كاتب الموضوع :
simpleness
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
بسم الله الرحمن الرحيم
تَوكلتُ على الله
،
فَقدُ ذات
لم يَكُن يتوقع أن برلين تقبع في مستودع جليدي لهذه الدرجة ! أو أن جسده اعتاد على حرارة تصهره شمعاً و تُشَنج عضلات وجهه من قوة استحكامها ؟! ملابسه التي أتى بها كانت إهانة لشتاء برلين،فالدفئ في بلده يكون على هيئة معطف أنيـق،يُرتدى على مدار السنوات..فالبرد عاماً يحل ضيفاً يحمل ربع ثقل شتاء برلين..و عاماً يكون بخفة سحابة صيف أضاعت الطريق..،
لذلك قَرَّرَ الذهاب لأحد المراكز التجارية لينتقي بعض الملابس لتُذيب دمائه مُعيدةً مجرى دورته إلى طبيعته ليستطيع مواصلة نشاطه دون هوان ينثر كسلاً في خلاياه..
فَورَ دخوله قابلته متاجر زجاجها يستعرض ملابس نسائية فخمة،فساتين،أقمصة و حتى ملابس نوم أنثوية..ابتسم بخفة وهو يواصل طريقه باحثاً عن ضالته،متاجر مجوهرات،أحذية و حقائب،إلكترونيات..أين إذاً الأقسام الرجالية ؟! وقف في مكانه رافعاً رأسه للطوابق الأخرى،كان المركز يتكون من ثلاث طوابق واسعة،استدارته تُسَبب دواراً في الرأس،و أضوائه تخترق العين بقوة تُثير الدمعات..،انتبه لأحد رجال الأمن،اقترب منه يستفسر بالإنجليزية و بضع كلمات ألمانية تعلمها قبل أيام..بعد شرح و وصف طويلان استطاع الرجل أن يفهمه مُشيراً للمتاجر النسائية السابقة،:manner,manner
دَعَك جانب عُنُقِه بباطن يده وهو يلتفت للمتاجر..ماذا سيشتري منها ؟! زَفَرَ بتعب قبل أن يشكره بابتسامة ثُمَّ استدار لأحدهم بخطوات يكسوها ملل على مشارف الإستحواذ من حماسه..خَطَى مُتَجاوزاً الملابس،كان المتجر تقريباً يخلو من الزبائن،فقط امرأة و رجلان آخران غيره..ثوانٍ و بانت لعينيه أقمصة رجالية و سُتَر أرفعت من حاجبه و أمالت زاوية شفته بسُخرية..يبدو أن ذكائه قيد الإنشاء،
كيف لم يخطر بباله أن المتاجر تُشتَرك فيها ملابس الجنسين ؟! اختار لهُ معطفان صوفيان و آخر جلدي يصل لنصف الفخذ،قبعات صوفية و قفاز احتياطي،فالثلج على مشارف الولادة من رحم السحاب..،لم يكن مُنتبه للساعة وهو ينتقي،و احتاج أن يقيس أحد البناطيل،حمله برفقة ما اختاره لغرفة التبديل،أقفل الباب مع إقفال باب المتجر..،كان المقاس جيداً..ابتسم بحنين شق السماء عابراً أرض الوطن مُلَوّحاً لأجمل عينين و كلماتها المازحة ترنيمة عانقت مسامع ذاكرته
"،:هذا انت مافيك وزن من ولدتك،بس طول على الفاضي !"
استبدله ثُمَّ تناول ما انتقاه،فَتَح القفل و قبل أن يدفع الباب ليخرج..
،:على رُكبتيك و يداك خلف رأسك بسرعة و إلا أفرغت السلاح في رأسك
احتقن وجهه بخوف جَمَّدَ أطرافه،ارتفع صوت نَفَسه قاطعاً الصمت الصاخب الذي للتو يوتعي لهُ عقله،عادَ الصوت من جديد يتحدث بالإنجليزية،:ازحف للحائط
نَفَسه ارتدى ثوب ارتعاشته خارِجاً بصعوبة أسبرت وجعاً في صدره..بسرعة يده ارتفعت مُعيداً إقفال الباب و جسده بتلقائية تراجع للزاوية مُحتَمياً بدرع وهمي..،
،:هل أنت مُتَأكد بعدم وجود أحد ؟
لم يفهم إلا بضع كلمات من التي قيلت،كان الصوت يختلف عن صاحب التهديد الصريح..كان حديثهم واضحاً،فَغُرَف تبديل الملابس مُطِلَّة على قسم المُحاسبة حيث يقف أمين الصندوق لمُحاسبة الزبائن.. ومن البديهي أن مقصد هؤلاء هذا الصندوق الثمين !
،
في الخارج
العامل مطروح أرضاً قُربَ الحائط..تَلَقَّى لكمة على ناصية وجهه إثر محاولته للهرب،كان ينظر لهم بعينين نصف مُغلَقَتين،قد تَجَمَّعَ في راحتيهما ثِقل دمع يَخشى موتاً معزول،ترتفع فيه الروح بعيداً عن دفئ أحبَّاء و أيدٍ أحاكت مع القلب رواية الحياة..،كانوا سبعة رجال،ذو أجساد منفورة العضلات،جنسيات اختلطت في وجوههم،ذاك ألماني بشعر أحمر ناري،و ذاك بريطاني ذو بشرة أموات تتشعب فيها عروق القتل و الإحتيال..
و الآخر مكسيكي احترقت ملامحه بشمس بصقت أشعتها عليه تطرد قذارته عن أرضها..و الباقون بجنسيات أخرى..فهذا الاختلاف لم يأتِ صُدفة،فنزعة الغيرة و الحماسة الوطنية غير مُحَبذ بها في مثل هذه الأعمال،لا يتشارك اثنان في مُهِمة ولهما الجنسية نفسها،الماضي نفسه و حتى الاسم نفسه..فالشفقة أحياناً تكون غيثاً يرفع راية الصُلح فاصلاً وطيس حَرب،و لا صُلح في قاموس هَؤلاء !
