لأنكم تستاهوا نزلت لكم الفصل قبل وقته
قراءة ممتعة للجميع
الفصل السادس
أمسكت ذراعها وسحبتها لغرفتي وأغلقت الباب على
نظراتها المصدومة , وضعتْ يدها على المقبض لتفتحه
فوضعت يدي على الباب وقلت بحدة " هل من تفسير
لتركك الجامعة وكل تلك الحركات الصبيانية "
بقت تنظر لي بتبات وصمت فقلت بغضب
" وسن لا تستفزيني بصمتك وأجيبي "
قالت بجمود " دَين ... عليا الإيفاء به لك وعزة نفس لم
تعد ترضى أن تأخذ مليما منك فهل أنا مخطئة في هذا "
ضربت بيدي على الباب وقلت " بل كل الخطأ , إلا دراستك
يا وسن إلا هي وأنا وليك والمسئول عنك وعن كل ما تحتاجينه
وديون والدك ليست في حساباتي ولا أفكر فيها "
ابتسمت بسخرية وقالت " بلى في حساباتك كلها
ودفّعتني ثمن ديونك منه ولم يتبقى سوى النقود
فعليك أخذها أيضا لنتصافى نهائيا "
تنفست بقوة ثم قلت بضيق " وهل بضنك ستسددين
تلك المبالغ الضخمة , قلت أني لا أعدّها نقود
ضاعت فأنا نسيت أمرها تماما "
نظرت للجانب الآخر وقالت " أنا لم أنسى ويحق
لي كما يحق لك إيفاء الديون "
ثم نظرت لعيناي بعيناها السوداء الواسعة وقالت
" ولا تحاول معي فأنت تعرفني حين أضع أمرا في رأسي "
قلت بسخرية " نعم أعرفك جيدا وجربت ذلك منك أيضا "
وها قد فتحنا ملفات ألمنا باختيارها لأنها ترفض أن تعيش
جراحنا تحت الركام كما رفضت أنا يوما أن تشفى , لم
أكن أرغب بالحديث في ذاك الأمر أبدا لكنها اختارت هذا
أشاحت بعينيها عني بحركة جفنيها التي لا يتقنها سواها
وكأنها تسدل ستائر سوداء على نافذة مظلمة تحرق قلبي
قبل النور فيهما ثم ابتسمتْ ابتسامة صغيرة متألمة ليخرج
معها صوت أنة لعبرة مكتومة في صدرها ثم قالت بألم
" كاذبون أنتم يا معشر الرجال وكم يسهل عليكم
تبديل النساء كورق اللعب "
أنزلت نظري عنها وابتسمت ابتسامة لا تقل ألما عن
ابتسامتها وقلت " لن نفتح الدفاتر يا وسن واتركي
ما في القلب في القلب "
رفعت نظرها لي وقالت بحدة " حجج ... كلها حجج
لتستبيحوا بها لأنفسكم العبث كما يحلو لكم , ومن
سذاجتنا نحن النساء نصدقكم دائما "
رفعت نظري لها وقلت بسخرية " لم أكن أحتاج
لحجة لأستبدلك بأخرى وأخبرتك أن تغلقي الدفاتر
لأن ما ترميني به ترمي نفسك به قبلي "
قالت بسخرية مماثلة " نعم فأنا تحججت بوالدي لأتركك
وأتزوج بذاك التاجر الثري لأنك لا تملك المال وحين مات
والدي تركته وركضت خلفك أترجاك أن تصفح عني لأنك
أصبحت أكثر ثراءً منه , هذه أنا فهمناها فاشرح لي عنك أنت "
أخفضت رأسي وأغمضت عيناي بقوة وألم , نعم يا نواس
لن تحضا بهذه الفرصة بعد اليوم لأن الخيط الأخير بينكما
سينقطع الليلة فدع الجنون يمارس ما يريد , رفعت يدي لها
وأمسكت ذراعها وسحبتها لحضني بقوة وأطبقت بذراعاى
عليها وقلت " تلك أنتي من وجهة نظر نفسك لنفسك "
انطلقت حينها الدموع التي كانت تحجرها في مقلتيها
وقالت بحسرة " بل أنت تراني هكذا أنت يا نواس"
شددتها لحظني أكثر أمارس الممنوع عني لأبيحه في
لحظة جنون أولى وأخيرة وقلت بهدوء حزين
" أنتي قتلتني يا وسن وشر قتلة كانت تلك "
وضعت كفها على صدري ودفعت نفسها لتبتعد عن حضني
وقالت ورأسها أرضا " وها أنت سددت لي طعنة أعنف منها
وحجتك أني قتلتك , كلانا لا نختلف عن بعضنا يا نواس
فإن كنت تراني مجرمة فلستَ بأفضل مني "
أعدت كف يدي على الباب و أخفضت رأسي كي لا تعود
لي تلك الأفكار المجنونة لاحتضانها مجددا فتشتعل النار فوق
اشتعالها في جوفي أو أمارس جنوني الأكبر بأن أفعل ما تمنيته
حياتي كلها وانتظرته بالسنين وهوا تقبيلها وتقبيل عيناها
معذبتاي وسبب عشقي الجنوني وهذياني في يقظتي
هززت رأسي أنثر منه تلك الأفكار وقلت بهدوء
" وسن عودي لدراستك "
قالت باختصار " لا "
قلت بحدة وحالي كما هوا عليه " بل تعودي لها منذ الغد "
قالت بتحدي " قلت لا يعني لا ولا أحد له سلطة علي وديونك
سأرجعها لك تأخذها أو ترميها في البحر تلك مشكلتك "
نظرت لها وقلت بغضب " أنا وليك ولست عاجزا عن
تكاليف دراستك ومتطلباتك لتعملي وتتركي الدراسة "
قالت بصراخ غاضب " لست وليي ولا أريد وصايتك
ولا نقودك , أنت لا تصلح حتى لتكون رجلا "
لم أشعر بنفسي إلا وصوت الصفعة القوية يثقب أذناي
ويدها تحتضن خدها الأبيض تنظر لي بصدمة ورجفة
وعينان تمتلئ بالدموع , قبضت يدي ودسستها في جيبي
متمنيا أني قطعتها قبل أن تفعل ذلك وأنها أصيبت بالبكم
قبل أن تقول لي تلك الكلمة القاتلة وكأننا نتبادل الأوجاع
ولم يخرجنا من وحشة مشاعرنا تلك إلا صوت والدتي
الضعيف المتعب من خلف الباب وهي تقول
" نواس افتح الباب "
فتحته بسرعة ودون شعور فوالدتي لا تستطيع الوقوف
طويلا ولا حتى المشي فما الذي جعلها تخرج وتعبث
بصحتها , كانت تستند على كتف الممرضة الخاصة بها
وتنفسها يخرج قويا تريد التحدث وتعجز عن الكلام بسبب
وقوفها المنهك لصحتها , أمسكتها ونظرتُ جهة وسن التي
قالت بوجع وعيناها في عيناي " علمت أنك لن تعطيني
ذاك الشيء الذي لن أحصل عليه منك كل حياتي بدون
مقابل , دائما تسترجع ديونك يا نواس "
ثم خرجت من الغرفة واجتازت والدتي ولم نسمع سوى
صوت ضربها لباب المنزل وهي تغلقه خلفها , عدت بوالدتي
لغرفتها ووضعتها على السرير وما أن استوت جالسة عليه
حتى رمت بيدي عنها فنظرت لها بصدمة فقالت بصوت
غاضب ومتعب " تضربها يا نواس !! تضرب النساء يا تربية
يداي , ومن ... ابنة خالتك اليتيمة التي ليس لها غيرك , ومَن
أسمك مسجل تحت اسمها كَولي لها ووصي عليها , تضربها
وأنا حية فبعد موتي ما ستفعل "
قلت بضيق " لم أكن أعي لنفسي , استفزتني
وتطاولت علي بلسانها "
قالت بحدة " وإن يكن هل ترى ضربك لها حلا وسيأتي
بنتيجة , وافقتك وجلبتها لك هنا لتتفاهم معها ونقنعها بروية
لتعود لدراستها لا أن تختلي بها في غرفتك وترفع يدك عليها "
ثم تنفستْ بقوة وتعب وقالت بأسى "خذلتني فيك يا
ابن قلبي قبل رحمي "
نظرت لها بصدمة وقلت " لا يا أمي لا تقوليها "
بقيت على صمتها والضيق جليا على ملامحها المتعبة
فأمسكت يدها وقبلتها وقبلت رأسها وقلت
" آسف يا أمي ولن يتكرر ذلك ما حييت "
قالت بهدوء " ليس مني تعتذر بل من التي ضربت
اليوم قلبها قبل وجهها "
أعطيتها ظهري وقلت بأسى " لا تحكمي عليا ظلما
فأنتي لا تعلمي من الذي ضرب قلب الآخر "
تم خرجت من عندها وغادرت المنزل برمته بعدما تعقدت
الأمور أكثر بدلا من أن تُحل , توجهت للمزرعة من فوري
دخلت المنزل وقلت بصوت مرتفع " وليد "
نزل من السلالم وهوا يقول " يا ملائكة الرحمة زوريه
وخففي ما يعتريه و..... "
ثم ضحك ولم يكمل فابتسمت رغما عني وهززت رأسي وقلت
" لا تقلع عن عاداتك أبدا وأقسم أني لست في مزاج لك "
ثم قلت وأنا اصعد السلالم
" سأستحم ونغادر لمنزل الشعّاب سنتم الأمر الليلة "
قال وهوا يلحقني " لم نعطهم خبرا بزيارتك "
قلت وأنا أدخل جناحي " بل لديهم العلم منذ أسبوع ولكنهم لا
يعلمون عن سبب زيارتي , أستحم وأجدك في سيارتك تفهم "
ضحك وقال " ألا تريد أن تجدني جالس فوق السيارة "
قلت وأنا آخذ المنشفة وأدخل الحمام
" أخبرتك أني لست بمزاج لك فلا تطرني لضربك "
جاءني صوته من خلف باب الحمام
" لن تكون نواس الذي أعرفه إن مددت يدك علي "
فتحت صنبور المياه لتدفق بقوة وقلت بهمس خلف ضجيجها
" بل فعلتها بمن هي قطعة من قلبي فلا تستغرب أن أقتلك "
*
