كاتب الموضوع :
بنت أرض الكنانه
المنتدى :
ارشيف خاص بالقصص غير المكتمله
رد: حمامة الأرباش الفصل الخامس عشر
البارتوت الأول من السادس عشر
احب اشوف توقعاتكم وشكرا جزيلا لكم
وكما ترون قلة الردود تتسبب في تباعد الفترة بين الفصول لاني بزعل وانا مش ماكينة
ادعموني بلايك بكومنت اي حاجه بس بلاش الصمت الرهيب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الخاطرة من اشعار فاروق جويدة
ما زلتِ غاضبة مني
*حليمة*
حليمة لرأفت
((مازال في قلبي بقايا .. أمنية
أن نلتقي يوماً ويجمعنا .. الربيع
أن تنتهي أحزاننا
أن تجمع الأقدار يوماً شملنا
فأنا ببعدكَ أختنق
لم يبقى في عمري سوى
أشباح ذكرى تحترق
أيامي الحائرة تذوب مع الليالي المسرعة
وتضيع أحلامي على درب السنين الضائعة
بالرغم من هذا أحبك مثلما كنا .. وأكثر
القلب يا دنياي كم يشقى
وكم يشقى الحنين
يا دربنا الخالي لعلك تذكر أشواقنا
في ضوء القمر
قد جفت الأزهار فيك
وتبعثرت فوق أكف القدر ..
عصفورنا الحيران مات .. من السهر
قد ضاق بالأحزان بعدكَ .. فانتحر
بالرغم من هذا
أحبك مثلما كنا .. وأكثر
في كل يوم تكبر الأشواق في أعماقنا..
في كل يوم ننسج الأحلام من أحزاننا..
يوماَ ستجمعنا الليالي مثلما كنا ..
فأعود أنشد للهوى ألحاني
وعلى جبينك تنتهي أحزاني..
ونعود نذكر أمسيات ماضية
وأقول في عينيك أعذب أغنية
قطع الزمان رنينها فتوقفت
وغدت بقايا أمنية
أواه يا قلبي ..
بقايا أمنية))
في بهو القصر الفسيح الذي ابتاعه ناصر
كانت مستلقية على مقعد هزاز تسند رأسها عليه وتُسْدِل أهدابها، وتنصت لأغنية قديمة تبعث فيها ذكريات أثيرة عزيزة، انتزعها من صدى ذكرياتها صوته الساخر وهو يتخصر ويهتف متشدقا :" من الرائع هذا السلام النفسي الذي تحيين فيه!!!"
وصفق بأكفه وكأنه يصفعها بلا هوادة ويعيدها لقتامة حياتها بمنتهى الفظاظة
تداخلت أعينها مع خاصتيه وعقبت بهدوء وهي مثبتة النظر عليه :" تتمناه ولا تطوله.... فقط لا يهدأ لكَ جفن حتى تنتزعه ممن يحوذه!!!!"....
افترش مقعدا مواجها لها وسألها وهو ممحور بصره عليها :" لن تسامحيني يوما... أليس كذلك؟؟؟"
أجابته وهي تمط شفتها وتغالب ترقرق عبراتها :" صدقني... أنا أشفق عليك.... أنت مسكين يا ناصر.... ولكن لا.... أنا لن أعفو عنك يوما"..... وهزت رأسها نافية وتابعت
:" كراهيتكَ سجنتني.... حرمتني من حبي.... حرمتني من نفسي... لم تُدمر حياتي أنا فقط يا ناصر.... دمرت رأفت كذلك.... وكانت جريرته الوحيدة أنه لم ينشأ معدم مثلك.... حقدك بلغ ذروته وأخفقت كل جهودي الحثيثة لأطفئه...."
سألها بنبرة أجشة :" لو أطلقت سراحك الآن هل تسامحيني؟!!!"
أجابته بتساؤل وهي متوجسة منه:" هل تناشدني أم تحيك لي عذابا جديدا؟!!!!....."
وتابعت بقساوة ومحياها يتحجر حقدا عليه :" لا تمنحني أملا زائفا يا ناصر.... لا تُحيي بداخلي أملا قتلته أنت بنفسك منذ سنوات مديدة..... أنت سادي وتستلذ بعذاباتي.... أنت لن تطلق سراحي يوما.... كن صادقا مع نفسك على الأقل"....
سألها :" لمَ لم تقتليني فأنا الحائل بينك وبين الحياة.... كان بإمكانك تسني فرصا لا تُحصى لتُجْهِزي عليّ وصدقيني لم أكن لأقاوم!!!!"
طفرت دمعة من أحداق حليمة وعلقت :" الحب حلم نقي يا ناصر لا يتلوث بالدم ليُلَم الشمل..... ولم أكن لأصير مثلك..... منتقمة حاقدة..... أعرف أنك حاولت دوما زجي ليتأجج حقدي عليك أكثر وأكثر لأُجْهِز عليك وأريحك من عذاباتك ولكني لم ولن أفعل يوما....."
انتصب واقفا وجذب مقعده الثقيل ليصير مجاورا لها وافترشه متمددا وتحدث معها :"أتلك طيبة يا حليمة أم طريقتك في القصاص مني..... أنا العقبة الكئود في سبيل أحلامك وأنتِ لم تفكري في إزاحتها يوما.... تعرفين أني بائس تعيس ولذا ترين الموت لي راحة فلا تسعين لتُلحقيه بي....".....
علقت عليه حليمة :" لا أريد للموت أن يقتنص عمرك يا ناصر قبل أن يُضيء الحب قلبك وتُدوي الرحمة في دواخيلك..... مازلت متخبط الوجهات ومن هنا ينبثق الأمل في بأنكَ ستستشعر يوما أن تضحيتي لم تذهب سدى وعُمْر زبرجدة خلف القضبان لم يزوى هباءً....."
وتابعت :" سأسامحك حينها يا ناصر.... حين تُدرك أني لست معتوهة حينما انصعت وراء حقدك وحققت لك مبتغاك كي لا تُلحق ضيرا بها!!!!.... صدقني أنا لا أكرهك يا ناصر وابنتك من الأجنبية صارت قطعة مني رغما عني ورغم تذبذبي حيالها....".....
تقلصت ملامحه وهو يسألها بسخرية مريرة :" كلكم طيبون وصالحون وأنا فقط الشرير؟!!!"
واستطرد بتبرم وهو يحِل الأزرار العلوية من قميصه:" لم يكن من المفترض أن يطول مكوثنا هنا..... ذلك المكان يخنقني.... يقبض على أنفاسي..... لم أُخَطِط للبقاء ولكنها لم تأبه برسالتي.... استساغت الذلة في بيت سلمان ولم تحفل حتى بالرد عليّ...."
علقت حليمة بقساوة :" وأنت تبذل كل ما بوسعك لتدمر زوجها وأعماله التي كدح كثيرا لتزدهر"....
توهجت عيونه سرورا من نفسه وأعرب وهو يمرر أنامله على فروة رأسه بشموخ واعتداد :" تصلك الأخبار سريعا يا حليمة.... وأنا الذي كنت أظن أنكِ في قوقعة عذاباتك ماكثة"....
علقت ووجنتها تلتوي سخرية وإحباطا منه :" ذلك ناصر الشرير الذي أعرفه.... ينتعش بإفساد حياة الناس.... لقد كنت في سكرة عذاب لم تَدُم سوى لهنيهات.... صحوة ضميرك مصيرها أن تئدها بوحشية كي تتابع اعوجاج مسلكك في تلك الحياة"....
وانتصبت واقفة لتغادر مشمئزة منه.....
تشبث بيدها ليعيدها إليه وأخبرها بتذبذب بين التهديد والتحريض :" لو رحلتِ يوما يا حليمة لتلتحقي برأفت ستخففي من وطأة العذاب عليّ.... ولكني سأستحيل وحشا كاسرا وسأبطش بها"....
عيونها استهزءت بتهديده السخيف وبتحريضه الأمسخ
وفكت نفسها من قبضته وارتحلت نحو المطبخ بهدوء.....
كانت الخادمتان تثرثران بهمهمات وبمجرد وصولها التزمتا الصمت المطبق مما أَشْعَل فضولها.....
افترشت مقعدا حول الطاولة وطالبتهما :" اسكبا لي طعام الإفطار...."
وهما تسرعان لتلبية طلبها سألتهما وهي معقودة الحاجبين :" فيمَ كنتما تثرثران؟!!!"
بان التلبك على احدى الفتاتين واندفعت قائلة بتفتت وهي تشوح بيديها:" سيد رأفت فخر بلدنا.... نحن فقط لا نصدق ما قرأناه في مجلة الفنانين منذ بضعة أيام"
بان على الخادمة أنها تعلم بشبه خطوبتها من رأفت في زمن مضى وعلى كل حال هو مازال قريبها ولذا هي متلعثمة ومذعورة فهي ولا ريب كانت تتحدث عنه بكلمات غير لائقة وتخشى أن تفضح نفسها
أما الخادمة الأخرى فاندفعت مهرولة صوبها ووبخت زميلتها وهي تلكزها بمرفقها :" ما تلك الترهات التي تنطقين بها؟!!!!"