أشار الألماني لممر غُرف التبديل آمِراً إثنان من رجاله،:اذهبا و تفقدا الغُرف مرة أخرى
،:حاضر سيدي
تجاوزا المُنحَنى حتى تقابلا مع الغُرف...ست غُرف بعضها مُشَرعة الأبواب و الأخرى مُغلَقة،فتح أحدهما الغرفة الأولى قائلاً،:لا داعي للتفقد مُجدداً لقد تأكدنا من خروج جميع الزبائن قبل دخولنا
رفيقه أجاب بسُخرية،:ألم تفهم يا غبي ؟ يُريد الرئيس ابعادنا أثناء استحواذهم على الغنائم
تَصَلَّبت يده على الباب و عيناه تتسعان و شرار يقدح فيهما،من بين أسنانه نطق و القهر في نبرته،:السارق المُحتال،بالطبع لن نحصل على يورو واحد من هذه المهمة كالعادة
ابتعد للغرفة الأخيرة المُغلَقة الباب و أصابع يُمناه تحفران في الهواء و تمتمة عانقت لسانه..التفت بحدة لرفيقه قائلاً و يده على الباب،:اذاً سيفعلون مثلما فعلوا في مُهمة متجر الساعات في الطابق الثاني ؟
مغزلة السُخرية أحاكت أوشحة على وجهه ليُجيب ببرود،:بالتأكيد
،
خلف الباب
صوتهما يقترب،يد أحدهما اصطدمت بالباب ليرتد جسمه للزاوية مُنكَمشاً على نفسه بشهيق وزفير مقطوعان من هَول موقف لم يُخيل لهُ يوماً أن يعيشه أبداً !
بالإنجليزية صوت القريب منهما نطق،:سنتفقد هذه الغرفة و سنعود لهم بسرعة
سيلٌ من استفراغ عَبَر صدغه لتتشبعه شُعيرات لحيته الخفيفة ثُمَّ ينتهي عند عُنُقِه..هُناك حيثُ العِرق يُجاهد لإختراق جسده القابع في جحر الهَلَع..،
،
الجزء التاسع عَشَر
ماضٍ
استعاذت بالحي الذي لا يموت من وساوس شيطان غَزَت قلبها المُتَيَقظ في هذه الساعة المُتأخرة من الليل..ساعة الهِجرة فوقَ القمر لوجه طمس ملامحه الدجى نَافِثاً رماد سحابه مُهَيِأً الروح لإشتعالٍ جـديد وَرث حـرارة ما سبقته من نيران ليعود أكثر وجعاً مُبتَلِعاً بدُخانه ما يرتعش في صدرها من أنفاس..،توضأت و لسانها يُواصِل استعاذته..و استغفارها الهامس التقطته الجُدران المحفوفة بملائكة أُمِرَت أن تكون الشاهد على حسنة العبد المُقَيَّدة بهذه الساعات العظيمة ..،
فَرَشت سجادتها تحت ضوءٍ أصفر بمثابة جنين وُلِد من رحم شمسٍ تغفو تحت غطاء السماء..ضوء كان مأمَناً لإبنها النائم على حافة الفزع..حواسه تقف على باب الرؤية فإن غشاها سواد ارتجفت مثل طير لا ريش يحميه من شتاء قارص..هو كان الطير و حواسه قد فقدت أسمى النَعِم و أفضلها،الراحــة..،صَلَّت الشفع،و مابين ركوعٍ و سجود انصباب دمعات على صحراء وجهها القاحلة من دفئ كفين..،اختَتَمت وِترها بسجود طويــل أفرغت بين حناياه دُعاء أرادت بهِ أن تكتسح ظلام الليل و تنهل من فيض رحمات الله و عطاياه..و أرادت أن ترفع رأسها لترى ابتسامة بِفَقدِها فَقَدت نظرة من عينيها..،
انطوت في زاوية الغُرفة..تنهل من كتاب الله شفاء يَغمر عُري جروحها..يتلبسها إحساساً يُلغي ما تأزم في الفؤاد..و يُمحي عذابات الفقد و الإشتياق..تُرَتل بهمس لا تلتقطه مسامع إبنها و ابنتها..لكن روحيهما الصغيرة تحتوي آياتٍ تُوزِع أماناً يتصدى لنيل ظالمٍ و شياطين حاقد..،أغلقت القُرآن بعد أن باحت بضيقها و اجتذبت من حروفه سلام يُعينها على مواصلة يومها..و مع إغلاقها له سمعت النداء لصلاة الفجر،كَبَّرت تُحيي فرضها متوجهة للواحد الأحد..بعد انتهائها توسدت سجادتها تتزود لثوانٍ بإحساس يغزو روحها،و هي بين يدي الله عبداً ذليلاً يرجو خلاصاً و أمناً..،خَلَعت ثوب الصلاة القابعة بين طياته رائحة خشوع ينتشر عَبَقها كُل ليلة في هذه الساعات..،غَطَّت ولديها جيداً بعد أن تركت مسحة حنان على رأسيهما..خرجت من الغُرفة قاصِدَةً المطبخ في الأسفل..الأضواء كانت مُغلَقة،عدا ضوء واحد يتلصص في الظلام عند باب المنزل..،كانت تَخطو ببطئ و هي تزدرد ريقها تُصَبر عطشها..و كالعادة لامت نفسها على نسيانها لرفع قليلاً من الماء معهم في الغرفة،لكي لا تضطر للنزول مثل مايحدث الآن..فتحت الثلاجة بعد أن غسلت لها كأس صغير..أفرغت الماء البارد فيه ثُمَّ رفعته لفمها ترتوي منه..أخفضته و هي تمسح فمها بظاهر كفها..رشحته بالماء ثُمَّ أعادته لمكانه في السلة القريبة من المغسلة..،
مثل كُل فجر توجهت للباب حتى تُغلِق المصباح،لا داعٍ لتشغيله،فالشمس ستشرق بعد ساعة تقريباً..و ضَوؤها يُغني عن إنبعاث المصباح القريب من التلاشي،أغلقته و استدارت عائدة،فعقلها احتفظ في ذاكرته بالرسم التَخَيُلي للمنزل وهو الذي يُسَيِر قدماها..خَطَت بهدوء حَذِر حتى لا تصطدم بشيء..،
،:امممم
شهقة حـادة انفلتت من حنجرتها بفزع من الصوت المُتَدَثر خلف الظلام..استدارت حول نفسها بضياع و الصوت بأنينه يَعود ناثِراً الهلع على عروقها..كفها عانقت نحرها تستنجد ذرات الهواء لتعبر حلقها الجاف بعد ارتواء..عــاد الصوت بهمسات مُتَقَطِعة ألهَمها الليل وحشته و ظلامه..عقلها لم يستطع أن يُتَرجم الكلمات المَقطوعة برمح أنَّات..سَمَّت بالله و ذراعيها تحتضنان جسدها النافرة مساماته..برودة غَلَّفت عظامها حتى استحكمت من خلاياها و قدماها على صخرٍ مُدَبَّب الحواف كانت تخطو لسراب لا تعي حقيقته..،
شهيقها بُعنف عبر طريق حلقها بعد أن ترك شروخ في جدرانه..جسدها سقط على جسد آخر يبدو أن الأرض كانت وسادته لفترة..برجفة و أنفاس لاهثة تحسسته تبحث عن خيط إجابة على هوية صاحبه..
