كاتب الموضوع :
simpleness
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
بسم الله الرحمن الرحيم
توكلتُ على الله
،
فَقدُ ذّات
السواد تعاضد مع خُيوط البؤس و أحاكوا مِعطفاً يكتنز فيه دفئاً لا يُغني و لايسمن من جوع..فالروح جمَّدتها الغُربة.. و الحنين بات يَتَسَرَّب فيضه أُجاجاً إلى عينٍ انقلبت خارطة دمعُها و تاهت عن وَطنُ البُكاء..وَطَنُ النشيج و التَغَنِي بالنحيب،حيثُ للشهقات طَرَبٌ لحنهُ جَرُّ الأنين..،
أخفى يديه في قفازه الأسود،يطمس خطوطاً إن نُسيت آثارها فُضِحَ..ثَبَّتَ قُبعته الصوفية على رأسه،تُغطي مُقدمة رأسه حتى أعلى حاجبيه وتمتد لتخفي أذنيه المُتصلة مسامعها بحديثٍ يَبعُد شارعان عن موقعه...رفع شاله حتى أعلى أنفه لتظهر عيناه فقط،تتسكعان على المكان بحَذَر.. أغلق سَحاب معطفه يَخفت من ضرب نبضاته المُتَقدة،رفع قُبعة المعطف الجلدي لتعكس ظلالها على وجهه الهادئ..ضروبٌ من الفزع و الهَلع أسكن صُراخها تحت قناع من جُلْمُود تَعَلَّم أن يرتديه مُنذ أعوام،أن يتلَّبَسهُ مقاساً على وجهه،ليخفي ذاتٌ استوت حُطاماً اختلط بغبار زمن لا رجعة له،زمن كُلَّما سيقت ذكراه عبداً إلى عقله انشطر القلب و اختُزِلَت ذاكرة الروح المَحْنيِ ظهرها من ثقل وجوه صدى ضحكاتها تلسع جراحاً مكشوفة،لم تظفر بضمادٍ أبيض يَستُر عَيبها..
مَسَّ طرف قُبَعَتِه بأطراف أصابع يُمناه..أنزلَ رأسه وخَطَتْ قدماه بثبات على الأرض و يُسراه تَغَشَّت مُختبِئة في جيبه..كان يتلفت بعينيه دون أن يُحرّك رأسه،ينظر من طرفهما يُراقب المكان بعينيّ الذئب المُتمَرس..كان الليلُ هادئاً،فالجو أحكم إغلاق أبواب المنازل بعد أن تدنت درجة الحرارة إلى تحت الصفر..الأضواء نِصفها يَعمل و النصف الآخر تناَسته الحُكومة في آخر صفحة احتياجات الحيَّ..،زَفرَ إرتباكه المُتَدَثِر في جَوفه،ارتفع بُخاراً تلاشى قبل أن تلتقطه يَد السُماء العارية من النجوم...
توقف عند أحد المصابيح الطويـلة،استند عليه بكتفه يتفقد المكان الذي قصدتهُ قدماه..استند بظهره و أرجعَ رأسه للخلف،أغمض عينيه،استنشق بعُمق ثمَّ زَفرَ مُتخلصاً من أعباء الرجفة الساكنة عظامه القابعة في صناديق احتوت تذكارات تناسبت بين الحُزن و الفرح..
واصل مشيه بعد أن استحكم زمام أموره..شد أزر نفسه،و أغلق آخر ثغرة يتسرب منها الخوف..،إبتسامة سُخرية لوت شفتيه وهو يقف أمام السور المُنخفض..لو كان يعلم صاحب المنزل بما ينتظره مُستقبلاً،لطلب من المهندس أن يزيد من ارتفاع سوره...تراجع ثلاث خطوات للخلف..تقدمت رجل و تأخرت الثانية،عدَّ في داخله للثلاثة ثمَّ تحركت قدماه يجري على أطراف أصابعه ليقفز برشاقة مُتمَسِكاً بالسور بكلتا يديه القويتين..ثوانٍ و حطَّ على أرضية المنزل الخارجية..