*
" جواد أنت تغش اقسم رأيتك "
ضرب وزيري بوزيره وقال " بلى مات
وزيرك فاقبلي الهزيمة "
قلبت اللوح وقلت " انتهت اللعبة "
ضحك وقال " غشاشة ومشكلتي أني أحبك "
رميته بوسادة الأريكة وقلت " وهل يحب الغشاشة غير الغشاش "
ضحك وأمسك خدي وقال " متى سننجب لنا غشغوشا صغيرا "
ضحكت كثيرا حتى تعبت ثم قلت " ولما ليس غشغوشة "
ضحك وقال " وغشاغيش كثر أيضا "
انفتح حينها باب الشقة وأغلق بقوة حتى ظننته سيتحطم
ثم مرت وسن من أمامنا لغرفتها مباشرة ووجها لا يبشر
بخير , نظرنا لبعضنا باستغراب فحرك جواد رأسه
بمعنى ما بها فرفعت كتفاي وقلت " ألست تعلم أني
معك هنا منذ ساعتين أم الغش أعماك "
مرت والدتي بنا ووقفت وقالت " مابها وسن "
قلت بحيرة " لا أعلم كانت في الخارج وعادت للتو "
تنهدت وقالت " مسكينة هذه الفتاة متى سترحم
نفسها وصحتها "
تم غادرت باتجاه غرفتها قائلة " سأحاول التحدث
معها رغم أنه مستحيل "
هززت رأسي وتنهدت وقلت بحزن " لا تفعل هذا إلا
إن رأت شقيقك أو سمعت خبر يخصه بالتأكيد "
أخرج هاتفه وهوا يقول " أخبرته فجر اليوم أنها تركت الجامعة
لابد وأنهما تحدثا معا لا شك في ذلك أبدا "
جرب الاتصال بأحدهم ثم تأفف بضيق ويبدوا أنه لم يجب عليه
ثم أجرى اتصال آخر و قال " مرحبا أمي هل جاء نواس "
سكت لوقت ثم قال " وتقابل ووسن بالتأكيد "
" لا لم أره ولكن رأيت ابنة شقيقتك تبدوا الأمور ازدادت تعقيدا "
" لا بالطبع هل تعرفينها تقول شيئا , ماذا حدث بينهما "
تنهد بضيق وقال " جربت الاتصال به ولا يجيب
سأسأل عنه في المزرعة لا تقلقي "
أغلق بعدها الخط منها واتصل مجددا ثم قال
" مرحبا وليد هل أنت في المزرعة الآن "
قال بعدها بابتسامة " طبعا لن تكون غير هناك يا أريكة المنزل "
ثم ضحك وقال " أجل أجل هذا ما تفلح فيه المهم نواس هناك أم لا "
قال بضيق " عندما يخرج أخبره أن يجيب على اتصالاتي
لا أعلم لما يتعب نفسه باقتناء الهواتف "
ضحك كثيرا ثم قال " هكذا إذا عينك على
هاتفه ذاك .... يالك من جشع "
" حسنا وداعا الآن "
قلت من فوري " ماذا حدث "
قال وهوا يعيد هاتفه لجيبه " تقابلا في منزلنا وتبدوا
مشاجرة كبيرة حدثت وخرج كل واحد منهما
غاضبا وهذا المتوقع طبعا "
قال بعدها " ألن تذهبي لتريها "
قلت بحسرة " ولما اتعب نفسي لن تفتح الباب
وإن فتحته لن تتحدث "
ثم قلت وأنا أجمع قطع الشطرنج " هل تحدثت
معه في موضوع الدراسة "
قال بهدوء " ليس بعد سأتحدث معه قريبا
هي فرصة لن تعوض "
قلت بحزن " لا أريد ترك عائلتي خصوصا وسن
وهي في هذه الظروف "
أمسك وجهي بيده وقال " وتتركيني أنا يا ظالمة أقسم
لن أتحرك شبرا من دونك رضي من رضي وكره من كره "
اقتربت منا والدتي فقلت من فوري " هل تحدثت معها "
هزت رأسها وقالت " كالعادة قالت أنها بخير وتريد البقاء
وحدها وطلبت مني أن أجلب لها الحبوب المسكنة "
قلت بدمعة محبوسة " ستموت وترتاح ويرتاح ذاك الجلمود "
وقف جواد وقال " عن إذنكما وأعلماني لو احتجتم أي شيء "
غادر فلحقت به عند الباب قائلة " جواد انتظر "
التفت إلي في صمت فنظرت للأرض وقلت بهدوء
" أنا آسفة لا تغضب مني "
لم أشعر سوى بشفتيه قبلت خدي وهمس في أذني قائلا
" لست غاضبا حبيبتي لا تقلقي "
ثم غادر وأغلق الباب خلفه
*
*
بعد ساعة كنا خارجان من المزرعة بسيارتينا وغادرنا
المنطقة لأخرى تبعد ساعتين عن هناك , وصلنا ونزلت
أنا وبقي وليد بعيدا , استقبلني عند الباب الابن الأكبر للعائلة
تصافحنا ثم قال " تفضل يا سيد أنورت المدينة "
قلت بابتسامة " أنورت بساكنيها "
دخلت برفقته ليستقبلني شيخ كبير في السن وشابان
آخران , وقف بصعوبة فتوجهت نحوه أجلسته وقلت
" لا تتعب نفسك يا عم أنا من آتيك عند قدميك "
قال برحابة " ابن أشراف كما سمعت عنك فمرحبا بك عندنا "
صافحني الشابان وقال الأكبر " هذا عمي الأكبر كبيرنا وكلمتنا
عندما علم بقدومك اختار أن يكون في استقبالك معنا "
جلسنا وقلت بلطف " أطال الله في عمره وأبقاه فوقكم
ورحم والدكم ونعم الرجل كان "
تجلى الحزن على ملامحهم بسبب ما عانته هذه العائلة بعد
موته فقلت " من خلف ولدا صالحا ما مات "
نظر كل واحد منهم للأرض بضيق وحسرة فقلت
" طبعا تجهلون سبب قدومي لكم اليوم "
قال الأصغر " مؤكد من أجل التجارة , باعك وصيتك كبير
في تجارة الخيول لكننا لا نتاجر فيها "
قلت بابتسامة " لم آتي من أجل التجارة بل من
أجل النسب الشريف "
نظروا لبعضهم بصدمة واستغراب ثم قال أكبرهم
" وفي من !! "
جلت بنظري بينهم ثم قلت " مي وليس لديكم غيرها حسب علمي "
قال بتلعثم " لكن ... لكنك .... قد "
قلت بجدية " لكني أعلم ما حدث وما كان ولا يهمني وقلت
أريد نسبكم إلا إن رفضتم ذلك "
قال عمهم من فوره " ناسبنا خيار الناس وأنت فوقهم
ولكنك قلت أنك تعلم بما حدث لها وما قيل
وما مرغ سمعتنا في التراب "
قلت بهدوء " نعم أعلم "
قال " وهل ستطلقها لتزيد نكبتنا , احمل نفسك يا بني وأخرج
من هذه المعمعة كي لا تُغرق نفسك معنا في الشوشرة "
قلت " لن تكون هناك أي شوشرة أنا بعيد عن الموضوع
ولن يتحدث أحد عني "
قال الابن الأوسط " عذرا ولكن لما تفعل هذا "
قلت من فوري " دَين لرجل لا تعرفونه "
قال أكبرهم " أعذرنا لن تتصافى في ديونك بباقي سمعتنا "
تنهدت وقلت بجدية " بل لن تكون تصافي ديون , ابنتكم فوق
رأسي لن أضيمها ولن تمتد يدي عليها ولن يخرج ما تحدثنا فيه
من مجلسنا هذا حتى الموت ومهرها وجهازها كغيرها
وأفضل ومؤخر يضمن لكم صدق كلامي وأني لن أطلقها "
قال عمهم " لن تعجز عن دفع مؤخرها مهما كان كبيرا "
قلت " ومن قال أنه مال "
نظروا لي بعدم استيعاب فقلت " لن أطلقها إلا على عقد لها
على زوج غيري وبموافقتها ورضاها , من يكتب ورقة طلاقي
منها يكتب ورقة زواجها به ولن يكون ذلك قبل عام أو ستبقى
في ذمتي حتى آخر عمري أو عمرها "
كانت أعينهم ستخرج من الصدمة فقلت " إن وافقتم الآن
عقدنا الليلة ولكم أن تطلبوا رأي الفتاة وتتشاوروا ولن
أغادر إلا بكلمة قبول أو رفض "
قال أكبرهم بسخرية " وهذا ما بقي نأخذ رأيها "
تنهدت بقوة وقلت " لا تكونوا والزمن على شقيقتكم , ستخرج
من هنا معززة مكرمة وتعيش عندي بعزتها وكرامتها كما رباها
والدها وأقسم أنَّ رجلا مثله لن يربي فتاة تجلب العار لأهلها "
قال عمهم " سلم لسانك ومنطقك فكم قلت أن حق اليتيمة لن
يضيع, جعلها الله الزوج الصالح لك وكلمتي لن يثنيها أحد وقد
أعطيتها لك وسنعقد الليلة كما أردت ومتى ما حددت
موعدك تعال وخدها من بين الجميع "
وقفت وقلت " إذا على بركة الله , الوالدة متعبة ولا
يمكنها التحرك لكانت جاءت كما تستدعي الأصول
ولا شقيقات لدي وأنا الأكبر "
وقفوا وقال أكبرهم " وحدك تكفي وتزيد ولن
نقول شيئا بعد قول عمي "
قلت " أعذروني لديا موعد مع شخص هنا وسأوافيكم
عند المغيب نتفاهم وتضعون المهر الذي يناسبكم
ونكتب العقد والشروط أيضا فيه "
تنهد عمهم وقال " أي رحمة أرسلها الله لنا هذا اليوم أقسم
أن الناس أكلت وجوهنا وسلخت ظهورنا وبعد اليوم
لن يجرأ أحد على قول شيء "
ربتت على كتفه وقلت بابتسامة
" الله لا يُضيّع شرف الأشراف .... عن إذنكم "
ثم خرجت من فوري بعدما كتبت أول سطر في حياة فتاة لا
أعرفها وآخر سطر في حياة فتاة لست فقط أعرفها بل وأعشقها
حد الجنون فما سنقول في وجع القلوب وحكم أقدارنا غير
