كاتب الموضوع :
simpleness
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
بسم الله الرحمن الرحيم
تَوكلتُ على الله
،
فَقدُ ذات
كان مُستَنِداً على زاوية المنضدة البيضاء المصفوف فوق سطحها أدوات خاصة بالتشريح،من مشارط و مقصَّات و غيرها،ينتظر قدوم الطبيب الشرعي ليُعلمه بما استجد،كَفَّاه تشدان القماش الداخلي لجيب بنطاله،ساقاه ممدودتان أمامه مُرخِياً كاحل اليُمنى على اليُسرى..عيناه بسكون تَمُران على الجسد المُمَدَّد على طاولة التشريح،بضع تجاعيد تَكَوَّنت حَوْل عينيه تحكي عن مدى تركيزه..بصره مُنَصَّب على اللون المُناقِض قميص الضحية اللؤلؤي الواضح جزء منه أسفل كُمْ ذراعه المقطوع زره ،اعتدل في وقوفه مُتَقَدِماً ببطئ من الجسد،أخرج من أحد جيوبه ملقط فضي بطول السبَّابة و تَلَّقف برأسه طرف الكُمْ،و مع رفعه ازداد اتضاح ما تَشَرّبهُ ..بُقْعة تفوق مساحة راحة الكف اكتنزت بين خيوط القماش،لونها تداخل مابين الأرجواني الفاتح و البَحري..حاجبه ارتفع فوق قِمَّة ظُنونه و هو يُواصل كَشف ذراعِه إلى أن توقف عند مُنتَصَفِها و ابتسامة مائلة ارتدت ثوب الغرور عانقت شفتيه..،احنـى ظهره و هو يتقدم خطوة ناقلاً الملقط لياقة القميص المُطوية بعناية فائقة،مَرَّره فوق الأزرار المُغلقة من الأعلى إلى الأسفل ببطئ شديد و عيناه تَتَطلعان لحركة يده المُستقيمة..،
أخيراً توقف عند خصره،حيث يلتف حزامه الجلدي.. أعاد الملقط إلى جيبه و ابتسامته لازالت تُلَوّح تنتظر من يراها ليُقدِم إليها مُستَلهِماً ما زُرِع وسطها من أجوبة..،دقيقة و فُتِحَ الباب،كان الطبيب الشرعي الذي تعاون معهم لاقناع أهل القتيل بالتشريح الجنائي،كان قد ارتدى ملابسه الخاصَّة،كفَّاه محميتان بقفازين شفافين و على فمه و أنفه كمامة عُلّقت خيوطها خلف أذُنيه..ضاقت عيناه من ابتسامة لم تظهر من خلف الكمامة وهو يقول،:الآن سوف ابدأ"رفع يده المُحَمَّلة ببضع ملابس مُردِفاً"أحضرت إليك الملابس الخاصَّة اذا كنت تود البقاء
غادرهُ نَفَس من أنفه أشبه بضحكة سُخرية قصيرة و هو يقترب منه..وضع يده على كتفه عندما توقف أمامه،و بهدوء عُنوانه الثقة نطق،:لا داعي للتشريح
عُقدة تَعَجَّب قَرَّبت حاجبيه و يده ارتفعت تُخفِض الكمامة ليقول بفم امتلأ عدم استيعاب،:ماذا تقول ؟!! لماذا غيرت رأيك ؟ لقد بذلنا قصارى جهدنا من أجل إقناع أهل القتيل،التشريح مهم قد يُطلعنا على أدلة تقودنا للقاتل
مالت زاوية فمه اليُمنى ليرتفع صوت تعاضد مع كلماته النافية،:لن تجد شيء
تضاعفت عُقدة حاجبيه لتتفرع منها خطوط اشتداد بين طياتها استغراب مُستَنكِر،هَمَسَ يُناشد جواباً،:ماذا تقصد ؟ لم أفهم شيء
رَبَّت على كتفه مُجيباً،:ليس الآن،فقط لا تُشَرّح الجثة
،
اقترب منها نافثاً همساته الحانقة من بين أسنانه،:لماذا وافقتي على اقتراحه ؟ لا داعي لكُل هذا
التفتت و في عينيها إمارات التَعَجُّب قائلةً،:و لماذا انت رافض هكذا ؟ يجب أن تفرح لأنهُ نال على إعجاب والدك إلى درجة أنهُ دعاه للعشاء،و هذا لم يحدث مسبقاً مع أي أحد من أصدقائك !
أغمض عينيه بنفاذ صبر ليفتحهما بعد لحظات جاراً حروف قهره،:لأنني أعلم ما لا تعلمينه
اكتسح ملامحها برود قبل أن تُشيح وجهها عنه مُواصلة عملها و لسانها ينطق بحدة تناقضت مع ما نما بين ملامحها،:لا أريد سماع أي شيء،و للمرة الألف احذرك من هذه الأفكار
ارتفعت كفَّاه إلى خصره و جسده يميل للأمام ليُقابلها مُتسائلاً،:لماذا تخافون من الحقيقة ؟ تهربون منها و كأنـ
قاطعت كلماته المُتَغلغلة بين عروقها سُمَّا استعصى عليها ردع أخطاره و سبَّابتها ارتفعت بحدة أمام وجهه المشحون غضباً،؛:هـــااااينز اخــــرس
ضَمَّ شفتيه للداخل و صدره يرتفع مُبتَلِعاً أنفاساً مُثقلة،استدار ليتخلص من أسهم التأنيب المُنطلقة من قوس عينيها المُشتعلتين،هَمَس بكلمات التقطتها مسامعها،:أتمنى أن لا يأتي
التفت لصوتها الذي ارتفع فجأة،:لاااا عليه أن يأتي لقد درت السوق عدَّة مرات ابحث لهُ عن لحم مذبوح بطريقة اسلامية مثلما طلب، و ثم لا يأتي !!
انتهت جُملتها مع تردد الموسيقى من جرس المنزل،أشارت للباب آمرة،:اذهب لا بد أنه هو،استقبله ثم عُد لتحمل الأطباق معي،اسرع
أبعدَ عينيه عنها ليتقدم بخطوات أبطأها إحباط مُتَوَجس،بعد أن رأى أول و آخر لقاء بين والده و محمد و الوساوس تتراشق مطراً غارقة أفكاره،يشعر أن سوءاً يتوراى خلف ابتسامة والده،شكوك مُشَوَّشة الخفايا تتطارد مع وجود محمد حوله..،
شَدَّ شفتيه بابتسامة حاول بها أن يختزل عوالم الضيق الغافي فوق ناصيته رُعب ينتظر هبوب ريح الخطر..استقبله بمصافحة قائلاً بمُزاح،:أخشى أن يتبناك والداي من شدة إعجابهما بك
ضَحَكَ بخفة ثُمَّ عَقَّب يُجاريه،:سأوافق حتماً،كيف أرفض مشاركتك اليوم كله ؟!
