنين "يكفينا هذا.. لنتراجع في الوقت الحالي.."
وجذب العنان في يده ليرتفع بالتنين بسرعة فائقة وحركة بدت مجنونة لرنيم التي صرخت بشدة وهي لا تصدق ما يجري لها.. ووسط شهقاتها المرتعبة، فإن الأرض تضاءلت أمام عينيها بسرعة كبيرة بينما الطلقات المشتعلة ما تزال تشق السماء نحوهم.. ومع طيران التنين بحركات خطرة، تزايد شعور رنيم بأن جسدها يكاد يفقد توازنه حيث ألقاها الرجل على بطنها فوق التنين دون أن يفك قيد يديها ليسمح لها بالتشبث بالسرج.. وإزاء منظر كهذا، وانفعالات عنيفة كالتي مرت بها، لم تجد رنيم ما تفعله أفضل من أن تفقد وعيها في محاولة للهروب من ليلة أثارت رعبها بلا حدود..
*********************
بعد وقت طويل، والأمير زياد قد استنفذ كل الصبر عنده حيث اختبأ مع بعض الحرس في أحد الأجنحة القصيّة من القصر، رأى مجد يدلف الجناح بذراع مجبرة بشكل بسيط ومعلقة في عنقه برباط قوي.. فقال زياد بتقطيبة "ما الذي جرى؟.. هل نجحت في التخلص من أولئك الدخلاء؟"
زفر مجد قائلاً "لقد غادروا بالفعل.. لكنهم قد استعادوا جميع الفتيات اللواتي جلبهن الملك من الهوت.."
قال زياد بحنق "كيف يحدث هذا في قصر أعظم ملك في الدنيا؟.. هذه وصمة عار علينا، وعليك أنت بالذات وأنت المكلف بحراسة هذا القصر وأصحابه.."
قال مجد خافضاً رأسه "أعلم ذلك يا مولاي.. لكنني أشدد الحراسة على القصر كل ليلة لتفادي أي هجوم من الخارج.. ولم أتوقع يوماً أن يبدأ الهجوم من الداخل، بواسطة هاته الفتيات اللواتي يعلمن مداخل القصر ومخارجه.. كما أنني لم أتوقع يوماً أن يتركز الهجوم على القصر من الأعلى.."
قال زياد بحدة "هذا لن يعفيك من العقاب بتاتاً.. نحن في حالٍ يرثى لها بسببك.."
قال مجد دون أن يقابل عيني زياد بعينيه "هناك أمر آخر يا مولاي.."
سأله زياد بجفاء "ما هو؟.. هل سرق أولئك الرعاع شيئاً من القصر؟.. سيكون ذلك متوقعاً.."
أجاب مجد بتوتر "لا.. لكن أحدهم قام باختطاف مولاتي رنيم.."
نظر له زياد مقطباً، بينما أضاف مجد "لقد تحدث المختطف عن فتاة اسمها جايا.. وطالب بإعادتها.."
قال زياد رافعاً حاجبيه "آه.. تلك الفتاة؟.. لقد اختفت منذ مدة طويلة.."
فقال مجد "عليّ أخذ فرقة من الجنود واللحاق بهم قبل أن يبتعدوا عن (الزهراء) كثيراً.. ربما أستطيع إجبارهم على الهبوط بتلك التنانين بوسيلة ما، وعندها......."
قال زياد بجفاء "لا تتعب نفسك.. لا يهمني ما يجري لتلك الفتاة.."
نظر له مجد بدهشة وعدم استيعاب، ثم قال "مولاي.. إن مولاتي رنيم....."
قال زياد بحدة "أخبرتك أن تنسى أمرها.. ألا تفهم؟.. سلامتي وسلامة الملك أهم من تلك التافهة.."
ثم استدار مبتعداً وهو يدمدم "هذه فرصة أتتني من السماء للخلاص منها.. والآن يتوقعون مني أن أحاول جهدي لاستعادتها؟.. هذا أمر مضحك.."
تبعه مجد قائلاً بإلحاح "مولاي.. لا يمكنني التخلي عن مولاتي رنيم.. عليّ استعادتها قبل أن يفعل بها أولئك الرعاع شيئاً.. لو أصابها أي مكروه، فإن الملك قصيّ لن يصمت على هذا.."
قال زياد باستهزاء "الملك قصيّ؟.. وما الذي يمكن أن يفعله ذلك التافه تجاه مملكتنا العظيمة؟"
ثم أضاف ضاحكاً "أراهنك أنه سيسارع لإرسال ابنة أخرى لاستبدال تلك التي فشلت.. فلا يمكنه أن يفرّط في علاقات مملكته البائسة بنا بسهولة لأجل فتاة.."
لم يكن رد فعل الأمير زياد مفاجئاً لمجد، ولم يكن توقعه عن رد فعل الملك قصيّ بمستغرب.. فكما قالت رنيم مراراً، أهمية وجودها في الحياة هو في نجاحها فيما سيقت له.. وفشلها يجعلها لا تستحق اهتماماً من أحد.. أيمكن لحياتها أن تكون أكثر جفافاً وقسوة رغم ما يحيط بها من نعيم؟..