مَشى وقدماه تحتكان بالعُشب مصدرتان صوت يُشوش عُتمة السكون المُبتلعة الليل بشراهة..تجاوز الزراعة و أشجار البُرتقال و الليمون..رَكِبَ العتبات الثلاث ليتوقف مواجهاً الباب الخشبي..أخرج من جيبه أداة حديدية ضعيفة جداً تُشبِه العود،جلس القُرفصاء و أدخلها في قفل الباب..بدأ بتحريكها ببطئ بحركات خبيرة،ينظر بيساره و يمينه أغمضها للتركيز..ثلاث دقائق و أخرجها من القفل..وقف على رجليه،مدّ يده إلى المقبض وحَرَّكَهُ للأسفل..،
نظرة غُرور مرّتَ و عانقت عينيه للحظة و جزء من داخل المنزل يتضح له بعد ان فَتحَ الباب..تقدم للداخل مُغلقاً إياه من خلفه..توجه إلى السلالم بثقة دون أيّ إلتفاتة..رَكبه مُتَجاوزاً عتبتان إلى أن أصبح في الطابق الثاني..
استدار إلى يمينه..ثانيتان و استدار إلى يساره حيثُ باباً أبيض مُغلَق..مشى بتباطئ مُتَعمد، خطواته مدروسة و قدماه تتركان آثارهما على الأرض بثقة..رجله اليُسرى انطوت رُكبتها بخفة،ظهره مُستقيم و انفراج بين رجليه..تحرَّكت يده إلى ظهره،ثوانٍ و بانت من خلفه و بين أصابعها شيٌ أسود لامع..لم يَكن سوى سلاح نـاري !
فتح الباب دون إصدار أيّ صوت،فيَدُه تعلمت الخفة حتى امتهنتها.. تذكر بإبتسامة ساخرة جُملة هاينز المُعتادة "أخَفُّ من يديّ أمهر سارق في بَرْلِين ! "
غُرفة جُدرانها تلونت بالبيجي المحروق..أثاثها من خشب الماهجوني الأفريقي..خزانة ملابس كبيــرة..ثُرية تتدلى منها كرستالات تَعْكُس الضوء الأصفر..أريكتان لشخص من الجلد الفاخر تتوسطهما طاولة خشبية دائرية فوقها مزهرية تخلو من الأزهار..و سرير يتسع لأربعة أشخاص ارتفع عن الأرض عشرين سانتيمتر،يحتضن فوقه جسداً عريـض تكسو عظامه أرطال من لحمٍ تغذى على لُقمة نُهِبت ذات ليلٍ شَهِدَهُ قمر احتفظ في قارورة ضوئه بدموع هربت من عين مكسورة..
اقترب من السرير..تجاوز الأرضية المُرتفعة..أصبح أمام الجسد النائم بارتياح وشخيره في مكان آخر يُرعِب نوم أجساد ترتجف برداً وجوع..قَرَّبَ السلاح منه لتستقر فوَّهَتِه على جبينه العريض..ضغط بقوَّة أزعجت نومه..فَتح عينيه و عقله لا زال غائباً في نُعاسِه..ابتسم هو لهُ ابتسامة أخفاها شاله،صَغَرَّت من عينيه الناظرتين بمَكر..بدى مُخيــفاً و في عينيه سوادٌ قاتل !
ثانية ، ثانيتان..،ثلاث..أربع..
شهقة بعثرت أنفاس ذلك المُستلقي قطعت الثانية الخامسة و عينيه تتسعان بصدمة..ارتعش جسده بأكمله و عُرُوقِه أرسلت إشارات الخوف إلى مُخه..حرَّك ذراعيه بتخبط يُريد أن ينجو بنفسه لكن السلاح أحبط مُحاولاته و يد ذاك الواقف بظله الثقيل تضغط به على رأسه..
