كاتب الموضوع :
غربة خريف
المنتدى :
ارشيف خاص بالقصص غير المكتمله
رد: روايتي الفلسطينية { انتفاضة } بقلمي
الفصل السادس
5
عمان \ الأردن
" يبو صالح واتغربنا .. وما نسينا كرم التفاح
بنار الغربة اتعذبنا .. وياما بكينا ع اللي راح
وهينا كبرنا وشيبنا .. لسا معانا هالمفتاح
يذكرنا بريحة هالدار .. للعودة يظلوا عنوان "
تدندن مع الأغنية ودموعها تبلل شالها الأبيض القديم ، لمحت حفيدتها نادتها : مريم .. مريم تعالي يا جدة
اقتربت مريم ذات العشرين عاماً .. بعيون عسلية صغيرة وشعر بني محروق .. متوسطة القامة بيضاء البشرة وحاجبين عريضين ..كانت قد عادت من جامعتها الآن مباشرة إلى بيت جدها ليتفقوا على أمور السفر وهكذا .. همّت بالجلوس قبل أن تصرخ بها جدتها : استني وين قعدتي .. جيبي الشنتة السودا من تحت السرير
مريم وما زالت على هيئتها بنصف جلسة : حاضر
أحضرتها وناولتها إياها .. أمسكتها أم صلاح وفتحتها وبيدها الأخرى أعادت رفع صوت الأغنية وتغني معها وهي تقلّب محتويات الحقيبة .. وسط أنظار مريم المتأملة والتي ما لبثت أن انقلبت إلى ضحكة صاخبة ، لتغمز جدتها : شو جدة والله عايشة الجو ههههه
جدتها ضربتها على ركبتها لتقطع مريم ضحكتها عندما رأت دموع جدتها ، اقتربت منها وقد بدأت تدمع تضامناً معها : جدة مالك ؟
أخرجت الجدة مفتاحاً ومدّته لحفيدتها ( بنت بنتها ) المحببة لقلبها : اهي مفتاح بيتنا بفلسطين يا جدتي ، إذا فارقت قبل ما ننزل على فلسطين خذيه أنتي
مريم قبّلت يديْ جدتها ورأسها وهي تبكي وتقول : بعيد الشر عنك جدتي .. يومي قبل يومك ياا رب
احتضنتها أم صلاح بيديها حيث اتخذت تجاعيد - الزمان والغربـة - مكاناً وموطناً ، ثم أبعدتها وهي تقول : قبل أكثر من 60 سنة نزلت علينا القذايف زي المطر .. كنت بنت 12 سنة ، شدّني أبوي ( صمتت وهي تغمض وتتذكر ، والدموع تكفلت برواية القصة )
عكّا 1948
أصوات القذائف تتزاحم مع أصوات الصراخ والنواح ، شدّها والدها من يدها وهو ينادي شقيقها ليسرع في الخروج ، مع حدة الموقف كان يشدّ على ذراعها بقوة أكبر مع كل كلمة ينطقها ولم ينتبه انه آلمها ، في ذلك الحين كان يصرخ وتكاد عروقه تتفجر بدمائها : شو وين بدك تظلي .. البلاد اندمرت قوومـــي يـــلا .. عاندت أخته ( عمتها ) وبنفس الصراخ : ما بطلع من داري اندمر معها والله ما اطلع والله والله ( وتزيد من صراخها وبكائها وهي تحرك رأسها برفض ) والله ما اطلع
رمى بالتي بين يديه نحو شقيقه المشاهد بصمت ، وراح يشد بتلك العنيدة وهي تفك نفسها منه وتجلس على الأرض وكلما أمسكها تنزلق من يديه كالصابون ، ازداد الضغط عليه مع أصوات دبابات المحتل وصراخ البعض ، الرثــاء الذي يصدح من أفواه العجائز الهاربين وصراخ أخته الرافضة للرحيل القصري ، تشاهد تلك الصغيرة المشهد المخيف من حولها ( لتشاهده مريم بدموعها ) ، أصوات طرق الباب من الجيران يحثوهم على الإسراع فالدبابات وجرافات العدو تدمّر البيوت دون أن تنتظر خروج أهلها منها .. " الله أكبر .. الله أكبر .. " " يمــــــاااااااااا " " اتــركــوني " ، اتجه نحو أخته بكل حقد يشتعل بقلبه صفعها على وجهها لتهدأ ثانية وتعود لصراخها من جديد " الله لا يساامحك الله يحاسبك أنت واليهود بدكو تطلعووني من داري ما بـــدي روووووحو ما بــدي " شدّها من كتفها وهي تسقط من يديه ، خرجوا من البيت في آخر لحظــة ، شاهدوه وهو يتفتت بأنياب آليات المحتل .. تتحرك بين يديه وتنظر للخلف رغم محاولاته لمنعها " بيــت ابــوي .. يا يمـــااا ريحة أبوي .. حسبي الله فيكم .. كلااااب كلاااااب "
