كاتب الموضوع :
simpleness
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
تَوَكَّلتُ على الله
الجزء الثَّامن و الأَرْبعون
،
بِخَريرِ دَمْعٍ أَغْرَق رِمالَ الرُّجولةِ التي يُشَكِّلَها بِيَدَيه الصَّغيرَتين أَوْسِمة..يَتَقَلَّد بِها اتِّباعاً لِوالده،:يُمَّـــــــه ! طاح التــوت طـــاح..كلَّه مــات و طاح ! بيمــووت يُمَّـــه !
أَضاف مع احْتكار جُحوظ الفَزَع مَحْجَريه و العَبْرة تَفْتك بِصَوْته المَبْحوح خِلْقة،:بيمــ ـــوت التوت اللي يزرع في شَفايفهــ ــا !
،
عَيْنان أَوْسَعَتهما فَرْحة مازَجَها حَماسٌ بَدَأ يُرَفْرِف وَسَط رُوحها..و بتساؤُل مُتَلَهّف،:احْـــلف فيصل ! قول والله قول والله...من صدق تتكلم لو قاعد تمزح ؟
ضِحْكة قَصيرة غادَرت حَنْجرته وَ رَأسهُ يَميل بِخِفَّة لليَمين،بالتَّطارد مع مَيَلان شَفَتيه كاشِفَتان عن ابْتسامة عَجَبَاً أَنَّ الخَجَل قَبَضَ عليها مانِعاً إيَّاها من فَضْح دواخله..فكان وُلوجها للضَّوء نِصْفي..تَوَارى نِصْفها الآخر خَلْف حُصون قَلْبه المُتَكَتِّم و جِدَّاً..بِصَوْتٍ كان يَسْتَظِل بالخُفوت حَتَّى لا يُبَلّله حَدْس أَحَدٍ رُبَّما قَد يُشاغِب عَقْلهُ الشَّك..،:والله ما امزح "حَكَّ خَدَّه بِطَرف سَبَّابته مُرْدِفاً" من فترة كنت أفكر في الموضوع..و بعد ما حسيت إنّي جاهز قلت أكلمكم
تَساءَلت جُود بفضول و بذات الحَماس،:تحب وحده يعني ؟
انْقباضاتٍ و انْبساطات تَوالت عليه مُهاجِمة مَعِدَته..و بين حُجرات قَلْبه تَصَادمت النَّبَضات بِشَعْواء يَشُوبها التَّوَتُّر..و صِدْغاه نَشَطَت بين عُروقِهما بَراكين لها حُمم مُشْتَعِلة،لَظَاها أَيْقَظ عَرَقَه..إلهي ما هذا العَذاب ؟ فَيْصَل..ما هذا الكِبْرياء ؟ اكْشِف الخِمار عن ضِعْفك وَ لَو لِمَرَّة..مَرَّة فَقَط..لَيْسَت خَسارة..ولا انْكسار ! تَجاهَل نَصيحة عَقْله التي لم يَعْلم حِينها أَنَّهُ سيَنْحَرها بعد سِنينٍ أَشَدَّ نَحْر..شَبَك ذراعيه فَوْقَ صَدْره..كَما قُضْبان تُسْجَن من خَلْفها اعْترافات قَلْب حَرَّمَ عليه مُمارَسة أَعْظَم حُقوقه..نَطَق و هُو يُلْبِس عَيْناه الجِدّيَّة التي تُليق به دائماً و أَبداً..،:أكيد لا..ما عندي هالسوالف أنا
نُور بهُدوء تَساءَلَت لتتأكَّد،:يعني تبينا احنا نخطب لك ؟ على ذوقنا
بضِحْكة أَجاب،:لا طبعاً..مو على ذوقكم تماماً "حَرَّكَ كَتِفَيه مُوَضّحاً" يعني اقترحوا علي و بشوف إذا تناسبني ولا لا
والده شاركهم النِّقاش مُضيفاً نَصيحة لبِكْره،:أهم شي تكون مقتنع في البنية..يعني لو يكتبون فيها قَصايد مَدح و يزينونها في عيونك و إنت مو مرتاح لها..لا توافق..إنت اللي بتعيش معاها مو هم
جُود باعْتراض قالت،:لا يُبه ما يصير..إذا البنت كاملة في كل شي..ليش يرفضها !
ارتَفَع حاجِباه مُجيباً ببساطة،:بعد إذا ما دخلت قلبه ! يغصب روحه و ياخذها لأنها كاملة في نظركم ؟
نُور بتأييد،:صح كلام أبوي..مهما كانت عاجبتنا فهو اللي في النهاية بيعيش وياها..مو احنا..فاقتناعه أهم شي
رَفَع بَصَره لِوالدته الصَّامتة..بسُكونٍ سارِح تَتَأَمَّل نُقْطة مُعَيَّنة..يُبْدو أَنَّها قَد نَقَلَتها إلى زَمَنٍ و مَكانٍ مُبْهَمَيْن..بَعيداً عن حاضِرَهم..ناداها بهُدوء،:يُمَّه،ما سمعنا رايش !
صَوْته المُرْتَدي نَبْرة الإسْتنكار لم يَخْتَرِق الغِشاء الفاصل كَيَانها عنهم..أعاد المُناداة بِصَوت أَكْثَر ارْتِفاعاً و حَدَقَتيه مُتَعَلِّقَتان بِشَبَح الإبْتسامة الغَريبة و الغافِية فَوْقَ شَفَتَيها الصَّغيرَتَين..،:يُمَّـــه !
بَهُتَ الغِشاء و افْتَرَقَت جُزَيْآته لِتَفُر كَفِرار غازاتٍ ما هي إلا بَقايا فُقاعة شَفَّافة..رَمَشَت بِخِفَّة مُسْتَعيدة صَحْوَتها..نَظَرَت إليه بانْتباه و هي تُجيب بِمَلَق و الإبْتسامة لا زالت تَرْتَوي من شَهْدها،:نعم حَبيبي
جُود تَدَخَّلت بِلَحْنِ غيرة اعْتاد أَن يَحْتَكِر حِبالها الصَّوْتِيَّة كُلَّما اجْتَمَعت والدِتَها بِشَقَيقَها الأَكْبَر،:حَبيبش مستغرب ليش ما عطيتينا رايش في موضوع خطبته المُوَقَّرَة
أَرْخَت ساق على الأُخْرى و هي تُسْنِد ظَهْرَها للأَريكة مُعَقِّبَةً بِحاجِبٍ أَرْفَعهُ ثِقْل الإبْتسامة الواسِعة،:حَبيبي..أنا أقول نشوف لك أول شي من أهلنا..إذا و لا وحدة عجبتك..نبدي نشوف من بعيد "أَخْفَضَت رَأسَها قَليلاً جِداً،لِتَنْظُر إليه من الأَسْفَل و الإبْتسامة شاكَسها مَكْرٌ بدَأَ بِنَثْر بُذور الإرْتباك بين حَواسه..أَرْدَفَت بِلَحْن لَهُ مآرب" أو يمكن إنت حولك وحدة..أو في قلبك وحدة
رَنا بِعَيْنيه لِجُود التي نَطَقَت بتَمَلْمُل دُون أن تَعْرف أَنَّها أَنْقَذته من الجواب،:ماما ولدش هذا من كثر غروره قلبه مافيه قفل أَساساً..يعني ما في أمل وحدة يكون عندها مفتاحه و يحبها
نَطَقَت نُور و هي تَحْدو قافِلة التَّفْكير،:من أهلنا ؟ "مَسَّت ذِقْنها و جُزْء من شَفَتيها الزَّهْريتين بظاهر أَصابعها المَطْوِيَّة و هي تُكْمِل" غَيْداء مخطوبة..و حتى لو مو مخطوبة هي أكبر منه..و بنات خالاتي الأغلب صغار..بعدهم حتى ثانوي ما دخلوا..وو جِنــان
حَلَّقَت حَدَقَتاها لِجُود التي أكْمَلَت عَنها بثقة،:و جِنان بنت عمتي ماتبي تتزوج نهائِياً
والدها اسْتَنْكَر بعُقْدة حاجِبَين،:ماتبي تتزوج ! و ليش إن شاء الله !
أَجابتهُ زَوْجته و هي تُرْسِل لَهُ بِعَيْنَيها الواقع الذي أَفْرى بمخالبه حُلْم الزَّواج الذي يُرافق وَسَن أي أُنْثى،:إنت أدرى يا ناصر..أمها و أبوها ما قصَّروا
زَمَّ شَفَتَيه و هُو يَهز رَأسه إيجاباً بعَدم اقْتناع..و عُقْدة حاجِبيه مَدَّدَت سَيْطَرَتها حَتَّى اسْتَحْوَذَت على باقي ملامحه..يَبْدو أَنَّ الضَّياع الذي يَحْكُم حَياة تِلْك الشَّابَّة طالَ مُسْتَقْبَلَها..لَم يَكْتَفِ من تَشْويه أَحْلام مُراهقتها..شَطْب ابْتساماتها و كَتْم ضِحْكات سَعَاداتها..فَهْو تَعَدَّى على المِرْآة العاكِسة أَحْلام مُسْتَقْبَلها..فهَشَّمَها بالقَدْرِ الذي لا يَعْلمهُ أَحد..لِذا فَلَن يُجْبِرهُ أحد..،تَزَاحَمت التَّنْهيدات في صَدْره..اخْتَلَطَت و تَجانَسَت حَتَّى اسْتَوَت آه زَفَّتها قِلَّة الحيلة من بين أَضْلعهُ،لِتَذْوي بين جَنَبات هَواء مَبْتور اليَدَين..يُسْتحال أن يَلْتَقِطها فَيُصَيّر الآه قُدْرة تَنْفذ لِروح هذا الخال الأَعْزَل..بَذَل كُل مافي وِسْعه لإنْقاذ تِلْك الضَّحِيَّة و شَقيقها بَعْد مُخَلَّفات وَغى خَطيرة..تُدَمّر الطُّفولة و تُبَدّد الأحلام بَعْد أن تَخْرق سَفينة الأَمان،فَيَكون الحِرْمان من شاطئ الاسْتقرار..لكن هذا القَرار للتو يَسْمعه..و لَم تَسْتَسغه حَواسه..و هُنا لا بُد من خُطْوة جَديدة..يُواصِل من خلالها بَذْل طاقته..مَنْطقه..و عَواطفه..،
أَمَّا ذاك..المَحْكوم على قَلْبه بالسّجن المُؤبَّد..فقد أَصْدرَ حُكْماً آخر..كان من نَصيب لِسانه الذي انْطَوى على نَفْسه..لِيَشْنق كَلِماته حَتّى المَوْت..هُو مُذ أَنْهَت جُود جُمْلَتها فَتَحَ فَمَهُ لِيَسْتَنْكِر..لَكنَّ يَدا كِبْريائه كانَ القَضاء مُلْكَهما..فبَصَمَتا على حُكْمٍ جَديد يَمْنع حَواسه المُنْتَشِية حُبَّاً من تَقْويض حُصون الكِبْرياء العَتيد..ضَمَّ شَفَتيه بقوَّة و تَرَك صَوْته يَزْعق في جَوْفه..كما أَبْكَم يَصْرُخ مُنادِياً الكَلِمة لِتُجيبه بِصَفْعة مُدْوِية..ما هي إلا صَمْتٌ يُشْبِه الصَّمْتَ المُتَكَفِّنة بهِ خَسائِر الحَرب..،شَدَّد من عُقْدة ذراعيه لِيُضيق الخِناق على نَبْضه لَعَلَّه يَتنازل عن مَطالبه..ازْدَرَد ريقه مُحاولاً التَّمَلُّص من بين هِذْيان رُوحه التي أَصابها الخَبَر بسَهْمٍ قاتَل..لا تُريد الزَّواج نِهائِياً..نهائياً فَيْصل..إذاً هي مَحْذوفة من قائمة الإقْتراحات كُلِيَّاً..،
بِصَوْتٍ واحد اعْتَلى اعْتراضهما الحاد،:لاااا مُستحيـــــل
انْتَشَل ذاته من زَعْزَعة قَلْبه و رُوحه لِيَلْتَفِت بِحواس مَحْمومة لِشَقيقَتَيْه المُلَوّح ذُعْرٌ مُضْحِك على وَجْهيهما..أَدارَ رَأسه بِعَدم فهم لِوالده الذي عَلَّقَ بضِحْكة،:لا عاد..ردة الفعل جداً مبالغ فيها
جُود قالت و عَيْناها يُحاوطهما اتّساع يُوضّح جِدّية اهتمامها بالذي يُناقَش..،:لا بابا مو مبالغ فيها..مستحيل هالشي يصير "وَضَعت كَفَّيها على رَأسها كَمَن يَخْشى من وُقوع مُصيبة و هي تُكْمِل" حَنين و فيصل..يعني عيال ما عندهم أرض..بس سما..من كثر ما روسهم تطالع فوق
نُور بهدوء و حَديثٍ حاولت أن تُنَمّقه بالمَنْطِقِيَّة،:ماما يعني هو في النهاية الراي راي فيصل..بس من نظري حَنين ما تصلح له.. بالأحرى اثنينهم ما يصلحون لبعض..صراحة صراحة "نَظَرت لأخيها و هي تُرْدِف بِخَجَل طَفيف" سوري فيصل مو قصدي شي..بس صراحة إنت نفسها..ثقتكم بنفسكم زايدة و قد توصل للغرور
جُود أَكْمَلت عنها بمَلامح اعْتَلاها الاشْمئزاز،:الذي لا يُطاق..الواحد عادي يفكر يذبح نفسه من غروركم المُسْتَفِز
اسْتَأنَفَت نُور رَأيها و هي تُعاود تَوْجيه كلماتها لِوالديها،:فأنا اشوف إنهم ما بيقدرون يتفاهمون مع بعض بسبَّة طبعهم المتوافق
ابْتَسَم فيصل بِخِفَّة و هُو يَفُك عُقْدَة ذراعيه مُعَقّباً مع تَقَدُّم جَسَده للأمام لِيَتَّكئ بِمِرْفَقيه على فَخْذيه،:صح كلام نور..أنا عارف طبعي و عارف طبع حَنين..أدري لا أنا بتحملها و لا هي بتتحملني
جُود أضافت لِتُذَكّرهم،:و لاتنسون إنَّ اسمها مرتبط براشد ولد خالتي من يوم احنا صغار
وَقَفَ والده قائِلاً مُؤكّداً على الحقيقة التي تَوَصَّلَ إليها الجَميع..و تَوَصَّلَ إليها فَيْصَل بِغَصَّة مَكْتومة،:يعني ما لك نصيب في بناتنا..خل أمك و خواتك يشوفون لك إذا في وحدة من معارفنا "رَفَع يَده مُسَلِّماً و هُو يَخْطو" تصبحون على خير
تَبَعهُ رَدَّاً من الجالسين قَبْلَ أن يَتْرك جَسَد نُور الأريكة مع ارْتفاع يَدها لِفَمها المُتَثَآب نُعاساً حَطَّ على جِفْنيها،:و أنا بعد وصلت نومتي..تصبحون على خير
فَزَّت جُود من مكانها مُغادِرة أَيْضاً..لا لِنَوْم..وَ لَكن لِتَلْحق شَقيقتها..فَلَديها جُعْبة من الخيارات التي تُريد أن تُلْقي عليهن نُور نَظْرة،قَبْل أن تَضَعهن في القائِمة...،خلال أقل من دَقيقة فَرُغَت غُرْفَة الجُلوس..ما خلا نَفَسان،يَتَأَرْجَحان على وَتيرَتان مُتَنَاقِضَتان..فوَتيرة الوالِدة كانت مُتَّزِنة..تَحُفَّها ثِقة مُزَيَّنة بإكْليلٍ من زَهْر حَمَلَ عَبَقَ الماضي البَريء..أمَّا وَتيرة الإبْن..فَلَقَد شَابها التَّيْه حتى أَحْناها..فَبَدَت مُتَعَرِّجة..تَتعَثَّر بها الأَنْفاس المُضطَّرِبة من خَسارة تَلوح في الأفق على لَحْنِ نايٍ حَزين..يَزُف تابوت حُبّه المَدْفون أَصْلاً وَسَط لَحْد كِبْريائه السَّادي..،
وَ هُو على جُلوسه تَأَمَّل صَفْحة يَده..رآها مُطْمَسة من خُطوط..و كَأنَّها تَعاضَدَت مع مَبْدَأه لِيُعَذِّبا ذاك الفؤاد المَخْلوق من ضعفٍ يُهَدّد رُجولته..فهي رَفضَت أن تَصُف الحُروف فَوْقَها لِتَهْديه إلى طَريقٍ الفَوْز بأنوثتها..لَكِن يا فَيْصَل..ما دُمْتَ خادِماً لِهذا الكِبْرياء..فلن تَعْبُر قَدَماك خطَّ النهاية المُفْضي إلى تِلْك الجِنان المُحَرَّمة..،
كَفٌّ اخْتَزَلت حَنان العالم أَجْمع بَيْن ثَنْيات رَاحتها احْتضَنت شَتات رُوحه المُعْدَم فَوْقَ كَتِفَيه..رَفَع رَأسه كَمَهْزومٍ اشْرَأب عُنُقِه للذي أَتى كَما حُلْمٍ دافئ لِيَنْتَشله من وَحْل خُسْرانه..طَبْطَبَت على هَلَع قَلْبه مُقْلَتان انْعَكَسَ وَسَط بَيَاضَهما شَجَرة تُوت يانِعة..لا تَفْتئ تُناغي رُجُولته..هَمَسَت لهُ و تِلْك الإبْتسامة تُعَرّيه أَجْمَلَ عُري و تَفْضحه أَشْرَفَ فَضيحة..،:حَبيب أمّك لا تخاف..إن شاء الله ما بيقطف توت شَفَايفها إلا إنت
ضَوْءٌ خافِت ناغى لِسانه،فَطَفَق يَتَحَرَّر من انْطوائِهِ القِسْري..مَشْدوهاً للذي أَفصَحَت عنه بِثِقة تُعينها الابْتسامة..و عَيْناه حاصَرَهُما ذُهولٌ بَريء..كَبَراءة فِكْرته التي كان يَعْتَنِقَها في طُفولته..نَطَقَ بِلَحْنٍ يَعْزف عَدَم الإسْتيعاب و حَدَقَتاه تَتَراقَصان على وَجْهها القَريب..،:شلــوون!