قلبت حليمة بصرها بينهما وعلقت بصرامة :" لو تخافان على لقمة عيشهما.... وضحا..... وما تفوهتما به عن رأفت أنا لم أسمعه ولكنكما تبدوان مصممتين على إشعاري بطبيعة ما ثرثرتما به"....
تنحنحت احدى الفتاتين وأفصحت وهي تحني هامتها حياءً مما تقول :" زوجة سيد رأفت تم إلقاء القبض عليها في وكر فواحش متلبسة..... الخبر منتشر كما النار في الهشيم في كافة الجرائد والمجلات الفنية.... كيف لم يتناهى لكِ سيدتي؟!!!"
أعربت الفتاة مستنكرة بعض الشيء....
تتحاشى الجرائد والمجلات التي قد تحوي أخباره منذ حوارهما عبر الأثير وكأنهما السم الزعاف
هكذا هي متذبذبة الأركان حينما يتعلق الأمر به
فتارة تلتهم تفاصيل حياته بنهم وشغف وتاره تتفاداها وكأنها لا تعنيها في شيء
وهي الآن في مرحلة إنكار قيمته لديها
ولكن تلك الفتاة زلزلت ركائز الثبات في عالمها
شعرت بغصة تتكتل في حلقها
بالأرض تميد من تحت أقدامها
بالظلام ينتشر في أحداقها
بالتشتت يتوغل في تلافيف عقلها
لقد قطعت وعدا لسمرا أنها ستعيد رأفت لسابق عهده لكن حديثه الغليظ معها جعلها تنكث بيمينها وتقرر أنه لا يستحق أن تبذل جهدا في سبيل رده لنفسهِ
هي دوما تخلت عنه بمنتهى السهولة واليسر
هي دوما كانت منصفة مع الجميع عداه هو
بسببها اقترن بفتاة رخيصة عابثة
بسببها ترنح عالمه
وتبعثرت أشلائه
هذا يكفي
كفاها ما تركته يعانيه
قلبه عاش مُضْمَخَا بالجراح الغائرة من جرائها ولكن دمغة الهوان لا وألف لا.....
وانطلق التصميم من أحداقها وصوبت خطواتها نحو دار جدتها قيثارة
فلقد ولجت للبلدة منذ وقت طويل ولكنها تجاهلتها عامدة
حان أوان المواجهة مع كل أشباح الماضي
حان الأوان
كانت قيثارة تصطنع تلمس الطريق وهي تهبط الدرج متشبثة بالسياج.... هي تزعم العمى منذ أعوام.... البشر يُظْهِرون انفعالاتهم الحقيقية أمامها لأنهم يظنونها بعيون ميتة!!!!.... وهي تستلذ بهذا فما أروع أن ينطق اللسان بشيء ويخالفه الانفعال... فمثلا هناك من يزعم كونها نفيسة لديه وأحداقه تنطق بتهكم على عجزها وبكراهية غير محدودة لها.... وكما المعتاد هالة الشموخ والاعتداد تحيطها.... تكاد حليمة تجزم بأنها مولودة بها!!!!....
نهضت حليمة ببطء احتراما وتوقيرا لجدتها مع دنوها منها.... وكانت عيونها مغروقة بعبرات التوق لها.... برغم طبيعتها المتحجرة إلا أنها تكاد تقسم أن لجدتها جانب دافئ وحنون وحليمة عاشت مغتربة تفتقده....
بمجرد أن أكملت قيثارة الهبوط ووطأت بأقدامها أرضية البهو حتى ناشدتها بصوت رخيم :" هلمي لحضن جدتكِ يا صغيرتي!!!!"
فتحت لها قيثارة ذراعيها وهرولت حليمة لتتلاحم معها في عناق متوقد الجذوة
سألتها قيثارة وهي تسلخ نفسها عنها وتتلحف بالبرودة :" لمَ أنتِ هنا؟؟؟.... لقد كان بعادك عذاب ولكنه أفضل لدي من وجودك!!!"
ناشدتها حليمة أن تغفر لها :" لم أعد أقوى يا جدتي على إتمام ذلك المسلك بعد اليوم.... لقد هوى قلبي في بئر سحيق بلا قرار اليوم وانجرح في سويدائه.... زوجة رأفت لم تصنه وأحالت اسمه مضغة في الأفواه.... وهو تزوجها نكاية في.... وهذا يؤلم في الصميم يا جدتي.... كنت واهمة حتى النخاع بأن رأفت سيجتازني ويواصل حياته ولكن عالمه صار متمحور حولي رغم أنه ينكر ذلك.... هو يُدني العابثات منه لأنه يظنهم مثلي... هو تزوج تلك الفتاة لأنه اعتبرها تشابهني في اعوجاج المسلك الذي يظنه بي!!!!"....
انطلق من محيا قيثارة ابتسامة جزلة مضيئة وهي تحيط وجه حليمة بين أكفها وتمتمت تُقَرِّعَها وهي تقرص وجنتها:" مازلتِ تفكرين في ذلك المهرج الذي أَنْقَص من قدر العائلة بميله للتمثيل؟!!!!"
وتبدلت نبرتها لتحثها وهي تحتوي وجهها بين أكفها :" فِرِي إليه يا صغيرتي.... ولا تخشين علي شيء.... في النهاية أنا قيثارة.... أية عاصفة عاتية تلقف ما أمامها وتقتلعه من الجذور لا تهز شعرة واحدة بي!!!!....".....
وتابعت:" أنا سأتعامل مع ناصر!!!!.... ذلك الولد الضال بحاجة لتشذيب أظافر.... يتطاول عليّ ويسعى لتخريب أعمالي.... أنا أستطيع تحجيمه.... ولكن يعيث في أعمال زوج أعمار فسادا.... من يظن نفسه؟!!!!" هتفت بتململ وهي تشوح بيديها
قالت حليمة بإدراك وكأنها تُبْصِر جدتها للمرة الأولى :" تغيرتِ يا جدتي.... لم تعودي متحجرة القلب.... صرتِ تفكرين في أعمار وزوجها!!!!!"
أحادت قيثارة ببصرها فلقد كانت الدموع معلقة بأهدابها وهي تأبى عليها الإدرار بضراوة
واعتصرت أناملها في قبضة واحدة وعلقت بعتب وهي تصر على أسنانها كي تخفي الألم الرهيب الذي يقطع أحشائها :" أتحسبيني منعدمة الشعور لذلك الحد؟!!!!.... ذلك العذاب لا يتوانى.... لو أستطيع تغيير ما حدث يا حليمة لأبدلته ولو كان الثمن حياتي أنا!!!!!"
وطالبتها وهي تطلق تنهيدة :" ارحلي"....
واسترسلت وهي شاردة :" ولا تقلقي..... لن يكون هناك المزيد من الضحايا.... من أخطأ عليه أن يتحمل تبعات أفعاله.... وأنا الوحيدة المخطئة هنا!!!!"......
________________________
زُغُب خفيف انتشر على ذقنه بإهمال
هو معتزل الناس بمن فيهم والدته سمرا
ماكث في حجرته لا يبارحها
فضيحة زوجته أصابت كبريائه فقط
فمن تملك مقاليد قلبه لم تكون هي بتاتا
ولكن هذا مؤلم أيضا وبصورة مفرطة الوجع
لو تناهى الخبر لحليمة فهي ولا ريب ستتشفى فيه فلقد خاطبها بغلظة في آخر مرة شملهما حوار
شعر بنفحة عطر أثير تداعب خياشيمه بغتة
قطب جبينه متسائلا أين هي
وتلهفت عيونه في التفتيش عنها
لم يعثر عليها في حجرته
هب من رقدته وشرع باب حجرته ليستطرد البحث عنها فعانقتها عيونه
نجوم السماء مازالت تنبض في عيونها بريق
ثغرها لا يلبث معصية متكاملة
وجهها لا يزال محاط بهالة براءة لا تفتر
حادثته :" أظن أني كنت أهمهم مع والدتك فكيف وصلك الصوت.... كنا نتبادل الحديث بصوت خفيض كي لا نعكر صفو عزلتك وكي لا ننتشلك من بوتقة أشجانك!!!".... كانت تتهكم عليه بشفاة ممطوطة
رد عليها وهو يتقدم نحوها ويُصر على أسنانه :" لا أدري لمَ تستقبلك أمي في بيتنا؟!!!.... مثيلاتك موضعهم مكب النفايات وليست البيوت المحترمة".....
شهقت أمه من عمق الإهانة الذي وجهها لحليمة وضربت على صدرها
فطالعتها حليمة بابتسامة طفيفة وطالبتها وهي تربت على كتفها :" غادري خالتي سمرا لحجرتك.... أنا دوما أجيد التعامل مع هذا الثور الهائج!!!!"