نَطَقَ هو ببرود مُستَفَز،:
Das Ende
’
الجزء السابع
تجلس بأريحية على الأريكة البيضاء المُسْتَشعِرة خَوَاطِرَها العابرة مملكتها الأنثوية التي تعيش عيدها الأوحد..عيدُ قُربِه،
كان مثلما يكون وهو كائِنٌ أمام أوراقِه المُتشَبعة برائحة دائماً ما ينفثها عِرقاً يَنبض في رسغه..بين السبابة و الوسطى ينحشر قلمه الأسود..هديتها له قبل أعوامٍ كانت فيها فتاة في مُنتصف عتبات المُراهقة...،نَظَّارَته المُتَكِئة على أنفه الصغير زادته وسامة..يَكتُب بحواسه..أنفه تَسكُره رائحة الحِبر،و أذنه تنصت لإحتكاك رأس القلم بالورق و لسانه يتذوق كُلَّ حَرفٍ يَمرُّ من قلبه عابراً حلقه قبل أن يُصَيّره كلمة على الورق..فالكتابة أنثاه الأجمل التي دائماً ما تشعر بالغيرة منها..فهي تُشاركها التَمَيُز نفسه..كِلاهما يُحلقان به فوق سَحابة خفيفة إلى سماء يكون فيها هو القمر...
قرَّبت يدها النحيـلة المُزيَّن معصمها بإساورة ناعمة ذهبية إلى ذراعه..و هي لا زالت على وضعيتها..ظهرها مُستَنِد على الأريكة وبطريقة أقرب إلى الإستلقاء،رجل على الأخرى،يد في حضنها و الأخرى امتدت مُعانقة ذراعه..ضغطت عليها بأصابعها..تحسستها بنعومة وهي ترفع عيناها لوجهه..ابتسمت لإندماجه،عادت ببصرها إلى تلاحم يدها و ذراعه..كانت بشرته أفتح من بشرتها بدرجتين..رفعت حاجبها بغرور فهي تعلم إلى أي مدى يعشق لونها المُثير..دائماً ما كان يتغزل به..
ارتفعت أصابعها إلى معصمه ترسم عليه بسبابتها حلقات مُفَرَغة أدارت مُحَرّك ذاكرتها الغافية...هَمْس ناريّ باغت السنيـن و اخترق ثغرة الزمن ليجئ مُلهِباً سَمعها
،:مثل لون الخَمر لكن حــلال
ضغطت بقوة على ذراعه مُهاجمةً الذكرى المُباغتة..لم تشعر أنها تُألِمه مانعةً إياه عن الكتابة..فمُقلتيها انطوت الصورة أمامهما لتنعكس أوهام حرَّضت إنتقامها..
،:جنـان ألمتيني
رفعت عيناها للصوت..رعشة أرجفت أوصالها و ملامح وجه أسود مرَّت بسرعة البرق امامها..تركت ذراعه بنفور و الإسترخاء غادر جسدها مُنذ أن هاجمها الهمس البعــيد..أبعدت يدها بتيه لتصطدم بالكوب الذي وقع على الأرض مُحدِثاً ضوضاء إنكساره التي أنجتها من غَرق الماضي..
التقطت ذرات الهواء بعنف ويداها تحتضنان وجنتيها برعشة..نظرت له وصوته المتعجب يُبدد الهَمْس
،:بسم الله شنو صار ؟ شنو في فيش؟
أغمضت عيناها براحة..ليس حقيقة تخيلات فقط..ازدردت ريقها ويمينها انتقلت فوق صدرها تُطَبطب على دقاتها تُطَمئِنها..زَفرت وأصابعها تخللت خصلاتها بوَهن حتى استقرت خلف عُنُقِها..رفعت عيناها إليه ببطئ..كان ينظر لها و عقدة بين حاجبيه الخفيفين..ابتسامة مرتعشة تكونت على شفتيها لم تَتَسَتر على الخوف السابح في مُقلتيها..تساءل بشك
،:شنو فيش ؟
هزت رأسها بالنفي،:و لاشي،مافي شي كنت سرحانة و صدمني صوتك
وقفت بهروب وعيناه ارتفعت لوقوفها..تناولت قطعة مناديل ثُمَّ انحنت تلتقط القطع المكسورة..بهدوء مهزوز قالت
،:بروح ارمي القطع و بجيب شي امسح الأرضية عن الجاي
ابتعدت عنه بخطوات سريعة..دخلت المطبخ القريب،ألقت القطع في القمامة ثُمَّ توجهت للمغسلة..غسّلت يديها..جَمعت الماء في باطنهما ورفعتهما تَرشَح وجهها..أعادت الكَرَّة لتُزيل بقايا الرَوع الذي أسقطته غيمة سوداء على روحها..أغلقت الماء..اتكأت بذراعيها على المغسلة..رفعت يدها إلى جبينها الذي انحنى رأسهُ بتعب..هَمست بضياع شتت نبضاتها
،:ياربــي شصاير فيني ؟!