صَعَدَت كَفُّها لِخَدّه لِتَحْتَضِنَهُ بِمَلَق و هي تُجيب،:إنت ولدي فيصل..إنت أغلى من نفسي اللي افهمها..ِشلون ما افهمك ؟
أَطْبَقَ شَفَتيه مع انْسِدال جِفْنيه و تَخَبُّط بَصَره على اللاشيء مُتَرْجِماً تَيْهه القابع داخله..و بِكَلِمات مَرَقَتها أسِنَّة الحَقيقة،:بس يُمَّه...يُمَّـــه هي ماتبي..سمعتين شنو قالوا نُور و جُود..ماتبي تتزوج نهائياً
تَرَكَت كَفُّها خَدّه لِتَنْتَقِل لِخصْرها مُتَسائِلةً بِمَلامح ماكِرة و هي تَميل في وُقوفها،:و إنت عشان هالحجي بتدور وجهك عنها و تتركها لرجال ثاني ياخذها ؟ "أَلْقَت عَليه رَعْداً اَفْزَع كَيانه المُبْتَلي بها" يعني عادي عندك تخسرها !
حَرارة لاسِعة شَنَّت هُجومها عَليه حتى اصْطَبَغت أَطْرافه و وجهه من آثارها..نَظَرَ لها و العَزْم على مَحْياهِ يَحْتك بالحِدَّة،لِيُشْعِلان وَميض أَمَل يُسْقي عتْمة ذاك المَسْجون..،:لا يُمَّه..ما ابي اخسرها "أكَّد و البَحَّة تتعاظَم من عُنْف مَشاعره" مُسْتَحيل اتركها تضيع مني
،
ضاعَت..و ضاعَت..و ها هي تَضيع..و سَتَضيعُ حَتْماً مَرَّاتٍ و مرَّات..ما دامَ البُعْدُ مَلِكاً جائِر..يَرْفض الخُضوع لِمَطالب شَعْبه ذو النَّفْس العَزيزة..،كابُوس..كابُوسٌ أَسْود..خانِق،يَقْبضُ على القَلْب و الرُّوح..لَهُ عَبيدٌ من أَقْفال حَديدية تَتَكاتف و تَتَقَيَّد بِبَعْضِها،و تُلْقي بِنَفْسِها على صَدْره..تضْغَط بِلا رَحْمة،و كَأَنَّها تُريد أن تُؤكّد لهُ أَنَّهُ واقِع..فلا تَرْسم يا فَيْصَل آمالاً لِذاتك و تُصَبّرها بِرَغيفٍ مَحْروق يُسَمَّى كابوس..قَد يَتَفَتّت و يُصْبِح بَقايا يَهْزمُها واقعٌ طازج..فَواقعك مُرّ..يَزْداد مَذاقهُ سوءاً بُعْداً يَتْلوه بُعْد..،هَمَسَ باحْتراقٍ يُذيب هُدوء الليْل..و بِبَحْرٍ هائِج من عَرَق أَرْداهُ هَزيلاً..ضَعيفاً و وَهِناً..بالكاد يَلْتَقِط أَنْفاساً ما هي إلا مُخَلَّفات قَلْب تَكَرَّرَ ذَبْحُه..،:ضاعت..ضـ ـاعت.. .. بعد ضاعت مني..ليش طلَّقها ! مو هي تحبه ؟ هو يحبها.. ..هو أخذها مني... ....كانت له من يومها مراهقة....قلبها له....ما كان خالي.. ...هي تحبه..راحت له و هي زوجتي..صارت حقه..ملكه..له بروحه..ليش طلَّقها ! ليش اللحين.....ليش توني دَريت ؟ "ضَرَب بفُتات قُوَّته المَهْزومة على جانب سَقف سَيَّارته و بَحَّته تُرْسِلُ للِيْل عَبْرَتَها" ليــــش بعد ما ملجت على غيرها دَريت...ليـ ــــش !
يَدان لَطالما أَسْنَدَتا خَسَاراته حَطَّتا على كَتِفيه من الخَلْف..لِيَتْبَعهُما هَمْسٌ قَريب مُتَشَبّع بِرائِحة الأُخُوَّة،:فيصل اهدا..لا تفقد سيطرتك على نفسك..و لا تخلي الشيطان ينسيك قَدَر رَبك..كل شي بيده و يجري حسب رغبته..هذا كفيل إنّه يخليك تواصل ليلتك و إنت متطمن..لأن قلبك مؤمن إنّ ما بيصر إلا اللي فيه خير لك
هَمَسَ و الصَّوْت يَضْعَف بين مَتاهات الضَّياع،:خيــر ؟ "كَرَّرَ بِنَبْرة أَشَدُّ يَأساً" خيــر ! إنّي أخسرها خير ! "أَخْفَضَ رَأسه سانِداً جَبينه على ظاهر كَفّه المُتَّكِئة على السَّقف و هُو يُرْدِف بضِحْكة مَبْحوحة قَصيرة،ما هي إلا تَرْجُمان لِلَوْعات جَواه" سَلْمان لا تجذب عَلي عشان تواسيني
ضَغَطَ على كَتِفه مُعَقِّباً بِحَزْم،:مو قاعد اجذب..فيصل اوعى خلاص..إنت مو لها و لا هي لك..ربي يبيك تبدا من جديد..مع بنت غيرها..عيش فيصل..عيش و إنت حُر منها "أَخْفضَ صَوْته مُسْتَقِلَّاً وَتَر الحِمْية لَعَلَّ فَيْصَل يَنْتَفِض فَينقذ بَقايا كِبْريائه" عيش مثل قبل..إنت فيصل اللي ما تضعفه مراة
رَفَع رَأسه ثُمَّ اسْتَدار لِتَتَّضِح مَعالم وَجْهه المَيّت..كان أَسْوَداً يَمُر بَيْن أَزِقَّاته بَعْض احْمرار ما هُو إلا دِماء انْتَحَرت بمُغادَرَتها أَرْض قَلْبه..لِتَنْجو من أَوْجاع حُب يَقْتات على الضَّياع و يَتَنَفَّس الفِراق..مالَت شَفَتاه بابْتسامة رَسَمَت خَطَّ زَمَنٍ مَضى..كان فيه رَجُلاً يَحْفُر الأَرْض بكُل اسْتسلام....و حُب..هَمَسَ و أَهْدابه تَتَصافق...كَجِنْحان طَيْر أَفْزَعهُ المَطَر..،:فيصل ذاك..اللي ما تضعفه مراة..دفنته من زمااان..دفنته من اللحظة اللي صارت فيها حَلالي "تَعَلَّقَ بَصَرُه بِفَرَاغٍ يَخْلو منها و يَفْتَقِر لوُجودها الأُنثوي مُسْتَدْرِكاً بِلَحْن يشْبه لَحْنَ النِّهايات" اللحين هي حُرَّة...يــ ـ.. ..يَعـ ـني..يَعني...
أَطْبَقَ شَفَتَيه بقُوَّة بالتَّوالي مع حَقْن قَلْبه بسائِلٍ من وَجَع ضَخَّمه حَتَّى باتَ يُكَسّر أَنْفاسه و يُخْنِقه..وَجَعٌ يَصْهر الفؤاد و يُهَشّمه..لِيُمْسي فُتَاتاً لا يُشْبِع جُوع ذاته المُتَلِهّفة إلى حُبٍّ مَضَى و لَم يَرْجع..فَحُرِّيَتها تَعْني احْتمالية أن تَكون مُلْكَاً لِرَجُلٍ غَيْره..من جَديد..أَي مَوْتٌ صامِت من جَديد..مَوْتٌ أَبْكَم كَما خَلايا سَرَطانية تُهاجِم و تَقْتل ثُمَّ تَسْتَقِر دُون أن تَترك وَقْع بَصَامتها أو آثارٍ لَها...ذاكَ هُو المَوْت الذي يُشْعِل جَحيماً داخله..بلا دُخانٍ يُلَوّح لأحِبّائه فَيْنقذوه...يَحْترق..يَخْتَنق..و يُقَطَّع إلى أَشْلاء لا تُجَمَّع..بِصَمْت...فقط بِصَمت..،سَلْمان كان يَتَأَمَّله بذُهول..يَتَأَمَّل حيرته المُشاغِبة أَهْداب عَيْنيه..يَتَأَمَّل جُيوش الأَلَم السَّافِكة هُدوء مَلامحه..يُصْغي مع اللَّيْل لِسَمْفونية أَنْفاسه المَوْلودة من مَقْطوعات حَزينة..أَلَّفَها رَجُل فَقَد ذاته..اسْتَنْكَرَ بِوَجْس و هُو يبْصر الماء اللَّامع في عَيْنيه،:بتصيح فيصل !