امتثلت سمرا لطلب حليمة على مضض
كانت تود دعم حليمة والإفضاء لابنها بالحقيقة
ولكن حليمة ترى أن أوان الحقيقة لم يأتي بعد
فقبلها لابد من استعادة الثقة والاحترام
والاستوثاق من عمق الغرام
رأفت اختار أن يدور عالمه حولها حتى بعد رحيلها
وربما هذا لأن حبها عادة
أو ربما عذاب وهو يأبى أن ينساه لعمق الإهانة الذي شعر بها حينما خلفته ورائها وهربت مع سواه
هل لا يلبث الحب بداخله حي أم أنها من أزهقت أنفاسه
عليها أن تتيقن
بعد رحيل سمرا ساد بينهما صمت مشحون برعد... ببرق.... بأشواك.... وبشوق وحنين
قطعه هو وهو يميل برأسه سكرانا رغما عنه برؤيتها بعد كل ذلك البَيْن الطويل": لا زلتِ كما أنتِ.... لم ينشب الزمن مخالبه فيكِ.... لا تلبثين بهية الطلعة ظالمة الحُسْن...."
افترش مقعدا قريبا منه وارتسمت ابتسامة تهكم مريرة على ثغره وهو يردف :" لم يجازيكِ الله وِفَاق ما فعلتيه بي.... استمرت حياتك بوجه غض وزوج اتخم ثراء وابنة تضفي على حياتك نكهة الحياة.... أين العدالة؟!!!.... صراحة لا أجدها"....
سألته مستنكرة وهي متداخلة معه بصريا :" هل تكفر بالله لأجلي؟!!!.... هل تغرق في عوالم المعاصي نكاية في؟!!!!..... لا يا رأفت ليس ذنبي ما ارتكبته في حق نفسك.... أنا لم أُجْرِم سوى في حق حبنا أما في حقك أنا لم أُجْرِم.... ليس ذنبي كونك أسأت اختيار شريكة حياتك وأوصدت آذانك عن كافة الإنذارات والتحذيرات.... ليس ذنبي كون امرأة لعوب اتخذتك واجهة اجتماعية وتَلَهَّت بشرفك كيفما تشاء"....
ذرَّت الملح على الجرح النازف، ذاك الذي لازال طرياً، غضاً، لازال يسيلُ أبلهاً بقوة زخات المطر وبتموجات السم!!
طوى المسافة التي تعزله عنها وقبض على بدنها وهو يهدر وأوداجه منتفخة غضبا مستطير :" ولهذا أنتِ هنا لتشمتي وتتشفي.... أنا لا أدري كيف كنت ساذجا لأقع في هواكِ قديما".....
دوَّت كلمة قديما في كافة حواسها
إذاً هي بالنسبة له مجرد هوس كما كانت تتصور
الحب هي أزهقته بيديها
الأنفاس المتثاقلة جثمت على صدرها وضيقت عليها الخناق
استجمعت شتاتها وأخفت ارتعاشة ركبتيها وسألته وهي مثبتة البصر عليه وتطمر بؤسها وشقائها :" كيف استشعرت وجودي إذا لم تستمع لصوتي؟!!!"
زمجر فيها :" عقل النساء الصغير هذا أنا لن أستوعبه يوما.... أهذا كل ما يهمك؟!!!!...."
واندفعت الكلمات منه بدون تريث أو تفكير :" عطرك لا يزال يجتذبني كما الفراشة المنتحرة حول اللهب..... استرحتِ"
عقبت عليه وهي تحرك رأسها وتلوح بكتفيها :" ومازلت دوما أصحح لك تلك الفكرة.... أنا لا أضع عطر.... تلك رائحتي أنا، وأنا لا أشتمها وكذلك كل من أعرفهم فكيف تُمَيِّزها ومن على مسافة؟!!!!..."
أحاطت وجهه بأكفها وسألته بنبرة متهدجة:" رأفت هل كنت تحب تلك الأخرى؟!!!!.... هل تظن الأمر تلفيق؟!!!.... هل هي بريئة؟!!!!.... هل أنت منفطر القلب لأجل خيانتها لك؟!!.... هل ستغفر لها لأنك تحبها؟!!!!..... هل انتزعتها من أعماقك بمجرد أن تراءى لك عهرها؟!!!!!.... سألته بلهفة حقيقية
سألها :" لمَ أنتِ هنا؟!!!!.... ألا يكفيكِ كل ما ألحقتيه بي؟!!!!.... ألا تريدي أن تتركيني لمغبة الزمن علها تُنسيني خيانتكِ لي؟!!!!..... لمَ أنت تياهة الجبروت هكذا يا امرأة؟!!!!..... لم تجابهيني قبل الفراق فقط خلفتِ لي رسالة بكلمات مقتضبة إلى الآن لم أستوعبها.... سعادتي مع ناصر ما بيننا لعب أطفال وترهات مراهقة ستجتازها كما فعلت أنا.... أليست تلك كلماتك..... كيف تبرريها....."
اشتعل عرقا نابضا عند صدغه فورانا غاضبا وهو يقبض على بدنها ويهزها ويطالبها :" انطقي.... هيا فسري تلك الرسالة التي رفعت مذاق العلقم لفمي لأعوام مديدة".....
لم تكن تنتوي البوح الآن ولكن يتراءى لها أن لا مناص من إفراغ بعضا من الحقيقة على مسامعه كي يرتاح
سمرت بصرها عليه واعترفت :" ناصر ابتزني لأقوم بذلك..... هو عاش حاقدا علينا..... يرى ثرائنا فيتفاقم غله حيالنا.... نحن لم نتزوج يوما..... أنا لم يمسسني رجل أبدا.... وابنته أنجبها من زوجته الأجنبية..... هي ماتت وخلفت له ثروة طائلة.... لم يرى فيها يوما سوى كيس متخم نقود..... وهي لم ترى فيه سوى ديوث.... وهو لم يبالي وهي لم تبالي.... بدا وضعا مريحا لهما وكلاهما أسقماني بقذاراتهما..... أنا عشت متفاوتة المشاعر حيال ابنته ولكنها في النهاية مسكينة فهي نتاج علاقة مهترئة وأنا أتمنى من الله ألا تغلبها يوما جينات والديها فتحذو حذوهما...."
تململ وصاح فيها :" كلامك مرسل أنا لا أفهمه.... ما الذي كان يبتزك به ناصر؟!!!!"
ازدردت ريقها وسألت نفسها هل تبوح بأكثر من هذا، وواتتها الإجابة ذلك حقه، وتكاد جدتها قيثارة تكون منحتها ضوءً أخضر حينما ذهبت لها منذ بضعة سويعات
افترشت مقعدا ونكست رأسها وهمهمت :" اجلس إذاً فالحوار سيطول..... ليت حبكَ لي مات بانصرام السنوات يا رأفت.... لم أكن حينها لأبوح أبدا بهذا السر".....