أن الواقع واقع وعلينا أن نعيشه فلم أنسى بعد كلمات الرجل
الذي لو أفنيت عمري ما رددت جميله وهوا يقول لي في
فراش الموت ( مي يا نواس لا أريد منك شيء ترد به
جميلي عليك سوا أن تخرج ابنتي من براثن أشقائها )
*
*
تقتلنا الهموم وتصفعنا حياتنا من كل صوب , أحيانا نقول هذا
قدرنا ولا مفر لنا منه والصبر قالوا أنه المفتاح الوحيد للفرج
وأحيانا نقول ما اختار الله لنا أمرا إلا وكان لنا فيه الخير
يبتلي عباده المؤمنين وجعل مع العسر يسرا
لم يتبقى لها شيء سوى هذه الكلمات النورانية ترثي بها
حالها بعدما أصبحت وصمة عار مجتلبة للنكسات فحتى
والدها هي المذنب الوحيد في موته وفي سجن شقيقها وحتى
تقلبات الجو باتت هي السبب فيها لأنها أصبحت الشيطان
والوباء المدمر التي لا تستحق الحياة وأي حياة هذه التي
يتبجحون بها عليها , تجلس على سريرها تحضن ساقيها
وتخبئ وجهها فيهما لأنها تخشى إن أخرجته تهب الرياح
المغبرة ويتهمونها بها , مسجونة في غرفة بنافذة مغلقه
بالحديد كي لا تقفز منها رغم أنهم موقنون أنها إن فعلتها
ستموت ومؤكد لا يخشون موتها , باب موصد لا يفتح
إلا من الخارج وليته لا ينفتح أبدا لأنه لا تدخل منه إلا
السموم, في عمر الزهور ابنة والدها الوحيدة بعد أربع
ذكور , المدللة الحنونة من تحملت جور زوجاتهم من
أجلهم لكن العقول لا ترحم والرجل الشرقي يتحول
لوحش أمام كلمة عار وعرض ولا يهتم للأسباب
* * * *
سمعتُ مفتاح الباب يدور فخبأت وجهي أكثر وانكمشت
على نفسي فمؤكد لن يدخلوا إلا لضربي من جديد أو إهانتي
ولومي , يا رب خذ روحي وارحمني فوحدك تعلم
بحالي ولديك فقط العدل بلا ظلم ولا جور , انفتح الباب
ثم أقترب صوت كعبي حداء يتبعه الآخر ليصلني صوتها
الساخر قائلة " مبروك يا فضيحة جاءك عريس "
لم أرفع رأسي ولم أتكلم فقالت الأخرى " بعد اليوم كل
الفتيات ستهرب مع الرجال ليحضوا بالعرسان "
أي عريس هذا بواب الشركة أم البستاني أو قد يكون
ملك الموت وأرتاح , قالت أسماء " ارفعي رأسك أقسم
أنك ولدتِ في يوم الحظ السعيد "
قلت ودموعي باشرت النزول " لو كنت ولدت فيه ما
كنتي أنتي هنا وأنا فيما أنا فيه ففيما ولدتِ أنتي إذا "
قالت بحدة " لا تلعبي معي بالكلام لأنك الخاسرة الوحيدة
ليته الليلة يأخذك معه لما يبقيك لنا بعد أن يتزوجك "
ثم ضحكت بسخرية وقالت " لا ومهر خيالي وجهاز
لن يكون عاقلا أبدا "
رفعت رأسي لها وقلت " تزوجيه أنتي إذا "
ضحكت وقالت " وهل تركت لنا شيئا إلا أشقائك بسمعتهم النتنة
فحتى إن تطلقنا منهم لن يرفعنا أحد لأنك كالوباء لطختِ الجميع "
رمت بعدها بيدها في الهواء وقالت مغادرة " عمك العجوز
يريدك في الأسفل بسرعة انزلي وعودي "
قلت بسخرية " ومنذ متى حررتموني من سجني لأنزل وحدي "
وقفت عند الباب وقالت " منذ قليل يا ابنة الحظ السعيد "
ثم غادرت تجر معها شبيهتها وتركت الباب مفتوحا على غير
العادة, نزلت من السرير وغيرت قميصي بآخر بأكمام طويلة
احتراما لعمي الذي لم يراني يوما دون حجاب فكيف أصبح
اليوم وصمة عار لهم جميعا , ولكي أخفي أثار الضرب
الوحشي الذي أتلقاه منذ أسابيع بلا توقف ولا رحمة
لبست حجابي وأنزلت التنوره لتلامس الأرض فهم لم
يتركوا مكانا بي لم يشوهوه , نزلت السلالم الضخمة التي
تتوسط المنزل الكبير وتوجهت لمجلس الرجال حيث سيكون
هناك وحده بالتأكيد , طرقت الباب ودخلت بهدوء وما أن
وقعت عيناي عليه حتى أدمعتا فورا فمد يده لي وقال
" تعالي يا ابنتي فلا يمكنني الذهاب لك بسرعة
فوقوفي بحسابه كما تعلمي "
ركضت ناحيته وجلست أمام ساقيه وقبلت يده وأنا أقول
ببكاء " إلا أنت يا عمي لا تكن مثلهم أرجوك فوحدك لي
بعد والدي ويكفيني منك ولو كلمة أنا أثق بك يا مي "
مسح على رأسي وقال " بل كثقتي بنفسي وقد نهيتهم
وأقسمت عليهم أن لا يضربك واحد منهم بعد ذاك
اليوم ولن يثنوا كلمتي بالتأكيد "
كيف أخبرك يا عمي كيف أقول لك أن ذاك اليوم كان
أرحم مما يليه رغم أني ذقت فيه ضربا تعجز عن تحمله
البغال كيف وهم هددوني كي لا أخبرك أمسك يدي
وقال " اجلسي بجواري لدي ما سأقوله لك "
وقفت وجلست بجانبه أمسح دموعي فقال بهدوء
" أحدهم خطبك اليوم وأنا أعطيت , كان عليا مشاورتك
لكنه رجل لا تُشاور عليه النساء وسأطمئن عليك لديه "
قلت بحزن ورأسي للأرض " لن يكون أسوء من حالي هنا "
لاذ بالصمت ولم يعلق فقلت " ومن يرضى الزواج بمثلي
كيف وثقتم برجل يتزوج بي مؤكد ورائه شيء يخفيه "
ثم رفعت رأسي ونظرت لوجهه وقلت " لو كانوا إخوتي
لقلت أنه لن يعنيهم أمري أما أنت فلن تفكر مثلهم بالتأكيد "
تنهد وقال " بالتأكيد لن أفكر مثلهم ولن أبيعك لأي أحد
فقط لنتخلص منك , إنه تاجر خيول كبير ومعروف
صحيح أنه دخل السوق من عامان فقط لكنه فاجئ
الجميع وسمعته كالمسك وخيوله تسمى في السوق بالخيول
المدللة فمن دلل الخيل لا يقسوا على النساء قطعا "
بقيت أنظر للأرض ودموعي تسقط في حجري الواحدة
بعد الأخرى فقال " مي يا ابنتي إن كنتي غير
راضية تصرفت في الأمر "
هززت رأسي وقلت " لن أثني كلمة قلتها له
ولقد تساوت عندي الأمور "
تنهد وقال " رجائي أن لا تندمي يوما ولا أندم على ثقتي
به لكنه اليوم أكد لنا أنه لم يأتي ليبيع ويشتري بفتاة سمعتها
ضاعت ويستغل الوضع بل وضع شرطا على نفسه
يربطك به كل العمر أو يحررك لأشرف منه "
مسحت دموعي وقلت " ولما يفعل هذا لماذا "
قال " لم يفصح عن السبب , إن تعبتِ معه
اتصلي بي فقط وسأرجعك منه لمنزل والدك "
وقفت وقلت " كما تريد يا عمي "
قال بهدوء " سنعقد عليكما الليلة وسيأخذك في وقت
لاحق, مهرك سيكون لك لا أحد يناصفك فيه إلا على جثماني
وسيدفع تكاليف جهازك فاشتري كل ما في خاطرك "
ابتسمت بألم وقلت " هذه الأمور لم تعد تعنيني فلقد
ضاعت أحلامي كأي فتاة بيوم كهذا اليوم "
ثم خرجت من فوري وصعدت لغرفتي ابكي حظي
والساعات الأخيرة لي قبل أن أصبح زوجة المجهول والله
وحده يعلم عجوز أم شاب وأي شاب سيفكر بي وأستغرب
حتى من كبار السن أن يقتربوا مني , طلبت الموت فهل
حقق الله دعائي وسيكون موتي على يديه , توجهت من
فوري لخزانتي وأخرجت الأوراق التي تُدخلهم لي الخادمة
خلسة منذ أيام ومكتوب فيها ( سأخرجك من هناك يا مي
أنا السبب فيما حدث وسأنقدك مما أنتي فيه )
ترى من صاحب هذه الرسائل وما علاقته بمن جاء
اليوم لخطبتي أم هي مجرد مصادفة ومن هذا السبب
أقسم لو أدركه أقطعه بأسناني
****************************************************
******************************************
عند دخولي اليوم للفصل بعد الفسحة فجعت بورقتي
على لوح الإعلانات , ورقة امتحان مادة الهندسة
التحليلية التي علقها الأستاذ نزار مليئة بالرسوم لقلوب
وكلمات غرامية مني إليه فتوجهت للوح ونزعتها بغيض
ونظرت جهة وجدان التي قالت بسخرية" هل رأيتم بأنفسكم
هي من نزعها فجدي لنفسك جواب حين سيسأل أين الورقة "
قلت بغضب " وأنتي من كتب هذا عليها أليس كذلك "
قالت باستعلاء " بل أنتي من فعل هذا "
ثم نظرت للطالبات خلفها وقالت
" هل قلت كلاما غير صحيح ؟ من يشهد معها "
سكتن جميعهن ينظرن لي بصمت فقالت بسخرية
" ستصل الورقة للمدير ومطرودة يا سما "
لن تصل للمدير ولكن المصيبة أنها ستصل للأستاذ , أي
فضيحة هذه وإن كان يعلم أنه ليس أنا من كتبها ولكن ما
