كاتب الموضوع :
simpleness
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
تَوَكَّلتُ على الله
الجزء الخامس و الأَرْبعون
الفَصْل الثَّاني
ماضٍ
انْتَظَرَهُ لأَيَّامٍ و لم يأتِ..سَألَ عنه..بَحَثَ عن آثار خُطواته بين تَشَقٌّقات أَرْضٍ صَمَّاء..بَكَى في زاوِيَة غُرْفَته مُعْتَقِداً
بقَلْبه البَريء أنَّ دُموعه ستَصْرُخ ليَسْمعها ذاك الغائب فيأتي..لكنَّ النَّهار انْقَضى..و اللَّيْلُ نَشَرَ أَذْرُعهُ المُطْمَسَة من السَّواد..و القَمَرُ تَلاَشى ضَوْؤه خُذْلاناً،حَتَّى اسْتوى دُخاناً يَذْوي مع انْتِحار السَّاعات المُنْتظِرة إقْباله..و لم يأتِ،هُو اشْتاقه..اشْتاقَ لِلسانٍ لا يَنْهَره..و لِيَدٍ تُرَبّت بمَلَقٍ على ظَهْره لا تَصْفَع خَدَّه اليَتيم..و اشْتاقَ إلى ابْتسامة تَرْتَدي حَناناً غَريباً..ليس حَنان والدٍ و لا والِدة..و إنَّما حَنانٌ يَتَسَرْبَل بحُبٍ أَصْفى من نَهْرٍ عَذْب..و كأنَّه بعَيْناه..بابْتسامته..و هَمْسِه اللَّطيف،يُغْدِق على ذاته الفاقِدة أَغْدِرة لها حَلاوة تَسْتَلِذ بها رُوحه..، هذا الغِياب يَتَراكم أَمامه جِداراً ذو قُضْبان ضَيّقة،تُهَدّده بفَصْله عن الرَّجُل الذي وَثَقَ بهِ قَلْبهُ الصَّغير..يَخْشى أن يَنام و يَسْرقهُ الفَجْر من صَحْوته..لذا بَقِي لأيّام يُصارع الوَسَن حتَّى تَكَحَّلت عَيْناهُ بالأرَق..و أَمْسى إخْضرارُ عَدَسَتيه المُرْمَد..جَمْراً يَنْضَح بهِ بَياض مُقْلَتيه..،الأَيَّام التي مَضَت فاتَهُ حِسابها لسَبَبان..الأَوَّل لأنَّهُ نَسِي الحِساب الذي تَعَلَّمه في المَدْرسة..أمَّا الثاني فكان لِثِقْلٍ مُوْجِع تَكَوَّم في حَلْقه..ثِقْلٌ يَنْحَتُ حُزْنه فَوْقَ حَنْجَرته..ثِقْلٌ يُسَمَّى غَصَّة..غَصَّة مَريرة مَنَعَت صَوْتَهُ من الوُلوج لعَدّ الأيَّام المُقْفَرة من ذلك الغائِب..،كانت الشَّمْسُ تُشاكِس عَيْناه بإزْعاج..يُشيح وَجْهه عَن ضَوْئِها الحاد..يَرْفع ذراعه ليَضَعها حاجِزاً بينها و بين بَصَره..لكنَّها تَتَلَصَّص من كُل مَكان لتَمْرَق عَدَسَتيه..كان يَجْلُس عند باب الغُرْفة التي اخْتارتها لهُ أُخْته..يُتابِع غَيْداء ابْنة السَّابِعة و هي تُلاعب عَبْدالله ذو الخَمْسِ سَنوات..يَنْظُر لهما من خَلْف ضَباب الوِحْدة..فأُخُوَّته وَحيدة،على الرَّغْمِ من اتّصالها بخَمْسٍ من الإناث..إلا أنَّها أسَفاً كانت أُخُوَّة مَنْبوذة..،يَنْظُر لهما و من وَجْهه يَرْتَفِع صَمْتٌ صاخِب لا يَحْكي شَيْئاً،إنَّما بِصَخَبه يُتَرْجِم بَوْحَ كلماتٍ خُنُقِت في الجَوى..هُو في بعض الأَحْيان يَلْعَب معهما..خاصَّةً عندما يَخْلو المَنْزِل من أُخْته..لكنَّ أكْثَر من نِصْف اليُوم يَبْقى جَليساً لسُفُنه..يُحادِثها بلُغَة البَحْر..لُغَة المَوْج الرَّاقِص..،ها هُو يَسْتَنِد على باب الغُرْفة من الخارج و الشَّمْسُ لا زالت تُغازل نافِذَتيه المُتَطَلّعَتان لبُزوغ وَجْه رَفيقه..رافعاً ساقيه لتَسْتَقِر فوق رُكْبَتيه سَفينة صَغيرة لها هَيْكَلٌ أَزْرَق،و شِراعٌ شابَ بَياضه آثارُ بَصمات أصابعه القَلِقة..،حاجِباه تَتَوَسَّطهما عُقْدة امْتَزَج فيها الضّيق بأَسى كَئيب..فالرُّوح تَخافُ أن تَخْسَر حَاديها..أَبْعَدَ بَصَرهُ عن غَيْداء و عَبْدالله للسَّفينة..شَيْئاً فشيء كان صَوْتُهما يَبْتَعِد..و كأنَّهُ يَذُوب بين تَلاطُمات البَحْر الذي بَدَأ يَغْرَق فيه..غَزَلَ نظَراته بالشّراع المُصَنَّم عن أي رَفْرَفة،ليَهْمس صَوتٌ بَريء في جَوْفه..لو أنّني أُبْحر بها إليه ! زَفَرَ بيَأسٍ من الفِكْرة..فالبَحْرُ بَعيد..و القَارب لا يَتَّسِع لجَسَده..،
،:طَلال قاعد أَكَلْمك !
وَعَى من غَرَقِه مُنْتَبِهاً لليد التي تَهُز كَتِفه..رَفَعَ عَيْناه ليُبْصِر ذلك الوَجْه الذي اخْتَفَى من أَيّامه فَجْأة..تَقَوَّسَت شَفَتاه بزَعَلٍ ساحِق و هَو يُعاتبه،:إنت وينك ؟ صار يوم و يومين و وايد أيام وما ييت !
هُو الذي اتَّكأ على الأرْض برُكْبته أَجاب بابْتسامة مُعْتَذِرة،:أنـا آسف طَلال "اتَّسَعَت الإبْتسامة و تَجَمَّلَت بأَلقٍ جَذَب عَدَسَتي طَلال..أَرْدَف بنَبْرة تَشَبَّعَت بالسَّعادة" بس وصلتني هديَّة من الله و نسيت كل شي في الدنيا يوم شفتها
ردَّد بذُهول رَفْرَف مع أَهْدابه،:هديَّة من الله !
هَزَّ رأسه بالإيجاب مُؤكّداً،:ايــه..و انا جاي اخذك معاي عشان تشوفها
تَسَاءَل بعَيْنان مُتَّسِعَتان من الدَّهْشة،:يصيـــر اشوفها ؟
وَقَف و هُو يَمُد يَده ناحيته،:ايـــه يصير..قوم نروح
نَظَرَ ليَده المَنْتَظِرة كَفّه..ازْدَرَد تَرَدُّده قَبْل أن يَقُول بخَوْف أَخْنَقَ صَوْته،:بس أختي مو اهني..أخاف إذا يَت و ما شافتني تعصب
تَدَثَّرَت ابْتسامته بطمأنينة تناثَرت وَدَقاً على قَلْب طَلال النَّابض بخَشْية من العِقاب..الْتَقَط يَده يَحِثّه على الوُقوف و هو يُعَقّب،:و أنا داخل البيت شفتها..إنت كنت سَرْحان..خبرتها و وافقت..بتتغدا و ببتعشى معانا بعد
بَرَقت حَدَقَتيه بفَرْحة تَزوره كُل عُشْرون حُزْن..و بصَوْت حَوَى الإبْتسامات،:والله ؟ يعني بقعد عندكم لين يصير الليل؟
و هُو يَمْشي معه،:ايــه حَبيبي..بتقعد عندنا لين الليل
اسْتَدارَ للخلف يَنْظر للحَديقة التي خَلَت من الصَّغيران و هُو يُواصل مَشْيه..و بتساؤل،:و عبود و غيداء ما بيون ؟
نَفَى،:لا..أمهم ما رضت
هَزَّ رأسه بتَفَهُّم دون أَن يُضيف كَلِمةً واحِدة..ليس مُهِماً..الأَهم أن يُغادر هو المنزل ليَتَعَرَّف على الهَدِيَّة التي من عِنْد الله..،خِلال الطَّريق إلى منزل ناصر القَريب نسبياً كان يَسْرد أَحْداث الأَيَّام التي مَضَت دون أن يأتيه..أَخْبره عن انْتظاره الطَّويل و الذي اعْتَذَر ناصِر لأَجْله ثانِيةً..و أَخْبره عن وِحْدته و ملله..و لم يَنْسَ أن يخبره عن الصَّفْعة التي وَجَّهتها لهُ أُخْته لأنَّه خَرَج مع رائد دون إسْتِئذان..عاتبهُ ناصِر بهُدوء،:يُبه طَلال ليش تطلع من غير ما تستأذن ؟
بَرَّر و هُو يُحَرّك يَده و من عَيْنيه نَضَحَ صِدْقٌ بَريء،:نسيـــــت والله..رائد قال لي بسرعة..و ما صار وقت أقول لبلقيس
زَمَّ شَفَتيه و هُو يَنْعَطِف يساراً..ذِكْر اسْمها فقط يُثير غَثيانه..هُو كَذَّبَ على طَلال..لم يُحادثها قبل دقائق بل حادثَ شَقيقه الذي تَكَلَّف بمُهمة إخبارها بخُروج طَلال حينما تَعُود..بالإضافة إلى أنَّه وَعَده بالتَّصَدّي لأي ضَرْبة قد تُحاول أن تُوَجّهها له..فهذه المَرْأة تَنْفث لَهيب النار المُسْتَعِرة في جَوْفها لتَحْرُق هذا اليَتيم..تَحْرُقه بذَنبٍ مُغْرِض نَسَبتهُ لوالدته المِسْكينة..تلك التي صافَحها المَوْت و لازالَت قُلوب الأخوات الخَمْس تَلوك ذِكْراها بحِقْدٍ دَفين..و كان طَلال الصَّيْد الذي يَمْرَقونه بسهام حِقْدهن..هن بالإهْمال..و هي بكُل مَعاني القَسْوة التي عَرَفتها البَشَرِيَّة..دُون أن يُوَعّيها نَسيمُ رَحْمة..،أَوْقَف المَرْكبة في باحة المَنْزل المُخَصَّصة لها..غادَراها مُتَّجِهان لداخل المَنْزل حيثُ تَساءَل طَلال و هُو يَرْفع رأسه لناصر،:وين الهَدية ؟
أَشار لإحْدى الغُرَف بابْتسامة مُجيباً،:داخل هذي الغرفة
طَرَق الباب المَفْتوح نِصْفه قَبْلَ أن يَدخُل و هو يُنادي،:ليلى
وَصَلَهُ صَوْتها الرَّقيق المُحَبّب إلى قَلْب رُجولته،:تعال ناصر مافي أحد
دَلَف و من خَلْفه طَلال الذي جالَ بَصَرهُ بانْبهار على الغُرْفة المُزَيَّنة بلونٍ زَهْري جَذَبَ لُبَّه..اسْتَقَرَّت عَيْناه على السَّرير الكبير الجالِسة فَوْقه زَوْجة ناصر و فَيْصَل و هما مَحْنِيان لشَيء لم يَسْتَطع تَمْييزه..،
صَوْت ناصِر عادَ ليُوَجّهه،:تعال اهني طَلال
تَقَدَّم بخَجَلٍ من الخالة لَيْلى،صافَحها و هي سَألتهُ بنَبْرة حَوَت وِدَّاً تَهْفو لهُ حَواسه،:شلونك طَلال؟ إنت زين ؟
هَزَّ رأسه بأدَب مع ارْتفاع هَمْسه،:ايــه زين
قال ناصر و هُو يُشير لذلك الشيء المُتَوَسّد السَّرير،:تعال شوفها..شوفها أي حلاوة
اقْتَرَب أكْثَر ليَتَّضِح لهُ الجِسْم الصَّغير جِدَّاً..مُتَدَثّر بملابس بَيْجية ناعِمة تَكْشف عن قَدَمان بطول إصْبعه السَّبابة و يَدَان بالكاد يَنْحشر فيهما خُنْصُر رَجُل بالغ..نَظَر للوَجْه بعَيْنان يُحيطهما الإسْتغراب..كُل شَيء صَغير..العَيْنان و الأَنْف..و الشَّفَتان مِثْل بُرْعمٍ لم يُزْهِر بَعْد..تَسَاءَل و هُو يُدَقّق في تَفَحُّصه،:هذي لعبة حقك ؟ هذي الهديَّة ؟
الجَوَاب وَصَلهُ بطَريقة أَرْعَبته للحَد الذي جَعل شَهْقة تُباغت حَلْقه..تَراجع خُطْوة للخَلْف و هُو يَهْمِس بعَيْنان أَوْسَعهما الفَزَع،:تتحَرَّك !