وشردت بتفكيرها وفتحت قمقم الذكريات :" لم تكن توت تطيق جدتي قيثارة أبدا، كانت حاقدة عليها للتتمة وكان معها حق!!!، جدتي فعلا حاولت إخماد أنفاس زهر وابنتها أعمار زبرجدة لمرات متوالية، لم تكن تتوانى عن إلحاق الأذى بهما مطلقا، وسمعت مرارا أن ابن جدي شمس التبريزي من زهر لاقى حتفه بسبب مخطط خبيث من جدتي، ووفدت لبلدتنا امرأة غريبة تحمل سرا رهيب تبتز به جدتي، ولأن عيون توت تلاحق جدتي لتقتص منها لمحت اضطرابها من رؤية الغريبة حينما وافتها في حديقة الفواكه التي تخص جدي الكبير شمس التبريزي، وورطت توت أعمار زبرجدة في تلك التوجسات التي اعترتها حيال الأمر الذي تبتز به الغريبة جدتي، ودفعتها لتستقصي الأخبار معها، أجزلت جدتي العطاء للغريبة كي ترحل عنها ولا تُريها وجهها مرة أخرى لكن جدي شكري لم يكن ليترك مبتزة تشكل نقطة تهديد علينا، أعد العدة ليُجْهِز عليها، وكما المعتاد كانت عيون أعمار ترصد دناءات جدي وتتلصص عليه، أوصد جدي الأبواب على المرأة في قبو ملحق بحديقة الفواكه حيث أنه اختطفها واحتجزها فيه واستمتع بها ومن ثم رشَّ المازوت بتمهل سادي على جسدها وأضرم النيران فيها، انعقد لسان أعمار من المفاجأة، كانت جريرة جديدة تضاف لمحفل جدي المكتظ بالكثير، وكانت المرأة تصرخ بهيستيرية ((أغيثوني.... أغيثوني)).... وتملأ الكون ضجيج بجملة واحدة لا تفتأ تكررها.... ((لها كامل الحق في خيانتك يا بغيض.... أيها الخنزير القذر ومن الجيد أن أثر خيانتها لك لا ينمحي فناصر يُذكرك دوما بإخفاقك كرجل....)).... ألم أخبرك؟!!!... كان سرا رهيب.... ناصر هو ابن جدتي قيثارة من خطيئة وقعت فيها.... كانت جدتي على الدوام تنبذ ناصر وتطرده من قصرها إذا واتاه معنا ونحن صغار كي يلعب وإيانا.... عنفته وأكالت له الضربات المبرحة حينما أوقع بالخطأ مزهرية كريستالية كانت قابعة في بهو قصرها رغم أنها لم تكن ثمينة وتستحق الجلبة التي أصدرتها حينما تهشمت.... كانت قاسية ومتجبرة معه.... كانت تذله أمامنا مرددة أيها الفقير النحيل.... كان ناصر يمقتها ولا يزال.... كيف تفشى السر وصار علنيا لنا؟!!!!.... أعمار التزمت الصمت ولم تنبس ببنت شفة ولم تخبر توت حتى بما اكتشفته.... ولكن جدتي كانت دوما تسعى لاستفزاز أعمار وتبذل قصارى جهدها كي تكدر صفو عيشها.... رغم أن أعمار كانت تحاول قدر استطاعتها تفاديها.... كان جدي يعيش كما تعلم مع أعمار في بيت مستقل بهما وجلب توت بعد فترة مقاطعة لها بعدما رأى أعمار تَزوى بدونها.... ولكنه كما تعلم أيضا كان له مخدع خاص به في بيت جدتي فهو بيته أصلا.... ولذا فهو كان يعيش ترحالا بين هنا وهناك.... وفي ذلك اليوم المشئوم وصل جدي شمس بيت جدتي قيثارة ولكنها لم تعلم بذلك..... ولأول مرة منذ سنوات تطأ أقدام أعمار زبرجدة بيت جدتي أيضا.... هذا هو الحوار الذي دار بينهما في غرفة موصدة نقلا عن جدتي..... سألتها جدتي بعجرفة وهي تخاطبها من طرف أنفها :" لمَ أنتِ هنا؟!!!.... ألم تقسمي منذ أعوام أنكِ لن تطئي بأقدامك أعتاب بيتي مطلقا".... علقت أعمار بتنهيدة وبنفاذ معين الصبر :" ترددت كثيرا قبل أن أوافيكِ ولكن يكفي يا قيثارة.... شكري صار أخطبوط... سارق وفاحش وقاتل.... ماذا تريدين بعد ذلك كي تتحركي.!!!!.... قد يكون والد ابنك جابر الله يرحمه ولكنه أرقم بغيض.... خنق زبيدة حينما رفضت إقامة علاقة محرمة معه.... وأضرم النيران في الغريبة بعدما صوَّر لها أنها لو منحته جسدها فهو سيُخلي سبيلها.... ألا ترينه يتحرش بصباح.... ألا تلمحين نظراته العابثة حيال حليمة؟!!!..... ألا تخافين عليهما أن يتجرأ أكثر من ذلك فيدمر حياتهما للأبد..... قيثارة.... أنا لا أريدك سوى أن تتحدي معي.... ذلك الرجل لا مناص من تخلصنا منه.... في كل يوم يبقى على صفحة الدنيا تضاف لحياتنا أوجاع جديدة.... تلك يدي أمدها لكِ مرة أخرى فلا تخذليها.... لو كنتِ استسغتِ عذابكِ معه لأنكِ تتصورين أنكِ تستحقينه.... فيجب أن تُدركي أن بقائه في حياتكِ يدمرنا جميعا.... وليته كان يحبكِ..... وليته لا يُشكل خطرا عليكِ كما يشكل علينا.... أنا أتوسل إليكِ.... لا تسمحي له أن يعيث فسادا أكثر من ذلك....."...... ثبتت جدتي بصرها عليها وقالت بتململ وهي تضم قبضتها في ضفيرة واحدة :" لن تكفي عن ترديد تلك الاسطوانة المشروحة....".... وتابعت بصوت جهوري :" اسمعي يا بنت زهر.... يا من لا نعلم حقيقة نسبها بشمس التبريزي فعلا.... أنا ضجرت منكِ.... من تلك البراءة التي تزعمينها معي.... اغربي عن وجهي ولا تعودي إلى هنا أبدا.... نعم أنا أطردك يا حثالة.... هيا انقشعي يا بومة من هنا"..... ابتلعت أعمار الإهانة وانتصبت واقفة رافضة تنكيس هامتها وأَنَّبَت شقيقتها :" لا فائدة ترجى منكِ..... لا ربحك الله يا قيثارة!!!"..... تشابكت معها جدتي وهي بمزاج محتدم وتهتف :" أنتِ تَدْعِين علي يا ابنة الفرس زهر!!!"..... أعربت حينها أعمار بإدراك :" أنتِ تبصرين.... تزعمين كونكِ ضريرة لما؟!!!"..... استشاط مزاج جدتي أكثر وأمسكتها من تلابيبها ورعدت بانفلاتة أعصاب:" أنا سأتخلص منكِ يا حثالة..... فشلت كل مخططاتي لقتلك سابقا.... ربما لأنها كانت تتم عن طريق إيعاز.... ولكن الآن يدي هي من ستخمد أنفاسك..... لأجل أمي جيهان نور سأفعلها"...... واستحالت يدا جدتي طوقا فولاذيا حول رقبة أعمار زبرجدة..... جحظت عيون الفتاة وازرق وجهها وتدلى لسانها وكادت تفارق الحياة فعلا لولا قول جدتي وهي مطربة بحالتها :" ابنة الحثالة تموت..... افرحي يا والدتي..... أمكِ عديمة الشرف سلبت أمي أنفاسها.... أمكِ فاسقة".... استجمعت أعمار كل قوتها لتفك قبضة جدتي من عليها وهي تلهث قائلة :" أمي ليست فاسقة يا قيثارة بل أنتِ.... أتلصقين فحشكِ بغيركِ".... جزعت جدتي من قول أعمار حينما بانت لها حقيقتها فشحب وجهها وتقهقرت بخطواتها وتوسلتها بعيون زائعة وهي تدس أصابعها في آذانها:" لا تكرري ذلك القول.... أنا لست كذلك"..... استلذت أعمار بحالة جدتي قيثارة المتداعية فرددت بترنم :" وناصر يكون ولدك!!!".... وتابعت باشمئزاز منها :" سنوات تمرغين أنفه في الوحل ولا نفهم لمَ تزدريه..... الآن تجلت لي الحقيقة.... تحتقرينه لأنه يُذكركِ بخطيئتك.... بحياتك المزدوجة.... بشرفك المسكوب"..... توسلتها جدتي بتمتمة من بين أنفاس متلاحقة :" اخرسي.... اخرسي....."...... لم تأبه أعمار لتضرع جدتي وكررت بتلذذ :" نعم يا قيثارة..... ناصر يكون ابنك من وحلة وقعتِ فيها.... ابنك يا من تتلحفين بفضيلة ليست فيكِ"..... فُتِح الباب على مصراعيه حينها وتعلقت عيونهما بوالدهما وعيونه مغشية بالدمع وهو يتهاوى أرضا ويردد بفم ملتوي من جراء شلل يستشري فيه :" حسبي الله ونعم الوكيل فيكما!!!"..... في المشفى طردت جدتي أعمار ووصمتها أمامنا بأنها سبب مصاب والدها.... كانت تقذفها وتركلها في رواق المشفى وهي تردد بثائرة مضطرمة :" لا أريد أن أرى لكِ وجها ثانية.... أنتِ من فضحتِ السر.... وأبي تداعى من جراء ذلك....."..... وهتفت فيها بمرارة :" لم يكن يضرك كتمان الأمر فلمَ أفشيتيه؟!!!"..... أنا وصباح من جراء انفعال جدتي علمنا بأنها ليست ضريرة ولكن لأنها أرادت أن تكون كذلك نحن لم نفضح سرها..... وغادرت أعمار البلدة بعدما اطمأنت أن والدها اجتاز مرحلة الخطر ولم تعود أبدا..... ولكنها أنا.... من انزلق لسانها بالسر لناصر حينما أعرب عن انزعاجه من رحيل زبرجدة وعن خوفه من أن يغويها احدى شباب المدائن وتنساه.... كانت تغيب لدراستها.... نعم.... ولكنها كانت تعاود في عطلة كل أسبوع فكان يطمئن بأنه راسخ في دواخيلها.... ولكن الآن غيابها امتد ولا يبدو أنها تنتوي الرجوع أبدا.... وتفاقم حقد ناصر حيال جدتي حينما عرف الحقيقة..... وابتزني إما أن أرحل معه وأتركك وإما يفضح جدتي.... استحال حاقدا عليّ أنا أيضا لأني من انتزعته من عالمه الوردي حيث كان سيتزوج أميرة البلدة ويصير على خزائن الأرض ينهب بغير حساب..... للحق لم يكن ناصر يرى أعمار كيس نقود فقط..... هو كان فعلا يهواها..... كانت جوهرته المكنونة في صدر قلبه.... وهذا ما أَحْنَقَه أكثر من جدتي لأنها علمت بأمر هذا الحب ولم تحرك ساكنا وتركته يتمرغ في شعور مُحَرَّم عليه..... أرأيت إنها حقيقة متشابكة لعينة ولكن لو كانت تُبرئ ساحتي ولو قليل أمامك فأنت تستحقها.... ولا أعتقد أننا نصلح لبعضنا بعد تلك الحقيقة.... فأنا لن أقترن يوما بشخص أفضيت له بأن جدتي مدنسة.....".....