زَفَرت تَطرُد أسراب الخيالات المُعانقة مركز ذاكرتها منذ فترة..قرأت المعوذتان ومسحت على صدرها قبل أن تُجَفف يديها و وجهها لتخرج إلى زوجها..
مع خروجها كان يُنهي مكالمة و إبتسامة على شفتيه..وقف عندما انتبه لقدومها..اقترب منها وهو يقول
،:جنان ما بتغدا اهني
قطبت جبينها،:ليـش؟
مسح بظاهر يده على خدها بعد أن وقف أمامها،و بهدوء،:ريم بنتي مصرة تبيني اتغدا عندهم،و ما قدرت ارفض طلبها
كتفت ذراعيها و ببرود،:و الأكل اللي طبخته ؟ مستأذنة من الدوام عشان اجي اتغدى وياك
ابتسم لها،:ما عليه حبيبتي خليه للعشا ما اقدر ازعل ريم
تنهدت فهي تحتاج للجلوس وحدها تُعيد ترتيب أفكارها،لن تُجادله أكثر..ردت بكلمة واحدة،:زيـــن
قبّل خدها،:بروح اتسبح بسرعة ماابي اتأخر عليها
,،
زاوية غرفتي الصديقة.. قبل موتي سوف اكتب لكِ رسالة شكر أعَبّر فيها عن امتناني الكبير لكِ،لاحتضانكِ الدائم لي.. أُفكر في التقاط صورة لكِ ووضعها في برواز أنيق يليق بمكانتك.. مستودع أسراري و متنفس لي عند ضيقي واكتئابي.. سأضع توقعي أسفل جدارك الأبيض دليل على ملكيتي واستحقاقي بك.. ربما قبري يُنقَل عندك بعدما يفنيني العذاب الصامت..!
رَفعت يدها تُبعِد غشاوة الدمع عن عينيها..تحسست جفنيها و أصابعها تستشعر انتفاخ تشرب جوفه الدمع مُنذ البارحة..لا زالت الرجفة تسكن جسدها،وعطره القوي يستحوذ على حاستها الشُمية،استنشاق هواء يعني الإختناق ببقايا رائحته..أحنت رأسها مُمَررة يدها على ذراعها المكشوفة..أصابعه لساعات انطبع احمرار بصماتها على ذراعها..اقترابه يترك أثراً..ينحت أوجاعه في الروح و الجسد،يُوسِمها بذكرى كُلّما تناسته عادت و جددت الألم.. وسؤال مكتوم تبعثرت حروفه على لسانها .. متى الشِفــاء ؟!
إلى الآن عاصفة البارحة تُزَعزعها كريشة خفيفة..
،
زاد من اقترابه وعقله قد استولى عليه شيطانه..همست برجفة و الخوف دب في أوصالها،:عـ ـ ــبد الله اتركني ماني زوجـ ـتك للحين "شهقت ببُكاء" اوعـــ ـى
انطفأ بريـق من عينيه..ارتخت يداه عن ذراعيها و قوَّته سراب تلاشت بين فراغات أصابعه،تركها بـعنف جعلها تتخبط في مكانها،تماسكت و يدها ترتفع للجدار القريب..تراجعت للخلف بصعوبة من قيد رجفة أحاط كاحليها..اصطدم ظهرها بزاوية الجدار و انكمشت على نفسها فيها،ارتفع كفيّها إلى فمها تُكبِح صوت تكسر الشهقات ..أنينها كان أزيز يخترق أُذنه..عضَّ على شفته السفلى حتى استطعم دمه،رجله اليُمنى تحرَّكت بغضب ترجمته بضربة للكرسي أمامها..