وقف مجد وسط الجناح مقطباً بشدة، ثم قال بلهجة حازمة "عذراً يا مولاي.. بعد أن أتأكد من تخلصنا من الدخلاء، سأذهب على رأس فرقة صغيرة من الجنود لاستعادة مولاتي رنيم.. هذا واجبي، وما حدث لها كان بسبب تهاوني.. لذلك......"
قاطعه صياح زياد بغضب "ماذا تعني؟.. أتعصي أوامري؟"
قبل أن يعترض مجد بكلمة، جاءه صوت الملكة سليمة وهي تقول بصرامة "عصيان أوامر الملك أو ولي عهده كفيل بجعلك في مصاف الخونة يا مجد....."
نظر مجد للملكة التي اقتربت منهما بتقطيبة وهي تضيف بصرامة "وأنت تعلم عقوبة الخيانة جيداً.. أليس كذلك؟"
قال مجد بضيق "وهل الحفاظ على سلامة أحد أفراد العائلة المالكة يحسب خيانة؟"
أطلق الأمير زياد ضحكة ساخرة والملكة تضيف بابتسامة جانبية "تلك الفتاة لم تكن، ولن تكون جزءاً من العائلة المالكة.. وبعد ما جرى لها الليلة، فإنها لم تعد بمكانة تسمح لها بالتشرف للانضمام لعائلة الملك عبّاد.. لذلك لا تتعب رأسك بأمرها كثيراً.."
خفض مجد رأسه بضيق شديد، أهو ذنبها أنها اختطفت من قصر الملك وسط الحراسة المشددة؟.. ثم قال محاولاً الثبات على موقفه "مع احترامي لك ولولي العهد يا مولاتي، لا يمكنني بتاتاً أن........"
قاطعه صياح من جانب الجناح وأحد الخدم يقترب مسرعاً من الملكة صائحاً "مولاتي.. مولاي.."
التفتت إليه الملكة قائلة بضيق "ما الأمر؟.. لمَ هذا الصياح المزعج؟"
قال الخادم وهو يشير خلفه بفزع ظاهر "مولاي الملك عبّاد.. إنه.... إنه......."
لم يكن الأمر بحاجة لتفصيل ومجد يركض دون إبطاء نحو الغرفة الداخلية في الجناح حيث الملك، ولم يلبث الأمير زياد والملكة أن تبعاه بتوتر كبير.. يبدو أن هذه الليلة لن تنتهي برحيل الدخلاء واستتباب الأمن في قصر الملك الواسع..
*********************
عندما استيقظت رنيم، بعد وقت لا تعلمه، وجدت نفسها راقدة على أرض عشبية باردة مبللة بالندى الذي تسلل لثياب نومها القطنية.. وأول ما رأته، بعد أن فتحت عينيها، هو ذلك الوجه الضخم بأنيابه البارزة الغارقة بالدماء والعينان الخضراوان الملتمعتان.. شهقت رنيم بذعر كبير وهي تنهض مفزوعة لذلك المنظر، وقبل أن تطلق صرخة ذعر لمرأى ذلك التنين قريباً منها، اقتربت منها كاينا بسرعة قائلة "لا تخافي.. إنه لن يؤذيك.."
صاحت رنيم برعب وهي تتراجع زاحفة "ألا ترينه؟.. ألا ترين الدم الذي يسيل من شدقيه؟"
قالت كاينا مبتسمة "لقد تناول وجبته قبل قليل.. لذلك لن يفكر بإيذائك ما لم تفزعيه بصراخك.. لم أتوقعك بهذا الجبن يا رنيم.."
نظرت رنيم للتنين بتوتر كبير، ثم نظرت لكاينا بدهشة لدى سماع اسمها.. فأكدت كاينا قولها معلقة "لم أعد أعمل في القصر ولستِ سيدتي.. لذلك يحق لي أن أناديك باسمك.. أليس كذلك؟"
قالت رنيم بصوت مرتجف "كيف؟.. كيف تفعلين هذا بي؟.. أنا لم أسئ إليك قط، ولم أعاملك كما يفعل الآخرون.. فلماذا تعاقبيني بهذه الطريقة؟"
قالت كاينا بأسف "لم أهدف لعقابك، ولم أكن أتمنى أن يحدث هذا لك.. لكن بعد أن عجزنا عن العثور على جايا، فإن ذلك الرجل خشي أن ينتقم الملك منها بسبب هروبنا.. لذلك كان اختطافك ضماناً لئلا يصيب جايا أي ضرر، وليتمكن من مبادلتك بها عندما يحاول الملك استعادتك.."