كان الجسد عارياً و يدها الباحثة تلطخت بسائل لزج أثار لوعتها..تَخَبط النَفَس و ألم حاد عَبَرَ رأسها حتى فصل بين عينيها غارساً شوك الحقيقة فيهما ليبدأ الصبيب و يرتفع النحيب..فيدها بضعف استكانت فوق كفه المَغشيها جراح غائرة..حول خُنصِرها أودعت ذات زمن خاتم يعلوه حجر بكرم عينيه..،
نادتهُ نـداء الأنثى لعشيقها..،:حبــ ــ ـبي
كفه بِضُعف أوهن قلبها و زاد من ثِقل نياحه ضغطت على كفها مُرسِلة الوَجع لعروقها الفاغرة فمها بصراخ صَمَّ روحها..وقفت مُتَحركة بتعثر يتيم ضاع بين رياح لم تُشفِق على وحدته و غُربته..أعادت فتح المصباح و التفتت تتلقى الفاجعة المطروحة عند يسار الباب قُرب المجلس..الأرض اجتذبتها بسقوط مدوي آثاره ظلَّت تزورها بعد سنوات مُجَددةً الألم و شارعة أبواب الذِكرى الموشومة على جدار قلبها..،
,،
حاضر
غَفت أعين حَبيبيها و بَقِيت تُشارك الليل تَنَفُسه..عيناها ارتدتا السَهر و و السُهاد كان الضيف الرابع..هي،الليل..سهرٌ و سُهاد..لوحة ســاحرة تُستَحق أن تَشهدها النجوم البراقة بزهو...،الماء البارد استقر على جسدها المُخملي ناثراً قطراته على مواضع نبضها يتلصص على اعترافات قد تَبوح بها تحت ظلال هذا الليل المُعتِم..خصلاتها عانقت وجنتيها بشهية تُناغي ثغراً تَتَحسسه لتذوب فوق شفتين عانقتهما قُبلة خَلَّفتها رِقة رَجُل لا تستسيغه حواسها..،
زَفَرت مُحَرِكة رأسها تنتشل ضيق هذه الأفكار..ليَكُن السَهر هادِئاً لا تشوبه مُخَلفات عشق مبتور..سَتَرت جسدها برداء الإستحمام قبل أن تخرج لغُرفة ملابسها المُتَصِلة بدورة المياة و غرفة نومها الواسعة..خزانتها لا زالت تحتفظ بملابسها القديمة..اختارت بِجامة مُحَبَّبة على قلبها،كَرِهتها لفترة و لكن الحنين أرجعها إليها بضعف..كانت عبارة عن فستان نوم قطني يصل حتى أسفل ركبتيها،أبيض تنتثر عليه فراشات صغيرة طامسة بياضه بألوان زاهية طَغى عليها الأحمر المُنعِش..كانت و بأسف تُداعِب وصفاً احتضنهُ بصرها ذات فَجرٍ بحالمية بريئة...،
أرجعت خصلاتها خلف أُذُنها و ابتسامة كسولة في زواياها شوق لا يؤدي إلى طريق اللقاء..أبعدت الملابس بذراعها للجهة اليُسرى من الخزانة ليظهر أمامها بنقوشه المُتَدَثرة بغُبار يُثير حساسية عينيها مُسَببة التماع شفافي يُغلف عدستيها كزجاج ينكسر جارحاً نعومة خدها..،مَرَّرت رؤوس أصابعها تُعيد رسم الذِكرى عليه لتُخبره أن نبعها لم ينضب بعد،لا زال سيله متواصل غارِقاً حياتها و هي التي نست سفينتها عند بداية الشاطئ..هُناك حيثُ كانت تقف تتزود من اللوحة المُبهِرة..شمسٌ بأنَفة أُنثى تُمارس إغرائها لساعات على سطح سماء فارسُها قمراً هام بشُعاعها..و بمُجَرد اقترابه منها تستسلم لإبتلاع بحر يحجب سِحرها عن عينيه الساهريتن تنتظران عودة تُطفِئ التياع قلب دُري..،
مَسحت بظاهر سبابتها دمعة على مشارف البزوغ..أبعدت يديها عن فَوَّهة البُركان ناقذة روحها من انصهار لن يُضيف سوى شقاءً فوق شقائها..أغلقت الخزانة و ابتعدت عائدة لغُرفة نومها..استلقت على السرير بعد أن جففت شعرها المودوع عُمره السابق بين راحتي عاشق قَلبهُ مركون على عتبة الإهمال..تَلَحفت بغطائها الخفيف و انطوت تحته مثل جنين باحثة عن الخَدَر المُصمِت صخب مشاعرها..تجاهلت ما ترتديه و تناست أعصاب حسها ما استشعرته من ذكرى قبل ثوانٍ..لَهِجَ لسانها بالأذكار تستعين برب لا يُخذِل ضعف عَبده..احتاجت دقائق قليلة لتنمزج أنفاسها مع موسيقى الليل اليَتيمة أُذن زوجها من لَحنِها..استسلمت لنوم يَرحل بها إلى دُنيا تكسوها عاطفة بريئة،بيضاء و رقيقة..ففي الأحلام لا حاجة للتدثر خلف أقنعة واقعٌ غدَّار..،
،
في الجهة الأخرى..و على سرير آخر،بشوق آخر و ذاكرة تحمل إجابات لِأسئلة سطرتها أنامل لم يتجاوز عمرها العاشرة..جالساً فوق السرير رافضاً صداقة نوم يحوم حول مُقلتيه السابرتين أغوار خصلات كستنائية تشبثت لأعوام بنياط قلبه..،رافعاً ساقه اليُمنى ليتكئ بذراعه فوقها و اليُسرى مطوية حتى لامست قدمها جانب قدمه اليُمنى..يده المرفوعة احتضنت في راحتها جزءاً من طفولتها،بل وجزءاً منها..احتفظ برائحتها لفترة ثُمَّ أشاحت بعبيرها عن أنفه كما تُشيح قلبها عن قلبه بغرور يهواه بصره !