أَجَاب بِحَسْرة مُضَعِّفاً من إذْهاله،:يا ليـــت...يا ليت اقدر اصيح..بس ما اعرف "و بأَسَف" ما اعرف اصيح مثل ما إنّي ما اعرف انطق واطلّع اللي داخلي "هَزَّ رَأسه بأسى" أشفق على نفسي سلمان..أشفق على نفسي اللي العالم يظنها قوية..و هي في الأساس من أضعف مخلوقات ربي
ناداه و هُو يَقْتَرب أَكْثَر،:فيــصل اســ
قاطَعهُ صَوْته الذي بَدا مُسْتَسْلِماً و جِدَّاً للبَحَّة،:خَلاص سلمان "رَفع ذراعه يَنْظر لِساعة مِعْصمه و هُو يُكْمِل بِتَنْهيدة كانت بطُول سَنَوات الفِراق" لازم ارجع داخل..أكيد اللحين يبوني ادخل لها
أَشار لِهَيْئته مُعَلّقاً بِسُخْرِية أَراد بها أن ينفض غُبار الضّعف عن مَنْكَبَي رَفيق دَرْبه،:زيــن عَدّل شكلك لا تخوّف البنية..كأنّك طالع من حرب نَفْسيَّة
ابْتَسَم لَهُ بِخفَّة مُعَقِّباً على كَلماته الأخيرة،و يَداه تُعيدان تَرْتيب رَبْطة عُنُقِه التي ارْتَخَت على إثْر عِراكه مع ذاته،:والله و عرفت توصف حالي..حرب نفسيَّة
هَزَّ رَأسه رافِعاً حَاجِبيه و بابْتسامة ثِقة،:و بتنتصر عليها...صدقني
,،
عَلى أَريكة واحِدة كَان جُلوسَهما..يُرافِقْهُما حَديثٌ وِدّي كان قَد خَطَفَت شُكوكٌ مُرْتابَة بَعْضاً من أَلْوانه الضَّاحِكة..لَكِنَّ المَحَبَّة النَّابِتة زَهْراً نَقي وَسَط رُوحَيْهما..طَغَى شَذاها الأَذْفَر على كَلِماتٍ نُفِثَت من فَمِ أُمٍّ تَشَرَّبَت دِماءَها حِقْداً..و انْتقام..،تَساءَلت و هي تَجُول بِعَيْنيها على المَكان الضَّاج بالنِساء..و الموسيقى الهادِئة خَلْفِيَّة تَسْتَنِد عَلَيْها كَلِماتها،:وين جَنى ما شوفها ؟
ابْتَسَمت مُتَذَكِّرة ما حَدَث لِتُجيبها،:عقب محاولات و إغراءات اقتنعت إنها لازم تروح الملجة..جُود عشانها قالت بتروح صالون..تقول عقب ما سووا شعرها و صبغوا أظافرها قالت لها تبي ترجع لأمها
اعْتلاء مُتَعَجِّب نال من حاجِبَيها المَرْسُومين..و بِضِحْكة تَساءَلت،:شسوت وياها جُود ؟ عاد الأطفال محد يقدر عليهم إذا عاندوا
أَجابت و هي تُرْخِي ساق على الأُخْرى،و بِأصابعها النَّحيلة تُسْكِن خُصْلاتها خَلْف أُذْنها..مانِعةً أَرْض خَدِّها من مَسِّ حَريرها..،:استمرت في العناد..على قولة جُود نزلت للأرض تصيح مو راضية حتى تمشي..بالغصب اقتنعت يوم كلمت أمها في التيليفون
ضَحَكَت مُعَلِّقةً،:يعني استغلت جُود..تعدَّلت و تزينت بعدين قالت ابي أمي
شاركتها الضّحكة،:بالضَّبط
و هي تُشير لابْنتها المَشْغولة بالتاج الذَهبي ذو الأزْهار الصَّغيرة المُزَيّن شَعْرها،:بيان كانت متحمسة لها..تقول لي بروح أرقص في العرس ويا صديقتي الجديدة
مالت بابْتسامة ناعِمة شَفَتاها الصَّغيرَتان،المُرْتَشِفَتان نَبيذاً مُسْتَدَر من ثَمَرةِ كَرَزٍ شَهِيَّة..و الحَنانُ قَد تَفَرَّعَ أَغْصاناً يانِعة من عَيْنيها المُتَدَثِّرَتين بِخِمارٍ من كُحْل أَسْود..قَاصِداً وَجْه تِلك الطّفْلة البَريئة..و اليَتيمة..،:يا عُمْري..أكيد بتزعل إذا خلصت الملجة و ما شافتها
و حَواسَها قَد اسْتَشْعَرَت تِلك الأغْصان..،:ما عليه بخليها تزورها يوم ثاني.."اسْتَدْرَكَت بِهَمْسٍ رَقيق و ابْتسامة حُب تُناغي شَفَتَيها،مع غَفْو كَفّها فَوْق كَفّ نُور المُرْتاحة على فَخْذها" عندش حَنان منزوي في روحش..إن شاء الله اشوفش ماما تغمرين طفلش بهالحنان
ارْتبَاكٌ خَجِل شَاغَبَ أَهْدابها المُلْتَوِية بأنوثَة مُلْفِتة..ازْدَرَدت ريقها المُتَحَفّز اسْتِجابَةً لِرَنين نَبَضات قَلْبَها الحائِر مُنْذُ زَمَن..و جُمْلَتها هَذه سافَرَت بها للذي أَتاها فَجْراً..يَوْمَ كان صَديقاً..و يَوْمَ كان حُبَّاً..و حين أَصْبَحَ زَوْجاً...،حَنَّت على خَدّها فأعادَت إليه حَريرها لِيَنْعَم به..و حَقيقةً هي أرادت أن تُخْفي مَلامحها التي نالَت منها اخْتلاجات مُتناقِضة..خَشِيَت أن تُثير شُكوك ابْنة عَمِّها..عادَ صَوْتها مُواصِلاً بَثَّ كَلِمات ماهي إلا أُكْسِجينات مُنَقَّحة من شوائِب الماضي و قَذاراته..،:ما أخفي عليش نُور..كنت أتمنى اشوف عيال أخوي منش..بس ربي مو كتب..نصيبكم مو مع بعض "ضَغَطَت بِمَلَق و إبْهامها تُناغي ظاهر كَفَّ نُور الغارِقة في الصَّمْت..أَرْدَفَت و كَأنَّها تُريد أن تُسْكِب زُلالاً عَذْب يَرْوي قَحَط هذه الاُنْثى التي أَفْقَدها كابوسٌ أَسْود اتّزان عَيْشَها" صدقيني إنّي ادعي ربي يرزقش بالزوج اللي يستاهلش..تعيشين وياه العمر كله بحب و راحة..بكون أسعد وحده نُور..صدقيني
مَرَّرَت لِسانها على شَفَتَيها و هي تَنْتَزِع من بَيْن أَضْلاعها تَنْهيدة نَشَبَت بَيْن ضِلْعٍ و نَبْضة،كَما شَوْكة تَجْرحُ النَّفَس كُلَّما مَرَّ بِها..أَخْفَضَت ساقَها و هي تَتَحَرَّك مُحاوِلَةً طَرْدَ إشارات التَّوَتُّر عن حَواسِها..أَلْصَقَت ظَهْرَها بالأريكة مع ارْتفاع ذراعها ماسَّةً بباطن كَفَّها جانب عُنُقِها..الْتَفَتت لِغَيْداء و من خَلْف خُصْلاتها نَظَرت إليها مُعَقِّبة على حَديثها،:أدري حبيبتي غيداء..أدري إنش تحبيني و تتمنين لي الخير..من غير ما تقولين
أَغْمَضَت للحظات مع مُغادَرة يَدُها كَف نُور لِتَمَس بأصابعها صِدْغها و هي تُفْصِح بإمارات الحَرَج،:و الله للحين متفشلة من اللي سويته ذاك اليوم..من اشوفش اتذكر الغباء اللي قلته...اخاف إنتِ للحين زعــ
قاطَعتها بسؤال مُضاد،:من وين فستان بيان ؟ ناااعم..حبيــته "نَظَرَت للطّفِلة لِتُنادي" بَيونه تعالي حبيبتي اشوف فستانش
مالَ رَأسها بِخِفَّة بالتَّوالي مع مَيْل شَفَتيها المُتَعَلِّقة بِهما ابْتسامة خالَطها دِفءٌ تَسَرْبَل بالمَحَبَّةِ و الحَنان..هذه النُّور لا تُريد أي اعتذارات جَديدة..تُريد أن تُؤكّد لها أَنَّ تِلْك الليْلة و شَكَاسة حَديثها في مُنْعَزل لإحْدى زَوايا ذاكرتها المُظْلِمة..و لا تَنوي أن تُضيئها..كَما أَنَّها تَرْفض أن يَطَأها لِسان أَحَدهم..فالماضي المُشَوَّه بالسُّوء لا أَرْضَ لهُ بينهما لِيَزْرع فيها عَلْقَمه..تَأَمَّلَتها و هي تُحادِث بَيان..تُداعب خَدَّيها..تُعيد تَسْريح شَعْرها الذي عَبَثَت به يَديها الصَّغيرتَان..تَبْتَسِم لها برِقِّة و تَهْدي وَجْنتيها القُطْنِيَّتين قُبْلة عَطِرة..و في سِرِّها كَرَّرَت دُعاءَها بأن يُعَوّضها الله خَيْرا..،
,،
تَقْبَع فَوْقَ سَرير الوِحْدة..طِفْلةٌ هِي.. تُصافِح يَدَ الماضي الغائب الحاضِر..كان في حِجْرها دُمْية لم تَعْرِف أَصابعها كَيف تُجَدِّل خُصلاتها المُهْتَرِئة..بَحَثَت عن أُمٍّ تُعَلِّمها..و لَم تَجِد سوى بُكاءً و عِتاب لِفَقيد الغُرْبَة..ذاكَ الذي عَصَف بعائِلته دُون أَن يَعي..،و هاهي الآن تُطَبْطِب على حِجْرها بِطِفْلة..طِفْلَتها..أو...طِفْلَتهما..الشَيء الوَحيد الذي يَتَشارَكانه..و إن لَم تَتعانَق أَذْرعهم حَوْل جَسَدها الصَّغير..و لم تَلْتَقِ آثار قُبَلُهما فَوْق صَفْحة جَبينها البَيْضاء من دَنَسِ البالغين..وَ لَم تُخاط رائِجة جَسَدَيهما بِأَنْفاسها..إلا أَنَّها تَبْقى الكائن الأَوْحَد المُثير في قَلْبَيْهما المَشاعر نَفْسَها..بَعْد أن طُمِسَت مَشاعر حُبٍّ مُهْتَرئ..لَم يَكُن سِوى خَيالاً..و حُلْماً تَحْتَضِنه أَوْراقَ رِواية مُتَيَقِّن كاتبها من كَذِبَها..،كانت تَنْظُر لِشاشة التِّلْفاز ظاهِراً..أَمَّا باطِناً..فَكانت تَمُر أَمام بَصَرِها المُبَلَّلَ صُوَراً عارِية من إِطار..حَمَلَت بين زَواياها الأَرْبَع ذِكْرَيات اقْتِرانهما المَشْؤوم لَيْلَتها من ناحِيَتها..فَمُوافَقَتها جاءَت بَعْد شَدٍّ و جَذْبٍ و عِتاب من خالها و زَوْجته..و لِكَي لا تُصْبِح ناكِرة..و من والدتها أَيْضاً..أَمَّا والدها فاكْتَفى بـ"على راحتش.اللي تبينه أنا حاضر له..سواء وافقتين أو كان ردش الرفض"
كانت المُوافَقة الجَواب الذي قَطَع سَيْل نَصائِحهم و مُحاضراتهم العاطِفِيَّة..و كانت المَعْبَر الذي نَقَلَها لِضِفَّة تَتَعَرَّف عَلَيْها ذاتها للمرَّة الأُولى..ضِفَّة تُطِل على كَيانٍ ذو كِبْرياء جَذَّاب..كِبْرياء عَجَباً أنَّهُ يُصيبها بالخَدَر..بالسَّكَر..و بالاسْتسلام..كانَ مُهيباً..ذُو أَنَفة تُسْلِب النَّبْض..واثِقاً و على كَتِفَيه زُرِعَ أَماناً صَنَعَت من أَوْراقِه الخَضْراء وِسادة..تَغْفو فَوْقَها رُوحها الفاقِدة..و في عَيْنَيه لَمَعَت مَشاهدٌ لِمُسْتَقْبَلٍ هي بَطَلَته المُتَوَّجة بإكْليلٍ من زَهْرِ نَجاح..هي صاحِبة الابْتسامة و سَيِّدَة الفَرَح..رَأت في ذاته وُجودها..و اسْتَنْشَقَت من أَنْفاسه عِطْر خَلاصها من سِجْن الحاجة..تِلْك الحاجة السَّاذِجة التي جَرَّتها لِأحْمَد..و لَم تَعْلَم حينها أَنَّها ستُلْقي بَها في الدَّرك الأَسْفَل للخُسْران..،
،:مـاما
ذاك الصَّوْت..حَنينُ الحَمام و طَرَقات وَدَقٍ حائِر..أَخْفَضَت لِوَجْهِها بَصَرَها المُشَوَّش من بُكاء قَلْبَها..رَشَّحَت حنجرتها من غَصَّات الغيِرة المُتَّخِذة رُوحها وَطَناً تُدَمِّره..و ما أَيْسَر تَدْمير الأَوْطان !..،:نعـ ـم ماما
نَطَقَت الصَّغيرة و مَلامحها يَعْتَليها ضيقٌ اسْتَعْصى على أَبْجَدِيَّتها البَسيطة تَرْجَمته،:ما شفت البابا اليوم،و ولا كلمني..يعني خَلاص هو بس بيعيش ويا خالوو ياسمين ؟
اسْتَنْشَقَت نَفَس عَميق اسْتَقَرَّ في رِئتَيها رُفاتاً..ازْدَرَدَت ريقها و أَهْدابها تَهيج..كما لو أَصابها وابَلٌ من تُرابٍ حارِق..إلا أَنَّ التُّراب كان سائِلاً شَفَّاف نُقِع فيه الحُزْن حَتَّى امْتَزَج معه..و ها هُو بِقَلَوِيَّته الحادَّة يُحيلها عَمْياء..لا تُبْصِر الفَرَح...أَزاحت خصلات طِفْلتها عن وَجْهها و هي تَهْمس بارْتعاش فَشَلت في إخْماده،:لا مامـ ـا..بيعيش وياكم كلكم..إنتِ و بابا ناصر و ماما ليلى..و عمو جود و نور..بيعيش ويا الكل..مثل ما هو بيعيــ ـش ويا خالوو ياسمين
أَسْدَلَت جَناحَي عَيْنَيها المُتَزاحِمة فيهما أَسْئِلة بَريئة،مُتَعَطِّشة لِجواب يُسْكِن تَوَجُّس طَيْر قَلْبها اليَتيم من غُصْنٍ يَحْضِن عُشَّه..صَمَتت لِثوانٍ..و أَصابعها القَصيرة تَعْبَث بِطَرَف فُسْتَانها القُطْني..ثُمَّ قالَت بنَبْرة أَخْفَضَتها رِياح خَوْف غَريب تَشْعُر ببرودتها تَسري وَسَط صَدْرها،:تدرين ليش ما رضيت أروح العرس ويا عموو ؟
جِنان بانْتباه تام تَقْتَطِع اتّزانه تِلْك الارْتعاشات المُقَوِّضة أَنْفاسها،:ليش حَبيبي ؟
كَشَفَت عن واحَتَيها المُتَجَسِّدَتان من يَمِّ الجِنان الكُبْرى..و بإجابة مُطَعَّمَة بالبَراءة،:عشان لا تقعدين بروحش..كلهم بيروحون..بس أنا قلت بقعد وياش
ابْتَسَمَت لِهذا الفَيْض العَذْب ذو المَذاق الطُّفولي الشَّهي..يالله كَم أنْتِ بَريئة صَغيرتي..و كَم أَنْتِ جَنَّة..جَنَّة زاهِية تُعيد إحْياء جِناني المُتَرَمِّدة من أوار نيران والدكِ المَغْرور..مالَ رَأسها بِخِفَّة هامِسةً بِضِحْكة عَثَّرها التَّهَدُّج،:يا عُمْـ ـري جَنى "تَنَشَّقَت و هي تَطْوي سَبَّابتها مُتَشَرِّبَةً بِظاهرها ما فَرَّ من نَبْعها المالح مُرْدِفَةً" شُكْراً حَبيبتي..شُكْراً لأنش ما خليتيني بروحي
انْحَنت لها لِتَهْدي وَجْنَتَيها قُبْلَتان مُعَطَّرَتان بدفء الأًمومة..اسْتَمَعت لِسؤالها و هي تَطْبع القُبْلة الثَّانِية،:إنتِ زَعلانة من بابا فيصل ؟
رَفَعَت جَسَدها بهُدوء..مَرَّرَت لِسانها على شَفَتيها مُتَذَوِّقَة مَرارة الحَقيقة المَحْبوسة قِسْراً في الجَوى..زَعْلانة ؟ هل هي "زَعْلانة" ؟ و هل يَشْرَح الزَّعل البؤس المُتَشَعِّب في رُوحها ؟ القَهَر..الحَرْقة و التَّيْه الدَّميم..هل هذه الكَلِمات الشُّؤم مُرادِفة للزَّعَل ؟ لَيْت..لَيْتها كانت زَعَلاً..لَكان رِضاه قُبْلة..أو وَرْدة جُوري حَمْراء..تَقْتَلِعَها يَده من رَبيع رُوحه الذي أَسْقى شِتاء رُوحها إكْسير الحَياة..،لَمْلَمت خصلات شَعْرها الذَّابِلة أَمْواجها..و كَأنَّها افْتَقَدت أَصابع كانت تُناغيها و تُهَدْهِدها..جَمَعت شَعْرها و أَرْخته على كَتِفها الأَيْسَر و هي تُجيبها بسؤال و العَيْنان تَهْرُبان للاشيء،:ليش أزعل؟
بِشَفافِيَّة أَجابت،:لأن ما عزمش على العرس..عزمهم كلهم بس إنتِ
بِلا إرادة منها انْفَجَرت ضاحِكة بعُلو كان حَقيقةً نَحيبٌ مُتَخَفّي..مالَ جَسَدها من شِدَّة ضَحِكها و قَهْقَهَتها المُصْطَدِمة بالهواء كانت أشْبه بتَكَسُّر أَوْتار كَمان مَهْجور..لِيُوْلَد لَحْنٌ جــافٌ و مُعَرَّى مِن َجَمال..ما هُو إلا لَحْنُ النِّهاية المُوْحِشَة..نَظَرَت لِطْفلتها من خَلْف غِشاء الدُّموع التي فَقَدت ذاكرتها..فَلْم تَدْرِ هل هي دَمْعُ فَرَح..أم نَعْيُ كَمَدٍ مَرير..تَساءَلت الطِّفْلة بِحَرَج بَعْد أن شَعَرت من ضِحْكة والدتها أنَّها أَخْطَأت بِقَوْلِها،:ماما شنو يضحك ! ليش تضحكين ؟ "عُقْدة عَدَم فَهم قَرَّبَت حاجبيها الخَفيفين عندما انْتَبهَ وَعْيها الحاذق للدُّموع المُتطَافِرة بخِلْسة..تَساءَلت بتَعَجُّب بانَ في نَبْرة صَوْتها" ماما إنتِ تصيحين !