أعرفه أن هذه الأشياء سيئة ولا تجوز , دراستك آخر ما
تبقى لك يا سما وما خسرته كان أعظم منها , توجهت نحوها
وأمسكتها من شعرها بكلى يداي ودخلنا في عراك شديد , سألقنها
درسا قبل أن أغادر علها تخاف من باقي الطالبات أو أخرجها
معي من المدرسة ويرتاح منها الجميع , بعد قليل جاءت
المصلحة الاجتماعية ومعلمتان معها لأن الطالبات أبلغوهم بما
يجري وطبعا حليفتا وجدان لأن الباقي تمنين لها هذا منذ زمن
فكوا شعرها من يداي بصعوبة وبعدها على الفور كنا في
مكتب المدير الذي صرخ من فوره " لا مكان في المدرسة
لكما ولا تشرح أي منكما ما حدث وتتعب نفسها وتبرر
بسرعة تخرجان من هنا "
قلت بهدوء " أعطني ملفي لأن لا أحد سيأتي لأخذه "
أخرجه من المكتبة ورماه على الطاولة بغضب فأخذته وخرجت
وتوجهت لخلف مبنى المدرسة انتظر وقت قدوم الحافلة لأني
لن أستطيع الذهاب سيرا فالمكان بعيد , جلست أبكي كل ما
حل بي منذ داست قدماي هذه البلاد , أبكي فقدي لعائلتي
ووحدتي وخوفي ممن يطاردونني وفقدي لدراستي لحبي
الشديد لها فأي عام سيضيع منها يضيع من عمري , كنت
أضن أن الخالة عفراء ستبقى بجانبي وتبحث لي عن عائلتي
ليأخذوني كما قالت لي وأن هذه المدرسة هي المكان الذي
ستجدني فيه حين تلقاهم لكنها اختفت مثل الجميع وتركتني
وحدي, بعد وقت هدأت من بكائي وتذكرت كلام والدتي
حين كانت تقول لي ( الله لا يموت ولا ينام يا سما يحمينا
ويرانا ويدافع عنا فلا يجب أن نخاف أو نحزن أو نشعر
بالوحدة والعجز ) وما هي إلا جزء من الثانية وكان
الأستاذ نزار قادم باتجاهي فوقفت من فوري متمنية أن أشق
الجدران وأهرب منها فقد يكون قادم لتوبيخي أيضا لعلمه
بالورقة وما فيها
*
*
فتحت الباب بالمفتاح لأني أعرف مكان وضعه له عند
الباب ليدخل أي من معارفه للبقاء مع والدته في غيابه أو
إلقاء نظرة عليها من حين لآخر, عليا أن أعلم منها هي إن
كان ما قالته رهام صحيح أم تكذب عليا لتبعدني عنه
إن كان صحيحاً فستكون والدته على علم بالتأكيد , أغلقت
الباب ودخلت بهدوء حتى وصلت حجرتها وطرقت
الباب فقالت بابتسامة " ادخلي يا دعاء يا ابنتي "
اقتربت منها وقلت " صباح الخير كيف أنتي اليوم "
قالت مبتسمة " الحمد لله مادمت جالسة بأحسن حال أما
إن تحركت عانيت من ألم ساقاي لبعض الوقت "
جلست أمامها وقلت " لا تتحركي إذا إلا للضرورة "
تنهدت وقالت " وهل أتحرك إلا للحمام وبصعوبة بالغة
كم حاولت ترتيب المنزل على الأقل ولم أنجح في ذلك
فيبقى نزار رجلا ولن يلتفت لكل الأمور الصغيرة , زوجة
عوني باركها الله لا تقصر في تنظيفه لكنها أم لأبناء صغار "
قلت بابتسامة " وما الذي أفعله أنا أتركي الأمر لي "
أمسكت يدي وقالت " أقسمت عليك بالله لن تفعلي فلم أتحدث
معك من أجل هذا , فقط كنت أفضفض عن خاطري "
قلت بلوم " لما حلفتِ يا خالة كنت سأفعل ذلك عن طيب خاطر "
قالت وهي تعدل جلستها على الوسائد " يكفيك مسئولية
منزلك وأخواتك , قريبة لي ستزورني هذه الفترة
لا تقلقي بشأن هذا "
نظرت للأسفل قليلا في صمت ثم قلت
" رهام قابلتي وتحدثت معي "
ساد الصمت من ناحيتها فرفعت نظري لها فكانت تنظر
لي بصدمة ثم قالت " وما الذي جاء برهام الآن !
أليست مسافرة منذ سنوات "
تنهدت وقلت " بل عادت منذ زمن وزارتني في منزلي
عدة مرات وآخر مرة أمس في المستشفى وكانت ..... "
قطعت كلامي فقالت بحيرة " كانت ماذا "
قلت بهدوء " كانت تريد مني معرفة إن كان نزار لازال يحبها "
بقيَت مصدومة لوقت وصامته ثم قالت " وما تريده من نزار بعد
كل هذه السنوات وهي من تركته وهما مخطوبان وتزوجت بغيره "
تنهدت وقلت " طلقها ذاك منذ مدة وبقيت هناك مع خالها
وأنهت دراستها وعادت الآن وعلى ما يبدوا تريد إرجاع
أوصال الحب القديم "
هزت رأسها وقالت بحزن " وما تريد منه الآن
بعدما تركته دون أسباب "
قلت بابتسامة سخرية " تقول أنه أخبرها أنه عقيم
ولن ينجب أبناء وترك الاختيار لها وطلبت
مني أن لا أخبر أحدا لكني أضنها تكذب "
نظرت لي برجفة وتغير لون وجهها وبدأت شفتاها بالارتجاف
فعلمت مباشرة أنه السكر ارتفع لديها فاقتربت منها وأمسكت
يدها وقلت " ما بك يا خالة أين حبوب السكر "
زاد العَرق في وجهها واصفرار لونها فأمسكت بهاتفي
برجفة واتصلت بالإسعاف
*
*
توجهت نحوها فوقفت من فورها وعادت بخطواتها للوراء
فأمسكت يدها وأرجعتها حيث كانت جالسة وقلت
" ما الذي حدث يا سما "
سحبت يدها مني وضمتها لصدرها وقالت ببكاء
" لا شيء سأترك المدرسة وانتهى أرجوك لا تسألني عن السبب "
قلت بحدة " ما الذي جعلكما تتضاربان وأنتي تعلمين أن القوانين
تطرد من يفعل ذلك تحت أي سبب كان "
مسحت دموعها وقالت " كان عليا تلقينها ذاك الدرس لأني
خارجة من هنا على كل حال وبمحض إرادتي "
هدئت نفسي لأني أعلم كم تخاف من الجميع وقلت بهدوء
" سما ما حكايتك ستخبرينني الآن وأنا من سيوصلك لمنزلك تفهمي "
هزت رأسها بلا وقالت " ستأتي الحافلة وتأخذني "
تنفست بقوة وقلت بهدوء " كل ما أريده مساعدتك فمما أنتي
خائفة وأين هم والداك وأين تعيشين , الآن أجيبي لأني
لن أتركك قبل أن أعلم "
بقت تنظر لي بصمت وريبة فقلت
" لا تخافي مني أقسم لن أؤذيك , فقط أريد مساعدتك "
قالت بتوجس " ولما تريد مساعدتي "
قلت من فوري " لأني متأكد من أن هناك خطرا يحدق
بك من خوفك من كل شيء "
قالت بريبة " وماذا إن كنت واحد منهم ؟ أنا لا أتق بك "
نظرت لها بحيرة وقلت " واحد ممن !! قولي من هم "
أغلقت أذناها بيديها وقالت برجفة ونظرها للأرض
" ممن يلاحقونني ويطرق بالعصا ليعلم أين مكاني "
كنت أنظر لها بصدمة وكأنني أشاهد فيلما وليس واقع
أمامي ,أمسكت كتفيها وأجلستها حيث كانت جالسة
وجلست بجانبها وقلت " سما لا تخافي مني أقسم أني
لا أعرفهم ولا أريد أذيتك فقولي ما حكايتك وسأساعدك "
نظرت لي بريبة فقلت بجدية " سأساعدك يا سما اقسم على ذلك "
قالت بتوجس " حقا ستساعدني "
هززت رأسي بنعم دون كلام على صوت رنين هاتفي في
جيبي فأخرجته ونظرت للمتصل بحيرة ... غريب ماذا تريد
دعاء الآن هل هي عند والدتي هل حدث لها مكروه يا ترى
فتحت الخط ووضعته على أذني وقلت من فوري
" مابك يا دعاء هل والدتي بها مكروه "
وصلني صوتها صارخة " نزار تعال بسرعة أنا في
الإسعاف والدتك ارتفع عندها السكر ألحقنا للمستشفى "
وقفت بسرعة مغادرا ثم التفتت لها وكانت واقفة , وضعت
يداي على كتفيها وقلت " ابقي هنا حتى أعود لا تتحركي مهما
حدث , والدتي متعبة وعليا المغادرة , لا تغادري
يا سما مهما حدث حسنا "
نظرت لي بصمت فقلت " عديني أنك لن
تغادري حتى أعود "
قالت بشبه همس " أعدك "
ثم غادرت ركضا وركبت سيارتي وتوجهت من فوري
للمستشفى تاركا المدرسة والحصص وكل شيء ورائي
وتوجهت إلى هناك من فوري , وجدت دعاء عند أول
الممر فوقفتْ ما أن رأتني فقلت بخوف
" مابها ما الذي حدث ؟؟ لم يرتفع لديها السكر قبلا "
قالت " ارتفع فجأة وبنسبة كبيرة يحاولون خفض معدله
وصل حتى الـ600وانخفض الآن للــ400 ستكون بخير
أعذرني لأني كنت خائفة ومرتبكة وقد أفزعتك "
قلت بخوف " هل ستكون بخير هل سيؤثر عليها مستقبلا "
قالت " لا أعتقد مادامت لم تعاني منه قبلا وليس لديها
مشاكل في ضغط الدم والقلب "
تنهدت براحة وقلت " هل استطيع رؤيتها "
سارت بجانبي وقالت وأنا أسير معها