عَقَّد حاجبيه بعدم فَهْم لِضحكة ناصر و زوجته و كذلك فَيْصَل الذي قال بنَبْرة ثِقَته المُعْتادة،:طَلال إنت ما تعرف..هذي مو لعبة هذي إختي الصَّغيرة
رَدَّد ليَجْترع عَقْله المَعْنى،:إخْتك الصَّغيرة !
أَكَّد ناصر و هُو يَجْلس على السَّرير عند رأسها،:ايــه أخته..هذي بنتي طَلال..بنتي نُور
نَطَقَ صَوْت في قَلْبه للمَرَّة الأولى تَسْمَعهُ رُوحه..نُـــور !تابَعَ حَرَكْة ناصِر الذي انْحنى ليُقَبّل رأَسَها..هي اسْتَشْعَرَت قُبْلَته ليَتَحَرَّك رأسها بِخفَّة و كأنَّها تَبْحَث عنه..يَدَها الصَّغيرة ارْتَفَعت بلا هدى و اصْطَدَمَت بخَدّها المُتَكَوّر..هَمَسَ بما يَجُول في خَاطره،:صَغيــرة...نِتْفة !
عَلَّقَت الخالة لَيْلى مُوَضّحة،:لأنها بيبي توها مَولودة "أشارت بإصْبعيها" عمرها بس شهرين
هَزَّ رأسه و هُو يَعُود ببصره لهذا الكائِن الغَريب..فعَيْناه لم تَشْهَدان من قَبْل على "بيبي" مثلما تَقُول..يَتَذَكَّر عبدالله صَغيراً..لكنَّهُ كان أَكْبر من هذه الهَدِيَّة..عَقْله غير قادِراً على اسْتيعاب حَجْمَها الضَّئيل..فهي بحجم العرائس التي تَلْعب بهن غَيْداء..تُسَرّح شَعْرهن و تُلْبسهن الفساتين البَرَّاقة مثلما يَحْلو لها..دُون أن تصدر منهن حَرَكة واحدة..فكيف لهذه أن تَتَحَرَّك ! شارَكهم الجُلوس على السَّرير و لسانه نَطَق بإسْتئذانه،:يصير اسلّم عليها ؟
هَزَّ رأسه بالموافقة،:ايـــه أكيــد أكيد..أنا اصلاً جايبك عشان تسلم عليها
ببطءٍ مُتَرَدّد رَفَع يَده الكَبيرة مُقارنة بيَدها المَبْسوطة على بَطْنها..باحْتراز مَسَّ ظاهِرها مُتَحَسّساً نُعومتها البالِـــغة..بابْتسامة خَفيفة مَرَّر أصابعه عَليها و نَظَراته تنتقل بينها و بين وَجْهها المُتَشَرّب بحَمَرة شَهِيَّة..،بخِفَّة داعبَ باطنها بسَبَّابته مُثيراً حَواسَها الحَديثة المَوْلِد لتَقْبض عليها بقوَّة أَنْبَتَ ارْتعاشة لَذيذة بين أَوْصَاله..فَغَرَ فَمَهُ بعَدَم تَصْديق حَلَّقَ حَوْلَ مَلامحه ليَقُول و الذُّهول لَحْنه و هُو يَنْظر لكَفّها المٌتَشَبّثة بإصْبعه،:سَلّمت علي ! يعني هي تحبني !
فيصل بغيرة على التي اعْتَبَرها من مُمْتلكاته الخاصَّة،:أنا بعد تحبني و تسوي لي جذي
لم يُجبه..بل هُو لم يَسْمعه..فحَواسه أَجْمعها كانت مَشْدوهة لهذه النُّــور و لِيَدها الباعِثة لهُ من خُطوطها رَبيعاً بَهي..فحَدَقَتيه المُتراقِصَتين عليها أُنْبِتَت وَسَطهما زُهوراً شَتَّى تُبَشّره بألْوانٍ زاهِية سَتُنْعِش ذاته الفاقِدة..فَمهُ المَفْغور من انْبهاره الطُّفولي يَلِج من خلاله هواء نَقي يَتَحَوَّر في جَوْفه إلى حَمامات بَيْضاء تَعْزف بجَناحَيْها مُوسيقى الأَمَل..فشَيءٌ وَسَط رُوحه يَهْمس لهُ بأنَّهُ سَيَرى نُور الحَياة من خلال هذه الهَدِيَّة..سَيراها مُشْرِقةً بَعْد أن ابْتَلَع المَوْتُ ضِياءَها..،كما فَعَل ناصِر قَبْلَ دقائق،انْحَنى عليها بهُدوء..أَرْخى شَفَتيه على جَبينها لتُناغيه رائِحتها العَذْبة،و بِخِفَّة قَبَّلَها،و بِقُبْلته بَصَمَ على انْعقاد ذاته بها...بنُــور..،
،
تِلْكَ الذّكْرى ما مَرَّ أمام رُوحه في هذه اللَّحْظة،كما سَحابة اخْتَبَأت خَلْف أَحْزِمة من سَواد سَماء احْتَكَرتها ظُلْمة لَيْل مُوْحِشة..هُو أَدارها إليه لتَلْتَقي عَيْناه بوَجْهها المُحَرَّم عليه لأعْوامٍ شاقَّة..حَدَّ اتّباع الشَّيْطان كانت شاقَّة..و أَسفاً أنَّهُ اتَّبَعَه ! ذراعه لا زالت تُحيط بخِصْرها،مُواصِلةً كَيَّهُ بنيرانها..نَطَقَ بجُمْلَته و هُو عالِماً أنَّ الجَواب لن يَصِله..يَدَهُ اليُسْرى ارْتَفَعت إلى رأسها،تُزيح الحِجاب الذي كان مُرْتَخِياً من فَوْضَوِيَّة المَوْقِف..أَزاحَه كاشِفاً عن شعرها المَرْفوع ببعْثَرة ساهَمَت في تَمَلُّص بعض الخُصلات لتُعانق وَجْهها و عُنُقها بجاذِبيَّة..اخْفَضَ يَده لتُسافر إلى أَرْض خَدّها..مَسَّهُ بأَطْراف أَصابعه و كأنَّهُ يَتَأكَّد بأنَّها واقِع،لا حُلْم يَتَطاير قَزَعاً يَهْرُب من صَحْوته..أبْعَدَ تِلْك الخُصْلات ثُمَّ عاد ليَحْتَضن ذلك الخَد المُحْتَرِق من لَمساته..ضَغَطَ بخِفَّة حَوَت حَناناً مَكْسُور الخاطِر،لذلك لم تَسْتَشْعِرهُ حَواسها المُرْتَبِكة..أَخْفَضَ ظَهْره قَليلاً، مُقَرّباً وَجْههُ من وَجْهها و هي اسْتَوَت شَمْعٌ يَذوب بلا حيلة بين يَديه..هَمَسَت من بين تَخَبُّطات أَنْفاسَها،:طَـ ـ ـلال
تَجَاهَل نِداءَها و رَكَّزَ حَواسه على رَغْبته المُسَيّرة حَرَكاته..أَغْمَضَت بشِدَّة و رَجْفَتها وَصَلت عَنان السَّقَف حتى شَعَرت بالمَكان حَوْلها يَنْتَفِض من قُوَّتها..الكابُوس يُباغتها و اقْترابه هذا كالسَّيْف القاطِع خَيْط هُدوءَها..الغَثَيان يَحُوم في صَدرْها مُهَدّداً حَلْقها..سَتَسْتَفْرِغ حَتْماً و هذا لا يَكف عن جُنونه..تُريد أن تَرْفع يَدها لتُبْعِده..لكنَّ الطَّاقة نَهَبَها قُرْبه المَعْقود بنتانة الكابُوس..حَبَسَت أَنْفاسها المُتَقَطّعة مع انْقطاع مَسِير الدّماء في عُروقِها..تَجَمَّدَت أَطْرافها و اخْتنَقَت عَدَستاها خَلْف جِفْنيها..فَشَفتاه اللَّاثِمَتان جَبينها فَصَلَتا رُوحها عن جَسَدها..،هُو قَبَّلَها بطُفولته..بفَقْده و اشْتياقه..قَبَّلها بذاته المُقَيَّدة بها..و بحُبّه المَخْلوق لأَجْلِها..قَبَّلها بِقَلْبه الذي بُحَّت نَبَضاته من بُكائهِ على خَسارتها..و بأَنْفَاسه المُشَبَّعة بشَذا سنينه مَعها قَبَّلها..هُو بأَصْغَر خَلِيَّة في كَيان رُجولته قَبَّلها..،قُبْلته طالت مُجْتَرِعاً بها وُجودها..ساقَها اضطْرَبَتا حَتَّى ظَنَّت لوَهْلة أَنَّها سَتَسْقُط..أَنْفها رُغْماً عَنْها كان مَغْموراً في عُنُقِه لتَغْزوها رائِحته..الغَثَيان شَدَّ رَحْله حتَّى سَقْف حَلْقها..كانت لحْظة فَقط سَبَقت يَدها التي نَجَحت في الإرْتفاع..لكنَّ الإسْتفراغ فازَ عليها ليُغادِر فَمَها باتّجاه عُنُقِه و أَعْلى صَدْره..،أَبْعَدَها عنه بهُدوء لو كانت مُنْتَبِهة له لاسْتَنْكَرته..تابَعتهُ و هُو يُخْفِض بَصَره يُحاول أن يَنْظُر للذي بَدَأ يَسيل فَوْقَ سُتْرَته ناحِية صَدْره..جَسَدَها كان يَشْتَعِل بصَيْفٍ حَرَقَ جِلْدها حتى غَدا لون بَشْرتها قانٍ أَحْمر..ضَمَّت شَفَتيها للدَّاخِل ضاغِطة بقُوَّة تَنُم عن حَرَجِها..أَرْخَتْهما اسْتِسْلاماً لِشَهْقة بُكاء عَبَرَتهما..تَطَافرت الدُّموع من عَيْنيها مع ارْتفاع كَفّها لفَمها و هي تَقُول بتَأنيب،:كِلَّه منّـ ـك..ليش تقرب مني !