ضَغَطَت على بُؤسَها قاطِعَة جُنون ذاتها..خَبَت الضِّحْكة الشَّائِبة من الوَجَع..اعْتَدَلت في جُلوسها لِتُجيب ابْنَتها و هي تَمْسَح فضائِح مُقْلَتيها،:لا ماما ما اصيح..ذلين الدموع من الضحك
أَعادت سؤالها،:ليش تضحكين ؟
ابْتَسَمت لَها بِسِعة مع مَضْي يَدَيها لِأسْفل ذراع جَنى..و بِخِفَّة أَعادتها لِحضنها..بِقُرْبٍ أَشد من سابقه..أَحْنَت رَأسها و اسْتَقَرَّت بِجَبينها على جَبين الطِّفْلة و هي تَهْمس بحُب رَقيق..،:آسفة حبيبتي..ما قصدت اضحك على كلامش..بس..."رَفَعَته قَليلاً لِتُعانق نَجْمات حَدَقَتيها الوامِضَتين مُكْمِلة" بس ماما ما يصير أروح العرس..ما يصير يعزمني
بفُضول الأطفال،:ليــش ما يصير ؟
ضَيَّقَت عَيْنها اليُمْنى مُهَمْهِمةً دَلالة على التَّفْكير قَبْل أن تَقول و هي تَقْرص خَدَّ جَنَى،:إذا كَبرتين بتعرفين ليش
مالت شَفَتاها لِلأسْفَل و كَأنَّها غير راضية عن هذا الجواب الذي لَم تَكُن تَنْتَظِره..،:و متى بكبر ؟
أَجابت ببساطة،:إذا خلصتين مدرسة
ارْتَخى حاجباها بِخَيْبة أَمل مُعَلِّقَةً،:يعني باقي وااااجـد
هِي اسْتَشَفَّت من أَسْئِلة صَغيرتها حَجْمَ القَلَق الشاذ عن براءتها و العاصِف بِقَلْبَها الصَّغير..ضَاقها ما زَرعاه بَين جَنَبات هذه الطّفلة..كم نحنُ مُذْنبون فَيْصل..و كَم نَحْنُ فُقَراء من تَعْويضٍ يُضَمِّد ما فَتَحْناه من جُروح شَوَّهَت طُفولتها..لا يَنْدَمِل الجرح و لا يُرْتَشَف دَمَه فَيَنْضَب..لَيْتَ الليالي تُصَيّرني ضِماداً يَتَشَرَّب حُزْنِك الفائِض صَغيرتي..أو تُعيرَني الشَّمْس أَشِعَّة إشْراقها..فأُكَوّن منها خُيوطاً تُرَقّع ما شَجَّته أَنانِيَّتنا من سِنينك..،ابْتَلَعت شَظايا حَسَراتها..كَوَّمَتها داخلها و أَغْلَقَت عليها..لِتَعود لها في الفَجْر..بَعْدَ أن تُسافِر الصَّحْوة و تَلْتَحِفُ الأَرض برداءٍ غَبَشي يَجْتَرِعُ أَسْرار النَّفْس المُشَوَّهَة..قَرَّبَتها منها أَكْثَر و هي تُلْبِس مَلامحها حَماساً وَهِن..وَسَّعَت عَيْنيها باهْتمام لِتَتَساءَل بلَحْنٍ طُفولي،:جِنـــااني ما سولفتين لي عن صديقاتش في لُنْدن و المدرسة و المسز اللي درسوش..سولفي لي حبيبتي..سولفي لي عن كــــل شي
,،
ماضٍ
أَيْقَنْتُ أَنَّ الحَياة كَشَفَت عَن وَجْهها الآخر..ذاك الوَجْهُ القَبيح،المُتَخَثِّرَة بَيْن طَيَّاته المُتَجَعِّدة دِماءٌ نَتِنة..تُسَمِّم بِها نَقاء عُروقنا..أَيْقَنت..مُذ غَصَّ مَسْمَعاي بِكَلِمات آسْتور المُميتة..كَلِماتٌ لَها أَصْلٌ سَوْداوي..يُشْبِهُ رَصاصةٌ غَدَّارة تَنْطَلِق من فُوَّهَة سِلاحٍ ماكِر..وَ تُشْبِه حُساماً شَرِس..اتَّخذَ الدُّنْيا العَجوز غمداً له..قَبْل أن تَلِدَهُ كَما اللَّيْث لِيَنْحَر أَحْلامي...رُجولتي..وَ ذاتي..،أَخْفَضَ ببطء اليَتامى و المُحْتَاجين كُوبَ الحَليب السَّاخِن،الذي قَدَّمتهُ لَه زَوْجة آسْتور بِسَخاءٍ لَم يَقْدِر لِسانه المُتَخَشِّب أن يَشْكرها عَلَيه..تَرَكَهُ على المِنْضَدَة القَريبة و من ثُمَّ أَعاد يَدَه لِمَخْدَعها..تَحْت اللحاف الصوفي المُرْسَل مِن قِبَل تِلْك الزَّوْجَة أَيْضاً..فَكَما قالت "أَنْت بِمَثابة ابْني..أَخ لِصَغيري هاينز"..،أَحْنى رَأسه أَكْثر و ضاعَفَ من انْطوائه على نَفْسه..فَهْو من فَرْط انْزوائه المائِل في طَرف الأريكة،شَعَرَ بِخَدَرٍ يَلْتَبِس جانب جَسَدَه الأَيْسَر بالكامل..آستور واصَلَ سَرْد الحقائِق المُثيرة غَثَياناً في صَدْره..،:هُم خَطيرون جِدَّاً مُوهاميــد..خَطيرون للحَد الذي لا يَستطيع خيالك أن يَتَصوَّره...كُل فعل أو صِفة..أو حَتَّى حديث تَنْفر منه النَّفس البَشرية يملكونه..هُم مَجانين..مَرضى نفسيين..يَقْتاتون على الدَّماء و الأشْلاء..الأموال كالمياه يتم تبادلها بينهم..تراهم في رُوسيا..برلين..أميركا اللاتينية و آسيا..تراهم في كل مكان..و في كل طبقة من المجتمع..فيهم الفَقير و الغني..بل فيهم الوزير و الحاكم..لا تعرف أَوَّلهم و لا تستطيع تَتَبّع آخرهم..حَتَّى رِجال القانون فيهم من هُو جُزء من هذه القذارة
ظَلَّ مُتَمَسِّكاً بِصَمته..مُتَجاهِلاً هذه المَعْلومات التي تَبْدو أَنَّها مُقَدِّمة لِواقِعة سَتُواصِل تَقْويض ذاته المَعْلولة..آسْتور أَكْمَل و الجِدِّيَّة تَطُوف عَيْنيه و تَشِد وَجْنَتيه..،:هُناك غَسيل أموال..اتجارٌ بالبشر و الأعضاء البشرية..أَدْوية مَغْشوشة..متفجرات..قَتْلٌ و نَصْبٌ و احتيال..كل مُصيبة تَجِدها عندهم
اسْتَنْكَر هايْنز الذي ضاقَ من هذا الحَديث القابِض على راحَتهم بوَحْشِيَّته،:و ما شَأن مُوهاميــد في هذا كلّه أبــي !
أَجاب دُون أَن يرف لهُ جَفَن..و من عَدَسَتَيه فَرَّ شِهابٌ قَوي..شَوَّشَ رُؤية هاينز الواقِع رَهْن تَوَجّسٍ وَليداً للحْظَة،:لهُ شَأن..لهُ شَأن كَبيــر في هذا كلّه
مُحَمَّد لَم يُزِح جِفْنيه أَيْضاً..لَكِنَّ بُرودة فَحيحيَّة تَعَلَّقَت بِأَطْرافه..و بَدَأت تَتَفَرَّع لِجَميع حنايا جَسَدهِ بِسَلاسة..كَما أَفْعى تَبْحثُ عَن فَريستها..تَساءَل هاينز و القَلَقُ قَد اجْتَرَع صَوْته ثُمَّ بَصَقَهُ مَبْحوحاً مُرْتَعِشا..،:مـ ـ...ماذ...مـ ـاذا تقصد..أبــ ـي !
وَجَّهَ سَهْماً مُسَنَّناً لِمُحَمَّد و هُو يُجيب كاشِفاً عن الفاجِعة،:سَيكون عَميلاً سرّياً لدي..بمُساعدته سوف نُنهي وَباء هذه العصابة
ذَوَبان مُفاجئ حاصَر الجَليد المُتَكَتّل على حَواس مُحَمَّد..فاسِحاً المَجال لِحَرارة لاسِعة أَن تَنْسَكِب عَليه من رَأسه حَتَّى أَخْمَص قَدَميه..أَهو كابُوس أَم حَقيقة ؟ أَم أَنَّ الدُّنيا كانت مُخادِعة..تَسَرْبَلت بالبَياض و الزَّهْو..حَتَّى خالتها النَّفْسُ الهَشَّة أُنْثى جَذَّابة..أُنْثى لَها جَمالٌ مُخَلَّد لا يَزول..و ها هي الآن تُفْتَضَح..تُفْتَضَح على يَدي بَرْلين التي أَعادت رَسْم خارِطة الواقِع..بَعْد أن عَرَّتهُ من اصْطناعات الخَيال المُخَدِّرة تِلْك النَّفْس الضَّعيفة..،هايْنز تَصَلَّب في مَكانه..تَحَنَّطَ كَمَيّت..حَتَّى أَنْفاسه انْتَحَرت و صَيَّرت من الأضْلاع لَحْداً لها..فالفَناء أَرْحم من الذَّبْح الذي سَيؤول إليه أمر والده...،آسْتور أَطْلق العِنان لِلسانه كاشِفاً عَمَّا أَخْفاهُ بَدهاء الذّئاب..،:المتفجرات مُوهاميــد..أَنا من وَرَّطَك بها
,،
وَاقِفٌ وَ مِن فَوْقِه السَّماءُ تُمْعِن النَّظَر فيه..يَشْعُر بأنَّ نُجومها أَعْيُنٌ لها أَشْواك تَغْرس نَفْسَها في صَدْره..قاصِدةً البُؤرة الأَمَّارة بالسُّوء..تُريد أن تَتَأكَّد..هَل لا زالت للشَّيْطان رَفيقة ؟ أَم أَنَّ جَلْدَ تِلْك الليْلة السَّوْداء قَد طَهَّرَها من رَذيلتها ؟ تَشَبَّثَت يَده بِمقْبض باب السَّيارة ناوِياً الرُّجوع للدَّاخِل..أو بالأَحْرى..الإخْتباء في جُحْرٍ لَن يُطِل في اخْفائه..أَتاه صَوْتٌ بارِد..
،:مقَفَّلة
اسْتَدارَ إليه مُلْقِياً عَليه نَظْرة مُؤنِّبة و هُو يَقُول،:افتحها..ابي ارجع شقتي مابي ادخل
تَأفأفَ بِمَلل و هُو يَقْتَرِب منه لِيَقْبِض على ساعده..جَرَّه و ذاك كَما طِفْل يَسوقونه للعِقاب سَمَّرَ قَدَميه بالأَرْض..و بَدأ يُحاول بيده أَن يفك قَبْضته عن ساعده قائِلاً و الرُّعب قَد دَبَّ فيه بلا سَيْطرة،:خلني مابي...مابــــي...رااائـــد قلت مابي ادخــل
رَنا له بِطَرف عَيْنه و السُّخْرِية تَسْتَحْوِذ على صَوْته و ملامحه،:طِفل إنت..طِفل ! امش تحرك لا كف اللحين
رَفَع يَدهُ و هُو يُوَسّع عَيْنيه كَأنَّما يُريد أن يُخيف هذا الذي يَتَصَرَّف كَما الأَطْفال...ذاك نَطَقَ مُعَبِّراً عن الفَوْضى المُحْتَدِمة داخله..و مَلامحه قَد كَساها تَهَدُّلٌ يَحْكي مَدى خَوْفه و ضَياعه..،:رائد والله والله ما اقدر ادخل..ما اقدر اشوف عبدالله..شلون تبيني احط عيوني في عيونه و أنا خنتـ ـه..ِشلووون !
اقْتَرَب منهُ مع احْتداد عَيْناه لِيَهْمِس بتَوْبيخ،:لااا بعد ارفع صوتك زيادة خل الفريج كله يسمع....انجب و امش خل ندخل "أشار لِثَوْبه و هَو يَبْتَعِد مُرْدِفاً بِنَبْرة مَسْموعة" مشتريين لك ثوب و مكشخينك عشان ترجع شقتك و ما تدخل !
تَمَسَّك بزِنْده و هُو يَضْغَط بِقُوَّة كَمُتَألِّم يَرْجو شِفاء..تَساءَل و كَلِماته تَتَعَثَّر باللَّعْثَمة،:انزيـ ـن..شــشــ...شنـو اقول ؟
أَرْفَع الاسْتنكار حاجِبَيه مُعَقِّباً بِنَفاذ صَبْر،:طَلال بذبحــك..شنو شتقول ! أحد قال لك بتلقي محاضرة داخل ! "اجْتَذَبَت قَبْضَته كُل قُوَّةَ جَسَده لِيَجُرَّه بِحَرَكة واحِدة جابِراً قَدَمَيه على التَّحَرُّك" أنا إذا ظلّيت واقف اسمع حجيك الفاضي برتكب فيك جريمة
واصَل مَشْيه للمَجْلس مُتَجاهِلاً هَمَسات طَلال الرَّاجِية منه أن يَتَوَقَّفَ..مُذَكّراً إياه بين الثَّانِية و الأُخْرى بِخَطيئته و عُظْمها..فَكَيْف يَلْقى المُذْنِب ضَحِيَّته بَعْد أن تَوَحَّلت ذاته بتُراب النَّدَم ؟ دَلَفا للدَّاخِل..رائِد يَتَقَدَّم ذاك المُنَكِّس رَأسَهُ لِأرْضٍ رآها تَبْتَسِم لَهُ بازْدراءٍ و تَقَزُّز..و كَأَنَّها تَشْمَت فيه و في خَوْفه..كان المَجْلس يَضُم عَدداً قَليلاً من الرِّجال..مُنْدَمِجون في بِضْع حَديث و هُم يَتناولون من أَطْباقهِم..عَلَّقَ رائِد ساخِراً مِن نَفْسه و مِن رَفيقه،:الرجال تعشوا و خلصوا واحنا تونا نشرّف
وَصَلَه هَمْسَاً مُرْتَبِك بالكاد اقْتَلَعهُ طَلال من حنجرته،:تشــ ـ..تشوفــ ـه...تشوف عَبـ ـدالله !
تَلَّفَت على المَجال بنَظرة سَريعة قَبْلَ أن يَسْتدير إليه بعد أن تَرَك ساعِده..حَشَرَ كَفّيه في جَيْب ثَوْبه و هُو يُجيب،:لا ما اشوفه،يمكن راح "وَ عَيْناه تَنْحَرِف للذي تَجَلَّى خَلْفَ طَلال"... ... يتعشــ ـى
رَفَع طَلال رَأسه مَشْدوهاً لِنَبْرة رائِد التي تَبَدَّلَت بِوُضوح..فَتَح فَمَه يُريد أن يَسْتَفْسِر و هُو يُلاحِظ تَعَلُّق بَصَره بشَيءٍ ما..أو شَخصٍ ما....لَكِنَّ نِداءٌ قاتِل أَتاهُ من الخَلْف..أَشَلَّ لِسانه و نَثَر كَهْرباء بَيْن أَوْصاله ثُمَّ جَمَّده..كَسَهْمٍ انْتَصَب وَسَط قَلْبه قاطِعاً مَسير الدّماء إلى رُوحه..،
،:طَــلال !