اعتلت ضحكتهما،واحدة نابعة من قلب و الأخرى نابعة من شك..،ترك هاينز محمد في غرفة الجلوس ليعود مُلبياً طلب والدته،ناولته أحد الأطباق ذو الشكل البيضاوي،و قبل أن يبتعد تَمَسَّكت بمعصمه مُقَربةً فمها من أُذنه و نصف وجهها المُكتسيه رجاء حَنو تراءى أمام عينيه،هَمست و أصابعها تمسح رسغه لتستشعر عروقه ما انطوى بين كلماتها،:عزيزي والدتك ترجوك بأن لا تسمح لمثل هذه الأفكار أن تُسَيطر عليك لكي لا يأتي يوم و تندم،لا تنسى هو والدك
أنهت عبقها المُسترسِل برقة تثبيطاً مؤقتاً لنشاط حواسه الغير طبيعي بقبلة دافئة طبعتها على جانب وجنته..حَرَّرت معصمه و ابتعدت عنه بعد أن خَلَّفت وراءها ابتسامة لها سِحر القمر ليلة اكتماله بدَّدت قليل من الظُلمة المُتَوَحشة في قلبه..،
،
أخفض سكينه بطريقة مائلة فوق الصحن ثُمَّ أتبعها بإخفاض رأس الشوكة فوقها،رفع رأسه و بابتسامة،:لماذا اخترت الهندسة الميكانيكية ؟
ازدرد اللقمة قبل أن يُجيب و أطراف ابتسامة تلقفت زوايا شفتيه،:بطريقة ما أشعر أن عقلي مخلوق لاستيعاب هذه الأمور،منذ صغري كنت مولع بالسيارات و كنت عندما اذهب مع والدي للمرأب تلفتني المكائن و الأدوات،شيء رائع
أومأ برأسه و ميلان حاصر منطقة فمه قائلاً بإعجاب نطقته عيناه قبل كلماته،:اذاً هو حُلم و لقد سعيت من أجل تحقيقه
ثقة تمازجت بفخر و انثالت بانسياب على ملامحه مؤكداً،:بالضبط،أنا هنا لتحقيق حُلم طفولتي
و هو يرفع كأس مائه،:أنا واثق انك ستفعل "ارتشف منه ثُمَّ أردف"بالمناسبة لغتك الألمانية ممتازة
اتسعت ابتسامته و رأسه يميل وهو يُضَيّق عينه اليُمنى قائلاً،:اكتشفت أنها سهلة،تشبه الانجليزية الى حدٍ ما
هَزَّ رأسه بهمهمة و كفاه تُعيدان إمساك السكين و الشوكة مواصلاً تناول طعامه،زوجته كان دورها لتُحادِثه،:الواضح أنك كُنتَ طالباً مُتَفَوّقاً في المدرسة
أخفض عيناه بحرج من أنثى لم يعتدها بعد مُجيباً،:بالفعل كنت مُتَفَوقاً
،:أي المواد كُنتَ تُحِب،اعتقد أنها المواد العلمية
رَفع عينيه لآستور و هو يقترب من الطاولة مُتَكِئاً برسغ يُمناه على طرفها يُجيبه،:هذا صحيح،الفيزياء مادتي المُفضلة و بالطبع المواد العلمية الأخرى
قال مُعَدداً،:الأحياء مثلاً و الجيولوجيا و الكيمياء أيضاً "شَبَك كفاه أسفل ذقنه ليُكمِل" بالنسبة للكيمياء،أنا أراها علم ذو حدين،قد تُستَخدم لأغراض جيدة و قد تُستخدم لأغراض تُسَبب مشاكل لا نهاية لها،فهي تتعامل مع مكونات و محاليل أغلبها غريب و لايفهمه سوى علماء المادة نفسها،مثلاً عند تحضير الأدوية و السموم،"و بضحكة خفيفة" أنا لا افهم في الكيمياء كثيراً اعذرني قد أكون اخطأت في حُكمي
حَرَّك رأسه نافياً و هو يُعَقب،:لا لا كلامك صحيح،فبعض الأشخاص تكون بالنسبة لهم مَعبراً لخططهم الإجرامية،كما أشرت للسموم،فالسموم القاتلة المُحَضَّرة في المختبرات يُستَعصى اكتشافها عند الجرائم،لذلك تكون سلاحاً مُبهَماً و هذا يفيد المجرمين
مع إنتهاء كلماته فَزَّ آستور مُتَخَلّصاً من جلوسه المُسترخي،كفه استقرَّ باطنها على الطاولة و رأسه يهتز ببطئ للأسفل بموافقة للذي قيل،رَفَعه و نظرة إعجاب تسبح في عينيه تراشقت مع كلماته،:انك عبقري،اعتقد انك من سيحل هذه القضية"و بابتسامة جانبية انطوت تجاعيدها بمعاني مَخفية أردف" لا يجب التفريط بك،سوف اذهب لإعلام القِسم فوراً فاستنتاجك مُهم جِداً
تَرَكهم بعد أن رَسَم علامات تَعجب فوق رأس مُحمد الذي حاول أن يربط ردة فعله هذه مع ردة الفعل يوم لقاءهما الأول..حَرَّك بصره لوالدة هاينز الجالسة أمام ابنها،كانت عيناها مُنخفضتان،تَتَطلعان لفراغ يبدو أنه سَبَباً لاتساع حدقتيها الواضح..التفت لصديقه ليستقبل وضعه الغريب،رأسه بين يديه و عيناه مَستورتان خلف جفنيه المُنسدلين بشدة،ناداه بهمس مُتَردد،:هايــنز
لم يُجبه و لم يُحَرك ساكناً ليتفاعل مع ندائه،أعاد نُطق اسمه و يده ارتفعت لذراعه تُعاضده،:هاينــ
ارتدَّ للخلف من وقوفه المُفاجئ،مثل ليث ملسوع تَجَرَّد من صمته،أنفاسه ارتفعت بلُهاث شَقَّ طبلة أُذنه و وجهه المُغتَرب خلف أسوارٍ من غضب أعاد لذاكرته حديثه المُحَذّر تلك الليلة،صَرَخ و القهر استوطن نبرته،:قلتُ لك لا تُحادثه ابتعد عنه لكنك لا تفهم
دَفَر المقعد حتى كاد يَسقط و ابتعد بخطوات تَوَشحت بغضب محموم مُتَوجهاً للباب ليخرج،لَحِقه محمد بعد أن ألقى نظرة على والدته التي غادرت الطاولة أيضاً ذاهبة إلى الجهة التي توجه إليها زوجها..،سَرَّع من خطواته ليصل إليه و بقبضته استحوذ على ذراعه مانعاً ابتعاده الغير مفهوم،نَطَق بسؤال لا زال يحوم فوق عقلِه عارياً من جواب،:مابك ؟ لماذا لا تريدني أن أتحدث مع والدك ؟ أنا لا أفهم سبب رفضك هذا !