" لازال سكرها مرتفعا ما أن ينخفض أكثر تستطيع الدخول لها "
بقيت هناك لساعات ألف على الأطباء واشرح حالتها
وأتأكد أنه لن يتسبب لها هذا بمضاعفات وأصررت عليهم
أن يجروا تخطيطا لقلبها وفحص لنظرها ودماغها ومر اليوم
أركض من ممر لممر ومن طبيب لآخر ولم يرتح لي بال
حتى اطمأننت عليها وسمحوا لي بزيارتها فدخلت لها
واقتربت من سريرها وقبلت يدها وقلت " ما الذي جعل
سكرك يرتفع , أمي لو فقط ترتاحي من الحركة "
قالت بابتسامة متعبة " لن يرتاح قلبي ولو ارتاح جسدي
نزار عد للمنزل وارتاح يكفي أنك أضعت
الحصص اليوم وتعبت النهار هنا "
وكأن تلك الكلمة أيقظتني من سبات عميق , حصص ومدرسة
و... , نظرت لها بصدمة وقلت " سما "
قالت بتوجس " من سما !! "
خرجت مسرعا وأنا أردد " كيف نسيتها كيف "
خرجت ركضا من ممرات المستشفى وركبت سيارتي
ووصلت عند باب المدرسة ثم نزلت ووصلت عنده
وضربته بقدمي لأنه مقفل بالقفل والوقت ليل يستحيل أن
تكون انتظرتني حتى هذا الوقت ولكني طلبت منها البقاء
تحت أي ظرف ترى هل تكون في الداخل وأغلقوا عليها الباب
ولم تتمكن من الخروج , عدت لسيارتي مسرعا وانطلقت
ساعدتها حقا يا نزار لو تركتها على الأقل عادت لمنزلها
مؤكد لن يقبل بها أحد بعد نهار كامل تقضيه في الخارج
آآآآخ هذا إن كان لها منزل أو عائلة , وصلت للمنطقة التي
يسكنها مدير المدرسة وتبعد النصف ساعة وهوا يسكن مقابلا
لجابر فهوا عمه, وصلت المنزل وضربت الجرس ففتح لي
ونظر لي بتوجس وقال " نزار ما جاء بك هنا ولما خرجت
من المدرسة ولم تجب على اتصالاتي !! لقد شغلتني عليك "
قلت من فوري " هاتفي بقي في فناء المدرسة وأريده
لأمر ضروري جدا هلا أعطيتني المفتاح الخارجي
فقط أرجوك سيد منصور "
نظر لي بحيرة ثم قال " لما لا تستخدم هاتفا
عموميا أو هاتف والدتك "
تنهدت وقلت " أريد هاتفي تحديدا الأمر مهم ويمكنك مرافقتي
لن أدخل المدرسة فقط مفتاح الباب الخارجي "
دخل في صمت وكل رجائي أن لا يرافقني هناك , خرج
بعد وقت ومد لي بالمفتاح وقال " اتركه معك حتى
آخذه منك في الغد لديا نسخة احتياطية "
قلت بامتنان " شكرا لك يا سيد منصور وكن على ثقة , فقط
سأخرج هاتفي وسأغلق الباب وأعيد المفتاح لك الليلة إن أحببت "
قال بابتسامة " لا تتعب نفسك غدا آخذه منك "
شكرته مجددا وغادرت ومن فوري ذهبت للمدرسة فتحت
الباب ودخلت متمنيا أنها أخلفت بوعدها وغادرت ولم تبقى
كل هذا الوقت هنا وفي نفس الوقت متمنيا أن أجدها لأنها إن
رحلت فلن تعود ولن أعلم من هم أولائك الذين يطاردونها
وما يريدون منها , توجهت من فوري لخلف المبنى ووقفت
مصدوما حين رايتها تجلس مكانها الذي تركتها عنده في
الصباح حين غادرت
****************************************************
******************************************
وقفت أنظر له مصدومة , من يضن نفسه هذا ومن يسمح
له بدخول منزلي في غيابي , أي فوضى هذه هل لأنه ضابط
جنائي يعطيه الأحقية في انتهاك حرمات الغير , آخر ما لديك
سمعتك يا أرجوان وهاهي تمرغت في التراب , وقف عندما طال
صمتي وتوجه للباب مجتازا لي وأغلقه فقلت ونظري يتبعه
" هل لك أن تشرح لي ما يجري أيها السيد المحترم "
وقف أمامي وقال " نتفاهم في مصلحة من تناديهم
بأبنائك إن كان أمرهم يعنيك "
قلت بحدة " وأين تضننا ؟ في بلاد الغرب , ينقص أن نشرب
النبيذ معا , أنت تعلم أنه منزل فتاة وحيدة ما سيقول عني
الناس وهم يرونك تدخل وتخرج "
قال ببرود " وما الذي قالوه وهم يرون سائق الحافلة
يفتح الباب ويدخل ويخرج "
قلت بذات الحدة " ذاك زوجته معه في الحافلة لأنها تدرس
في ذات المدرسة وينزل الأولاد أمام مرأى الجميع ويغادر "
قال بسخرية " هذا في مخيلتك فقط , أربع مرات دخل
فيها ولم يخرج قبل الربع ساعة "
بقيت أنظر له بصدمة ثم قلت " ولما يفعل ذلك !! "
جلس مكانه السابق وقال " اسأليه هوا وليس أنا "
بقيت أنظر له بصمت لوقت ثم قلت " والمطلوب مني الآن "
قال بجمود " تعلمين المطلوب ... تتحدثين معهم وفورا "
قلت بذات جموده " ما لديا قلته أخبرني عن أمور خاطئة يفعلونها
تحت مسمى أني من أباحها أو حرمها فأتكلم معهم حالا "
تنهد بضيق وقال " نحن لدينا نظام حياة مختلف فوالدتي لها
مظهر واحد تظهر به أمام الناس وتكره العبث وتخريب
النظام , قد لا تكون أمور خاطئة لكنها تراها كذلك "
ابتسمت ابتسامة جانبية وقلت " آه فهمت تريدونهم أطفالا كبارا إذا "
قال بتبات " شيء من هذا القبيل ولو في أغلب الأمور "
قلت بسخرية " أنتم كمن يحرث في البحر هل لك أن تقتنع أن
تتصرف كطفل هل يستوعب عقلك ذلك وهل توافقه , إن كنت
تفعلها الآن أمامي تأكد حينها أنهم سيفعلون ذلك ويتحولون
لكبار في ثوب أطفال "
قال ببرود " كنا أطفالا وتحكمنا في تصرفاتنا كالكبار "
قلت بجدية " والنتيجة "
نظر لي بنظرة حارقة وقال " وما تريني أمامك صعلوك
أم خريج سجون أم مهرج "
قلت بهدوء " أعذر وقاحتي لكني أراك صخرة "
وقف ينظر لي بغضب فقلت ببرود " لن أكذب عليك أو
أجاملك لا أعترف بطفل يوضع له نظام قاتل يقتله في النهاية
فيفشل في جميع نواحي حياته مهما كان ظاهره ناجحا "
قال بضيق " ما تقصدين بما قلته "
تنهدت وقلت " أقصد هل لك أن تشرح لي لما هربت حسناء
بأبنائها وأخفتهم عنك وهل يقتنع الأولاد الآن بما تطلبه مني , هل
تقربت لهم خلال هذه الفترة , جلست معهم لعبتم وضحكتم وعلمتهم
ما تريد تعليمهم بطرق يستوعبها الأطفال ؟ هل تعلم عن مشاكلهم
هل تجد لها حلولا غير رميها على الغير ليحلوها لك "
قال بضيق " لن تعلميني أنتي كيف أربي أبنائي والمجرمين
يتحولون لقطط بين يداي ... لا تغتري بنفسك "
قلت بهدوء " آسفة ولكن الأطفال ليسوا كالمجرمين عليك أن
تقتنع بذلك فلا يمكنك تشكيلهم كما تريد خصوصا أنهم عاشوا
وتربوا في غير البيئة التي تتحدث عنها الآن لأن النتيجة ستكون
مؤسفة وإن نجا أحدهم لن ينجى الاثنان الآخران , مستعدة الآن
لتنفيذ ما تريد لكن تأكد أنه لن ينجح الأمر ولن تنتهي المشكلة
فهم في النهاية بشر لهم عقول وليسوا حاسوبا فبالرغم من كل
جهودي معهم حتى الآن لم استطع تعليم ترف الأكل دون فوضى
والنوم لوحدها دون خوف وأن لا تغار من شقيقاها في كل شيء
وخصوصا أمجد فالكمال لا يصل إليه أحد هوا عند الله وحده "
عاد لهدوئه وقال " وما تريده والدتي ليس خاطئا وقابل للتجربة
هي جدتهم ويحق لها ذلك , أنا أتناقش معك كوالدة لهم وليس
فتاة غريبة عنهم فسلوكيات كثيرة غرستِها بهم تعجبني وما
كانت حتى والدتهم ستهتم بها "
تنفست بهدوء بعدما وصلت لمرادي , جيد علمت أنه من
هذا النوع يحتاج لعقل يتعامل معه وليس الغضب والحدة
والعناد, وكيف أستغرب هذا بل كان عليا توقعه منذ البداية
فضابط يتعامل مع القضايا ويحقق فيها ويفك غموضها
سيكون من الذكاء أن يفهمني دون كلام وأن يتحدث بما يأتي
له بالثمار فعلي التعامل معه من طبقته العالية في التفكير
قلت بهدوء " أطلب منك فقط أن تنظر للأمر من منظورك
أنت بقلبك وعقلك أنت يوم كنت طفلا إن رأيت هذا تستسيغه
نفسك يمكنك الآن أن تتصل لي بهم , وإن وجدت ريبة في
قلبك ولو ذرة فتيقن أنه لن ينجح ذلك وأنا تحت أمرك "
وقف في صمت وتوجه جهة الباب ليغادر فالتفتت له وقلت
" كنت أتردد في أن أطلب منك أن أتحدث معهم ولو مرة
ولو أسمع أصواتهم دون أن يعلموا بي لكني الآن