أفواج من الناس تركض وتصطدم ببعضها وبين أيديهم أطفالهم وبعض مما استطاعوا حمله والأهم من ذلك كلــه " مفتاح العودة " مفاتيح بيوتهم ، ظناً منهم أن هذا الوضع مؤقت .. مؤقت لــِ 60 سنة !! .. كانت على أكتاف عمّها تنظر خلفها وتشهق بخوف من الدبابات التي تركض خلفهم .. من استطاع الركض بأقصى سرعة فقد نجى ومن لم يستطع حطمته سلاسل الدبابة .. أو أبادته قذيفة مع عائلته .. ومن بين الجموع أحدهم يركض للخلف عندما سارت الدبابة على عائلته يصرخ وهو يركض عكس الناس ، وتمنعه أيدي الناس " شهدااء شهدااء " " خلص ماتوا أنت اهرب يا ولد " وهو يصارعهم ودموعـه لم تعد تعرف الخجل ، هو رجــل ، نعم .. لكنــه فاقد ، فقدهم ، دماءهم تركض معه بمعنى " اهرب يابا " " اخوي احنا بالجنّة أنت انفذ بجلدك " اختفوا عن أنظاره حينما شدّه رجل وهو متهالك لا يستطيع الركض ولا حتى المشي ، كل هذا أمام عيونها ، عيون طفلــة كان من المفترض أن تنظر للورد والألعاب فحسب ، طفلة فلسطينيـة هي ، ليست طفلـة عاديـة .. وقع عمها لتتدحرج هي من بين يديه ولما اختفت عن عيون والدها واختفي عن عيونها رأتها امرأة وحملتها راكضة بها ، أصبح الناس يحملون أي طفل ويهربون به فلا مجال للانتظار والسؤال ، بكت كثيراً وهي تصرخ : بابا .. بــابا .. وينك يا بابا أنا خايفة .. ( اخفت وجهها بين كفيها الصغيرتين ) يا بابا ارجعلـي .. ممممممم .. يا بابا .. والله بقعد ساكتة .. ( راح صوتها ينخفض شيئاً فشيئاً حتى فقدت وعيها ) .. استيقظت لاحقاً ووجدت نفسها بخيمة متهالكة وحولها الكثير من الأطفال يبكون ، خرجت إلى مقدمة الخيمـة ورأت رجلاً يحمل مكبّراً " يـــا نــــاس السامع يعلم الغايب .. هااي الخيمة للأطفال المفقوديــن " .. قضت يومها وهي تجلس في زاوية الخيمة ضامّة قدميها وتبكي بصمت وتنظر إلى الأطفال حولها يبكون ويصرخون ، وبين فترة وأخرى يختنق أحدهم بدموعه لتهرع إليه نفس المرأة التي حملتها تضربه على ظهره بخفة لتعيد له نفسه وحين تنقذه تضمّه لصدرها .. وفي الليل استسلمت للأمر الواقع أمالت رأسها حتى تنام ، ثوانٍ حتى رأت المرأة ذاتها توقظها وتحملها بين ذراعيها وهي تتحدث بفرح بكلمات لم تفهمها لأنها شبه نائمة ، خرجت بها وسألت رجلاً أمامها : هذي بنتـك ؟
اخفاها بحضنه وهو يزيد من ضمها كان سيفقد ابنته كما حدث للكثير لولا رجلٌ محترم تكفل بإيصال الخبر لجميع الخيم " الخيمة الكبيرة الرئيسية فيها أطفال مفكودين روحوا شوفو ولادكو " ، ضمها أكثر وهو يسألها عن حالها ويعتذر عن تقصيره كلما زادت هي في نحيبها واعتذارها عن كل الأخطاء التي ارتكبتها ظناً منها أن والدها تركها لأنها غير مطيعة ..