دارت رنيم ببصرها في المجموعة حولها من الرجال ومن الفتيات اللواتي كن يخدمن في قصر الملك.. ثم قالت بصوت مرتجف "ومن هي جايا؟"
نظرت كاينا للرجل الذي اقترب منهما قائلاً بحزم "أهذا وقت تفسير الأمور؟.. علينا الرحيل.. فرقة من الجنود تقترب من موقعنا.."
نهضت كاينا بتوتر، بينما راود رنيم شيء من الأمل أن تتمكن من التحرر من مختطفيها هؤلاء.. لابد أن يكون مجد على رأس تلك الفرقة من الجنود بحثاً عنها، فلا تشك أنه الوحيد الذي سيسعى خلفها من (الزهراء) كلها..
اقتربت كاينا من الرجل قائلة بلغة الهوت "ما الذي ستفعله الآن بعد هذه الحماقة التي ارتكبتها؟.. هل ستأخذ الفتاة للقرية حقاً؟"
قال الرجل مقطباً "هذا كل ما يمكنني فعله.. لا يمكنني البقاء معها في العراء ولا أضمن ألا يستعيدها الجنود قسراً مني.. عليّ أن أستعيد جايا مهما كانت الوسيلة.."
قالت كاينا محتدة "ليس بهذا الأسلوب.. ألا تعرف حقاً ما سيفعله أهل القرية عند رؤيتها؟.. أنت لا تستطيع ضمان سلامتها في القرية أكثر من أي موقع آخر.."
قال بشيء من الضجر "لا داعي لهذا التذمر.. أخبرتك أنني واثق مما أفعله.."
لوحت كاينا بإصبعها في وجهه قائلة بصرامة "هذه الفتاة الطيبة لا تستحق أي شيء مما جرى لها.. ولو أصيبت بأي مكروه، فلن أسامحك على ذلك بتاتاً.."
لم يعلق الرجل على قولها وهو يقترب من رنيم ويجذب ذراعها قائلاً "هيا بنا.. سنغادر في الحال.."
جذبت رنيم ذراعها وهي تقول بصوت متوسل "استمع إليّ.. أنا لن أفيدك بشيء.. الأمير زياد يرغب بالتخلص مني ولن يهتم لأمري بتاتاً.. أخطأت بخطفي أنا من بين جميع من في القصر.."
قال الرجل بتقطيبة "أتظنين أنك ستخدعينني بهذا القول؟.."
صاحت وهو يجبرها على النهوض "أنا لا أكذب.. استمع إليّ.. لا تعوّل على أهميتي لدى الملك أو الأمير زياد.. فأنت ستكون الخاسر في النهاية.."
لكن الرجل لم يعبأ لاعتراضها وهو يقترب بها من التنين الذي لعق بلسانه الطويل ما سال على فكه من دماء، وبدت لها أنيابه الصفراء ضخمة وواضحة أشد الوضوح.. حاولت رنيم التنصل من قبضة الرجل وهي تهز رأسها بقوة صائحة "أرجوك.. لا تفعل هذا.. ستندم على هذا.."
جذبها الرجل بشدة وهو ينظر لها بغضب قائلاً "أتهددينني؟"
هزت رأسها بقوة وذعر من نظراته الحادة، فيما قال بحدة "أتظنين أنك في موقع يسمح لك بتهديدي؟.. أنت بلهاء.."
غمغمت رنيم بتوسل "لم أعنِ ذلك.. عنيت أنك لن تستفيد من هذا الذي تفعله.."
لكنه جذبها رغم توسلاتها ورفعها عنوة ليضعها فوق السرج على ظهر التنين، ثم امتطى ظهر التنين بدوره خلفها بينما انكمشت هي بشدة وهي تتلفت حولها بحثاً عمن يمكن أن يقف في صفها، وتقلب بصرها في الأفق ترقباً لقدوم فرقة الجنود.. لكن كاينا، كما كانت بقية الفتيات، كن قد تجاهلنها بشكل تام وكأن ذعرها وثورتها بغير سبب مفهوم.. بينما لم يبدُ لجنود الملك أي أثر في أي موقع قريب..
وبكلمة واحدة، حذرها الرجل بحزم "تمسكي.."
لم تملك رنيم الاعتراض وهي تتشبث برأس السرج العالي أمامها، وبحركة حادة ارتفع التنين بقوة مرفرفراً بجناحيه والهواء يندفع بقوة حولها بحيث أغمضت عينيها بذعر مستسلمة للانفعالات التي عصفت بها..
التفت الرجل حوله للحظات، ثم قال لرفاقه الذين تبعوه على التنانين الأخرى "لنذهب قبل قدوم الجنود.. لن نتوقف قبل الوصول للقرية.."
لم يعترض أحدهم بكلمة وهم يدفعون التنانين للتحليق متخذين وجهة واحدة يعرفونها تمام المعرفة.. رغم أن الهوت يوصفون بالرعاع من بقية شعوب العالم، ورغم ما يبدو عليهم من عدم تحضر وجهل، إلا أنهم يملكون وسائلهم الخاصة في ترحالهم وفي تطويع تلك الحيوانات التي عجزت شعوب العالم عن الاقتراب منها.. ولم يكونوا بحاجة لآلات معقدة وحسابات طويلة لتحديد وجهتهم نحو موطنهم، بل يسيرون إليه بسلاسة ودون أخطاء كما ينجذب رأس البوصلة للشمال بدقة في كل مرة..