علمت أن ذلك مستحيل "
نظر لي مطولا بصمت ثم فتح الباب وغادر دون كلام
تنفست بقوة وأغمضت عيناي , لو نجح مخططي فسيتركني
أكلمهم بمحض إرادته كي لا يظهر أمامي بمظهر من تتحكم
والدته بتصرفاته وتربيته لهم , كان عليا اتخاذ الأساليب الملتوية
لأني إن قلت له حرفيا والدتك تتحكم بتربيتك لأبنائك لن تكون
النتائج مرضية أبدا , هذا الرجل التعامل معه أمر يتعب الروح
فحتى حركة حدقتي عيناه توتر من أمامه , لا أحسد حسناء
على السنين التي عاشتها معه فهوا يحتاج لعقل أكبر من عقله
ليسيطر عليه ويروضه فهذا الرجل لا ينفع للنساء أبدا
*
*
خرجت من عندها صفر اليدين وأنا من كنت موقن من أني
لن أخرج دون غرضي بالطيب أو بالإكراه , هذه الفتاة
وضعت عقلي في لحظة بين نقطتين صعُب علي ترجيح
إحداهما على الأخرى , لا أنكر أنني في طفولتي كنت
أخالف والدتي وقوانينها الصارمة أحيانا وبالخلسة لكني
مقتنع بما ربتني عليه وصنعت مني الرجل الذي أنا
أريد لكن أبنائي تربوا في غير البيئة التي ولدوا فيها
وأخشى أن تكون النتائج سلبية ونصبح ليس في معتصم
جديد بل أسوء منه فلن أتخيل أن يصبح أمجد مجرما في
المستقبل وأنا من عليا سجنه أو أن تنحرف إحدى الفتاتان
وأذهب بنفسي لاستلامها من قسم الشرطة , يبدوا أني لم
أعتد تحمل مسئولية أبنائي فلم أفكر لحظة أن أجلس معهم
ونلعب ونتحدث , هذه ترهات بالنسبة لي ولن أجد لها وقتا
ولم أعرفها في صغري وكبرت بدونها , كانت حسناء تلومني
دائما لأني أنجبت أبناء لا أراهم ولكنها مسئوليتها هل سأتحمل
معها حتى وظائفها في الحياة , كانت مشاكلي معها لا تنتهي
وما أن أدخل جناحي حتى تستقبلني من الباب ... أمك قالت
أمك فعلت أختك قالت أبنك فعل ابنتك فيها ولديها وتحملني
نتائج كل شيء حتى بات القصر بالنسبة لي جحيم لا أدخله
إلا ليلا لأنام بعدما أتأكد أنها نامت حتى فوجئت بها اختفت
وأبني وابنتاي وكانت النتيجة أن اختفت بهم لسنين , أوقفت
السيارة ونزلت ودخلت المكتب أخذت بعض الأوراق وانتقلت
بعدها لقسم الجوازات بالمطار كجولة تفقدية لسير بحتهم
وغادرت لموقع الشقة التي شهدت الجريمة الجديدة اليوم
وصلت هناك والشرطة تملئ المكان اجتزت الشرائط
الصفراء واقتربت منهم قائلا " هل أقترب أحد من شيء "
التفت لي الواقف أمامي وضرب التحية وقال
" كل شيء حسب الأوامر ولم نحرك شيئا "
اقتربت من جثة السيدة الملقاة أرضا نزلت عند مستواها
كان الدم يملئ شفاهها أمسكت ذقنها وفتحتهما يبدوا تلقت
ضربة قوية على المعدة أو الصدر لكنها لن تكون سبب
الوفاة بالتأكيد قلبت الجثة وكما توقعت كسر في الرقبة أي
وحش هذا الذي يفعل هكذا , وقفت وقلت " انقلوها لقسم التشريح
ووافوني بالنتائج فورا وأريد الشهود عندي في المكتب , توجهت
لداخل غرف الشقة وكل شيء مرتب ليست السرقة الغرض إذا
ولم يفكر القاتل في فعلها كتمويه , اقتربت من المطبخ كان ثمة
كوبا قهوة في صينية تقديم اقتربت وتفحصت الفناجيل , يبدوا
أنها شُرِبت منذ وقت واستقبلت ضيفة من أحمر الشفاه على
الكوب ويستحيل أن تفعل امرأة ذلك بها , خرجت لهم وقلت
" ثمة من زارها اليوم تقصوا من الشهود والجيران عن
الأمر واسألوهم من يزورها دائما و أوفوني بما جمعتموه الآن "
قال وهوا ينظر للورقة في يده " اسمها حياة عامر القصدي
أرملة لديها ابنة متزوجة وتعيش في منطقة بعيدة وابنان
متزوجان أحدهما يسكن قريبا منها ولديها شقيقة وشقيقين
الجيران يتحدثون عن إرث من زوجها ومشاكل مع عائلته
حوله ومشاكل بينهم وبين ابنيها "
قلت مغادرا " أغلقوا الشقة وامنعوا دخول أي أحد لها
أوفوني بأبنائها لمكتبي وكل من اشتبه الجيران بدخوله لها اليوم "
وقضيت النهار في القسم بين هذا وذاك وغيره وعند نهاية النهار
عدت لمدينتي ودخلت القصر منهكا تماما ولكني لم أرهم
منذ يومان وعليا رؤيتهم , اقتربت من غرفة الفتاتين لأن
أصواتهم تخرج من هناك فهم لا يفترقون أبدا إما في غرفة
أمجد أو هوا معهم حتى أنه لا يتضايق من وجودهم ولا من
عبثهم بأشيائه رغم أنانية ترف حياله هوا تحديدا ودونا حتى
عن بيسان , اقتربت من الباب وكانت ترف تجلس معطية
ظهرها لي وبيسان تنام على بطنها على الأرض تلعب
بقدميها في الهواء وأمامها كتاب لقصص مصورة وأمجد
يجلس على مكتب بيسان في الغرفة ولا أحد منهم مقابل لي
سوى المربية التي أشرت لها بأصبعي أن تسكت لأن ترف
كانت تمسك جهاز التحكم الخاص بالتكييف وتضعه على
أذنها وكأنه هاتف وتقول " مرحبا ماما هل أنتي بخير أين
أنتي لم تأتي , أمجد ضربني اليوم أليس هوا رجل والرجل
لا يضرب الفتيات تعالي وعاقبيه , ماما العيد قريب هل ستأتي "
ثم سكتت لوقت وقالت " نعم بيسان بجانبي ها هي "
ثم رمت لها بالجهاز وهي تقول
" ويلك من ماما يا بيسان قالت ستغضب منك كثيرا "
ضحكت بيسان وقالت " هذا ليس هاتف لن تخدعيني "
آآآه حتى متى سيخفون مشاكلهم لتحلها هي لهم وما هذا الذي
فعلته بيسان أيضا , لا اعلم أي سحر ألقته في قلوبهم كي تعلقوا
بها هكذا وبجنون , تنهدتْ بيسان وقالت " ترى هل ستأتي ماما في العيد "
قال أمجد " مؤكد ستأتي وتكون معنا ككل عيد "
قالت ترف بمرح " وستشتري لنا الملابس التي نحبها وتأخذنا
للسوق وتوقظنا في الصباح وتقبل جبيننا وتهنئنا بالعيد "
قالت بيسان بسرور " نعم ونخرج للحديقة ككل عيد ونلعب كثيرا
ونزور خالة سوسن ونلعب مع ماجد وعبير وستشتري لنا هدايا
غير هدايا والدتنا ونلعب بالبالونات ونملئ بها المنزل "
هل ينتظرون كل هذا في يوم العيد ! يالا مخيلتهم فأنا أكون
في مكتبي في القسم حتى في هذا اليوم ووالدتي لن تفعل هذا
ولا زهور ولا المربيات , سنكون في مشكلة كبيرة ذاك اليوم
بالتأكيد, فتحت الباب أكثر ودخلت فوقفت ترف مبتسمة
وتوجهت نحوي فرفعتها إلي وقبلت خدها ثم أنزلتها وقلت
" المربية تشتكي منك يا ترف هل تريدين أن اغضب منك "
قالت بعبوس " هي سيئة لا تحفظ حكايات ولا تحب أن تلعب معي
لعبة الأصابع ولا تتركني استحم بنفسي ... أمجد ضربني بابا "
غريب لأول مرة تشتكي لي من أحدهما ! نظرت جهة
أمجد وقلت " لماذا ضربتها "
وقف من الكرسي وقال " خطت بالقلم في كراستي "
نظرت لها بضيق فقالت بحزن " ماما كانت تعطيني
ورقة من كراسته لأكتب فيها , هوا لا يريد الآن أن يعطيني "
تنهدت بضيق وقلت " أليس لديك كراسة وقلم وكتب تلوين وكل
ما يلزمك فما حاجتك بورقة من كراسته "
قالت بتذمر " بل من كراسته ... لا أريد التي لدي "
تأففت وقلت " بيسان أجلسي جيدا بسرعة "
جلست ثم نظرت لي وقالت
" أريد فستانا أحمر من أجل العيد أخبر ماما تحضره لي "
قلت بجدية " سيأخذكم السائق والمربية والحراس لتشتروا ما
تريدون, انتهى هذا الأمر عند هنا ولا نقاش فيه "
فتحت فمها لتتحدث فقلت بأمر
" ولا كلمة يا بيسان ستختارينه بنفسك ألن يرضيك هذا "
قالت عبوس " ولكن ماما تحضره لي من المصنع كما أحبه
لا أحب تلك التي في السوق "
قالت ترف وهي تنظر للأعلى حيث وجهي
" هل ستأتي ماما في العيد "
قلت ببرود " هي مشغولة في عملها وقد لا تأتي "
أمسكت جهاز التحكم المرمي أرضا وقالت
" سأتصل بها وأخبرها أن تأتي "
هززت رأسي بيأس وأخرجت هاتفي وجلست معهم على
الأرض وقلت " سأتصل لكم بها الآن وتتحدثون واحدا واحدا
ولا تذكروا مشاكلكم التي لا تنتهي مفهوم أو لن تروها في العيد "