,،
وَلَجَ إلى ساحَةِ الوَغى جَسَداً جامِداً..مُثَقَّب من الرَّأس إلى القَدَمَيْن..ثُقوبٌ أُفْرِغَت مِنها بَقايا رُوحه التي انْتَحَرت..زَفُّوه إليها وَ هُو مُثْقَلاً بالضَّياع..التَّيْه ريحٌ ساخِنة..مُوَجَّهة مِن قِبَل امْرَأة مُقَيَّدة ذاته بها..ريحٌ تُشاغِب أَهْدابه..و تَحْمِل بَيْن جَنَباتها رَماداً ضاراً..يَفْتك بِبَصَره..فَيَرى بَحْراً من دُموع يُغرِقه و لا تَنْهَمِر قَطَرَاته..،وَقَف بِجانِبها راسِماً ابْتسامة تَبْدو جَميلة و بها بِضْع جاذِبِيَّة..إلا أَنَّ تَجَاعيدها أَفْصَحَت عن عُبوساً يَعْكِس حَقيقة مَشاعره..يَقِف تارِكاً مَسافة تَكَاد لا تُرى بَيْنَهما..دُون أن يَرْفَع طَرفه لها..عَيْناه تَجُولان على الوُجوه السَّعيدة و المُتَغَنِّية بالفَرَح،تُنَبِّشان باحْتِياج عن وَجْهٍ يُعيد بَثَّ الدّفء لِمَدينته المَسْجونة خَلْفَ قُضْبان شِتاء..يُهَدّد بِأن يَكُون حُكْمه سَرْمَدِيَّا..فَقَد مَضت سِتَّتُ أَعْوامٍ مُذ احْتَلَّه..و باتَ يَخافُ أَن يُخَلَّد فيه حَقيقةً...،أخيراً وَ بَعْد جُهْدٍ و صِعابٍ زادت من وَهَنِ رُوحه ظَفَر بالدِّفء..الْتَقى مَعَهُ كَما تَلْتَقي وَرَقة أَيْتَمَها الخَريف من غُصْنها بِأَحْضان الرَّبيع..غَفَى حَنانٌ مَحْني الفَرَح فَوْقَ جِفْنَيه عِنْدما ارْتَشَفَ شِرْخ قَلْبه دَمْعَتها التي فَرَّت من مُقْلَتَها فِرار الهَديل من قَلْب حَمامة مُثْقَلة بالهُموم..من القَلْب إلى القَلْب كان حَديثَهما الصَّامِت..اقْتَرَبَت منهُ و هي تُجَمِّل شَفَتيها بابْتسامة بها شَيءٌ من شُحُوب..تَوَقَّفَت على يَمينه..أَخْفَضَ رَأسه لها سامِحاً لِشَفَتيها من أن تَهْمِسان في أُذنه..،:حَبيبي اكشف وجهها و حب راسها
ضاقَ بُؤبؤاه رُعْباً من الأَمْر الذي أَمْلَتهُ عَليه..ما الذي تَقوله والدته ؟ ما هذا الانْتحار أُمّي ؟ أَتَرْضى أُمومَتِكِ بِنَحْر ذاتي ؟ أَلا يَخْشع قَلْبُكِ الحاني لِحُزْني ؟ و كَلِماتكِ هذه..التي تَدلني إلى مَقْصلة إعْدامي،أَلا تَعْطَف على ضَعْفي ؟ تُلَمْلِمهُ و تَغْزلهُ بِشَتاتي..فَتَحْتَويه لِتُصَيّره جَبَلاً لا تَكْسره امْرأة..،أُقَبِّلها..أَنا أُقَبّلها ! سارت بَيْن أَوْصاله قَشْعَريرة مُوْجِعة،أَعْلَمَتهُ بِمَدى عُرِيه و انْكشاف فَضائحه..بُرْكانٌ عَنيف اسْتَفْرَغ حُمَمه في جَوْفه مُذيباً أَشْلاء ذاته..هُو يَحْتَرق..يَحْترق و كُلُّ السُّحب تَنْهَر سُؤلَه..تُشيح وَجْهها عن حاجَته..تُعيد غَرْس المَطَرَ في رَحْمها لألا يَنْجو من مَوْته وَسَط يَبابٍ يَتيمٌ من جِنان..أَيُقَبّل غَيْرَ الجِنان ! أَتَقْدر رُوحه على ذلك ! شَفَتاه..أَقادِرَتان على لَثْمِ خَمْرٍ غَيْرَ خَمْرِها..و هَل كُلَّ حَوَّاءٍ جَسَدها من خَمْر الجَنَّة قَد خُلِقَ ؟ أَم أَنَّ جِنان العُمْرِ كانت للخَمْرِ حُوراً،لا تُشاركها فيه إناث الحَياةِ الدُّنيا أَجْمعُ ؟ إلهي الرَّحْمة..رُحْماك رَبَّ القَلْبِ و الرُّوح..رُحْماكَ يا من بِقُدْرَتِهِ قُيِّدَت ذاتي بِعُنِقِ امْرأة،عَمْياءٌ هي رُوحها عن عشقي..رُحْماكَ و لا شيء آخر..،اجْتَذَب من قَبْضَة الهواء نَفَساً حادَّاً..تَكَتَّلَ صَخْراً فَوْقَ صَدْره...رَمَشَ لِأَرْبَعِ مَرَّاتٍ مُتَتَالية..ببطءٍ مَهْزوم رَمَش..قَبْلَ أَن يُدير إليها جَسدَه الباكي أَنْهاراً آسِنة..رَفَع الخِمار المُذَهَّب كاشِفاً عن آيَةٍ من جَمال تَحْكي عن قُدْرَة رَب الأَبْصار..إلا أَنَّ بَصَرُهُ اليَوْمَ كان سَقيم..لَم يَرْتَدِ جِنْحَي السَّكَر،لِيُحَلِّق مُنْتَشِياً من مَلامح بَهِيَّة..يُبْصِر لِأَجْلِها الأَعْمى..أَخْفَضَ الخِمار و تَناولتهُ منه شَقيقتها الكُبْرى لِتُزيحه بالكامل عن جَسَدها المُتَسَرْبِل بِفُسْتان حَوَّرها لِنَجْمة تُوْمِض شُعاعاً فَيْروزياً تَتَغَنَّى بهِ السَّماء و يَرْتَشِف منهُ القَمَر بَعْدَ أًن يهْدي الليْلَ كَأساً من سَحَر..،انْتَبَه من غِيابه لإشارة..تَحَرَّكَت عَدَستاه للحظات قَبْل أن تَلْتقِطان وَجْه نُور التي أشارت لِجَبينها و هي تُحَرِّك شَفَتيها بلا صَوْت..أَبْعَد عَيْنيه عَنْها للتي انْطَوت خَجَلاً بِجانبه..طَرَد من صَدْره تَنْهيدة مُذَيَّلة ببَعْضٍ من هَلْوَساته،قَبْل أن يَحْني رَأسه لِوَجْهها الذي يُقابِله..و بِخِفَّة و سُرْعة لَم تُتِح للِكَلِمات أن تَتَغَزَّل بها...قَبَّلَ جَبينها..ابْتَعَد بهُدوء ظاهِري و في داخله اسْتَعَرت نيران التَّأنيب التي اتَّهَمَتهُ بالخيانة..خِيانة تلك الجاهِلة..،صَوْت والدته عاد لِيَهْمس إليه و هذه المَرَّة تَعاضَدَت مَع كَلِماتها كَفُّها الثَّمينة التي احْتَضَنت يَده المُسْبَلة بِخَسارة..،:عُمري فيصل انسى..و حاول تندمج شوي شوي مع حياتك الجديدة..حبيبي إنت..عشان خاطري لا تكسر خاطر البنية
كُنْتُ أعْلَم أُمّي..كُنْتُ أَعْلَم أَنَّكِ لِضياعي مُلْتَفِتة..جَمَع جَوابه و طَبَعَهُ قُبْلة تناثَرت بِمَلَق على رَأس والدته..،غادَرَت و غادَرَ الجَميع..و بَقِي هُو و هي..و التي اخْتيرَت لالْتقاط ذِكْريات هذه الليْلة المُرْهِقَة..كائنٌ ثالث قَد يُخَفِّف من غَرابة هذه الليْلة..،عاد و اسْتَدار للجَميلة..تَأَمَّلها لثوانٍ قَبْل أن يُقَلِّص المَسافة بَيْنهما..نَظَر لِيَديها المُتَعانِقة أَصابعهما بارْتباكٍ جَلي..تَبَسَّم لاحْمرار الخَجَل المُتَدَثِّرة به بِنانها..تَحَرَّكَت يَده من بين غَوْغاء مَصائبه و برقَّة عانَقَت يُمْناه سَبَّابتها..بإبْهامه مَسَحَ عَليها بِحَنْو و عاطِفة أَسَفاً أَنَّها لَم تَتَجاوز الخَطَّ الأَحْمر..اقْتَلَع بَحَّته من زِقاق حُزْنه،:طالعة غير
رَفَعَت رَأسها إليه..و ارْتَفَعَ معها زَعيقُ نَبْضه..نَبَضاته كانت كَطَرقاتٍ على باب الحَياة..لِتَسْأله عن واحَتي الجِنان إلى أَين ؟ وَعَى من هذيانه لسؤالها المُتَرَدّد..،:و الغير هذي تمام لو مو تمام ؟
ابْتَسَم لها بِلُطْف و هُو يُجيب..،:أكيد تَمام..طالعة جميلة
تَأَمَّل كَيْف تَصاعَدَت بِتِلَّات الخَجَل إلى وَجْنَتيها..و في داخله ارْتَفَع تَصْفيقٌ ساخِر....كَم أنت بارعٌ في قَتْل أَحاديث ذاتك فَيْصَل !
,،
كَمَا اعْتادَت..في الماضي الغَني بأغادير والدتها العَذْبة..و في الحاضِر القَحِط من وُجودها..ففي الماضي اعْتادَت أن تَبُث حُزْنها بَيْن صَدْرٍ و قَلْب..بِلا كَلِمات تَشْكو..و الجَوَى يَسْمع..بأَنْفَاسَها تَشْكي على من أَراقوا دَمْعها و أَشْعَلوا فَتيل قَهَرِها..مِثال..شِجارٌ بَريء مع زَميلة لها في المَدْرسة..حينما كانت ابْنة السَّبع أو التّسع..أَو زَعَلٌ مُفْتَعَل بينها و بين إحْدى شَقيقاتها..لِتَظْفَر بِقُبْلة و احْتضان من والدتها،و لِتَتَأكَّد ذاتها من أَنَّها المُدَلَّلة عندها...أَمَّا الآن..فإذا حاصَرَها الأَسى..و أَحْكَم القَهَر قَبْضته على رُوحها..تَلْجَأ للذي احْتَفَظ بَيْن جِلْدٍ و وَرَق بجُزْءٍ من حَياة والدتها..جُزْءٌ قَد يُشْفي جُرْح الفِراق..و الإشْتياق..اشْتَقْتُكِ أُمّي..و لِمِعْطَف عِناقِكِ حَنَّ جِلْدي..وَ شَعْرُ رَأسي آراه في المِرْآة وَهِناً..غابَت شَمْسهُ و لَم تَعْد تَشْرق فَتُسْقيه حَياة..فكَفُّكِ الوارِث الرَّبيع دِفْئها بَتَرَها المَوْت..وضاعَت بَيْن قَبْرٍ و تُراب..و تَرَكَت جَديلَتي مُعَلَّقة..لَم تَعْقِدها..و لَم تَفُكَّها فَتنقذها من انتظار..،أَيْنَ أَنْتِ أُمّي ؟ أَيْنَ أنتِ من جُرْح قَلْبي ؟ فَذاكَ الذي قَرَأت أُمومتكِ حُبـ ـي له تَجَرَّأَ و كَسَرَني..كَسَر ثِقَتي التي أَحاَكَتها مَغْزَلة تَرْبِيَتُكِ..احْتاجك أُمَّاه...،شَدَّت أَنامِلها الرَّاجِفة على الوَرَق المُتَشَرِّب مَشاعر والدتها..شَدَّت و عَيْناها تَلْتَهِمان الأُحْرف للمَرَّة العشرون بعد المئة..رُبَّما ! تَقْرَأ و بقراءَتها تُكَدّس الجَمْر..تُجَمّع صَفائح الحَطَب..لِيَقْتات انْتقامها و لا يَشْبع..و يَعْلو لَهَب الحِقْد مُرَمِّداً ذاك الحُب الأَبْله..الحُب المُراهِق الذي أَجْبَرها بِسَذاجة أن تُلْصِق بَصَمات أَصابعها،و تُذيب أَنْفاسها فَوْق زُجاج نافِذَتها المُصَيّرها الزَّمن مُسْتَوْدَع أَسْرار حُبٍ أَعْمى..،
" ،:قلت روووحـــي عن وجـــهي "
انْتِفاضَة غَيْظ أَرْعَشَت أَطْرافها..وَ ضَعَّفَت من تَصافق أَهْدابها..زُمرد عَيْناها فَرّت منه الْتماعة تُنْذِر بالشَّر..جَدَّدَت نُمو بواعث الإنْتقام في قَلْبها..و جُمْلَته تِلْك كانت كالبنزين المُتراشق على نيرانها فَيَزيدها اهْتياجا..هَمَسَت بِنَبْرة رَكَلت الحُب و سِنينه..،:حقيـ ـر و منافق...المغرور
أغْلَقَت دَفْتَرَ مُذَكَّرات والدتها و أَعادته إلى مَخْدعه..خَطَت ناحِية تِلْك النَّافِذة..أَلْقَت نَظْرة على الطَّريق أَمام مَنْزلهم..و الواضح منه جُزء يَسير كان يُتيح لها اسْتراق النَّظَر عليه في سَيَّارته و هُو يَنْتظر خُروج والدته..ها هي الذّكريات تَعُود و تَسْتَقِر فَوْق غُصْن ذاكرتها..غِرْباناً تَنْعَق مُحَرِّضَةً على الإنتقام..هَمَسَت بسُخْرِية مُشْمَئزة و هي تَعْقِد ذراعيها فَوْق صَدْرها..،:مو غريبة عليك النّفاق يا عبدالله....أمك بلقيس !
,،
تَقْبَع فَوْقَ أَريكة بَيْضاء..ذاتها المَفْجوعة أَوْهَمَتها بِأنَّ نَجَاسَتها سَتُلَوّث بَياضها..لَيْست هذه الأريكة فقط..كُل الذي تَقَع عَيْناها عَلَيه..تَمَسَّهُ أَنْفاسها..تَتَحَسَّسهُ أَناملها..أَو تَطَأهُ قَدَماها..نَجِس..مِثْلَها..و ذاك المُتَقَنِّع بلِثامٍ غَبَشِي..حَتْماً سَتُدَنَّس رُجولته من شوائبها..و إن لَم تَنْحني رُجولته لأنوثتها المَذْلولة..،زَفَرَت الْتباسات رُوحها و هي تَضْغط بِحِدَّة مُرْتَعِشة على أَزْرار لَوْحة مفاتيح حاسوبها..أَسْنانها عاقَبَتها و قَبَضَت على شَفَتها السُّفْلِيَّة..احْتَكَّت بها حَتَّى اسْتَطْعَمَت دَمَها و فارَ أَلَمُها..رَفَعت يَدَها لِضَحَيِّتها المَسْكينة مُسْتَجيبة لِبُكاءَها..بُكاءٌ أَحْمَر انْدَفَع من قَلْبٍ مُقَطَّع الأَشْلاء..تَرَكت حاسُوبها و وَقَفت مُتَلَفِّتَة تَبْحَث عن مناديل..وَجَدت عُلْبة على المِنْضدة المُتَوَسِّطة أَريكتان..خَطَت لِتَتَوَقَّف عندها..جَذَبَت أَوْراق عَدَيدة ثُمَّ كَوَّمتها فَوْق شَفَتيها..أَغْمَضَت عَيْنيها مُحْتَضِنة بأَجْفانها قَصائد النَّوح و العَبْرة..أَخْنَقَت مُقْلَتيها بِدَمْعها الآسَن..رافِضَةً أَن تُذيب زَهْر وَجْنَتيها بأَحماضها..بالأَحْرى جُثَّة زَهْرها...،كانت بِعُقْدَة حاجِبين تَتَشَرَّب الدِّماء..مُشْغِلة جِرْحها المُتَيَقِّظ بالألم..لِتَسْتَريح رُوحها قَليلاً..فَلَقَد اتَّخَمَت من وَحْشِيَّة تِلْك الليْلة و مآلاتها المُشَوَّهة..مُشَوَّهَة الفَرَح..الثِّقة و الرَّاحة..و حَتَّى الأُمومة ! لن تصبحي أم مَلاك..لن تصبحي..،يَدٌ شاذَّة عن وِحْدتها قَبضَت على ذراعها فَأرْجَفَتها..شَهْقة مُرْتَعِبة اخْتَرَقَت قَلْبها بِقَسْوة..كَفَّاها بِارْتعاش أَلْقَتا المناديل لِتُنْفِران اليَد و الجُحوظ يُأطِّر عَينَيها بِفَزَع..تَراجعت خُطْوتان للخَلْف بالتَّوالي مع الْتفاف ذراعيها حَوْلَ جَسَدَها احْتماءً..،
باسْتنكارٍ مَكْسور،:يُمَّه ملاك هذي أنا أمش..ليش خايفة !