زادت من إنكماشها و شهقة حـادة باغتت حاجز يديها..رفع رأسه لها ويده تمسح على وجهه ،زَفَرَ جنونه وهو يستغفر مُتعوذاً من شيطان سيطر عليه..اقترب خطوة لكن خوفها الذي صرخ في وجهها أوقفه..زمَّ شفتيه وهو يَغمِض عينيه للحظة،هَمسَ بصدق
،:آســف
آسف على ماذا ؟ على تفتت قلبي قِطعاً من وقع كلماتك الجارحة ؟ أم آسف على قُربِك المُحرَّم ؟ القُرب المُتَوَشح بموَت بــارد..قُربك كَفَن أستُر بهِ عُري روحي المُنسَلخة من أنفاسك..أُخفي فجيعتي عند حضورك..أُخَفف الفقد الذي يحاصرني باغتراب و انا أرى عينيك بعيـدة..فَقدتُ الطريـق لها و أنا في غُمرة أحلامي..،
أبعدت وجهها عنه،خَبأته في الجدار وهي تقول بصوت مكتوم،:اطــ ـ ـلع..لا يجي احـ ـد و يشوفك اهني "ضحكت بسخرية مريرة و رأسها تحرَّك قليلاً مُرسلة نظرة تأنيب،و أردفت" بيقول هذي شنو تسوي ويا طليقـ ـها برووحـ ـهـ ـم "و بتقرف" طبعاً إذا كان مثل تفكيرك
أنزل رأسه يُخفي خيبته..جنـونه صعَّبَ الأمر..سمع صوتها من جديد يقول بحدة مبحوحة
،:اطلع بــرى
استدار وتقدم ببطئ للباب..فتحه ثُمَّ همس
،:آســف والله آسف
و خـرج !
،
و أفرغت دموعها عند زاوية مكتبها و ها هي تُفرغ الباقي من حمولة عينيها هُنا..رفعت رجليها تحتضنهما و رأسها ينكب بإعياء على ركبتيها..غرقت في بحر الدموع و الأنين شاطر الشهقات جُرَحَ روحها..ذلك الرَجُل خلال سنة علَّمها كيف لا تعرف ذاتها..كيف تنسى أن تكون هي.. وكيف أن لا تكون هي !
,،
ماضٍ
استيقظت من نومها فَزِعَة من صوت صراخ أصبح يتكرر كُل ليلة مُنذ شهر..جلست على السرير وهي تفتح الضوء بجانبها،باغتتها دمعة هربت من مُقلتيّ أمَّ ذُبِحَت روحها..كان يُقاتل على السرير،يردع بيديه الصغيرتين أجساد تجسدت حقيقة في عقله الباطن..رأسه يتحرك ينفي واقعاً افتعل فجوة في قلبه الصغير..يبكي بهيستيرية لو كان واعياً لأستعصاها على نفسه..اقتربت منه تحتضنه بذراعيها و لسانها يلهج تَسميةً..قبَّلت رأسه ويد انمدت تُفرغ ماءً نثرته على وجهه وهي تُناديه
:ماما يُوسف قوم ماما قوم،بسم الله عليك يا ولدي قوم يا بعد عمري
ضربت بخفة خده،و أصابعها بارتعاشة بؤس تتحرك على وجهه،بأطرافها المدميتين تبحث عن خيط نجاة يُنقذه من كابوسه المُتَجَرع عقله الصغير بقسوة..نادته برجاء
،:يـوسف حبيبي قوم،كابوس يا ماما قوم اسم الله عليك
صوتها الدافئ تخلل عقله،قطع الكابوس إلى نصفين،فصل الأصوات و أخمد الرائحة..فتح عيناه و أهدابه كأوراق زهرٍ بللها الندى..لكن نداه كان حــارق..احمرار عينيه يدفعك إلى البكاء،فيهما شيء من الضياع والحزن الدفين،أنفاسه الملتهبة متقطعة ومتوترة و كأنه نسي كيف يتنفس..نظر لها بأسف فقد أيقظها من نومها مثل كل يوم..احتضنها مُلقيّا ثِقلَ رأسه في حضنها الحنون،يُريده أن يجتذب أحلامه المريضة،أن يُحَرره من القيد الذي آلم جسده الصغيـر...بكاؤه أصبح واقعياً أكثر،حــاد يضرب قلب والدته بقسوة،تبلل صدرها بدموعه الساخنة فاحترقت هي فوق احتراقها القديم...ذابت بأكلمها..لم يبقَ سوى روحها تائهة مابين السماء والأرض !