بعروق نافرة أجاب،:لا داعي لِئن تفهم،فقط افعل الذي اقوله لك،حذرتك من الاقتراب منه لكن لا فائدة معك
و علامات الاستنكار تَصَيَّدت ملامحه،:لأنني لا افهم سبب كُل ذلك،لا افهم لماذا صديقي يُحذرني من والده ! صرت اشعر انك لم تعد تود أن نتعمق أكثر في صداقتنا
كفاه استقرتا على خاصرته مُطلِقاً سراح كلماته التي قَيَّدت حروف مُحَمد،:يبدو أنهُ الحل الأمثل
غَشى وجهه تَبَلُّد اصطدم بقلب هاينز العاصرة فاكهته علقماً يُسقمه،ازدرد مُحمد ريقه يجترع مرارة كلماته..و من بين رُفات صوته نطق بابتسامة بان كسرها على شفتيه،:مثل ما تُريد،وداعاً هاينز
ولَّى هاينز دُبره ناثراً انكساراته عند قدميه و هو الذي ذاب وسط حُزن قَلبه،فهذا الصديق الذي أهدتهُ إياه الدُنيا على الرغم من مسافاتٍ و دين أصبح طُعماً لوالده الآبه فقط بعمله،و هو ليُنقِذ صديقه فَقَده..فالفَقدُ أحياناً أحلى من سُجن اقتراب...،
،
الجزء الثاني و العشرون
الليلة الماضية
ظَنَّ عقله أنها حُلم تجسدت أمامه تُثير قريحته المُتَغَلغلة منذ الأزل برائحتها الطبيعية،لكن قَلبه استشعر نبضات حروفها و همسها انسكب غيثاً بعد سنين قَحط على روحه،أخفض ذراعه و هو لا زال على جلوسه،رُغماً عنه ارتدى البرود حتى تَلَبستهُ نظراته التي ارتكزت عند مُقَدّمة رأسها لتبدأ مسيرها..لَيلُ شعرها النائمة بين خصلاته شمس على مشارف الشروق مفروداً بِبَلل يُداعب عُنُقَها و نحرها المكشوف...كانت ترتدي ملابس نوم ناعمة،سروال قُطني أسود مُقَلَّم طولياً بالأبيض و الزهري،و في الأعلى بلوزة سوداء خالية من أي لون بأكمام قصيرة جداً كشفت عن ذراعها الملفوفة، بتَعَمُّد أشاح عينيه كاسياً نظراته بلا مُبالاة لطمت خد تلك المُنتظرة خوفاً يلوح منهما..،عَضَّت على شفتها قبل أن تُعيد سؤالها و هي تراه يُواصل فتح أزرار قميصه
،:تبي عشا ؟
وَقَف و ببطئ خلع القميص،ألقاه بإهمال على السرير ثُمَّ أجاب بهمس مَبحوح،:لا
أخرج هاتفه و مفاتيحه من جيب بنطاله الخلفي ليصلهُ صوتها تُسَيره ارتعاشات تَرَدد،:بســ ـام الكلام اللي قلتــ
قاطعها و هو يرفع رأسه و امتعاض تَلَقف ملامحه قائلاً بنبرة مُشمَئزة أحالتها كائناً مُتَجَمّداً،:و اللي يرحم والديش روحي عن وجهي انا مو طايق حتى اسمع صوتش
تَقَدم ليتجاوزها مُبتَعِداً إلى دورة المياه بعد أن أحرقها بنيرانه الأولية..،هي ظَلَّت في مكانها صمَّاء سوى من جملته المُتَرددة في مسامعها،أحـــــرجها ! نَحَر نبضاتها التي بقيت تُعاقبها طوال فترة ابتعادها عنه،حاولت أن تتجاهل تركه لها بعدم اهتمام في المستشفى،و تغاضت عن سؤال مُطمئن ينطقهُ لسانه..ليُفاجئها و يُفحِم وجهها بكلماته المُنصَبَّة حُمَماَ سَلخت شعورها..هي بالفعل تأسَّفت على ما نطقته و هذا من النوادر في شخصيتها،فالأسف عندها مُصطلح يسكن نهاية صفحة قاموسها المحشو بألفاظ الغرور و التَكَبُر و الأنفة التي اقتاتت عليها طيلة سنوات حياتها...،ازدردت ريقها تُكبح بصعوبة غَصَّات نبتت في حلقها و هي على مشارف نُضوج يُصَيّرها شهقات قد تصل إلى مسامعه و هذا مالا تقبله..أرادت أن تُحرك قدمها لكن وَهن موجع قَيَّدَ كاحلها،ارتعش ذقنها جاراً شفتيها للأسفل مُفرِجاً عن حديث عينيها...،
،
يده مُتَمَسّكة بالمغسلة ضاغطاً بشدة يمنع نفسه من خروج يُحَطّم مجاديف البرود التي ابتاعتها سفينته الغارقة في بحر أنثاه ليفر ناجياً بروحه من إعدام مُحتَم على مقصلة عشقها المسموم..،أغمض عينيه لتمر أمامه صورتها قبل دقيقة و الصدمة تبتلع ملامحها،كيف كسى الاحمرار جلدها الرقيق و حدقتاها شاخصتان في الفراغ المُحتوي سيول حَرَجها..،احتكت أسنانه ببعضها يَلوم نفسه،ليس هو،ليست هذه شيمه و لا ذاته تسمح لهُ بطرق أبواب انسان جارحاً دواخله..و ليس أيُّ إنسان..زوجته،صغيرته و حبيبته..هي حَنيـــن و كفى...،
استدار خارجاً لها يُلملم غرورها الذي شَرَخ قِمَّته..وجدها على الوقوف نفسه،و إنما انحناءة قَهر أثقلت كتفيها و ألقت بثقلها على قلبه المأهول بشعبها القاسي..اقترب منها حتى أصبح مُقابلها لتتضح لهُ أمطار حُزنها النابعة من سُحب مقلتيها الأسير قلبه بين أهدابهما..أرادت أن تَستُر فضيحتها عنه لكن يده سبقتها و تَلَقَّفت ذراعها..سَحبها بخفة حتى اصطدمت بصدره و ذراعاه بتمَلُّك عانقت جسدها النحيل،ارتفع صوت بُكاءها ناشراً أسفاً وسط قلبه،مَسَح على رأسها وهو ينحني عليها هامساً في أُذنها،:خــلاص أنا آسف خلاص سكتي"أكمل بسُخرية" على الرغم انش انتِ اللي لازم تتأسفين
نَطَقَت من بين دموعها و ارتعاشاتها تجاوزت جلده حتى استحكمت من عروقه،:كنت بتأسـ ـ ـف لك بس انت سكتـ ـني
نَظَر لجانب وجهها المُحتَقِن مُعَقّباً بانكسار،:حتى لو تأسفتين يعني بينمحي اللي قلتيه من بالي ؟
أرادت أن تنطق لكن شهقة باغتت حَنجرتها بحدة جعلته يُقربها من صدره أكثر مازجاً نحيب نبضاتها بقهر نبضاته،أغمضت عينيها بإعياء و لسانها ينطق بضياع أوهنها،:ما كنت ابي اقوله بهالطريقة،و في نفس الوقـ ــت ما كنت ابي انـافقك