ثَقَب الصَّوتُ غِشاء الخَوْف و اسْتَقَرَّ وَسَط الجَوى مُطَمْئناً..ازْدَرَدت ريقها المُتَخَثِّر..و صَوْتُ أَنْفاسها المُرْتَعِشة كان سِكِّيناً اسْتَهْدَفَت سويْداء قَلْب هذه الأم الثَّكْلى..فعُذْرية طِفْلَتها قَد أُجْهِضَت..و الرُّعْب باتَ مَكانها بِسَادِيَّة تُعْدم الفَرح و لا تَرْحمه..،أَخْفَضَت ذراعيها ببطء مع اقْتراب والدتها التي تَساءَلت بِقَلق و هي تَرى دماء مُطِلَّة من شَفَتيها..و بعضها قَد جَفَّ عند ذقنها..،:حَبيبتي شفيها شفايفش ؟
أَجابت بخُفوت و هي تَنْحَني للمناديل،:عضيتهم بالغلط...كنت مندمجة في شغلي و ما انتبهت
الْتَقَطَتهم ثُمَّ رَفَعت جِذْعها لِتُبْصِر مَلامح قَبَضَت على قَلْبها و اعْتَصَرته..مُسْتَدِرَّة سائِلٌ نَتِن انْكَمَشَت من رائحته دَواخلها..كانت مَلامح بُؤسٍ مَرير تَطُوف حَوْل وَجه أُمِّها كَأنَّما تَنْعى فَقْدَها..شَدَّت شَفَتيها لِتَهْديها ابْتسامة قَد تُرَشّح دَقائقها من هذا التَّعْب الأَسْود..قالت و هي تتَحَرَّك،:بروح اغسّل و راجعة
ذَهابها كان هُروباً أَكثر من أَن يَكُون غُسْلاً و تَطْهيراً من الدَّم..فَهْي بِيَقين تام مُقْتَنِعة باسْتحالة عَقْدَ قران رُوحها بالطُّهْر..فالعَذْراء تِلْك..التي اتَّخَذَت من النَّخْلةِ دَواءً تُكَنَّى بالطُّهْر..فكَيْف لِكِ و أَنْتِ بالفَقْد قَد كُنِّيْتِ أَن تَمْتَزِجين بالطَّهارة ؟ وَ لَو كان غُسْلِكِ من أنهار الأَرَض جَميعها..عُيونها و أَمطار غُيومها..لَن تَتَطَهَّري..،عادت لِغُرْفة الجُلوس بَعْد أن أتْخَمَت رُوحها بِسَفاسف اعْتقاداتها..مُتَجاهِلة مَظْلومِيَّتها من الذي حَدَث..اسْتَسْلَمَت لِلماء الأَبْيض المُسْتَريح فَوْق بَصرها..و كَعَمْياء أدْرَجَت أُنوثتها تَحْت تَصْنيفٍ تَتَقَزَّز منهُ النَّفْس المؤمنة..بلا رَحْمة منها..و كأَنها بِقَسْوتها على نَفْسها تَرْتَشِف من كَأس الرَّاحة..،جَلَست في المَوْضِع الذي كانت تُشْغله قَبْل الذي حَدَث..اسْتَقَرَّت بالحاسوب على فَخْذَيها لِتُكْمِل عَمَلها..و والدتها التي اسْتَكانَت على يسارها نَطَقَت بسؤال،:يُمَّه إنتِ كلمتين محمد صح ؟
تَوَقَّفَت أَصابعها عن الحَرَكة للحظات مَشْدوهة لِذكْر اسمه..أصْبح نُطْقه سَلِس على لِسان عائلتها الصَّغيرة..اسْتَأنَفت عَمَلها و هي تُجيب بهمس..،:ايـه..كلمته
بتَرَدُّد..،:و ما قال متى بيجي مع أهله يخطبون ؟
عُقْدة خَفيفة تَوَسَّطَت حاجبيها..الْتَفَتت لها..،:لا ما قال..ليش ؟
تَدَارَكَت بِضحكة قَصيرة،:لاا بس يعني..عشان نجهز روحنا و من هالأمور
كَرَّرَت و هي تَهز رَأسه بالنَّفي..،:لا ما قال..و ما اعتقد بيقول لي..إذا بيجون بيعطي يوسف خَبر
أَكَّدَت بتفهم..،:ايــه صح
تَبادَلتا الابْتسامات مُجامَلَةً ثُمَّ عادت كُل واحِدة لِعَملها..مَلاك انْدَمَجَت مع الحاسوب..و هي غاصَت مع بَحْر أَفْكارها اللُّجِّي..هي خائِفة..و الخَوْف بَدأ يُكَوّن عُقَداً من وَساوس تَضيق حَوْل فُؤادها..تَخْشى أن مُحَمَّد..ذاك الرَّجُل الغَريب..تَخْشى أَن يَتَراجع عن قَراره..أَو أَو....أَو رُبَّما يعارضه أَهْله..أُمّه مثلاً..لكن هم لا يعلمون..لا يعلمون بشيء حَتْماً..وَ هُو..مُحَمَّد..لَمَحَت في عَيْناه الصِّدق..بَل و ارْتَشَفته ! لكن هذه الأَفْكار الرَّمادِيَّة بِعناد تَقِف فَوْقَ رَأسها مُهَدِّدَةً بالحُمَم..لا بِوَدَقِ أَمَل..،
,،
مُناداةٍ كانت حَبْلَ مَشْنَقَةٍ الْتَفَّ حَوْلَ عُنُقِه..قَاطِعاً طَريق أَنْفاسه لِتَعْلو أَعْلامُ الإخْتناق..ثَغْرة صَغيرة تَوَسَّطَت شَفَتَيه تُطالِب بِذَرَّة من هَواء قَد تُنْقِذ قَلْبه الذي انْهار رُعْباً..و حَرَجا..إلهي كَيْف يَضَع عَيْنا إثْمه في عَيْني بَراءته ؟ عَيْناه اللتَّان تَجَاهَلتا أَمْرَ رَبّها و لَم تُغْضِض..بَل زَيَّن لَها الشَّيْطان ذَنْبَها..كَيْف يُكَلّمه؟ و كَيْف يُصافحه بِيَده المَوْسومة بَين خُطوطها مَلامح جَسَد مَن كانت زَوْجته ! كَيْف..كَيْــــف ؟!
،:طَلال هذا إنت !
تَبِع سؤاله وَجْههُ الذي اتَّضَح بكامل وَسامته..الحَوَر ذاته لازال يَسْكُن عَيْنَكَ اليُسْرى..و يُجاوِرْهُ فَوْق شُرْفَةِ الأَهْداب بَراءَتَك الشَّفافَة..ها أَنتَ تَبْتَسِم..ابْتسامتك السَّمْحة لَم تَحْنِها خَطيئة عُظْمى..كَم أَنت إنسانٌ عَبْدالله..و كَم أَنا عن الإنْسانية بَعيد..بل وَ غَريب..،
ابْتِسامة عَبْدالله اتَّسَعَت وَ عَيْناه تَطُوفان مَلامح خاله التي اشْتاقَها..تَقَدَّمَ مُنْهِياً الفِراق بخُطْوة..ذراعيه أَحاطت طَلال بقُوَّة أَجَّجَت غَصَّة وَسَط حَلْقه المُتَعَرّي من أي صَوْت..هَمَسَ و الحُب يَشْدو مع كَلِماتٍ تُناقضه..،:يالـ..... إنت وينك ! "شَدَّ عَلَيه وَ هُو يُواصل عِتابه اللطَّيف" تختفي و تنقطع و تنسى إنَّ عندك أهل فجأة..بدون سبب "ابْتَعَد عَنْهُ قَليلاً و ذراعاه لَم تَتَركانه و كَأنَّهُ يَخْشى أن يَهْرب من جديد..و بسؤالٍ تَعاضَدَت مَعهُ عُقْدَة حاجبين مُسْتَنْكِرة" ليش اختفيت لسنتين !
تَخَبَّطت عَدَستا طَلال كَما أَنَّ مَسَّاً قَد أَصابهما..تَتَقَلَّبان على كُل شيء عَدا عَيْني عَبْدالله..تُنَبِّشان عن يَدٍ تَمُد لَهما جَواب..تَبْرير..أو اعْتذار..لَكن لا شيء يُخَفّف من قَباحة فِعْلتك طَلال..،أَطْبَقَ شَفَتيه بِقِلَّة حيلة مع ارْتخاء حاجِبَيه بِأَسى..ضَعيفٌ هُو و رُبَّما يَنْهار مُقَبِّلاً قَدَم عَبْد الله مُطالِباً بالمَغْفِرة..الْتَفَت ببطءٍ مُسْتَسْلِم ذات اليَمين..و بِهَوان الخاسِرين رَنا لذات الشّمال..قَبْلَ أن يُقابل وَجْههُ وَجْهَ رائد المُراقِب بِصَمْتٍ و دِقَّة..ابْتَسَم لهُ ابْتسامة هي تَوْأماً للسَّراب..حيناً تَخالهُ حَقيقة..و حيناً تنتصر عليه و تُوْقِن بأنَّه خَيال..ابْتسامة وِداع تِلْك التي لَوَّحت من عَلى قارِب شَفَتيه مُعْلِنةً إبْحارها..،أَعاد بَصَرهُ لعبْدالله الذي كَرَّر مُفْصِحاً عن تعجبه..،:ما خليت ولا أثر لك..أغراضك كلها أخذتها وياك..و قطعت أي طريقة اتصال بيننا و بينك "حَرَّك رأسه بالنَّفي و هُو يغمض للحظات قَبْل أن يَسْتَدْرك" اعذرني على أسلوبي..بس لأني مستغرب..واجد مستغرب طلال
أَزاح غُبار الخَوْف المُتَراكم على صَوْته..اقْتَلَعهُ من جُذور رُعْبه..مُتَجاهِلاً رَجاءات قَلْبه أن اصْمت..اصْمت يا طَلال..فَاعْترافك يَعْني خَسارة..خَسارة لا عِوضَ فيها..خَسارة اسْمها عَبْدالله !
فَتَحَ فَمه..رَشَّحَ صَوْته من آخر شوائبه..مَرَّر لِسانه عَلى شَفَتيه..ثُمَّ وَ بِوَجْسٍ يُهَدّد بالنِّهاية..،:عَبْدالله....فـ ـي... .. في شي..لازم تعرفه
هَمَسَ مُشَجِّعاً و كَفَّاه تَشُدَّان على كَتفيه..،:قــوول..اسْمعك طَلال
نَطَقَ و تَيْه ذاته يُسَيّره..،:ذيك الليلة..يوم...يوم كنت مسافر..قبل سنتين و شوي..كنت راجع من البحر..وو و دخلت غرفتي و مـــ
نَبْرة مَرِحة و لَها عُلو يُناقِض صَوْتيهما المُفْعَمان بالهَمْس الحَميمي قاطَعت انْدِمَاجهما..،:اقوووول خلكم من السوالف اللحين..لاحقين عليها "قَبَضَ على ذراع عبدالله و هو يَسأله" وين المعرس ؟ ابي ابارك له..و ناصر وينه ما شفته ؟
عَبْدالله نَظَر لِطَلال الذي الْتَبَسهُ سُكون مُريب للحَد الذي أَخْفَضَ رَأسه بوضوح ! رائِد لَم يَسْمح لهُ بالانْخراط في تفكيره و استنكاراته فهو جَرَّاه بجَلافة ناحِية الباب قائِلاً،:روح روح ناد عمّك خل يجي نبي نبارك له
هَزَّ رأسه إيجاباً ثُمَّ تَحَرَّكَ مُغادِراً المَجْلِس..هو عندما تَأكَّد من اخْتفائه..الْتَفَت لِطَلال الغارِق كُلِّيا..اقْتَرَب منهُ حَتَّى الْتَصَقَ به مُسْتَلَّاً هَمَساته من بَيْن أَسْنانه..،:إنْــــت شنوو ! شنــوووو ! شكنت بتسوي يالـ.... !
رَدَّد بهِذْيان وهُو يَرْفع رَأسه بِضياع..و عَيْانه ابْتَلعهما جُحوظ انْبَجَست منهُ نَظَرات رُعْبه..،:كــكــ..كنت بقولــ ـه ! كنت بقوله !