أما هي..في طرف السرير تُخَبِئ وجهها في صفحة وسادتها المُتشبعة دموعاً،تحبس صوت شهقاتها المخنوقة،دموعها تُعاضِد دموع أخيها الأكبر،لا تقوى على الإمساك بها،تسقط لتشاركه الحزن وتواسيه،تواسي روحه التي أصبحت هشَّة بعد انكسارها الذي لم يُجبر بعد..
,،
حاضر
قبل أيــام
توقفت السيارة في مواقف أحد الفنـادق الفخمة في بَرْلِن..نزل منها ليقف بطوله المُميز،عضلات جسده القوية تُغلفها بذلة رسمية سوداء..استراحت على كتفيه بأناقة مُفرَطة..أغلق زراً واحداً من المعطف،رتب ربطة عُنُقِه السوداء المُناقضة لبياض قميصه الناصع..وضع كفه الأيمن في جيب بنطاله القماشي ثُمَّ مشى بخطوات واثقة و قصيرة إلى بوابة الفندق..
أومأَ برأسه للبواب بإبتسامة خفيفة..قصد المصعد متوجهاً للطابق الأرضي،دقيقة و أصبح أمام ممر طويـل،أرضيته تُغطيها قطعة سجاد فاخرة حمراء يتداخل فيها اللون الذهبي على الأطراف..كان ينظر إلى اللوحات المُعلَقة على الجدران الذهبية..صور لأشخاص لا يعرفهم في احتفالات تبدو خاصة بالفندق..رسومات تَتَذَيَّلَهَا توقيعات لرسامين شهيرين ليسوا من اختصاصه..
صوت الموسيقى الهادئة أزعجت مسامعه..رفع يده لربطة عُنُقِه،حركها بخفة وهو يتنفس بوضوح،باتت المُهمة تقترب من جزءها الخانق..توقف أمام الباب الخشبي الكبير..بُني داكن مفتوح على مصراعيه،قُربه تقف فتاة طويـلة ترتدي فستان أحمر،لم يُطيل النظر إليها،أخرج بطاقة ذهبية مُستطيلة تناولتها منه بإبتسامة و هي تقول بترحيب،
،:تفضل سيدي،اتمنى لك الاستمتاع
لم يُعَقب على ترحيبها و واصل مشيه ببطئ،عيناه تتحركان على الأشخاص،تحفران في الوجوه بحثاً عن ملامح احتفظ بها عقله خلال الشهر الماضي..ارتفع حاجبه الأيسر و عينيه تلتقي بالوجه الذي التصقت صورته على لوحته الخاصة لأسابيع..اقترب بهدوء برأس مرفوع..توقف بجانبه وهو يُخرج كفه من جيبه..أدخل أصابعه في كُم معطفه ساحباً قميصه بخفة و رأسه ينحني جانباً ليهمس بالألمانية..
Gute evening
التفت له الرجل..نظر له باستغراب فهو لأول مرة يراه..رد بهدوء بالجملة نفسها
،:مسـاء الخير
ابتسم هو و عينيه تتحركان على المدعوين،لم يلتفت لنظرات الرجل بجانبه..كان في منتصف عقده الخامس..طوله يصل إلى كتفيه العريضين،شعر أبيض خفيف لا يُخفي صلعته المنتشر فيها بقع نمش بأحجام متفاوتة..جبهة صغيرة انطوى جلدها بعشرات التجاعيد.. حاجبان غليظان يعتليان عينان كبيرتان زرقاوتان يفصل بينهما أنف أفطس من تحته شفتان صغيرتان تبدوان داكنتان من السجائِر..وجهه يخلو من الشعر،أملس كوجه صبي في العاشرة..كان يرتدي بذلة رمادية قميصها أزرق داكن..و حول عنُقُه التفت ربطة على شكل "فيونكة" بيضاء..و ارتدى في قدميه حذاء رسمي من الجلد البُني ..من الواضح أن ذوقه رديئ جـداً في الملابس !