كبرت في الأردن تدرجاً من حياة بسيطة \ مأساوية ، إلى حياة فارهة ، فقد التحق والدها وعمها بالجيش العربي ، وسافرت عمتها إلى لبنان لتدرس في جامعة بيروت آنذاك والتحقت بصفوف الفدائية.. ووصلهم خبر استشاهدها في جنوب لبنان ، وفي الـ67 فرّ شقيقها ( والد أم علي ) وابن عمها ( أبو محمد شقيق زوجها ) إلى فلسطين وتزوجا هناك ، وفي الـ68 في معـركة الكـرامة استشهد عمّها وأصيب والدها وسرّح من عمله في الجيش براتب تقاعدي أمكنه من فتح مشروع جيد تنامى مع الوقت حتى أصبحوا فوق الريح كما يقال .. وهي تزوجت ابن عمها وأنجبت صلاح الابن الأكبر (أبو محمد) .. صالح (أبو علي) وابراهيم (أبو مصعب) ، وبنتين ( سارة " والدة مريم " ومريم ) ، وحين انهى أبو علي دراسته الجامعية عاد إلى فلسطين \ رام الله بالتحديد عند خالـه وتزوج من ابنته ثم رحل بها إلى عكا وأهداه عمه أبو محمد بيته الحالي ، هديـة زواجه ، عمل طبيب صيدلاني ثم فتح صيدلية خاصة به وأنجب من ابنة خاله علي وآية وفلسطين .. اما أبو مصعب فكـان أوفرهم حظاً وأكثرهم ثروة ،عمل محامياً وأنجب مصعب ، علا ، عمر وبراءة .. وأبو محمد درس اللغة العربية في الجامعة العربية وعمل أستاذاً وهو الآن مدير مدرسة لديه من الأولاد محمد وأحمد ودينا وديما .. وهكذا كان يزور الأخوان بعضهم إما أن يأتي أبو علي إلى الأردن أو ينزل أبو مصعب وأبو محمد إلى فلسطين ويقومون بزيارة عمهم وخالهم أيضاً .. اما أم صلاح فهي تسكن في بيت العائلة بعد أن توفي زوجها مع ابنها أبو محمد وعائلته ..
..: وهاظ اللي صار يا مريم .. ومن يومها وأنا أعد الأيام والشهور وصاروا سنوات ، للعودة
مريــم كانت قد استنفذت كل طاقتها ودموعها وهي تسمع هذه القصة لأول مرة من جدتها أم صلاح التي عرفت بالقوة والجَلَد ولم يسبق لها أن رأت دموعها : ان شاء الله بتعاودي كلها يومين وبننزل على فلسطين وتكحلي عيونك بشوفتها
أم صلاح : الله يرضى عليكي يا جدة .. قولـي لدينا تعملّي كاسة بابونج
مريم وقفت : أنا بعملك اياها ليش دينا !! .. وركضت للداخل
6
بيروت \ لبنان
في الشقة المستأجرة من قبل لجنة التدريب ، ينتظر اتصالاً من خليـفة ليذهب إليه ، تلقّاه أخيراً واتفقا على مكان اللقاء ليتواجدا فيه بعد ساعة ، سار إلى الحديقة بعد أن استدل عليها من سكّان المنطقة ، جلس يتأمل الناس ، لفتهم شكله بكوفيته وملامحه السمراء ليس لبنانياً بالتأكيد ، ذا عينان عسليتان اللون وشعر أسود ، ضخم البنية ، يبلغ من العمر 24 ، ولفته شكل لبنان أيضاً ، لبنـان جميـلة بطبيعتها ، غضّ بصره سريعاً حين مرت فتاتين لا ترتديان الحجاب ، تخيل لو كانت مها خارجة بهكذا مظهر لقتلها ، " الله يهديهم بس ! " ، جاءه المدعو خليفة على غفلة منه وأفزعه .. : هههههه مالك يزم
حمزة رفع حاجبه بغضب مصطنع : تحكيش معي
خليفة رفع حاجبيه معاً باستغراب : ليش حبيبي أنتا شوبيك !!