ألم كان عنوان ابتسامته و رأسه يستقر على رأسها هامساً ببحة تكالبت حول حباله الصوتية،:جان من البداية ما وافقتين،لا انتِ اللي نافقتين و لا انتِ اللي جرحتين
ارتفعت ذراعاه و كفاه أحاطت رأسها رافعاً إياه يُقابل وجهها،مسح بإبهاميه فيضها وهو يهمس،:خلاص اللحين ماله داعي الكلام كل واحد بيجرح الثاني،بعد جم يوم بنتكلم أفضل،زيـن؟
و عيناها مُرَكزتان على دموعها الغافية فوق صدره العاري،هَمست،:زيــن
،
قبل ساعات
أحاطوا ذراعها بقطعة قماش خفيفة انطوت حتى نصف ذراعها،الحمد لله لم يكن كسراً..كانت الساعة قد اقتربت من السادسة مساءً عندما خرجوا من الطوارئ،بالطبع هي لم تلتقِ بمكسور الخاطر،و تنفست الصُعداء عندما أخبرها والدها بأنه لن يأتي لإنشغاله بأمر لم يُخبره به و لكن ضميرها الصاحي يَعلَمُه..استلموا الأدوية التي كُتِبت من أجلها،مُسكن و مراهم للمسح و بالطبع الدواء المَلِك "البانادول"..و مُباشرة توجهوا للسيارة حيثُ استكانت في مقعدها خلف والدها صامتة تتسيَّد عملية ترجيعها للأحداث السابقة..تَسَرَّعت جداً،و أسلوبها كان شحيحاً من أي لَباقة قد تُلَطفه..على الرغم أن نظرياً لو استُعيرت كُل لطافة الدُنيا عند النُطق بهذا الحديث فلا بُد أن يُخلف وراءه جروح يُصعَب دَملُها..،رَفعت رأسها عن النافذة عندما انتبهت لتوقف السيارة،فتحت الباب لتنزل لكنها تراجعت و منزل والدها يتراءى أمامها..أغلقت الباب لتقول بهدوء،:بابا ابي اروح بيتنا
استدارت لها والدتها الجالسة في مقعد الراكب،:هذا هو بيتنا حنين
ابتسمت لها بخفة و شذرات تعب تعانقت مع إرهاق انعقدت تحت عينيها و بخفوت،:بيتي يُمه،شقتي
ارتفعت أنظارها للمرآة لتلتقي بعيني والدها الذي قال،:زين بابا ادخلي ارتاحي و اكلي لش لقمة و بعدين انا اوديش
حَرَّكت رأسها رافضة،:لا بابا ما يحتاج باكل اذا وصلت البيت،خل نروح اللحين
ابتسامة اختلط فيها الامتنان مع الراحة تربعت على شفتيه،بادلته الابتسامة ثُمَّ أبعدت بصرها عن بؤرته الكاشفة دواخلها إلى النافذة،خَرجت منها تنهيدة خافتة و هي تسمع كلماته،:اللحين اوصلش،الله يهديش يابنتي
,،
الوقت الحالي
توقفت السيارة أمام المنزل،تأملتهُ من الخارج،فهي لم تره بعد اكتمال بُنيانه،استنشقت نفس عميق و عيناها انحرفتا عنه للذي بجانبها على المقعد..قضت الليل تُقَلّب حروفها على الوسادة،تصف الكلمات على سطور وهميَّة شَرَخَ استقامتها تعرُّجات الصدمة التي زعزعت نبضاتها،بالكاد استطاعت أن تُلَملم شتاتها من قُبح ما رأت لتخرج جارة أذيال البكاء و النحيب..نفت شكوكها و أنكرت ما استعظم من هواجس بين تمتماتها،نفثت وساوس شيطان تربَّع فوق صدرها،تقلَّبت على السرير حتى شعرت بألم حاد ينتصف ظهرها،تكورت على نفسها وغابت بين واقع محتواه كابوس،تتحايل على نفسها بالنوم للهرب منه فوق سحابة حُلم تُطاردها رياح الحقيقة النتنة..،
صباحاً انشغلت في مخطَّطها الذي و رغم العناء المتراكم على ناصيتها إلا انها لم تنساه،أخبرت مُعلمات المواد العلميَّة بعد أن استلمت الموافقة من مديرة المدرسة بالمسابقة التي تُفكر في إقامتها على مستوى صفوف العلمي،لله الحمد نالت الفكرة استحسانهن و بدأن بالتخطيط و التجهيز،كل واحدة استلمت مهمة معينة و تم الاتفاق على أن تبدأ المسابقة بعد يومان من انتهاء التحضيرات..،
و ها هي الآن تدق جرس المنزل مُحَمَّلة بابتلاءات اكتشافها،دقيقة مَرَّت حتى فُتِح الباب و ظهرت من خلفه شابة تبدو في بداية العشرينات،طويلة بشكل مُلفت و ملامحها اختلطت مابين شرق آسيا و أوروبا،بشرة صفراء مصقولة،عينان ضيقتان لون عدستهما يميل للأخضر،و شعرها البني مرفوع لقمة رأسها لتنسدل غرتها الكثيفة على جبينها،ابتسمت شفتيها المنفوختين و هي تقول بالانجليزية،:هل أستطيع مُساعدتكِ؟
تنحنحت قبل أن تنطق،:هل السيد يُوسف موجود ؟
حَرَّكت رأسها بالايجاب،:نعم انه هنا،أخبره من؟
ابتسمت لها بخفة،:أُخته
فغرت فمها و كفَّها مسَّت خدها بخفة قائلةً،:اووه تفضلي آنسة انجيْل
دخلت ملاك و عُقدة استغراب تكونت بين حاجبيها،تساءلت بنصف ابتسامة،:هل تعرفين اسمي؟
أجابت الخادمة بسؤال و هي تُبعِد خصلاتها عن عينها،:اسمك انجيْل ؟
همهمت ملاك بالايجاب و هي تتقدم بخطوات بطيئة و تلك أجابت موضحة،:هذا جميل،في الحقيقة كنتُ اقصد بها وصفاً فأنتِ مثل الملاك
زَمَّت ملاك شفتيها بابتسامة تبطَّنت بهاجسها الفطري،فالرائحة المُنبعِثة من ذات هذه الشابة لم يستسيغها عصبها الشمي..تجاهلتها و دلفت للداخل،تجاوزت الممر الفخم حتى تراءى أمامها أخيها وهو ينزل السُلَّم،اقتربت منه بملامح طبيعية ناطقةً بالتحية،:السلام عليكم
ردَّ السلام و خطواته تباطأت حتى توقفت،قابلها و يُمناه انحشرت في جيب سروال "بجامته"،يُسراه ارتفعت تمس عُنقه من الخلف قائلاً برأس مائل،:الا جاية ؟!