أَخْفَت وَجْهها المَحْفوف ببلايا الحَرَج و من بين فَراغات أَصابعها هَتَفَت شَهَقاتها المُنْبَجِسة من صَدْرٍ تَكالبت عَليه مَشاعر المَوْقِف الغَريب..في ساعة فَقَط أَصْبَحَت زَوْجته..لم يَمْنَحها والدَهُا و لَو ثوانٍ لتَلْتَقِط أَنْفاسها و تُهَدّأ من رَوْعها..أَتاها على غَفْلة من حُب مُضَّطَرِب..حُبٌ مُتَخَضّب بدَرْن ذَنْبٍ مُغَيَّب بين الهَذَيان و الوَعْي..تَلَقَّفَ يَدَها التَّائِهة حاشِراً قَلَماً كان حِبْره الطُّوفان الذي اقْتَلَع قُيود الحَرام بينهما..لتَصْبح بعد ثوانٍ حَليلته..بُكاءَها كان بُكاء حَرَج يُعاضِدهُ رَهْبة من الحَدَثَ..حِمْلٌ ثَقيل هذا الذي يَحْصل..هي زَوْجته..زَوْجة طَلال ! زَوْجة من تَمَنَّاهُ قَلْبها و صُمَّت أُمْنيته يَوم تَرَبَّعَت أُنوثتها على عَرْش عَبْدالله..ابْن أُخْته..اخْتَرَقَت عِظامها رَجْفة مُؤلِمة نَخَرَت الحَقيقة في نُخاعِها..فأنتِ الآن زَوْجة الذي وَقَفَ مَعَكِ على مَقْصلة الإتَّهام المُشَيَّدة بيدين بَلْقيس..لا مَفَرَّ من شُكوكهم..بل هُم سيَتَيَقَّنون من صِدْقها..إلهي رُحْماك..،تَضاعَف نَحيبها من هذه الفِكْرة التي غَزَلَت سُمومها بعباءَة المَوْقِف المُعْتَلِية كَتِفها..عَباءة سَوداء تُنْذِر بمآسٍ قَريبة..كَيْف فَكَّر والدُها هَكذا ! تَسَرَّع و جِدَّاً..هُو خَطَفَ نَبْضَها بتَسَرُّعه..،
تَدَاخل مع الْتباساتها صَوْته المُبْهَمة حالة نَبْرته..لم يَكُن ضائِقاً و لا مُرْتاحاً..لا بارداً و لا مُسْتَعِرا،:خَــلاص نُور..ما صار شي "أَرْدَفَ يُوَجّهها" دخلي الحمام اللي اهني إذا تبين تغسلين..أنا بروح برا "و هُو يَبْتَعِد للباب" اخذي راحتش
انْتَظَرَت حَتَّى تَأَكَّدت من خَواء الغُرْفة من جَسَده لتَكْشِف عن لَوْحة وَجْهها المُهْتَرِئة المَلامح..تَنَشَّقَت بِضْع أُكْسُجينات امْتَزَجَت معها رائِحة أَنْفاسه لتُحَفّز دُموعاً جَديدة وَسَط مُقْلَتيها..رَفَعت يَدها و بظاهرها تَشَرَّبَت صَبيبها..خَطَت ناحِية دَوْرة المِياه التي أَشار إليها بِقَدَمان تَزْحَفان فَوْقَ كَديدٍ زَعْزَعهُ انْعِقاد أُنوثتها برُجولته..،دَلَفت لتُطَهّر صَفْحة وَجْهها من شَوائِب الدُّموع..سَقَته بالماءَ ثَلاث مَرَّات لتُطْفئ حَرارته اللَّاسِعة..نَظَّفَت فَمَها جَيّداً و ذاكِرتها تُمارِس تَعْذيباً على رُوحها..فهي تُعيد لها مَشْهَد اقْترابه..قُبْلته و اسْتفراغها الهَزيل..احْتَضَنت أَجْفانها عَيْنيها لتَحْميهما من تلك الصُّور المُهاجِمة وَعْيها..أَغْلَقَت صُنْبور الماء قَبْل أن تَتَراجع مُسْتَنِدةً بجانب جَسَدها على الباب بإعْياءٍ أَحالها كائناً على أَعْتاب الإغْماء..أَخْفَضَت بَصرها للمِقْبَض..كان يَبْعد عن يَدها مَسافة شِبْر أو أَكْثَر بقَليل..لكنَّ تَعَبَها أَوْحى لها بأنَّهُ يَبْعُد عَنْها كما جَبَلاً شاهِقاً يَتَطَلَّب تَسَلُّقها..إضافة إلى أنَّ حَواسها تَرْفض أن تَنْفَرد مع ذلك الرُّجل..انْكَمَشَ جَسَدها خَوْفاً من البقاء مَعهُ وَحيدة..تَخافُ على قَلْبها و ذاكرتها..تَخافُ على مُقْلَتيها من جَفافٍ تَطْرُق بابهُ الدُّموع..تَخْشى أن يُخونها الكابوس للمرَّة الأَلْف و تَذْوي بين يَديه بلا حيلة..لا تَسْتطيع أن تُواجهه و كأنَّ شيئاً لم يَكُن..فحتَّى هذه الثَّانية،لا شيء من وُجودها آمَن بحَقيقة أنَّها زَوْجته...،
,،
ماضٍ
الكَوْنُ يَرْتَجِف..السَّماءُ تَلْتَحِفُ برداءٍ أَسْود تَطوفه شُهبٌ غَبَشِيَّة تُثير الرَّهْبة..القَمَرُ قَد اسْتَتَرَّ خلف سُحُبٍ امْتَصَّت لَوْناً رَمادياً لهُ وِحْشة تَزيغ منها القُلوب..شِتاءُ بَرْلين قد وَصَلَ إلى ذَرْوته،و الجَليدُ قَد شَدَّ رَحْله فَوْق الأراضي و الجِبال..كان زَرْعُ حَديقتهم قَد تَلَوَّن ببياضِ الثُّلوج..إلا أنَّهُ كانَ بَياضاً مُشَوَّشَ النَّقاء..إثْر اخْتلاطه باحْمرارٍ مُريب..و من بين الأَزْهار..و من جِذْع شَجَرَة البُرْتُقال،تَفَرَّعَت رائِحة نَتِنة..تَكَوَّمَت في حَلْقِها المَشْروخ من الزَّعيق..،حُبِسَت في غُرْفَتِها لِيَوْمان،صَيَّرَهُما الرُّعْبُ قَرْنان شابت منهما الرُّوح..نَهَبَ ابْنَتَها من بين أَحْضانها و هي نائِمة بوَجَل..و لم يَكْتَفِ..هُو تَمَرَّدَ و قادَ مُرَبّيتها و زَوْجها و ابْنتهما أَمَل لخارج المَنْزِل..إلى أَيْن لم تَدْرِ..سَألتَ الجُدْران..السَّقْف..النَّافِذة و الأبْواب..و لم يَصِلها إلا نَحيبها المُتواصِل بلا انْقطاع..،كانت مُنْطَوِية على نَفْسِها وَسَط السَّرير المُصَيّرتهُ دُموعها بَحْراً أُجاجا..تَبْكي و تَذْرف أنْهاراً لها طَعْمُ عَلْقم انْبَجَسَ من عَيْن المَرارة النَّابِتة في رُوحها..تَجُرُّ بعَويلها أَلْفَ بَيْتٍ و بَيْت من الحُزْن..لتُحيك بمَغْزَلة نَوْحِها قَصيدة اليُتْم..و الفَقْد العَظيم..،رياحُ زَمْهَرير تَجُوس في الخارج..تُحَرّك أَغْصان الشَّجَرَ ليَصْدَح حَفيفٌ مُوْحِش..اللَّيْلُ قَد أَعْلَن امْتداد ساعاته،رافِضاً أن تَمْرَقَ ظُلْمَته إشْراقة شَمْس تُغَرّد بالأمَلَ..لا أَمَل فاتِن..فأنتِ للفَقْد و الحِرْمان قد خُلِقْتِ..فلا تَدَعي عُنُقكِ يَشْرَأبَ إلى العَلْياءِ بَحْثاً عن ثَغْرة يَلِجُ منها ضَوْءُ أَمَل..لا تَحْلُمي..فالحُلْمُ للاتي بين والدٍ و والدة يَتْرَعن..و فَوْقَ أَرْضِ وَطَنٍ آمِن يَضَّجِعْن..لا للتي تَتَخَبَّط ذاتها بين غُرْبة و فَقْد..لا تَحْلُمي..،ارْتَعَشَ جَسَدُها الهَزيل لِصَوْت قُفْل الباب..اسْتَقَرَ باطن كَفُّها على السَّرير لتَرْفع جَسدها..بصعوبة اسْتَطاعت أن تَرْفعه و تَتَّكئ على مِرْفَقِها..فُتِح الباب ليَتَّضِح وَجْههُ المُتَشَبّع إجْراماً..اسْتَحْكَمَت منها رَجْفة مُوْجِعة..لم تَكُن رَجْفة خَوْف أو خِشْية..بل كانت انْتفاضة حِقْد عَميق..،تَقَدَّم منها و هي تُتابعه من خلف غِشاء شَفَّاف يَرْفض الإبْتعاد عن ساحتيها الواسعتين..تَوَقَّفَ أَمامها ليَنْطُق بصَوْته البَغيض،:كنتِ تبين تشردين معاهم ها ؟ تبين تغافليني و تشردين إلى لندن "شَخَرَ بسُخْرِية و هُو يُشير إليها باسْتصغار مُرْدِفاً" تظنين نفسش تقدرين عَلَي! أنا سلطان إللي برلين بكبرها ما قدرت عَلَي..إنت تجين و تفردين عضلاتش قدامي !
ببحَّة ابْتَلَعت ثَلاثة أَرْباع صَوْتها ليَخْرُج نَحيلاً..كأنَّما هَزَمهُ مَرَض،:بيجي يوم و بيجرونك مثل البهيمة يا كلْـــ...