أيُّ عشق هذا الذي لا يجعلك أعمى عن مساوئ عشيقتك،وإنما أنت تُبصِرها و يستطيع جواك أن يُعددها على شرايينه المُتبلدة عن أي ألم..؟!تهوى هذه المساوئ و بتلقائية تبتسم زويا شفتيك بحُب مرئي لا تُتَرجمه عدستيها..،تكرهه نطقت عيناها بذلك و هُما أمام منزل والدها،رفعت ذقنها الدقيق بلا مُبالة اختلطت بتكبر مُقيت بغرابة يُفغِر فاه حواسه ليهيم في تأملاته لسكناتها المميزة..هي مثلما كانت و ستكون،أنثى بغرور طاؤوس من خلفها تجر أذيال رَجُل صُغر عقله أودى به إلى مقصلة الحُب التي أُعدِم عليها عدد صدودها و جراحها..،
كيف تَعَرَّى قلبه عن أغشيته شارعاً قصره لتنصيب ملكة لم تكن أبداً خيراً على شعب جسده الأعزل،كانت الحرب و المعارك..كانت السهم و حدة السيف،الرِماح أهدابها و حوافر الخيول وقع خطواتها المائلة لاعوجاج خصرها،ترتطم بصدره مُحَطمة قفصاً استحوذت على طيره المكسور الجناحين..احتدم قتالها و هو كان المُحارب الماهر المُتَأهب لأي طعنة أو قطع عُنق يُنهي مرور أزمنة الحب عبر رئتيه،استسلم للموت مراتٍ و مرات و في كُل مرة كان قتل الروح أشد من ماضيها..،تنهيــدة نَفس يتنشق بقايا أكسجين أنثى هَجَرته بفم مملوء خرجت من قعر صدره،ناثِراً أثقال أتربة تراكمت فوق صمام قَلبه خانقة راية بيضاء بين حينٍ و آخر تُناشد ارتفاعاً يُنقذه من تهميش مُوجع بوجع فقد الحبيب..،
أخفض على الوسادة الجديلة المُتعانقة خصلاتها مثل أوتارٍ تُصدِر ألحان موسيقى وداع و ترسم مشهد دمعة مسجونة في العين،تَخشى من هروبٍ يُبَخرها و يقضي على آخر إحساس كان قد نما في ذاته لتلك..لأنثاه القاسية..،
,،
ساقه لم تَكُف عن اهتزازها و عنوان الحيرة يُلازم راحة وجنتيه،في بؤبؤيه ترى اضطراب لا يجعلهما يَسكُنان عن الحركة،و كأنهما بفزعهما يُحاولان التنبيش عن ثغرة ضوء تبتلع هذا الظلام المُحاوط بصيرة القلب..،زَفرَة مُتَألمة تَحَرَّرَت من صدره كاشفة عن حرارة نيران تَسعر في جوفه،يداه ارتفعتا إلى وجهه يمسح عَرَق القهر العابر صدغه،تخللت أصابعه خصلات شعره شاداً بها يُريد أن يقتلع الفكرة من جذروها و أن يجتذب حَلاً استعصى على ذهنه المسقوم من بثور برؤوس بيضاء كُلَّما لفحتها ريح هواجس عَصَرت نفسها مُخرِجة سائل شفاف لهُ رائحة نتنة تُهَيج أنفاسه و تزيد من زفراته إلى أن يُخنَق الشهيق و يُقتَطَع طريق النَفَس..،أخرج جهازه من جيبه و كفه برجفة ارتفعت تحشر فوهته في فمه ضاغطاً أعلاه مرتان ليرتفع منه بُخار تلاشى بعد لحظات في الهواء..أخفضه وهو يتنفس ببطئ يسترجع زمام أمور رئتيه المُسوَدتين من دخان الحُب..،
،:يعني شنو بتستفيد اذا ظليت على هالحالة ؟
التفت لهُ بحدة رامقاً إياه بنظرة طرفها سكين بتهديد ارتكزت على عُنُقِه يمنع استرساله،لكن ذاك أكمل بلحن نُعاس امتزجت معه لا مُبالاة صريحة و رشات من السُخرية،:ياخي والله انك ما عندك سالفة،هذا و هي بتسافر وياه بس،شلون لو تزوجته ؟
إبرة المُستقبل الأسود غرستها كلماته الساخرة في قلبه لينهض مثل ملسوع مُستَحوذاً على قميصه عند العُنُق شاداً بغضب حليمٍ هَجرته أنثاه ذات فجر..،بفحيح هامس نَطق وعيناه في عينيه،:قسماً بلا يا محمد إن عدت هالحجي مرة ثانية بتشوف شي عمرك ما شفته
حاجبه الأيسر اعتلى قمة سُخريته و حروفه اكتساها جليد جَرَّح مسامع هذا الغاضب،:ماله داعي اعيده،بيكون واقع و بينعاد كل يوم قدام عيونك،بتشوفه و بتحسه
دفعهُ بقوة إلى الخلف و يداه لم تُحَرران قميصه،ارتطم ظهر مُحَمد بالحائط و عيناه ببرودهما الساحق لم تنفكان عن نثر أملاح على فؤاد رفيقه المُعتَل..،صَرخة شَقَّت طريقها عابرة حلقه المركون فيه عَبَرات لم تُتَرجمها دمعات،:جــــــااااب اسكـــت يا كــلــ.. اسكــــت
ارتفعت زاوية فمه اليُسرى و بهمس قال آمراً،:اتركني
عيناه تحدقان بشرار أراد به أن يَحرُق كُل رَجال العالم لكي لا تكون مُلك أحدهما،ضغط بقوة على عُنُق مُحَمد الخالية ملامحه من أي ألم،و بذات الهمس أعاد أمره،:عبد الله اتركني،مابي أضرك
السُخرية انتقلت إليه ليقول،:شنو بتسوي يعني ؟!
ما إن أنهى جُملته حتى بَطَحه مُحَمد أرضاً على بطنه و ذراعيه باعوجاج يُديرهما للخلف،تأوه قائلاً،:آآه يا كـــلـــ..
ارتفع صوته مُؤنِباً،:اوعــى لنفسك انت مو طفل عبد الله،ثلاثين سنة عمرك و للحين مو عارف تدير أمورك ؟!
نَظَرَ لهُ بحَنق و احمرار الوَجع اتخذ مأخذه من وجهه،بهمس لاهث نطق،:ماهي أي أمور يا محمد كانت زوجتي و حبيبتي "ارتعاشة المرارة أضعفت صوته وهو يُكمِل" كانت عندي حلالي و مُلكي و اللحين خــ ـ
قطعت كلماته صرخة ارتفعت من حنجرته و عيناه تَغمُضان من قوة قبضة مُحَمد،:خــلاااص اتركني
زاد من الاعوجاج وهو يقول،:مو قبل ما اكسرهم،آخر زمن تبي تضربني عشان بنية !