تجاهلت سؤاله و تجاوزته تتلفت باحثةً و هي تتساءل،:وين حور ؟
استدار لها مُجيباً،:في بيت ابوها،تبينها ؟
مالت زاوية فمها مُصدِرةً صوت ينفي سؤاله،اقتربت منه و هي ترفع الكيس الذي بين يديها،و بحاجب مرفوع،:جاية عشانك اخوي،جايبة لك هذا
أنهت جملتها مع وقوفها و قلبت الكيس ليتناثر مُحتواه على الأرضية الرخامية عند قدميه الحافيتين..عيناها كانت على وجهه تلتقط ردة فعله التي تناسبت مع ما تخيله عقلها،عيناه مُسَمَّرتان باتساع على المُلقى،عضلة في فكه بان لها اضطرابها،كيف اشتدت عروق وجهه و عُنُقِه و يده التي في جيبه تحرَّرَت من اختبائها لتعيش اندهاشها..ازدردت ريقها تتجرَّع صخرة الحقيقة الموجعة،نصفها تمنى أن يكون هو و نصفها الآخر دعى أن لا يكن.. لكن القدر شاء بأن يكون هو صاحب الصناديق السرية...،أخفضت بصرها تُشاركه الغرق،كانت محتويات الصندوق التي أفرغتها في كيس يبعد الشبهة عبارة عن مجموعة أقمصة خُلِفت بين طياتها بُقع دماء مُتَيَبسة،سكاكين بأحجام مختلفة اصطبغ سطحها بالأحمر القاني..و حبل شاركهم الجريمة مُحتَفِظاً ببضع زخَّات دماء..،
هو تَصَلَّب فكره، شرايينه و أوردته بدأت بتمرير سيوف الغضب من قلبه و إليه،قاطعاً بها مشاعر الرحمة التي بمرور الزمن تذوي بين خلجاته،قبضته استوت حديداً لُحِمَ بنيران الماضي،و عيناه تُبصِقان سوء فعاله في ليالٍ مضت تحت جُنح الدجى،أرخى أصابعه و في المُقابل قبضت أجفانه على حدقتيه،تَلَقَّفَ ذرات الهواء بعمق كاد يُحيل شقيقته ميتةً باختناق،صرير أسنانه ارتفع و عروقه تطافرت تُريد اختراق جلده أمام ناظريها،تَحَفَّزت نبضاتها لتقلباته المُخيفة و بدأت قدماها تزحفان للخلف هروباً من وطيس حرب على مشارف الانفجار،لكن انقضاضه كان أسرع، قبضة الليث استحكمت عُقدتها على ذراعي غزالته،شَهقة فَرَّت من صدرها حاملة على جناحيها ارتعاشة روحها،عُنفه الذي ينفجر أمامها للمرة الأولى نثر خَدراً بين خلاياها..جَرَّها حتى اصطدمت بصدره و وجهه اقترب من وجهها الغائرة ملامحه بين طيات الخشية،نطق بفحيح سَلَخ جلدها الأسمر،:ليش رحتين المعمل "و بصرخة زلزلتها"ليــــش ؟
تَجَرَّعت غَصَّاتها و غشاوة دموع شوشت عليها رؤية ثورته،:ليش ما تبيني اروح ؟ عشان لا اشوف جريمتك
ارتفعت يده أمام وجهها تصد سهام كلماتها،:جااااب لا تتكلمين
اجتذبت وجنتيها بَوح عينيها المُتَوشحتين بجمر،رأسها ناشد اليمين و اليسار تُنَبش بين كتفيها عن تبرير يقطع نصل جريمته،ببحَّة تَشَعَّبت بين موجات صوتها المخنوق،:حــ ــرام عليك شلون طاوعك قلبك و ذبحتهـ ـم حــرااام
لسانه اعتزل النطق و نيابةً عنه يده ارتفعت لتعتلي صهوة جنونه قاصدةً وجنتها المغسولة من استفراغ جرح عينين...،
,،
أتى الصُبح مُنتَشِلاً جسده من نومٍ أغرقه في سماء وهميَّة ترَصَّعت بأثيرها،لها قمرٌ استوى ضوؤه من خمر جسدها،و النجوم استترت خلف سُحبٍ من سحرٍ ذاب فوق أهدابها،يغفو هرباً من دُنيا تَشَبَّعت من وجودها حتى بات يشعر أن عبقها خناقه في لحده..،هجرت حُضنه بوثيقة جاهد نفسه للوصول إليها لتتشرب حِبر فراقها الذي انتبذه حداده الأبدي،هناك عند الزاوية العاقَّة التي ينتحر فيها الحُب..،
لم يُقابلها منذ آخر مرة رآها قبل سفره،أن تكون قريبة منه هكذا،يفصلهما طابقان و آلاف الطوابق الفاصلة بين الروحَين..يحتاج فقط للمحة تُشفي غليله المكوي بنيران زواجها الناشر سُهاداً يُسقِم مُقلتيه..،
استقلَّ المصعد بعد نهاية عمله مُرافقاً موظفتان ردَّ لهما الابتسامة قبل أن ينطوي في الزاوية،توقَّف المصعد عند الطابق الثاني،فُتِح بابه و انفرجت معه أساريره،أخفض رأسه و بظاهر سبَّابته مَسَّ أنفه يُكبِح لجام ابتسامة أرادت و بقوة أن تتفرس شفتيه،أُغلِق باب المصعد بعد دخولها الصامت،كهرباء مَرَّت عابرة فقرات ظهره حتى صَلَّبته من عطرها القريب المُداعب حاسَّته اليتيمة،ازدرد ريقه وهو يلتفت جانباً يُريد إجابة لقُربها الذي يكاد يصبح التصاقاً،اصطدم بصره بذبول ملامحها،عُقدة قَرَّبت مابين حاجبيه و هو يرى ضياعاً يتناثر بتصافق أهدابها،التَيه تَجَلَّى في اضطراب بؤبؤيها..وضعها غريب و كأنها ضائعة بذاكرة مفقودة ! رفع عينيه للموظفتان المُنشغلتان في حديثهما الهامس،أخفضهما مُجدداً للتي بجانبه مع توقف المصعد عند الطابق الأرضي،بَلَّل شفتيه و هو يشيح وجهه مُتقدماً ليخرج،هي تحركت خلفه و للتو تنتبه لمشاركتها المكان معه،توقفت عندما استدار إليها و عيناها عانقت عينيه بحديثٍ استعصى على لسانها..ازدرد ريقه من ثقل ما افرغتهُ عينيها،أنفاسه تخبَّطت في صدره و قلبه على مشارف الانفجار..،