ظلت رنيم في موقعها منكمشة على نفسها بشدة وهي تتشبث بالجزء المرتفع من السرج أمامها وتغمض عينيها بقوة.. كانت تكفيها الحركات القوية التي يقوم بها التنين كي تصاب بدوار وتشعر بنفضة شديدة في جسدها.. ترى ما سيكون شعورها عندما تفلت السرج وتسقط من على ظهر التنين هاوية للأرض من هذا الارتفاع الشاهق؟.. هل ستفقد وعيها من الذعر أم أنها ستحتفظ بحواسها وهي تراقب اقتراب الأرض منها بشكل متسارع ومفزع؟.. تذكرت ما انتهى عليه حلمها المفزع، ولم يكن هذا ليهدئ روعها بحال..
شعرت بالتنين يهوي شيئاً ما قبل أن يميل جانباً بقوة، فأطلقت صيحة ذعر وانكمشت أكثر وهي تحاول تمالك ذعرها وتتمنى لو تفقد الوعي من جديد لكي ترتاح من هذا الخوف المفزع.. لكن الرجل خلفها قال بشيء من الحدة "لا تنطوي بهذه الطريقة فوق ظهر التنين.. خوفك يصيبه بتوتر فهو يشعر برجفة جسدك الواضحة.. افتحي عينيك وكفي عن هذا الخوف.."
قالت رنيم بصوت متهدج وذعر واضح "محال.. أنزلني على الأرض فوراً.. لا أطيق البقاء على ظهر هذا الحيوان أكثر من هذا.."
قال الرجل بحنق "ألا تنسين أنك أميرة حتى وأنت بعيدة عن القصر؟.. قلت لك افتحي عينيك وكفي عن التشبث بالأرض لهذه الدرجة.. ألا تطيقين الابتعاد عن التراب للحظة واحدة؟.."
شيء ما في قوله جعلها تقاوم ذعرها وتفتح عينيها ببطء لتسمح لنفسها بالنظر لما حولها.. كانت التنانين الأخرى تطير حولهم بشكل متماوج، ترتفع وتنخفض بتناغم واضح وهي ترفرف بأجنحتها الضخمة بحركات هادئة.. وفي الأفق، بدأت الشمس تعلن عن وجودها بنور ذهبي قوي دحر ظلمة تلك الليلة وأكسب الغيوم القريبة لمعة وإشراقاً غير معهودين..
بدأت عينا رنيم تتسعان وهي تنظر للغيوم التي تقترب منهم فيخترقها التنين بقوة واندفاع دون أدنى تردد، لتجد رنيم أن الغيوم الرطبة قد لمست وجهها بخفة مثيرة برودة شديدة في بشرتها وهي تشمّ رائحة منعشة لم يسبق لها أن شمّتها من قبل..
شيئاً ما، تناست رنيم موقفها الحالي، وتناست التنين الشرس الذي تمتطي ظهره، وكل فكرها منشغل بالأفق الذهبي الذي تبدّى بقوة بعد الظلمة الكئيبة لتلك الليلة التي لم يتسنّ لنور القمر الشحيح أن يخفف منها.. كانت المشاعر القوية التي تعصف بها، ممتزجة مع الأفق المنير، وانعكاس الضوء الوليد على الغيوم من جهة بينما تتشبث الزرقة بها من الجهة الأخرى بإصرار، والرياح التي حملت برودة رغم شدتها إلا أنها كانت منعشة نوعاً ما، واللون الأزرق البهيج الذي تبدّى من تحتهم وهم يعبرون إحدى البحيرات الكبيرة التي عكست بعض أشعة الشمس مع بدء هذا النهار.. كل هذا جعل رنيم تصمت مذهولة وهي تراقب ما يجري.. شعرت أنها في عالم آخر بالفعل.. في عالم لم تعرفه إلا من صفحات الكتب، ومن مخيلتها الواسعة التي لم تجمح لتنقل لها هذه الصورة التي تراها الآن..
هل كانت رنيم تتخيل وهي تمسك أحد تلك الكتب التي يعلوها الغبار وتحلم وهي مسندة رأسها إلى الأرفف الخشبية القاسية أنها ستنتقل لعالم آخر رغماً عنها في غمضة عين؟.. أكانت تتخيل أن تعيش هذه اللحظة التي بدت لها مستحيلة وجدران القصر السميكة تخنقها ومن خلفها أسوار المدينة العالية؟..
رغم أنها مدركة أن عواقب ما تمر به ستكون وخيمة عليها.. ورغم قلقها مما سيفعله بها هؤلاء الرعاع، ورد فعل أبيها الملك والملك عبّاد على ما جرى لها، إلا أنها تناست واقعها في لحظة وهي تستغرق فيما تراه بكل مشاعرها..