اقترب منه أكثر،حرَّك كتفه الأيسر للأمام وهو يستدير ليُقابله بنصف جسده..رفع الرجل العجوز رأسه إليه بنظرات تعجب..ابتسم هو لهُ ثُمَّ همس
،:هديتك قد وصلت..
اتسعت عينا الرجل،تلفت بسرعة يتأكد ان لم يسمعه أحد..تنفس بارتياح فلا أحد قريب منهما،و الجميع مُنشغل بالحديث و آخرين بالرقص و التصوير....نظر له،اقترب أكثر و امسك معصمه وشدّه إليه..همس و خوف يُقَرقِع بين كلماته
،:وو أيـ ـن هي ؟
كان ينظر للعجوز بشفتان مائلتان للأسفل،يُقَيّم خوفه الجليّ على ملامحه..أخفض بصره ليديه المضطربتين،تتصافقان حيناً و تنفران بارتجاف حيناً آخر..أعاد عينيه إلى وجهه و الإستخفاف أغرق نظراته..جديــدٌ هو على هذه الأعمـال ! بلل شفته العلوية بلسانه الذي استقر طرفه في زاوية فمه من الخارج يُخفي ضحكة آلَمَهُ فكه وهو يحاول إخفائها..
تحمحم و ظاهر سبابته يَمس أنفه للحظة..بذات الهمس قال وهو يُبعد عينيه للأمام،:هنـا في إحدى غُرف الفندق
فَغَرَ فاهه و خطُ دم قطع ناصية وجهه الذي احتقن ربكةً حتى انفجر العرق سيولاً..شهقة اعترضت أنفاسه بددت الهواء عن رئتيه..دوار باغت عقله و شعور بغثيان ارتفع حتى حلقه..
رفعَ هو يده إلى كتفه،ربَت عليه بخفة وهو يقول ببرود،:لا تخف وصلت دون أن يعرف أحد..انت في امان
ارتفعت يده إلى ربطة عُنُقِه..شدها عن رقبته و هو يزدرد ريقه..تنفس بارتياح و كفه ارتفعت بارتجاف تمسح جانب وجهه..قال له قبل أن يستدير
،:لنذهب إذاً
مشى العجوز و هو من خلفه..انتبه لهُ يُشير بيده إلى أحدهم و اليد الأخرى تعبث بهاتفه ..تعرف إليه مُباشرة.."بيمي" مساعد العجوز و يده اليُمنى..خرجا من القاعة التي احتوت جسد ذاك المُرتَعِب بطريقة مضحكة،و جسده المُنتَحر في جُبٍ لا قاع له..انتحار لا مُنتهي،ينتظر فيه الخلاص و انقاطع النفس و تبدد الإحساس..لكن المُعادلة تصبح عكسية..و الناقص تستوي جَمعاً مُزدوج..يُضرَب مرتين في الروح..فالخلاص غُباراً يتلاشى في الهواء لتحتضنه كُثبان ترتفع حتى تستوي هضبة تتعرى فوقها أشعة الشمس باعثة حرارتها لتصهر دماءً لم يتوقف غليانها بَعد..و النَفَسْ تُلحَم حَوافُه ليستوي سَهماً يخترق القلب مع كُل انقباضة لحجابه الحاجز..أما الإحساس،فيَنسلخ عنهُ الغشاء و يستبدلهُ جداراً بُصٍقَت عليه ألوانٌ تُشَرِبهُ التبلد ! إحساس ينطوي على نفسه ألف مرة بعيداً عن فوضى الشعور..