هل عند عيناك علم بما تشنهُ من حرب في ذاتي ؟ بنظرة و ارتعاشة هُدب،بالتماعة بؤبؤ و نعاس الطرف،أذوي و أتحول إلى كائن لا مرئي أجوب طُرقات الهواء أبحث عن ملجأ ينقذني من انهزاماتي،ألا تعلمين أن عيناك خُلقتا للنيل من فؤادي المُغترب ؟ اغتراباً لا يهتدي إلى وطن هو قلبكِ المهجور من نبضي..سئمتُ حياة أنا فيها عبدٌ لوهم عينين،اخط فوق سماء أحلامي قصائد غزلي و هُيامي،فمسامعكِ صَمَّاء عن همسٍ عذب يذوب فوق شفتي..،فهل عند عيناك علم بما تشنهُ من حرب في ذاتي ؟ فأنا المُحارب المذبوح برصاصة النظرة و سهم الرمشين،أرى انعكاس وجهي وسط عدستيكِ المُتخذتين من القمر صفاؤه..،فإن كان العلم قد شق طُرق مُقلتيك،فارحميني و ارحميني و ارحمي ذَّات رَجُل رفع راية استسلامه أمام حرب وطنيك...،
غابت معه في حديث العيون غير واعية لباب المصعد الذي استعد للانغلاق،هو انتبه للخطر المُقترب منها،و بسرعة فائقة حَفَّزتها يد الموقف تمسك بحقيبتها و جَرَّها للأمام حتى اصطدم جبينها بذقنه..انفلتت منها شهقة نثرت شعاع الصحوَّة بين عروقها،هَمسه القريب ألهب مسامعها،:انتبهي
تراجعت للخلف بنفور و يدها بتسيير باطني ارتفعت مقبوضة حتى استقرت بجانب قلبها،رَمقته بآخر كلمة ثُمَّ تجاوزته دون أن ترفع بصرها إليه،تاركةً عُري مشاعرها المَبهم مُلقى على عتبات عقله..،
،
احتدمت سُرعة خطواتها هاربة بغيمتها التي أمطرت بصبيب أفزع قلبها..كفَّها ارتفعت بتوبيخ تضرب شفتيها بباطنها تنهر شهقات تَمَرَّدت على رئيتها تُناشد فك الحصار..مثل غريق يبتعد عن مدى رؤيته خط الأرض تمسَّكت بباب سيارتها طوق نجاتها في هذه اللحظة،فتحته و معهُ فُتحت قُضبانها الخانقة شهقاتها المسكينة..ألقت بجسدها على المقعد و رأسها بانهيار ارتخى على المِقوَّد،صوت نَحيبها اعتلى قمة حُزنها ناشراً عويله بين طيَّات السكون الصاخب المحاوطها،قلبها يُنحَر على صفيحٍ من ندم،و عقلها يُطالب بنُسيان ضاعت مفاهميه من قاموس روحها الضائعة..تفاخرت بسطوتها عليها،عانق أنفها السماء بخيلاء من روحٍ تَرَشَّحت من نهر عشقٍ مُلَوَّث،ظَنَّت أنها الفائزة و أن طير قلبها غادر القفص إلى سماء لا نهاية لامتدادها،هناك تسبح مع النجوم،هي قَمرهم الناقذة روحها من احتلال رَجُل تَمَلُّكي..لكن خلية واحدة لم تنسفها عملياتها التفجيرية،انقسمت ملايين المرات حتى أعادت النبض إلى القلب،و الروح إلى القفص و سقطت بذُلٍّ من فوق قمَّتها المشروخة..،
سموم تلك لا زالت تَتَشربها دماؤها و العروق صَيَّرَها الكَمد ليلٌ سرمدي تَتَلقفهُ يد الرياح المُفتَقِدة بصراً ينقل لها أوجاعاً سكنت ذاتها..فرياحهم عمياء لا تُبصِر موتها المُتكَرر،و لا تلتقط ما ينضب في جسدها من روائح كانت سَكرته ذات فَجر..،هي ورقة الخريف المُتجَعّد شبابها الغض،و هم الرياح العاتية يُحاولون نقلها من سماء إلى جوف أرض مُنقطعة الأنفاس،هناك حيث الموت ولا شيءٌ سواه..،
رفعت رأسه بإعياء و زُجاجٌ من دمع أدمى مُقلتيها المدعوجتين بكحل الدجى الباكي،استند ذقنها على ظاهر كفَّها و هي تُبصِر بتشويش ابتلاع المَغيب نور وجهه عن سماءها المُحتَلَّة..،
,،
ماضٍ
أحد شتاءات لندن والناس مختبئين في بيوتهم بسبب العاصفة الثلجية القوية،الألم قد طرق بابه منذ ساعة،تتصبب عرقاً ورجليها قد فقدت الإحساس بهما،خرجت منها صرخة لو سمعها بشر لصُمَّت أذنه،صرخة خروج الروح من الروح،دموعها شلال على خديها المتجمع فيهما الدم،حاولت جاهدة الوصول الى الهاتف لكن عروقها ماتت و انشلَّت جميع أطرافها التي أزرقت من الوجع..زلزال يعيشه جسدها في هذه الساعة،لم يزرها ألم هكذا من قبل،هل هكذا تكون الولادة؟!أم أن انكسارها قد زاد الوضع تأزماً،فقطعها المتناثرة بإهمال زادت الوجع وجعاً وجعلت الألم يبدو كمن يحرقون جسده حياً..ارتفع صوت بكاءها بفزع وهي ترى الدماء تنزل بغزارة،وحيدة في هذا البيت البارد بجدرانه ومشاعره،تستقبل ضيف جديد لا تدري هل ستعيش لتستقبله أم سينقطع نفسها عند اللحظة التي سيتنفس فيها الحياة !