قالت بيسان بفرح " حقا سنكلمها "
قفز أمجد جالسا أمامي واحتضنت ترف جسدي من الخلف وهي
تقفز فقلت " ترف أجلسي معنا هنا أو لن تستطيعي محادثتها "
دارت أمامي ووقفت بين بيسان وأمجد وجلست بينهما تحرك
جسدها لتجلس بينهم فدفعها أمجد وقال " ابتعدي يا ترف "
ابتعدت بيسان جانبا وهي تقول " احترموا الإمبراطور يا همجيين "
لم أستطع إمساك ضحكتي وقالت ترف " ستري إن لم أخبر
ماما الآن , ألم تخبرك أن لا تقولي عنا همجيين "
قالت بيسان " وأنا سأخبرها أنك .... "
قلت بضيق " يكفي أو لن تتحدثوا معها "
سكتوا عن الكلام نهائيا فاتصلت بها وأجابت بعد وقت بأن فتحت
الخط في صمت فشغلت مكبر الصوت ووضعت لهم الهاتف
أمامهم فبدئوا يتحدثون معا وترف تبعد رأسيهما لتتحدث هي
فقلت بحدة " ترف "
توقفوا جميعهم عن الكلام فقلت بغضب " ما هذا الذي تفعلنه "
قالت بدمعة محبوسة " أريد التحدث مع ماما "
جاء حينها صوت أرجوان من الهاتف قائلة
" ترف ماذا نفعل حين يغضب منا والدنا "
قالت بحزن " آسفة بابا لن أفعلها مجددا "
قالت " لن أسامحكم على إغضاب والدكم وسأغضب
منكم ولن أكلمكم "
قالت بيسان من فورها " لا ماما نحن لا نغضبه ترف فقد تفعل "
جاء صوتها قائلة " سأغضب منك يا ترف "
قالت ودمعتها سقطت من عينها " لن افعلها مجددا أقسم لك "
جاء صوتها " أمجد كيف أنت بني "
قال بابتسامة " بخير ماما وأدرس جيدا وأستحم كل يوم , الحمام
هنا كبير وجميل لكنهم لا يسمحون لنا باللعب فيه "
قالت من فورها " بيسان بنيتي كيف أنتي "
وتجنبت طبعا أن تخبرهم أن ذلك خطأ ولا يفعلوه , قالت
بيسان " بخير ماما متى ستأتي ؟ هل ستأتي في العيد "
قالت " لا اعلم ... لا تتعبوا جدتكم ووالدكم وكونوا عاقلين حسننا "
قالت ترف " أنا أنا ماما كيف حالي "
ضحكت وقالت " كيف حالك يا ترف "
قربت وجهها من الهاتف وقالت " بخير ماما "
قالت " لا تتعبي والدك بنيتي أو غضبت منك تسمعي "
قالت من فورها " لا والدي لا ... المربيات بلى "
سكتت وكأنها اختفت من الوجود ثم قالت
" هل المربيات من يعتنون بكم "
قالت ترف " نعم ... لا أحبها ماما ليست مثلك "
قالت بحدة " عيب يا ترف كيف تقولين هذا
أنتي متعبة ولا تتغيري "
قالت ببكاء " لا أريد لا تغضبي مني "
لاذت بالصمت فقالت بيسان " مشتاقة لك ماما متى
نراك ونعود لبيتنا "
قال أمجد " وأنا كذلك تعالي في العيد أرجوك "
سكتت سوى من صوت شهقتها الباكية ثم أغلقت الخط
نظروا لبعضهم ثم لي وقالت ترف " أين هي !! "
رفعت هاتفي وقلت " انقطعت المكالمة ستحدثونها لاحقا "
امتلأت عينا بيسان بالدموع وقالت
" لا هي لم تجبنا إن كانت ستأتي في العيد "
قلت بضيق " انتهى عودوا لما كنتم تفعلونه
هيا أو لن تكلموها ثانيتا "
وقفت وغادرت من عندهم وتوجهت لجناحي , يبدوا
المشكلات لن تنتهي , دخلت الغرفة استحممت ولبست ملابس
النوم ونمت من فوري بسبب الإنهاك
*
*
قلت وأنا أصعد الدرجات الطويلة القليلة
" لا لن أتأخر سأتحدث معك لاحقا انتظر اتصالي "
قال ضاحكا " إن لم تكن هنا عصرا قصفت قصركم "
ضحكت وقلت " لا يا رجل ومن أي جبهة "
قال ببرود " معتصم لا أمزح , علينا إنهاء ذلك بسرعة "
قلت من فوري " حسننا وداعا الآن "
دخلت القصر حاملا كيسا كبيرا في يدي وكانت العائلة السعيدة
تتناول الفطور معا فوقفت بالمقربة منهم وقلت
" بيسان تعالي لتري ما جلبت لك "
قفزت من الكرسي تركض نحوي , هههه ستخنقها والدتي
بالتأكيد لمخالفتها الأصول واللباقة وسيصيب هؤلاء الأطفال جدتهم
بالجنون ويخرجون بحق الجميع منها وابنها , وقفت أمامي وقالت
" ماذا أحضرت لي ؟؟ "
قالت أمي بحدة " بيسان "
التفتت لها فقالت " وهل الماما من تسمح بترك
طاولة الطعام قبل الانتهاء منه "
قالت بهدوء " لا "
قالت بسخرية " وكيف خالفتِ الدستور المقدس لديك "
كان جابر في صمت تام ويبدوا والدتي ترميه هوا بكلامها
أمسكت يدها وقلت " هيا كونتيسة علينا تناول الفطور أولا "
عدت بها جهة طاولة الطعام وأجلستها بجواري فقالت ترف
" أنا بجوار عمي معتصم "
نظرت لها والدتي وقالت " ترف كم سنعيد هذا "
قالت بعبوس " ولكني كنـ.... "
قالت أمي بحدة " كنتي وكان وكله في الماضي ولا يجب أن يكون هنا "
لاذت بالصمت فقلت بابتسامة " في المرة القادمة أجلس بجوارك حسناً "
ابتسمت وقالت " وتحضر لي كيساً مثلها "
ضحكت وقلت " بالتأكيد "
وقفت والدتي وغادرت متضايقة وقالت وهي تبتعد
" جابر وافني في غرفتي ما أن تنهي فطورك ومعتصم معك "
نظرت لي بيسان وقالت " ماذا ستفعلون "
ضحكت وهمست لها " سيرقصان على جثتي "
ضحكت ضحكة صغيرة وقالت " وأين تخبئ زوجتك "
ضحكت كثيرا ثم قلت " جثتي وليس زوجتي "
قال جابر " ترف توقفي عن اللعب بالزيتون حالا "
قالت بمرح " كنت أعدها فقط "
ضحكت وقلت " وكم وجدتها "
قالت من فورها " كثيرة "
قلت بجدية " ولكن اللعب بالطعام خطأ صحيح "
قالت بهدوء " صحيح لكني أحبه هكذا "
قال جابر " كلي بترتيب أو عاقبتك يا ترف "
قالت بحزن " حاضر "
جاءت إحدى الخادمات وقالت بهدوء " سيد جابر المدرسون وصلوا "
قال من فوره " حسننا أدخلوهم لمكتبي وسأقابلهم الآن "
ثم وقف وقال " اسبقني لجناح والدتي وسأوافيك فورا "
قلت ببرود " لا بل سأنتظرك في الاستقبال في الطابق هناك "
توجه هوا جهة مكتبه وصعدت أنا من فوري
*
*
توجهت لمكتبي حيث ينتظرني مدرسا أمجد وبيسان
هناك, دخلت وألقيت التحية وتوجهت للمكتب وجلست
على الكرسي وقلت " سألت بنفسي عن مستواهما في مدرستهم
السابقة ... بيسان كانت متفوقة في الرياضيات وأمجد كان
مستواه فوق الممتاز , آنسة وجد هلا فسرتِ لي سبب
تأخرها وأنت هل لاحظت عليه شيء في تدريسك له "
قالت بهدوء " ذات المشكلة سيدي لا تفهم مني أبدا مهما حاولت
وتقول أن والدتها تشرح لها عن جنود ومملكة وإمبراطورية
لا أعرف عن ذلك شيئا ولم أدرسه حياتي "
تنهدت وقلت " هذا الشيء لا يدرسونه في المدارس ولكن
تلك الحقبة الرومانية تسيطر على عقل بيسان فعليك
استغلال هذه النقطة "
هزت رأسها وقالت " حاولت ولم أفلح حاولت فقط أن أفهم
منها طريقتها معها ولم ننجح أبدا , لا حل سوى إرجاع الفتاة
لوالدتها قبل فوات الأوان "
قلت بحدة " واضربيني بالعصا لتعلميني ما أفعله في حياتي "
أخفضت بصرها وقالت " آسفة لم أقصد "
نظرت للذي بجانبها وقلت " وأمجد "
قال بهدوء " يرفض التجاوب معي , كل شيء يقول طريقتك
خاطئة هذا خطأ لم أفهم لم أتعلم وكأني أنا الطالب لديه , هوا
يرفض الفهم وليس أنا من أقصر في تعليمه دروسه "
قلت بضيق " أريد أن أفهم أمرا ... كيف يكون مستواهم في
مدرستهم الجديدة سيئا هكذا ومدرستهم السابقة متفوقان فيها وهي
كانت مدرسة حكومية وبدون مدرسين خصوصيين ولا مشاكل كهذه "
قالت بهدوء " فعلت ما في وسعي ولم أنجح , المواد الأخرى نسير
فيها بشكل جيد الرياضيات لم أعد أعرف حلا لها "
قلت بضيق " وما الفائدة إن كانت مادة سيئة ستضيع كل المواد "
ثم تنهدت وقلت " يمكنكما المغادرة الآن "
خرجا من فورهما ومسحت وجهي بيداي وتنهدت بضيق
كنت أهرب للقصر من هموم عملي وها قد بات هوا أيضا هم
جديد ولم يعد لدي أي مكان يجلب الراحة , وقفت وغادرت المكتب
متوجها لجناح والدتي , صعدت السلالم فأوقفني صوت بيسان قائلة
" بابا أنظر "
التفتت للخلف وقلت بصدمة " من أين لك بهذه الثياب !! "