اشْتَعَلَت حَدَقتاها غَيْظاً من ضِحْكته المُتَشَدّقة..قُبْح العالم أَجْمع يَسْري مع دمائه النَّجِسة..تَقَلَّصَت ضِحْكته إلى ابْتسامة تَميل خَباثَةً ليَهْمُس بنَبْرة لا تُطاق،:ما عليــــه..مَقْبولة منش يا حلـــووة
تَجاهلت كلماته القاصِدة مآرب تُسَبّب لها الغَثَيان..تَساءَلت بحِدَّة مَبْحوحة و هي تَعْتَدِل جالِسة فوْق رُكْبتيها،:وين بنتي ؟ أم أَمَل و حَجُّو و أمل..وينهم ؟
أَجابَ بابْتسامته التي تَعاضَدت مع الثّقة،:بنتش لو تلفين العالم كلَّه ما بتحصلينها "رَقَصَ الشَّيْطان في داخله عندما أَبْصَر عَيْناها كَيْف جَحِظَتا من خَبَره..أَكْمَل مع انْحشار يَده في جَيْب بنطاله القماشي" فلا تتعبين نفسش
أَلْقى عَليها وَرَقَة مَطْوية..طَرَفَها الحاد جَرَح أَسْفَل عَيْنها المُنْسَلِخ جِلْدها من الدَّمْع..تَجاهلت الإحْتراق الذي كَوَّنتهُ الوَرَقة،مُنَصّبةً جُلَّ حَواسها لكلماته،:هذي ورقة طلاقش..صرتين حُرَّة..روحي أي مكـــان تبين
تَلَقَّفَت الوَرَقة و بيدها شَوَّهت ملامحها قَبْل أن تَرْميها عليه ببداية غَضَب صارِخةً،:وينهـــم يا حقيـــر يا مُجرم يا ســـ... .،..وينهــــم !
اسْتَقَرَّ بيديه في جَيْبي بنطاله..أَخْفَضَ رأسه قَليلاً يَنْظُر لحذائه اللَّامع كما لَمْعة المَكْر القافِزة ثَعْلَباً من عَيْنيه..،هَمَسَ بابْتسامة أَظْهَرت نابه المُلَوَّث بدماء طاهِرة،:في الحديقة..عند شجرة البُرْتقال
تَرَكَت السَّرير بتَخَبُّط لتَجْري إلى الأسْفَل بقَدَمان انْتَعَلتا التَّوَتُّر..كلماته النَّاقِعة في نَبْرة مَسْمومة طَرَقَت ناقُوس الخَطَر في صَدْرها..لَمَحت بين عَيْنيه سيوفٌ و رِماح تَحْكي عن حَرْبٍ خَبَت كان هُو فيها المُنْتَصِر..نعم كان هُو المُنْتَصِر و تلك السُّيوف قد طالَت أَرْواحاً كانت لها عائِلة دافِئِة..،تَوَقَّفَت خُطواتها مُنْتَبِهةً للون المُضاد لبياض الثَّلوج..أَحْنَت جِذْعها تنظر لهُ بتَدْقيق..ثوانٍ و اتّساعٌ فَزِع أحاط بعَيْنيها..فاللَّوْن لم يَكُن سِوى دماءٌ احْمرارها بَدَأ يُحَوّرهُ الجَفاف إلى سوادٍ مُخيف..،اسْتَقامت واقِفة بملامح مَخْطوفة..تَقَلَّبت عَدَستَاها وَسَط البياض بهَذَيان..و بهَمْسٍ اقْتَرَبَ من المَوْت،:أَمـــ ـل...
مَشَت ببطء و بخطوات مُتَعَرّجة..شَجَرَة البُرْتقال كانت تَقْتَرِب منها شَيئاً فشيء..أَوْراقها الكَثيفة حَيَّتها بذُبولٍ فَرَضَهُ عليها الشّتاء..تَقَدَّمت لتَخْتَرِق أَنْفَها رائِحة قَوِيَّة باغَتَت حَلْقَها..رَفَعت كَفَّها لفَمها و هي تَسْعُل،بالتَّوالي مع ارْتفاع عَيْنها للذي كان مُتَدَلّياً من الشَّجَرة..،لم يَكُن صَعيق بَرْلين ذاك الذي جَمَّدَ دِماءَها..و لم تَكُن رَجْفة البرد ما قَبَضَ على ذِقْنها..و لم تَكُن السُّحُب المُتَكَدّسة في السَّماء من أَفْرَغَت وَدَقَها وَسَطَ مُقْلَتيها..إنَّما كانت الأَجْساد الثَّلاثة المُعَلَّقة بلا حَرَكة بأغْصان شَجَرة البُرْتقال..و من أَسْفلها تَكَوَّنت بُحَيْرة من دماءٍ قَد تَكَلَّسَت بعد أن شَخَبَت من أَوْداجهم المَقْطوعة..،صَرْخــة مُدْوِية تَفَجَّرت من أَعْماق رُوحها لتَعْلو نَعيقاً شَقَّ ثَوْبَ السَّماء،و تَصَدَّعَ منهُ قَمَراً كان قَد انْطوى حَسْرةً على أَرواحٍ بَريئة..،الأَرْضُ اجْتَذَبَت جَسَدها المَذْبوح لتَتَعَفَّر بهيستيريَّة فَوْق دمائهم..تَصْرُخ و من حَنْجَرتها تُحَلّق مُعَلَّقاتٍ من بُكاءٍ و عَويل..تَلْطُم وَجْهها..تَخْدش خَدَّيها و تَرْكِلُ أَرْضاً أَنْجَبَتها من أَجْلِ تَعْذيبها..لَيْلتها كان النَّحيبُ نَوْمها..و الدَّماء الطَّاهِرة سَريرها..و أجْسادهم كانت السَّقْفَ الذي حَجَبَ عَنها مَطَرَ سَماءٍ خَائنة..شَهِدت على نَحْرهم و لم تُنْقذهم..كانت وَحيدة..تَرْتَعِش بَرْداً و هَلَعاً..و في عَيْنيها باتَ مَشْهَدٌ دَمَوي قَضَى على آخر فُتات أَفْراحِها..و أَمْسَت بَكْماء من كَلِمات..غَيْر الصُّراخ لم تَسْتَمِع الأَشْجار..صُراخٌ تَذَيَّل بأُمْنية..أُمْنية وَحيدة تنتشلها من هذا العَذاب....أُمْنية المَـــوْت...،
,،
حاضِر
كانت تَجْلُس وَسَط غُرْفة الجُلوس على الأَرْضِيَّة كما تُحِب..مُمَدّدة ساقَيها القَصيرتان المُلْتَحِفَتان بثَوْبها الطَّويل..شَعْرها قد سَتَرَته بغِطاء مُوَرَّد تَمْلك منهُ عِدَّة نسخ بألوانٍ مُخْتَلِفة..على الرَّغْم من خُلو المَنْزِل من أَي أَجْنبي إلا أنَّها لا تَخْلعه إلا في غُرْفة نَوْمها فَقَط..، المَسْبَحة مُسْتَسْلِمة لحَرَكَة أَصابعها..و ما بين اسْتغفارٍ و تَسْبيح و صَلاة كانت تُحَلّق رُوحها..و العَقْلُ من رَأسها قَد فَرَّ إلى تِلك الأُنْثى التي قابَلَتها قبل ثمانية أَعْوام في حَفْل زَفافها..هي وَصَلَها خَبْرُ وَفاة زَوْجها بالطَّبع..كان أَخاً لعَزيز و بمثابة إبْن لها..لذا حَزُنَت عَليه و جِدَّاً تِلْك السَّنة..و حتَّى هذا اليُوم لم يَنْسَهُ لِسانها في دُعائه و تَرَحُّمِه..هَمَسَت بِعَيْنان تَتَطَلَّعان لما وَراء الحاضِر..،:الله يرحمك يا عَمَّار
صَوْتُ خُطوات تَداخل مع سُكُونها..رَفَعت رأسَها لتُبْصِر إبْنَتَها الصُّغْرى..اقْتَرَبَت من مَكان جُلُوسها حَيْثُ أَمام الشَّاي و القَهْوة اسْتَقَرَّت..نَطَقَت و هي تَسْكُب لها الشَّاي،:يُمَّه..صار لش ساعة و إنتِ سرحانة..في شنو تفكرين ؟
لم تُجِبها..فهي وَجَّهَت نَظَراتها للهاتف الأَرْضي المَرْكون على يَمينها..قالت بأمر و هي تُشير لدَفْتر بُنّي بحجم الكَفَّ يَقْبع بجانبه،:طلعي من هالدفتر رقم رائد و اتصلي له..ابي أكلمه
عُقْدة خَفيفة بانت بين حاجبيها و هي تُرَدّد باسْتغراب،:رائِد ! "أَرْخَى التَّوَجُّس مَلامحها لتُرْدِف بتساؤل" يُمَّه لا يكون عَزيز فيه شي ؟
نَفَت تُدْحض فكرتها،:يعني لو ولدي فيه شي بتشوفيني قاعدة اشرب جاي !
اعْتَلى حَاجِباها تَعَجُّباً و السُّؤال لم يَبْرح لسانها،:زين ليــش تبين تتصلين لرائد ؟!
بحِدَّة شَزَرَتها،:جَميــلة بلا هالأسْئلة و اتصلي بسرعة
تَمْتَمت بزعل و هي تتناول الدَّفْتر،:انزيــن بتصل
ثوانٍ و أَعْطَتها السَّماعة ليَأتي الرَّدَّ سَريعا،:ألـو
بابْتسِامة مُحِبَّة قالت،:سَلام يُمَّه رائد..ِشلونك ؟
هُو الذي مَيَّزَ صَوْت كُهولتها أَجاب بتَرْحيبٍ حار،:هــلا هلا خالتي و عليكم السَّلام..أنا الحمد لله بخير..إنتِ شلونش و شلون عمَّي بوجاسم ؟
،:كلنا بخير حبيبي..شحال أمك و أبوك عساهم بخير ؟
،:بخير بخير خالتي
عَقَّبَت،:الحمد لله الله يحفظهم "اسْتَأنَفَت حَديثها لتَبْدأ بإحاكة أُولى غُرزها" أقول يُمَّه رائد
بأدَبَ،:قولي خالتي..آمري
،:ما يآمر عليك عَدو..بس اشوف جم يوم عَزيز عقله منشغل.. و يوم سألته قال موضوع يخص عَمَّار الله يرحمه و زوجته..صاير شي مو زين ؟
بشفافِيَّة أَجاب،:والله يا خالتي هو الشي خاص في عَمَّار الله يرحمه..و كان لازم نخبر زوجته،و اللي خبرها عَزيز..و ما يحتاج أعلمش..تعرفين شكثر تصرفاته غلط ويا البنات
باحْتراز عَلَّقَت،:لا تقول فَشَّلنا ويا المَرَة !