من بين صراخها ونحيبها سمعت صوت الباب وكأن أحداً يحاول كسره،ثوانٍ ورأتها أمامها والثلج يغطيها ووجهها الخائف قد تلقى الصدمة عندما رأتها في هذا الوضع الخطير،ركضت لها هي ووالدتها
أمسكت يدها بقوة: ليش مااتصلتي اول ماحسيتي بألم مو إلت لك اتصلي
بشهقات وأنفاس متقطعة:مــ ـا ما ادرري"صرخت" بموووت
والدة أمل بعجلة:ماما أمل جيبي لي مَيه ساخنة وفوطة بسررعة"وجهت كلامها لها" حبيبتي يله اعملي متل ما بئلك
صرخات وآهات تنبض بالألم،تغمض عينيها لا تريد رؤية مأساتها الجديدة،تصرخ الوجع والظلم والخيانة،بكت نفسها وبكته وبكت الآتي الغريب،ترتجف كعصفور قد بلله المطر ولا شيء يحميه من فيضانات السنين،هاجرت وهي ترسم أحلامها على السماء والغيوم،على الرمال والبحر،تقص قصة حبها الأسطورية للأشجار لتغار الزهور وتحني لها أوراقها،لأنوثتها و رِقَّتها الفريدة..
شريط حياتها مرّ أمامها بأكمله،طفولتها القصيرة واللعب مع فتيات الحي،فساتينها الزاهية،رقصاتها تحت المطر،ضحكتها البريئة لا يشوبها حُزن ولا أسى،دراستها البسيطة وكتبها القليلة،مذياعها الصغير و فرشاة شعرها المكسورة،أحمر شفاها المختبئ تحت وسادتها الصديقة،زواجها وفستانها الأبيض البسيط،فرحتها انبهارها وسذاجتها،سُلَّم الطائرة وبداية لعالم جديد،عالم مختلف جملُّوه لها حتى تخيلته جنَّة،لم تعرف وقتها أنها مقبلة على فصل خامس يجمع أسوأ مافي الفصول الأربعة،أقساها وأكثرها ألماً،فصل مخيف ألوانه السواد وجوّه مابين الانصهار والتجمد،يمتد من العام إلى العام،فهو يبدأ ولا تدري هل سينتهي أم هو قدرٌ حتى الممات..،
صمـــت !
لا زالت تتنفس،نعم تتنفس فهي تشعر بنَفَسها الحار السريع،ودقاتها لازالت تواصل عملها،سمعت صوت أمل الذي يخالطه فرحة واضحة..
:بسم الله الرحمن الرحيم ماشاء الله بنت شوفيها تجنن
فتحت عينيها الذابلتين ببطئ كبير،أغمضتهما وفتحتهما عدة مرات حتى توضح الصورة،ابتسمت شفتيها وصوت ضحكة مخنوقة يخرج من حنجرتها الباكية،قرَّبتها منها و صوت بكاءها أُغنية تطرب لها مسامعها،ارتجفت عندما أصبحت على صدرها وذراعها احتضنتها بحنان الأم الفطري والألم قد غاب عنها،قبَّلت جبينها،خديها وأنفها حتى يدها الصغير المقبوضة استنشقت رائحتها وقبَّلتها،مسحت على شعرها الذي يبدو كثيفاُ وناعماً،كانت تبكي بصوت مبحوح وشفتيها ترجفان،نظرت لهما بخوف:شكلها بردانة شوفوا شفايفها عطوني شي ثاني اغطيها
اقتربت منها أمل وهي تغطيها جيداً بشالها الثقيل،ثم رفعت رأسها وقبّلت خدي صديقتها:الحمد لله على السلامة يا بعد عمري،تتربى في عزك وعز أبوها
ابتسمت بحزن وهي تتأملها،أيُّ أب هذا ؟!
أيُسمَّى أب من يفرّ هارباً عند سامعه بخبر حمل زوجته ؟!
همست بكلمات ارتدت الإصرار،:هذي بنتي بس،و هو ماله أي حق فيها،بربيها بروحي أنا امها و ابوها
,،
حاضر
الساعة الحالية
وَصَلَ المنزل بعد أن تعشَّى مع أصدقائه،كان العشاء بحرُ عينيها و الآلام الغافية فوق جفنيها،مذاق لسانه ملح دموعها و تحليته خَمرُ جسدها..لم تغب إشارات حدقتيها عن باله،كانت تنطق بشيء بل تَبوح بأشياء،فؤاده مُتَيقن أن زوبعة حديث تغزو روحها المضنية حياته من هَجرها،سلامُ مُحبين لاح مابين أهدابها و شوق العاشقين انثال عابراً سواد عينيها،باغتتهُ و هو التائه في سحرها،ألقت بغيثها و العقل لم يفغر فاهه لاستقبال عذبها..،استحكمت من عظامه رجفة أوزعت تأنيباً في ضميره،لا يُريد لأفكاره أن تنجرف لمنحدر مُبهَم الأخطار،في أسفله تنتظره أنثى بين راحتيها قيودٌ من عشق تقع رهينتها ذَّات حُكِمَ عليها بالسجن مدى الحياة مع أعمال حنين و التياع شاقَّة..،
زَفَرَ هواجسه مُتَكَلّلاً بابتسامة ينثر عَبَقَ حنانها على روح طفلته،احتضنها مَمَرّغاً أنفه في عُنُقِها يرتوي من شذاها البريئ الوارث قليلاً من خَدر تلك..عانقته و هي تقول،:بابا تأخرت
قَبَّل خدها بعد أن سَلَّم على والديه و أخته ثُمَّ أجابها و هو يجلس على الأريكة،:في الشغل بابا و بعدين رحت اتعشى،انتِ تعشيتين صح ؟
هَزَّت رأسها بالإيجاب و هو أكمل و بطرف إبهامه مَسَّ أنفها يُداعبه هامساً،:بالعافية يا عمري "رفع بصره لأهله مُردِفاً" باجر ان شاء الله الصبح بنروح نسجل جناني في المدرسة
والده بابتسامة مُتَحمسة داعبت وجنة الصغيرة نطق،:ماشاء الله جناني بتروح المدرسة،اي صف بتروحين ؟
طيَّة خجل تكونت حول فمها و هي تُجيب بخفوت،:كي جي تو
جــود بشقاوة قالت،:عاد انتِ شاطرة و لا كسلانة؟
جنى التي اعتادت على أسلوبها سريعاً أجابت بحاجب مرفوع،:لاا انا شطورة و اطلع الأولى
انقلبت ملامح جود بتمثيل و هي تقول،:ماينقدر عليش مادام امش جنان و ابوش فيصل
ارتعشت رموش يُسراه من اسمها المتصدّعة حروفه بين جدران كهفه المُظلم..والدته ضَعَّفت من شقوقه،:يا ليت تكمل فرحة هالطفلة و تروح المدرسة ويديها بين يدين امها و ابوها
أخفض رأسه مُشيحاً مسامعه عن ثقل أوجاع كاهله العجوز لا قُدرة له على تحملها..قَبَّل رأس ابنته ثُمَّ همس لها،:بابا بروح اسبح و اغير ملابسي وبجي
أجلسها مكانه و وقف مُتحرراً من غيهبات والدته المُبتلعة ضوؤه المبحوح من أنين..استقلَّ السلالم للأعلى و قبل مواصلته للطابق الثالث،باغت خطواته نحيبٌ مُتَقَطع ساهم في تقريب حاجبيه،التفت يتفحص المكان يُحاول التقاط مصدره،تَحَرَّك فكه لليمين و هو يقترب من غرفة أخته القريبة،حاجباه جذبهما تعجبه للأعلى و الصوت يصله من خلف الباب،طرقه بظاهر سبابته و هو يناديها بصوت مسموع،:نــور !