سمعت الرجل يعلق من خلفها "يبدو أنك تناسيتِ خوفك في لحظة.."
عاد لها واقعها بسرعة، فعادت تتشبث بالسرج بقوة وهي تقول بصوت مرتجف "أرجوك.. أطلقني.. أنا لا ذنب لي فيما جرى لمن تبحث عنها.."
قال الرجل بحزم "لم أقل إن لك ذنباً فيما جرى.. لكنك وسيلتي لاستعادتها، ولضمان سلامتها من غدر الملك.."
خفضت رنيم عينيها قائلة بصوت مرير "لكن.. لمَ أنا؟.. لمَ لمْ تختطف الملكة أو تختطف الأمير زياد نفسه؟.. لمْ استهدفت شخصاً بغير أهمية مثلي؟"
علق الرجل "كفي عن التقليل من شأنك بهذه الصورة.. واتركي الملك والأمير زياد يقرران أهميتك عندما أتفاوض معهما.."
راقبت رنيم الغيوم المتسارعة حولهما وهي منشغلة بأفكارها المريرة.. كيف حدث ما حدث؟.. كيف انقلب واقعها بهذه الصورة؟.. وما ذنبها ليحدث كل هذا لها؟..
*********************
تدافعت دموع الملكة سليمة غزيرة وهي تقف قرب نافذة زجاجية ضخمة تطل على حدائق القصر في قلب (الزهراء) متأملة الشمس التي ارتفعت سريعاً شاقة السماء.. كانت تقف وحيدة في إحدى القاعات، تستمع للصمت من حولها دون أن تتمكن من إيقاف دموعها أو رجفة شفتيها..
بعد وقت قصير، سمعت صوت باب القاعة يفتح وصوت حذائي الأمير زياد الواضحين يقتربان منها قبل أن يقول بضيق "أمازلت تبكين يا أماه؟.. أأنت حزينة حقاً لما جرى؟"
قالت بشيء من الحدة "لست حزينة على ما جرى قدر هلعي مما سيجري.. فحريّ بشابٍ أحمق مثلك أن يجهل تبعات ما حدث هذا اليوم.."
زفر زياد بضيق واضح والملكة تدور في الموقع مدمدمة بغيظ وهي تمسح دموعها المتدافعه بمنديل في يدها "الملك مات.. من كان يتخيل أن يموت الملك العظيم عبّاد بسبب سمّ دسّته له إحدى الخادمات الملعونات قبل فرارهن؟.. هذا شيء لم أتوقعه في أحلامي.."
هز زياد كتفيه معلقاً "وماذا في ذلك؟.. سأتولى أنا الحكم وستبقين أنت الملكة الأم في مملكة بني فارس.. لن يتغير شيء بتاتاً.."
نظرت له مقطبة بعين غير راضية، ثم قالت بجفاء "أتظن أن شاباً خليعاً مثلك يقدر على الحفاظ على مملكة هائلة كهذه؟.."
ودارت في موقعها من جديد قائلة "الويل لي لو تفككت هذه المملكة على يد ابني.. كيف يمكننا تفادي مثل ذلك؟.."
قال زياد وهو يرمي جسده على كرسي قريب باسترخاء "أنت تبالغين يا عجوز.."
نظرت له بتقطيبة شديدة، ثم تقدمت منه وقبضت على مجمع ثوبه ورفعته حتى واجهت عيناه بعينيها قائلة "أنسيت أنك لا تقابل بترحيب من أغلب القيادات في (الزهراء)؟.. قائد الجيش فِراق بالذات لا يطيق النظر لوجهك.. كيف تتوقع منه أن يقسم بالولاء لك؟"
قطب زياد وقد انتقل قلق الملكة إليه، بينما تخلت عنه الملكة وهي تقول بحزم "عليك أن تتصرف بسرعة.. يجب أن تدعّم مُلكك بأشخاص يدينون بالولاء لك، وتحسم أمر خصومك قبل أن يفيقوا لأمرك.."
غمغم زياد "لم يمضِ على موت الملك ساعات معدودة.."
شدّت الملكة جسدها ووقفت وسط القاعة باستقامة وهي تقول بحزم صارم "عليك أن تحسم الأمر الآن، أو تفرّ من القصر قبل أن تعامل كملك مخلوع.. وصدقني لن تكون معاملة تليق بك أبداً بالنظر لكل ما ارتكبته في سني حياتك القصيرة هذه.."
نظر لها زياد بتوتر شديد، ثم اعتدل باهتمام قائلاً "ما الذي عليّ فعله؟.. سأطيعك في كل أمر، فهل تملكين خطة معينة؟"
ابتسمت الملكة ابتسامة جانبية ماسحة آخر دمعة سالت من عينها، ثم قالت بحزم "طبعاً.. وهل يخلو عقلي من الخطط الناجحة؟.."