لا تدري متى اقتنص المسافة التي فصلتهما واحتواها بين ذراعيه وهو يردد لها :" ما زلت مصعوق من كل ما قلتيه..... ولكني فخور بك وأنا جد سعيد..... لقد عشتِ رهينة لناصر لكي لا يُلحق أذى بجدتكِ..... ولكنكِ خرقتِ اتفاقكِ معه لأجلي.... لتنتشليني من بوتقة أشجاني.... لأنكِ تدركين أن العمر مهما انسكب لن يطفئ جذوة حنيننا لبعضنا البعض.... أنا متيم بكِ بقلبي وعقلي وجوانحي... أنتِ كل ما يلزمني في الحياة.... أنا منكِ وأنتِ مني.... وما هذا الخرف الذي ترددين؟!!!!..... جدتك جزء من نسيج عائلتي.... نحن نتشاطر نفس المنبت يا جميلتي..... لن أعايركِ يوما وأنتِ مستوثقة من ذلك..... ولكن هذا اليوم يُنهي حياتي كمتسكع وينهي حياتك كراهبة في محراب قساوة ناصر..... نحن سنتزوج اليوم.... وسأمنحكِ كل الوقت الذي ترغبين حتى تتأكدي من أني لا زلت رأفت رفيق دربك وحبيب عمرك.... لم أتبدل سوى حينما ظننت أنكِ خنتيني..... ولم أعود لنفسي إلا حينما ولجتِ لي لتنتشليني..... ربما يكون إيماني منقوص كما سبق واتهمتيني.... فإيماني لا يكتمل سوى بكِ..... أنتِ إيماني بعدالة رب الأكوان".....
أكدت له وأصابعها تتشابك مع أصابعه وعيونها تتلاحم مع خاصتيه وابتسامتها تلاقي ابتسامته :" سنعمق صلتنا بالله..... وسنعود نتلو القرآن في كل مواقيتنا..... ونصلي دوما لرب العدل الذي جمع بيننا بعد شتات طال مدادا..... لن نكون ممن وصفهم سبحانه وتعالى ((ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين))..... نحن معا على هذا الطريق..... نحن نستحق فرصة وسننالها"......
انطلقت زغرودة من فم سمرا وهي تظهر أمامهم.....
قطب رأفت جبينه وأعرب بامتعاض :" لن تكفي عن التنصت يا أمي".....
أمرته أمه وهي معقودة الحاجبين :" اذهب واحلق زغبك يا ولد....".....
وتابعت بحبور :" أما أنا فسوف أبل الشربات....."
وانطلقت تزغرد بسعادة من جديد في حين أن وجه حليمة استحال حبة طماطم طازجة من فرط خجلها....... تأسره بصبغة الحياء التي تلون وجنتيها
صار مفتونا يحملق بها
فدفعته أمه صوب الحمام كي يستفيق
ارتطم وجهه بباب الحمام فتصنع التأوه
في حين لم تركض حليمة نحوه فهي تعرف ألاعيبه
وتدرك متى يمثل الألم ومتى يكون بالفعل جريح
صَوَّب شعاع بصره نحوها واغتاض حينما رآها تعقد ذراعيها أمام صدرها وتهز له رأسها بِلَا
واختفى متذمرا في الحمام وارتسمت ابتسامة حبور على محياها
تتذكره وهما يلعبان بكرات الطين..... يفتحان صدورهما لمطر يغسلهما من كل همٍ وكرب..... وهما يقهقهان..... يمرحان..... يتبسمان..... ينتحبان.... يتشاطران كل الأحلام والآمال....
وبغتة داهمتها ذكرى حقد ناصر فخافت على جدتها وابتهلت لله أن يلطف بها ويخفف من ضغن ناصر حيالها
____________________________
ناصر
في بهو قصره
مسندا رأسه على متكئه ومسدل أهدابه
حينما علم أنها لملمت أغراضها ورحلت تنفس الصعداء
إن معركته كانت وستظل مع والدته الحقيرة
ليس لحليمة دخل فيها سوى أنها ارتضت أن تكون قربانا لجدتها
اختارها لذلك الغرض لأنه يعلم مدى تعلق قيثارة بها
إن قيثارة دوما اعتبرتها حفيدتها الأثيرة وزمردتها الغالية
بِأَسْرِه لحليمة بان لقيثارة مدى ضآلتها أمامه وعجزها التام
وهذا شيء يسعى لإحرازه
ينبغي أن تعترف قيثارة يوما بتفوقه عليها
تلك السادية الشريرة التي دوما رمقته بنظرة فوقية
وعاملته بمنتهى التعجرف والاستعلاء
*****************
إن أعمار زبرجدة هربت من أسر سلمان كما وردته الأخبار
وليحفظ سلمان ماء وجهه أعلن أنه طلقها وغسل يده منها فهي لم تعد تخصه
الأغرب أن سلمان ادعى أمام البلدة أن ناجي - ذلك الطفل الذي أنشأته رحاب - يكون ابنه من أعمار زبرجدة
تلك الحياة غريبة وتُدْهشنا باستمرار
***************
ناصر يعلم يقينا أن أعمار لا تَحِل له
كان الأمر مؤلما في البدء إلا أنه تكيف معه واعتاده
ولكنه متمرد وعنيد ولا يستسلم بسهولة
لربما لهذا لا يزال يحارب القدر ولا يعترف به
هل هذه هي الحقيقة؟!!!!!
هل قيمة أعمار عنده حلم لا يُطال فحسب؟!!!
هل غضبه من قيثارة يعود لكونها منعته من حيازة حلم وليس حب؟!!!!!
***************
لا يدري لمَ تجسدت صورة شفاء أمامه
إن براءتها تجتذبه كما الشيطان ليلوثها
شيء يشده إليها لا يدري منتهاه ولكن كل ما يعرفه أنها فرصة حلوة للانتقام
الانتقام من من؟!!!!
هو صدقا لم يعد يدري
****************
سلمان طلق أعمار
وناجي ابن أعمار من سلمان
وأعمار أصلا تلاشت من البلدة
هو لا يشعر بأي شيء حيال ناجي
ليس منزعجا من وجوده
وليس مسرورا لوجوده
مشاعره حيادية تماما
أما سلمان فهو غريم قصة لا يريدها الله من فوق سبع سماوات أن تكتمل
إذاً فهو يحارب طواحين الهواء
ويعاند قدره فحسب لأنه مشمئز من حقيقة أن تلك المرأة البليدة الشعور أنجبته عن طريق السفاح
******************
كان ينحدر من فرع فقير ولكنه في نظر نفسه نِتاج حلال
كان هذا أفضل من أن يكون فعلا ابن سيدة الناس ولكن ثمرة سفاح
هو يمقت تلك المرأة
لطالما عايرته بفقره
طالبت حليمة بعدم الاختلاط معه
نهرتها حينما فعلت ذلك
وأكالت لها الضرب واحتجزتها في حجرتها لأيام تُمَرِّر لها فقط الخبز اليابس والماء
لقد تصرف بحقارة تجاه حليمة ورأفت
لطالما كان يعاملانه ببشاشة ورحابة
ولا يترفعا عليه
ولكنه شرير ولم يهنأ له سبات حتى فصم عرى علاقتهما
لا يدري لمَ ألحَّت عليه رغبة ملاقتها الآن وفورا
ربما لأنها الوحيدة التي ابتهلت له يوما
الأخبار تتردد أن خطبتها على صالح صديق سلمان ستُعْقَد قريبا
وسيارة صارت توصلها للجامعة يوميا وتعيدها
شعر بأحدهم يرفع حاجزا بينه وبينها وهذا استفزه جدا
ربما يكون شعور غير حقيقي
ولا أحد يحجبها عنه فعلا
ولكنه هكذا يشعر
وهو لا يطيق هذا الشعور
لا يطيقه بتاتا
شعر بأنه عاد لطور المراهقة
وهو يدلف لجامعتها يبحث عن مبنى كليتها ويسأل عن مدرج محاضرات دفعتها
هي في السنة النهائية بكلية تربية
وهي متفوقة في دراستها وتحصد دوما مقعد الأولى
لا يدري لمَ انتفخت أوداجه زهوا بها
عدَّل من وضع كوفيته حول رقبته وشدَّ جسده جيدا كي يبدو مثالي الإطلالة في أحداقها
أنهت محاضرتها فلملمت دفاترها وأسرعت لأن صالح ولا ريب ينتظرها
لم تستطع رفضه حينما فاتحها سلمان في الأمر
أولا لأن صالح ليس عليه لغط
ثانيا لأنها على وشك إنهاء دراستها ولا تملك ذريعة للرفض
وثالثا لأن أمها تبدو مسرورة جدا لهذا الأمر وكأن ثقلا ارتفع من على كاهلها
فزيجة سلمان من أعمار كانت تثير في أمها توجسات بأن لا أحد سيرغب في الاقتران بها
ناصر مجرد هاجس طفولي عليها التخلص منه
أعمار محقة هو متزوج ولديه طفلة
وهي ليست لديها علاقة به أصلا
فكل ما جمعهما موقف واحد ولكنه عالق في مخيلتها
تزلزل وجدانها حينما خرجت من المدرج ليرتطم بصرها بناصر
بهت اللون من وجهها وحدقت فيه مصدومة
لا تنكر أن الفرحة العارمة انتابتها ولكن القلق الرهيب نهشها
تقلقل بصرها لتطمئن أن لا أحد منتبه لاقتراب ناصر منها
صار يواجهها تماما فأعرب قائلا بصوت أجش وهو يمد يده مصافحا إياها:" كيف حالك يا آنسة شفاء؟!!!"