ضَرَب كَتِفه بِقَبْضته و وَجْهه قَد اشْتَدَّ احْمراره وَ بَرَزَت فيه عُروق غَضبه..،:ايــــه..لأنّك من أغْبى مخلوقات رَبّي يالمجنووون "دَفَعهُ بِخفَّة لإحْدى الأراك و هُو يَقول باسْتهزاء" اقول إمش إمش..زيــن ما قلبت لنا العرس عزا
جَلَسَ على الأَريكة جَسَداً مُثْقَلا بالتَّناقُضات..يَشْعر ببرودة ساحِقة تَعْتَريه..و كأنَّ أَوْصاله كُلَّها..حَتَّى أَصْغَر جُزيء فيه قَدَ تَحَوَّرت لِقطع من جَليد.. يُسْكَب عَليها صِهْريجٍ من حُمم بُرْكانِيَّة تَصْهرها في ثَوانٍ..قَبْل أن تَعود و تَتَجَمَّد كُلَّما عادَت و لَفَحَتها رِياح الثَّواني الماضِية..اتَّكأ مِرْفَقاه على فَخْذيه..و بارْتجافٍ جَلي رَفَع كَفّيه إلى وَجْهه مُتَلَقِّفاً بَلاياه..أَفْرَغَ من صَدْره زَفَرات مُذَيَّلة بِنَبَضات فَرَّت لِتَنْجو قَبْلَ أَن يَنْحَرَها اعْترافه..شَعَر بِفراغٍ يسار صَدْره..و كَأنَّ مَوْضِع القَلْب قَد صَيَّرهُ المَوْقف تَجْويفاً يَخْلو منه..لَم يَعُد يَسْمع طَرَقاته..وَ كَأَنَّها رَحَلت لِتَتركه وَحيداً يُصارع الحاضِر بلا مُعين..،مَرَّرَ أَصابعه بين خُصْلاته وَ هُو يَعُود لِنَفْث تنهيدات رُوحه..آهاتها و أَنَّاتها الخافِتة..اسْتَقرَّ باطن يُمْناه على فَمه و المُقْلَتان قَد تَعَلَّقَتا بالفارغ و الشُّرود حاديهما..تَهافتت عَليه كَلِماته المُعَرَّاة من العَقْل و زينته..ماذا كنت سَتَفعْل طَلال ! أي جُنون كِدتَّ تَفْتَعله ! لَوْلا رَحْمة رَبّي و رائِد...بأي الطُّرق كُنْت سَتنطقها ؟ أيَمْلُك لِسانك مُصْطَلحات تَسْتَطيع أن تُحَلِّي العَلْقَم الذي كُنْتَ سَتُبْصِقه ؟! يا لَكَ من أَبْلهٌ طائشٌ و مَجْنون..نَعم مَجْنونٌ أَنْتَ طَلال و لَن يُتَوَّج عَقْلك بالرَّزانة أَبَداً..،تَصَافَقَت أَهدابه بِخفَّة مُنْتَبِهاً لِحَديث رائد..،:نشفت ريقي الله يهديك "اجْتَرَع نِصْف القارورة التي تناولها من إحْدى الطَّاولات الصَّغيرة دفعة واحدة،ثُمَّ أرْدَف بَعْد أن مَسَح فَمه بظاهر كَفّه" مادري يعني في شنو كنت تفكر و إنت تتكلم..استخفيت رسمي ! "ابْتَلَع الباقي من الماء قَبْل أن يَتساءَل بِلَحْنٍ يُطالب بِجواب" قولي..في شنو كان مخّك العبقري يفكر ؟
أَخْفَضَ كَفّه و هُو يُرْجِع ظَهره لِيَسْتَنِد..هَمَسَ ببحَّة خاوِية دُون أَن ينظر إليه..،:ما اقدر اتكلم
عَلَّقَ ساخِراً،:ايــه..و قبل دقيقة كنت مستعد للكلام لين ما تنجب من الطراقات
تَجاهَل سُخْرِيَته و ظَلَّ مُتَقَوْقِعاً في شَرْنَقة صَمْته..ذاته مَسْجونة وَسَط دَوَّامة عاتِية..تَتَلَقَّفها بِقَسْوة..ثُمَّ تُطْرِحها أَرْضاً بنُفورٍ مُوْجِع..و تَعود و تَلْتِقطها مُعيدةً الكَرَّة إلى أن تُحيلها كائِناً لا حَوْلَ لهُ و لا قُوَّة..فَتُمْسي ذات مُتواكِلة..تَتَعَكَّز على الإنتظار..مُتَرَقِّبة الفَرَج..،رائِد اقْتَرَب منه هامِساً بِحَذَر..،:هذا هو عبدالله رجع و وياه ناصر "و بِتَهْديد" إن نطقت بغباء ثاني بدفنك في مكانك
,،
ماضٍ
و إن كانت شَجَرةُ الأَبِ مُعَرَّاة أَغْصانها من أَوْراقِ ظِلال ؟ فَهْل يَتَبَنَّانا غُصْناً أَلْقَاهُ الجِذْعُ لَقيطاً على أَعْتاب الخَريف ؟ فَنَزْرَعُ مَعاً، بأنامِل حاجَتنا رَبيعاً هَشَّاً..يُصَيّرني حَمامة تائِهة..و يَهْدي الغُصْنَ الفَقير بِضْع وريقات..لأناغيه بِهَديلي..وَ لِيَحْنو عَلي بِظِلال أَوْراقه..،تَلَقَّفَت كَفُّه العَريضة..المُعْدَم فيها الأمان..قَرَّبتها من فَمِها و هي تَحْني وَجْهها إليها مُقَبِّلَةً،راجِيةً بِهَمْسٍ قَطَّعته سُيوف الشَّهقات..،:يُبـ ـه...يُبــ ـه..الله يخليك يُبــه لا تذبحني..لا تهدم أحلامـ ـي "قَبَّلت الكَفَّ الجامِدة مُرْدِفَةً و الدُّموع تُواصِل صَفْعَ وَجْنيتها" مابي يُبـه..مابــ ـي..بعدي صغيرة..والله..والله صغيـ ـرة
اجْتَذَبَ يَدَهُ بِقَسْوة لِيُجيب بصَرَامة لا تَقْبَل الاعتراض،:الأمر انتهى..أنا قررت و رتبت كل شي..اليوم العصر عقدكم..و باجر الصبح سفركم للندن
هَزَّت رأَسها بِنَفْيٍ مُرْتَعِب و خُصْلاتها بَعْضها تَحَرَّك معها رافِضاً..و البَعْض الآخر الْتَصَقَ بذُبولٍ على جانب وَجْهها..نَطَقَت بتَنَشُّق و الآهات صُخور تَتَعَثَّر بها كَلماتها..،:مابي...مابـ ـي.."و بِصَرْخة بُحَّت من فَرْطِ الظُّلم" مابــي اروح مابي مابــ ـي..حرام عليك يُبه..أنا بنتـ ـك !
اقْتَرَب منها و هُو يَتَقَنَّع بالحَنان..مَسَح على شَعْرها لِيَقول،:و لأنش بنتي أنا ابي لش الزين..أنا خسرت كل شي بعد سفرة ألمانيا..و لا مشروع نجحت فيه لين ما ضاعت كل فلوسي..شلون بنعيش ؟
تَمَسَّكَت بأَقْرب طَوْق نَجاة،:دور لك شغل..اشتـ ـغل في أي مكان..اشتغل أي شي بس لا تزوجني
تَرَاجع عَنها لِيُعيد تِكرار الفاجِعة،:بلى فاتن لازم تتزوجين..سلطان بيعوضش عن كل شي..بتعيشين عيشة الأميرات
تَكالبَت الدُّموع على مُقْلَتيها..ارْتَعَشَ فَكّها،و شَفَتيها قَوَّسَهما البؤس بَعْد أن اسْتَلَّ فُتات طُفولتهما..هَمَسَت بِنَحيب و هي تُعَلِّق رَجاءَها بآخر أمل..،:بــ ــ...بـــ ـس يُبـ ـه..عُمــري اثنعش سنـ ـة !
عَقَّب بِلَحْنٍ يَسْتَصْغِر احْتجاجها..،:زيـــــن..و عمرش اثنعش سنة شفيها ! "أشار إليها مُرْدِفاً و هُو يُرَيّح جَسَده على الأريكة" هذا إنتِ قدامي مراة عاقلة و فاهمة..مافيها أي مشكلة
ارْتَعَدَت فَرائِصها بِقُوَّة مُوْجِعة..قَبْل أن تَتَصَلَّب من رَأسها حَتَّى أَخْمَص قَدَميها..الدُّموع جَفَّت في عَيْنيها..و بَقَى الْتماعٌ وَهِن يَهْمس من عَدَسَتيها..خَنَقَت صَوْتها بين أَضْلاعها..و اسْتكانت حَواسها أَجْمع..إذاً أنا امْرأة..أنا امْرأة أبي ! امْرأة تَغْفو و دُمْيتها تَسْكن حضنها..امْرأة تُسَرّح شَعْرها مُرَبّيتها و تُزَرّر لها قَميصها..امْرأة تَبْكي لِخَسارتها في لُعْبة نَط الحَبل..و عندما ينتهي طَبَق الكَعك الذي تَشْتهي..امْرأة تَخْشى الظَّلام و تَرْتَجِف من الوِحْدة..امْرأة تَهْرع في المَساء لِمُشاهَدة الرُّسوم المتَحرِّكة المُفَضَّلة لها..و امْرأة تَرْسم الشَّمس في زاوية الصَّفْحة و تُلَوّن البَحْر بالزُّرْقة...إذاً أنا امْرأة في نَظَرِ أُبُوَّتك..أم أَنَّكَ وُلِدتَّ عَقيماً من الأبُوَّة ؟ تَراجعت خُطْوتان للِخَلف..أَدارت نِصْف جَسَدها..و قَبْل أن تُوْليه ظَهْرها..هَمَسَت بِهَديلٍ يَتيمٌ من ظِل..
،:مَشْكــ ـور...يُبـــه
,،
حاضِر
فَرَاشَةً طَوَت جِنْحَيْها و الْتَحَفَت..سَكَنَت أَلْوانها الزَّاهِية و غَفَت..وِسادَتها نافِذة السَّيارة..بَدَل أن تَتَوَسَّد بِتِلَّة ذاتَ عِطْرٍ أَذْفَر..يَتَجانَس مع عَبيرها الفَريد..العابِث بِنَبْضه عَبَث النَّسَبِ في قَبيلة..،مُذ رَكِبا و اسْتَشْعَر جَسَدها جِلْد المَقْعد المُريح..غازَلها النُّعاس حَتَّى ذابَت بَيْن ذِراعيه وَ حَمَلها على ظَهْر غَيْمة..لِتُهَدْهِدَها على أَلْحان حُلْمٍ جَميل..أَطْبَق أَسْنانه على شَفَته السُّفلى و هُو يَرْنو لها بِلَهْفة..كَم أَنْتَ مَحْظوظ أَيُّها النُّوم..فهي تَعْشقك..و لا تَخْجَل من الإعْتراف بذلك أمام المَلأ..و أَنتَ تُشاركها أَحْلامها،وَ تُصْغي لِزَقْزَقة أَنفاسها..آآه كَم أغْبط..،أَرْكَن السّيارة في مَكانها المُخصَّص داخل المنزل..أَطْفَأها ثُمَّ غادَرها مُتَّجِهاً لِباب زَوْجَته..الْتَصَق به حَتَّى لا تَسْقط إذا فَتَحه..أَمْسَك بالمِقْبض و ببطء بَدأ يَفْتحه..جِذْعها مالَ بتلقائِية عندما افْتَقَد الذي يُسْنِده،و اصْطَدَمَ بِخِفَّة به..انْحَنَى قَليلاً مُنادِياً بِهَمْس تُناغيه ابْتسامة،وذراعه تُحيطها بحماية..،:حَنين..وصلنا
هي اسْتجابت إليه فَوْراً..فَوَعْيها لا زال يَسْكن السَّطح..و لَم يَغْرَق بَعْد..اعْتَدَلَت في جُلُوسها و هي تَرْفع رَأسها إليه..حَلَّقَ قَلْبه بِجِنْحَي نَبَضاته مَأسوراً بالذي الْتَمَع من بَيْن الهُدُب..ذَلك العَسَل المُصَفَّى الحَلال شُرْبه لَهُ فَقَط..تَساءَلت بِعَيْن ضائقة..،:وصلنا ؟
هَزَّ رأسه بالإيجاب و شَفتاه تَتَغَنَّى منهما ابْتسامة خَفيفة..أَغْلَق الباب بعد أن نَزَلت ثُمَّ خَطَى بِجانبها..مُتَّخِذاً الخُطوات نَفْسها..و كَأنَّهما يَشُقَّان الطَّريق بِقَدَمان فَقَط..أَي أنَّ الجَسَدان صَيَّرهما الليْلُ جَسَدٌ واحد..و الرُّوح..الرُّوح من ناحِيته فهي واحِدة..مُذ أَعْلَنَت وَلاءها لِرُوحها الأُنْثوية..،دَقيقة و دَلفا لِغُرْفة نَوْمهما..راقَبها و هي تَخْلَع عَباءتها سَريعاً،ثُمَّ تَتَّجِه لِتَسريحتها..تناولت إحْدى العُلب و قُطْن..و بَدَأت بإزالة المَساحيق الخَفيفة..هُو خَطَى إلى السَّرير..خَلَع حِذائه قَبْلَ أن يَسْتَلْقي فَوْقه على بَطْنه..و عَيْناه اسْتَقَلَّتا سِرْج مَوْجة سَتَطُوف مَدائن مَلامحها الخُرافِيَّة..قَضَى دَقائق لا يَعْلمها يُجوب طُرقاتها العَريقة المُنْعَكِسة في المِرْآة..وَقَف قليلاً عِنْد نَهْرَي العَسَل..لِيَنْتَعِش من الرَّذاذ النَّقِي..و فَوْقَ سَهْلِ الأَهْداب المُلْتوي تَراقَصَ نَبْضه..قَبْلَ أن يَمُرَّ على مَنْبَع الأَنْفاس المُسْكِرة..لِيَنْتهي عند مَوْضع الالْتقاء..لِيَحْتَسي شُرْبة من خَدَر..،بَعْدَ أن انْتَهت و أَعادت لِبَشْرَتِها حَيَوِيَّتها..دَلَفَت لِغُرْفَة المَلابس..غابَت لِعَشْرِ دَقائق لا بُدَّ أَنَّها اسَتَحَمَّت فيهن سَريعاً..قَبْل أن تُطِل عَليه بِثَوْب نَوْمٍ زَهْري..مَلْمسهُ القُطْني يُنافِس شَفافِيَّة بَشَرَتها المُتَسَرْبِلة بِبياضٍ شَهي..فَتَحت المُكَيّف،ثُمَّ أَتَت لِتُشاركه السَّرير..تَكَوَّرت تَحْتَ الغِطاء و هي تَتَثاءَب بِعَفَوِيَّة و بِعينان مُغْمَضَتان..و كُل ذلك عَلى مَرأى من ذاته المُقَيَّدة بسِحْرها..أَبْصَرت لِتَلْتَقي بِعَيْناه المُتَأمِّلَتان..هَمَسَت بِصَوْت مَحْشي بالنَّعاس،و بابْتسامة صَغيرة..،:ليش تطالع ؟ من أَوَّل ما دخلنا!
اتَّسَعت ابْتسامته لِسؤالها البَريء..لا تَفْهمين في الحُب حَنيني..كَم أَنا غَبي حينما ظَنَنتُ أَنَّ قَلْبَكِ رُبَّما الْتَفَت لذاك الرَّجُل ذات زَمَن..و لَكِنَّكِ تَثْبتين لي يَوْماً بَعْد يَوم عُذْرية قَلْبكِ..و كَم هُو مُثير أَن أكون أَنا مُعَلّمه..أَجابها بالهمس نَفْسه و هُو يَزْحف بِخفَّة لها،:أَمارس هِواية
عَلَّقَت بسُخْرِية،:ماشاء الله عليك..تمارس كل هوايات الدّنيا
ضَحَكَ بِخِفَّة دُون أَن يُعَقّب على سُخْرِيتها..تَوَقَّفَ زَحْفه عندما لامَسَ كَتِفها صَدْره..هي تَساءَلت باسْتنكار و حاجِبان مَرْفوعان..،:شتبي !
تَمْتَم و هي تَتَبع مَسير عَدَسَتيه..،:لاا..بس يعنـــي...