قالت وهي تلف بفستانها ممسكة القبعة بالشعر المستعار بيد
والأخرى تمسك مضلة صغيرة " لورد معتصم أحضرها لي "
تنهدت بضيق لا أعلم من أي متحف تحصل على هذه وعلى
حجمها تماما, قلت " إلى غرفتك كي لا تراك جدك وتغضب "
قالت بحزن " هل هي ليست جميلة "
ابتسمت وقلت " بلى جميلة بسرعة العبي بهم هناك "
قالت وهي تلعب بالمضلة " قل لماما لا تحضر لي فستان العيد "
قلت بضيق " بيسان هذا تلعبي به في غرفتك في العيد لا
تلبسي هكذا وكأنك خارجة من فيلم قديم "
مدت شفتيها باستياء فقلت " لا يجوز أن تظهري هكذا أمام
العائلة والأصدقاء لأنهم سيجتمعون هنا حينها وجدتك
ستغضب وسيضحكون عليك "
قالت بتذمر وهي تضرب بقدمها الأرض " بلى أريد هذا "
قلت بأمر " قلت لا يعني لا وعودي لغرفتك بسرعة "
غادرت تمسح دموعها وتابعت أنا سيري أتأفف بغضب
ودخلت جناحها ولحق بي معتصم الذي كان يجلس خارجه
دخلنا وجلست بجوارها ومعتصم أمامنا فقالت بجدية
" ثلاث سنوات ضاعت عليك إن كنت لا تدرك "
قال ببرود " بل وشهران وخمسة أيام أعلمهم بالعدد
ولن أسامحكم عليهم "
قالت بضيق " ومن ضيعهم غيرك لقد خيرناك بين
ثلاث تخصصات ورفضتهم "
قال ببروده ذاته " أدرس ما أريد أو لن أدرس "
قالت بغضب " وهل تعي من هوا الخاسر , إنه أنت يا معتصم
من المفترض بك أنك تخرجت الآن بدلا من أن تعيش
عالة علينا وعلى غيرنا "
وقف وقال بحدة " أنا لا أعيش عالة على أحد هذا قصر والدي
وأمواله ولا أحد يمن عليا باللقمة وهناك مرحب بي في كل
وقت ولا أحد ذكرني أني عاله عليه كما تفعلون يا عائلتي "
قالت بغضب أكبر " معتصم متى ستضع عقلك في رأسك "
قال بجمود " أتركوني أعيش كما أريد هذا هوا العقل في الرأس "
خرجت من صمتي وقلت بجدية " معتصم ذاك
التخصص لا يليق بك ولا يناسبك "
أشاح بوجهه جانبا وقال " لستم أدرى مني
بنفسي ثم ما فيه يعيب "
قالت أمي بحدة " كلية الفنون يا معتصم نهاية ذكائك
وتفوقك وسمعة عائلتك "
قال بتحدي " ولن أدخل غيرها وما بها كلية الفنون تعرفون
أني أحب هذا المجال من صغري , والدي نمى
مواهبي وأتيتم أنتم لتقتلوها "
قالت بسخرية " يعجبك حالك تعيش في مزرعة خيول
ترسمهم ليل نهار "
قال بحسرة " حتى الخيول تشعر بي أكثر منكم "
قلت بحزم " علينا أن نجد حلا لهذه المسألة الآن إما تدرس
ما تريد أو ما تريد والدتي , أما أن توقف دراستك
لسنين أخرى هذا لن أرضاه بعد اليوم "
كل ما كنت أخشاه لحظتها أن تقول والدتي إن درس ما يريد
لا هوا ابني ولا أعرفه ولا أريد أن أراه لأني أعرف معتصم
وعناده جيدا سيخرج من هنا ولن يعود لكنها خانت كل توقعاتي
ودخلت غرفتها وأغلقتها خلفها فنظرت له وقلت " معتصم عنادك
هذا لم يأتينا إلا بالمشاكل , ما في الأمر إن درست ما تريد
هي وموهبتك بقيت كما هي عليه "
قال بسخرية " لن ترضى وقتها حتى بريشة الرسم هنا وغير
ذاك التخصص لن أدرس وبغير إكمال دراستي في الخارج
لن أرضى ولن يمنع ذاك إلا موتي "
وقفت وقلت بحدة " هل ترضى أنت أن تربي ابناً
ثم يخالفك حين يكبر "
قال ببرود " التربية شيء وقتل الأحلام شيء آخر "
قلت مغادرا " هذه المشكلة الأولى تخلصنا منها أخيرا
سجل في الجامعة والتحق بها بدلا من ضياع سنينك أكثر
رغم أني لازلت لا أتمنى لك ذلك "
خرجت بعدها من القصر برمته وذهبت للقضايا والموتى
والمجرمين فهموم أرحم من هموم , على الأقل أولائك إما
ميتين أو مجرمين ترميهم في السجن وترتاح ويرتاح رأسك
*
*
لا أعلم كيف أقنع عيناي أن تشبع من النظر هناك
هل تجوع العينان يا ترى وإن كانت كذلك فلما لا تشبع
وتكتفي, هي كما هي لم يتغير فيها شيء سوى حزنها المغلف
بالبرود والصمت ... تقف في شرفة غرفنها , رحمتني أخيرا
وخرجت رحمت ساقاي من الوقوف وانتظارها بالساعات
تقف بفستانها الطويل والشرائط السوداء عند أول خصره
الخصلات الذهبية المتناثرة والأنامل البيضاء تعبث بأزهار
الشرفة, كما كانت دائما حبيبتي تعشق أزهار شرفتها وتغدقهم
من عطرها ولمساتها , كم زهرة أهديت إليك وكم مرة أخبرتني
أنك تعشقين اللون البنفسجي من الأزهار , كم جمعتهم لك وكم
حملتهم إليك حتى باتت حياتي كلها بنفسجية اللون والعيون
كلها عندي زرقاء والشعر إن لم يكن أشقر فليس بشعر
كم امتلكتني رغم أني لم أمتلكك وكم عبثي بمشاعري رغم أنك
لا تعترفين بالحب وكم كنتي حلمي رغم أنك لم تخرجي سوى
من الحلم, مررت أناملي على زجاج النافذة التي أختبئ خلفها
وكأني أتلمس صورتها وكأني أريد أن أتأكد من الوهم أنه خيال
فهي باتت كخيال الخيال , لماذا تزوجتِ به يا زهور وأنتي
تعلمي أن ذاك سيكون مصيرك معه لماذا قتلتني مرتين مرة
بالزواج بغيري ومرة برؤيتي لك تعانين منه بسببي, لماذا وأنتي
تعلمي كل ذلك ... كيف ألقيت بنفسك للجحيم !!
لم تترك عيناي تشبع منها بل لم يتركوها لي لأنها التفتت بسرعة
جهة باب الشرفة حيث أحدهم قد اجتاح عزلتها فغادرت بخطواتها
تتبعها حواف فستانها ودخلت وأغلقت أمام عيناي المشتاقة
ذاك الباب, أبعدت نظري عن الطيف الذي مات مع النور
ونظرت للأوراق الممزقة في يداي , لكم تعشقين تمزيقي
يا زهور , لما تقرئين كلماتي ثم تعودي وتمزقيها
" رضا "
التفتت للخلف حيث مصدر الصوت يد في جيب بنطالي
ترفع أحد طرفي قميصي الخارج منه بإهمال ويد تمسك
شراييني التي تَمزق جزء منها ثم قلت بهدوء
" نعم يا أميرة "
قالت بابتسامة " الغداء جاهز اتصل بك منذ وقت ولا تجيب "
نظرت جهة الطاولة حيث هاتفي صدقوا أني لم أسمعه , نظرت
لها وقلت " كنتِ أرسلتِ لي بتول أو عمر لما تتعبين نفسك "
قالت بابتسامة " وأي تعب هذا ! زيارتك لي تساوي عمري كله "
اكتفيت بالابتسام ونزلت معها بعدما وضعت الأوراق في حقيبتي
فلن تفارقني ما حييت يكفي أنها باتت الذكرى الوحيدة منها
*
*
وضعت قطعة القماش من يدي وقلت
" يبدوا أنني بدأت أفكر جديا في الدراسة "
رفعت رأسها عما في يديها ونظرت لي وقالت بسرور
" وأخيرا وضعتِ عقلك في رأسك "
ضحكت وقلت " وهل ترينني مجنونة , لكن عليا أولا
أن أراجع المناهج التي نسيت أغلبها وسألتحق كمنتسبة
بالامتحانات فقط لأنه لن يتناسب عملي ودراستي ولا
يمكنني خسارته لأنه دخلي الوحيد "
قالت بابتسامة " أراك بثي أفضل بعدما تحدثي مع
الأطفال درجة أنك فكرتي في الدراسة "
قلت بابتسامة حزينة " شعرت أن جزءً مما ضاع مني قد عاد "
تنهدت وقالت " جيد أنهم لم ينسوك لكانت صدمة كبيرة لك "
قلت من فوري " هي مدة قصيرة كيف ينسوني بسرعة هكذا "
قالت بابتسامة " غيرهم وجدوا أنفسهم في ثراء فاحش وعالم
جديد ينسون حتى أنفسهم "
قلت بسخرية " أولئك الكبار يفعلونها الأطفال لا "
ضحكت وقالت " معك حق "
ثم وقفت وقالت " انتهينا أخيرا هيا بسرعة أكاد أنام في مكاني "
ضحكت وقلت وأنا أقف معها " ألا تشبعين من النوم أبدا "
قالت بضيق ونحن نخرج " وهل يترك الأطفال لك وقتا للنوم "
وتابعنا سيرنا كالعادة من حديث لآخر حتى وصلت المنزل وفتحت
الباب ودخلت ثم نظرت تحتي مستغربة , قطعة السجاد هذه لم تكن
هكذا يبدوا أحدهم سحبها بقدمه وهوا داخل !! اقتربت للداخل بتوجس
فوجدت المشهد ذاته قد تكرر السيد المحترم رئيس مكتب الشرطة
الجنائية يجلس على الأريكة في الصالة , لا ويمسك جهاز التحكم
الخاص بالتلفاز ويقلب القنوات وكأنه في غرفته , نظر لي ثم عاد
بنظره للتلفاز وقال " قهوتي متوسطة "