استقلا المصعد حتى الطابق الرابع..و هناك عند الغرفة 407 أخرج بطاقته..مررها أمام شاشة أسفل المقبض ليظهر فيها لوناً أزرق،فتح الباب و دخلا وهو يتقدم العجوز..كان جناح مُتكامل،راقي كرُقي الممر و قاعة الاحتفالات..استدار له و يديه في جيبه
،:انتظرني هنا سوف أعود بعد دقيقة
دَخل إحدى الغُرف،أقفل الباب بهدوء لم ينتبه له الجالس خارجاً..اقترب من النافذة..أبعد الستائر الثقيلة بأطراف أصابعه،نظرَ للخارج بعين واحدة..سيارة سوداء تقف على بُعد شارع عن الفندق..أنزل الستائر ثَمَ تراجع للخلف..رفع كُمَه ينظر لساعته،كانت تُشير إلى التاسعة و الرُبع..نظر إلى الباب و يده ارتفعت ببطئ يفتح زر معطفه..خلعه و ألقاه على الكرسي..بالبطئ نفسه فكَ ربطة عُنُقه و عيناه لم تبتعدان عن الباب،و كأنهما اخترقتاه إلى الخارج..رمى الربطة على المعطف..فتح زِر قميصه عند معصمه وبدأ بِطَيّه حتى كوعه كاشفاً عن ذراعه بارزة العضلات..صلبة كروحه المُصَنَعَة !
استدار للسرير،انحنى قليلا ثُمَّ رفع مرتبته بسهولة بكلتا يديه..ابتسم وهو يتناول سلاحه..رفعه بالقرب من وجهه..ينظر إلى فوَهته..فَوَهة المــوت...،
،
في الخارج
كان العجوز يتحرك ذهاباً و إياباً يُفرغ شحنات التوتر الغازية جسده..و في داخله تجري وعود مع ذاته انها المرة الأخيرة و لاعودة لهذا العمل..لكن و إن كان الربح كما المرة الأولى ؟..ربحاً يملئ خزانات أمواله حتى الزُّبا !
ازدرد ريقه و كَفِه ارتفعت إلى ذقنه تتلمسه تُسبِر جواباً لِأسئلة تصادمت بباب الرهبة المقفول في صدره...رفع رأسه ينظر للباب الذي دخل منه ذاك الغريب..اللا مُبالاة التي تنضخ من عينيه اصطدمت مع شرار خوفه..استفَزهُ ببروده و كأن شيئاً لم يَكُن..
رفعَ يديه يمسح وجهه وهو يزفر دقائق الإنتظار المُنعَقدِة حلقات تضيق بين عروقه..تُعَسِر مجرى الدماء إلى قلبه
صوت طَرِق قوي على الباب أرجَفَه..اختل توازنه و فكرة واحدة سقطت صَخرة على عقله، لقد كُشِفَ امرهم..! تمسك بالأريكة القريبة بيده المرتعشة..فتح ربطته و أزرار قميصه العلوية..مسح على عُنُقِه يبحث عن الهواء..تلفت بضياع ينظر للباب المُوصَد بريبة
،:ديريك افتح الباب بسررعة
هَمسَ بتعجب بصوت بُحَ هلعاً،:بيـ ـمي
مشى بخطوات مُتعَثرة إلى الباب،فتحه و صوت أنفاسه يتعالى بوضوح..تساءل بذهول و هو ينظر لرجلان من رجال أمن الفندق يقفان مع بيمي
،:ماذا هناك ؟ ما الأمر تكلم ؟
اقترب منه وهو يهمس بعد ان دفعه ليدخل،:ليس هو انه كاذب
استدار له و ثورة الخوف لا زالت مُسيطرة على عقله،:عن من تتحدث ؟..تكلم بوضوح
وهو يتلفت باحثاً،:الرجل الذي احضرك إلى هنا،انه كاذب،فالرجل الذي اتفقنا مع مجموعته قد أتى بعد خروجك مباشرة
بانت عروق عيناه المتوسعتان من إشارات الفاجعة التي استقبلها عقله..بشهقة نطق،:مُستَحيــل
،
داخل الغرفة
وصلته الجَلبة في الخارج..تحرَّك بسرعة إلى الباب و السلاح أرجعه خلف ظهره..وضع أذنه يسترق السمع..أصوات همهمات لم يستطع أن يُميزها..وضع يده على القفل ليفتحه لكن اهتزاز هاتفه في جيبه أوقفه..أخرجه و هو يتراجع للخلف..وضعه في أُذنه دون أن يتكلم وصوت يصرخ اخترق مسامعه
،:موهاميـــد اهرب لقد اكتشفوا أمرنا !
~ انتهى
،
|