فَتَح عيناه و برجاء تَوَسَّطَ عَرَق وجهه،:خلاص خلني،آســف خـووك
أرخى قبضته نافراً ذراعيه وهو يقف عن الأرض ليجلس باسترخاء على الأريكة الواسعة و عيناه تجاوزت درجتها المئة تحت الصفر..أخرج علبة السيجارة من جيبه،ثَبَّتَ طرفها بين شفتيه وهو يُقَرب باطن يُسراه من رأسها و باليُمنى أشعلها نافثاً أسراب ماضٍ تداخل مُشَوشاً الموقف..،عبد الله الذي كان لا يزال على الأرض يُمَرر يده على ذراعه ضاغطاً بتربيت يُخَفف من الألم و عُقدة تَكَللت بوجع عانقت مابين حاجبيه..رفع عيناه لمُحمد الذي يُدَخن بهدوء و عقله يبدو مُسافراً إلى حيثُ تقبع أسراره..أخرج تنهيدة طويـلة أتبعها بسؤال تكسو حروفه الحيرة،:زيـن قول لي شنو اسوي ؟
نطق و عيناه لا زالتا تحفران في صندوق الزمن،:لا تسوي شي،انت خسرت الفائدة برفضك،بس اذا شفنا الأمر من جهة ثانية فيمكن عدم سفرك احسن لك و لها " حَرَّك عينيه له و الجدية بينهما" لين متى بتظل مثل المُراهقين تلاحق ورا وحدة قالت لك بعظمة لسانها انها ما تبيك ؟! خلاص انسى و خلها في النهاية هي الخسرانة،ما بتحصل واحد يحبها و يقدرها مثلك
مال رأسه و صوته ارتفع بضحكة ساخرة اعتلت صهوة العذاب،ليت نسيانها بسهولة الكلام،ليت عيناي تَغمُضان ثُمَّ يُفتَحان على ضوء شمس يُنَقي روحي من سموم حُب هدفه الأسمى شقائي،فالنسيان بات حُلم يرفض أن يزور نافذتي،تعاضد مع قمرٍ أشاح ظهره لي رافعاً راية الخصام،يُعاقبني على فراق كان رغبة قلبها،فراق اصطُبِغَت منه خصلاتي الشابة ببياض هَرِم لهُ انحناءة ظهر عجوز مات وحيداً لا يُكَفِن جسده حُضن أنثى استقلت سُحابتها بعد أن أفرغت فيضها لتُغرق روحي في بحرٍ تجذبني أرضه إلى ظُلمَة تحجب عن انشداه مُقلتي أجوبة أُقَلب أسئلتها كُل ليل فوق وسادتي...و النتيجة حِبرٌ من دم يطمس بياض صفحاتي ليُنهي كتاباً اعتقدت أن خاتمته ستكون جواب يُعيد اللقاء...،نَظر لهُ و المرارة أشحبت ملامحه الساكن فيها هَجر أنثى مُبهَم،و بغبطة همس،:هنيالك يا محمد قلبك للحين عندك،ما سجنته مرأة..
اتكأ بذقنه على باطن كفه وهو يقول بابتسامة تميل باستغراب،:انتوا ليش الى هالدرجة مستسلمين لعذاب المرأة ؟!
وقف عن الأرض ليجلس على يمينه مُتسائلاً،:مين احنا ؟ " وبسخرية أردف" ليش من بعد زوجته بدون سبب كرهته و طلبت الطلاق ؟!
استنشق من سيجارته قبل أن يقول،:محد،بس قصص متشابهة،فراق و طلاق و كل واحد في جهة،خلاص انتهت قصتكم مع بعض ليش تظلون متعلقين فيهم ؟! الا مايقدرك لا تقدره خصوصاً لو كان الموضوع يتعلق بزواج !
عَقَد ذراعيه على صدره و ابتسامة مُحبَطة على شفتيه،:ما بتفهم يا محمد لو شنو ما قلت "رفع كتفه مُردِفاً" يمكن اللي يقدر يحس فيني فيصل لان ذايق العلقم مثلي
ارتخى حاجباه و حدة ابتلعت نظراته،تراجع ظهره للخلف بعد أن أطفأ السيجارة و بهدوء سأل،:ليش جنان هي اللي طلبت الطلاق ؟
ارتفع حاجبه و رأسه يَميل جانباً بتَعَجب أثار ضحكته قائلاً،:محمد من صدقك تسألني عن اختك ؟ اللحين من هو اللي لازم يكون عنده الجواب انا لو انت ؟!
,،
النوم كان عدوها في هذا الليل،لم يُحَفزه ظلام و لم تُناغيه لمعات نجوم قد تنثر نُعاساً يُطبِق أجفانها المُتَوَرِمة من سُهاد يشتاق لِرَجُل تحتكره قُضبان الطفولة المُفجِعة..الشمس كانت في بداية شُروقها،تُداعب أطراف سماء تَشَبعت فيها ألوان تَحكي قُدرة خالق أبدع..نسمات صباحية حَمَلت معها عَبق زهورٍ تَلَقفت أطراف خصلاتها الناعمة لتتهادى مثل مَهدِ طفل من خلفها..،على المقعد الخشبي في الحديقة تَجلس بساقين مُرتفعتين،على رُكبتها اليُمنى استكان ذقنها،عيناها بتركيز مهزوز على شاشة حاسوبها تقرأ بعض المعلومات الخاصة بالجامعة التي قَرَّرت التسجيل فيها..مَقَرَّها،أوقات التسجيل و مُتطلباته من أموال و شهادات و قُدرات أيضاً..و ما خلف العين يسبح في السماء المُوازية سقف غُرفته..بالتحديد فوق سريره،تَتَلصص على خلوته و تُراقب عن بُعد سكناته و تَقلُّبات جسده أثناء نومه الذي لم تحظى بالتعرف على طقوسه قط..!