حمزة يمثل أنه سيتقيأ : الله يمغصك تحكيش لبناني مش نافع بالمرة
خليفة وقد حطم الطاولة أمامه من الضحك : هههههههههههههه ، كبرت ( قبرت ) مالك
حمزة : هههه شو أحوالك ؟
خليفة : الحمدلله دائماً وأبداً .. كلنا بخير ونعمة وأنت وأخبار التدريب ؟
حمزة : الحمدلله .. والتدريب ماشي ولحد هسا ما حسّو بإشي
خليفة وأخفض صوته : وشو مستجدات المقاومين بنابلس ؟
حمزة تنهد وهو ينظر حوله بحذر بالغ : والله احنا تمام أمورنا وشبكنا مع مقاومين رام الله .. بس عكا المشكلة
خليفة بفزع : ليــش يا ساتر ؟
حمزة يصّك أسنانه : وطّي صوتك .. من أسبوعين تقريباً تأكدو الاحتلال بوجود نشاطات إلهم .. وبعدين أغلبهم شباب صغار وما عليهم مشرفين كبار .. يعني أنتا عارف هسا الناس بطلت شغل مقاومة كلها تنظيمات معروفة زي شهداء الأقصى .. اما مقاومة بالجبال وسرّية بطلوها .. فهالشبيبة كوَّنوا حالهم يمكن حتى أهاليهم ما بعرفوا عنهم
خليفة : لا لازم تتواصلوا معهم كمان .. رح نشوف شو رح يصير ، بس أنتا إذا حدا سألك مين بتقابل أو حدا شافك معي قلهم انك ابن خالتي
حمزة يومأ برأسه : طيب طيب يصير خير
7
عكّا \ فلسطين
حول [ الصاجّ ] تتربع وتخفض رأسها أسفله لتشعل النار ، بيضاء هي بعيون خضراء كعيون والدتها التي يعرف بها شمال فلسطين ، يغطي النمش منطقة ما تحت عينيها بشكل خفيف ، شعرها يتوسط اللونين البني والذهبي ، بقامة متوسطة وجسم ممتلئ نوعاً ما ، كانت تبدو أكبر من عمرها ببنيتها تلك لكنها ذات جمال هادئ ، بدأت بفرد عجينة الخبز عليه بعد أن [ ترُقَّها ] بيديها وهي تدندن " سكابا يا جروح الزين سكابا .. مظلش خوف طاب الوفا طابا .. غالي كثير يا وطني يا غالي .. ومهما يصير تترسخ في بالي .. ما بنخشى موت أو سود الليالي .. ولاد سباع ما ضمت هيّابا .. سكابــا " قاطعها طرق الباب الخشبي ، وقفت مسرعة وهي تمسح يديها بثيابها وترفع شال الكتف على رأسها منادية : ميــن !!
....: أنــا .. سلمــى
أرخت شالها من جديد وجلست وهي تخبرها بأن تدخل ، تبادلتا أخبار الحـارة والبلد قبل أن تقفز سلمى فجأة وهي تدلّك قدمها : آآآي
برعب : مالك ؟
سلمى تنفخ الهواء باتجاه قدمها : افففف سلامتك حرّكت رجلي ولسعني الصاجّ ، صحيح أنتي ، لسا في حدا بخبز !!
بيسان : آه أنا .. عشئي الخبز أصلاً
سلمى : بس ما بتزبطش عشئي ( معلقة على لهجتها المدنية ) وشغل الصاجّ
بيسان : ههههههه مو شرط أبداً
سلمى : عزموكي دار أبو علي على عرس بنتهم
بيسان : ايوا عزموني .. مع انه احنا مو كتير سوا
سلمى باستهجان : ليش مو كثير ؟؟
بيسان : يعني أنتي عارفة لما آيوش رفضته لأخوي من بعدها علاقاتنا رسمية وع الحديدة
سلمى : بالله عليكِ بلا هبل الزواج قسمة ونصيب ..
بيسان : لا عادي الله يهنيها هي ورامي ( أبو العبد )
سلمى تنظر إليها بنصف عين : صفّي النيّة بيسو
بيسان اتّزنت ملامحها : هههههه صافية والله
سلمى أشرق وجهها لأحاديث الصبايا والحفلات : شو بدك تلبسي ؟
بيسان : اووما صرنا باللبس ! كيف بتغيري المواضيع هيك
سلمـى : هههه يلا بلكن بلاقي عندك أفكار حلوة ، ( تخفض رأسها بخجل ) يعني عارفة صرت هسا كنّتهم ( زوجة ابنهم ) ولازم أكون غير ، فاهمة !
بيسان وهي تطفئ النار وتحمل الخبز للداخل : ههههههه أكيد بشوفلك
|