،:للأَسف ايـه خالتي..حتَّى أُخوها عَصَّب من تصرفه و طلب مني إنَّه يكلمه
ضَرَبَت على فَخْذها بقلَّة حيلة تحت أنْظار جَميلة المُنْتَبِهة جَيّداً..،:والله مادري شسوي ويا هالولد..أعوج أعوج..ما يتعدَّل
عَلَّقَ بسُخْرية،:الواضح إنَّ النسوان عقدته..و هالعقدة صعب إنها تنحل
بتَصْميمٍ بَرَق وَسَط حَدَقَتَيها و صَدَح مع صَوْتها،:أنا وراه وراه لين ما يستوي رجَّال آدمي و يتعَدَّل
أَكَّد هُو،:أكيــد خالتي..محد بيقدر عليه غيرش..ربّيه من جديد
،:لا تحاتي يا ولدي "أَرْدَفَت بتساؤل" تعرف عنوان بيتهم..بيت غيداء ؟
،:ايــه ايــه اعرفه
زَيَّنَت ملامحها ضِحْكة فغَرَت جَميلة فاهها من حَجْم سَعادتها..و بِطَلَبٍ كان المُسَيّر أَفْعالها،:زيـــن..هاك جميلة عطها العنوان..بعد لازم نروح نعتذر من البنية..هذي زوجة الغالي الله يرحمه
عَقَّبَ رائد و هُو الذي أَعْجبته الفِكْرة دُون أن يَتَذَوَّق نواياها المُبَطَّنة،:ايــه خالتي..تسوين خير
مَدَّت السَّماعة لجَميلة التي هَمَسَت بعدم فهم،:شنــوو يُمَّه !
رَدَّت عليها بنَبْرتها الطَّبيعية و هي تُلْصِق السَّماعة بِصَدْرها،:أهوو اخذي حاجيه..بيعطيش العنوان
تناولتها بسُرْعة و إمارات الجَهْل تَطوف مَلامحها..حَيَّت رائد قَبْلَ أن تَسْتَمِع بتَرْكيز لوَصْفه للعُنوان الذي اتَّضَح لها أنَّهُ مَنْزل غَيْداء أَرْملة عَمَّار..أَعادت السَّماعة لوالدتها بعد أن انتهت لتَسْتمع إلى حَرْصها،:رائد يُمَّه لا تخبر عَزيز..تدري فيه عسر..أكيد ما بيرضى أروح لهم
طَمأنها،:لا توصين خالتي
،:مَشْكور حبيبي ما قصرت..رحم الله والديك
،:حاضرين يُمَّه..و والديش إن شاء الله
انْتَظَرَتها حتَّى أَنْهَت المُكالمة لِتُعَبّر عن اسْتنكارها،:يُمَّه ليش ماخذه عنوان بيت البنية!
بتَسَتُّر على أَفْكارها نَهَرَتها،:لا تسألين جميلة لأنَّ مو شغلش "أَمَرتها" كتبي لفرح في هذا مالكم الساتساب مدري شسمه..قولي لها باجر الصّبح خل تتجهز بنمرها تجي ويانا
رَنَت لها بشَكّ دَثَّرَ صَوْتها،:على شنو تخططين يُمَّه ؟
قَرَصت ذراعها مُكَرّرةً،:قلت مو شغلش "و بتحذير حَرَّكَت سَبَّابتها أَمام وَجْهها المُتَألّم" و حاسبي..مابي عزوز يدري بأي شي
هَمَسَت بعدم اقْتناع و هي تَمْسح على مَوْضِع الأَلَم بملامح مُنْكَمِشة،:زيــن يُمَّه
،
أَنْهى المُكالمة مع دُخوله مَنْزلهم الغائب عنهُ لثلاثة أَيَّام..قابَل والدته التي كانت تُجالس خالته هَناء..عَلَّقَ بمُزاح،:إنتِ ما عندش بيت ؟ ليل نهار قاعدة على جبدنا
رَدَّت والدته و هي تَقْرص ذراعه بعد أن جَلَسَ بجانبها،:على الأقَل احسن منّك..ثلاثة أيَّام ما طبيت البيت
مالَ رَأسه على كَتِفِها مع انْكماش ملامحه مُمَثّلاً التَّعَب،:شغل يُمَّه..مقابل المَرْكز و القضايا و شغل الشَّركة بعد
أَضافت هَناء باسْتنكار،:انزين ما تتسبح ؟ ما تغير ملابسك..ماتنــاام !
أَجاب مُوَضّحاً،:امْبلى..اسوي كل هذا في شقتي..اقرب لي للمركز و الشَّركة "اسْتَأنَف حَديثه بسُؤال و هُو يُشير لبطنها المُنْتَفِخ" متى تولدين ؟
مَسَّت بَطْنها بجَبين مُتَغَضّن لتَذْكيره لها بالأَلَم..أَجابت بضيق تَجَلَّى في صَوْتها،:لازم نهاية هالأسبوع..استغفرالله تعبت..حتى بالغصب امشي
قالَ بمُشاكَسة،:مُشْكِلة والله..بعد بتولدين و بتقعدين عندنا أربعين يُوم..الأفْضل إنّش تدفعين للإقامة..ما يصير جذي ماخذة حَيّز ببلاش
بغَيْظ نَطَقَت،:رائدوو احترمني..أنا خالتك
عَقَّبَ بثِقة مُسْتَفِزَّة،:ايــه خالتي..بس أنا أكبر منش يعني لي احترامي بعد
صَوْت هاتفه تداخل مع حَديثهما الطُّفولي..أَخْرجه من جيبه..كانت رسالة "واتس اب" من فاتن تَسْأل عن مكانه،فهي تُريد أن تُحادثه عاجِلاً..وَقَف لِيَبْتعد عنهما إلى مكانٍ مُنْزَوي..اخْتار اسْمها ليَرْفع الهاتف لأُذْنه..ثوانٍ و أَتاهُ صَوْتها بإعْصارٍ أَتْلَفَ خلاياه العَصَبِيَّة ليُسْتعصى عليه اسْتيعاب كلماتها،:رائِد..ابيــك تقتلني..لازم أموت
,،
عَشاءؤهُم المَحْشو بهُدوء مُمِل انْتَهى قبل رُبْع ساعة..و ها هُم مُجْتمعون في إحْدى غُرف الجُلوس الواسِعة و جِدَّاً..فالبِطَّبع سُلْطان لم يَبْخَل على مَنْزله المَبْني على أَحْدَث طِراز..الشَّاي و القَهْوة أَمامهم و أَصْناف عَديدة من الحَلَويات..فكما قال سُلْطَان "هذا كله عشان سلامتك"..هذه الوَليمة الوَفيرة في طعامها و شرابها..و الشَّحيحة في أَفْرادها من أَجْله..من أَجْل سَلامته..و لَيْتَهُ لم يَسْلَم..المَوْت أَرْحَم من العَيْش وَسَط دَوَّامة تِلْك الحادِثة المُغَيَّبة المَلامح..لا هُو الذي يَذْكُر تفاصيلها الدَّقيقة،و لا هُو الذي أَوْدَعها في صُنْدوق النّسيان..أَسَفاً أَنَّهُ تَقَيَّد بأَسْبالِ أَحْداثها..و بصُوَر مُشَوَّهة بضَبابِيَّة تَحْجُب عنه الحَقيقة..و بأَصْوات حَوَت حَديثاً تَشْطر كَلماته صُراخ انْطَلَق من حنْجرة شَقيقته..تِلْك المَلاك المَسْبِيَّة أُنوثتها بلا رَجْعة..،انْتَبَهَ لِصَوْت والدتها المُسْتَفْسِرة
،:حُور كنتِ قايلة بتسجلين في الجامعة..صار أَكْثر من شهر و ما اشوفش جبتين طاريها مرة ثانية !
هِي التي هَرَبَت منها الفِكْرة من بَعْد العواصف المُدَمّرة التي طالَت أَيَّامها..مَسَّت جَبينها مُجيبةً بابْتسامة مُرْهَقَة،:نَسيـــت يُمَّه..راح عن بالي "رَفَعت كَتِفها مع مَيْل رَأسها سامحة لخُصلات غُرَّتها الطَّويلة أن تُرَفْرف في الهَواء..و بكَسَل أَرْدَفَت" أصْلاً ما اتوقع لي خلق للدراسة من جديد
أَبْدَى والدَها رأيه،:الكَسَل لازم تبعدينه عنش..بالأَساس أوَّل ما تتعودين على الدَّوام بيروح بروحه.. اختاري أي جامعة تبين و أي تخصص و بأي سعر أنا حاضر
عَلَّقَ يُوسف و هُو يَنْظُر للقَهْوة السَّابِحة في فنْجانه..كأنَّما بتعليقه يطْرق ناقوس انْتباه عَمّه،:ما تقصر عمي..الله يكَثّر خيرك "ابْتَسَم لهُ بمُجامَلة ليُكْمِل"بس أنا زُوجها مَوْجود..و تكاليف دراستها أكيد بتكون عَلَي
نَظَرَ لهُ و إمارات التَّعَجُّب تُشارك أَهْدابه اصْطفاقها..اتَّسَعَت ابْتسامة يُوسف لتَشِد عَيْنه اليُمنى..حَيْثُ من زاويَتها لَمَح سُلْطان إصْبع اتّهام أَوْهمتهُ نَفْسه المُذْنِبة أنَّهُ يُشير له..إلا أنَّ يُوسف لم يَكُن يَقْصِد سُوى وِلايته لأمور حُور..زَوْجته..فلا يُعْقَل أن يَتَكَلَّف والدها بكُل شيء و هُو مَوْجود..لَيْسَ نُقْصَاً في رُجولته و مُروؤته..لكنَّهُ أٌجْبِر على مُسايرة أَبيها في عِدَّة أُمور..و أَسَفاً أنَّ زواجهُ منها كان أَحَدِها..،
أَعاد تَرْتيب ملامحه ليُلْبِسْها الإتّزان قَبْل أن يُطْلِق ضَحْكة جَهورة أَتْبَعها بجُمْلة مازِحة،:أكيــد أكيــد يُوسف..الله يخلينا لها..اثنينا نتنافس على رِضاها
,،