قُبْلة خَفيفة..رَشيقة و خافِتة..اقْشَعَر منها جَسَدها..قُبْلة احْتَفَظَت بها زاوِية شَفَتيها اليُسْرى..رَفَع جِفْنيه لِيُسْتَأذنها و هي أَجابت بَهَمْسٍ باسِم،:بــس دَقيقة
خاطَب شَفَتَيها بِهَمْسٍ لَم تَلْتَقِطهُ آذان الفَجْر المُصْغِية بِخَجَل..،:دقيقتين
،
خَرَج من دَوْرة المياه و ابْتسامة حُبور تَلْعَق بَقايا الشَّهْد الغافي على شَفَتيه..مَلامحه تُدَثِّرها سَكينة لَذيذة..تَبْعثُ الإسْترخاء في النُّفوس الوَجِلة..حَرَّكَت أَهْدابه نَظْرة لَعوبة و ذاكِرته لا زالت مُتَعَلِّقة بالأحداث السَّابقة..فالدَّقيقتان امْتَدَّتا لِساعة..و رُبَّما أَكْثَر..ساعة من الغِياب و الإنْتشاء..،عادَ للغُرْفة بَعْدَ أن ارْتَدى سِرْوال مَنامته..كانت لا تَزال تَرْسِم مَلامح جَسَدها بَيْن طَيَّات السَّرير..اقْتَرَب منها..مُسْتَسْلِمة لإغماضٍ مُرْهَق..عَضَّ شَفَته كَأنَّما يَعض على إصْبع نَدَمه..أَرْهَقَها بعُنْفوان مَشاعره بالطَّبع..وَقَف قُرْبها..امْتَدَّت يَده مُزيحاً خُصلاتها عن وَجْهها برِقَّة..هَمَسَ بِحَنانٍ مُحِب..،:حَنيني "كَشَف جِفْنَيها عن مَنْجَمِ العَسَل لِيُرْدِف و هو يُشير لِجهة دَوْرة المياه" الحَمام..لا تنامين
عَقَّبَت مُهَدّدة و هي تَعْتَدِل جالِسة..،:إذا طارت النُّومة بخاصمك
ضَحَك لِتَهْديدها الطُّفولي و هُو يَرْتدي سُتْرته ذات الأكمام القَصيرة..ثُمَّ غادَر غُرْفة النَّوم بَعْد أَن تَأكَّد من دُخولها لِتَسْتَحِم..غادَر إلى الجَنَّة المُحْتَفِظة بجُذور صَبابته..و بوَرْدَها مُذ كان جَنيناً..يَرْضَعُ من ثَدْي الحُب..إلى أَن اسْتوى غُصْنه و أَصْبَحَ رَجُلاً تَنْمو من أَرْض كَفَّيه أَشْجاراً..تَبْني فَوْقَ َأغْصانها الطُّيور المُهاجِرة أَعْشاشها..المُهاجِرة من مُنْحَدَرات الفِراق..إلى وِدْيان الهَوى..،جَلَسَ فَوْق مَقْعَد مَكْتَبه..فَتح أحْد الأَدْراج المُحْتَضِنة بَوْحه..رَسائلٌ هي إطاراتٌ احْتَفَظت بمشاعر كُل عُمْرٍ عَشَقها فيه..رَسائلٌ لَم يَرْبطها بساق حمامٍ زاجِل لِيُحَلّق بها إلى حَنينه..فَهُو قَد نُهِر و بِشِدَّة من قِبَل والده الذي كَشَفَ سِرّه ذات ماضٍ..،الْتَقَط وَرَقة مُتَعَطِّشة لامْتصاص حِبْر بَواحه..تَناول القَلم المُتَحَمّس لِتَقْبيل أَسْطُر الاعْتراف..و بَدَأ بِسَرْد حِكاية حَديثة المَنْبت..لِتُشارِك أَخواتها اسْتنشاق رَبيع الحُب المُخَلَّد..،
,،
أُطْفِئت مَصابيح الفَرَح..و أَغْلَقَت نُجوم الليْل أَعْيُنها..مُسْتَعِدَّةً لِفَجْرٍ هادئ..يُشاركه القَمَر السَّهَر..خَرَج المَدْعُوِّين دُفْعات..إلى أن اخْتَلَى المَنْزِل..هُوَ وَدَّعها بِكَلِمات عَقَدها بِزَهْر الرِّقة..ثُمَّ غادَر بَعْد أَن وَعَدها بِمُكالَمة صَباحِيَّة...،ها هُم..هُو..والدته..و نُور..كُلٍّ يَتَّخِذ مَكانه في السَّيارة..والده غادَرَ بعد انْتهاء حَفْل الرِّجال مُباشَرة..و هُو بَقِي مُسْتَسْلِماً لِتَسْييرات والدته و شَقيقَتيه..أَنهى مع يَاسَمين جَلْسة التَّصْوير الثَّقيلة جِدَّاً..و التي أَجْبَرَتهُ على التَّمَرُّغ بِوَحْل الخيانة مَرَّة و عَشْرة..إما بِقُبْلة جَبين..أو لَثْمٍ لِخَد..أو مُعانَقَة خِصر كانَ نَحْتهُ مُناقِضاً لِنَحْت خِصْر تِلْك...أَغْمَضَ للحظات و هُو يَسْتَغْفِر بِوَجس..أَنَّبَ ذاته على أَخْطائها..فهي أَفْرَطت اليُوم في الشُّرب من كَأس الحَرام..فَأرْضُ الجِنان حَرامٌ عَلَيك..حَرامٌ عَليك فَيْصل..حَتَّى خَيالك لا يَجُوز لَهُ التَّحْليق وَسَط سَمَائها..،ذِراعهُ اليُسْرى قَد رَفَعها لِيَتَّكئ بِمرْفقها على قاعدة النَّافِذة..سامِحاً لِرأسه المائل أن يَتَوَسَّد باطن يَدَه..و يُمْناه قَد قَبَضَت كَفُّها على المِقْود..و كُلَّما تَحَرَّكت مُسْتَجيبة لانْحراف الطَّريق هَتَفَ منها الْتماعٌ فضي..لَم يَكُن سِوى خاتم الزَّواج الذي اسْتَقَرَّ حَوْلَ بنصره..خاتمٌ جَديد..حُفِر فيه اسْم وَرْدة ياسَمين..بَدَل اسْم الجِنان كُلِّها..حَتَّى في اسْمكِ فُزْتِ..هي وَرْدة مُفْرَدة..وَ أَنْتِ لَم تَقْبَلي إلا بالجِنان جَميعها..،تَنْهيدة شارِدة عَبَرت صَدْره حَتَّى اسْتَقَرَّت في جَوى مَن كانت على يَمينه..هي التي كانت مُلْتَفِتة إليه مُنذ رُكوبها..تَساءَلت بِهَمْسٍ يَشوبه بِضع تَوَجُّس..،:حَبيبي شفيك ؟
رَفَع رَأسه مُعْتَدِلاً في جُلوسه..بانت لها زاوِية فَمه التي ارْتَفَعت باهْتراء كاشِفة عن ابْتسامة فَقيرة من أَي شُعور..و دُون أن يَنظر إليها أَجابَ بِهَمْس،:ما فيني شي يُمَّه...لا تحاتين
أَفْصَحَت بِصَراحة،:بس وجهك مو وجه واحد توه مالج
شِارَكت يُسْراه اليُمْنى في القَبْضِ على المقْوَد..و كَأنَّهُ بِقَبْضِه يَسْتَفْرغ من خُطوطهما تَناقُضات دَواخله..اخْتلاجات قَلْبه المُوْجِعة..ارْتعاشات أَنْفاسه..و أَنينُ ذاته..سَمَع نِدائها المُسْتَنْكِر صَمْته..،:فيصل..اكلمك !
اهْتِزازات خَفيفة صَدَرت من رَأسه إيجاباً و لِسانه نَطَقَ بِكَلِمة واحِدة تَرْجَمت الفَوْضى المُحْتَدِمة داخله..،:ماعليــه..ما عليه يُمَّه..ما عليه...
الْتَزَمَت الصَّمْت و لَم تَلْتَزِم عَيْناها بِغَضِ بَصَر..فَهي واصَلت المَشي بَيْن جُثَث مَشاعره..المَسْفوكة دِماءَها بين أًزِقَّة مَلامحه المُعَبَّدة بذكريات جِنان..،دَقائق و أَوْقَفَ السَّيارة أَمام مَنزلهم..عُقْدة عَدَم فَهم تَوَسَّطَت حاجبيها و هي تَتَساءَل،:يُمَّه ليش وقفت اهني ؟ ما بتوقفها داخل !
أَجاب بنصف ابْتسامة و عَيْناه اعْتراهما غشاء مُبْهَم مَنَع نَبَضاتها من فَك شيفراته..،:يُمَّه انتوا دخلوا..أنا بروح شوي و برجع
نُور التي كانت مُتَعاقِدة مع الصَّمْت اسْتَنْكَرت،:فيصل السَّاعة وحدة و شوي..وين بتروح !
رَفَع بَصَره للمْرآة لِيُقابل وَجْه نُو و هُو يُجيبها بذات الابْتسامة،:شوي..ما بتأخر..انتوا دخلوا اللحين
بَعْد دَقيقة من النّقاش و الاعْتراض من قِبَل والدته و نُور..اسْتَطاع أن يَتَمَلَّص من أَسئلتهما..بَعْدَ أن وَعَد والدته بِعَوْدَته مُبَكّراً..تَأَكَّد من دُخولهما..ثوانٍ..و تَحَرَّكَت العَجلات لِتَسْري به إلى الجُنون..،
،
تُلْهِب أَغْطِية سَريرها بنِيران غيرتها..و تَكْوي الوِسادة بِجَمْر دُموعها..و أَمَّا قَلْبَها..فَهي تُضَخِّم أَوْجاعه بِكَبْح شَهَقاتها..تَسْجنها و تُجْبرها على أَن تَكُون بَكْماء..تَبْتَلع نَفْسَها بِنَفْسِها..حَتَّى لا تُمَزِّق بحِدَّتها رِداء الفَجْر..و تُفْضَح أَمام القَمَر و ساعات السَّحَر..فذاتها قَد اتَّخَذَت وَعْداً..كَتَبَتهُ على صَفَحة السَّماء وَ وَثَّقَته بإحْدى النَّجَمات..وَعْدٌ بأن تَكُون أَنْثى أَقْوى..و عاشِقة لا تَتَعَرَّى من البُكاء و الحَسْرة..و هاهي تُخْلفه ببساطة..،تَشَرَّبَت صَبيب مُقْلَتيها بظاهر كَفَّها التي نَحَر الجَفاف نُعومتها..جَفافٌ أَسْرته إليها أَمْلاح دُموع..،بإعْياءٍ كانت مُسْتَلْقِية و الغيرة تَنْهَش حَواسها..تَجْري بها مَجْرى النَّار في الهَشيم..حَتَّى طِفْلتها..أَبْعَدَتها عن حضنها عندما حَمَلَها النَّوْمِ في مَهْدِ أَحْلامه..لا تُريد أن تبث إليها سَلْبيات حَياتها..آهات فَجْرها..و الحَسَرات الوارِثة من الليْل عُتْمَته...،غادَرَت السَّرير حينما لَم تَسْتَطِع الصُّمود أَكْثَر أَمام جَيْش الشَّهَقات..بخطوات سَريعة تَوَجَّهت لِدَوْرة المياه..و هُناك خَلْفَ الباب المُوْصِد ارْتَفَع صَوْت تَكَسُّر آمالها..و آخر حُلم لها بأن يُعانق رُوحَيْهما اللّقاء..انْتَحَر على بِلاطٍ تَشَرَّب خَساراته..،بَكَت و انْتَحَبَت..و عَزَفَت على وَتَرِ الغَسَقِ قَصيدةً صامِتة..لِقافِيتها انْحِناءٌ غَيور..يَرْفض التَّنازل عن شَطْر الماضي المُكَلَّل بعِشْقٍ سَعيد..،نَثَرت الماء عَلى وَجْهها و هي تَشْعر بتُخْمة الحُزْن..يَفْصلها عن الإكتئاب دَمْعةٌ و آه مَخْنوقة..لِذلك أَسْرَعت بِشَطْف الدُّموع،و تَطْهير وَجْنتيها من آثارها القَبيحة..ثُمَّ خَرجت و هي تُجَفّف وَجْهها بِطَبْطَبة قَد تُخَفّف تَهيّجه..خاصَّة جِفْنيها السُّفْليان..تَشْعر بانْسلاخ حارق يُهاجمهما...أَخْفَضت المِنْشفة الصَّغيرة و هي تَخْطو جِهة سَريرها..حَنانٌ لاطَفَ شَفَتيها الباهتتين بابْتسامة و هي تَتَأمَّل صَغيرتها..و امْتَدَّ مُعانِقاً حَدَقَتيها قَبْل أن تَنْحَرِفان يِساراً..حَيْثُ المِنْضدة الغافي فَوْقها هاتفها..و الذي كانت تُرْسِل شاشته وَميض تَجانس مع أضْواء الغُرْفَة الخافِتة..تناولتهُ بِتَعَجُّبٍ تَصَنَّمَ حينما اصْطَدَمت أَرقامه ببصرها..هَتَفَ صَوْتٌ داخلها..ماذا يُريد !
انْقَطَع الإتّصال و هي لا زالت تَقِف بِصَدْمة مُحَدِّقَةً في الشَّاشة..بانَ لها أَنَّهُ الإتّصال الثاني..و لِيَتَضاعف اسْتنكارها عادت و تَرَبَّعت أرقامه أَمام عينيها كاشِفةً عن اتّصال ثالث..نظرت للسَّاعة..تجاوزت الواحِدة و النّصف..لِماذا يَتّصل في مثل هذا الوقت ! بل و في هذه الليْلة ! العُرْف يَقول أَنَّ اتّصاله يَجب أن يكون لِخَطيبته..لا لِطَليقته ! اتَّجَهَت للمَقْعَد المُنْزَوي في يَمين الغُرْفة عندما تَيَقَّنَت من إصْراره..فَها هُو الإتّصال الرَّابع يَتَجَلَّى..جَلَسَت بِوَجَل و هي تَقْبِض على المِنْشَفة بكفِّ تَخَبُّطها..أخيراً..اخْتارت أن تُجيب..أَراحت الهاتف على أُذْنها دُون أن تنبس ببنت شفة..ثانية..ثانيَتان..ثَلاث...و لا شيء..لا شيء سوى أَنْفاسه المُضطَّرِبة بِوُضوحٍ أَرْبَكها...نادَتهُ بِتَرَدُّد هامس بَعْد أن وَتَّرها الصَّمْت المُخيف..،:فيــصل !
,،
لَم يَتَسَنَّ لهُ تَغْيير مَلابسه..فاتّصال عَزيز كان طارِئاً..وَصَل خلال رُبْع ساعة للمَوْقع المُحَدَّد..تَرَجَّل من سَيَّارته دُون أن يُطْفئ المُحَرّك..كان المَكان قَد تَسَوَّرَ بأشْرِطة صَفْراء خاصَّة بالشُّرْطة..رَفَع ساقه و تَجاوزها..وَطَأت قَدماه الأرض المُلْتَحِفة بحجارة صَغيرة..مَشى و هُو يبْحَثَ بِعَيْنيه عن عَزيز بَيْن الجُموع..ثوانٍ و الْتَقَطهُ بَصَرهُ يَتَحَدَّث مع أَحَد الزُّملاء..اقْتَرب..و صُوت اصْطدام خُطواته بالأرْض الخَشِنة نَبَّه عَزيز الذي الْتَفَتَ ناحِيته..ثوانٍ و ابْتَسَم بسُخْرِية مُعَلِّقاً و هُو يُشير إلى ثَوْبه..،:حَبيبي رائد ترى هذا موقع حادِثة مو عرس إلا جاي متكشخ
وضَّح عندما وَقَفَ أَمامه..،:و إنت الصَّادق جاي من ملجة
تَساءَل..،:ملجة من ؟ و ليش ماتعزمني ؟
شارَكهُ السُّخْرِية،:ليش ملجتي عشان أعزمك على كيفي ؟ "اسْتَدْرَك و هُو يَميل في وُقوفه" ملجة ولد عم عبدالله
رَفَعَ حاجبه و بِلَحْن شَك..،:أي عَبْد الله ؟
حَبَسَ ابْتسامته التي تَجَلَّت في عَيْنيه،:عبدالله..أخو زوجة عَمَّار الله يرحمه
تَمْتَمَ بشرود،:الله يرحمه
رائد تَجاوزه و هُو يَتساءَل و كأنَّه للتو يَتَذَكَّر،:شنوع الحادِثة ؟
عَزيز و هُو يَلْحقه أجابَ بمُنْتَهى الثِّقة،:قَتْل مُحَوَّر إلى انْتحار
تَوَقَّفَ عند الضَّحِيَّة المُغَطَّاة بقطعة قِماش بَيْضاء..رَفَع رَأسه مُلْقِياً نَظْرة على المَبْنى المَهْجور السَّابح في الظَّلام..قَبْلَ أن يَجْلس القُرْفصاء بجانبها..الْتَقَط طَرَف الغطاء بأصابعه..و بهُدوء كَشَفَ عنها لِتَتَعَثَّر حَدَقَتاه بوَجْهٍ عاثَ فيه التَّشوّه حَتَّى أَخْفَى مَلامحه..عَزيز نَطَق و هُو يَقِف خَلْفه و يَداه تَسْكنان جَيْب بِنْطاله..،:مو واضح شي من ملامحها..لو عندها أهل ما بيقدرون يتعرفون عليها..بنرسل عيّنات مستعجلة للمختبر
هَمَسَ لِنَفْسه و للضَّحِيَّة المُغَيَّبة رُوحها..،:فاتـِــن !
~ انْتَهى
|