زَفَرت بِضَجَر و خدها يتخذ وسادة ذقنها،التقطت أنظارها هاتفها المركون على الطاولة الخشبية صامتاً لساعات،مَرَّرت لسانها على شفتيها قبل أن تَضُمهما للداخل و هي ترفع رأسها لتستند بظهرها إلى المقعد،تناولت الهاتف و هي تُرجِع خصلاتها خلف أُذُنِها،بخفة حَرَّكت إبهامها ضاغطة على الزِر لتفتحه،مالت شفتيها للأسفل بخيبة و هي ترى الشاشة فارغة،لا رسالة و لا اتصال..أرجعت الهاتف إلى مكانه بإهمال و سُخرية مُتَحشرجة اكتست ملامحها،كيف ظَنَّ عقلها الساذج أنه سيُحادثها ؟ أليس هذا ما أراده ؟ الفراق و التَحَرر من شفقة امرأة تُكَبل حياته بقيود تافهة ليس لها القُدرة على إبطال مفعول الألم في نفسه..دموعها لن تغسل بقايا إجرام الماضي،أحضانها الصغيرة لا تتسع لعالمه المخسوف المُفتَقِد لأرض مُستَقرة لا تتفجر منها ينابيع دماء تُلَوث ما قد تُلبِسهُ عيناها من بياض نَقي..ابتلعت غصاتها غير آبهة بالجراح التي سببتها في حلقها،أغلقت الحاسوب ثُمَّ حَملته مُتَوجهة للداخل،مُتناسيةعلى الطاولة مَعبَر لم يَكن أبداً مُلتقى لروحيهما المبتور حَبل امتزاجهما..،
،
هُناك عند ذلك الضائع في غُربة طفولته...يشاركها السَهَر و وحشة غريبة تكاثفت دُخاناً أسود حاجبة عنه الرؤية،فور وصوله تَجَمَّدَت خطواته على أرضية باحة المنزل و هو يرى الموقف يخلو من سيارتها..اجتذب الأُكسجينات مُسَرّعاً من خطواته عابراً طُرُق شكوكه مُتَوجهاً إلى غُرفتها العذراء منه لينصدم بالباب مُوصَد،أُقفلته مُلَبية طلبه الحقير ساجنةً رائحتها بعيداً عن سموم أنفاسه..ما كان لهُ سوى انهيار عند بابها،يُناشد ليل سرمدي يحمله فوق قمره إليها،يُداوي جرح رأسها و نُدَب روحها..يعترف لها بأن الفراق كان قرارً اعتمدته غَصباً عروق قلبه المُشارفة على التَحَلُل بعد موت أودى بحياتها..لا حُب لديه يوزعهُ على أُنوثتها..و لا دُنيا تعلو قِمَمَها ابتسامات و أفراح ينهل بعَذبها عليها..فغيومه لا تحمل في رحمها سوى برقٍ يَتصَدى للنبضات مُهَدِداً بذبحٍ بطيء و بارد ألمه يَستمر قرون حتى بعد أن تقتات الديدان على بقايا الجسد..،
انتهت الساعة الثالثة و ظهره لا زال يتوسد بابها..رأسه بين كفيه و عيناه تَهرُبان من واقع شَرِس يُجبِره على اقتلاع زهرته من أرضه القاحلة،خوفاً من سماء لا تزورها سُحُب و إنما شمس حارقة تُبصِق أشعتها على قلب أنثاه لتُصيره نيران تُكسِبه قساوة تُناقض ليونة وجدانها المُرهَف..،هو مثل مسكين تاه بين غياهب الزمن و تصافقتهُ يدي الدُنيا ذات النتوء المغروسة في الروح،تجرح فتُدمي ثم تُعَمق الجرح مازجة مع الدماء سائل أسود يُسَمونه البَشَر"عثرات" تكسرك لتُنهِضَك أقوى مُجَدداً،و لكن ما الحيلة اذا ما ابتلع السواد النقاء و أفرَغ سمومه و أمراضه المُنقَسِمة خلاياها دون توقف ؟ فيُستَعصَى العلاج و أقراص قُبَل أُنثاه تختلط مع ريقه بمرارة مُودِعة في القلب عِلَّة مُزمِنة تُطرِق باب ضميره تُأنبه على سَجنِه لامرأة تُلَوح لها من خلفه حياة مُتَوشحة برداء أبيض تُطَرزه سعادة من عسجد نَقي لا يشوبه جنون رَجُل مفقود الذات...،
,،
صوت هـادىء محشو بنبرة حَنونة كانت أجمل نغمات طفولتها..دفئه حاصر شعرها مُفرِغاً إشارات تخدير لذيذة تُرَغِبها بالمزيد..يدها بانجذاب ارتفعت للدفئ فوق رأسها،احتضنت رسغه مُقربةً كفه إلى صدرها تحتضنها و تتزود من فيضها الدائم..،
،:بابا حَنـيني
عُقدة واقع قَرَّبت من حاجبيها الخفيفين،حَرَّكت رأسها بخفة دافنة جانب وجهها في وسادتها ترفض النهوض و الإنحسار عن هذا الحُلم الشهي..ارتفع من حنجرتها صوت مُستجيب و خَدَره يُواصل مُهِمته مُبعِداً خصلاتها عن وجنتيها..باغتها صوته يَشُق موضع الإسترخاء،:حنين باب يله قومي
انتشلت أجفانها بصعوبة من بحر النُعاس و بؤبؤيها ينحرفان لزاوية عينيها يُجاهدان صَحوة تُعيد الوَعي لعقلها الذي بشق الأنفُس استطاع أن يُقَلص حجم الثِقل المُتَكَوم فوق أعصابه..،فَرجة صغيرة تكونت بين شفتيها و عيناها انكشفت شمسهما المُنيرة،تَبَينت لها صورة والدها المُبتَسم..بادلته الإبتسامة و بصوت يملَؤه النوم،:صباح الخير بابا
بإبهامه مَسَح على وجنة طفلته،حبيبته و أميرته الصغيرة،بهمس عَذب أجاب،:صباح الورد يا روح البابا
اتسعت ابتسامتها و خطوط الراحة استكانت على ملامحها،رفعت جسدها لتُلقي به بقوة في حضنه،تَمَسَّكَت ذراعيها بجسده دافنة وجهها في عُنُقِه تُعيد ملأ رئتيها برائحته الصباحية المُتيَتِمة عنها لإسبوعان و أكثر..بتنهيــدة بالغة المشاعر،:الله من زمـــان عن هالريحة، و من زمان عن الصبح اللي استقبله بوجهك الوسيم
ضحكة جهورة ارتفعت منه وهو يُعَقَّب على حديثها،:لا جذي بصير مغرور،وسيـم ها ؟