وجلست على كرسي قريب متطلعة لزياد الذي أولاها اهتمامه الكامل مضيفة "في البدء، عليك التخلص من فِراق، فهو لن يكون معك بتاتاً.."
قال زياد بحماس "سأطرده من منصبه.."
نظرت له الملكة بحنق قائلة "حقاً؟.. كيف تتوقع أن تملك مملكة عظيمة كهذه وأنت قصير النظر بهذه الصورة؟.. أتظن أن فِراق سيستسلم لطرده؟.. كما أن أغلب قيادات الجيش وألويتها معه ويطيعونه.. سيطيح بك بإشارة من إصبعه.."
ومالت تجاهه متممة حديثها بفحيح "عليك أن ترسل من يغتاله.. في هذه الساعة.."
قال زياد بقلق "من يمكنه أن يفعل ذلك بهذه السرعة؟.."
اعتدلت الملكة قائلة "لا تقلق.. لقد فكرت في هذا الأمر بالفعل.. الجارية التي يملكها ولا يكاد يطيق فراقها تدين لي بالكثير.. وستفعل ما أشاء لو ضمنت لها مكاناً عالياً في هذا القصر.."
فقال زياد باهتمام "وماذا عن مجد؟.. هل نتخلص منه هو أيضاً؟"
نظرت له الملكة شذراً قائلة "يا لك من أحمق.. مجد هو ورقة رابحة في يدك.."
نظر لها بحيرة مغمغماً "حقاً؟"
قالت بحزم "افهمني أيها الغرّ الساذج.. مجد، رغم أنه لا يواليك ولاءً تاماً، لكنه كان أميناً وموالياً للملك الراحل.. وستمنعه أمانته من خيانة ذكرى الملك والتخلص من ولي عهده.. باستخدام مجد، وباستغلال مثاليته وموالاته للملك الراحل، يمكننا أن نحكم قبضتنا على الجيش بسهولة.. أقترح عليك أن تقوم بترقيته ليتولى منصب قائد الجيش، فهذا سيسهّل علينا الحصول على طاعة بقية الفرق والألوية دون عسر.."
ثم لوّحت بإصبع مثقل بخاتم ذهبي قائلة "هذه مجرد البداية.. بعد ذلك سنلتفت للقيادات الأصغر والأقل تأثيراً.. لو أحكمت سيطرتك على الجيش وألويته، فستكون بخير.."
ووضعت يدها على كتف الأمير زياد قائلة بابتسامة واثقة "ستكون بخير يا بنيّ.. ستظل كذلك ما دمت تطيعني.. ثق بي ونفذ كل ما أقوله حرفياً دون جدال.."
قال زياد بحماس "سأطيعك.. طبعاً سأفعل كل ما توصِني به.. المهم ألا ينتقل هذا العرش لغيري.."
قالت الملكة بابتسامة جانبية "لا تقلق.. لا يمكن أن أسمح بذلك بتاتاً.."
*********************
بعد رحلة طويلة أرهقت رنيم كثيراً لطول جلوسها دون حراك، لاحظت معالم تلك البيوت الصغيرة التي امتدت لمسافة معقولة وسط تضاريس جبلية قاسية .. كانت تلك قرية صغيرة تفترش وادياً ضيقاً وسط جبال عالية قممها بيضاء ثلجية، ولا تكاد ترتبط ببقية العالم إلا عبر طريق ضيق ووعر.. أهذه قرية من قرى الهوت؟.. وعند اقترابهم من تلك القرية، بدأت التنانين الهبوط نحو ساحة صغيرة تتوسط ذلك المكان..
انتاب رنيم توتر لا محدود لدى اقترابهم من هدفهم، ولرؤيتها ذلك الجمع الذي بدأ يحتشد قرب الساحة بانتظار القادمين.. بدا أن القرية كلها كانت بانتظار عودة فرقة التنانين تلك، ولم يبدُ على أحدهم أي ذعر لمرآها لاعتيادهم عليها.. ولما هبط التنين الذي حمل رنيم على ظهره، فإن الرجل خلفها قد هبط بسهولة ونشاط، بينما تجمدت رنيم في موقعها متيبسة الأطراف.. ومع كل تنين يهبط، فإن الفتيات الأسيرات يسارعن للهبوط ولقيا عوائلهن بعد فراق طال.. سمعت رنيم عدة صيحات فرح وضحكات تندلع هنا وهناك، بالإضافة لبكاء ودموع بعض النسوة الأكبر سناً..
انتبهت رنيم من تأمل ما حولها على تململ التنين تحتها، بينما قال مختطفها "يحسن بك أن تهبطي قبل أن يرمي بك التنين أرضاً.."
قالت رنيم برعب "كيف أفعل ذلك؟.."
رفع الرجل يده قائلاً "سأسندك عند الهبوط.."