اسْتَحَم مُزيلاً عَن جَسَدِه بقايا اسْتفراغ مَعْدتها..أَو بالأحْرى اسْتفراغ ذاكرتها من نَجاسة الماضي..غَبي و مَجْنون و مُتَهَوّر..تَناسى كُل شَيء..تناسى تِلْك اللَّيْلة السَّوْداء..تناسى كَلِماتها الجارحة و عِتابه..و تناسى غَرابة اليوم ليَتَشَبَّذ بشُعور لقاءَهما الأوَّل..أَوْدَع فَوْقَ جَبينها القُبْلة ذاتها التي تَرَكَتها شَفَتاه عندما كانت ابْنة الشَّهْرين..بمَشاعر أَكْثَر عُمْقَاً و بحُبٍ نَضُجَ من الطُّفولة إلى الرُّجولة..حَتَّى هي،لم تَكُن تلك الطّفْلة ذات اليَد المَقْبوضة..كانت أُنْثى كامِلة بين ذراعيه..أَسَفاً أنَّهُ شَوَّه رُوحها..،البُؤس احْنَى كاهله و أَخْفض رأسه مع ارْتفاع كَفّه إليه شادَّاً على خُصلاته المُسْتَسْلمة لقَطَرات الماء..باقْترابه و بقُبْلته أَعاد إحْياء الْتحامهما الحَرام في ذاكرتها..بجُنونه و صِغْر عَقْله أَجْبرَها على الإسْتفراغ..تَماماً مثلما حَدَث تِلْك اللَّيْلة..إلا أنَّ اسْتفراغها فيما مَضى كان أَكْثَر حِدَّة..فهو لوَهْلة تَصَنَّم رُعْباً من أن تَفُر رُوحها مع تَفْريغها المُنْهِك..،غادَرَت قَلْبهُ زَفْرة تَضادَت حَرارتها مع بُرودة جَسَده المُقَيَّد بِقِلَّة الحيلة..لا يَعْرف كيف يَتَصَرَّف معها..هي زَوْجته الآن..لكن هذه الصُّروح التي قُيّضَت،و الأَلْغام التي عُطّلت و الجِبال التي نُسِفَت بَيْنهما أَوْدَعَت مَكانها غَرابة تَمْنعهما من التَّصَرُّف مثل أَي زَوْجين طَبيعيين..و كما هُو جَلَي أمامه،فإنَّ فِكْرة ناصر لإنْفرادهما فاشِلة و بالخَط العَريض..لذا هُو و فَوَر انْتهائه من الإسْتحمام اتَّصَل به ليأتي و يَقِل ابْنته..،أَخْفَضَ يَدْه ليُعانق بها الأَخْرى..فَرْقَع أَصابعه بتَوَتُّر و هُو يُدير رَأسه ناحِية باب غُرْفته المُغْلَق..هُو أَغْلَقهُ بعد أن ارْتَدَى ملابسه و هي لا زالت تَسْكُن دَوْرة المِياه بِصَمْت..حاولَ أن يُرْهِف السَّمْع و بالكَاد اسْتَطاع أَن يَجْتَرع صَخْر شَهَقاتها الجارِحة مَسامع قَلْبه..و كأنَّ وَضْعهما هَذا يَرْسم لهُ خارِطة اسْتقرارهما العَصي..فالطَّريق غير مُمَهّد طَلال..لن تُتَوَّج مَلِكاً على عَرْش أُنوثتها بهذه السُّهولة..فالسَّماءُ بَعيــدة..و جِنْحاكَ لا يَزالان مَفْقودان بين زُحام الحَياة و بلاياها..فالتَنْسى التَّحْليق الآن..،أَرْجَعَ ظَهْره للخَلْف مُسْتَنِداً إلى الأريكة برأسٍ مَرْفوع..أَغْمَضَ عَيْناه ليَمْتَزِج مع انْتِظام شَهيقه و زَفيره..رَكَّزَ حَواسه على وِلادة النَّبْضة في قَلْبه و انْخَرَطَ يَعُدُّ بتنهيداته أَضْلاع صَدْره المُتَهَشّمة من حَوافر دُنيا ظالِمة..اسْتَنْشَقَ نَفَس عَميــق حاول أن يَلْتَقِط معهُ كُل ذَرَّة صَبْر قَد تَكُون حُشِرَت بين طَبَقات الهَواء..و كأنَّها انْتَقَلَت عَبْر الأزْمان و من بين الحَقَبات المُشْتَهِرة بالرَّزايا و الألم لتَسْبَح مع أُكْسجينات حاضِره..لعَلَّهُ إن تَنَفَّسَ الصَّبْر يَقْوى على مُجابهة سِهام الماضي الشَّيْطانية..ارْتَخَى صَدْره بهُدوء مُفْرِغاً الزَّفْرة الحامِلة معها الْتباسات رُوحه..عُقْدة خَفِيفة تَوَسَّطَت حاجبيه،فرائِحة لَطيفة شارَكَت الهواء الإمْتزاج مَع دَمَه..و قَبْلَ أن يَسْتَوْعِب أَتاهُ هَمْسها المُرَطَّب ببقايا الدُّموع،:طَــلال
فَتَحَ عَيْناه مَشْدوهاُ للصَّوت..قَلَّبَ عَدَسَتيه على السَّقْف قَبْلَ أن يَعْتَدِل في جُلوسه و هو يَسْتدير إليها..كانت تَقِف على بُعْد ثَلاث خُطوات مِنه بحجابها و عَباءتها..يَداها مُتَعانِقَتان أَسْفَل خِصْرها، و احْمرار مُلْفِت يَصْبَغ أَطْرافهما و السَّبب ضَغْطَها الناجِم عن ارْتباكها..،أَجابها بهُدوء،:نعـم
تَساءَلت بَبَصر مُتَشَتّت،:وين..أُبوي ؟
جَرَس الشّقة كان الجَواب لسُؤالها..هُو وَقَف و عَيْناه تَمُرَّان سَريعاً على أَرْضَها المَسْفوك هُدوءها من الإرْتعاشات..تَجَاوَزها للباب..فَتَحه ليَظْهَر من خَلْفه وَجْه ناصِر المُتَوَجّس..هي ما إن رأته حَتَّى أَطْلَقَت العِنان لقَدَميها لتَفُر إليه هامِسةَّ،:بــابــ ـا
ارْتَمَت عَليه دافِنة وَجْهها في صَدْره باسْتسلامٍ لِفَصْل بُكاءٍ آخر..أحاطَها بذراعه و يَده الأُخْرى اسْتَقَرَّت فَوْقَ رَأسها تَشِدُّ عَليه بمَلَقٍ حازِم..بَعَثَ لطلال نَظَرات حَمَلَت سُؤالاً أن ما بِها ؟ و كان الجَواب ابْتسامة شُطِبَت سَعادتها لتَتَبَنَّى شَفَتيه سُخْرية مَريرة أَصْمَتت ناصِر عن أي سُؤال..ثوانٍ فقط و غادر مع ابْنته تارِكاً طَلال وَحيداً يَجْلِد ذاته مَرَّة و عَشْرة..يُوَبّخها و يَطْعَنها بخناجر تأنيبه..يَلُومها و يَسْلَخها عن بِكْرة أَبيها..ليَزْرع مَكانها ذات نَقِيَّة، لا يُلَوّثها زِنا صافَح يَدَ الشَّيْطان..،
،
اسْتَقَرَّ جَسَدُها البالي فَوْق مَقْعَد مَرْكَبة أَبيها..مالَ رأسها بإعياء لتُسْنِدهُ إلى النَّافِذة..و هي التي تُريد من يُسْنِد رُوحها المُتَخَبّطة..أَغْمَضَت عَيْنيها بغِياب..تَشْعُر بريحٍ مُثْقَلة بالأتْربة و الرُّطوبة تَطوف في جَوْفِها..مَسامات جِلْدَها أَفْرَغت عَرَقاً يَكاد أن يَغْرقها..جَسَدها أَصْبَح رَخْواً و هُلاميَّاً بَعْد أن ذَوَت قُوَّتها من بين فَراغات أَصابعها..مُتْعَبَة جِدَّاً..و الإرْهاقُ غَضَّن جَبينها و أَسْرى عَرَقَ الوَجَع فَوْقَ صِدْغيها..صَدْرها يَرْتَجِف بوَهْن..و كأنَّ شِتاءٌ جَليدي احْتَكَر أَضْلاعها..حَتَّى أَنْفاسها كان لها الضَّياع و التَّيه نَفْسُه..،
ناداها و جَواه يُبْصرها عُصْفوراً يَرْتَعِش،:يُبــه نُور
تَصَدَّعت ملامحها فَوْقَ تَصَدُّعها..بَزَغَت من بين جِفني عَيْنها اليُسْرى دَمْعة ظَلَّت حَبيسة بين أَهْدابها..امْتَدَّت إليها كَفُّه المُنْتَبِذة دِفئاً يَطْغى على شِتاء الوَجَع المُحْتَكر رُوحها..عانَقَّ يَدها المَقْبوضة في حضْنها شادَّاً بحَنْو و هَو يَقول برجاء،:عَفْية يُبه..قولي لي شنو فيش ؟
مَرَقَت حَلْقَها شَهْقة غَرَزَت أَنْصالها في كَبِده المُفَتّت عَليها..يَدَها غادَرَت عُشَّ كَفّه لتُحَلّق إلى وَجْهها مُتَلَقّفة صَبيبه الآسِن..فالدُّموع تَنْضَح من رَحْم السُّوء المُتراكم في رُوحها على هَيْئة ذِكْرى..أو كابوس..،بتَنَشُّق نَطَقَت لتَعْصِر فُؤاده..،:ليــ ـش جذي يُبه..صـ ـار..صار كل شي بسرعة..مو مستوعبـ ـة..و كأنّي تايهة..ليـ ـش !
أَسْبَل جِفْنه بقِلَّة حيلة تَجَلَّت بين تَجاعيد وَجْهه..هَمَسَ لها يُطالب بالعَفْو عن خَطأ أَخْفَته يَدُ الزَّمَن،:أنـا آسف يُبه..سامحيني..بس كان لازم هذا إللي يصير
عَقَّبَت و هي تَنْكَمِش على نَفْسها،و يدها ساعدتها لتَشْرح اسْتنكارها،:واجد بسرعة بابا..و بدون أمـ ـي و جود و حتى فيصل ! كأنَّ..كأنَّ مثل الجَريـ ـمة
قال مُحاولاً أن يَهدي ضَياعها إلى مَنْطقه،:حبيبتي الموضوع شوي حَسَّاس..لا تنسين عبدالله،عمش و زوجة عمش و حتى غَيْداء..لازم أوصل لهم موضوع ارتباطكم شوي شوي و بدون سوء فهم و مشاكل
عَلَّقَت بوَجْهها المُحْتَقِن و صَوْتها المُخْتَنق من الغَصَّات،:زيــن يُبه جان فهمتهم و كلمتهم أول و بعدين ملجنـ ـا
هَزَّ رأسه رافِضاً فِكْرته،:لا نُور..لازم أول شي أضْمن إنش تكونين زوجته..و بعدين أبدأ أكلمهم
تَساءلت باسْتنكار سَبَح مع الدُّموع المُغْرِقة ملامحها،:ليش مستعجل على ارْتباطنا إلى هالدرجة!
بانت لها ابْتسامته المُتَدَثّرة بالغُموض المُسَيْطر عليه هذه الليْلة..أَجابها و هُو يَسْتدير للأمام ضاغِطاً زِر تَشْغيل المَرْكَبة،:لحاجة في نَفْس يَعْقوب
,،
كان الليْلة زائِراُ لمَنْزِل أَبيه..عَجيبٌ كَيْف أنَّ بوائِق الدُّنيا و كُروبها نَحَّتهُ عن دِفء هَذه العائِلة..حَتَّى بات غَريباً يَتَخَبَّط بجُدْرانٍ كَهِلة،يُنَبّش بين تَصَدُّعاتها عن ضِحْكات الطُّفولة و أَحْضان أَبَوين انْتَصَف الدَّهْر عِلاقتهما للحَدّ الذي فَرَّقَ قَلْبيهما..،هَمَسَ بتِساؤل لِجنان الجالِسة عن يَمينه،:من متى هُم على هالحال ؟
ابْتسامة سُخْرية شَدَّت شَفَتيها..و من عَيْنيها بَرَزَت صُوَر احْتَضَنت بين إطاراتها ماضٍ كَئيب..أَجابته بهَمْس عُقِد بالمَرَارة،:من سنيــن محمد..من سنين..من قبل لا تسافر "نَظَرَت إليه باعِثة لهُ رِسالة عِتاب و هي تُكْمِل" بس شَكْلك نَسيت
تَمْتَمَ و هُو يُراقِب البِحار العَميقة و الصَّحاري الواسِعة الفاصِلة بين رُوحي والديه،:يمكن...نَسيت
أَضافت بذات النَّبْرة السَّاخِرة،:يعني لو هم حالهم حال أي زوجين عشرتهم طافت الخمسة و ثلاثين سنة..كانوا تَركونا،عشان يتبادَلون شوقهم بعد سَفرته
عَلَّقَ بحاجِب اعْتَلى صَهْوة اسْتنكاره،:سفر أبوي أعتقد سبَّب لأمي تَبَلَّد..يعني حتَّى لو تَفكّر تشتاق له..بتقتل شوقها لأنها تدري إنَّه بيستمر..فليش تتعب قلبها من البداية !