رفعت رأسها إليه لتحتضن بكفيها وجهه القريب و بحُب عميــق،:و أوسم رجال في العالم هذا كله
قَبَّل مابين عينيها قبل أن يهمس،:عمري انتِ "أردف وهو يُبعدها قليلاً" زين حبيبتي خلاص مدام صبحتين على وجهي الوسيم مثل ما تقولين قومي غسلي و تجهزي خل نمشي
مال رأسها بتساؤل وخصلاتها النعاسة مالت معها،:ليش وين بنروح ؟ "اتسعت حدقتيها لتقول بحماس" لا تقول بنروح نتريق برا ؟
ابتسم لها مُجيباً،:اي بنروح نصبح على زوجش و نتريق وياه
تَقَلصت ابتسامتها و ذرات برود تناثرت على ملامحها لتقول،:لا يُبه ماله داعي
تَحَرَّرَ من ذراعيها ليقف قائلاً بجدية،:بلا اعتراضات يا حنين "و أردف بابتسامة ماكرة" ولا ترى بعطيش محاضرة طويلة عريضة على نومتش اهني
مالت شفتيها للأسفل و باستعطاف،:بـــابا
استدار مُتجاهلاً استعطافها المُذيب شمعة فؤاده،:خلاص يا حنين يله قومي تجهزي
,،
انتهى من تسريح شعرها المُستنسخ تموجات شعر والدتها و لونه الأشبه بالشكولاتة..فَرَده من خلفها لتُلامس أطرافه كتفيها النحيلين،و من الأمام رفعه بطوق رقيــق لونه أبيض تكسوه زهور صغيرة جداً باللون الذهبي..ابتسم لها بعشق زُلاله أروى تُربة قلبه مَرتين..ضَيَّق عينيه وهو يقرص خديها الناعمين قائلاً،:قَمـــر قَمــر أحلى وحدة في البنات
رَمَشَت بغرور و هي ترفع ذقنها الدقيق و بثقــة صريــحة،:ادررري
ضحك بخفة لثقتها التي زَرعها في شخصيتها مُنذ نعومة أظافرها و باتت تحترفها بطريقة مُضحِكة..نَقَل بصره لأختيه المُتسعة أحداقهم و فمهما تُعانقه ثَغَرة مُتَعَجبة،نَطَقت جــود و نبرة عدم التصديق ترتفع مع كلماتها،:فيصلوووه خليت البنت نسخة منك ؟!
نُور بضحكة ساخرة مؤيدة،:نسخة مُصَغرة منك،الغرور نفسه
رفع إصبعه لهما و بجدية قال مُصَحِحاً،:هذي يسمونها ثقة مو غرور
هَزَّت جـود رأسها تُجاريه،:اي اي بالضبط ثقة تجيب المرض
أبعد عيناه بعدم اهتمام ثُمَّ وَقَفَ وهو يُمسك بيد صغيرته،:يله حبيبتي خل نروح تحت نتريق ويا بابا ناصر و ماما ليلى
خَرَج معها و من خلفهما نور و جود تُناقشان موضوع الغرور الذي يرتديه فيصل مُنذُ الطفولة إلى درجة إثارة حَنَق و امتعاض أي شخص أمامه،يثق ثقة عمياء بنفسه و لا تُخَلخل هذه الثقة نفثات كاريهه..فهو باحتراف يستطيع أن ينفصل عن أشواكهم المُغالية المُريدة الشر له..هو حتى معهم لا يتَعَرى من هذا الرداء لذلك أصبح غروره المركون على شماعة الثقة مصدر ضيق لمن حوله..،
جَلَس على المقعد بعد أن صَبَّح على والديه و جنى كذلك..أجلسها فوق فخذيه و بدأ بتخييرها بالأصناف المُتَعددة..،قَرَّبَ منها قطعة خبز صغيرة بعد أن دهنها بالجُبن على حسب طلبها..تناولت الخُبز بأناملها الصغيرة و بدأت بالأكل تحت أنظار الجالسين و والدها يُراقبها بانتباه،يمسح بقايا الخُبز المُتَجمع عند زاوية فمها و يُساعدها على شرب الحليب الساخن لكي لا تُلسَع منه وهو يُحادثها ببراءة تتجانس مع براءتها الفطرية..،
،:مـاما
رفع رأسه لصوت نور،كانت تقف باضطراب و عيناها جهة والدتها..حَرَّكَ أنظاره للمقعد الذي تجلس عليه والدته،عَقَّد حاجبيه وهو يراه فارغ..أعاد بصره لنور مُتسائلاً،:شصاير ؟
كان الجواب من جود التي قالت بحدة،:الأفضل انك تقوم تشوفها
أعاد سؤاله بعدم فهم وعيناه بضايع تتحركان على الوجوه،:ماني فاهم شصار اللحين ؟
والده بهدوء قال،:قوم فيصل لأمك شوفها تضايقت من شنو
زَمَّ شفتيه و رئتيه تتجاذبان أطراف الهواء مُستَوعِباً ما يحدث..وقف بعد أن أجلس ابنته مكانه وهو يقول،:بابا بروح شوي و بجي
بخطوات سريعة مشى يبحث عنها..و فور ابتعاده عن غُرفة الطعام استقبلتها عيناه في غُرفة الجلوس الكبيرة..الأريكة تحتضن جسدها المُنحَني ظهره لجاذبية بُكاء يفيض من مُقلتيها العزيزتين..زَفَرَ و ضيق شديد انثال على قلبه مثل بنزين أشعل ما كان قد انطفأ..اقترب منها جالساً على رُكبتيه أمامها و برجاء امتدت يداه يُحاول أن يُزيح كفيها ليكشف دموعها،:يُمه حبيبتي لا تصيحين
شَدَّت يدها تُحاول أن تَتَحرَّر من قبضته و هي تُشيح عنه و جهها المُختَبئ خلف راحتيها و بحشرجة اكتنفها العِتاب،:روح عني مابي اشوفك
ابتسم لها بإحباط و بنبرة حاول بها أن يمسح رماد الزَعل عن قلبها،:افــا يُمه،قبل اسبوع كنتِ تحمدين الله و تشكرينه على شوفتي واللحين ما تبين تشوفيني
أبعدت كفيها لتقول بخيبة،:ما كنت ادري انك مسوي بلوة "ضَرَبت على صدرها بقبضتها لتُكمِل بعَبرة أم " كل ما اتخيل نفسي مكان جنان احس بطعنات في قلبي،اشوفك تأكلها و تهتم فيها وامها محرومة من هذا كله،ليش سويت جذي يا ولدي ليش حرمت جنان من هالإحساس ؟
أغمض عيناه بقلة حيلة وهو يقول و الرجاء احتكر حديثه،:يُمه الله يخليش لا تتعبين نفسش بهالأمور قلت لش انا بحل السالفة لا تحاتين و لا تفكرين في أي شي