ترددت رنيم للحظات، وقبل أن تتحرك بالفعل كان صبر التنين قد نفذ وهو ينتفض بقوة ويرميها من على ظهره، فوجدت نفسها تسقط على الأرض بشيء من العنف.. وبينما ارتفع التنين طائراً بسرعة مثيراً الغبار في الموقع، فإن الرجل قد اقترب وعاون رنيم على النهوض قائلاً "أخبرتك أن عليك الإسراع.."
نهضت رنيم بساقين ترتجفان ورأس يدوّي بألم وعينين غشيتهما الدموع.. وقبل أن تتضح لها الرؤية من جديد، انتبهت لصمت ساد الموقع بعد تلك الضجة التي أثارها لقاء الهوت بفتياتهم المختطفات.. تلفتت رنيم حولها بدهشة لهذا الصمت بينما قطب مختطفها شيئاً ما.. ولم يلبث أحد رجال القرية أن تقدم قائلاً بلغة الهوت التي لا تفهمهما رنيم "أهذه فتاة من المدينة؟.. ما الذي جاء بها؟"
قالت إحدى الفتيات التي كانت تعمل خادمة في قصر الملك "هذه أميرة وخطيبة للأمير زياد.."
اتسعت الأعين بصدمة واستنكار، بينما قال الرجل من جديد بحدة "ما الذي جاء بها معكم؟"
قال مختطفها "لم نعثر على جايا.. فأحضرت هذه الفتاة لنقايضها بجايا عندما نحاول استعادتها.."
صاح الرجل "هذه حماقة.."
تبعته صيحات مؤيدة من عدد من أفراد القبيلة، بينما انكمشت رنيم شيئاً ما وهي تلاحظ الغضب في الأعين المحدقة بها.. بدا لها واضحاً أن وجودها غير مرحب به، فما الذي ينتوون فعله بها؟..
قال مختطفها بحزم "مهما كان رأيكم بالأمر، كان لابد لي من الحصول على ضمان لئلا يمس الملك جايا بضرر نتيجة هرب بقية الفتيات.."
صاحت امرأة كبيرة من العمر بغضب "أنت ستجلب الوبال على هذه القرية.. زوجة الأمير؟.. هل تريد أن يحرّك الملك جيوشه ليسحق هذه القرية تماماً؟"
كان الغضب قد بدأ يظهر بوضوح في الوجوه المحيطة بهما وآخر يصيح "نحن لم ننسَ بعد ما جرى قبل شهور.. هل تريد تكرار هذا مرة أخرى؟"
وصاح رجل من الجهة الأخرى "يجب أن تدفع هذه الفتاة ثمن ما فعله الملك بقريتنا.. يجب أن يذوق بعض ما ذقناه لاختطافه بناتنا دون وجه حق.."
انكمشت رنيم أكثر وهي ترى بعض الرجال يتقدمون منها بأعين تنطق شراً.. رباه.. ما الذي ينتوون فعله بها؟.. قلّبت بصرها بذعر بينهم وبين مختطفها الذي قطب بشدة وصاح بصرامة "لن يمسّها شخص بسوء.. كما قلت لكم، سلامة جايا مرهونة بسلامة هذه الفتاة.. ومهما فعل الملك في السابق، فإن إيذاء هذه الفتاة لن يعيد شيئاً مما جرى.."
انبرت كاينا بين الجموع تقول "أجل.. هذه الفتاة لا ذنب لها، وهي ليست من عائلة الملك.. إنها من مملكة بعيدة.. فكيف تعاقبونها على ما جرى؟"
قال أحدهم بحنق "يكفي أنها زوجة ابن الملك.. هذا كافٍ ليشعل قلوبنا بنار لا تخمد.."
بدأ بضع رجال منهم يتقدمون منها غير عابئين بتهديد مختطفها، وبدأت أيديهم بالتطاول عليها وهي تشعر بمن يشدّ شعرها بقوة.. صاحت رنيم مرتعبة وهي تحاول الإفلات دون أن تدرك وسيلة للتخلص من الجموع التي تكاثرت حولها، عندما وجدت مختطفها يبعد الآخرين عنها ويحميها بذراعه بينما رفع سيفه العريض باليد الأخرى صائحاً "لو تجرأ أحدكم على الاقتراب منها، فلن أرحمه بتاتاً.."
صاحت امرأة من بعيد "اطردها من هذه القرية.. لا نريد أن نواجه جيش الملك من جديد.."
تعالت الصيحات الغاضبة من الجموع المحيطة بهما، بينما جذب الرجل رنيم المرتعبة بشدة وقادها عبر طريق حجري نحو جانب القرية.. وبينما استمر الصياح الغاضب من خلفهما، فإن أحداً لم يجرؤ على الاقتراب ولمسها بسوء والرجل يحجز بينها وبينهم.. تلفتت رنيم حولها مذهولة للنظرات الغاضبة والصياح الذي صمّ أذنيها، وقد أمكنها أن تفهم مغزى الحديث الذي دار حولها رغم أنها لم تفهم كلمة واحدة مما قيل.. بينما دفعها الرجل أمامه حتى وصلا منزلاً في جانب القرية لا يختلف عن غيره الكثير، ففتح بابه ودفعها لتدخل مغلقاً الباب بشدة خلفه..