زجرته :" نحن صعيديون، نساؤنا لا يصافحن الرجال، أأنستك حياة الغربة التقاليد والأعراف؟!!!!".....
وتابعت وهي ترمقه بازدراء :" لا أفهم مطاردتك لفتاة مخطوبة..... وعلاوة على ذلك تسعى لتخريب عمل أخيها..... ألا تستحي؟!!!"
وهمت بالمغادرة فأجفلها بقبضه على رسغها ليديرها إليه
تضرجت وجنتها بحمرة الغضب ورفعت يدها لتهوى على خده بصفعة يستحقها لولا أنه أحجمها عن ذلك وتشابك معها في عراك، وتناهى لسمعه إعرابها من بين أنفاس متلاحقة :" أيها الوقح.... لا شيء يجمعنا.... لمَ تطاردني؟!!!...."
جذبها خلفه وهو يردد من بين أضراسه:" إذا كنت لا ترغبين في إثارة فضيحة.... فسيري ورائي أو بجواري حتى نجد بقعة تصلح لحديث هام بيننا"...
بلغا بقعة بعيدة نسبيا عن الأبصار تحفها الأشجار
فانتزعت شفاء نفسها منه وأعربت بتململ من بين أضراسها :" هيا أَفْرِغ ما في جعبتك.... لحظات وسَيَرِدَني اتصال من صالح.... فهو يوصلني كل يوم".....
أحكم قبضة فولاذية حولها وأعرب وأعصابه تغلي على مرجل الغضب:" وأنتِ تسمحين له بهذا... ظننتها سيارة تخص أخاكِ ولكنك بحاجة لإعادة تربية"
وتهكم عليها :" أيتها الصعيدية التي تعرف الأعراف والتقاليد".....
ردت وهي تشمخ بأنفها وتحيط خصرها بيديها :" لقد قرأ فاتحتي وقريبا ستُعْقَد خطبتي عليه.... نحن لا نقوم بشيء سري.... كل شيء بيننا علني.... وصالح أمين ومؤتمن تبعا لرأي أخي ووالدتي".....
أعرب بأسيلية وفمه يقذف حمم غيرة جلية:" ولماذا انتظر الأستاذ صالح كل تلك الأعوام ليعرب عن رغبته بالاقتران بكِ.... هل أنتِ عروس مناسبة فحسب له أم أنه كان يحوم حول أخرى وحينما زهدته قرر الارتباط بكِ؟!!!"
هزت رأسها وأجابت بجفاء واعتداد :" معك حق صالح متريث ليس متعجل أبدا، وهو أبدى رغبته في الارتباط بي منذ أعوام لكن سلمان أراد لي أن أنهي دراستي أولا ولم يخبرني بالأمر أصلا، انتظر إتمامي دراستي، ولكن صالح طفح كيله ونفذ معين صبره وخاف أن يختطفني غيره فخرج عن طوره وطالب أخي أن يجعل ارتباطنا رسمي، وعموما أنا في السنة النهائية، وربما هو فعل ذلك كي ينتشل أخي من بوتقة أشجانه بسبب تصرفات زوجته المعيبة وربما ليُكْمِل فرحتنا فناجي صار الزورق الذي طفا بنا على سطح السعادة والوئام"....
ضيق حيز عيونه وسمَّر شعاع إبصاره عليها وأعرب بهدوء الأفاعي :" من الممكن أن تُضيعي عمرك في قضبان زواجك من صالح.... ومن الممكن أن تعتبريه الزوج المثالي وشريك الحياة الذي تتوكأين عليه أمام المصاعب.... ومن الممكن أن تكون كل تلك الأمور هي الحقيقة.... ولكن الحياة المثالية جد ماسخة!!!!.... و زواجنا قد يكون قارب بلا وجهة تلاطمين فيه أمواج الجحيم.... ولكنكِ سوف تستمتعين به..... أخبرتكِ مسبقا أني شرير للغاية يا آنسة..... أنا كنت مكرس نفسي لتدمير سلمان لأنه انتزع مني حلما قديم وثمين.... ولكنكِ لو رفضتيني أنا لن أبقي ولن أَذَر..... أنا محتج وثائر على أي قيد يعرقلني عن هدف أبتغيه وأنتِ هدف أبتغيه فلا تجعليني أحطم سلمان وصالح كي أصل إليكِ...."
وتابع بصرامة حينما انتبه وهو مقطب الجبين :" وعلى زوجتي المستقبلية احترام أفراد عائلتي.... وأعمار زبرجدة جزء نفيس من عائلتي.... إياكِ أن تُحِطِي من قدرها بلفظة فما بالك بفعل..... هي طاهرة جدا وأطهر منكِ أنتِ ذاتك...."
ابتلعت الإهانة.... هو يرى تلك الساقطة أشرف منها..... الجدال معه لن يجلب لها سوى الحِطَّة من قدرها.... ستنصرف وستخبر أخاها بتهديداته وتوعداته....
آلمها أن يعطي لأعمار الأثرة عليها
كان من الممكن أن تذعن له وتفسخ ارتباطها بصالح كي تكون له
ولكن الآن لا وألف لا
كبلها بسلاسل المعاناة ورفع طعم الملح الأُجَاج في ثغرها حينما هان عليه التجرؤ على شرفها
في تلك الوهلة بالذات دق هاتفها الخلوي
شعرت بالارتباك فذلك صالح ولا ريب ويستعلم عن مكانها
شرعت الهاتف غير آبهة بناصر فهي لم ترتكب خطأ معه كي تخشى افتضاحه أمام صالح
تفوهت بهدوء :" حسنا سآتي.... المكان المعتاد... حسنا"....
ألقت نظرة أخيرة على ناصر وقالت وعيونها تؤنبه ولسانها يدعي عدم الاكتراث بما يفعله :" قُم بكل ما يحلو لك.... أنا وعائلتي لا نبالي.... أنا لست للبيع يا سيد ناصر.... وطهري ليس محل لغط".....
واستدارت مبتعدة عنه وتوجهت نحو صالح
حالما بلغته رسمت ابتسامة مصطنعة على ثغرها وتفوهت بحبور مفتعل :" كيف حالك؟!!!.... تأخرت قليلا اليوم فخفت أن يكون مكروه قد وقع لك!!!"
اعتراه الحرج من جراء قولها.... مازال محدود الخبرة حينما يتعلق الأمر بالنساء.... ولا يصدق أنها صارت له فعلا.... حك فروة رأسه وأخفض جبهته وتمتم لها :" أنا لا أتأخر عليكِ يا سيدة العرائس ولكنها ظروف المواصلات.... فالزحام على أوجه"....
بغتة اخترق سمعها تصفيرة منطلقة من حنجرة ناصر الذي يتكأ بجذعه على سيارة صالح
وأعرب بتنهيدة وهو يصفق بأكفه :" روميو وجولييت العصر الحديث".....