نَفَرت يده و هي تقف و صوتها يرتفع باستنكار،:انا مادري ليش انت قاعد تتعامل مع السالفة ببرود ؟! حس يا فيصل حس،جنان أم و انت جرحتها أكبر جرح،حرمتها من بنتها لخمس سنين "رفعت كَفيها لوجهها تستر الحَرج الذي أنتجته أفعال ابنها مُردِفَةً" مااعرف شلون بحط عيوني في عيونها اذا عرفت،الله يسامحك يا فيصل الله يسامحك
,،
ماضٍ
معالم الخجل تكسو ملامحها الناعمة تاركةً بقايا ألوان زَهرٍ أحمر على وجنتيها..خصلاتها تُعانق سبابتها بشرود حالم غَفَى فوق جفنيها،مَضَى يومان على خطبتها و ها هي الآن تعيش موقف كُل فتاة،تُناقش أحاسيسها لِتَتبع إشاراتها التي ستنتهي بها إلى الجواب..،مالَ رأسها مُسنِدَةً جانبه لإطار النافذة و ابتسامة تَعَطرت بشذا الإستيحاء استوطنت شفتيها..لم تتوقع أبداً أن تكون في فِكر رَجُل ! أُنثى تجول في خاطره ليختارها شريكة حياته الأبدية..هو بالذات لم تنمو شَذّرات شكوك في عقلها نحوه..فهو لم ينظر لها خِلسةً،و لا تَذكر أنهُ حادثها صُدفة او قابلها بابتسامة مُتَرَدِدة..،ملاك كذلك عَبَّرَت لها عن صدمتها،فهي و لا في أحلامها ظَنَّت أن زواجاً قد يجمع أخيها مع صديقتها ! و كيف أن طيراً وقف على رأسها هي و والدتها عندما أفصحَ لهما عن رغبته قائلاً بصراحة،:ابـي حـور زوجة لي...مثلما نقلت لها ملاك ! احتراق مُلهِب تقدد بسببه وجهها التقط أطراف ملامحها،كفيها بتهدئة ارتفعتا لهُ تُطَبطب على راحته تُخَفف وَخزَ بضع ذرات الخَجَل الفظيع،ضِحكَة هامسة غادرت حنجرتها تُحيط بها هالة من فرح استحكمت قبضته الرقيقة من قلبها العُذري..مُنعِش هو شعور أن تكوني اختيار رَجُل دون تدخلات أم مُهَيمِنة و لا إجبار موقف مُحتَدَم...،مثل حُلم اذاً كانت هي بالنسبة إليه،و الآن ستُصبِح حقيقة و ستمتزج روحها الأنثوية بروحه الرجولية...لسانها بعذوبة استطعمتها أعصابها النابضة بزهو نَطَق هامساً بإسمه المُستَكين كقلادة
فوق جيدها
،:يُــــوسف
,،
حاضر
نظرت للمرآة بشرود و أذنها بدأت تنصت لحديث روحها..خللت أصابعها في شعرها الحريري الأسود..مرّرت إبهامها على حاجبها المرسوم ببراعة ثم انتقلت إلى أنفها المنتصب في وسط وجهها يفصل ما بين عينيها السوداوتين..أخيراً استقرت أصباعها أسفل ذقنها بعد أن ألقت نظرة على شفتيها المطليتين بأحمر شفاه داكن كلون ثوب نومها الحريري..رشت قليلاً من عطرها رشات متفرقة اختلطت مع رائحة جسدها الطبيعية لتكوّن خلطة سحرية قادرة على اختراق أنف أيّ رجل و إثارة نيران داخلية فيه،وقفت و ألقت نظرة أخيرة على فستانها الماروني المُلتَف بإغراء على جسدها شاداً خيوطه بكيد حَوْل مفاتنها..،
تساءلت باستغراب يشوبه خوف و هي تنظر للصورة المُنعَكِسة،ماذا يحصل لها ؟! هالتها التي أحاطت بها نفسها طوال هذه الأعوام تكاد تُزعزعها ذكريات الماضي الذي دفنته تحت أرضٍ حُجِبَت عنها الشمس و تغير مسير السحاب عن سمائها حتى أصبحت لا تعرف المَطر..أرضٌ قاحلة هي الذكرى،توقفت عن إروائها لأعوام و أروت روحها التي ذَبُلَت من جراء تَوَلد إهمال من صدمة قَلَبت كُل ما فيها،جعلتها هي و ليست هي في آن واحد،نست نفسها عند مُفتَرق طريق و ألبسها الزمن نَفْس جديدة تلتقي معها كُلَّما نظرت للمرآة..
قُيود تُحيطها على شكل دائرة ليس فيها زوايا تختنق عندها و تسترجع تلك الذكريات جامعةً بين راحتيها دموع غابت عن مُقلتيها،هي في راحة بين القيود لا تُريد أن تَتَحَرَّر،لا تُريد أن ترى النور،و لا تُريد أن تعود للمُفتَرق حيثُ تنتظرها تلكَ النفس المُهَشَّمة،أغشت عينيها بألوان الحياة الإصطناعية خوفاً من رمادية مُشَوشة يَطغى عليها السواد،و صَمَّت مسامعها بأصوات الضحكات المُختَبئ خلفها أنياب ذئاب عن أنين يتقطع ألماً،هي اختارت أن تُصبِح ليست هي لتعيـش....،
امتزج العِطر البارد برائحتها المُثيرة امرأة على أعتاب المُراهقة المُتَأخِرة التي دَقَّت الجَرس قبل أعوام ولم يأتِ الجواب إلا بعد مضي ثمانية و عشرون خَريفاً تساقطت على إثره أوراق مشاعرها و بَقت أغصانها تذوي إلى أن عادت إلى بداياتها قبل أن تُطبَع آثار رجلي صَقر ذو نظرة ثاقبة تستقر دون رحمة وسط البؤرة المُتَطَلعة لحياة زَهرية تنمو لؤلؤ بين أصداف بحرٍ شمسهُ دائماً مُشرِقة..،ثَبَّتت حقيبتها على رسغها و ببطئ يُلوي خصرها بتلاعُب مُحتَرف يسيل لهُ لُعاب قلوب الرجال العارية من دين و تقاليد..غادرت شقتها القابعة في حي راقٍ و هادئ يُناسب مزاجها الصَعب،استقلَّت المصعد للأسفل و قبل أن تخرج من باب العِمارة ارتفع صوت هاتفها في الحقيبة،ابتسامة تعاضدت مع مَكر عينيها زَيَّنت شفتها المُغرية و هي ترفعه لأُذنها هامسةً برِقة،:ربع ساعة و جاية
~ انتهى
،
|