نظرت رنيم للرجل بقلق قائلة "ما الذي ستفعله بي؟.."
لم تملك رجفة صوتها وهي تسأله بعد أن واجهت الغضب الواضح من أفراد القرية هذه.. فما سيكون مصيرها في مكان كهذا؟..
جذبها الرجل دون أن يجيبها حتى أدخلها غرفة جانبية بأثاث قليل، ثم خرج وأغلق الباب خلفه ورنيم تسمع دوران المفتاح في قفله.. أخيراً، تهاوت رنيم على سرير في جانب الغرفة وهي تحدق في الأرض الخشبية تحت قدميها الحافيتين.. حتى الآن، لا تصدق أنها اختُطفت من قصر الملك عبّاد ووصلت مع مختطفيها لأقصى هذا العالم.. رحلة قد تستغرق أياماً طويلة على الأرض لم تحتج التنانين إلا لنهار وليلة لقطعها متجاوزين كل المعوقات والتضاريس المختلفة على الأرض برفّة جناح.. لكن لا يمكن أن يكون هذا حلماً.. لا يمكن لحلم أن يكون بهذه الدقة والواقعية.. ولا يمكن له أن يستثير فيها هذه المشاعر الغريبة المتعاكسة وهي على ظهر ذلك التنين.. فما الذي سيحدث لها الآن بعد كل هذا؟.. عودتها (للزهراء) لن تحدث ببساطة ودون عواقب.. فهل ستعود حقاً لذلك المكان؟..
تذكرت رنيم الثورة التي قام بها الهوت لدى رؤيتها، وتذكرت ما سمعته من كاينا في القصر قبل تلك الليلة المشؤومة.. فانطوت على نفسها وهي تشعر بمرارة شديدة وحزن عارم..
لو راجعت رنيم حياتها منذ البدء، للاحظت حوادث مشابهة تتكرر بشكل دائم ولا يمكن تأويلها بشكل خاطئٍ بتاتاً.. فهي في قصر أبيها تواجه تأففاته الدائمة لتأخرها بالزواج عما يحدث لقريناتها من الأميرات.. بينما تتذمر أمها بشكل دائم وتصرّح في كل لحظة وحين برغبتها الشديدة في التخلص من ابنتها التي كادت تصبح عانساً..
ومع ظهور ذلك الزوج الأسطوري، سرّ أبويها أشد السرور لخلاصهم منها ومن همّها الدائم، وكررا عليها تحذيراً شديد اللهجة في حال فشلها وعودتها لهم خائبة.. أما كان المفترض بهم أن يطمئنوها أن أبواب قصر أبيها مفتوحة لها في كل وقت؟.. أما كان من المفترض أن يبقى قصر أبيها واحة أمان تعود إليها لو تعسّرت حياتها في المدينة الغريبة عليها؟..
وفي جزء لاحق من حياتها، واجهها رفض صريح من الملكة في (الزهراء) ومن زوجها المفترض، الأمير زياد، وتطور الأمر ليخططا لطردها بطريقة مخزية ستصمها بعار أبدي..
ومع التطور الأخير والفجائي الذي حدث لها مع المتسللين من الهوت، فإنها اختطفت عنوة لعالم غريب لم يسبق لها رؤيته، ورغم ذلك جابهت ثورة من الهوت ترفض وجودها بينهم وتطالب بطردها في اللحظة التي وطأت فيها قدماها تراب القرية..
هل هي مكروهة لهذه الدرجة؟.. أما من مكان يؤويها؟.. أما من مكان يسعد أصحابه لوجودها فيه حتى لو لم يرتبط ذلك بمصالحهم الشخصية؟.. ما الذي فعلته لتجني مثل تلك الكراهية؟.. وإلى أين يمكنها أن تلجأ دون أن تواجه مثل تلك المشاعر البغيضة التي تلاحقها طوال سني حياتها؟..
غلبتها مشاعرها وملامحها تنقبض بأسىً واضح، ثم وجدت دموعها تسيل رغماً عنها وهي تجهش ببكاء مرير.. ذرفت دموعاً غزيرة وهي لا تملك التوقف عن البكاء لوقت طويل.. تداعت مشاعرها مع دموعها وغلبها الحزن على حياتها التي لم يعد لها أي معنى.. لم تتمكن من الحصول على السعادة التي كانت ترجوها وتطمح إليها، ولم تتمكن من إرضاء أبويها، ولم تحصل حتى على رضى زوجها المستقبلي وأبويه.. ما الذي عليها أن تتوقعه من حياتها القادمة؟.. ما الذي عليها أن تسعى إليه؟.. لا شيء.. لم تعُد تدرك أو تتوقع شيئاً من أيامها القادمة ومن حياتها التي صارت بلا هدف ولا معنى..
*********************
|