تَساءَلت بتَرَدّد و بَصَرُها يَطُوف مَلامحه،:محمد إنت تدري ليش أبوي يسافر على طُول ؟
أَجاب بهُدوء،:لا مادري "الْتَفَت ليَعْقِد غَبَشَ عَيْنيه بمُقْلَتيها المُزْدانتان بوِسْعٍ جَذَّاب ليُرْدف بدَهاء" بس الجواب مو صعب..المَسْألة مو معَقّدة أَبَداً
زَمَّ البُؤس شَفَتيها..و الضَّيق تَلَقَّف أَطْراف جِفْنيها ليُرْخِيهما راسِماً لَوْحة يَأسٍ بَنَتها أَيْدي البُرود الجاري في عُروق والدَيها..لن يَكُونا زَوْجين طَبيعيين أَبَداً..لا جَدْوى في التَّمَنّي حَتَّى..فلا شيء يُبَشّر بنُمو زُهور البَياض لنَسْفِ عَلْقَم العُتْمة..فالشَّمْسُ أَبَت أن تُشْرِق على أَرْضهما..و فَضَّلَت أن تَسْتَقِل قِطار غُروبٍ سَرْمَدي على أن تَخْتَنِق أَشِعّتها من ضيق قَلْبين لم يَطْرُق بَابهما الحُب..و لا حَتَّى الإحْترام..،
اسْتَأنَفَت قافِلة أَسْئلتها ناطِقةً،:إنت متقبل علاقتك مع أُبوي ؟
عُقْدَة عَدَم فَهْم تَوَسَّطَت حاجبيه و هُو يَقُول بلحن اسْتفهام،:شفيها علاقتي مع أبوي ! عادي حالنا حال أي أبو و ولده
أَرْفَعَ التَّعَجُّب حاجِبَيْها مع إفْصاح لسانها عمَّا يَحوم في قَلْبها،:اللحين علاقتكم تسميها علاقة أبو و ولده !
هَزَّ رأَسه بالإيجاب مُؤَكّداً لتَصْفَع ثِقَته ضِحْكَتها القَصيرة قَبْل أن تُضيف،:أي إنسان طَبيعي بيعرف إنَّ هذي ما هي علاقة بين أبو و ولده "و بنَبْرة قَصَدَت معانٍ شَتَّى" إلا إذا كنت إنت..مو طَبيعي
لم تَغب عن عَيْنيها المُتَفَحّصتان ارْتعادة عَدَسَتيه المُتضاعف سَوادهما..أَكْمَلت دُون أن تُعِر غَضَبهُ المَكْتوم اهْتماما،:ما ادري محمد..صَحيح للحين اشوفك أُخوي..و أحسّك أخوي..بس رُوحك "و بلَحْنٍ عَزَفهُ نايُ الحَنين إلى الماضي" أحسها ماهي هي..أو كأنها نَست إنها رُوح !
تَجَهَّمَت ملامحه بوُضوح..و نَفَر عِرْقٌ في صِدْغه تعاضَدتَ مَعهُ تُفَّاحة آدم التي تَحَجَّرَت في حَلْقه من تَكَدُّس الغَصَّات..أَشاح وَجْههُ عنها كأنَّما يُشيح بَوْحاً قُطِعَ لِسانه كُرْهاً..تَقَدَّم مُنْهِياً اسْتناده..احْتَضَن يُسْراه بيُمْناه ضاغِطاً بإبْهامه على باطنها يُطَبْطِب على عِرْقٍ بَكَى احْتياجاً..و بسُخْرية بالكاد اسْتَطاع أن يُرَوّضها لسانه المُتَلَعْثِم،:قاعدة تقولين ألغاز جِنان "بسُرْعة أَدار بَوْصَلة الحَديث ليَتساءَل" وينها جَنى ؟ أنا جاي خصيصاً عشانها..ما تعرفت عليها عدل
اجْتَرَعت هُروبها لذا سايرته مُجيبةً و هي تَسْتَنِد..،:عند أبوها..اليوم بتنام عنده
عَلَّقَ و هُو يَنْظر لها من خَلْف كَتفه بابْتسامة خالية من معنى،:الواضح إنكم اعتدتون على هالبرنامج
دَثَّرَت كلماتها بالبُرود قَبْل أن تَنْطق و هي تُرْخي ساق على الأُخْرى،:احسن لي و له
,،
تَغْفو بين يَدَيها الحَمامة المَجْروحة..تَمْسَح على ريشِها الأَبْيَض و الأُمْنِية في صَدْرها تَهْتِف..أَن لَيْتَ من يَمْسَح حَقيقة فَقْدي..الدَّمْعة مُعَلَّقة على هُدُبِها..و الفِكْرة مُتَشَبّذة بمَتاهات مُخّها..رُبَّما الجَواب جاهِزٌ عِنْدها..لِكِنَّ النُّطْق به و عَقْده بزِمام الواقع ما يُسْتَعْصَى عَلَيها فِعْلُه..فإذا كان زَوَاجهما النُّور المُنْهي مَوْسِم الغَسَق الطَّويل فهي مُوافِقة..لكن بشُروط حَتْماً...فأُنْثى ناقِصة مِثْلها يَجِب أن تُسْهِب في الحُلْم..و أن لا تُطيل النَّظَر إلى السَّماء حَتَّى لا يُكْسَر عُنُقِها المُقَيَّد بسَلاسلٍ مُذَيَّلة ببقايا عُذْرِيَتها..فَرَّت الدَّمْعة من عَيْنها مُنْتَحِرة..لتَصْطَدِم بخَدّ لهُ تُرْبَة مَسيكة..رَفَضَت أن تَتَشَرَّبها حتى لا يُسَمّمها الحُزْن المُشَبّعَها..لذلك ارْتَفَعت يَدَها مُتَّخِذَةً دَوْر المنديل لتَمْسَحها بظاهرها مع طَرْق الباب..رَفَعت رَأسها ناحيته،مَرَّرَت لسانها على شَفَتيها..رشَّحَت صَوْتها من بَوْغاء الحَشْرَجات لتَقُول،:ادْخل
دَلَفَ مع انْحناء نِصْف جَسَدها لخارج السَّرير..فتَحَت القَفَص الذي أَعْطتها إياه حُور لِيَضُم الحَمامة لحين شِفاءها..اعْتَدَلَت في جُلوسها بالتَوالي مع اسْتقرار جَسَد أَخيها على السَّرير أَمامها..تَبَسَّم في وَجْهها يُهْديها بِضْعاً من حَنان أُخَوي عِلاقته بهِ سَطْحية جِدَّاً..فهو نادِراً وَجِدَّاً ما يَلْعَب هذا النُّوع من الأَدْوار..دَوْرَ الأَخ الحَنون..رَدَّت على رِقَّته اللَّطيفة بابْتسامة رَمادِية..اعْتَزَلتها أَلْوان الحَياة البَهيجة..تَساءَل باطْمئنان غَلَّفَ صَوْته و نَظراته،:إنت بخير مَلاك؟
هَزَّت رَأسها مُفْصِحة عمَّا يَنْبُض بِصَدْق في جَوْفها،:الحمد لله
كَرَّرَ بقَلْبه،:الحمدلله "حَكَّ طَرَف حاجبه و هُو يُرْدِف بعَدَسَتان تَنْظُران للأَسفَل" صراحة ما اعرف للمُقَدّمات "نَقَل بَصَرهُ لها ليَقُول مُباشرة" في واحد خَطَبش
تَجَمَّدَت أَطْرافها رُغْماً عَنْها،و تَوَقَّفَ مَسير أَنْفاسها للحْظَة مُنْحَشِراً بين ضِلْعين..خَبَت حَرَكة أَهْدابها و أُطْبِقَت شَفَتيها بسُكون..و كَأنَّها لم تَكُن تَعْلَم مُسْبَقاً..هُو أَكْمَل و عَيْناه تُراقِبانها بدِقَّة،:خطبش مني و من أمي..إنتِ تعرفينه و قابلتينه..محمد اللي يوم الـ
قاَطَعَته بأَنْفاس لاهِثة عَبَرَت طَريق تَيْهها بتَعَثُّر لتَقْطَع كلماته الحائِمة حَوْل تِلك اللَيْلة الكَبيسة،:ما يحتاج تكمل..عرفته
هَزَّ رأسه بتَفَهُّم و هُو يُوَضّح،:خذي راحتش في التَفكير..أهم شي تصدرين قرارش باقْتناع و رِضى "عَرَّجَت كَفُّه إلى ساعِدها ضاغِطَةً بمَلَقٍ انْبَجَسَت من دِفئه عُيون احْتياج في رُوحها..و بهَمْسٍ صادِق قال" اتْأكَدّي إنّي ما بزوجش لأي واحد..ما بياخذش إلا اللي يستاهلش..اللي يستاهل ملاك أختي..رَجَّال يصونش و يعزّش و يحميش..اتّأكدي
ابْتَسَمَت لهُ بارْتِعاش و هي تُبْصِره من خلف غِشاء الدّمع المُلْتَحِفة به مُقْلَتيها..وَقَفَ ثُمَّ انْحَنى لاثِماً رأسها بمشاعر أُخُوَّتها النَّقِيَّة..اسْتَقام في وُقوفه ليَقول،:أنا موجود عشان اسمع جوابش متى ما قررتين..تصبحين على خير
انْتَشَلَت صَوْتها من قُعْر بَحَّاته،:و إنتَ من أهْل الخير
انْتَظَرَت حَتَّى أَغْلَقَ الباب من خَلْفِه،لتُحَرّر شَهَقاتها المَخْنوقة في صَدْرها..انْحَنَت بإعياء على السَّرير مع اسْتناد جَبينها برِسْغَيها مُتَّخِذة وَضْع الإنْطواء لتُفْرِغ أَكْبَر عَدَد من الحَسَرات..هي لا تَذْكُر أنَّها حَلَمَت بالزَّواج يَوْماً..أو أنَّها رَسَمَت مَلامح فارسها فَوْقَ صَفحات خَيالها بألوان مُراهقتها..لكنَّها و إن نَبَذَت هذه الفِكْرة عن أَرْضِها،إلا أنَّها تَبْقى أُنْثى..تَهْفو فِطْرتها إلى الحُب و كَنِفِ رَجُلٍ يَحْتَضِن أُنوثتها..،ضَعَّفَت من إغْماضها تُريد أن تَنْسِف الحَقيقة و تُهَجّرها عن أَرْض حاضرها..حَطَّت أَسْناها على شَفتها كأنّها تَعُض على يَدُ الحَياة لتُنْهي عَذابها..فالرُّوح تُريد أن تَعيش بِسَلام..كَفاها يُتْمٌ و فَقْد و إجْحاف..فهذا الشُّعور المُقَطّع نِياط قَلْبها يَنْمو في ذاتها مِثْل شَجَرَةً مَسْمومة في ذاتها،طَلْعها كَرُؤوس شَياطين تُوَسْوس لها بمآسٍ قَريبة..هي مُتَقَزّزة من أُنوثتها النَّاقِصة..ألمُشَوَّهة و النَّجِسة..فكَيْفَ لِرَجُلٍ أن يَسْتَسيغها ! هي مُتَيَقّنة،لَوْلا قَضِيَّة والدها لما فَكَّرَ فيها زَوْجة و أُمَّاً لأَبْناء بالطَّبع هُو يُريد أن يَتَعَرَّفون على الحَياة بذواتٍ مُنَقَّحة من شوائِب الحُزْن المَعْقود بالأَصْلاب..و أن تَكُون دِماءَهم نَقِيَّة من دَرْنِ اغْتصاب..،خَبَت غَوْغاء بُكاؤها..أَزاحت رِسْغَيها عن جَبينها بعد أن خَلَّفَت أَثَراً امْتَزَج مع الإحْمرار المَبْصوق على وَجْهها..أَدارت جَسَدَها بوَهْن لتَسْتَلْقي على جانبها الأيْسَر،و يَداها تَرْتفعان بانْقباض لخَدَّها..تَأمَّلَت الفَراغ بحواسٍ تَطْفو فَوْق بَحْرٍ مُتلاطم الأَمْواج..نَطَقَ صَوْت في داخلها بوَجْسٍ مُرْهَق..يَجِب أن تُحادثه..فلَديها الكَثير من الأُمور التي يَتَطَلَّب تَظْليلها بالخَطّ العَريض..،
,،
نَطَقَت بعَطْفٍ آسِف للمَرَّة السَّابِعة رُبَّما،:على عُمري نامت بدون عَشا من تعبها
عَلَّقَت جُود بلَحْنٍ مُتَمَلْمِل،:من صباح الله أنا اهني جاية لها و في النّهاية ما قعدت وياها على راحتي "أَضافت باسْتنكار غاضِب" و ذلين هالمستشفى ما يحسون ! توها راجعة من سفر..و يا ليت رايحة هناك تستمتع،إلا رايحة لشغلهم...و بعد يطلبونها اليوم !