انقطع الصوت فجأة و كأن طرقه أصمته،ناداها من جديد بصوت أعلى اصطدم بالباب ثُمَّ ارتدَّ إليه دون جواب،قال يُنبهها،:بدخل ها
نطق كلماته و دخل ليُلسَع من حرارة الغرفة،عَقَّد حاجبيه و هو يلتفت للمكيف المُغلق،بصره تحرَّك ببطىء على الغرفة يبحث عنها،التقطت أنظاره تكوم أسفل الغطاء،اقترب بخطوات وَسَّعها قلقه المشدود بين عروقه،يده حَطَّت على كتفها و بخفة أرجعهُ للخلف لكن تَمسكها بالوسادة صَعَّب عليه عمله،جلس على السرير بجانبها و يده الأخرى تعاضدت مع الأولى و بصعوبة تمكَّن منها ليُقابله وجهها المُحتَقِن من هلع جذبته ملامحه الرجولية،ضغط على كتفها يستنبط أسباب مرارتها المُنسابة بقسوة على وجهها،خوفه أنطقه،:شفيش شصاير ؟
أبعدت عينيها بإعياء أوهن أجفانها المُتَشربة دموعها،كفها قابضة على قماش الوسادة،تتزود بدفىء فقيرة خيوطها منه..نحيبها الذي ارتفع دقَّ جرس حميته،ذراعيه امتلكت جسدها المرتعش مثل عصفور صغير سقتهُ السماء غرقاً،هي بضعف جاب و صال بين خلاياه حتى ثَبَّت حُكمه تمسكت به دافنة وجهها في صدره المُشرعة أبوابه بعد غيابٍ أسقم وجدانها التائه،هي نست روحها بين بحار أوهام بصقت أملاحها بقسوة على جراحها المفتوحة باندهاش،جراح غارت ناحتة ألماً ينبض وجعهُ في ليالي الاشتياق،تخثَّرت دماءها من ذاكرة تخبطت بين الوهم و الحقيقة..موجات البحار اقتلعت بقسوة زهورها المُتبرعمة مُخلفة جذور يتيمة زارها الموت مُخضّباً تُربتها بشيبٍ عجوز أفقدها زَهو شبابها...،
كفه استقرت فوق رأسها تجتذب وجعاً أثقله،ناداها بحنو يُفرِج عن ما اكتنز في جواها من عَبرة،:حبيبتي نور قولي لي شنو في قلبش،وعدتيني تتكلمين
أنينها المُهترىء كان جوابها،و وجهها يُريد اختراق صدره و الانطواء في زاوية أُخُوَّته المكتسيها غبار الهجران..،ضَعَّف من احتضانه مُتَجَرّعاً بذراعيه أضغاثها المجهولة التفسير..،هَمَست من قعر ضياعها،:احــ ـس اني تايهة بين الحلم و الواقــ ـع،ماني عارفـ ـة لنفسي
خلاياه أزاحت ضوضاءها مُنتبهة لبعثرتها المُتعثرة على طرف لسانها..واصلت بصوت تقتطعه أنصال شهقات،:كأني مثل الفاقدة ذاكرتها،اشوف بس صـ ـور بدون ملامــ ـح
قَرَّب فمه من أذنه ناطقاً بتهدئة أراد أن يتصنعها هو قبلها،:اشش هذا ابليس نور،اذكري الله
مَسَّت بوجنتها قماش قميصه بخفة أرادت بها أن تخدش جلدها فقد يُوَعيه ألماً واقعياً ليُحَررها من أوهام تلطم وجنات ذاكرتها المُتَخَبطة..،
غابت يين أحضانه في غفوة مُخلخلة الراحة و يده العزيزة تُفرغ حناناً بين خصلات شعرها..،
,،
الفجر ابتلع السماء باصقاً قمراً لم يستسغ نوره الكاشح لظُلمته،مضت ساعة على نومه،مُتَدَثراً بغطائه الخفيف و السواد ناشراً أذرعه على جدران الغرفة، حواسه الغافية تَنَبهت لنفس ثانٍ تمازج مع أنفاسه..،
استشعر خطراً لَاح لهُ خلف أجفانه التي تنافرت بابتعاد مشدود،و قبل أن تصدر عضلاته ردة فعل استحوذت على عُنُقه قبضة من حديد و فوَّهة سلاح حَفَرت صدغه السابح في عَرَقه..،
,،
صباحاً
إحدى المدارس الخاصَّة
بابتسامة صباحية،:اذا تحدد موعد الاختبار بنكلمك و ان شاء الله تكون جنى الحلوة وحدة من طالباتنا الفصل الجاي
وقف و كفه تلقفت كف صغيرته مُعَقّباً بابتسامة واثقة،:اكيد ان شاء الله بتكون،مشكورة استاذة،مع السلامة
خرج مع طفلته و مسامعه منتبهة لحديثها اللطيف،تداخل مع صوتها الرقيق صوت مألوف أبطأ من خطواته،رفع عينيه و رجاء داخلي تمنى أن يُدحض ظنونه رافق مسير نظراته ليصطدم بحدقتين ترشقه بسهام اتهام...،
~ انتهى
،
|