واستطرد :" أنا تأثرت!!!!..... قلبي الصغير لا يحتمل"
أصاب صالح الوجوم للحظة غير مستوعب سبب وجود ناصر هنا ولكنه سرعان ما تماسك وسأله وهو محتدم الغضب ويطوي المسافة التي تعزله عنه :" سيد ناصر أنا لا أفهم لمَ أنت هنا.... وما مرماك من وصفنا بروميو وجولييت..... وبأي حق تتهكم علينا يا هذا؟!!!"...... ودفعه صالح براحتي يديه ساخطا عليه
رد ناصر وهو يفرد ذراعيه في الهواء ويتحدث بأسيلية :" الكعكة في يد اليتيم عجبة يا صالح وأنت يتيم ولكن الفاتنة شفاء ليست كعكة أصلا".....
وتصلدت ملامحه قساوة وهو يردف بنعومة لادغة:" حسنا.... هي كانت كعكة شهية.... لن نظلمها.... ولكنها كعكة التهم غيرك منها النذر الكثير وخَلَّف فقط الفتات"....
امتقع لون وجهها وسرى الشحوب في بدنها ومادت الأرض من تحت أقدامها حينما استوعبت مرمى كلمات ناصر
هو يقذفها بغير وجه حق
نشبت وخزة ألم في صدرها
وتسربل قلبها بدمائه الجارية
واحتقرت نفسها
كيف اعتبرته يوما فارس أحلامها
هجم عليه صالح ليطرحه أرضا ويكيل له الضربات ولكن ناصر كان أمهر منه وتملص منه ببراعة ليسقط أرضا من فرط عزيمته صالح وليس ناصر
هرعت شفاء لتعاون صالح على النهوض وكراهيتها نحو ناصر تستشري وتتفاقم
ورمقه ناصر بقامته المديدة من فوقه وأعرب بنعومة بالغة:" كنت أنصحك فقط لوجه الله..... ليس لدي مصلحة من إيصال الحقيقة لك سوى جنيني الذي تحمله شفاء في رحمها....."......
وعبس محياه وهو يردف بصرامة:" ابني لن يكون لك..... افهم هذا جيدا.... واعتبره تهديد صريح مني".....
وسار ناصر مبتعدا وشفاء لا تصدق كم الافتراءات التي ألصقها ناصر بها
أولجت بصرها لصالح لترتطم بقوله وهو يرمقها بانكسار وبمزيج من العتب والاحتقار :" لا أصدق أنكِ تفرطين في نفسك بتلك السهولة يا شفاء ولمن..... لمن يسحقنا بلا هوادة وبقلب متأجج حقدا..... لماذا فعلتِ ذلك؟!!!!"
انتصبت شفاء واقفة وسارت بهدوء مبتعدة عن صالح
لقد صدق ترهات ناصر بدون استقصاء
من الجيد أنها اكتشفت حقيقته قبل التورط فيه
هو لا يثق بنفسه لذا فهو تباعا لا يثق بها
هو ظل لأخيها سلمان
أَخْفَق في أن يكون مثله
لأنه ببساطة خُلِقَ ليكون تابع وليس قائد
هو طلب منها بعد قراءة الفاتحة أن يقوم بتوصيلها للجامعة وإرجاعها منها
ظنت طلبه بدافع حب ولكن اتضح أنه بدافع خوف
كان يحتجزها بطريقته
يضيق عليها الخناق كي لا تطير
وهي حمقاء
انصاعت لطلبه وأقنعت أمها رغم اعتراضها في البدء
لا تدري لمَ سيرتها أقدامها نحو الوجهة التي يقصدها ناصر
كان ناصر قد غادر الجامعة وأَدْرَكَ رصيف الشارع وبغتة تناهى لسمعه نداء يحمل اسمه :" ناصر.... ناصر".....
استدار غير مصدق أن شفاء بعد تجنيه عليها واتهامها بالباطل سترغب في حديث وإياه
وفي نفس ذات اليوم الذي ادعى فيه عليها بغير وجه حق
ربما تناديه ليلتفت نحوها لتبصق عليه
يبدو هذا تفسيرا منطقيا لقيامها بمناداته
سكن مكانه منتظر قدومها لتحقق انتقامها منه بصفعة أو بصقة
هو لن يصد هجماتها عليه كيفما كانت
هو يستحق وهو لن يبالي ولكنه يريدها أن تُخْرِج شحنة المرارة والغضب التي بثها فيها
سألته وهي متشابكة معه بصريا :" لم أرتكب ذنبا معك فلمَ رميتني بإثم لم أقترفه؟!!!!".....
لم يُجِب
نكس رأسه
وارتشف نفسا عاتيا
ودس يديه عميقا في جيوب بنطاله
ساد الصمت بينهما لهنيهة وقطعه هو بنبرة حاول إخراجها متماسكة ولكنها تجلت مرتعشة وترشح بالاستعطاف لها كي تغفر له :" أخبرتك مرتين مسبقا أني شرير للغاية يا آنسة".....
سألته بغتة:" لن تُكمل انتقامك من سلمان لو صرت لك..... أليس كذلك؟!!!!".....
تطلع نحوها بلهفة أن تكون ما نطقت به حقيقة وليس من درب خياله
وتناهى لسمعه استطرادتها :" ستدعم أخي..... ستبذل نقودك كي يعود لسابق عهده.... ما أتلفته ستُصلحه بيديك.... الخراب الذي استشرى في أعماله من جرائك ستتحمله أنت.... علاوة عن ذلك أريد قصرا شاسعا وحديقة فسيحة وأموالا طائلة في المصارف مهرا لي.... إذا وافقت أنا لك!!!"
_________________________
وليد
هو لم يجري التحليل ليستوثق من إصابته بالسيدا
هو لم ينخرط في الرذائل مجددا
حينما شرع الباب للفتاة تمايلت عليه بخلاعة وتفوهت بنعومة :" اشتقت لك يا دودو"....
قبل أن تُطلق قهقهة ماجنة وتتوجه صوب الأريكة لتفترشها
وهي تدعوه بيديها لينضم لها
بغتة انشق صوت الحق ليعيد له رشده
"أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ"
جاره وافتة المنية..... والصوت كان منطلق من سرداق عزائه..... الفتاة ذاتها بان عليها الهلع وكتفت ذراعيها حول صدرها لتستر عريها..... تظل الفطرة السليمة بداخل كل منا..... نحاول قهرها وإخمادها.... نحاول بشتى الطرق ألا يعلو صوتها..... يا حبذا حينما نستسلم لها....
هو راضي بابتلاء الله كيفما كان
لقد كان يعبد الله على حرف فحينما أصابته فتنة انقلب على وجهه وخسر الدنيا وكان على وشك خسارة الآخرة وذلك هو الخسران المبين
هو ليس ناقم بسبب مرضه
هو راضي
هو ليس حزين على الدنيا فهي فانية جدا ولا تستحق
ولكنه يخشى رقدة المرض
يخشى هوانه على الناس حينما يصير طريح الفراش
ورغما عنه يشتاق لها!!!!!
كفاه كذبا على نفسه
لقد أُعْجِب بولائها لأخيها في زمن مضى
بدهائها الطفولي الفذ
وبمسكنتها التي تجمع خليطا من المكر وقلة الحيلة
لقد سلط أحداقه عليها تتبعها منذ ذلك الحين
لقد كان يترقب أن تشب عن طورها ليتقدم لخطبتها
لقد عاش صالحا لأعوام لأجلها
ليكافئه الله بها
ملك كانت تسخر من ترفعه عن الرذائل
تستهزئ من استقامته وهو لم يكن يكترث بها فهي أدنى من قيمة الحشرة لديه
زواجها من أخيه الكبير فاجأه وأَنْكَبَه فهي بلية كبرى كما يعرف جيدا
ولم تتورع عن محاولات التقرب منه بعدها
كان "علي" دوما بالنسبة له حائطا صلب يتكأ عليه
وكان يواجه بعض المتاعب البسيطة في الحياة فقصد أخاه ليقصها عليه ليخف الثقل عن كاهله
كان ناسيا أن تلك الأفعى تحتل بيته الآن
أربكه أنها خرجت له بلباس مفتوح
وأعلنت بتنهيدة مديدة وهي تعض شفتها :" علي ليس موجود فهو مسافر داخليا في مصر اليوم".
فسر حركاتها إغواءً صارخا له فقرر الفكاك منها واستأذن لينصرف وهو يتفاداها بصريا
اعترضت طريقه وهي تعرب بصوت مستقيم مختلف عما سبق وتفوهت به :" عليك ارتشاف شيء قبل رحيلك فالمشوار لا شك واستهلكك وأنت بحاجة لشيء لتستعيد طاقتك ونشاطك"..... بدت متلهفة ولكنه لم يسئ الظن بها لأنها بدت متسربلة بزي الاحتشام في القول وبدت له دعوة صادقة لا تحمل نوايا شائنة
حينما استيقظ كان في فراشها متجردا من ثيابه، وكانت هي تمشط شعرها عند طاولة الزينة
اجتاحته قشعريرة اشمئزاز من الذات اهتز لها جسده
صر على أسنانه وقلص ملامحه وتكور على نفسه محاول تذكر ما اقترفته يداه
تناهى لسمعه صوتها الأملد المتشفي وهي تعرب :" مدعيين الفضيلة.... يا من ترجمونني بدون أن يرف لكم جفن..... يا من ترمونني برمقات ازدراء وكأنكم معصومون من السقوط للأبد...."