فَيْصَل الذي كان مُسْتَلْقي على إحْدى الأرائِك يُلاعب ابْنتها المُسْتَقِرَّة على بَطْنه..قال بمُشاكَسة،:إنتِ ما بتروحين بيتكم ؟ السَّاعة صارت اثنعش و إنتِ للحين اهني معورة راسنا بحلطمتش
تَجاهلت نِيَّته في إثارة حَنَقِها و عَبَّرَت عن عَمَّا في داخلها،:ياخي مقهــوورة..كنت جاية متحمسة ابي اسولف معاها..لا سولفت و لا شي
تَساءَل بسُخْرِية،: و شنو هالسَّالفة المُهِمَّة اللي مقهورة عشانها ؟
أَجابت بصراحة و هي تَطْوي ساقيها،:خطوبتك..كنت بخبرها شنو صار و شنو قلنا
عَلَّقَ بهَمْسٍ يَسْتَصْغِر أَفْكارها،:والله هَبْلة
قالَ والدهُ الذي نَبَّههُ من غِيابه حَديث جُود،:ايــه صَحيح تذكرت..قايل بسألك إذا اتفقتون على موعد الملجة
أَجابَ فَيْصَل و هو يَلْمَح عُقْدَة عَدَم الرَّاحة المُتَلَقّفة ملامح طِفْلته،:ما اتفقنا يُبه..كنا ننتظر رجعتك إنت و نُور
أَفْصَحَ،:أنا من رايي تملجون اللحين و بعد رمضان تسوون العرس..طبعاً بعد ما تجهز شقتك "اسْتَفْسَر ليتَأكَّد" بتسكن اهني صح ؟
أَجابَ بتَرَدُّد،:لا يُبه..باخذ لي شقة
صَمَتَ و عَيْناه تَجُولان على وَجْه ابْنه يُسْبِر أَغْواره المُكابِرة..كم أنتَ جَبان فَيْصَل ! عَلَّقَ بتَفَهُّم و هو يقف،:على راحتك..تصبحون على خير
انْتَظَرَت حَتَّى اخْتَفى طَيْفُ والدها..عَقَدت ذراعيها على صَدْرها..رَنَت إلى شَقيقها بطَرف عَينها و هي تَقُول بنَبْرة تَمَرَّغَت بالمَكْر،:حَبيبي أُخوي إذا بتسوي شي سَوَّه بصدق و بشجاعة
ضَيَّقَ عَيْناه و هُو يَتساءَل بسُخْرِية،:شنو قصدش إختي ؟
ارْتَفَع حاِجبَها ثِقَةً و هي تُجيب،:اقْصد ما دامك فعلاً نسيت الحَبيبة اسْكن في المكان اللي حفظ حبكم بكل شجاعة..بما إنّك تقول ما عادت تهمك
رَفَع جَسَده جالِساً و العُقْدة اسْتَحْكَمت من ملامحه..اسْتَعان بوالدته،:يُمَّه شوفي بنتش..أَدبيها هالغبية
عَلَّقَت بابْتسامة شَتَّتَ منها حَدَقتيه الجَبانَتين،:ليش أَأدّبها ؟ بنتي ما قالت شي غلط
وَقَفَ و هو يَحْمل صَغيرته ناطِقاً بلَحْنٍ ارْتَدَى ثَوْبَ الهُروب،:أنا اروح أنام احسن لي
مَشَى مُبْتَعِداً و كَلِمات جُود الضَّاحِكة لَحِقَته مُحَذّرة شِراع سَفينته المُصِرَّة على الإبْحار على الرَّغمِ من العاصِفة،:تصبح على خير أُخوي الجَبــــان
,،
الصُّبْحُ كان مُتَسَرْبِلاً بِثَوْبٍ من صَفاء شَعَرَت بهِ يُدَثّر رُوحها..و كيف لا و هي التي مُذ أَيْقَظَها نِداءُ الحَقَّ في الفَجْر تَكاشَفَت مع الصَّفَحات البَيْضاء و أقْلامها المُصَيّرة خَيالها العَظيم واقِعاً يَتَشَرّف بهِ الوَرَق..تَرَكَت المَرْسم لنصف ساعة فَقَط لتُوْقِظ ابْنها و تُجَهّزه لِمَدْرسته..و ها هي الآن تُكْمِل السَّاعة الثَّانية من زَرْع الجَمال فَوْق البَياض..و تُشاركها المَكان بَيان المُنْدَمِجة في تَلْوين شَخصياتها الكَرْتونية المُفَضَّلة.. و مابين الحين و الآخر تُطِلَّ عليها بعَيْنيها الحانِيَتين لتَنْهَل من براءتها النَّقِيَّة من مآسي حَياة..فهي بتَأمُّلها لطَيريها الغاليين تَجْتَرع كُؤوساً من ضِياء تُنير بها حُجْرة قَلْبها الذي أَعْتَمَها فِراقه..،
،:مَاما قَيـــداء
رَفَعت رأسها للخادمة الواقِفة عند الباب..تلك أَكْمَلت عندما رأت انْتباهها،:في تهت ثلاثة مَرَة يبــي إنتَ
عُقْدة خَفيفة طالت ما بين حاجبيها..رَدَّدَت في جَوْفها..ثَلاثُ نِساء ! يُردنَني أنا ! تَساءَلت و هي تَتَرُك القَلَم،:ما عرفتينهم ؟
هَزَّت رَأسها بالنَّفي،:لا ما يعرف
وَقَفَت و هي تُوْمئ لها برأسها،:شوي و بجي..شوفي شنو يبون يشربون
تَرَاجعت للخَلْف وبطاعة،:اوكــي ماما
اتَّجَهَت لدَوْرة المياه التَّابعة للمَرْسم لتُنَظّف يَدَها من عَوالق الرَّسم المُتَشَبّذة بأصابعها و أَظافرها..غَسَلتها جَيّداً مع انْشغال فِكْرها بالنّساء الثَّلاث الغَريبات..نَظَرت للساعة المُعانِقة رِسْغها..كانت قَد تجاوزت العاشرة و الرُّبع..رُبَّما هُو وَقْتٌ لا تليق بهِ الزّيارات..زيارات الغُرَباء بالتَّحْديد..رَفَعَت رأسها تَنْظُر للمرْآة تَتَفَقَّد هَيْأتها..شَعْرها مَفْرود على كَتِفَيْها و يَتَدَلَّى مثل أَغْصانٍ مُتَجاوزاً نِصْف ظَهْرها..لا مَساحيق تَطْمس بَذَخ ملامحها النَّاعِمة..و ملابسها كانت بسيطة..بنطال من الـ"جينز" الفاتح يَعْلوه قَميص أَحْمر تَقْتَطِعهُ خُطوط ذَهِبِيَّة بشَكِل طُولي..غير مُتَكَلّفة كعادتها..،خَرَجَت و هي تُجَفّف يَدَها مُحادِثةَّ صَغيرتها،:بيان حبيبتي تعالي بنروح تحت
مالَ رَأسها مع تَقَوّس شَفَتيها كاشِفة عن رَفْضها،:ابـــي أَلَوّن
قالت وهي تنحني لها لتَطْبع قُبْلة أَزْهَر منها خَدَّها القُطْني،:ما عليه حبيبتي..في نسوان تحت لازم نروح لهم..شوي بس
تَساءَلت بفُضول طُفولي،:نسـوان !
و هي تَحْتَضِن كَفَّها لِتَقُودها لخارج المَرْسَم،:ايــه نسوان..بنسلم عليهم و بنشوف شنو يبون و بس..اووكــي ؟
هَزَّت رأسها لتَتراقص خصلاتها القَصيرة،:اووكــي
اتَّجَهَت مع طِفْلَتها للأَسْفَل حَيْثُ المَجْلس المُسْتَقِرَّة فيه أَجْساد ثلاثة نِساء لهن مَلامح سَمْحة لم تُمَيّز هَوِيَّتها عَيْناها اللتان أَبْصرتهن..بابْتسامة رَقيقة سَلَّمَت و هي تَقْترب من مَكان جُلوسهن،:السَّلام عليكم
~ انْتَهى
،
عيدكم مُبارك مُجَدَّداً..و يا عَسى كل أَيَّامكم عيد
إن شاء الله الجزء يُكون مُرْضي..اسْتَمْتعوا فيه
و أَكَرّر..كل مَوْقف أَذكره مُهِم..حتَّى لو شَعرتون إنَّه مو مُهم فهو مُهم =)
اللي يقرأون بصمت..نداء لكُم من جَديد..ابي اشوف تعليقاتكم..حتَّى لو كانت انْتقاد..تشرفوني أكيد..،
*قُبْلات
،
|