والتفت له وأعربت وعيونها مبللة بدمعة تأبى عليها الإدرار، و كانت عروق رقبتها نافرة، والمرارة تصرخ من كل أحبال صوتها:" كلكم تسقطون حينما أريد أنا ذلك..... من منكم ليس مثلي أنا أجعله مثلي".....
وتابعت شامتة به وهي تكشر عن أنيابها:" إياك أن تجرؤ مجددا على رمقي باحتقار..... أنت مثلي محض حثالة..... مدعي فضيلة فاسق..... على الأقل أنا واضحة ولكن كلكم بوجهين".....
انتزعه من عالمه صوت سكرتيرته وهي تخبره عبر الأثير الداخلي أن زوجته السيدة سلام سلحدار بالخارج
قطب جبينه غير مستوعب أية وقحة هي لتؤوب لمصر بعد ما أفرغته على مسامعه عبر الهاتف
اهتزت قاطبة حواسه حينما اقتحمت عليه غرفته مبدية انزعاجها واستهجانها:" ساعة لكي ترد على السكرتيرة يا وليد...... عموما أنا زوجتك وكان من الخطأ أن أستأذن السكرتيرة أصلا..... فعلت هذا لأن تلك أول مرة أوافيك فيها هنا".....
بدت السكرتيرة متحيرة لا تدري ما ردة الفعل التي يجب أن تصدر منها
خطت سلام متهادية صوبه وافترشت المقعد المقابل لمكتبه ووجهت بصرها نحو السكرتيرة وتفوهت آمرة وهي بقمة عجرفتها وتضع ساقا فوق ساق:" أوصدي الباب خلفك..... ذلك حديث خاص يجمعني بزوجي أم تريدي أن تحشري أنفكِ بيننا؟!!!!"....
امتثلت السكرتيرة لها
أرجعت رأسها للخلف وأعربت بأريحية:" كانت رحلة ممتعة استرخيت فيها جيدا وشحذت طاقتي من جديد"....
عقدت حواجبها وزجرته :" لمَ أنت واجم هكذا؟!!!!"
وطالبته وهي تتململ في مقعدها :" ألن تطلب لي شيء أرتشفه..... لقد أرحتك مني لفترة طويلة..... ولكن يتراءى لي أنك لم تشتاق إلي أبدا".....
سألها بجدية وهو يهز رأسه وينكب ببدنه صوبها:" ما هي خطتكِ؟!!!!"
شوحت بيديها وهي تهتف :" ساعات سفر مديدة..... ومعدتي تتضور جوعا.... ومع هذا ليمونتك الحامضة الغارقة في محيط السكر قررت بمجرد أن وطأت أقدامها أرض مصر أن ترتحل في إثرك عوضا عن التوجه لمطعم فاخر لتملأ معدتها فيه".....
حينما لم ينبس ببنت شفة وحاد ببصره عنها
قبضت على فكه بيدها وأجبرته على التواصل معها بصريا وهي تعرب بصوت أجش :" لمَ أنت قاسي جدا هكذا؟!!!.... أنا جد أستنكر برودتك معي!!..... لو كنت تريد التخلص مني لكنت طلقتني.... إلا أنك لم تَقُم بذلك.... وليد حبيبي أعرف أني اجتزت حدودي في مرتنا الأخيرة عبر الأثير... وأنا أعتذر لذلك!!!"
أطرق برأسه ونقل بصره يمنتا ويسارا وسألها بصوت أبح متحشرج :" كم مرة خنتيني معه؟!!!!.... وكم رجل انتقمتِ مني عبر إقامتكِ علاقة ماجنة معه؟!!!!"
سألته تحثه :" سؤال بعد محشور في حلقك؟!!!!"
أجابها بهمهمة منكسرة :" هل أحببتِ هذا الآخر؟!!!!..... هل هو أفضل مني وأرضاكِ أكثر مني؟!!!"
بانت الصدمة جلية على وجه سلام وهي تتمتم بذهول وتخذلها أقدامها فتعاود افتراش مقعدها كي لا تسقط:" أنت لم تجري اختبار السيدا بعد؟!!!!"
كان إقرارا أكثر منه سؤالا
سألها بعدم استيعاب :" ولمَ سأجريه؟!!!!"
أجابته وهي تحرك رأسها صوبه وتُقَبِّض تقاطيعها وهي غير مستوعبة ما يجري بعد :" أنت صدقتني!!!!!"
للمرة الثانية كان إقرارا أكثر منه تساؤلا
ثبتت بصرها على نقطة في الأرضية واعترفت بتنهيدة :" كنت أكذب.... أنا كنت عذراء حينما تزوجنا.... ولم يمسني رجل سواك أبدا.... وأنا لا أحمل السيدا وكذلك أنت.... وفي النهاية أنا لم أحمل جنينا أبدا امتثالا لرغبتك أنت.... توقعت أنك أجريت التحليل وعرفت بكذبي الجزئي".....
أرجعت رأسها للخلف وأعربت بغمغمة وهي توصد عيونها :" أنا لا أستحق منك أن تسلبني إرثي...".....
وانفعلت فتململت برأسها وهي تزمجر ودمعة تطفر من أحداقها:" وتعسا للإرث.... أنا لا أبالي به...."....
وهوت بيدها على ظهر الطاولة لتصفعها بحدة طائلة وهي تردف وبدنها متقوس صوبه :" أنت تلاعبت بمشاعري وأفسدت السلام الداخلي الذي كنت أعيش فيه.... وفعلت كل هذا من أجل حفنة نقود...... وأنا عدت لأبتزك..... معي دفتر يومياتك وشرائط ابنة عمك الفاضحة.... والمساومة ليست لأسترد إرثي فحسب.... لو تريد استرجاع أغراضك فأنا لن أقبل سوى بضعف ما سلبته مني..... ولو فكرت في التخلص مني لتستريح وتتنفس الصعداء..... ستجد كل فضائحك منشورة على كافة وسائل الإعلام المسموع والمرئي....."
اعتدلت واقفة ومشطت خصلات شعرها للخلف لتعيد إطلالتها المتألقة
والتقطت حقيبتها وفتشت بعيونها عن المرحاض حتى عثرت عليه فتوجهت نحوه وهي تثرثر :" سأُصْلِح زينتي قبل أن أنصرف..... وأنت مدعو اليوم على حفلة في عشنا الصغير بمناسبة أوبتي.... آه هي حفلة خاصة ستضمنا نحن فقط فلا تُحْضِر شخص غيرك.... ولكن قبل أن ألج البيت لأُجهز لها سأوافي زوجة أخي في المخفر لأطمئن على أحوالها.... هي لا تتخير عنك.... حثالة وحطت على عائلتي العريقة.... عائلة السلحدار!!!"
____________________________
كان أحد فلاحي القرية يمشط الترعة الرئيسية من القاذورات العالقة بها، ويزيل الحشائش التي تطفو على سطحها لتجلب الحشرات معها، وبغتة وقع إبصاره على كيس أسود منتفخ قابع أسفل الحشائش، أثار الكيس فضول الفلاح ففضه وهاله ما رأى، كان جلبابا مشربا بالدماء وخنجر مصطبغ ببقع الدم، وتوجه الفلاح صوب المخفر ليسلم ما حاز للشرطة، كان التساؤل من الفتاة التي اختفت من القرية منذ قرابة الأسبوعين، ومشطت الشرطة الترعة بأكملها لتعثر على جثة مطموسة التفاصيل لامرأة في الثلاثينات، وأشارت دلائل الاتهام لكونها واحدة من اثنتين إما جثة أعمار زبرجدة شمس صالح التبريزي وإما تعود لتقوى زوجة بلال المفقودة..... ما يدعم كونها أعمار اختفاء أم محمود تماما من البلدة في وقت متزامن مع اختفاء أعمار.... وما لا يرجح كونها تقوى حقيقة أن تقوى مختفية منذ شهور وليست منذ فترة بسيطة..... كان تحليل الحامض النووي هو نقطة الفيصل في تلك الأحجية.... وتم استخدام خصلة من شعر تقوى كان يحتفظ بها زوجها وتم استعمال بقعة دم لأعمار تحتفظ بها توت وتلطخ ثوبا قديما يعود لأعمار في صباها..... وكانت النتيجة أن تلك الجثة تعود لأعمار زبرجدة وتم استخراج شهادة وفاة لها..... ليسقط اسمها رسميا من كافة سجلات الأحياء!!!!
ومازال للحديث بقية
نهاية البارتوت ستكون عن صباح وملك وازاهير في قفلة لا تفوتكم
القصة 20 فصل وانتم احرار اسعدتوني هنجز/////////////// مفيش رد............. مفيش
|